شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-24-2024, 11:48 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة منصور عبدالله المفتاح(munswor almophtah)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-16-2008, 05:48 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)


    (3)
    الشاعر محمد الواثق












    الشاعر الجهير والأكاديمي الكبير البروفسير محمد الواثق يوسف المصطفى

    (أ)
    محمد الواثق وهجاء المدن السودانية
    محمد الواثق يحتل مكانة بارزة في طليعة شعراء السودان فقد عاد بالشعر إلى التراكيب العربية واللغة الفصيحة، وظل وفياً لشكل القصيدة العربية الأصيلة عندما علت أصوات مدرسة التحديث في الشعرالعربي وجلجلت. أصاب الحزن بعض مناصري الشعر العربي التقليدي حينما ظنوا أن مدرستهم قد شارفت على السقوط في بئر الفناء، ولكنهم أبدوا سعادتهم عندما بدا لهم أن محمد الواثق قد رفعها إلى شجرة الحياة والخلود. وقد أجمع النقاد الحاذقون ومن اطلع على شعره من أهل البصائر أنه صحيح الملكة كثيف الموهبة فلا تكاد تجد في شعره بيتاً مختلاً أو قافية نابية، وأنه عالمٌ بدروب اللغة، مدرك لشعابها، متمكن من فواصلها ومفاصلها، ولا غرو في ذلك فإنه الأكاديمي المحترف، الدارس لعلم العروض وفقه اللغة، ويلم إلماماً واسعاً بالثقافتين الغربية والعربية، وبكل ذلك صقل موهبته الشعرية الضخمة الى حدٍ كبير كاد أن يبلغ به درجة الإشباع.
    محمد الواثق يوسف المصطفى محمد مساعد ولد في شهر ديسمبر من العام 1936م بقرية (النية) وهي قرية ريفية تقع الى الشمال من العاصمة الخرطوم بنحو خمسين كيلومتراً على الضفة الشرقية من نهر النيل، تخرج في مدرسة وادي سيدنا الثانوية ليلتحق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم قسم اللغة العربية، وتخرج فيها العام 1962 بمرتبة الشرف الأولى، وقد عُد الواثق فيها من أوثق أركان مدرسة (ألون أو تو) الأدبية وأعلم أعضائها وأشعرهم وأطولهم باعاً، وهذه المدرسة أنشأت بقيادة البروفيسور عبدالله الطيب الذي حسبه من أنبغ تلامذته وأقربهم الى قلبه. ومن بعد شد شاعرنا الواثق رحاله صوب المملكة المتحدة ليلتحق بجامعة (كمبردج) حيث حاز فيها على درجة الـ (M.L.H) ببحث أعده عن المسرح العربي القديم بعنوان (خيال الظل)، وذلك في العام 1967. ليعود للسودان محاضراً بجامعة الخرطوم كلية الآداب ثم رئيساً لقسم اللغة العربية فيها. تبوأ عمادة معهد الموسيقى والمسرح ثم إدارة معهد البروفيسور عبد الله الطيب للغة العربية بجامعة الخرطوم. لا يزال أستاذاً بجامعة الخرطوم، ورسالة الأستاذية لم ينقطع عن أدائها طيلة الأربعين عاماً الماضية إلا لماماً ولأسباب سياسية وأخرى تعلقت باغترابه القسري أو المختار.
    للواثق عدة أبحاث علمية مطبوعة، على رأسها أبحاثه في أوزان الدوبيت السوداني، فن الدراما كما عرفه العرب والمسلمون، السيرة الذاتية لمحمد أحمد محجوب. كما أشرف على كثير من أبحاث الماجستير والدكتوراه. امتد نشاطه الواسع ليتصل بوسائل الإعلام المختلفة، بالإضافة للمحاضرات العامة التي يقدمها، ساهم مساهمة فاعلة في الكتاب الموسوعة (مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين) الذي صدر عن مؤسسة جائزة البابطين للإبداع الشعري ، وذلك عندما اختار نصوصاً لثلاثين شاعراً سودانياً مشفوعة بمقدمه طويلة حول الشعر السوداني والتعريف ببعض شعرائه. صدر له في العام 1973 ديوانه المعروف (أم درمان تحتضر)، له ديوان آخر تحت الطبع تكاد أن تكتمل مسودته يحمل اسم (الفارس الأعزل). أثارت قصائد ديوانه أم درمان تحتضر جدلاً واسعاً وضجة كبرى عندما وثبت تباعاً أو بعدما صدرت كديوان عن دار الثقافة ببيروت.
    يظل ديوان أم درمان تحتضر – رغم ما لقيه من سيل النقد القادح في موضوعه وهجائياته لأم درمان – علامة فارقة في مسيرة الشعر العربي الأصيل في السودان، فهو نخلة متينة الجذور، باسقة الطول، تكاد تلثم من ذيل السحاب بلا كدٍ وإجهاد، إن ألقيت عليها حجراً ألقت اليك ثمراً. هذا الشعر مازجه اللفظ الفحل والمعنى البكر المرفود بالموهبة الحقيقية والمعرفة العالية والعلم الغزير.
    هال البعض ان يمس الشاعر قداسة أم درمان، فتصدوا له بالرد نثراً وشعراً، وقد جاءت بعض ردودهم رصينة وموضوعية، وجاء بعضها متفلتاً وقاسياً، فبينما نجد الشاعر عادل حسن طه يعارض قصيدة أم درمان تحتضر بمقارعة حسنة نجد أن هناك من فجر في الخصومة الأدبية. يقول محمد الواثق في مطلع قصيدته (أم درمان تحتضر) والتي كونت مع ثماني أخريات مجمل الديوان:-
    لا حبذا أنتِ يا ام درمانُ من بلدٍ
    ** أمطرتني نكداً لا جادَكِ المطرُ

    من صَحْنِ مسجدها حتى مشارفها
    ** حطَّ الخمولُ بها واستحكمَ الضجرُ

    ويقول الشاعر عادل حسن طه في مطلع قصيدته التي عارض بها قصيدة أم درمان تحتضر وجاءت بعنوان (أم درمان تزدهر):-
    يا حبذا أنتِ يا ام درمانُ من بلدٍ
    ** شربتني غيماً لا ضامك القدرُ

    من بيتِ عالمها حتى معالمها
    ** لفَّ الجهادُ بها واستشهد البشرُ

    وقد وجدنا بمقدمة ديوان (ام درمان الحياة) للشاعر السماني الشيخ الحفيان الذي عارض به ديوان أم درمان تحتضر قصيدة قصيدة وبيتاً بيتاً، قوله:- (وديوان الواثق إن لم يكن يفضي الى غاية وضيئة وهدف نبيل لا يعدو في نظري أن يكون قاموساً يضم صنوفاً من الإقذاع والبذاء لا يشتغل بها إلا سفيه قليل الديانة). ويقول البروفيسور صلاح الدين المليك: (إن قصيدة أم درمان تحتضر فيها شئ غير قليل من الكراهية والاحتقار ولا نود ان نبسط القول في هذا فقد يكون للشاعر ما يدعو لذلك) توالت الردود ما بين قادح ومادح. وقد لخص الدكتور عبد اللطيف سعيد هذه الردود بأن طائفة قالت إن دافع محمد الواثق لهجاء المدن هو الحقد، والبعض يقول إن دافعه العبثية وآخرون قالوا إن غرضه تهديم الواقع لبناء مستقبل أفضل، وطائفة نسبته للاستعلاء الصفوي الذي يصيب المتعلمين، وهناك من قال إن دوافع الحطيئة قد تقمصته. يقول الواثق (إن الأمر قد اتخذ منحى لا يخلو من الخطورة عند نشر قصيدة (نساء أم درمان) تعدى الشاعر الى الناشر، فقد كون النظام لجنة عليا للنظر في أمر القصيدة والناشر، تسرب قليل من مداولاتها للشاعر من بعض أفرادها، بيد أنه لم يكن من سبيل لتلافي أمر قصيدة قد نشرت، ولكن تأخر نشر القصائد المتواثبة بعد ذلك لابد ان يعزى لهذه اللجنة). وقعنا على ردود طريفة نشرتها الصحف السيارة آنذاك، يقول دكتور خالد المبارك في إحداها: (وحينما وزع الشاعر محمد الواثق يوسف الأستاذ بشعبة اللغة العربية بجامعة الخرطوم بطاقات الدعوة بمناسبة زواجه تساءل عدد من المدعوين بخبث عن المدينة التي تنتسب اليها العروس وجاءت الإجابة من أم درمان ومن قلب أم درمان فابتسم المشاركون فقد أدركوا بلاغة رد هذه المدينة المحنكة على الشاعر الذي هجاها فأوجع). كان الشاعر والمؤرخ الكبير الراحل التجاني عامر أول من رد على الواثق شعراً بقصيدة دافع فيها عن أم درمان وقال وهو يقدم لقصيدته هذه: (الدكتور محمد الواثق بمجموعته الشعرية - أم درمان تحتضر – سلح على رؤوسنا نحن أهالي أم درمان (الغبش) كلنا لا ننكر روعة التجربة المقدمة التي انضجت على الحيرة والقلق).وهنالك الكثير من الشعراء من ردوا على الواثق شعراً بدا لي أن أبرزهم الباحث والشاعر ميرغني ديشاب. ويقول الأستاذ مصطفى محمد أحمد الصاوي في دراسته النقدية( قراءة في ديوان محمد الواثق أم درمان تحتضر):" إن الأقلام التي تناولت العمل سعت في الغالب الأعم لمحاكمة الشعر والشاعر، فقد مسَّ الأخير في ظنهم شرف مدينة أم درمان وعفتها، وخطل هذا الرأي يكمن في محاكمته للتجربة الفنية ورؤية الشاعر، وغاب عنهم أن العمل في مجمله إبداع تخيُّلي ورؤية فنية لا يشترط فيها تطابق مع الواقع بكل تفاصيله وجزئياته".
    لم يرد محمد الواثق على أي نقد وجه للديوان، ولم يسع لتوجيه مسار النقد، وعندما بدأت بحار العواصف تسكن وأمواج الغضب تهدأ، ألقم الواثق تلك المياه حجارة أخرى، عندما هجا مدن سودانية أخرى وهي كسلا، مدني، الحيصاحيصا، توتي، كوستي، وحلفا. وكاد بعض هذا الهجاء أن يزج به في السجن كما سنرى.
    إن جبل محمد الواثق الشعري الراسخ وقممه الهجائية السامقة يحتوشه كثير من الرمز ويكتنفه الابتداع الذاتي الخلاق، والوصول الى تلك القمم عن طريق تسلق هذا الجبل الضخم غاية عسيرة المنال لا تلين إلا للأقوياء، ولكن لابد من اعتلاء تلك القمم لأن الصور لا تتضح على السفح من الجانبين إلا بهذا الاعتلاء الصعب فالرمزية الكامنة ترتقي فوق موجودات الظواهر المادية المتناثرة في العالم الواقعي الى مدارك الآمال والأحلام المنشودة في العالم المثالي وتستنجد بالرمز كآصرة تربط بينهما، ومن قبل انتبه الناقدان (أوستين وارين ورينيه ويليك) صاحبا كتاب (نظرية الأدب) لذلك عندما قالا: (إن الرمز موضوع يشير الى موضوع آخر لكن فيه ما يؤهله لأن يتطلب الانتباه أيضاً لذاته بصفته شيئاً معروضاً) . وقد وجدنا أن شاعرنا محمد الواثق قد حفز مخيلة المتلقي عندما اطلق في ديوانه أم درمان تحتضر طاقته الإيحائية ذات الخواص الجمالية الفعالة وغذاها بنوازع البحث وأغراها للتطلع الى ما وراء الأكمة إذ لابد أن خلف عمارته الرمزية عالم آخر يختبئ تحت الظلال وإن كان اكتشاف تأويل الرمز يصعب في أحايين كثيرة لما بدا لنا من تعقيدات سكنت بعض تجربته الشعورية وعناصرها العاطفية التي لا يقيدها منطق او عقل غير ان تراكيبه الشعرية التي لم تتسلل اليها الصور الفجة أو الاستعارات الساذجة أو العبارات الهلامية المستعلية وما دفعه إليها من اهتزازات موسيقية ركنت الى عنف الرنين في بحر البسيط أوحى لنا كثيراً بالمعاني التي بثتها صوره الرمزية وقد قال الدكتور عدنان حسين قاسم في رؤيته النقدية لبلاغتنا العربية: (إن جرس الأصوات والألفاظ والتراكيب الشعرية تلعب دوراً خطيراً في الإيحاء بالمعاني التي تبثها الصور الرمزية والغامضة التي لا تستطيع الصورة بتراكيبها اللغوية أن تثيرها) . ولا شك لدينا ان محمد الواثق قد امتلك الملكتين الحسية والحدسية اللتين لازمتاه في إبداعه الرمزي متجاوزاً به الواقع الحسي ليتخطاه الى الإشارات الدفينة في رماله والدلالات الخبيئة وراءه والتي تكتشفها القوة الحدسية وهنا يحضرني رأي هام ورد ضمن مقالة نقدية للاستاذ محمد عبد الخالق عن نص ديوان أم درمان تحتضر يقول فيه: (إن قصد هذا النص في تقديري صدمة للذوق العام الراضي عن نفسه فقد اختار الشاعر رمزاً عزيزاً، وبالقطع هو عزيز عليه هو نفسه، ليصب جام غضبه عليه، فهو يستهدف ماهو أبعد من مدينة أو عاصمة، ليستهدف ان يصدم حالة من الرضا المتبلد الذي يفوق حد الاعتزاز والعزة المرغوبة في اتجاه البذل والعطاء الى حد مرضٍ بالفخر والعنجهية وتمجيداً للذات تلك النظرة التي ترى كل ما هو سوداني متميزاً فالمقصود ليس أم درمان المدينة وأهلها ولا شك ان هذه النظرة التي تتجاوز حد القول بالخصوصية والتفرد تسيطر على جانب لا يستهان به من المزاج السوداني) هذا الرأي الحاذق نعتبره محاولة ناجحة إلى حد بعيد لاعتلاء تلك القمم السامقة لرؤية الصورة من الجانبين.
    وتعضيداً لرأي الأستاذ عبد الخالق نقول إن الواثق أعطى لوطنه الكثير ولا يزال عطاؤه مستمراً استمراراً لا يتسق إلا مع الحب الذي يكنه لبلاده ومدنها ولا نعيب الطبيب الذي يعمل مشرطه في جسد العليل ليشفه عن طريق الجراحة. والناظر لأشعار محمد الواثق الأخرى سيدرك مدى ذلك الحب. يقول في قصيدته (مثاب مصطفى) التي رثى بها والده قوافٍ مطرزة بالحنين لسودانه وأهله والحزن يمازجه والغربة توجعه:
    أرتادُ أسباب الغنى فتحيلني
    ** ضيفاً على لمعِ السراب الواهمِ

    أتركتَ نهر النيل يصدح طيره
    ** وشريت تغريداً ببخسِ دراهمِ

    وفي ذات القصيدة التي تخلقت بمدينة سبها الليبية في العام 1994م يقول الواثق بما ينبؤنا بحبه للوطن بمعانٍ تزداد وتيرتها عمقاً وشفافية:-
    يا رحمتا للمستجير النازح
    ** يسقى بكأس فواجعٍ وعلاقمِ

    أتركت نهر النيل آزر نبته
    ** طمى طما من موجه المتلاطمِ

    كم أطربتني في خمائل شطه
    ** قمرية سجعت لشدو حمائمِ

    كم قد تهادت في الأصائل دونه
    ** حور ترجرج بض جسم ناعمِ

    فإذا ندمت على فراق أليفه
    ** ووريفه ماكنت أول نادمِ

    ترك البلاد منقباً عن رزقه
    ** في أرض عرب - لايني – وأعاجمِ

    إن صمت محمد الواثق عن بيان دوافعه وأسباب هجائه لبعض المدن السودانية بشكل واضح ومحدد يعود لرؤيته في أن للقارئ أن يصل ما يصل إليه من رأي، قاعدته في ذلك أن الشاعر ليس أدرى الناس بنقد شعره كما يعود لعدم إيمانه بالمقدمات وبشرح الأغراض، إذ يرى أن ذلك يحول دون استيعاب القارئ التلقائي للشعر. غير أن ما انتحاه الواثق من نهج أدبي جرئ أوقع طائفة كبيرة من المتلقين لشعره خاصة السودانيين في حيرة كبرى ودهشةٍ عظيمة وما كان لهذه الدهشة وتلك الحيرة أن تستمرا في النفوس لولا ما تعلق بطبيعة الشخصية السودانية التي تتحرج من سماع العيب فضلاً عن قوله، ولولا الإنتماء العاطفي العميق وغير المسبوق الذي يربطهم بالمدن والمواضع .
    عندما فرض محمد الواثق أشعاره الهجائية في الساحة الأدبية فرض متمرس متمكن، تشعبت الآراء والفرضيات، بعضها إنتهى إلى ما ينتهي إليه متقفو الأثر عند حافة النهر، والبعض قذفت به آخريات إلى المقعد الخلفي. بيد أن الآراء التي صاحب معتقدوها الإحساس بالغضب والإستهجان غابت عنها النظرة الصائبة ولم تخرج عن إطار ما فرضه عليهم ذلك الإحساس المرير، فلم يشيرو إلا إلى النصف الفارغ من الكوب. ولما كانت الحيرة تشاكلهم ظل السؤال لديهم قائماً دون إجابة حاسمة، لماذا هجا محمد الواثق مدنهم بكل هذه القساوة وأخذ بغير هوادة يلقي عليها بحاصب من عسير القول؟. وقعنا على إطلالة ضنينة للشاعر وهو يواجه هذا السؤال فرد قائلاً: "يتسق شعري هنا مع التراث العربي الاسلامي والتوراتي، يتعلق الأمر هنا بالمدينة التي فسدت بعد مهلة إنذارها تجتاحها الأعاصير التي تتواصل أياماً حسوماً فلا ترى لها من باقية. قلبت مدينة صالح أعاليها أسافلها. وقد ترسل الطير تحمل حجارة السجيل كما في أمر مكة، وأضف إلى هذا قوم عاد وثمود وأصحاب الرس.. الأمر لا يختلف كثيراً في الإرث التوراتي.. شطت سدوم في مفاسدها فانطلقت البراكين والزلازل بل تعرض أهلها للمسخ.. أتذكر ما حل بمدينة الأصنام في الجزائر؟ في هذا الإرث الإسلامي التوراتي تكون الأعاصير والبراكين عنصر تطهير تستأنف الحياة بعدها على نمط الطاهرة المرجوة وإلا عادوت الأعاصير فعلها.. إن مثل هذا الشعر سلك في عمق التراث العربي التوراتي واتخذ الرمز منه" .. هل كفتهم هذه الإجابة أم أنهم يعتقدون أن محمد الواثق يضمر رداً آخر وينوم ملء جفونه عن شوارد قوافيه ليسهر الخلق جراها ويختصموا.
    لا نعتقد أن شاعرنا محمد الواثق قد خطر بذهنه أن قصيدته كوستي ستقوده إلى الحبس بيد أن هذا ما حدث عندما قام بعض مواطني كوستي بفتح دعوى جنائية ضده وعلى إثرها تم اقتياده من مكاتب كلية الآداب بجامعة الخرطوم حيث يعمل أستاذاً بها إلى قسم شرطة الخرطوم شمال كما يقاد الأشقياء، وكان ذلك في نحو العام 1995م. جاءت قصيدته كوستي على النحو التالي:
    سُميتِ باسمِ غريب الدار نازحها
    ** ما كان كوستي على قدرٍ من الشرفِ

    أورثها من طباعِ الروم ألونةً
    ** من الفسادِ تراءتْ داخل الغُرفِ

    فصار باخوس رب الخمر ربهم
    ** ما بين منهمك منهم ومُرتشِفِ

    حتى كأن أذان الفجر يبلغهم
    ** حي على الشرب في حانوتِ منحرفِ

    قومٌ من الطيش لا تُرجى عقولهم
    ** كأنما العقل فيهم صِِيغََ من خَزَفِ

    إن الإمام الذي عادوا جزيرته
    ** قد كان يخشى على كوستي من التلفِ

    يخشى الزمان الذي قد عاد منقلباً
    ** فكان يخشى عليهم غصة الأسفِ

    أما تراني شددت الرحل منصرفاً
    ** أحاذر الناس في حِلي ومنصرفي

    لا أقرب الدار تستعلي النساء بها
    ** ولا أقيم بدارِ اللهث واللهفِ

    كوستي الرديف ترى بانت نصيحتنا
    ** لكل رادفةٍ فيها ومردتفِ

    حالت الحكمة وأصحاب العقول النيرة دون أن يستمر هذا الإجراء الخاطئ وغير الناجح في مواجهة الشاعر محمد الواثق، ولا شك أن هذه الحادثة تركت آثاراً لا تمحي في نفس هذا العالم الجليل، وكم كان سيكون عملاً مؤثراً وخالداً لو دافع من نصبوا أنفسهم حماة لمدينة كوستي وأهلها برد أدبي على القصيدة بدلاً عن إقحام الفكر والمفكرين والأدب والأدباء إلى دوائر الشرطة وساحات المحاكم. وليتهم حذوا حذو أهل توتي التي قال عنها محمد الواثق:
    النيلُ يسعى لأمرٍ سوف يدركه
    ** لا حاجز سيصد النيل يا توتي

    والنيلُ لا ينثني إن جاش مندفعاً
    ** حتى يجاور في أرض المساليتِ

    والنيلُ ماضٍ لوعدٍ أن يطهرها
    ** سينجز الوعد يا توتي بتوقيتِ

    يرون حرب قدوم النيل مأثرة
    ** كأنما حاربوا في جيش طالوتِ

    أَلهى أوائلهم عن كل مكرمةٍ
    ** قصيدةٌ للتجاني تعجب النوتي

    قصيدة لو أفاقوا ذات تورية
    ** فيها الحمير وتصياح الكتاكيتِ

    فهل رأيت أناساً في غبائهم
    ** من وادي حلفا إلى غابات توريتِ

    لله ربك سِرٌ في جزائره
    ** منها الشهير ومنها خافت الصيتِ

    فهل شذى زنجبار في قرنفلها
    ** كروث أبقارهم في الأرض مَفتوتِ

    أو شدو ملهمة غنّت لملهمها
    ** كلغو خرتيتة في إثر خرتيتِ

    لو كان ربك يرضى عن فعالهم
    ** لصور الله توتي مثل هاييتي

    إذ إنبرى له حينها شاعر توتي الكبير مصطفى طيب الاسماء ورد عليه رداً شعرياً ساخنا،ً كما تصدى له ابن توتي الشاعر الأديب الدكتور الصديق عمر الصديق فرد عليه بقصيدة توخي فيها نفس القافية وحركة الروي ، قال فيها :
    هجوت توتي فخذها اليوم قافية
    ** أوحي إليّ بها شيخُ العفاريتِ

    فأعلم بأن قتال النيل مأثرة
    ** أعيت رجالاً وجوماً كالمباهيتِ

    ثُر أيها النيل إن الوعد منتظر
    ** لن يخزي الله في يوم الوغى توتي

    إن أزبد النيلُ أوجاشتْ غواربه
    ** ذاق الهزيمة من صدٍ وتشتيتِ

    قد حازت الشرف العالي أوائلنا
    ** فليس حبلهم منا بمد توتي

    وبات يحسدنا قوم لأن لنا
    ** فخراً عظيماً ومجداً ذائع الصيتِ

    أما التجاني لما قال قافيةً
    ** تحكي شعور فؤادٍ منه مبهوتِ

    شاقته توتي بحسنٍ لا نظير له
    ** كأنما اشتُق منه سحر هاروتِ

    شتان بين بلاد في قرنفلها
    ** لم ينجها حسنها من بطشِ طاغوتِ

    وبين توتي وقد صانت محارمها
    ** رجالُ صِدقٍ من الصِيدِ المصَاليتِ

    لن تبلغ النية الشوهاء مبلغنا
    ** حتى وإن غنمت أسلاب جالوتِ

    ان الجزائر لا ترقى لهامتنا
    ** لا صَيَّرَ اللهُ توتي مِثلَ هَاييتي


    وليتهم تمثلوا بسلوك الشاعر اللواء أبوقرون عبدالله أبوقرون الذي نافح عن مدينة كسلا شعراً بعد أن سقطت على يد جيوش محمد الواثق الهجائية وقوافيه الشعرية المدبجة بأسلحة القول الفتاكة. فلما قال محمد الواثق عن كسلا:
    ماذا تقولُ لقومٍ من كسالتهم
    ** سَمَّوا مدينتَهُم يا أُختنا كسلا

    أوشيكَ أشعثَ مُغبَرٌ له ودكٌ
    ** لو فاض بالقرب منه القاش ما اغتسلا

    إذا هممت لمجدٍ كان همهمُ
    ** البُن والتمر والتمباك والعَسلا

    التاكا اسمى من التوباد عندهم
    ** وست مريم حاكت فيهم الرسلا

    تصدى له أبوقرون منافحاً عن كسلا برد شعري جميل جاء على نفس القافية وحركة الروي قال فيه:
    إني أقولُ لقومٍ من بسالتِهم
    ** يغدو صغيرهم يوم الوغى بطلا

    (تاماي) تعرفهم (هندوب) تذكرهم
    ** ما فرّ فارسهم يوماً وما انخذلا

    شُعْثٌ شعورهم سُمْرٌ وجوههم
    ** بيِضٌ سيوفهم سَلْ عنهموا كسلا

    سَلْ كَبْلََنا عن قصيدٍ قالَه طرباً
    ** وسَلْ جرهام وسل مصطفى الهدلا

    إذا رأيت سماء الشرق صافية
    أيقن بأن هميلَ المُزْنِ قد نزلا

    إذا رأيت أسود الشرق نائمة
    لا تحسبن نومها يا واثق كسلا

    ظلت وادي حلفا بعد اغراقها جرحاً دامياً ونازفاً في قلوب أهليها وعشاقها، وعد النزوح عن هذه المدينة سواء كان اختيارياً أم قسرياً تجرّد من الحب وتخلى عن الحماية في نظر الكثيرين، ومن بين أولئك الأستاذ الباحث والشاعر النوبي ميرغني محمد ديشاب الذي تمسك وإلى الآن بالبقاء في وادي حلفا أو بالأحرى بالبقاء في ما تبقى منها، وقد عبّر عن مأساة النزوح وإغراق وادي حلفا بقصيدة دالية عصماء رفلت في خمسة وثلاثين بيتاً سعت إلى جمالها الجوائز واحتفت بحسنها المنابر، عنّ لي أن اقتطف شيئاً من أبياتها لنرى إن كانت قصيدة محمد الواثق اللاحقة (وادي حلفا) تسير على وتيرة معانيها أم تقاطعها. يقول ديشاب في قصيدته المشار إليها:
    الله يعلمُ والخليقة تَشْهَدُ
    ** أن غالها الدهرُ العصيُ الأخلدُ

    فخريدةٌ وِئدَتْ فأبكَتْ أهلها
    ** جزعاً فكيف على صباها توأَدُ

    (أوهين) يا مبنى الملوك تهدّمت
    ** أطواده أضحت بها لا تصمدُ

    فصخوره في الماء تبكي حتفها
    ** قد لان للماء البناء الأصلدُ

    غرقى تشب رؤوسها فكأنها
    ** للناس وقت خناقها تستنجدُ

    فوق البيوتِ حَمَامَها في حيرةٍ
    ** فكأنها لِحِمَامِها تتشهدُ

    يا ذاهباً عن أرضِها وديارها
    ** حلفا تقول لك أين اين المَولِدُ

    ليس المحب بصادقٍ لو أنه
    ** في ليلةٍ من حبه يتجرّدُ

    يا تاركين جدودهم بترابها
    ** عافين خيرات بها قد أوجدو

    وميممي أرض غريب أهلها
    ** والوجهُ واللَسِنُ النَطيقةُ واليدُ

    خلا ابوكم جنة بطيوبها
    ** ما لابن آدم موضع يتخلدُ

    في العام 1999م وبعد ربع قرن من إنشاء هذه القصيدة يقول محمد الواثق عن وادي حلفا قصيدة لم يقبل ختامها إلا ضماًوتعريضاً بتوتي.. تقول القصيدة:
    لو كانَ فيكِ رِجالٌ يُستضاءُ بهم
    ** لما مكثتِ بقاعِ النيلِ يا حلفَا

    إذا ذكرتُ الصبا حنت لصورتها
    ** (أرقين) والمسجد المعمور والمرفَا

    وعادني جبل الصديق أذكره
    ** احتار في آيتيه الكهف والكفَا

    معاِلمٌ لو مفيض الدمعِ من شيمي
    ** إذن جعلت دموعي دونها وقفَا

    ماذا تقولين يا (إشكيت) في نفرٍ
    ** باعوا حماكِ وخَانوا العهدَ والعُرفَا

    تبدلوا بعد صنوان النخيل بها
    ** أرضاً تَناثرَ فيها السدر والطرفَا

    تسعى الثعابين في أنحائها فِرَقاً
    ** إذا دوى الرعدُ في أرجائها قصفَا

    خانوا العهود فيسموا الضيم يلزمهم
    ** لا يملكون له عدلاً ولا صرفَا

    أَحْبِبْ بأوشيك رغم الجهد ضافهم
    ** وصارَ في أرضِهم من بعدِهم ضيفاَ

    ماذا وجدتِ بقاعِ النيلِ يا حلفا
    ** تلك العرائس تُلقى عنده زُلفى

    فيا عروساً مضى لليمِ موكبها
    ** حارت نفرتيتي في أعطافِها وصفَا

    كم راود النيل في الشطآن غادته
    ** لكنه عاشقٌ قد يُضمر الحتفَا

    فإن طوى النيلُ في أعماقِه حلفا
    ** لقد رأيت بتوتي النيل ملتفَا..!

    وتستمر أنشودة هجاء المدن لدى الواثق لتمر مروراً عابراً بمدينة الحصاحيصا وتصيبها برشاش قاتل، ثم تنتهي بمدينة ودمدني التي جاءت في وصفه بخيلة لا تجود. وفي هذا استدعى الشاعر أخطر معاني الهجاء في الشعر القديم فأتى بما يشبه التناص لبيت ومعنى للحطيئة مشهورين. يقول الواثق في قصيدته مدني:
    لولا العُلا لم تجب بي ما أجوب بها
    ** وجناءُ حرْفٍ ولا بصات ودمدني

    أقول للحصاحيصا إذا مررت بها
    ** آويتِ من طردتِ يا بؤرة العفنِ

    غادرتها وطريق الموت تحففه
    ** قرى الملاريا حذاء الجدول العطنِ

    حتى توجهت والأقدار ماثلة
    ** لمعشر زعموهم سلة الوطنِ

    قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم
    ** قالوا لأمهم بولي على القطنِ

    شحت ببولتها وهو السماد لهم
    ** بئس السماد وبئس القطن يا مدني

    وأخيراً نقول لمن يعتقد أن عالمنا الحنذيذ محمد الواثق قد قصد محض الإساءة لبعض المدن السودانية عن حقد مقيم في دواخل وعرة أو أن ذلك قد نجم عن استعلاء أو عبثية أو حطيئية إنكم واهمون، وندعوهم للعودة لنصوص الشاعر وقراءتها دون غضب أوهياج، واستصحابها بمصادقية وحياد، وأن يستبطنوا قعورها، ويسبروا كنهها، ويغوصوا في دواخلها، ويستنطقوا كلماتها وحروفها، ويتحاورون معها. علها تهمس في آذانهم بأن أم درمان ليست سوى فتاة هام بها الشاعر ذات يوم، أو أنها رمز لحاكم متجبّر أو سلطة باغية، وأن كوستي وتوتي وكسلا ووادي حلفا ومدني ليست نصوصاً تعبر عن مواقف من هذه المدن آمن بها الشاعر واستدعى لها وجداناً قديماً كوجدان الشاعر النجاشي الحارثي في موقفه من مدينة الكوفة، أو وجداناً حديثاً كوجدان الشاعر أودينيس في موقفه من مدينة بيروت. بل لعلها تعكس أحلام التغيير التي ينشدها الشاعر من خلال أسلوب الصدمة العنيفة، وتدميره لأصنام العزة المصنوعة، ونزعة لبراقع القداسة الموضوعة، التي طالما أغشت الأعين، فلم نر موقعنا الحقيقي من الشعوب والأمم. وعليهم أيضاً أن يكشفوا عن المعاني المستترة خلف كلمات الهجاء المر، والرمز الكامن بين طياته، عن طريق مصادقته وإدامة النظر إليه. وأن يبحثوا عن تلك الآصرة التي تربط هذا الهجاء بالقصد الحقيقي والحالة الشعورية والعاطفية للشاعر، وألا يتناسوا تضحيات هذا الشاعر من أجل هذا الوطن وحبه العميق له، وكيف أنه يؤدي واجبه في صبر وصمت وبتفرّد وإتقان وأنه الفارس الأعزل الذي قال:
    ولو شئت أملت في منصبٍ
    ** يطيبُ به الظلُ والمأكلُ

    ولكنني شئت أن اعتلى
    ** أحلق ما حلقَ الأجدلُ









    (ب)
    الفارس الأعزل قراءة قبل الطبع
    شرفني الشاعر الكبير محمد الواثق، عندما خصني بمسودة ديوانه الثاني (الفارس الأعزل) وهو يعتزم الدفع به الى المطبعة، وقد ضمت المسودة عشر قصائد عنّ لي أن أقسمها الى ثلاثة أبواب، باب أول يجمع قصيدتي (الفارس الأعزل) و(عصا التسيار) اللتين تخلقتا في بيئة السجن والغربة، وكانتا نتاجاً لالتزام الشاعر الاجتماعي والسياسي المستقل المناهض للحكم الدكتاتوري، فقصيدته اللامية التي جاء الديوان علي اسمها (الفارس الأعزل) تعتبر من حيث الترتيب الزمني أولى قصائد هذا الديوان، وقد أنشأها الشاعر في مارس من العام 1974م وهو يرزح تحت وطأة قيده بسجن بورتسودان:
    كذاك إستجاش الأسيرُ الذي
    ** تنكعَ في قيده يحجلُ

    فتى طال في ما قد ثوى
    ** فمن سوره الدارُ والمنزلُ

    يغالب أوجاعه تارة
    ** وطوراً يجيش فيسترسلُ

    يقول محمد الواثق في لقاء صحفي (إن السجن تجربة يستعصى استيعاب كنهها على من لم يدخل فيها حيث يتعطل الزمن وينعدم المكان ويكون الأسير في إطار المجهول بشكله اللامنطقي في ديمومة الهواجس) بيد أننا نرى أن شاعرنا الفارس الأعزل لم تكن تقلقه تلك الهواجس كما تفصح القصيدة فالسجن في عهود الطغيان ضريبة يدفعها المناضلون الشرفاء من أجل الحرية ومن أجل أولئك الجياع الذين علت وجوههم نذر الشحوب وأطبقت شفاههم على لهواتهم اليابسة.
    فإني لعمرك ما أذهل
    ** لعاقبة ليلها أليلُ

    فإما إنهزمت فإني اقتحمت
    ** وإما أسرت فما أحفلُ

    لأني خرجت الى غاية
    ** أمكن النور أو أقتلُ

    وما بي بسالة من يدعي
    ** وما بي مخافة من يخذلُ

    ولكنها الأوجه الشاحبات
    ** حركني نسجها الهلهلُ

    صوت العطاش لنذر المعاش
    ** لقد راعني عظمها الهيكلُ

    لم يكن السجن وإن تبدى بقوة في أكثر من موضع في القصيدة هو همها الأول، إذ أنها تتحدث أساساً عن سيرة النضال الذي نسج من فتائل ثوار شعبان الذين ينتسبون لكافة ألوان الطيف السياسي بدءًا بيساره وانتهاءً بيمينه:
    فمنهم فتى عركته الدنا
    ** عصيباً بدا أمره المعضلُ

    فمشعله كان مطرقة
    ** يعانق حافاتها المنجلُ

    ومنهم فتى لا يلذ
    ** الكرى وأدمعه ثرة منهلُ

    فمشعله كان مصحفه
    ** يورعه آيه المنزلُ

    وتحث القصيدة على المزيد من النضال من أجل النور، وتفضح المتخاذلين وإن رأينا أن اليأس بدأ يدب فيها وهى تسير الى إنتهاء، وقد دخل الطغيان عامه الخامس- نذكر بأن القصيدة تم إنشاؤها في العام 1974...

    ألست ترى الغيث لا ينزل
    ** وذا عامنا الخامس الممحلُ

    فجفت ضروع بألبانها وقد
    ** صوح الزرع والجدولُ

    فيا صاحب السجن لا تشتكي
    ** فما خطبنا سوره الأطولُ

    ولكن خليلي عوجا بنا
    ** فقد عزني طلل محولُ

    قفا نبك الديار التي
    ** بها كان يطربنا البلبلُ

    فأمست منابتها بلقعاً
    ** صحاري تثوخ بها الأرجلُ

    تنوح المعيز برمضائها
    ** كما ناحت الثاكل المعولُ

    فيا مرحل السحب حتى
    ** متى نرى عذابك لايرحلُ

    إن هذه القصيدة ذات الواحد والستين بيتاً والتي سالت أوديتها من سفح النضال الناضر، إبتدرها الشاعر بديباجة رصينة من النسيب، وحشد متنها بصور فنية متفردة فجاءت ملبية لأشواق أنصار الأصالة والجزالة في الشعر العربي. لم توضح المسوده التي بين يدينا تاريخاً لقصيدة «عصا التسيار» وإن كنا نرجح أنها أنشئت بعد وقت ليس بالقصير من تاريخ انشاء قصيدة (الفارس الأعزل) والقصيدة مليئة بالشجن وكلماتها تسلس القياد للنبرات العذاب، أغنتها الصور الجمالية الأخاذه خاصة في وصف الطبيعة.
    هل رأيت الطير تبني عشها حيث
    ** تنفي الشمس أفنان الشجرْ

    دونها الغدران ما طافت بها
    ** وعلى الأيك أفانين الثمرْ

    فإذا ما همست ريح الصبا
    ** رتل العصفور إنشاد السحرْ

    هذه النحل التي أوحى لها
    ** سلكت في كل فج وممرْ

    فابتنت بيتاً تنزى شهده
    ** من رحيق وأفاويق الزهرْ

    غير أن القصيدة أخذت في مسالك السفر ولواعج البقاء بمعان إنثالت من تجربة الشاعر الخاصة،وكشفت عن مشاعر لا يسرها البقاء ولا يرضيها السفر.
    يا عصا التسيار ما شئت اذهبي**لا النوى أجدى ولا القرب يسُرْ
    إستهل الشاعر قصيدته الرائية هذه بوصف وعورة الطريق ومعالمه القاسية وقد إقتفاه وهو يجهل كنهه ومنتهاه ..
    ياغراب البين قد طال السفرْ
    ** إنقضي العمر ولما استقرْ

    حان بعد السير إلقاءُ العصا
    ** حبط المسعى وسيري مستمرْ

    أقتفي الدرب الذي أجهله
    ** تارة يعلو وطوراً ينحدرْ

    لاترى في نسجه من معلم
    ** غير لمع الآل في مد البصرْ

    واهتزام الريح من بين الصوي
    ** يسفح الوجه لظاها المستعرْ

    القصيدة جاءت تصويراً لخواطر متجانسة حققت الوحدة بين اجزائها وأغراضها، وألقت بظلال من آيات الجمال عندما نسجت بإحكام خيوط التجربة الشعورية وخيوط بنائها الفني الرفيع.
    حسب ما رأيناه من تقسيم ذرف الشاعر في الباب الثاني ثلاث دمعات هى مرثياته «جوزيف قرنق» و«السفر الأخير للدكتور محمد الخاتم يوسف» و «مثاب يوسف المصطفى». ورثاؤه لصديقه جوزيف قرنق جاء بعد أربعة عشر عاماً من تاريخ شنقه في خريف 1971م بسجن كوبر، حيث كان الشاعر موجوداً فيه ونادوا صديقه من جواره ليلاقي مصيره المحتوم وهى صورة ظلت ملتصقة بوجدان الشاعر وذاكرته ولم تفارقه أبداً، ولعل الشاعر لم يمتص الصدمة الا بعد مرور أربعة عشر عاماً وعندما أفاق نزف قلمه:
    صديقي المثابر جوزيف قرنق ترامي قبيل إحتدام الشفق
    الى سجن كوبر حيث شنق
    فيا رب هل..
    على روحه أقرأ الفاتحه !! فقد عدم القبر والنائحة
    وألحد في الترب كيف اتفق؟!
    وكان إذا جاش مواره تدافعه روحه الثائرة
    وصادمت الكون أفكاره وكم أنبت الكون من زهرة ناضرة
    فكنت اذا
    تمادت به الفكرة الجانحة أشيح الى مكة القرية الصالحة
    أعوذ بنفسي برب الفلق على أن جوزيف قرنق
    كما شهدت دمعتي السانحة جميل المحيا جميل الخلق


    وتمضى هذه القصيدة المؤثرة لتستوعب وتستدعى ذكرى ثورة شعبان التي كانت تروم نجوم الأفق كما كان يأمل المناضل جوزيف قرنق، وتستدعي ذكريات السجن ومرارة الاعتقال الى أن تبلغ مدى بعيداً في الشجن الأليم، وهى تصور آلام أطفاله وشبح المقصلة يطوف بخيالهم وأحزان أرملته وهى تذرف على خديها دمعاً سخيناً.
    ثم أزف وقت الرحيل المر فأسرج الشاعر رحله صوب ليبيا ليضع عصا تسفاره بمدينة سبها، وبينما هو يعالج لواعج غربته نعى الناعي إليه أخاه الدكتور محمد الخاتم، الاستاذ بكلية الطب جامعة العين بالامارات:
    رجوتُ وإن باتَ الزمانُ مُحاصِري
    ** رجاءُ الأماني أن يؤوب مُسافري

    طمعت بسبها والرمال تحوطني
    ** وكم بالرمالِ من جديبٍ وعامرِ

    بأني ألاقي خاتماً بعد فُرْقةٍ
    ** كلانا بأرضِ البينِ رهن المخاطرِ

    فلما أتاني والقفر دوننا
    ** تجرعتُ أخرى من كؤوسِ المرائرِ

    ولم يمض وقت طويل حتى أتاه الناعي ينعي والده يوسف المصطفى:
    ماذا يريبك من وصولِ القادمِ
    ** عجلانَ يخفي شخصه كالآثمِ

    قطع السهوب مفازةً لمفازةٍ
    ** فأناخَ في سبها بوجه ساهمِ

    قد جاءني بالأمس ينعي خاتماً
    ** واليوم جاء ينعي والد خاتمِ

    لا شك إن المتلقي سيحس أن هاتين المرثيتين قد برزتا في غلالة مونقة من الشعر الوفي لشكل القصيدة العربية، وجاءتا ملتزمتين التزاماً صارماً بالنهج العربي التقليدي في بناء القصيدة - كدأب الشاعر- وأخذتا مكاناً قصياً من الزلل والثغرات وتحصنتا من العيب والخطأ، فليس للناقد عليهما من سبيل، ولن يرى في وجهيهما شيئاً من البثور أو الأورام، ومن يترسم خطى هاتين المرثيتين يرى فضلاً عن الحزن المقيم فيهما، شيئاً مشتركاً يثير الأشجان ويجدد الاحزان وهو الحديث عن الغربة فقد نهضت معان جبارة في هاتين القصيدتين تعبران عن أسباب النزوح لديار القهر والهوان وأسباب البقاء فيها. يقول الشاعر في قصيدته السفر الأخير:
    لقد كان في الأوطانِ منأي عن الأذى
    ** إذا سادَ في الأوطانِ أهلُ البصائرِ

    رضينا مقام الأهل عيشة قانعٍٍ
    نعالجُ في السودانِ ضيق المصادِرِ

    إلى أن ألحت لزبة بعد لزبة
    وصرنا كأمثالِ العظام السوافِرِ

    ولما أناخَ الكربُ من كل جانبٍ
    وصاحبَ عضّ الفقرِ موتُ الضمائرِ

    نزحنا كأسراب الجراد تطاوحتْ
    إلى كلِ فجٍ من بديٍّ وحاضِرِ

    تلاتِل من شدِ الرحال وحطها
    بكثبانِ رملٍ لا تطيب لزائرِ

    ترى السحنة السمراء في كل ساحةٍ
    تبادر عيشاً من فتات البنادِرِ

    أقاموا على كسر النفوس وضيمها
    ترى الذل في وجه الغريب المهاجِرِ

    هوان رجالٍ كانوا قبل أعزة
    ومسحة حُزنٍ في وجوهِ الحرائرِ

    أيرجع من قد جاء يرفد أهله
    أيبقى وفي الحالين وقفة حائرِ

    ويقول في قصيدته مثاب يوسف المصطفى وقد ازدادت وتيرة المعاني عمقاً وشفافية وصدقاً وأسىً:

    لو كان في السودان فضلة مورد
    ** تكفي حشاشة شارب أو طاعمِ

    ما كنت أعتسف الفيافي أتقي
    ** برد الشتاء وحر لفح سمائمِ

    ما كان يجفو الكري فرشي
    ** على جمر الغضا يقظان ليل النائمِ

    ارتاد أسباب الغني فتحيلني
    ** ضيفاً على لمع السراب الواهمِ

    أتركت نهر النيل يصدح طيره
    ** وشريت تغريداً ببخس دراهمِ

    فإذا الدراهم منة لاتنقضي
    ** من آمر أو زاجر أو شاتمِ

    أما الباب الثالث والأخير من مسودة الديوان فقد حوى خمس قصائد جاءت كلها في هجاء مدن سودانية هى كوستى ووادي حلفا وتوتي ومدني وكسلا، ويقيني أن هذه القصائد ستثير ضجة مماثلة لتلك الضجة التي أثارتها قصائد ديوان الشاعر الأول أم درمان تحتضر، إن لم تكن أكبر ونشير هنا الى أن جميع قصائد هذه المسودة بما في ذلك هذه الهجائيات قد تم نشرها في اصدارات دورية أو يومية في أوقات سابقة ومتفاوتة،كما تعرضنا لها في مقالنا السابق(محمد الواثق وهجاء المدن السودانية) ولسنا بحاجة هنا لإعادة إستعراضها.
    وأخيراً نقول إنه ليس من الحصافة النقدية أن نوثق لرابطة بين القصائد الهجائية التي وردت في مسودة ديوان الفارس الأعزل وبين تلك التي وردت بديوان الشاعر الأول ام درمان تحتضر والذي نعتبره ملحمة سياسية كبرى استخدم فيها الشاعر الرمز بكل أنواعه وبكافة صوره بقوة إبتكارية خلاقة.









    (ج)
    الصور الغزلية في ديوان أم درمان تحتضر
    إن ديوان {أمدرمان تحتضر} للشاعر محمد الواثق ـ الذي جاء في موضوع واحد هو {أمدرمان} واختار الشاعر لقصائده فيه ـ من آلته العروضية الجبارة ـ بحراً واحداً عالي الرنين هو بحر البسيط ـ حُظِيَ بكثيرٍ من الدراسات العلمية والبحوث الأدبية والنقدية الجادة. إلا أنني لم أقع على أيٍّ منها وهى تتطرقُ لومضات الحنين وصور النسيب والغزل التي وثبت متلألأة بين قوافيه هنا وهناك بل وجدتها منشغلةً عنها بموضوعه الرئيسي الذي يتحدث عنه.
    المدهش أن قصائد الديوان والتي جاءت في مجملها لبعض الناظرين هجاءً مُرَّاً لأمدرمان إختلطت فيها أبيات الحنين والغزل بأبيات الذم والهجاء فوقعت كمزيج رائع وهجين بديع لم ينتقص من غرض الديوان ولم تظهر به نتواءات أو شوائب على شكل القصائد أو موضوعها إنما أخذها إلى آفاق عالية في مدارج الجمال والإجادة، فلننظر إلى صاحب الديوان الذي يحسن التخلص وفنه وهو يقول في القصيدة التي جاء الديوان على إسمها غزلاً لم يخرج به عن لحمة القصيدة وسداها ولم ينحرف به عن موضوعها:
    سألتُك الله ربَّ العرشِ في حُرَقٍ
    ** إني ابتأستُ وإني مسَّنِى الضَرَرُ

    هل تُبْلِغَنِّى حقولَ الرونِ ناجيةٌ
    ** تطوى الفضاء ولا يُلْفَى لها أثرُ

    قربَ الجبالِ الألب دَسْكَرةٌ
    ** قد خصها الريفُ، لا همٌ ولا كَدَرُ

    تلقاكَ مونيكُ في أفيائِها عَرَضاً
    ** غضُّ الإهابِ ووجهٌ باغِمٌ نَضِرُ

    مِن صُبحِ غُرَّتِها حِيكَ الضياءُ لنا
    ** ومِسكُ دَارينَ من أردانِها عَطِرُ

    مونيكُ إني وما حجَّ الحجيجُ له
    ** لم يُلْهِنى عنكمُ صَحْوٌ ولا سَكَرُ

    وعهدُكِ الغُرِّ في أغوارِ ُحْتَمِلٍ
    ** إنـي لذاكرهُ ما أورقَ الشجرُ

    كيف اللقاءُ وقد عزَّ الرحيلُ وما
    ** يثني عناني سوى ما خطَّهُ القدرُ

    راحـلتي هِمتي لا تبتغي وطَـناً
    ** لكن يُقيــدها الإشفاقُ والحَذرُ

    مونيكُ كانت لنا أم درمانُ مَقْبرةً
    فيها قَبَرْتُ شبابي كالأُلَى غَبَروا

    ولننظر إليه أيضاً وهو يمزج مزجاً عجيباً بين هجائه العنيف لأمدرمان وبين غزله الرقيق لمعشوقة صغره فيها قبل أن يتحرر منها و يرتاد آفاقاً أخرى، فقد أخذ يخاطب أم درمان واصفاً إياها بطالبة الملذات وأن نسلها مخنوق بآثامها وأن معشوقته كانت ضحية لهذا النزق ولا سبيل للتطهير إلا بالنار:
    ما دَامَ عُمْرُكِ باللذاتِ مُرْتَهناً
    ** يَظَلُّ نَسْلُكِ في الآثامِ يَخْتَنِق

    فقد عَشِقْتُ فتاةَ الحىِّ في صِغَري
    ** يَشِعُّ من خَدِّها ما لَوَّنَ الشَفَقُ

    في ساحَةِ الحيِّ تَلهو بينَ جِيرَتِها
    ** براءةُ الطِفْلِ في عَيْنَيْهَا تَأتَلِقُ

    حتى إذا اكْتَمَلَتْ أودى بِزَهْرَتِهَا
    ** ما دسَّهُ العِرقُ أو ما أورثَ الخُلْقُ

    من ماءِ نَسْلِكِ يا ام درمانُ قدْ خُلِقَتْ
    ** بين الترائبِ والأصلابِ يَنْدَفِقُ

    يا مُوقِدَ النارِ هل أضرَمْتَها بِهِمُ
    ** عسى الخطايا مع الأجْسادِ تَحْتَرِقُ


    ويصير الأمر أكثر وضوحاً وأقل حدة وأوقع لطفاً إذا ما تملينا تلك الديباجة الجزلة التي ابتدر بها الشاعر قصيدته{لكنما أنت يا ام درمان} والتي حوت مفردات ضاجة تنبئ عن الهجر المر ولا تشي قعقعاتها بيأس ولا خنوع، يقول:
    وَدِّعْ لميسَ وداعَ الواثِق الخالي
    ** قد كنت من أمرِها في أيِّ بَلْبَالِ

    قد كان حُبَّكِ أوجاعاً أكَتِّمُها
    ** وأزجرُ الدمعَ لايَهمِي بتهمالِ

    ما كنتُ أحسَبَني أني تُخَلْخِلني
    ** بعد التجاريبِ مني ذاتُ خَلْخَالي

    غادرتني مُثْقَلاً أرعى النجومَ ضَنَىً
    ** لا أستَقِرُّ من البلوى على حَالِ

    من بعدِ ما كنتُ مثل الفجرِ منشراً
    ** أجرُّ فوق أديم الأرضِ أذيالي

    فلا رجعتِ ولا عادتْ مؤنثةٌ
    ** تُثبِّطُ العزمَ مني قدرَ مثقال

    غير أن القارئ للديوان يدرك بغير عناء أن الشاعر جعل من مونيك رمزاً لأحلام عشقه الدفين، التي كبلتها أمدرمان، ولا يكاد يخلو موضعاً من مواضع غزله إلا وحطت عليه هذه الباريسية كفراشة ناعسة على أزهار حنينه فتحس بها وقد ولجت قلبه وملكت عليه كيانه وبرزت في أحلامه بروزاً لا يمكن أن ندرك حقيقته العميقة وأثره الغائر إلا عندما نسمعه يقول:
    متى حللتُ فنهرُ الرونِ يُشْعِرُني
    ** بأنني بشرٌ من طينةِ البشرِ

    فإن بدتْ قريةُ مُونيكُ أبْصِرُهَا
    ** فما النساءُ وما امدرمانُ يا بصري؟

    ما زال مسعايَ في دنيايَ رؤيتُها
    ** في شطِّهِ ساعةً تشدو بلا وترَِ

    والشعرُ منسدلٌ حيناً يبعثِرَهُ
    ** مرُّ النسيمِ الذي يلهو مع الشجرِ

    مونيكُ ما اقتربت أنثى تُكلمني
    ** الا مثلتِ بطيفٍ واضحِ الصورِ

    شتان بين مصيفِ الألبِ يجمعنا
    ** وبينِ أخرِبةِ أمردمانَ والحفرِِ

    ماذا لقيتُ من أمدرمانَ بعدك يا
    ** مونيكُ غيرَ الأسى والهمِ والكدرِ

    فهل أرانا-كما كنا- ومجْلِسُنا
    ** في روضةٍ قد حباها ساكبُ المطرِ

    ومحمد الواثق يستحيل الى رقة متناهية تناهض تلك الشراسة التي هاجم بها امدرمان إذا ما أصابه في جوف خاطر مباغت شيء من مونيك:
    مونيكُ قد عشتُ في أمدرمانَ مُعْتَكِفاَ
    ** أعالجُ اليأسَ طولَ الليلِ بالراحِ

    هل نسمةٌ جابتِ الآفاقَ تُنْعِشُني
    ** بعاطرٍ من شذا باريسَ فواحِ

    بل هل أنا في حقولِ الرونِ يُطْرِبُني
    ** ترنيمُ ساجعةٍ أو شَدْوُ فلاحِ

    إن كنتَ تَعْشَقُ في باريسَ أغْيَدَها
    ** وقد ثَمِلْتَ بِأقْدَاحٍ وأقْداحِ

    فما مُقَامُكَ وام درمانُ قد مُلِئَتْ
    ** بِكُلِّ قَزْمٍ كبيرِ الصوتِ نَبَّاحِ


    وعندما يدرك أنه يقبع في ام درمان كالوتدِ ـ التعبير له ـ تهتاج قلبه أشواق بعيدة لباريس وساكنها جميلته مونيك، حيث كان الهوى، وكانت اللقيا، وكان الوصال،فيلتمس إلتماس المتمني أن تعود به أيامه إلى مدينة النور. يقول:
    متى أمرُّ على باريسَ مُنطلقاً
    ** حيثُ الأنيسِ وحيث العيشةِ الرغِدِ

    قد كنتُ ألقى بها مونيكَ يُعْجِبُني
    ** جَمالُها الغَضُّ من لينٍ ومن أوَدِ

    مُجَاوِرٌ ثَغْرَهَا البَسَّامَ بعضُ فَمي
    ** وعاقِدٌ خُصْلَةً من شَعْرِهَا بيدي

    وكُنتُ إذ ما دَعاني الزهْوُ آوِنَةً
    ** أمشي العِرَضْنَةَ في أثوابيَ الجُدُدِ

    ويقول عندما تشتد في أعماقه أشواقها لمظِنة هواه البعيدة و تؤاتيه رؤى ذاك الجمال النائي:
    لا شيئَ يُلْهي سِوى باريسَ نَذْكُرَها
    ** يَحْلُو شَذَاهَا وتَسقي أرضََها الدِيمهْ
    وقد رأيـتُ بِها مونيكَ تُعْجِبُنِي
    ** الجِسْمُ مُعْتــَدِ لٌ والخَطْوُ تَرْنيمَهْ
    وعندما تثقل قلب شاعرنا هموم اللقيا، وتمزق الرياح آمال وصاله، وقد عصفت بها شرزمة الطغام وأرضهم المعادية، يطلب الخمر والخمار ليرى منطلقه في خيال سكره ،فقد أضحى واقعه مستبداً، ورؤاه غائمة كما تغيم سحابة سوداء، ويقول:
    باخوسُ أنت إلهُ الخمرِ هاتِ لنا
    ** من خمرِ تكريتَ أو من خمرِ جيرونِ

    سُلافةً عُتِّقَتْ في دَنِّها حٍقَباً
    ** من عهدِ قارونَ أو من قبلِ قارونِ

    حتى أرى في خيالِ السُكْرِ مُنْطَلقي
    ** في قلبِ باريسَ أو في ضَفَةِ السينِ

    وهل شتيتٌ من الغِزْلانِ أرْقُبُهُ
    ** أم تلك طائفةٌ من حورِها العِينِ

    وهل سنا بارِقٍ أم رابَنِي بَصَري
    ** أم وجْهُ مُونيك ذاتِ الحاجبِ النوني

    تحولُ دونَكِ يا مُونيكُ شِرذمةٌ
    ** من الطـَّغَامِ وأرْضٌ كَمْ تُعَادِينِي

    لم تكن مونيك الباريسية محل هجرٍ أوعتاب عند الشاعر مثلما كانت لميس ـ لعلها أم درمانية..!ـ فإذا تحدث عن مونيك تحدث بوجدانيات بادية تخفو لديها الحسيات التي تطفو إذا تحدث عن غيرها، يقول:
    هبتْ تُنَشِّطَني للهوِِ آنِسةٌ
    ** تَطْيابُها ما تَمَنَتْه البساتينُ

    تُزْجي الحَدِيثَ بهمسِ القولِ تُسْقِطهُ
    ** عفواً فعرْبَدَ في الأعماقِ تِنينُ

    الراحُ من راحَتيها والشفاهُ كَطعمِ
    ** الراحِ والجسمُ بَضٌ صاغهُ اللينُ

    راحتْ تَثَني بِعَطـْفََيْهَا لتَسْحَرَني
    ** مَفْتُونَةٌ شَاقْهَا للَّهوِ مَفْتُونُ

    وفي قلب المحنة ومن قلب المأساة يتذكر الشاعر محبوبته مونيك في إيماءة تذكرنا بقول الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد:
    ولقد ْ ذَكَرتُكِ والرِماحُ نواهِلٌ مني
    ** وبيض الهند تقطُرُ من دَمي

    فوددتُ تقبيل السيوف لأنها
    ** لمعتْ كبارقِ ثغركِ المتبسمِِ

    إلا أن شاعرنا الواثق أضاف إلى هذه الإيماءة سبب نجاته من الهلاك وهو سبب كمن وراء حبه لمونيك فالحب نورٌ بنور القدس يتصل، وهي نجاةٌ ستكون ثمرتها الرائعة والمشتهاة إرتحاله لثرى مونيك:
    وإذا تَبدَّى دُخَانٌ يَرْتَدي ظُلُمَاً
    ** في جَوفهِ حُمَمُ في رأسه شُعَلُ

    ذَكَرْتُ مُونيكَ إذ حاقَ العذابُ بهم
    ** وكان يضْحَكُ من بَلْوائِهم هُبَلُ

    فـَحُبُّ مُونيكَ ما تَنْجُو النفوسُ به
    ** والحُبُّ نورٌ بنورِ القُدْسِ يَتَصِلُ

    فإنْ نَجَوتُ وطُهْرُ الحُبُّ يَشْفَعُ لي
    ** فإني لثرى مُونيكَ أرْتَحِلُ

    إن مايقع على الوجدان عندما تنداحُ عليه هذه الصور الشعرية الفخيمة من إثراء هو ما ينبغي أن يفعله الشعر الحقيقي والأصيل في النفس وهو الشعر الذي يخرجنا من هذا الأرخبيل المظلم بخفافيشه الشعرية المتطايرة إذ لم نقرأ مؤخراً ـ إلا فيما ندر ـ شِعراً كهذا يرج وجداننا فكل ما هناك وجباتٌ ذهب مذاقها وخاب هواؤها وجف ماؤها

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 11-16-2008, 05:49 AM)

                  

العنوان الكاتب Date
شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:28 AM
  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:37 AM
    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:38 AM
      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:41 AM
        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:45 AM
          Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:48 AM
            Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:51 AM
              Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:55 AM
                Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:57 AM
                  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:59 AM
                    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 06:01 AM
                      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 06:02 AM
                        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 08:57 AM
                        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى rosemen osman11-16-08, 11:43 AM
                        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-19-08, 09:45 PM
  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى قصي مجدي سليم11-16-08, 12:33 PM
    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى rosemen osman11-16-08, 12:41 PM
      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 03:06 PM
    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 08:38 PM
  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى قصي مجدي سليم11-16-08, 01:32 PM
    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى rosemen osman11-16-08, 06:15 PM
      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi11-16-08, 11:42 PM
        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-17-08, 00:07 AM
          Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-17-08, 09:30 AM
            Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-17-08, 07:18 PM
              Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi11-18-08, 04:42 PM
                Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-18-08, 07:53 PM
                  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى الطيب شيقوق11-18-08, 08:06 PM
                    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-19-08, 09:14 AM
                      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-19-08, 09:01 PM
                        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi11-19-08, 11:17 PM
                          Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi11-19-08, 11:30 PM
                            Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-20-08, 07:12 PM
                              Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-21-08, 07:18 PM
                                Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-23-08, 10:01 AM
                                  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-23-08, 04:43 PM
                                    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-24-08, 08:59 PM
                                      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-25-08, 01:01 AM
  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى حسين محي الدين11-25-08, 03:28 PM
    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-25-08, 09:04 PM
      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-26-08, 11:19 AM
        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-26-08, 06:41 PM
          Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-27-08, 09:18 AM
            Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-27-08, 09:57 PM
              Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-30-08, 00:12 AM
                Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi12-02-08, 09:44 PM
                  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi12-02-08, 10:00 PM
                    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah12-03-08, 07:49 PM
                      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى سمية الحسن طلحة12-04-08, 08:52 PM
                        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى قصي مجدي سليم12-06-08, 06:48 AM
                          Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى قصي مجدي سليم12-06-08, 07:05 AM
                            Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi12-06-08, 07:51 AM
                              Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى الشامي الحبر عبدالوهاب12-06-08, 08:22 AM
                                Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi12-06-08, 10:27 AM
                                  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah12-10-08, 08:18 PM
                            Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى سمية الحسن طلحة12-11-08, 07:26 AM
                              Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi12-13-08, 01:20 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de