|
Re: قد رأيت الناس في قلب الملايو! د. النور حمد (Re: Yasir Elsharif)
|
Quote: قد رأيت الناس في قلب الملايو (4 من 5) د. النور حمد [email protected] بنهاية الحرب الباردة وبروز حالة القطب الواحد على الساحة الدولية، أصبح العالم أكثر ضيقا، وأكثر وحشة وإخافة مما كان عليه في السابق. فبسقوط الشيوعية، على بؤس تجربتها في كل من روسيا والصين، تبخر الأمل في عالم أكثر إنسانية. كما تضاءلت وضمرت وانزوت آداب وفنون ثرة سبق أن نبتت وأزهرت على أديم تربة الحلم الإشتراكي الكبير. كان لتلك الآداب والفنون أبلغ الأثر في تشكيل وجدان ووعي الكثيرين، وقد مثلت في الإطار التاريخي الذي احتلته فرجة انسرب منها نور الأمل في قلوب مئات الملايين من بني البشر. غير أن الأمور لم تسر وفق توقعات دعاة الإشتراكية وأنصارهم في مختلف بقاع الأرض، وأصبحت الرأسمالية بين عشية وضحاها، خيار الجميع، الذي لا مندوحة منه. يستوي في ذلك من يحبونها، ومن يكرهونها.
الشاهد أن تجربة ماليزيا التي لمستها من خلال المشاهدة، ومن خلال تحليل دلالات المشاهدة، أنعشت في داخلي بعضا من رواقد الآمال بإمكان وجود تجربة رأسمالية أقل إرهاقا لكاهل الأفراد، وأقل مصادرة لإنسانيتهم، وأكثر أخذا بأيدي عامة الناس. والأخذ بأيدي عامة الناس هو الشيء المفقود في عالم اليوم، وهو في ذات الوقت المطلوب اليوم. فالخلق عيال الله، أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله. وقد كان المأمول، ولايزال، عند أولي الألباب، ألا ينسد باب الأمل. ولو انسد باب الأمل، يوما، لأصبح باطن الأرض، أفضل لبني البشر، من ظاهرها. فالرأسمالية في صورتها الخام لا تصلح للمستقبل. بل هي لم تصلح للحاضر في المقام الأول. غير أن الأمل لا يزال قائما في هزيمتها ولكن عن طريق تخفيف غلوائها بالإصلاح الوئيد، بعد أن وضح فشل منهج التثوير الذي شابته الغوغائية أينما حدث.
تخلق الرأسمالية التفاوت الطبقي، وتحرص على تكريسه وتكريس ما ينتج عنه من تباعد بين بني البشر. وهي بذلك الوصف إنما تخلق إحتقانا منذرا بالشر، لكونها تثير وتعمق مشاعر الغبن والضغينة. ولا أدري على وجه اليقين ما إذا كانت ماليزيا دولة تحرص بالفعل على تقليل الفوارق الطبقية، وتحرص على الأخذ بأيدي سواد شعبها، أم أنني رأيتها كذلك لكوني مجرد غريق يائس يتشبث بزبد طاف فوق وجه الماء، ظنا أن في الإمساك به إمكانية للنجاة. ومع ذلك فإن إحساسي مما رأيت في ماليزيا وما لمست، يعضد الاقتراح بأن تجربتها جديرة بالدراسة، وجديرة بالإستلهام.
الفندق الذي نزلت فيه يقع في المنطقة التجارية بوسط المدينة، ولا تفصل بينه وبين أبراج بتروناس سوى محطة واحدة. ولذلك فقد كنت أذهب إلى الأبراج راجلا، ولا يستغرقني ذلك أكثر من عشر دقائق. وأبراج بتروناس تحفة معمارية فريدة. وقد أصبحت مزارا للسياح من جميع أنحاء العالم. فهي قد مثلت حتى وقت قريب جدا، أعلى مبنى في العالم كله. كما أنها تميزت بتصميم معماري فريد. فهي مكونة من برجين توأمين لهما قوام دائري رشيق منسحب نحو الأعالي في هيئة مخروطين. والبرجان يصوبان قامتيهما الفارعتين نحو كبد السماء مهيمنين على فضاء المدينة. ولم ينس مصممو هذه الأبراج، رغم حداثتها وعصرانيتها، أن يضفوا عليها روحا مستلا من معمار شرق آسيا التقليدي. وقد أصبحت أبراج بتروناس أيقونة ماليزية دالة على جوهر المعاني المندغمة في كل ما مثلته نهضة تلك الديار. كما أصبحت قلبا نابضا بدلالات مدينة كوالالمبور، لا يقل في أهميته الحسية والمعنوية عن دلالات مبنى الأكروبول بالنسبة لأثينا القديمة، أو أهرام الجيزة لطيبة القديمة، أو الحدائق المعلقة لبابل القديمة.
بالرغم من الموقع المتميز للفندق الذي نزلت به، في وسط المدينة، وبالرغم من فخامته وتصنيفه العالي، إلا أن سعر الإقامة فيه كان أقل من سعر الإقامة في موتيل أمريكي بالغ التواضع، مما لا يصل تصنيف درجته إلى نجمتين! من نوافذ الفندق في الأدوار العليا يطل المرء على بانوراما مشهد المدينة الرائع، وهو مشهد تمتد فيه العمائر البيضاء فوق التلال المتباعدة، الغارقة في لجة من الخضرة الإستوائية الداكنة. ويمكن للرائي من ذلك الإرتفاع أن يرى شبكة الشوارع الحديثة المكتظة بالمركبات التي تتدفق فوقها، ليل نهار. فحركة المرور في كوالالمبور حركة حاشدة بلا كبير إختلاف يذكر في كثافتها، بين ساعات الليل وساعات النهار.
المدينة في عمومها غابة إستوائية، عالية الأشجار، داكنة الخضرة. وتتميز مبانيها التي يبتلعها ذلك الدغل الإستوائي الممتد نحو حافة الأفق مثل بحر لجي، بسقوف القرميد الأحمر، التي أضفت على المدينة طابعا متميزا ربط بين روح الشرق وشيئا من سمات المعمار الإسلامي الأندلسي. كما تميزت كوالالمبور بشمول الرصف. وقد رأيت ذلك في كل المواقع التي زرتها منها. وقد تفاوتت الأماكن التي زرتها بين مناطق شديدة الإزدهار مثل مركز المدينة، وبين مناطق تطغى عليها ملامح الحياة الشعبية. ومع الاختلاف بين مركز المدينة التجاري وأطرافها إلا أنه لا ترهل في المدينة. فقد بدت لي كُلاًّ حضاريا متماسكا، شأنها شأن المدن الغربية التي تحتفظ أحياؤها الشعبية بحد أدنى من المظهر الحضاري، والإنضباط الحضاري.
كل شيء في كوالالمبور يبدو في مكانه الصحيح، مما يدل على سلطة القانون وهيبته وسلطة وهيبة الإدارة البلدية. الشاهد أن الرصف في كوالالمبور يمتد من الجدار إلى الجدار، فلا تراب ولا غبار. ومواقف السيارات منظمة ومخططة بشكل جيد، والناس ملتزمون بقواعد المرور، وقواعد الوقوف، وقواعد عبور الطريق. أما محطات المترو فهي تضارع أحدث محطات المترو في المدن الغربية، وربما تميزت على بعض رصيفاتها الغربية بالنظافة. والنقل الجماعي في كوالالمبور ذو كفاءة عالية وذو تكلفة زهيدة جدا، خاصة إذا اشترى المستخدم تذاكر المترو للإستخدام طويل المدى. وكفاءة النقل الجماعي هو ما ميز رأسمالية غرب أوروبا التي انفتحت على التأثيرات الإشتراكية على الرأسمالية الأمريكية المصمتة التي شجعت اقتناء المركبات الخاصة، فخلقت نمطا من الإستهلاك، ومن الإضرار بالبيئة، لا ضريب لهما.
مظهر الناس في الشوارع يدل على عموم ستر الحال، وعلى انتشار التعليم، وعلى اتساع سوق العمل، وشيوع الدخل المناسب. ويدل على كل ذلك قلة الناس المشتغلين بالأعمال الهامشية، وندرة المتسولين. فالناس نظيفون ومهندمون في غالب حالهم، ولا توجد مظاهر للفقر الشديد. أما النساء فخليط من الأزياء. فمن ينتمين منهن للعرقية الصينية يلبسن البلوزات مع التنورات أوبنطلونات الجنيز، كما يرسلن شعورهن. أما المنتميات إلى العرقية الهندية فيظهر بعضهن في الساري، وغيره من أشكال الزي الهندي، كالسروال والقميص الطويل، وبعضهن يظهر في الأزياء الإفرنجية. أما الملايويات فغالبيتهن يلبسن التنورات والبنطلونات وفوقها القمصان أو البلوزات. غير أن أكثيرية الملايويات يرتدين أغطية الرؤوس كما في بعض مناطق الشرق الأوسط. ولا يدل الحجاب في ماليزيا على التزمت بقدر ما يدل على الإنتماء الديني والهوية الثقافية. والناس عموما محافظون ومهذبون وودودون. والمرأة موجود في كل مكان، بل أن وجودها يبدو أكثر من وجود الرجل في الأماكن العامة. ويبدو أن للمراة الملايوية حضورا متميزا نوعا ما، ربما ترجع أسبابه لوضعية المرأة في ثقافتهم. والملايويون يحيطون الغريب بالاهتمام، وتلك في غالب الحال خلة شرقية ربما رسختها التعاليم الإسلامية.
يقف برج الفندق منتصبا فوق قاعدة عريضة مكونة من ثلاث طوابق تمثل مركزا تجاريا كبيرا. ويقع بهو الفندق ضمن صالات وممرات المركز التجاري. الطريف أن الطابق الأسفل من المبنى تحتل غالبيته مطاعم شعبية صغيرة يرتادها الموظفون والموظفات ساعة الغداء. وهي تقدم أطباقا من مختلف بلدان آسيا وبأسعار زهيدة جدا تناسب صغار الموظفين. في حين تحتل الطابقين الأعلى، حيث بهو الفندق، مطاعم أفخم وأغلى. وهو غلاء نسبي لا يصل درجة الغلاء في غالبية المدن العالمية الكبرى. الشاهد أن انخفاض الأسعار في ماليزيا أمر ملفت للنظر. وقد يفهم المرء غلاء أماكن مثل لندن ونيويورك، على التفاوت بينهما. ولكن من الصعوبة بمكان أن يفهم المرء غلاء مدن مثل الخرطوم، والقاهرة، وبيروت وغيرها من المدن العربية التي أصبحت تضارع، وربما تتفوق أحيانا على المدن الغربية في الغلاء! فعلى سبيل المثال لا يفهم المرء كيف يصبح ثمن قطعة أرض خالية في واحد من أحياء الخرطوم أكثر من سعر بيت مكتمل في مدينة أمريكية متوسطة الحال! هذا مع فارق مستوى الدخل الفردي، وفارق مستوى الحياة، ومستوى الخدمات بين القطرين! وكيف يكون سعر الوقود في السودان، وهو دولة منتجة للنفط، يضارع سعره في أمريكا وهي دولة مستوردة للنفط في غالب حالها، مع كل الفوارق المذكورة أعلاه.
يبدو لي أن الغلاء والرخص أمران مرتبطان بسياسات الدولة وتوجهاتها، أكثر من ارتباطهما بحرية السوق الطبيعية. وربما يكونان مرتبطين أيضا بفساد المسؤولين، الذين يصبحون بحكم مواقعهم، وبحكم السلطات التي يتمتعون بها، جزءا من حلقات السمسرة في البلد، وجزءا من حلقات السوق العالمية. فربما يكون سبب الغلاء غير المتناسب مع حال البلد هو إرتباط النخب المتنفذة في البلد بقوى الرأسمال الدولية والنزعة المغالية في تحقيق الأرباح، التي أصبحت ظاهرة كوكبية ملحوظة في الآونة الأخيرة. بل وأصبحت واحدة من نذر العولمة التي أصبحت تنشر النسخة الأمريكية من الرأسمالية بسرعة البرق، وتحيل من ثم حياة سكان أرياف العالم إلى جحيم لا يطاق. فما يلفت النظر في ماليزيا هو أن الدولة مشغولة فيما يبدو بأن تفتح للقطاع العريض من السكان مسارب عديدة إلى ثروة البلد، وذلك حسب طاقة كل فرد من حيث التأهيل والتدريب. هذا مع العمل الدؤوب من جانب الدولة على زيادة طاقة الأفراد وزيادة تأهيلهم عن طريق التعليم والتدريب الجيدين.
نعم هناك تفاوت في دخول الأفراد في ماليزيا، شأن كل بلد رأسمالي. ولكنه تفاوت من النوع الذي لا يخلق غبنا وحنقا يهددان السلام والأمن الإجتماعيين. فهو فيما يبدو تفاوت معتدل ومفتوح على إمكانية الحراك، وإمكانية أن يغير المرء بجهده وجهد الدولة مجتمعين موقعه من سلم الدخل الفردي، وسلم المكانة الإجتماعية. فحتى الذين يعيشون في أسفل سلم الرواتب في ماليزيا، إنما يعيشون حياة كريمة. وهذا في تقديري مقياس نجاح الدولة، ومقياس إلتزامها بوظيفتها الطبيعية التي تتلخص في إزالة مواطن الإحتقان في البنية الإجتماعية التي يتسبب فيها إيثار الصفوة أنفسهم بالمداخل إلى كنوز الثروات في البلد، واستخدام التقنين والتشريع والإجراءات الإدارية لحجب عامة الجمهور عنها، وخلق مبررات زائفة لإقصاء وتهميش السواد الأعظم.
للنجاح الماليزي الباهر، فيما لمست، شقان: شق ارتبط بقيادة واعية ومعتدلة وصادقة في توجهها في خدمة شعبها. وقد عملت هذه القيادة على رسم خطط إقتصادية للنمو السريع أتت أكلها في وقت وجيز. ولم يكن لتلك الخطط أن تؤتي أكلها لولا الإستقرا السياسي الذي نتج عن الإعتدال وعن النزعة العملية وتجنب تضييع وقت الناس وتشتيت جهدهم وتتويههم في ثنايا الخطاب الساسيي المؤدلج الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. وأعني هنا الخطاب الطنان المفتون بمصارعة القوى الكبرى بتدبيج الألفاظ، لا بالعمل. أما الشق الثاني: فهو قصد الدولة الأصيل والنبيل للنهوض بعامة الناس. الأمر الذي وفر فرص العيش الكريم لكل ماليزي وماليزية، وجعل من ماليزيا مزارا تهوي إليه أفئدة كثير من بني البشر.
يتواصل |
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
قد رأيت الناس في قلب الملايو! د. النور حمد | Yasir Elsharif | 12-02-06, 02:07 PM |
Re: قد رأيت الناس في قلب الملايو! د. النور حمد | nassar elhaj | 12-02-06, 02:44 PM |
Re: قد رأيت الناس في قلب الملايو! د. النور حمد | mansur ali | 12-02-06, 05:54 PM |
Re: قد رأيت الناس في قلب الملايو! د. النور حمد | Yasir Elsharif | 12-02-06, 07:59 PM |
Re: قد رأيت الناس في قلب الملايو! د. النور حمد | Yasir Elsharif | 12-03-06, 03:11 AM |
Re: قد رأيت الناس في قلب الملايو! د. النور حمد | Dr.Elnour Hamad | 12-03-06, 03:37 AM |
Re: قد رأيت الناس في قلب الملايو! د. النور حمد | Yasir Elsharif | 12-07-06, 05:29 AM |
Re: قد رأيت الناس في قلب الملايو! د. النور حمد | Yasir Elsharif | 12-11-06, 05:17 AM |
Re: قد رأيت الناس في قلب الملايو! د. النور حمد | Abu Eltayeb | 12-11-06, 10:25 AM |
Re: قد رأيت الناس في قلب الملايو! د. النور حمد | Yasir Elsharif | 12-12-06, 01:39 PM |
|
|
|