شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-27-2024, 02:18 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة منصور عبدالله المفتاح(munswor almophtah)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-16-2008, 05:41 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى (Re: munswor almophtah)

    الفصل الأول


    شذور متفرقة حول ثلاثة شعراء سودانيين






    (1)
    {الشاعر محمد سعيد العباسي}
    الشيخ عثمان زناتي أستاذ العباسي




    العباسي شوقي حافظ
    شوقي


    العقاد




    (أ)
    المدن السودانية في شعر العباسي

    شاعرنا السوداني المعروف محمد سعيد العباسي شاعرٌ تقليدي النزعة كلاسيكي الميول، ويبدو للناظر التزامه الصارم بشكل القصيدة العربية الأصيلة. ولا يُعزى ذلك إلى نظرته إلى الأوائل فحسب إنما كان لشكل حياته التي عاشها بين بوادي بلاده والتي تشبه في بيئتها بيئة الجزيرة العربية أثر عظيم في ذلك، فعندما يتحدث العباسي عن الناقة يتحدث عن تجربة حقيقة عاشها، فقد كانت الأيانق هي وسيلته في التنقل. وقد مازجت تجربته الشخصية الأطلال والوديان والأطيار ووعورة الدرب وكل ما يتصل بحياة البادية، ولعل الاستاذ الناقد عبد القدوس الخاتم تحدث بإفاضة في شأن هذه التجربة . وقد عدّ الأستاذ مصعب الصاوي العباسي شاعراً محدثاً وليس تقليدياً . وعلى كلٍ فإن العباسي في شأن تجربته الشعرية عن المدن السودانية تتعدد أغراضه في القصيدة الواحدة، وكثيراً ما تصاحبها ديباجات عند الإفتراع متفق على قوّتها وجزالتها وروعة نسيبها يقول في قصيدته النهود:
    باتتْ تُبالغُ في عَذلي وتَفنيدي
    ** وتقتضيني عُهودَ الخُرَّدِ الغيدِ

    وقد نضوتُ الصِبا عني فما أنا في
    ** إسارِ سُعدى ولا أجفانها السُودِ

    سئمتُ من شِرعَةِ الحُبِّ اثنيتن هما
    ** هَجْرُ الدلالِ وإخلافُ المواعيدِ

    لا تعذليني فإنيَّ اليومَ مُنصرِفٌ
    ** يا هذه لهوى المَهريَّة القودِ

    لم يبْقَ غير السُّرى ما تُسَرُ له
    ** نفسي وغير بناتِ العيدِ من عيدِ

    المُدنياتي من رهطي ومن نفري
    ** والمبعداتي عن أسري وتقييدي


    أثرتُها وهي بالخرطومِ فانتبذتْ

    **
    تكادُ تقذفُ جُلموداً بجُلمودِ

    تؤمُّ تِلقاءَ من نهوى وكم قطعتْ
    ** بنا بِطاحاً وكمْ جابتْ لصَيخُودِ

    نجِدُّ يرفعنـا آلٌ ويخفضنــــا آلٌ
    ** وتلفظنـــــا بيدٌ إلى بيـــدِ

    وشدَّ ما عانقت بالليلِ من عنقٍ
    ** يُضني ومن حيفِ أخدودٍ فأخدودِ

    معالِمٌ قد أثارتْ في جوانحنا
    ** شوقَ الغريرِ لمهضومِ الحشا الرُّود
    ِ
    استغفر الله لي شوقٌ يجدده
    ** ذكرُ الصبا والمغاني أيَّ تجديدِ

    وتلك فضلةُ كأسٍ ما ذممتُ لها
    ** طعماً على كِبرٍ بَرْحٍ وتأويدِ

    وبعدها يبرز العباسي في معاطف عمرو بن أبي ربيعة فيدهشنا بقوله:

    إن زرتُ حياً أطافتْ بي ولائده
    ** يفْدينني فعلَ مودودٍ بمودودِ( )

    وكم برزنَ إلى لُقيايَ في مرحٍ
    ** وكم ثنينَ إلى نجوايَ من جيدِ

    لو إستطعنَ وهُنَّ السافحاتُ دمي
    ** رشفنَنِي رشْفَّ معسولِ العناقيدِ

    يا دار لهوي على النأي اسلمي وعمي
    ** ويا لذَاذَة أيامي بِهــم عُودي

    المدينة عند العباسي إلهامٌ و عشقٌ ومحبةٌ وكنزٌ من الذكريات والهوى ورهطٌ من الأصدقاء والمحبين، فلا يقع نظره فيها إلا على الحُسن والجمال بأنواعه، جمال الوفاء، جمال الطبيعة وجمال الكرم. وقد قال العباسي عن عروس الرمال (الأبيض) في الحاشية الأولى من حواشي قصيدته (عروس الرمال):- "عروس الرمال هي مدينة الابيض لأن أرضها بيضاء رملية وأجمل ما تكون في أيام الخريف بعد نزول الأمطار فتخضر الأرض وتنبت بها الأعشاب ويكون لأشجارها خصوصاً التبلدي جمال وروعة". يقول العباسي في عصمائه عروس الرمال وذكرياته فيها:
    أرى النوى أكثرتْ وجدي وتذكاري
    ** وباعـــدتْ بين أوطاني وأوطاري

    وألزمتني عن كُرهٍ مصائرها
    ** هذا الترحلَ من دارٍ إلى دارِ

    فارقتُ بالأمس فتياناً كانهمُ
    ** في الجودِ إما تباروا خيلُ مضمارِ

    كأنما أرضعتهم أمهاتُهُم
    ** غيظَ العدو وبرَّ الضيفِ والجارِ

    أفدي الأبيض أفدي النازلين بها
    ** مثوى الأكارم أشياعي وأنصاري

    شادوا بذكري ولولاهمُ لما عَشِقتْ
    ** هذي المحافلُ آدابي وأشعاري

    من كلِ ندبٍ كريم الطبعِ ذي خُلقٍ
    ** سمحٍ وليس بنمامٍ ولا زاري

    أوفي الأخلاء في الجلى يضاقُ بها
    ** ذرعاً وإن هيجَ فهو الضيغمُ الضاري

    شروا من الحمد ما يبقى وغيرهمُ
    ** باعَ الكرامة عن زهدٍ بدينارِ

    لو كنتُ كإبن الحسين اليوم صغتُ لكم
    ** ما قد أفاءَ على بدرِ بن عمَّارِ

    إن الذي قد كساكم من صنائعه
    ** ثوب الفضيلةِ عرَّاكم عن العارِ




    ثم ينزلق العباسي إلى ذكريات حملت من العشق والغزل والوله ما حملت، فألبسها ثوباً شعرياً منمقاً ومموسقاً يطرب له الوجدان وتهتز له الأفئدة، ففيه من صور التشبيه وإفصاح المباشرة الكثير والعجيب وهو يتحدث عن ليلى، تلك السيدة المهذبة والأديبة التي التقاها بالأبيض حيث موطنها، فيقول:
    هل من رسولٍ الى ليلى فيُبلغها
    ** عني تحية إعظامٍ وإكبارِ

    لم أنسها إذ سعت نحوي تودعني
    ** أستودعُ الله منها خيرَ مُختارِ

    في ليلةٍ لم ينمْ إلا الخليَّ بها
    ** ألقتْ على الناس والدنيا بأستارِ

    سعتْ إليَّ وفي لألاءِ غُرَّتِها
    ** نورٌ ذممتُ لديه الكوكبَ الساري

    فيالها زورةً جادَ الحبيبُ بها
    ** وساعة تشترى منه بإعمارِ

    وردٌ حبتنا به الجناتُ مؤتلقاً
    ** من صنع ربك لا من صنع آذارِ

    وقد ظلمناه ان جئنا نشبهه
    ** بفارة المسك أو بالمندل الداري

    يا قُبلةً ما أحيلاها بهمهمةٍ
    ** فيها معاني ابن زيدون وبشارِ

    فهل لليلايَ أن تولى الجميلَ بها
    ** ولو كنُغْبةِ عصفورٍ بمنقارِ

    مُنىً قضينا ولم نظفر بها ولقد
    ** كانتْ تُرى وهي منا قيدُ أشبارِ


    ونوغل لنلتقي مع العباسي ومدنه مليط وسنار ووادي هور ودارة الحمراء والربدة، وهي قصائدٌ تحدث كل واحدة منها الأخريات عن روعتها وجمالها، وفيها يظل العباسي متشبثاً بغزله ونسيبه ووفائه ، وقد وضعها القدر في مساره وهو يجوب البوادي. فقد كان العباسي مولعاً بحياة البادية ويحمل نفساً تعلّقت منذ نشأته الباكرة بكل ما يتصل بالحياة الفسيحة المبرأة من القيود والأسوار، فأحب التنقل والأسفار، وعشق الفروسية، ومارس الصيد فاقتنى كلاب الصيد الجيدة، ومنها (ام سُوق) التي جاءته هدية من صديقه شيخ العرب السير علي التوم ناظر عموم الكبابيش، فبقيت معه ورعاها ورعى سلالتها على مدى عشرات السنين، ومن أشهر سلالاتها الكلبة (دولات) التي ذاع صيتها في كل منطقة الريف بشمال أم درمان وما جاورها. وقد كان العباسي فارساً يحب الخيل ويتملكه، ولعل مهرته الرشيقة (كيلوباترا) التي كانت تحوز قصب السبق في المضامير أهم وأشهر ما امتلكه من الخيل، أما الأيانق فكان لها في قلبه مكانة لا تعدلها إلا مكانة المودود والمحبوب، فهي رفيقته ونجيته في الفلوات وحاملة أثقاله وعلى ظهورها يسافر ويقطع السهوب والوديان وينزل الوهاد ويعتلي النهاد، وعندما يضنيه الشوق وتؤرقه ذكرى الأحبة في تلك المظان البعيدة ينهض إلى متون هذه المطايا لتحمله إليهم:
    وتحيةً حملتها ريحَ الصبا
    ** ممزوجةً برقائقِ التشويقِ

    ما البانُ إما بنتمُ بانٌ ولا
    ** ذاك العقيقُ المشتهى بعقيقِ

    أوطانكم وطني وإنَّ فريقكم
    ** أفديه دونَ العالمين فريقي

    ياهل تهب لديَّ من تلقائكم
    ** ريحُ الرضا ونسائمُ التوفيقِ

    فأروح أدَّرع الفلاةَ يقودني
    ** شوقي الصحيحُ وفعلُ أيدي النوقِ

    وأفيق من جهد الصبابة مبرداً
    ** منكم غليلَ فؤاديَ المحروقِ

    وفي ذات يومٍ أسرج العباسي رحله صوب (مليط) تلك المدينة الدارفورية وحاضرة قبيلة (البرتي) التي يشقها واديها العظيم الذي تنساب إليه المياه من مرتفعات مدينة (كُتُم) وتلتقي بمياه الوديان الصغيرة المنحدرة من جبلي (كَلُّوْ) و(كَلُّويَاتْ) المشرفان على بوابة المدينة الشرقية وسد وادي مليط الحجري، وعندما حط رحله فيها راعه منها جمال الطبيعة، وقبل أن ينيخ بدار مأمورها وصديقه (نصر بن شداد) بعد سير شاق وسفر طويل ألجمه حسنها وألهمه سحرها، فبدت مليط في تلك اللحظة تتهيأ لموعدٍ مع التاريخ والخلود، متزينة بكثبانها العفر ونخيلها الباسق ومياهها الجارية ورمالها الناعمة وظلالها الوارفة ويماماتها الهادلة والمغنية ونسائمها الغادية والرائحة.
    حيَّاكِ مليطُ صوب العارض الغادي
    ** وجاد واديك ذا الجنات من وادِ

    فكم جلوت لنا من منظر عحب
    ** يشجي الخلَّي ويروي غلة الصادي

    أنسيتني برح آلامي وما أخذت
    ** منا المطايا بإيجافٍ وإيخادِ

    كثبانك العُفرُ ما أبهى مناظرها
    ** أنس لذي وحشة رزق لمرتادِ

    فباسق النخل ملء الطرف يلثم من
    ** ذيل السحاب بلا كدٍ وإجهادِ

    كأنه ورمالاً حوله ارتفعت
    ** أعلام جيش بناها فوق أطوادِ

    وأعين الماء تجري من جداولها
    ** صوارِماً عرضوها غير أغمادِ

    والورق تهتف والأظلال وارفة
    ** والريحُ تدفع ميَّاداً لميادِ

    لو إستطعت لأهديت الخلود لها
    ** لو كان شيء على الدنيا لإخلادِ

    وفي جنان مليط أطربت الحمائم العباسي وأشجته وقذفت به الى اتون السعادة والهوى، هوى الأوطان وهوى النيل.
    فاقتادت اللبَّ مِني قودَ ذي رسن
    ** ورقاءُ أهدت لنا لحناً بتردادِ

    هاتي الحديث رعاك الله مسعفة
    ** وأسعدي، فكلانا ذو هوىً بادي

    فحرّكت لهوى الأوطان أفئدةً
    ** وأحرقت نضو أحشاءٍ وأكبادِ

    هوىً الى النيل يصبيني وساكنه
    ** أجله اليوم عن حصرٍ وتعدادِ

    وحاجةٍ ما يغيني تطلبها
    ** لولا زماني ولولا ضيق أصفادي

    أي حبٍ هذا الذي يسبغه العباسي على الأشياء من حوله؟، وأي جمال هذا الذي تهتف به نفسه من أغوارها؟، وأي استبطان رائع للوفاء ودواعي الصداقة التي يكنها هذا الشاعر في أعماقه؟:
    أنت المطيرة في ظل وفي شجرٍ
    ** فقدت أصوات رهبان وعُبادِ

    أعيذ حسنك بالرحمن مبدعة
    ** يا غرة العين من عينٍ وحُسادِ

    وضعت رحلي منها بالكرامة
    ** في دار ابن بجدتها نصر بن شداد

    وحتى هذه الورقاء التي دخل عليها في كنفها ففزعت منه خاطبها مخاطبة لا تقع إلا بين أنيس وأنيس:
    ورقاء إنك قد أسمعتني حسناً
    ** هيا أسمعي فضل إنشائي وإنشادي

    إنا نديمان في شرع النوى فخذي
    ** يا بنت ذي الطوق لحناً من بني الضادِ

    فربما تجمع الآلام إن نزلت
    ** ضدين في الشكل والأخلاق والعادِ

    لاتنكريني فحالي كلها كرمٌ
    ** ولا يريبك اتهامي وانجادي


    إنه يبث شكاته لورقاء في ربوع ملهمته مليط، وبث الشكاة للرفقة الأنيسة وغيرها تخفف من ربقة وسطوة الفراق وعذاب النأي والحاح الأشواق المقيمة، وهي المتنفس عندما تعانق النفوس وتمازجها وطأة الآلام وهي تعافر المنى المستحيلة والأماني البعيدة والعسيرة المنال. إن المعالم والمواضع والأماكن التي اختزلناها في مقالنا إلى كلمة المدن ما هي إلا قصص إلهام وحكايات حب وحديث وفاء وصدق عند العباسي كما أوردنا، وعندما يضع العباسي رجله في ركابها تتقافز لتخطو إلى مناحٍٍٍٍٍ أخرى تتعلق كما أبان قبلنا الدكتور حسن أبشر الطيب في كتابه (العباسي التقليدي المجدد) إلى ما يتصل بآماله وأمانيه وعقيدته الدينية والسياسية أو شكواه من الزمان واقفاً موقف الفخر والاعتزاز هاجياً خصومه. يقول في ذات قصيدته مليط وقد أدركه فيها العيد وانتابته الهواجس وذكريات سنة 1924م، وكيف أخرج الإنجليز الجيش المصري من السودان، وقد كان به ضباط مصريون من الطراز الأول علماً ومعرفة وأخلاقاً وللشاعر صلة بهم ترجع إلى سنة 1898 عندما كان تلميذاً بالمدرسة الحربية.
    وأنت يا عيدُ ليت الله أبدلني
    ** منك الغداة بعوادٍ وأعوادِ

    مالي وللعيد والدنيا وبهجتها
    ** وقد مضى أمس أترابي وأندادي

    أولئك الغر إخواني ومن ذهبت
    ** بهم مواسم أفراحي وأعيادي

    مضوا فهل علموا أني شقيت
    ** بمن ألبسته ثوب إعزازٍ وإسعادِ

    وتتصل شكوى شاعرنا العباسي وهو بين رُبا مليط حينما حنَّ إلى تلك الأيام التي لم يخشَ فيها بأس القاهر العادي، أيام كان الشمل مجتمعاً وهو يرى اليوم ما تفعله العداوة والأحقاد وما ينتجه التفريق والإبعاد.
    تحية الله يا أيام ذي سلم
    ** أيام لم نخش بأس القاهر العادي

    أيام كنا وكان الشمل مجتمعاً
    ** وحيُّنا حيُّ طُلابٍ وقصادِ

    فإن جرى ذكر أرباب السماحة
    ** أو نادى الكرام فإنا بهجة النادي

    لنا الكؤوسُ ونحنُ المنتشونَ بها
    ** منا السقاةُ ومنا الصادح الشادي

    واليومَ أبدتْ لنا الدُنيا عجائبها
    ** بما نقاسيه من حربٍ وأحقادِ

    وما رمى الدهر وادينا بداهية
    ** مثل الأليمين تفريق وإبعادِ

    مليط أعادت للعباسي وجدان المقاومة، مقاومة المستعمر الإنجليزي الذي كان يكن له كراهية شديدة وقد جاء في كتاب (العباسي الشاعر التقليدي المجدد) أن من الأسباب التي ربما جعلت العباسي مفتوناً بالبادية ما رآه في البدو وما يكنون له من محبة وثقة، جماعة مؤمنة يمكن أن يستنهضها ويكون قائد لوائها في محاربة المستعمرين. وهذا القول يسانده مساندة كاملة ما ذكره الشيخ الشاعر الورع العالم ضياء الدين العباسي في مقاله: (من حياة والدي) الذي نشر ضمن كتاب (نظرات في شعر العباسي) الذي صدر عن جماعة الأدب المتجدد، إذ يقول "والشيء المعروف أنه كان يهيء الأذهان ضد المستعمر ولكنه كان يبالغ في كتمان ما أضمر والشيء الذي حصل فعلاً ان الانجليز بعثوا بقوة صغيرة بقيادة أحد المفتشين لتترسم خطى العباسي فوجدوه بين قبيلة حمر ودار الكبابيش في جمع كبير فأحضروه الى الخرطوم ثم اعتقلوه اعتقالاً تحفظياً ببلدته". ولعلنا واجدون في قصيدته سنار التي تعد من أهم قصائده إشارة واضحة وجلية ورغبة جامحة في جلاء المستعمر وهو يخاطب المهندس الانجليزي (جبسن) باني خزان سنار كما سنرى من خلال استعراضنا لقصيدة سنار باعتبارأن سنار من المدن التي ألهمت الشاعر، وسنار مهد صوفية الفونج التي لونت المزاج الديني السوداني و تعتبر وصاحب الربابة الرمز الذي رجع إليه شعراء السودان في القرن العشرين على اختلاف أيدولوجيَّاتهم.
    كعادته يبهرنا العباسي بديباجة غزلية رفيعة المستوى في قصيدته (سنار بين القديم والحديث) ولا يقدح في معناها الغزلي الشفيف الرمزية التي تكفلت الحاشية الأولى بشرحها وردتها الى أنها أبيات تقرر حال القائمين بالأمر بالسودان وبين الشعب، فكثيراً ما أعطوا الشعب العهود والوعود بأنهم سيسيرون به إلى طريق الحكم الذاتي وطريق الحرية، وعلى كلٍ سنورد ما سنختاره من الديباجة وليغني كلٌ على ليلاه.
    خانَ عهدَ الهوى وأخلفَ وعدا
    ** ظالمٌ أحرقَ الحشاشةَ َصدا

    ماطلٌ لا يرى الوفاء فإمَّا
    ** جاد يوماً أعطى قليلاً وأكدى

    إن سألت النوال ضنَّ وإن
    ** غبت تجني تيهاً وإن زرت صدا

    من معيني؟ هذا الحبيبُ جفاني
    ** ومعيري ثوب الشباب استردا

    أنا وحدي الملوم أنزلت آمالي
    ** بمولى لم يرعَ مذ كان عهدا

    خل هذا الصدود وأدن أحاجيك
    ** ومهلاً زين الملاح رويدا

    قلت عندي روض هو الخلد يؤتي
    ** أكله طيباً ويعبق رندا

    ورحيق خبأته لك مما
    ** كان قِدماً الى الخواقين يهدى

    هاته إنه المنى وأذقني
    ** إن تفضلت من ثناياك بردا

    وانا رق الهوى بي ظمأ بَرْحٌ
    ** وشوقٌ أبلي اصطباري وأودى

    يجيد العباسي فن التخلص من خلال القصيدة الواحدة أيما إجادة، فينتقل من غرض شعري فيها إلى آخر بتسلسل منتظم وانسياب لطيف فحينما يعتلي بالمتلقي من مرتفع إلى قمة أو عندما يهبط به من سهلٍ الى وادٍ لا ينتابه شعور الإرتفاع ولا تتبعه أحاسيس الهبوط فكأنه مُساق وسط دائرة شعرية تعرف جيداً مناطق انعدام الوزن. ففي ديباجة سنار يستمر العباسي في نسيبه ليصل به إلى نهايته واضعاً بعناية واقتدار بذرة التخلص إلى غرض شعري آخر :
    فتعجل لا تشمتن بي فتياناً
    ** بذاك الحمى بهاليل لُدَّا

    كان بي عنهمُ نزوعٌ
    ** لم أجد يا بدر الدجى عنه بُدا

    ثم بعد حين يعود ليتخذ من أولئك الفتيان البهاليل -يقصد بهم ملوك سنار في الزمان الأول- مرتكزاً يتغيّر به غرض القصيدة من النسيب أو الغزل إلى ذكر التاريخ والعلائق التي أحالته إليها وقفته بأطلال قصرٍ كان لملك سنار (بادي أبو شلوخ) فتذكر فضائلهم على أوائله وأياديهم البيضاء ومنزلة جده الولي الصالح الشيخ أحمد الطيب البشير في قلوبهم وكيف أنهم أقطعوه أراضٍ كثيرة.
    وتستمر أنشودة الوفاء عند العباسي وسنار ترفده بمزيد من الإلهام، وهو يصف ما علق بنفسه في زيارته لها عندمايقول:

    زرتُ سنار والجوانح أسرى
    ** زفرات هدَّت قوى الصبر هدَّا

    إن محا لدهرُ حسنها فلقد
    ** كانت مُراداً للمعتفين وخُلدا

    كم لها في الرقابِ منا ديون
    ** و عزيزٌ علىَّ ألا تؤدى

    وجميلٌ لأهلها عند أهلي
    ** و يد بالصنائع الغرّ تندى

    فافعل الخير ما استطعت تجده
    ** سبباً جاعلاً من الحُرِ عبدا

    رأينا كيف وقف العباسي بأطلال قصر بادي أبوشلوخ بمدينة سنار، وكيف أن هذه الوقفة قد أعادت إلى ذهنه تلك العلائق التاريخية الحميمة التي كانت تجمع بين أجداده وملوك سنار فتحرّكت في نفسه دواعي الوفاء عندما أخذت الذكرى تنتابه وتأخذ من أحاسيسه شيئاً فشيئاً. وها هو يرى سنار الحديثة وفي خاطره تختال أطيافها الغابرة، فبدى له عزها القديم وتراءت له القباب المزدانة والأعلام الخفاقة والخيول الضامرة والصاهلة في ميادينها ورحابها، غير أن اللحظة أحالته إلى أسى عميق فغلبت على نفسه لهفة أخاذة وهي تسلك في حقيقة الزمان الذي أفنى ملوك سنار فأصاب وارثيهم الشقاء والهول وتبدل العز هوناً ونعيم الحياة بطشاً وكداً، ومن بعد ركوب عشواء ضالةٍ لا يرشدها الضياء ولا يقودها النور فأنشأ يقول وكان يُرى في بعض قوله وكأنه حفيد سناري:
    لهف نفسي فقدت يا قبلة الخير
    ** كهولاً حموا حماك ومردا

    كنت مثوى للأكرمين وميداناً
    ** رخيّاً لخيلهم ومندى

    ورحاباً قد زينت وقباباً
    ** زان أرجاءها مليك مفدي

    عاش ما عاش وهو جد أبي
    ** لم يعفر لغير مولاه خدا

    عجمته الخطوب وهي شداد
    ** فأثارت منه الخشاش الأشدا

    وبنوداً تهفو وخيلاً تنزي
    ** بالأناسي سادةً وعبدا

    أرخصوا في هواك كل عزيز
    ** فتباروا في الحرب والسلم جندا

    فرقتهم يد الزمان أناديد
    ** وما خلفوا لعمري ندا

    قد شقينا من بعدكم فوردنا
    ** يا كرام الحمى من الهول وردا

    واستعضنا من ذلك العز هوناً
    ** ونعيم الحياة بطشاً وكدا

    وركبنا عشواء لا يأمن الركب
    ** عثاراً ولا يؤمّل رشدا

    قدر غالب وهل يملك الناس
    ** جميعاً لقدرة الله رداً؟

    ثم تحين من العباسي إلتفاتة لسنار الحديثة فيتفوق على نفسه وهو يصف خزانها بأبيات يفسدها الشرح والتحليل.. قال فيها:
    قِفْ تأملْ هذي العجائب وانظرْ
    ** شامخاً يحسر العيون استجدا

    واجل ناظريك فيما اصطفى العلمُ
    ** لأحبارِه وما قد أمدا

    غاص بناؤهم فأخرج بالفن
    ** وآياته من النيلِ طودا

    ُؤادٍ لم يدرعْ هيبة الروعِ
    ** كأن سُلَّ أو من الصخر قـُدَا

    وانسيابُ المياه بيضاً عِراباً
    ** صيَّرتها عُجاجةُ الحربِ رُبدا

    بإنحدارٍٍ كأنه غير منقوص
    ** أكفُّ الكِرامِ واصلنَ رِفدا

    ثم تستمر قافية العباسي الدالية لتقف على المردود العظيم لسد سنار الذي بفضله ارتوت من النيل السهول واخضرت الجزيرة فبدا له السد كإنجاز علمي بشري كبير وضخم دفعه دفعاً ليلج إلى منبع مهم من منابع الرمز ليستلهم التراث الديني والتاريخي والأسطوري فبدأ يشبه السد بسد ياجوج وصانعوه بجن سليمان وانتهى بتقرير أفاد فيه أن ما رآه أحكم صنعاً.
    مَدَّ للناسِ من رواقيه فأعجب
    ** لمُنيلٍ أفاد جزراً ومدا

    غمر السهل بالجزيرة حتى
    ** لتراءت في زيِّ حسناء غيدا

    زارها النيلُ وهي قفرٌ يبابٌ
    ** فاكتستْ من نسيجِ يُمناهُ بُردا

    كم بها من ندىً ومن بركات
    ** قد بدت للعفاة لما تبدى

    لا أقول: الصناع جن سليمان
    ** ولا السد سد ياجوج مدا

    فلعمري هذا لأحكم صنعاً
    ** شاده اليومَ أعظمُ الناسِ أيدا

    ورغم إعجاب العباسي بالسد إلا أنه ومن خلال ومضة شعرية رائقة فيها ما فيها من أسرار الإبداع التي تجلب الدهشة والإعجاب يحني على النيل عندما بدا له كحبيس يعاني من القيد وككريم معطاء علموه الشح والتقتير وبذلك جعل العباسي للتعارض والتناقض ألقاً وسحراً فالنيل تارة يزور الأرض اليباب ويمنحها ماء الحياة فتكتسي بالخضرة الزاهية وتارة يحبس ماءه فيبدو شحيحاً ونحيلاً وهذه ليست صفة النيل وسمته إنما هي عمل السد ودوره.
    نحنُ جيرانك الضعاف عنانا
    ** ما تُعاني يا نيلُ حبساً وقيدا

    كنت فينا بالأمس بَراً حفيا
    ** ما لهم علموك شحاً وقصدا

    ثم بدأت مخاطبة العباسي للمهندس الإنجليزي (جبسن) الذي بنى السد وهي مخاطبة أخذت تعلو بعيداً في مدارج الرقي عالج فيها الشاعر معتقدين اصابهما الواقع بحرج التعارض، فالمعروف ان العباسي يعتقد في قيمة العلم والتعليم اعتقاداً راسخاً وما قصيدته (يوم التعليم) ببعيدة عن الأذهان.. فيها يقول:
    العلمُ يا قوم ينبوع السعادة
    ** كم هدى وكم فكَّ أغلالاً وأطواقا

    فعلموا النشء علماً يستبينُ به
    ** سبل الحياة وقبل العلمِ أخلاقا

    أقسمت لو كان لي مالٌ لكنت به
    ** للصالحات وفعل الخير سباقا

    ولا رضيت لكم بالغيث منهمراً
    ** مني ولا النيل دفاعاً ودفاقا

    إن الشعوب بنور العلم مؤتلقاً
    ** سارتْ وتحت لواء العلم خفاقا

    وكانت دواخل العباسي تنطوي على كراهية عظيمة للمستعمر الإنجليزي، غير أن العلم الذي أحبّه اجتمع في المستعمر الذي لا يحبه ولكنه بالعلم شيّد سد سنار، وهذا ما عنيت عندما قلت حرج التعارض، ودعونا نتأمل كيف استطاع العباسي أن يعالج الأمر وهو يوقِّر ويحترم العلم وفي ذات الوقت يتمنى الرحيل لهؤلاء الإنجليز البغاة، وذلك من خلال مقطع شعري ضمنه قصيدة سنار وهو مخاطبته للمهندس الإنجليزي (جبسن) باني سد سنار، وكأنما أراد العباسي بهذا المقطع أن يصنع معجزة، يقول:
    جِبْسِنْ إسمعْ أوليتْ قومَك فخراً
    ** وثناءً يــروي وأوريتَ زَندا

    نحنُ من قد علمت وداً وأنت
    ** المرء يولي الإحسان بدءاً وعودا

    جئت في السد بالعجاب فهلا
    ** شِدت بين البُغاةِ والناسِ ســدا؟!

    بعد حين ترجمت هذه الأبيات ونشرت في كل الصحف الإنجليزية آنذاك بلندن، وكان هناك بعض أعضاء من حزب الأمة نقلوا للمستر جبسن وهم يزورونه بضاحية من ضواحي لندن بأن العباسي معجب به وأنه قد ذكره في شعره مادحاً، وقد أراد بالبغاة المصريين. فعلّق العباسي على هذا الأمر مخاطباً رئيس حزب الأمة قائلاً له: أتوسل إليك بكل من تحب ألا جمعتني بأكبر رأس إنجليزية في هذا البلد أي الخرطوم لأفهمه إنما عنيت الإنجليز، أما المصريون فإنهم اخوتنا الأقربون . فصمت رئيس الحزب ولم يجب.
    ومن بعد تسير قصيدة سنار إلى انتهاء لتحمل في طياتها نصح الشاعر لقادة البلاد والرأي وتمتلئ بالحكم ودعاوى الإئتلاف ونبذ الخلاف وبذل المال للعلوم والإخلاص للوطن.
    كانت سنار هي إحدى مدينتين في شعر محمد سعيد العباسي تقعا جغرافياً خارج بادية الكبابيش، الثانية هي مدينة القضارف التي قال عنها العباسي وعن بنيها الكرام:
    وأقسمُ يا قضروفَ سَعْدٍ لما رمى
    ** بنا لبنيكِ الأكرمين هوى الرِّفدِ

    ولكن أحاديثُ المنى وهي عـادة
    ** حِسان كحُسنِ الخالِ في ناضرالخدِ

    حللتُ فحُلَّتْ لي بها كلُّ حبوة
    ** ومدَّ أمـــامي بردة كل ذي بُرد

    وكم زارني شرق البلاد وغربها
    ** بلا سفر يضني الركاب ولا قصدِ

    شوارد ما سايرتها بتنـــوفةٍ
    ** ولا راعها كفي بسوطٍ ولا قيدِ

    من اللائي كم أضحتْ هوى كل مسمعٍ
    ** وأعذب في الأفواهِ من بارد الشهدِ

    عُرف العباسي بحبه الجارف لبادية الكبابيش، ولهذا الحب أسباب تتسق ونفس العباسي التواقة للحرية والانعتاق من القيود والأسوار والباحثة عن البساطة والصدق والمبتعدة عن التكلفة والصنعة اللذين يعتوران حياة المدن الاجتماعية، وقد وقعنا على ما يدل على ذلك من خلال ما أورده الأستاذ حسن نجيلة في كتابه (ذكرياتي في البادية) إذ يقول: "وفي حي (أولاد طريف) حيث يعيش عدد كبير من أحبابه ومريديه، كنا نجلس مع أولئك الأحباب وهم يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم وكانت نساؤهم وبناتهم من حولنا، في براءة يتقدمن إلى الشيخ العباسي ويقبلن يده في إكبار واحترام". وقد بحث الباحثون والنقاد عن أسباب حب العباسي العميق لبادية الكبابيش وقدروا عدداً من الأسباب أجملوها في ميله الطبيعي للفروسية وحبه للمغامرة والصيد والأسفار والتنقل يساعده على ذلك فتوته البادية وقوته الظاهرة اللتان تتلاءمان وخشونة الحياة في البادية، هذا وأن البادية قد بدت له كبديل جغرافي مناسب يبعده عن أجواء الخلافات مع بني عمومته في شأن خلافة السجادة السمانية ومن ضمن تلك الأسباب كراهيته للإنجليز الذين جعلوا من المدن ديار هونٍ وقهر لا بد أن تقاوم بالثورة التي قد يعينه عليها البدو الذين أحبوه وأحبهم، خاصة وأنه مؤهل للقيام بذلك لما يمتلكه من مزايا القيادة ولما ناله من العلوم العسكرية. الحقيقة التي لا مراء فيها أن الإنجليز قد خاب ظنهم في العباسي، وعندما رأوا فيه شخصية مهمة ومؤثرة تتسم بالوقار والعلم والثقافة العالية والأدب الرفيع أرادوا أن يستميلوه فعرضوا عليه منصب قاضي مديرية الخرطوم وهو عرض لاقى من العباسي رفضاً تاماً، لأن العباسي كان يستهجن كل من يقبل من السودانيين منصباً يمنحه الإنجليز زلفى هذا الشأن قال العباسي:
    فما بي ظمأٌ لهذي الكؤوس
    ** فطوفي بغيري يا ساقيه

    على نفرٍٍ ما أرى همهم
    ** كهمي ولا شأنهم شانيه

    طلبتُ الحياة كما أشتهي
    ** وهم لبسوها على ماهيه

    شروا بالهوان وعيش الأذل
    ** ما استمرأوا من يدِ الطاهيه

    فباتوا يجرون ضافي الدِمقسَ
    ** وبِتُّ أُجَرْجِرُ أسماليه

    على أنهم -أي النقاد- رأوا أن استمرار حب البادية في نفس العباسي والذي لازمه طيلة حياته يعود أيضاً لذلك الحب العنيف الذي نبت في قلبه عندما كان يتنقل بين أرجاء بادية الكبابيش. وفي هذا الصدد يقول نجيلة: "بين ربوع الحمراء وأحيائها نبت في قلبه حب قوي عنيف، وما كان لقلبٍ كقلب العلباسي ووجدان كوجدانه المشبوب إلا أن ينفعل بهذا الجمال البدوي الساحر من حوله". ولعلنا واجدون إشارات ملفتة لهذا الحب في قصيدته (دارة الحمرا) إذ يقول في ديباجتها:
    قُلْ للغمامِ الأربدِ
    ** َلا تَعْدُ غَورَ السندِ

    وحيّ عني دارة الحمرا
    ** وقُلْ لا تبتعدي

    منازلُ يا برقُ أروتْ
    ** أمس غلة الصدى

    يا ويحها كم نظمتْ
    ** شملَ هوىً مُبددِ

    قالوا غداً يوم الفراق
    ** قلتُ بُعداً لغدِ

    يا متهمون هل لكم
    ** عِلمٌ بحالِ المُنْجِدِ

    صبٌّ بكم أمسي يعاني
    ** صرفَ دهرٍ أنكدِ

    عطفاً مليكي إن في
    ** كفيكَ ثني المِقْوَدِ

    ومن أقوى الإشارات الدالة على هذا الهوى ومسرحه (دارة الحمراء) تلك الأبيات التي وردت في قصيدة (ذكرى حبيب) والتي أفصح العباسي أكثر عن هواه وفيها أظهر حنيناً جارفاً لأيامه الزاهية التي أنقضت مع ذاك الحبيب النائي وهي قوله:
    هواي بنجدٍٍ والمقــــام تهامةٌ
    ** وهيهات ما تدنو تهامة من نجدِ

    هوىً زاده كرُّ الجديدين جِدةً
    ** سيبقى بقـاء الوحي في الحجر الصلدِ

    فيا دارة الحمراء بالله بلـِّغي
    ** هنـاك حبيباً بين كثبانك الرُّبدِ

    بأني لا أنسى وإن شطَّت النوى
    ** ليـــالي وصالٍ غير مذمومة العهدِ

    منىً قد أخذها من الـدهر خِلسةً
    ** بزهرة ذاك الحيِّ في عيشةٍ رغدِ

    فلم يبقَ منها اليوم إلا حديثهـا
    ** وطيفٌ يُريني الرد في صورة الوعدِ

    أحُنُ إليهم والديارُ بعيـدة
    ** وإن كان لايَدني الحنين ولا يُجدي

    فمن لي بمن يملي الأحاديث عنهمُ
    ** ويا ليت شعري ما الذي أحدثوا بعدي

    ويا هنـد لا والله ما خنت عهدكم
    ** ولكن ضرورات التجول والبعدِ

    وكم قلت في هند وفي دعد موريـاً
    ** وما أنا من هندٍ ولا أنا من دعدِ

    ولا تني دارة الحمراء تحط في أشعار العباسي كعصفورة شادية فتذكره بطبيعة بادية الكبابيش الساحرة ( كالحتان) جبلها الشامخ والرائع روعة ما به من مناشط ترعي فيها الإبل وتقتات من حشائشها ونبتها كالقيصوم وكالطباق، وتعيد إليه ذكرى حبيب غاب في ظلمة السنين والفراق الأليم. فيقول في ديباجة قصيدته العصماء (يوم التعليم) :
    يا برقُ طَالِع رُبا الحمرا وزهرتها
    ** وأسقِ المنازلَ غيداقاً فغيداقا

    وإن مررت على الحتّان حيِّ به
    ** من المناشطِ قيصوماً وطُباقا

    ومن إذا سمعوا من نحونا خبراً
    ** والليلُ داجٍ أقاموا الليلَ إيراقا

    إنَّا مُحَيوكِ يا أيامَ ذي سلمٍ
    ** وإن جنى القلبُ من ذاكراكِ إعلاقا

    واليوم قصَّر بي عما أحاوله
    ** وعاقني عن لحاقِ الركبِ ما عاقا

    وأنكر القلبُ لذات الصبا وسلا
    ** حتى النديمين: أقداحاً وأحداقا

    غير أن العباسي لا يعميه هوىً يثور في الأضلاع عن أن ينفعل بتلك الحضارة القديمة التي تشي بها الآثار الموجودة بوادي هور. ووادي هور كما أشار العباسي يقع غربي السودان وحوله من الآثار ما يدل على أنه كان مثوى حضارة قديمة، فقد وجدت به حجارة منحوتة منها ما هو على صورة الناس وما هو على صورة القدح الكبير، وقد يسع الواحد منها ثلاثة أشخاص. وشرقي هذا الوادي عثر على كتابات وصور للناس والحيوان منقوشة على صخور، كما عثر على أوانٍ خزفية مختلفة الأشكال والأحجام.. كل هذا ألهم العباسي، الشعر والقصيد فكانت قصيدته (وادي هور) التي انتظمت في ثمانية وتسعين بيتاً ابتدرها كعادته بالنسيب وتعددت فيها الأغراض الشعرية من غزل ومدح وحكمة وسياسة وذكريات، بيد أن العباسي خص في القصيدة وادي هور بصفةٍ عزيزة إذ فضله على وادي النيل الذي أحبه ومثل عقيدته السياسية، ولم ينس العباسي صناع الحضارة في هذا الوادي من الأوائل. يقول:
    سبحان ربي أين وادي
    ** النيل من وادي هور

    وادي الجحاجحة الأُلي
    ** عمّروه في خالي العُصُرْ

    وعواصم القوم الذين
    ** بذكرهم تحلو السيرْ

    من ذللوا صعب الزمان
    ** وكم أقاموا من صَعرْ

    درجُوا فما رد الردى
    ** بيض الصفائح السمرْ

    متكافئـــــين وربـما
    ** فضلَ العزيزَ المحتقر

    فكأن عهد فخارهم
    ** يا قومُ بدرٌ فاستترْ

    أو أنه عِقدٌ فخانَ
    ** العقدَ سلكٌ فانتثرْ

    أما قصيدة وادي الربدة الرائعة فقد رفلت في واحد وسبعين بيتاً أكثر الشاعر فيها من الهجاء الرمزي وذكر مصر، ووادي الربدة موضع لم يجر ذكره في القصيدة سوى في عنوانها، ويبدو أنه كان مسرحاً لق مالَكَ تَجْفُو مُغْرَما صص من الهوى لما إشتملت عليه القصيدة من شعرٍ غزليٍ قصصيٍ رقيقٍ ومدهش ، رأيت أن أختم به هذا المقال عن المدن السودانية في شعر محمد سعيد العباسي. يقول:
    بالله يا حلوَ اللَّمى
    ** مالك تجفو مغرما

    صددتَ عني ظالماً
    ** أفديك يا من ظلما

    هلا ذكرتَ يا رَشا
    ** عيشاً تقضَّى بالحِمى

    رفقاً بصبٍ راحَ
    ** يهوى طيْفَكَ المُسَلِما

    يَندبُ أيام اللقا
    ** وحظَّهُ المُــقَسَّــما

    إن شامَ من نحوكم
    ** برقاً أقام مأتما

    ويكتم الوجدَ وكم
    ** يَغْلبُهُ أن يَكْتُما

    لله محبوب رأى
    ** حبة قلبي فرمى

    أعيذه من جائرٍ
    ** حكَّمتُه فاحــتكما

    مررتُ بالحيِّ ضُحىً
    ** أروضُ مُهراً أدْهما

    مرتدياً من الشبابِ
    ** ضافيـــــاً منمنما

    فلقيته في أربعٍ
    ** بيضٍ كأمثالِ الدُمى

    شابَهنَ أزهارَ الرَّبيعِ
    ** وحَكيــــنَ الأنْجُما

    أو الجُمانَ نظَمُوا
    ** فَريــدَه فانتظـما

    وقفتُ فاستسقــيته
    ** وشَدَّ ما بي من ظما

    جاءَ بماءٍ قلتُ هل
    ** حاجَةُ مثلي مِنْكِ ما؟!

    أنشدتهُ من فاخرِ
    ** الشعرِ رصيناً مُحْكَما

    فرَقَّ لي مستسلما
    ** ومالَ نحوي منعّما

    طويتُهُ طيَّ الرِّدا
    ** مَتعتُ من فمٍ فما

    تصرَّم الوصل وكيف
    ** ردُّ ما تصرَّما؟



    (ب)
    مصر في شعر شعر العباسي
    وقعت مصر في قلب العباسي وفي شعره في مواضع الهوى ومواقع الحب، ونما هذا الحب نمواً مضطرداً ومذهلاً حتى صار إلى عقيدة سياسية ومذهب إجتماعي ويقين لايتزحزح، ولم يكن كل هذا من فراغ أو أحلام ولم يكن هذا الحب عفوياً أو بغير أسباب، فقد سنده الواقع وغذته أواصر قديمة لم تنفصم عراها أو توهن وثائقها منذ أن بذر بذرتها الأولى جده الأكبر الولي الصالح والقطب الكبير الشيخ أحمد الطيب البشير عندما نزل أرض مصر مبشرا بالطريقة السمانية وأسس لها فيها مكانة ومقاما بين ربوعها وفي صعيدها، وعندما اخذ الشيخ نور الدائم الراية الصوفية من والده الشيخ أحمد الطيب حين وفاته أخذ معها حب مصر وأورث هذا الحب إلى ابنه الأستاذ محمد شريف –والد العباسي- وقد جهر به محمد شريف في رائيته الجهيرة وقال:
    أنا الطَيبيُّ الخُرطوميُّ وضعاً ونشأة
    ** أنا المدنيُّ المكيُّ جِواراً أنا المصري

    ومنها علومُ الدينِ والعقلِ والحِجَى
    ** وما حِكمةٌ إلا وتُعزى إلى مِصْرِ

    لذا كان حب مصر هو قدر العباسي المحتوم الذي إرتضاه ورحب به ايما ترحيب وسلك في كيانه وبين شرايينه وأقام في قلبه فأضحى يشدو بهذا الحب في كثير من أشعاره ورغم كثرة الشعراء السودانيين الذين تغنوا بحب مصر الا أننا لم نقع على من هو أصدق حبا لها من العباسي ولا من هو أجزل عطاءا لها من العباسي وفي هذا الشأن يقول الدكتور حسن أبشر الطيب في كتابه (العباسي الشاعر التقليدي المجدد):
    "قد تغنى شعراء سودانينون كثر بمصر ولكن القليل منهم من أعطاها الحياة مثل ما أعطاها العباسي وقد كان هذا التغني عند بعضهم تصوير لحلم يسمعون عنه وتتوافد اليهم أخباره، يأملون الوصول اليه وتقعدهم أسباب كثيرة عما ينشدون فيمضون في تصوير حنينهم وشوقهم لمعانقة هذا الحلم الذي يتوقون الى لقياه وكانت مصر عند بعضهم مذهبا سياسيا وهو مذهب الإتحاد مع مصر يؤمنون به أشد الإيمان ويتفاعلون معه أشد ما يكون التفاعل ويتغنون به غناءا موحيا وحارا في بعض الأحيان، وينظمون فيه نظما خطابيا في أحيان أخرى.
    قليل من الشعراء السودانيين من أعطى مصر من الحياة مثل ما فعل العباسي بشعره الذي يفيض حبا وشوقا وإيمانا بمصر. وقد أتت الرجل ظروف عمقت فيه هذا الحب وهذا الإيمان لم تتح للعديد غيره فهو قد زارها ولم يتعد التاسعة عشر من عمره فوجد فيها حرية وانطلاقا لم يعرفه الفتى في بيئته المتصوفة الملتزمة بقواعد صارمة في السلوك. بل قد كان وسيما مما جعله معشوقا لكثير من الفتيات. قال محدثي إنك لم تر العباسي في شبابه فقد كان من أجمل شباب عصره وأنضرهم عودا وعندما كان طالبا بالمدرسة الحربية بالقاهرة كان محط إعجاب فتيات القاهرة به إذ كان فارع القوام واضح الرجولة وسيما نضرا" .
    لذا لم يكن غريبا أن يهدي العباسي أشعاره عندما ضمها في ديوان الى استاذه المصري "عثمان زناتي" أستاذ اللغة العربية بمدرسة الكلية العربية والذي كان يعد في طليعة الشعراء والأدباء في زمانه ويقر العباسي انه كان ثاني إثنين أنشأه على حب الأدب وقرض الشعر أحدهما هو والده الأستاذ محمد شريف. ويقول العباسي في إهداءه:
    فيا رحمةَ الله حُلِّي بمِصرَ
    ** ضريحَ الزناتي عُثمانيه

    غذاني بآدابه يافعـاً
    ** وقد شادَ بي دونَ أترابيه

    وياشيبةَ الحمدِ إن القريضَ
    ** أعجزَ طوقي و أعيانيه

    أعرني بيانك أُسمعْ به الأ
    ** صمَّ وأُنْطِق بِه الراغيه

    وكان العباسي قبل ذلك يظهر وفاءه لأستاذه الزناتي ويتضح لنا ذلك في قصيدته(تكريم أمير الشعراء):

    يَخُونُني الصبرُ إن غالبتُ دونكُم
    ** حرَّ اشتياقي ودمعاً جدَّ مُنْسَكِبِ

    عندي لكم يدُ فضلٍ لستُ أجحدُها
    ** يدُ الزِنَاتيِّ مولى العلمِ والنسبِ

    سريتُ في ضوئه حيناً يُقَوِّمُ من
    ** عودي ويُفسحُ لي من صدره الرَّحبِ

    كما لم يكن غريبا ايضا ان يقدم لديوانه الاستاذ المربي الأديب المصري الكبير محمد فريد ابو حديد بك والذي أورد ضمن ما أورد في مقدمته مكانة العباسي الشعرية والأدبية والأخلاقية المرموقة عند أدباء مصر الكبار ومن ذلك قوله:"إني لأذكر ساعة كنت فيها مع الشاعر الكبير المبدع الاستاذ عباس محمود العقاد فجرى ذكر السيد العباسي وشعره فانطلق الأستاذ العقاد يثني عليه شعره وعقب على ذلك بثناء على فضائله ونبل نفسه". ولم يُخفِ شاعر النيل حافظ إبراهيم دهشته وإعجابه عندما سمع العباسي يلقي بأشعاره في تكريم أمير الشعراء أحمد شوقي والذي أبدى هو الآخر دهشة عظيمة بما سمعه من العباسي وقوافي شعره، وقد كان حرياً بالعباسي وقد حباه الله من موهبة شعرية ضخمة وبما حققه لنفسه من ثقافة أدبية مذهلة وبما له من مكانة مرموقة في بلده أن يكون نجماً في الأواسط الأدبية في الساحة المصرية وبين الأدباء المصريين في فترة ظهر فيها العمالقة منهم، وقد كان الأدب والشعر هو الرابط الأقوى والآصرة المتينة التي كانت تجمع بين العباسي وبينهم وقد عبر عن ذلك في أكثر من مناسبة كما يوضح لنا ديوانه الشعري الذي قام بطباعته في مصر في العام 1948، وفية رأينا قصائده التي وجهها لأحمد شوقي ولحافظ إبراهيم وقصيدته الهامة(رسائل الصفا) التي وجهها للدكتور زكي مبارك ـ الذي كتب مقالات بمجلة الرسالة يناصر فيها العراق تحت إسم (ليلى العراق) ـ فقال له العباسي ضمن ما قال في القصيدة المشار إليها وهو يطلب إليه الكتابة عن السودان كما كتب عن العراق في أسلوب لايخلو من الرمز:
    فيا ابن المبارك عِشْ سالِماً
    ** وبُورِكَ في زَندِكَ الواريه

    تغنيتَ حيناً بليلى العِراق
    ** فأحللتها الرتبةَ السَّاميه

    فمُدَّ لنا فَضْلَ ذاكَ العِنانِ
    ** عِنانَ يراعتِك الطَّاغيه

    وألمِمْ بتاجوجَ وأحْفِلْ بها
    ** فتاجوجُ جوهرةُ الباديه

    وعَلِّقْ على جِيدِ تاريخِها
    ** لآلئ أبْحُرَكَ الطامِيه

    قد يبدو للمتلقي أن العباسي بما حققه من مجد شعري وبما إرتبط به من علاقات طيبة مع أدباء مصر الكبار أنه عاش زماناً طويلاً بأرض الكنانة، خاصة وأنه قد أنشأ في حبها كثيراَ من القوافي، غير أن الواقع يقول بغير ذلك، فالعباسي أقام بمصر لأول مرة لمدة عامين وهي الفترة التي إمتدت من العام 1899م إلى العام 1901 عندما كان طالبا بالمدرسة الحربية المصرية، ثم عاد إليها في العام 1948م بغرض طبع ديوانه وإستعادة ذكرياته وهو يدنو نحو السبعين من عمره، وهي الزيارة التي ألهمتة عصمائه الرائية التي حملت في طبعات الديوان الاحقة إسم(ذكريات)، على أن العباسي حضر إلى مصر في زيارة خاطفة عند تكريم أمير الشعراء أحمد شوقي، وعاد إلى مصر في منتصف الخمسينيات بدعوة من مجلس قيادة الثورة المصرية لحضور إحدى إحتفالات عيد الثورة السنوي.يقول في بعض من قصيدته ذكريات:
    أقصرتُ مُذْ عادَ الزمانُ فأقصرا
    وغفرتُ لما جاءني مستغفرا

    ما كنتُ أرضى يا زمانُ لو انني
    ** لم القَ مِنكْ الضاحكَ المستبشِرا

    يامرحباً قد حققَ اللهُ المُنى
    ** فعليَّ إذْ بُلِّغْتُها أن أشكُرا

    ياحبذا وادٍ نزلتُ ، وحبذا
    ** إبداعُ من زرأ الوجودَ ومن بَرى

    مِصرُ، وما مِصْرٌ سوى الشمسِ التي
    ** بهرتْ بثاقبِ نورِها كُلَّ الورى

    ولقد سعيتُ لها فكنتُ كأنما
    ** أسعى لطيبةَ أو إلى أمِ القُرى

    وبقيتُ مأخوذاً وقَيَّدَ ناظِري
    ** هذا الجمالُ تَلفُتاً وتَحَيُرا

    فارقتُها والشَّعرُ في لونِ الدُجى
    ** واليومَ عُدتُ به صَباحاً مُسْفِرا

    سَبعُونَ قَصَرتِ الخُطى فَتَرَكْنَنِي
    ** أمشي الهُوينى ظَالعِاً مُتَعَثِرا

    من بعد أن كنتُ الذي يطأُ الثَرى
    ** زَهواً ويَستهَوِى الحِسانَ تَبخَْتُرا

    فلقيتُ من أهلي جَحاجِحَ أكرموا
    ** نُزُلي وأولوني الجميلَ مُكَررا

    وصَحابةٍ بَكَروا إلي وكلهم
    ** خَطَبَ العُلا بالمَكْرَمَاتِ مُبَكِرا

    يامنْ وجدتُ بحيِّهم ما أشتهي
    ** هل من شباب لي يُباع فَيُشْتَرى

    ولو أنهم مَلكُوا لما بخلوا به
    ** ولأرجعُوني والزمانَ القَهْقَرَى

    لأظلَُّ أرْفُل في نعيمٍٍ فاتني
    ** زمن الشبابِ وفتُّهُ مُتَحَسِرَا

    ووقفتُ فيها يومَ ذاكَ بمعهدٍ
    ** كمْ من يدٍ عندي لهُ لنْ تكفرا

    دارٌ درجتُ على ثراها يافعِاً
    ** ولبستُ من بُرْدِ الشبابِ الأنضرا

    يادارُ اين بَنُوكِ إخواني الأُولى
    ** رفعوا لواءَك دارِعِينَ وحُسَّرا

    زانُوا الكتائبَ فاتِحينَ وبعضهم
    ** بالسَّيفِ ما قنعوا فزانُوا المِنْبَرا

    سُبْحَانَ من لو شاءَ أعطاني كما
    ** أعطاهمو وأحلَّني هذا الذرى

    لأريهم وأري الزمانَ اليومَ ما
    ** شأني فكلُ الصيدِ في جوفِ الفرا

    إني لأذكرهم فيُضنيني الأسى
    ** ومن الحبيبِ إليَّ أن أتذكرا

    لم أنسَ أيامي بهم وقد إنقضتْ
    ** وكأنها واللهِ أحلامُ الكَرى

    كذَب الذي ظنَّ الظُنونَ فَزَفَّها
    ** للناسِ عن مِصرَ حَديثاً يُفْتَرى

    والناسُ فيكِ اثنانِ شخصٌ قد رأى
    ** حُسْناً فَهَامَ بِهِ وآخرُ لايَرى

    يقيني أن هذه القصيدة الفريدة، ما كان لها أن تخرج بهذا السمت الرائع، لولا صدق الأشواق، وحلو الذكريات، التي غذتها، وهي أشواق وذكريات لا يفتأ العباسي يتغنى بها وهو بعيد عن مصر، بل ظل يتغنى بها طوال حياته، ويتضح لنا ذلك بجلاء في رائعة أخرى من روائعه وهي قصيدته (ذكرى أيام الشباب)، وفيها يقول:
    آهِ لو كانَ لي بساطٌ من الريحِ
    ** أُوافيه أو قوادمُ نِسْرِ

    فأطيرنَّ نحو مصرَ اشتياقاً
    ** إنها للأديبِ أحسنُ مِصرِ

    حيثُ روضُ الهَنَا ومجتمعُ الأهوا
    ** ودرُّ السُّرورِ للمُسْتَدِرِّ

    هل إلى مصرَ رجْعةٌ وبنا شرخُ
    ** شبابٍ غَضٍّ وزهرةُ عمر

    وليالٍ قد أشرقتْ في رُبَاها
    ** كلها في الأقدارِ ليلاتِ قدْرِ

    ومكانٍ كأن كلَّ نسيمٍ
    ** ناشرٌ في أرْجَائِه طِيبَ نَشْرِ

    يُبهر العينَ منه مَرأىً أنيقٌ
    ** من مُروجٍٍٍٍ قَيدَ النواظرِ خُضْرِ

    فهناكَ الرياضُ والماءُ يجري
    ** بخريرٍ تحت الرياضِ وقدرِ

    وهناكَ النسيمُ يعبثُ بالماءِ
    ** ويزري والوُرقِ للماءِ تغري

    وهناك البهيُّ من كلِّ زهرٍ
    ** وهناك الشجيُّ من كلِّ طيرِ

    فإذا ماغَنَّتْ بلابِلهُ قلتُ
    ** كرامٌ أضناهمو طول هَجْرِ

    بقعةٌ شاكلتْ هوى كلِّ نفسٍٍ
    ** فصبا نحو حسنها كلُّ فكرِِ

    كم قَطفنا في ذلك الروضِ زهراً
    ** ورضعنا فيه أفاويقَ درِّ

    ومصابحينا فيه غرة الساقي
    ** وبدرٌ من كفِه باتَ يسري

    إن خرجنا من حالِ سُكرٍٍ لصحوٍ
    ** فيه عُدنا من حالِ صَحوٍٍ لسُكرِ

    قد ظمئنا بنت الكرام فهاتي
    ** كأسَ خمرٍ يزجى فقاقِعَ خَمرِ

    وتَعالي نُعيد خداً لخدِ
    ** قد برانا الجوى وثغراً لثغرِ

    جرَّد الحالُ من يقيني ظنَّاً
    ** فاستعدتُ الأشياءَ كالمُتقَري

    ربِّ هل تلك جنةُ الخلدِ أدخلنا
    ** إليها أم تلك جنَّةُ سِحرِ

    كنتُ في ذلكَ الحِمى ناعمُ البالِ
    ** خَلِياً من كلِّ قيدٍ وأسرِ

    تلك حالي مع الشباب فمن لي
    ** برسولٍ يُبْلِغْ المَشيبَ خُبري

    فيكِ يا مصر لذتي وسروري
    ** وسميري وقت الشباب ووكري

    وكرام صحبت فيك كماءِ المزنِ
    ** أوروا زندي وشادوا بذكري

    بَسمَ الدهرُ مرةً حينَ كانتْ
    ** لي مقراً يا حسنه من مَقرِ

    فانتهبنا عيشاً رقيقُ الحواشي
    ** ونعمنا في صفوه المستمِرِ

    فليَزُرْ سوحَكِ النسيمُ عليلاً
    ** وليجد في ثراكِ هامع قطرِ

    لي حبٌ أضحى فيكم غير مذمومٍ
    ** وعقدٌ لم يُبْلِه طول دهرِ

    إن يُورِّي عنكم أُناسٌ فما من
    ** مذهبِ الحُبِ والوفا أن أوري

    لو يكونُ الخيارُ حُكماً لما اخترتُ
    ** نُزوحاً عنكمُ ولا قيدَ شِبْرِ

    غير أن الأقدارَ تقضي وما للعبدِ
    ** فيما تقضي بهِ من مَفَرِ

    ربِّ قدِّر لمصرَ طالعَ إسعادٍ
    ** وهيئ لمصرَ إصلاح أمرِ

    أنْتَ قدَّرتَ والمواهِب شَتى
    ** لهلالِ الدُجُنَّةِ المستسِرِ

    غَابَ حيناً وعادَ غير ذميمٍ
    ** واكتسى في تَخْطَارِهِ ثوبَ بَدْرِ

    بل وجدنا أن العباسي يسرف في شدوه لمصر ولذكرياته فيها والتي تأبى أن تبارح خياله فقصيدته (آية الفضل) والتي جاءت في ثمانية وأربعين بيتاً خصصها بالكامل لموضوع واحد وهو مصر مشيراً فيها لأياديها البيضاء لوطنه السودان ولآدابها وعلمها وتاريخها ومجدها ورجالها وعلمائها ومنها نقتطف قوله:
    ليتَ شعري هل للكنانة علمٌ
    ** بقلوبٍ ذابتْ جوىً واشْتِعَالا

    أم تُراها تدري بأنَّا احْتَملنَا
    ** في هواهَا القيودَ والأغْلالا

    ما فقدنا الصبر الجميل وإن كنا
    ** فقدنا من الزمانِ اعْتدالا

    والعباسي عندما يخاطب مصر يخاطبها بأجمل الكنايات وعندما يصفها يصفها بأرق الحديث وألطفه فهي يمامة تشدو بألحان مبتكرة على أفنان نضرة:
    يا بنت ساجعة الرياضِ
    ** وزينَ ناضرة الشجَرْ

    هاتي الحديثَ وروِّحي
    ** عني بلحنٍ مبتكرْ

    أنا في الهوى من تعلمين
    ** ولستُ من ذاكَ النفرْ

    وقد يخاطب فيها أرجاءها وأهراماتها ونيلها وغيرذلك من مواضعها وأماكنها مع كل لمحة خاطرتمر عليه ومع كل ذكرى تعبر به وتبكيه بدموع حمراء:
    ولي بمصرَ شجَنٌ
    ** أجرى الدموعَ عَنْدَمَا

    فارقتُ مِصرَ ذاكراً
    ** أرجـــاءَها والهـرَمَا

    والنيلُ والجزيرةَ
    ** الفيحاءَ والمُقَطَما

    ربوعُ خيرٍ طالما
    ** أسْدَتْ إلي أنعما

    مصرٌ وأيامُ الشبابِ
    ** الغضِّ من لي بهما

    وكثراً ما يذكر أقرانه من الشباب المصريين الذين زاملهم بالمدرسة الحربية المصرية ويقول عنهم:
    وفتــيةٍ سامرتَهُم
    ** فاقوا الزمانَ هِمَمَا

    وعزمــةً صــادقةً
    ** تنطحُ أبراجَ السما

    زين شباب حَملوا
    ** مع السيوفِ القلما

    هذا يمجُّ حِكمةً
    ** وتلكَ في الهيجا دما

    وفي قصيدته( كفاح مصر) يقول عن بني مصر قول العارف، ويصفهم بأصحاب القيم العالية والكرم البين والجمائل المشهودة والشمائل الحلوة :
    بنُوا الكنانة ما أشهى الحديثَ بهم
    ** إلى النَفوسِِ وما أغلاهمُ قِيما

    زِدني سُؤالاً أزِدْكَ اليومَ معرفة
    ** بهم فما كانَ ذُو جهلٍٍ كمن عَلِما

    ما حِيلتي بِمُجِدٍ في غوايته
    ** يمشي وقد زادَه ضوءُ النهارِ عَمى

    هم الكرامُ فكم فيهم أخو ثقةٍ
    ** حُلوَ الشمائلِ تندي كفه كَرما

    يولي الجميل ويستهويك عارفه
    ** كالغيثِ يَمَمَهُ العافون حيث هَمَا

    والعباسي يفخر بمدحة لمصر فهي في نظره كهف الرجاء للسودان ومرضعته الحانية وأن لأبنائها أيادٍ من الفضل مدوها لجنوب الوادي وهويفخر أيضاً ويعتد إعتداداً شديداً بشعره الذي صاغه فيها ويقول ـ في قصيدته رسائل الصفا ـ لو أن هذا الشعر زار سمع الشاعر الكبير الشريف الرضي ورأى مافيه من جودة لقال: ما أفصح هذا الشعر وما أجمله لو إنداح في أذن واعية . والمعنى الأخير أورده العباسي وهو يضمن بيتاً للشريف الرضي في لفتة شعرية حادة الذكاء:
    فمصر هي اليوم كهفُ الرجاءِ
    ** لنا وهي المُرضِعُ الحانِيه

    لها ولأبنائها الأكرمينَ
    ** أيادٍ بنا برةٌ آسيه

    بروحي وليستْ تهابُ الردي
    ** كبائعةٍ دونها شاريه

    فإني من غرسِ نعمائها
    ** غراسٌ هو الثمرُ الدانيه

    وما بالقليلِ إنتسابي لها
    ** وأني حمادها الراويه

    فكمْ صُغتُ في ذكرها السائراتْ
    ** وأودعتها الحكم الغاليه

    من اللآئي لو زُرَنَّ سمع الشريفِ
    ** يقولُ وقد رآء إحسانيه

    (ألا ما أفصح هذا الكلام
    ** لو أن له أذناً واعيه)

    وليس من عجب أن تبدو مصر للعباسي ـ وقد أحبها كل هذا الحب ـ كمعشوقة رائعة الجمال بل أبعد من ذلك كثيرا إذا ما تملينا أبياته التالية التي وردت في قصيدته (أسمعينا جنان):
    أسْفِري بين بَهجةٍ ورشاقَه
    ** وأرينا يا مصرُ تلك الطلاقه

    ودعي الصبَّ يجتلي ذلك الحسن
    ** الذي طالما أثار اشتياقه

    كلنا ذلك المشوقُ وهل في الناسِ
    ** من لم يكن جمالك شاقه

    أنتِ للقلبِ مسترادٌ وللعين
    ** جمالٌ يُغْري وللشمِ طاقه

    فَتَّحَتْ وردها أصائِلُ آذار
    أنت عندي أخت الحنيفة ما
    ** وقد قَرَّطَ النَدَّى أوراقه
    أسماك ديناً وما أجلَّ اعتناقه

    وفي ذات القصيدة يقول:
    ما كقطع الوتين شرٌ، وشرٌ
    ** أن تقطعوا بمصرَ العلاقة


    ولم يكن حب العباسي لمصر وتمسكه بتمتين العلاقة معها لكسب شخصي أو إرضاء لذات متولهة إذ كانت دواعي الوطنية الحقة تدفعه لإستثمار هذا الحب لمصلحة وطنه العامة، وقد وجدناه في أكثر من مناسبة يدعوا مصر لتساعد السودان للإنعتاق من ربقة الإستعمار وأن تأخذ بيده نحو النمو والتطور ومن ذلك ما ورد في قصيدته(ذكرى حافظ):
    بني مصرَ الكرامَ ولا بَرحتُم
    ** مثالاً للشعوبِ العاملينا

    سَعيتُمْ نحو غايتِكُم كراما
    ** وذُدْتُم دونَها مُستبسلينا

    تَحررتُم ونحنُ بِشرِ حالٍ
    ** نكابده ونرسفُ مُوثَقِينا

    وقد نزلتْ بنا مِحنٌ شِدادٌ
    ** أذاقتنا من البلوى فُنُونا

    أذَلتْ أنفسَ الأحرارِ منا
    ** فباتُوا بعد عزتهم قَطِينا

    خُذوا بيدِ البلادِ فَثقِفُوها
    ** وكُونُوا في حوادِثها المعينا

    أعينُونا فنحنُ بنو أبيكم
    ** لنا حقٌ ونحنُ الأقربونا

    لنا بالدينِ والفُصحى ائتلافٌ
    ** وثيقٌ ضَمَّ شعبينا قُرُونا

    ونيلٌ فَاضََ كوثَرُهُ فأجْرَى
    ** بواديه الحياةَ لنا مَعينا

    ويعبر العباسي بقوة عن مذهبه السياسي، وهو وحدة وادي النيل، إذ يعتبر أن مصر هي إمتداد السودان الطبيعي، وأن السودان هو عمق مصر وظهرها القوي. ويظل يقاوم إدعاءات الإستعمار وأذنابه و دعاة الإنفصال ومروجوه، ويقول:
    لا تُخْدَعُوا إن في طياتِ ما ابتكروا
    ** معنىً بغيضاً وتشتيتاً وإرْهَاقا

    ليُصبِحَ النيلُ أقطاراً موزعـــةً
    ** وساكِنُوا النيلِ أشياعاً وأذواقا

    وفي ذات القصيدة(يوم التعليم) يبرز مبدأ العباسي السياسي بروزاً واضحاً:
    إنَّا بنُو النيلِ لانرضى بهِ بدلا
    ** فما جفانا ولا يوماً بِنا ضاقا

    ولا أخصُ به داري ولا سَكني
    ** بل ساكني النيل تعميماً وإطلاقا

    هذي سبيلي وهذا مذهبي بهما
    ** أعطيت ربي والأوطان ميثاقا

    كان لابد للعباسي وهو الوطني الساعي لرفعة وطنه والمعتد بكرامته إلى أبعد الحدود ألا ينساق وراء حبه لمصر وللمصريين إنسياقاً يسلمه إلى تخوم الإستجداء المخزي أو إلى الإستعطاف المذل،لذا كان يخاطب مصر بما يليق بحبه الصادق لها وبما يتسق وواجب الإعتراف بالجميل وتقدمها ودورها الحضاري الرائد،ولكن كل ذلك كان من منبر الندية والإعتزاز وحفظ الكرامة والود معا، خاصة وأنه كان يعلم قدر بلاده ومكانتها ويعلم كذلك قدره ومكانته الشعرية السامقة جيداً،بل لم ينس تفوقه الأكاديمي على رفاقه من المصريين وغيرهم عندما كان أول الناجحين في الإمتحانات بالمدرسة الحربية. عليه فلنتملى على ضوء هذا ما قاله هنا،فهو مع اعترافه بجميل المصريين للسودانيين وعدلهم إلا أن ذلك لم يكن يعني سيادتهم ولا يعني أبداً خنوع وخضوع السودانيين لهم ولكن كانت علاقتهما كحصن نعما به معاً ردحاً من الزمان قبل أن تعصف به يد السياسة :
    بَثواالمعارف بالسودانِ فازدهرتْ
    ** به وشادوا منار العدلِ فانْتَظمَا

    لاوربِّكَ ماكانُوا لنا أبداً
    ** بقاسطينَ ولا كُنَا لهُم خَدَمَا

    قضى العباسي لرحمة مولاه على حب مصر ووفائه لها وأورث هذا الحب والوفاء لأبنائه من بعده وكم كان صادقاً الشاعر (تادرس يعقوب الفرشوطي) عندما رثاه وقال:
    وأنتِ يا مصرُ هل تدرينَ لوعتَهُ
    ** شوقاً إليك وكَمْ عانى وكَمْ تَعِبا

    ما زال لفظُكِ أحلى ما يردِدُهُ
    ** حتى دنا الأجلُ المحتومُ واقتربا

    قضى وفي فمهِ عن مصرَ تمتمةٌ
    ** كما تَشَهَّدَ مَنْ قَدْ أيْقَنَ العُطبا

    أقسمتُ لو شدتِ تكريماً له هرماً
    ** يمتدُ في الجوِ حتى يزحمَ السُحبا

    ولو أقمتِ له في كل قارعةٍٍ
    ** من طُرْقِ واديكِ تخليداً لهُ نُصُبا

    لما وَفَيتِ له ما ظَلَّ يُضْمِرُهُ


    ** من الولاءِ ولا أديتِ ما وَجَبا


    قاسطين: ظالمين.
    تادرس يعقوب الفرشوطي شاعر مجيد وهو من الأقباط الين برعوا في اللغة العربية وكان أستاذاً لها بالمدارس الثانوية السودانية.
    العُطْب: الهلاك
                  

العنوان الكاتب Date
شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:28 AM
  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:37 AM
    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:38 AM
      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:41 AM
        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:45 AM
          Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:48 AM
            Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:51 AM
              Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:55 AM
                Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:57 AM
                  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 05:59 AM
                    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 06:01 AM
                      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 06:02 AM
                        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 08:57 AM
                        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى rosemen osman11-16-08, 11:43 AM
                        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-19-08, 09:45 PM
  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى قصي مجدي سليم11-16-08, 12:33 PM
    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى rosemen osman11-16-08, 12:41 PM
      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 03:06 PM
    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-16-08, 08:38 PM
  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى قصي مجدي سليم11-16-08, 01:32 PM
    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى rosemen osman11-16-08, 06:15 PM
      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi11-16-08, 11:42 PM
        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-17-08, 00:07 AM
          Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-17-08, 09:30 AM
            Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-17-08, 07:18 PM
              Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi11-18-08, 04:42 PM
                Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-18-08, 07:53 PM
                  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى الطيب شيقوق11-18-08, 08:06 PM
                    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-19-08, 09:14 AM
                      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-19-08, 09:01 PM
                        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi11-19-08, 11:17 PM
                          Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi11-19-08, 11:30 PM
                            Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-20-08, 07:12 PM
                              Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-21-08, 07:18 PM
                                Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-23-08, 10:01 AM
                                  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-23-08, 04:43 PM
                                    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-24-08, 08:59 PM
                                      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-25-08, 01:01 AM
  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى حسين محي الدين11-25-08, 03:28 PM
    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-25-08, 09:04 PM
      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-26-08, 11:19 AM
        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-26-08, 06:41 PM
          Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-27-08, 09:18 AM
            Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-27-08, 09:57 PM
              Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah11-30-08, 00:12 AM
                Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi12-02-08, 09:44 PM
                  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi12-02-08, 10:00 PM
                    Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah12-03-08, 07:49 PM
                      Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى سمية الحسن طلحة12-04-08, 08:52 PM
                        Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى قصي مجدي سليم12-06-08, 06:48 AM
                          Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى قصي مجدي سليم12-06-08, 07:05 AM
                            Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi12-06-08, 07:51 AM
                              Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى الشامي الحبر عبدالوهاب12-06-08, 08:22 AM
                                Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi12-06-08, 10:27 AM
                                  Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى munswor almophtah12-10-08, 08:18 PM
                            Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى سمية الحسن طلحة12-11-08, 07:26 AM
                              Re: شذرات متفرقه حول الأدب... إصدارة أسعد الطيب العباسى Asaad Alabbasi12-13-08, 01:20 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de