|
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان (Re: عدلان أحمد عبدالعزيز)
|
الجزء الثاني والأخير من كلمة البروفسير يوسف فضل حسن، في تأبين بروفسير القدال..
البروفسير محمد سعيد القدال:مـــــــــــؤرخ الســـــــــــــــودان الحــــــــــــديث (2) يتناول الجزء الأول من الكتاب تكوين الإمبراطورية المصرية في السودان، وبروز الكينونة السياسية الموحدة للسودان، التي كانت تتشكل قبل هذا الغزو، والنظام الإداري الذي حكم به الأتراك تلك الإمبراطورية، وسياستهم الاقتصادية، وأخيراً المقاومة السودانية للحكم التركي المصري، وهي بدورها تشكل سابقاً للاحق جديد، فقد كانت بمثابة التمهيد لانفجار الثورة المهدية: "بدأت المقاومة منذ بداية الغزو عام 1821 وتواصلت بأشكال مختلفة وأساليب متنوعة وفي مناطق متباعدة وبين فئات اجتماعية متباينة. فالسمة الغالبة للمقاومة هي استمرارها رغم فشلها في كل مرة تحت ضربات النظام وقمعه. ولكن رغم فشلها استطاعت أن تهز هيبة الحكم وأن تجعل استقراره المطلق مستحيلاً. وحافظت على جذوة الرفض. وأفرزت حركات المقاومة الحاجة إلى بديل أكثر شمولاً وقدرة على مواجهة الحكم الأجنبي وتجميع فئات اجتماعية تحت مظلة واحدة. وكان ذلك الإحساس ينمو في الوعي الاجتماعي بدرجات متفاوتة. ومن خلاله برزت الدعوة المهدية التي تفجرت منها أنجح حركة مقاومة ضد الحكم التركي المصري".(26)
الجزءان الثاني والثالث من الكتاب خصصا لأمر هذه الثورة، وقد شكلت أساسهما ثلاثة من كتب القدال هي: الإمام المهدي محمد أحمد بن عبد الله (1844- 1885): لوحة لثائر سوداني، والمهدية والحبشة: دراسة في السياسة الداخلية والخارجية لدولة المهدية 1881- 1891، والسياسة الاقتصادية للدولة المهدية. يحتوي هذان الجزءان على معلومات غزيرة ومعرفة ثرَّة ونفس طويل في الاستقصاء والبحث وتحليل الأحداث وسبر غورها. ولا غرابة في ذلك إذ أن تاريخ المهدية هو التخصص الدقيق الذي نال به القدال درجاته العلمية الرفيعة. يتتبع القدال الأسباب الجوهرية للثورة المهدية وموقف الحكم التركي المصري منها، وانتشارها، وموقف بريطانيا من احتلالها لمصر، وانتصار الثورة المهدية وفتح الخرطوم. ثم يناقش النظام الإداري والمالي والسياسة الخارجية للدولة المهدية، والمعارضة الداخلية لحكم الخليفة عبد الله، وأخيراً التغول الإمبريالي على السودان وغزوه وهزيمة الدولة المهدية.
يرى القدال أن التناقضات التي تفجرت وأحاطت بفترة الحكم التركي المصري هي التي ولدت أسباب الثورة المهدية، وأولها غربة الاستعمار والحاكم الأجنبي، وغربة النظام الضريبي، وأساليب القمع والبطش، وممارسة الحكومة للرشوة والفساد والشذوذ. ثم التناقض بين الطبقة التجارية ووعيها المتنامي نتيجة التراكم الرأسمالي التجاري وقصور سياسات الحكومة، والمنافسة غير المتكافئة مع التجار الأجانب. وقد وجدت هذه التناقضات الداخلية في فكرة "المهدي المنتظر" واسعة الانتشار في السودان في ذلك الحين، تعبيراً أيديولوجياً مناسباً؛ ووُجد محمَّد أحمد بن عبد الله القائد الثوري الذي يناسب الثورة فاندلعت وتواصلت انتصاراتها وانضواء القبائل تحت عباءتها حتى توج ذلك بفتح الخرطوم.
كانت النكسة الأولى في تاريخ المهدية هي انفجار الصراع على السلطة وما ترتب عليه من آثار وخيمة. وهو صراع يراه القدال حتمياً ولا يمكن تفاديه ففكرة المهدي المنتظر "وحدت البلاد ضد الحكم الأجنبي الذي كانت ممارساته القمعية بينة. فبرزت التناقضات معه بشكل جليِّ جعل عملية التوحد ضده يسيرة كما أن الواقع الرعوي القبلي لأهل السودان جعل انضواءهم تحت راية المهدي يتماشى مع جانب من طبيعة حياتهم الرعوية القبلية. ولكن بعد انقضاء الحكم الأجنبي أصبحت الدعوة المهدية قاصرة عن توحيد الناس في الإطار الجديد، إطار الدولة. ولم تتمكن الدعوة المهدية من خلخلة الحواجز القبلية وصهر الناس في بوتقة الوحدة إبَّان سنوات الثورة القصيرة، فانفجر الصراع. وما أنْ انفجر حتى ارتفعت رايات التعصب القبلي فوق رايات الجهاد المهدوي (...) لقد أدى الصراع إلى خلق الأساس الأوتوقراطي القبلي والأساس الثيوقراطي لدولة المهدية".(27) والواقع أن هذا الصراع وسوء إدارة الدولة فجَّر معارضة دينية وقبلية لحكم الخليفة، فلم تجد الدولة الجديدة قبولاً من كل فئات المجتمع، وهو ما شتت قوة الدولة وأهدر طاقاتها.
ويخلص القدال إلا أن الدولة المهدية لم تنتهِ بمعركة كرري أو أم دبيكرات فقط، وإن كان للسلاح الناري "الإمبريالي" دور كبير في ذلك، لكنها انتهت، نتيجة ضعفها الداخلي وتآكلها نتيجة تناقضاتها الداخلية وعجزها عن تلبية حاجات المجتمع، وأيضاً نتيجة للدبلوماسية الاستعمارية التي برعت فيها بريطانيا.(28)
يشغل الحكم الثنائي "الاستعماري" الجزء الرابع من هذا الكتاب وفيه يتابع القدال كيف استطاع الاستعمار أن يؤسس نظاماً للحكم يقوم على سلطات الحاكم المطلقة. وتأسيساً على ذلك كوَّن الاستعمار جهازاً إدارياً استعان فيه ببعض العناصر السودانية، فأصبح هذا الجهاز هو الإطار الذي طبق فيه البريطانيون سياستهم الاقتصادية والاجتماعية.(29)
أما الجزء الخامس والأخير من هذا السفر القيم فقد خصصه القدال لدراسة تاريخ وتطور الحركة الوطنية، ولعله أفاد فيه من مقاليه "أفكار حول نشأة الحركة الوطنية السودانية 1900-1937م" و "دور الطلبة والعمال في معركة الاستقلال" المنشورين في كتابه الانتماء والاغتراب.
يلاحظ القدال، وفق جدلية السابق واللاحق، أن الحركة الوطنية لم تبدأ مكتملة المعالم بل تدرجت في مراحل تقود كل مرحلة منها إلى المرحلة التالية. وبناء على ذلك يميز بين خمس مراحل في تطور الحركة الوطنية السودانية. وقد تفجرت المقاومة منذ بداية الحكم الاستعماري عام 1899م إلا أنها، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 1918م، أخذت طابع حركات المعارضة الدينية والمقاومة القبلية والإقليمية، وهي أشكال أولية من الصدام ضد الحكم الاستعماري.
ومنذ عام 1900م بدأت أشكال جديدة للمقاومة خارج أطر الدين والقبيلة والإقليم، لعل أبرزها تمرد الكتيبة 14 السودانية كرد فعل عفوي للمعاملة القاسية والعنيفة في تطبيق قوانين الانضباط العسكري من قبل الضباط البريطانيين. ولعل أهمية هذا التمرد ليست في عمقه أو اتساع مداه وإنما في ما يحمله من تباشير مقاومة ذات طابع قومي، ويرى القدال أنه "رغم أن المقاومة للحكم البريطاني انطلقت في تلك المرحلة من المواقع الدينية والقبلية والإقليمية، إلا أنها لم تبق حبيسة تلك الجدران بشكل مطلق، بل أفصحت عن نفسها في تيارات خافتة وفي أشكال أخرى. ورغم أن تلك الأشكال كانت إرهاصات إلا أنها كانت بشائرَ لما برز في السطح بعد عقدين من الزمان، وكانت تلك الإرهاصات حركات متفرقة هنا وهناك ولا تخلو من عفوية. فالوعي الاجتماعي لم يصل بعد مرحلة النضج التي يعبر بها عن رؤية مشتركة وموقف موحد ضد الحكم البريطاني. ولعل أبرز أمثلة لتلك الإرهاصات تمرد بعض الجنود السودانيين، وبعض مظاهر (الململة) بين المتعلمين وبعض عناصر الطبقة الوسطى من التجار الذين كانوا في مرحلة تكوينهم الجنيني".(30) ولا يغفل القدال، بجدلية الداخل والخارج، عن تأثر الحركة الوطنية في السودان بحركات المقاومة خارج السودان، وفي مصر على وجه الخصوص. ليصل إلى أن الحركة الوطنية في السودان قد تتابعت مسيرتها نتيجة عدد من المؤثرات الداخلية والخارجية فكانت البدايات الأولى للحركة الوطنية تحت شعار الوعي القومي وتكوين جمعية الاتحاد السوداني، ثم جمعية اللواء الأبيض، وثورة 1924م. وبرغم الردة التي أعقبت هذه الثورة إلا أن ركب الحركة الوطنية استمر في المسير تحت لواء الجمعيات الأدبية. وتجلت كل هذه الجهود بتكوين مؤتمر الخريجين ثم ظهور الأحزاب السياسية والتنظيمات الشعبية، وإعلان الحكم الذاتي.
إن هذا السفر تاريخ السودان الحديث 1820- 1955م هو بحق علامة بارزة ومضيئة في سجل البحث التاريخي في السودان، ولا أظني أعدو الصواب لو اعتبرته أهم كتاب عن تاريخ السودان الحديث بقلم سوداني، فهو مع شمولية نهجه وتناوله للقضايا، وصرامة منهجه الأكاديمي والعلمي، وغزارة معلوماته وثرائها، مع كل ذلك فهو يغطي فترة طويلة تمتد لقرابة القرن ونصف القرن من الزمان عاشتها البلاد في ثلاث حقب مختلفة كاملة الاختلاف. ومع ذلك فقد استطاع القدال أن يجعل من هذه الفترة الطويلة وما شهدته من أحداث مسألة متصلة تخرج كل منها من رحم الأخرى.
رابعاً: الكتب ذات الطابع السياسي الحزبي انتظم القدال منذ وقت مبكر في اليسار السوداني، وقد وظَّف قدراته الفكرية والنظرية كمؤرخ للتوثيق لهذا اليسار من ناحية، وللمساهمة النظرية في قضاياه وبرامجه من ناحية أخرى. فيما يتعلق بقضية التوثيق يبرز كتاباه الحزب الشيوعي السوداني وانقلاب 25 مايو، ومعالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، كما وثق لتجربة الاعتقال الذي تعرض له، شأنه شأن العديد من اليساريين، في كتابه ذكريات معتقل سياسي في سجون السودان.
أما مساهمته النظرية لدعم تيار اليسار السوداني فتتجلى في كتابيه الإسلام والسياسة في السودان، والتعليم في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية. كتاب الإسلام والسياسة في السودان تجربة مميزة في كتابة التاريخ عند القدال اهتم فيها بتتبع ظاهرة واحدة، هي ربط الدين بالدولة، عبر حقب تاريخية تمتد منذ دخول الإسلام إلى السودان وحتى تطبيق قوانين ديسمبر 1983م. وقد وظف القدال كل خبراته لانجاز هذا العمل، فهو لا يقف عند سرد الأحداث وإنما يبين كيف حدثت؟ ولماذا حدثت؟ فاتفاقية البقط مثلاً، والتي تسرب عبرها المسلمون من تجار وغيرهم إلى بلاد النوبه، لا ينظر إليها بمعزل عن الفتوحات الإسلامية في العراق والشام وشمال أفريقيا. ويبحث عن المفارقة بين هذا وذاك.(31)
يرى القدال أن توظيف الدين لخدمة الأغراض السياسية بدأ مع بداية ظهور الكينونة السودانية الموحدة، فحملة محمد علي باشا استخدمت الدين لتوطيد دعائم الحكم، وقد أرسل علماء الدين لمخاطبة الأهالي وإقناعهم بالحكم الجديد. إذ لم "يشفع لأهل السودان إسلامهم".(32) وبمنهجه عميق التحليل يسبر القدال غور الحدث ويتجاوزه ليصل بالقارئ إلى منطق عام: "... إن عقيدة المؤمن والشعائر التي يتوسل بها إلى ربه تختلف عن الموقف الاجتماعي. ذلك أن الاعتقاد وممارسة الشعائر التي تعبر عنه هما في نهاية الأمر موقف فردي وواجب فردي وقناعة فردية. أما الموقف الاجتماعي الذي يسعى إلى تطبيق الدين على النشاط الاجتماعي أو على جانب منه، فهو موقف اجتماعي (...) ولذلك فإن الموقف الاجتماعي الملتحف بثوب الدين هو موقف اجتماعي مجرد ...".(33)
وبهذا النهج يواصل القدال دراسته التفسيرية ليوضح الكيفية التي تجاوب بها الإسلام مع المتغيرات التاريخية منذ دخوله السودان، ودوره في الممالك الإسلامية في العصر الوسيط، وتلاحمه مع السياسة في القرن التاسع عشر على عهد الثورة المهدية. كما يناقش علاقة الاستعمار البريطاني بالمؤسسات الإسلامية في السودان، وموقف الحركة الوطنية من الدين، ثم إقحام الدين في السياسة بعد ثورة أكتوبر، وحتى التطبيق "التعسفي" لقوانين الشريعة في ديسمبر 1983م.
أما كتاب التعليم في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية فلعله يمثل برنامج الحزب الشيوعي فيما يخص قضية التعليم. وأياً كان موقفنا من هذا البرنامج إلا أنه طرح قضية التعليم على نحو منهجي وموضوعي سلس ومرتب، برع فيه القدال في إشهار سيف المادية التاريخية لنقد الواقع وتحليله، فالتعليم بالنسبة له ليس موقفاً فردياً إنما هو أداة طبقية "... التعليم كأداة لا يكمن خارج التركيب الاجتماعي، ولا يقف محايداً من صراعاته، لأنه بهذا الوضع يصبح القوة الموجهة للصراع. والتعليم لا ينشأ خارج التركيب الطبقي بعيداً عن تأثيراته، وإلا لأصبح التعليم جامداً خالياً من أي حيوية. إن تغيير أنظمة التعليم عبر التاريخ يقف دليلاً على انبثاق التعليم من الأوضاع الاجتماعية المتجددة، فإذا كان التعليم محايداً لكان محتواه وشكله كما هما عبر المنعطفات التي مرت بها حركة التغيير الاجتماعي".(34)
ويستعرض القدال مسيرة التعليم عبر حقب التاريخ التي يقسمها على أساس التكوين الطبقي وطبيعته، ثم يتتبع مسيرة التعليم في السودان منذ دولة الفونج وحتى الحكم الثنائي لتأكيد أن التعليم هو أداة طبقية نابعة من أيديولوجية الطبقة المسيطرة. وبناء على الحكم السابق يتناول القدال مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية وما يجب أن تكون عليه، وبما أن التعليم في تلك المرحلة يتحول لأداة لأيديولوجية الثورة الوطنية الديمقراطية فإنه سيكون معنياً بالقضاء على الأمية العلمية والسياسية والاقتصادية، وتوسيع القاعدة التعليمية لاستيعاب أكبر قدر من التلاميذ من البنين والبنات ومن كافة أقاليم السودان، وهو ما لن يتحقق، بنظر القدال، إلا عبر مجانية التعليم من جهة، وإلزاميته من جهة أخرى. ويستوجب القدال أن تلعب المناهج دورها في مجال التنمية الاقتصادية وعملية البناء الاقتصادي، وهو ما لن يتأتى إلا بتقريب الشقة بين العمل الذهني والعمل البدني. كما يستوجب أن تكون المناهج مرنة لاستيعاب الفوارق الثقافية، ومراعيةً للتدرج والنمو العقلي والجسماني للطفل، وأن تكمل المناهج بعضها البعض.
ويختم القدال كتابه بدور المعلم والحريات الديمقراطية. والكتاب في مجمله يعكس مجهوداً ذهنياً جباراً في استخدام المنهج التاريخي للوصول إلى رؤية مستقبلية شاملة ومستبصرة. رأيت أن أختم هذا العرض لدراسات القدال بكتاب يمثل جزءاً عزيزاً من سيرته الذاتية، وهو ذكريات معتقل سياسي في سجون السودان. وهو من أمتع الكتب التي قرأتها، برزت فيه النزعة الأدبية والفنية لدى محمَّد سعيد القدال. فاستطاع أن يرسم لنا لوحة إنسانية تكاد تراها تتحرك. تختلط فيها مشاعر الغضب والتمرد والألم بالحب والشوق والألفة والمودة والأخوة الصادقة. تسمع تأوهات المرضى وآلام المعتقلين، وتنتظر معهم زيارات الأهل والأقارب، وتمتعض معهم من تذوق طعم الجراية. إنه بحق كتاب عن المشاعر الإنسانية في صدقها وإخلاصها.
ومن أهم ما يميز هذا الكتاب أنه يعكس روح القدال المرحة، وحس الدعابة وخفة الظل التي ما فارقته حتى وهو في أحلك الأزمات، في داخل المعتقل أمام سجانيه. وقد استخدم القدال في هذا الكتاب أسلوب السخرية اللاذعة المفاجئة لينتزع من القارئ وهو في أشد حالات الألم والاحباط ضحكة سريعة بدون مقدمات في سهولة ويسر فكأنك أمام ساحر يفعل بك ما شاء، والكتابة سحر، فهاهو يحكي عن من اعتقلوا معه بعد أحداث يوليو 1971م اسماً اسماً ويروي قصصاً مؤلمة عن الاغتيالات السياسية والاعتقالات الجماعية وأحاسيس الفجيعة، وفجأة يقول: "وكان أطرف شخص بين هذه المجموعة رجل لا نعرف اسمه إذ كان يسير بيننا باسم (راس النيفة) وقصته أنه كان يسير في إحدى الأمسيات بعد حظر التجول وهو يحمل "راس نيفة" ليتناوله في العشاء، أو ربما كان (مزة) فاعترضه أحد رجال الأمن وسأله ماذا يحمل، فقال له (راس نيفة) فقال له رجل الأمن المتشنج "راس نيفة يا مستهبل" واقتاده إلى المخفر وأرسلوه إلى كوبر. وكان الرجل يسير في السراية شارد الذهن ولعله كان يلعن راس النيفة الذي كاد أن يوقعه في تهلكة وكنا نعطف عليه. وغادرنا بعد أيام".(35)
وبذات العمق الذي تضحك به، تجد نفسك تذرف الدموع مع سطور من شاكلة: "... وفي إحدى زيارات أسرتي كنت أحمل أصغر بناتي (ندى) طول الزيارة. وكان عمرها ثلاث سنوات وهي شديدة التعلق بي. وبعد انتهاء الزيارة رفضت مفارقتي والعودة مع أهلها وأصرت أن تبقى معي. فهي لا تدري عن المكان شيئاً سوى أن به "بابا"، وحاولنا إقناعها أن تعود مرة أخرى ولكنها رفضت وتشبثت بي أكثر فلم يكن هناك مفر سوى انتزاعها عنوة وهي تبكي بأعلى صوتها. فكنت أنا وابنتي، كما قال الشاعر جيلي عبد الرحمن: كعصفورين مذعورين كان البين قد قص الجناحين فلم يترك سوى اللوعة تطفو في رؤى العينين".(36) والكتاب نموذج فريد في التأليف لا يخلو من طرافة، ويعكس وجهاً آخر لحياة لم نألفها، استطاع المعتقلون إدارتها فأقاموا المحاضرات والسمنارات وتعلموا اللغات وتبادلوا المعارف والخبرات وتشاركوا الرغيف والغطاء وكوب الشاي، فحولوها من جحيم القضبان إلى نعيم المودة الصادقة. ويعرض القدال هذه الحياة في بأسلوب أدبي بليغ فتضحك من أعماقك وتبكي أيضاً من أعماقك. وقد زين القدال الكتاب بمقاطع شعرية جميلة تناسب كل موقف، كما أفرد حيزاً واسعاً لشعر المبدع محجوب شريف. والكتاب في مجمله موجز وممتع وفيه أسلوب من التأليف لم نألفه في كتابات القدال الأخرى. رحم الله البروفسير محّمد سعيد القدال بقدر ما قدم لهذا البلد، ولعلم التاريخ على وجه الخصوص، وستظل كتاباته منارات سامقة يستدل بها كل باحث في تاريخ السودان.
الهوامش (26) نفسه، ص 145. أنظر أيضاً القدال: الانتماء والاغتراب ص ص 51- 70. (27) القدال، تاريخ السودان الحديث، ص ص 239- 240. (28) نفسه، ص 319. (29) نفسه، ص 356. (30) نفسه، ص 422. (31) القدال، محمَّد سعيد: الإسلام والسياسة في السودان 651- 1985، دار الجيل، بيروت، 1992م، ص 15. (32) نفسه، ص 37. (33) نفسه، ص ص 38. (34) القدال، محمّد سعيد: التعليم في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، الخرطوم، 1971 ص 14. (35) القدال، محمّد سعيد: ذكريات معتقل سياسي في سجون السودان، ص 28. (36) نفسه، ص 100.
منقول عن الأحداث: http://www.alahdathonline.com/Ar/ViewContent/tabid/76/C...ID/8034/Default.aspx
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-16-08, 02:56 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-16-08, 03:00 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | Ibrahim Idris | 02-22-08, 05:40 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | Tragie Mustafa | 02-16-08, 03:02 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | Saifeldin Gibreel | 02-16-08, 03:03 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-16-08, 03:03 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | emad altaib | 02-16-08, 03:18 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | سلمى الشيخ سلامة | 02-16-08, 07:15 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-17-08, 02:55 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | SILVER MOON | 02-17-08, 03:08 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | kamalabas | 02-17-08, 03:19 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | Raja | 02-17-08, 03:52 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-17-08, 05:35 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-18-08, 05:23 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | هشام المجمر | 02-18-08, 05:47 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | Mohamed Abdelgaleel | 02-18-08, 07:12 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | منى على الحسن | 02-18-08, 08:03 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | wadalzain | 02-18-08, 01:43 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-19-08, 06:05 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-19-08, 03:03 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-19-08, 03:05 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-19-08, 05:44 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عبدالله الشقليني | 02-19-08, 05:56 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عبدالله الشقليني | 02-19-08, 07:50 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | Imad Khalifa | 02-19-08, 07:52 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-19-08, 09:14 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | معاوية كرفس | 02-19-08, 10:18 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-20-08, 04:03 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | معاوية كرفس | 02-20-08, 11:46 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-20-08, 04:04 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | معاوية كرفس | 02-21-08, 00:02 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | أحمد عثمان عمر | 02-21-08, 06:03 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عبّاس الوسيلة عبّاس | 02-21-08, 07:19 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | نهال الطيب | 02-21-08, 11:31 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | طلعت الطيب | 02-22-08, 00:03 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | Bashasha | 02-22-08, 00:12 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | ثروت سوار الدهب | 02-22-08, 00:38 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | abubakr salih | 02-22-08, 00:41 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-22-08, 04:53 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-22-08, 05:32 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | على عمر على | 02-22-08, 06:03 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-22-08, 05:42 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-22-08, 05:43 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-23-08, 04:58 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-23-08, 05:00 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-23-08, 05:17 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | Ahmed Abushouk | 02-23-08, 08:32 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | Omer Hummeida | 02-23-08, 10:49 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-24-08, 06:21 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-25-08, 05:16 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | Bushra Elfadil | 02-25-08, 07:57 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-25-08, 07:23 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-25-08, 09:40 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | esam gabralla | 02-26-08, 11:52 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | بكرى ابوبكر | 02-27-08, 02:53 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | ابوهريرة زين العابدين | 02-27-08, 03:26 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-27-08, 04:20 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-27-08, 04:22 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-28-08, 07:08 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | الفاضل الهاشمي | 02-28-08, 09:40 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-29-08, 09:01 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 02-29-08, 09:08 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | Abdalla Hussain | 02-29-08, 11:29 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | Omer Hummeida | 03-01-08, 10:17 AM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 03-02-08, 07:38 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 03-02-08, 07:47 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | عدلان أحمد عبدالعزيز | 03-05-08, 02:28 PM |
Re: آل القـدال: شكر وتقدير وإمتنان | Abuobaida Elmahi | 03-06-08, 11:47 PM |
|
|
|