وجوه وزكريــات مــن مـديــنة نــيالا

Quote: للأزمة أكثر من وجه بسبب الحرب .. سكان دارفور لا يلقون بالاً لما يجري خارج منطقتهم نيالا : فرح أمبدة: عندما تتمكن شمس الصباح من فج الغيوم، لا يجد سكان مخيم دريج "على الطرف الشمالي الشرقي من مدينة نيالا" غير شجرة التبلدي الضخمة التي تنتصب وسط الخيام المتهالكة، مكانا يتجمعون فيه ويتداولون امورهم وقضاياهم، فالشجرة العتيقة هي بمثابة "البرلمان المفتوح" بالنسبة لسكان المخيم البالغ عددهم 15 ألفا، لذلك يطلقون عليها"ام الفقراء" لكونها توفر لهم الظل الظليل وتحميهم من الرياح وزخات المطر وويتخذونها مسجدا لاداء الصلاة وتعد المكان المناسب لتجمعاتهم فضلا عن ذلك يوفر لحائها العلاج لمرضاهم وتدخل افرعها المتساقطة في تقوية مخيماتهم .. تحت ظلال "ام الفقراء" يتجمع ضحى كل صباح شيوخ المعسكر وشبابه وحتى النساء ويتجول بينهن الأطفال، لإدارة حوار عفوي حول ما يجري لهم وحولهم، وعادة ما يثيرون قضايا الخدمات التي تقدم لهم والقضايا المتصلة بمرحلة ما بعد الحرب، وموضوع التعويضات ويتشعب الحديث ليصل إلى توجيه الانتقادات للحكومة وللأحزاب السياسية، ولابناء دارفور السياسيين والمثقفين على وجه التحديد، لكن ما فعلته وتفعله بهم امطار الخريف في الاسبوعين الماضيين يكاد يسيطر علي موضوعاتهم .. يقع مخيم دريج في منحدرعلى بعد 5 كيلومترا إلى الشمال الشرقي من مدينة نيالا، وقد وصل امتداده الجنوبي الي الاحياء السكنية المجاورة، ويعد المخيم أفضل حالا مقارنة مع بقية المخيمات التي تحيط بالمدينة لجهة قربه منها.. لقد وفر التصاق سكان المعسكر "تشكل قوميات الداجو والفور الاغلبية وسطهم" بالمدينة الفرصة لانغماسهم في القضايا السياسية حتى ان اجتماعاتهم العفوية تحت ظلال "ام الفقراء" الوريفة تتحول احيانا الي منابر للجدال السياسي لكنه جدال لا يتعدي الشأن الدارفوري بحيث لم تعد القضايا القومية محل اهتمام بينهم بل ان طرحها يعد ترفا زائدا ن الحاجة ما يشير الي الاوجه الاخري للصراع الذي نشب في الأقليم قبل اربعة اعوام . قبل يومين تجولت في المخيم، وقد فعلت به الامطار والسيول ما لم تفعله في غيره، لقد كانت الليلة السابقة طويلة بالنسبة لسكان المخيم وهم يقطنون خياماً فعلت اشعة الشمس الحارقة بها الافاعيل، في ذلك الصباح بدت النساء بملابسهن المتهتكة ورؤوسهن المكشوفة منهمكات في تقوية الخيام وفي ترميم ما جرفته السيول وما دمرته الرياح قبل ان تهطل الامطار مجددا فالسماء ملبدة بالغيوم قد تمطر في أية لحظة ... وبينما ينقسم الاطفال بين مساعدة امهاتهم وبين ممارسة ألعابهم المعتادة تتعارض اسراب الفتيات وهن يحملن المياه علي رؤوسهن ويتكدسن حول مضخات المياه، اما رجال المخيم وشباب فقد عادوا لتوهم من الجبانة بعد ان هالوا التراب علي اثنين من سكان المخيم .. امراة طاعنة في السن قيل لي ان الملاريا كانت السبب في موتها وطفلة تبلغ من العمر 7 سنوات توفيت قبل ان يدركوا سبب موتها، كان ذلك سببا كافيا لان يتجمع الناس تحت ظلال "ام الفقراء" في وقت مـتأخر. جلست بجوار الفوج الاول من القادمين، بدأ نقاشهم هادئا وانحصر حديثهم عن خريف هذا العام وقد اجمعوا على انه سيكون قاسيا عليهم لجهة انه جاء متاخراعن المعتاد ما ينذر بكثافة امطاره ولكون خيامهم البلاستيكية قد تآكلت بفعل الشمس وقد مرّ عليها الحول الثالث، وعرجوا بالحديث الى الجبانة التي استضافت العديد من سكان المخيم في العامين الماضيين وذكروا العشرات منهم، قبل الحرب وفي مثل هذا الوقت ينتظر سكان الريف في دارفور بفارق الصبر هطول الامطار لكنهم الآن لم يعودوا كذلك فقد بات الخريف لا يثير فيهم غير مشاعر الحزن والضنك.. ببطء بدأ المكان يكتظ .. وعندما علموا بهويتي الصحفية تحوّل الحديث الى الوالي الجديد على محمود الذي اعلن عن تعيينه اخيرا .. لكنهم تجاهلوا امره في وقت وجيز ... بالنسبة لسكان المخيمات ليس هناك فرق بين الوالي السابق والذي سبقه وبين الوالي الذى خلفه والذي ياتي بعده ..هم لا يلقون بالا لغير موظفي العون الانساني الذين ينتشرون وسطهم ويقدمون لهم الخدمات الاساسية .. يقدمون لهم الخيام التي تقيهم حر الشمس وماء السماء مكتوب عليها منظمة اليونسيف، المدرسة التي يتعلم فيها ابناإهم هي عبارة عن خيام وفرتها اليونسيف، المشفي الذي يتلقون فيه علاجهم لا علاقة لوزارة الصحة به فهو اما تابع للصليب الاحمر او للهلال الاحمر السعودي او التركي واما معونة من الحكومة الايطالية .. الحصص الغذائية التي تسكت بطونهم وبطون اطفالهم يوزعها عليهم برنامج الغذاء العالمي .. تعمدت ان احيل اهتمام من كنت اجالسهم الى قضايا اخرى بعيدة من دارفور..وملعوم ان سكان هذا الاقليم كانوا في السابق مندمجين في القضايا القومية وحتى قضايا المنطقة بصورة تفوق غيرهم .. قلت لهم ان عليهم ان لا ينسوا قضاي السودان الأخري بجانب اهتمامهم بقضيتهم المركزية وعندما طلبوا من ان اضرب لهم مثلا قلت لهم ان السودان يتناقص من اطرافه فمثلث حلايب صار مصريا عبر فرض الامر الواقع، مثلث اليمى اصبح كينينا، ومزارع الفشقة صارت حبشية وذكرت ان بالسودان جيوش من اكثر من عشرين دولة وهناك اكثر من مليون لاجئ جنوبي في الدول الحدودية.. ابلغتهم ان الامطار والسيول فعلت بمواطنين في كسلا وفي الجزيرة وفي القضارف وفي كردفان ما تفعله بهم .. و..و .. لقد كانوا ينظرون الي باشفاق .. ولسان حالهم يقول "الناس في شنو وهذا الصحفي في شنو". ليس في معسكر دريج وحده ولكن في كل المخيمات ووسط المدن لم يعد ساكن دارفور يهتمون بغير الازمة الشاخصة امامهم .. يمكن ملاحظة ذلك في اي نقاش تديره في اي مجمع، وعلى ما يبدو ان الازمة المستعصية بدات تفعل بسكان دارفور ما ظلت تفعله بجنوب السودان خلال سنوات الحرب .. الاسبوع الماضي استطلعت آراء اكثر من عشرة من طلاب جامعة نيالا علي هامش معرض كتاب نظمته تلك المؤسسة وبعضهم من الناشطين السياسين فكان حماسهم لغيرالقضايا الدارفورية حماسا فاترا .. لكنهم يتحفزون عندما يكون الشأن متعلقا بالاقليم وبازمته .. لم يعد الشباب والطلاب في دارفور مهتم بقضية حلايب مثلا ولا يتداول حول ما يعانيه اللاجئون الجنوبيون .. وعندما تطرح عليهم سؤالا حول ما يجري لسكان الشرق او في جبال النوبة تأتي اجاباتهم متطابقة "الناس في شنو وانت يا استاذ في شنو" .. لكي نجعل هؤلاء الشباب يندمجون في قضايا بلادهم اينما وجدت ويهتمون بامر الاقاليم البعيدة عنهم مثل اهتمامهم باقليمهم يجب ان تكون البلاد نفسها قابلة للحياة ..هذه هي النتيجة التي توصلت اليها من هذا الاستطلاع" لخص اسحق آدم ابراهيم "استاذ جامعي وباحث في العلوم الانسانية" عندما طلبت منه تعليقا على ما يحدث قوله في .. عندما نشبت الازمة في دارفور لم ينفعل بها اهل السودان ولا حكومته الا بعدما تحرك المجتمع الدولي .. الذين تضرروا من الازمة بصورة مباشرة لم يجدوا غير الاجانب وغير المنظمات الإنسانية الاجنبية .. هم الذين اغاثوهم ووفروا لهم مواد الايواء والطعام وهم من اقام المراكز الصحية ووفر الادوية .. غير السودانيين هم من زاروهم في معسكراتهم وادمعوا امامهم وحملوا اطفالهم وطبعوا القبل في خدودهم .. سكان المعسكرات على وجه التحديد يشعرون بأن قضيتهم لا تعني غيرهم وقد فصم هذا بينهم وبين القضايا الاخرى ولا يعدمون الحيلة في عد عشرات الادلة التي تشير الى ذلك وكنتيجة كل هذا لم تعد الثقة قائمة بينهم وبين من هم خراج مخيمهم وهناك شك غريب في كل من يأتي من خارج هذه المعسكرات، في وقت سابق نقلت عن عمر سليمان وهو من الناطشين في كلمة ومن زعماء المعسكر الذين لهم تأثيروسط سكانه قوله "القصة" بالنسبة واضحة ..أهل السودان غير مهتمين كثيراً بما يجري ، ولا يتحدث عما يجري في دارفور، إلا الشريحة العليا من المثقفين" ما يفهم من حديث عمر ومناصريه ان الحياة تحت ظلال الحرب تفقد الرهان حول ما اذا كانت الجهود التي تبذل حاليا ستنتهي الى حل دائم للازمة ام ستنتهي الى شبيهاتها"اتفاقية الخرطوم وفشودة للسلام" في انتظار ان ياتي اتفاق شامل مثلما حدث للوضع في الجنوب . يذكر أن الصراع الذى دمر إقليم دارفور خلال السنوات الأربع الماضية أجبر أكثر من مليون ونصف شخص على الفرار من ديارهم. ويخشى معظمهم العودة إلى قراهم، وهم مشتاقون للشعور بالأمان، والحصول على المأوى، والغذاء، والمياه ، لكن وضعهم الجديد جعلهم غير واثقين في الترتيبات التي تجري لحل المشكلة وباتوا لا يعيرون اهتماما لما تقوله الكيانات المحلية بما في ذلك الحكومة، بل منهم من يعتبران اتفاق السلام الذي وقع العام الماضي بين الحكومة واحدى الحركات المسلحة خيانة لقضيتهم لانه اغفل تعويضهم عن ما فقدوه بسبب الحرب .