الحركة الاسلامية وشريعة سبتمبر: اعادة اختراع النميري

الحركة الاسلامية وشريعة سبتمبر: اعادة اختراع النميري


01-29-2003, 02:00 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=5&msg=1043802003&rn=0


Post: #1
Title: الحركة الاسلامية وشريعة سبتمبر: اعادة اختراع النميري
Author: zumrawi
Date: 01-29-2003, 02:00 AM

الحركة الاسلامية وشريعة سبتمبر: اعادة اختراع النميري








بقلم/ د. عبد الله علي ابراهيم

حين وقعت انتفاضة ابريل 1985 وجدت الحركة الاسلامية نفسها في الجانب الخاسر من التاريخ. وكان من أوضح شواغل الدوائر المتنفذة في الثورة، سواء في التجمع أو الحركة الشعبية لتحرير السودان، في مسعاها لازالة آثار مايو، الغاء قوانين سبتمبر 1983 وليس خاف بالطبع الحرج الديني الذي استشعره الاسلاميون وكثير من المسلمين حيال مطلب الغاء شيء من الاسلام، وإن جاء بهذا الشئ مخادع كذاب أشر، بحد شرعية ثورية دهرية. فقد بدا ذلك المطلب للاسلاميين كرأي وحكم سلبي لا على تطبيق قاصر او خاطيء للاسلام على يد رئيس مخلوع فحسب بل على الاسلام ذاته من قوى لم يعرف عنها شفقة بالدين. وزاد الطين بلة أن الطرف العلماني في الحركة الشعبية كان قد قاطع الانتفاضة والانتخابات والاطر الديمقراطية التي تولدت عنهما مما اخلى طرفه من أية تبعة تجاه تلك الاطر. وهذا مما اخذه على الحركة الاستاذ محمد على جادين بقوله، إنها بفرحها بقوة السلاح، عميت عن حقائق ما بعد الانتفاضة واستخفت بقواها المدنية موهومة انها ستزحف بقوى الهامش حتى تفتح الخرطوم سدة الحكم. وقال خالد المبارك أيضاً إن قرنق يتصرف وكأن الانتفاضة لم تحدث. وكان شرط الغاء قوانين سبتمبر الاسلامية ضمن حزمة شروط خمسة ربما أرادت الحركة الشعبية بها التعجيز لا الحل لانها قد وثقت في منطق فوهة البندقية خصوصاً وأن كفة الميزان العسكري قد مالت لصالحها لملابسات ليس هذا مكان تفصيلها.

غير انني افصل في واحدة من ملابسات اعتداد الحركة الشعبية بفوهة البندقية لمساسها بتشدد الاسلاميين في التمسك بقوانين سبتمبر لا من اجل الدين، الذي هو لله، بل لأجل الدين الذي هو هوية السودانيين الشماليين. فقد استهانت الحركة الشعبية بالديمقراطية التي تحققت بعد الانتفاضة لما رأت هوانها بين اهلها. فقد نام المزاج الديمقراطي الرومانسي الحالم الذي نشأ بعد الانتفاضة عن حراسة أطر الحكم الديمقراطي بقوة ومبدئية. فقد حلت قوى الديمقراطية الحية في اليسار جهاز الامن بغير اكتراث للعواقب او استنباط البدائل الحقة له. وقد اتضح في ما بعد أنه جهاز كفء وواسع الحيلة على سوء سمعته من جهة خصوم النظام السياسيين. واتخذت غفلة هذا المزاج طابع العداء لأي اجراءات استثنائية. وأذكر أنني عبرت عن انزعاجي لهذه السذاجة في بابي "ومع ذلك" بجريدة "الخرطوم" يوم رفضت قوى اليسار حتى حبس تجار العملة على ذمة التحفظ خشية ان ينقلب امر التحفظ وينال المناضلون منهم. وهذا تطهر ومثالية مقدرة لصدورها من معارضين ابتلوا بقبح جهاز الامن واجراءات التحفظ علىهم لما يقرب من ثلث قرن من الزمان.

وعلىه لم يقبل اليساريون بتفويض الحكومة اتخاذ أي اجراءات استثنائية لا مندوحة لنظام ديمقراطي منها إن اراد أن تكون له اسنان وتبان في قول للمرحوم السادات. وقد كتب الدكتور الترابي رسالته التي نال بها الدكتوراة في هذا الشأن بالذات. وقد بلغت هذه الاجراءات في دول العالم الموصوف بالحر سابقاً حدوداً فاضحة مثل قرار الحكومة الامريكية على عهد المكارثية في اوائل الخمسينات أن لا يسمح للعضو في الحزب الشيوعي الامريكي ممارسة نشاطه الا بعد تسجيل نفسه عميلاً للاتحاد السوفيتي في الشهر العقاري. وعدد الترابي صور القوانين التي استحدثتها الدول الغربية لحماية نظامها السياسي مما عدته خطراً مستطيراً علىه. ومن طريف أو فاجع الصدف أنه لم يمر سوى عام واحد من فراغ الترابي من مناقشة رسالته الجامعية حتى وجد لها تطبيقاً في الواقع. فقد استخدم الترابي منطق رسالته لحل الحزب الشيوعي في 1965 لأنه إذا فاز وحكم ابطل الانتخاب وفرض ديكتاتورية العمال أو كما قال. وهو منطق ساد في الغرب آنذاك والترابي فيه تابع غير مبتكر. وهذا هو نفس المنطق الذي يرفض به الغرب الالحاح على الديمقراطية في بلاد الكفة السياسية راجحة للاسلاميين كما رأينا في الجزائر. وكما تدينوا تدانوا.

وفاقم من جفاء الانتفاضيين واليساريين لحماية الديمقراطية بالاستثناء انهم كانوا في قرارة انفسهم قد وثقوا بالعقيد قرنق وانتظروا قدومه على أحر من الجمر الى الخرطوم ليقلب كفة الميزان السياسي لصالح القوى الموصوفة بقوى الانتفاضة. ولذا تكاثرت الرحلات الماكوكية بين الخرطوم واديس أبابا يظن الوفد التالي أنه سيأتي بما لم تستطعه الاوائل وهو استدراج قرنق الى الخرطوم وطي صفحة الخلاف. وهذا مكر وسذاجة وكسل معروف عن أهل النادي السياسي الجلابي. واجهل ما ارتكبه اليساريون، والجدد منهم بخاصة، انهم لم يقبلوا بالتركيبة النيابية التي جاءت بها انتخابات 1986. وهم بذلك ممن يسميهم العامة "حردان السوق." وقد نفضت أكثر قوى الانتفاضة يدها من البيعة للنظام الديمقراطي ووصمته بانه نسخة جديدة من الديمقراطية الطائفية التي تبخس القوى الحديثة اشياءها مما يستدعي الدعوة لديمقراطية جديدة "تلجم" الناخبين بالتفريق بين من له صوت واحد ومن سيكون في سعة من الاصوات حتى ترجح الكفة لقوى الانتفاضة. وصح القول هنا:" انظر لديمقراطييك" كما قال مواطن في جمهورية جورجيا حين رأى غلواء وعنفاً من يزعمون الديمقراطية بعد سقوط الشيوعية عنها. وقد زاد برم قوى الانتفاضة بالديمقراطية من تعلقها بالحركة الشعبية كما هو واضح في عهد أمبو في 1989 الذي وقعه اليسار غير الشيوعي مع الحركة الشعبية. كما اراد اليساريون في آخر عام 1988 اسقاط الحكومة بانتفاضة تو (الثانية) المعروفة. وأصبح هؤلاء اليساريون أسرى توقيت العقيد قرنق لعودته للخرطوم حين خلوا من كل حيلة للتعامل بنفس طويل زكي مع الحقائق السياسية التي مجتها نفوسهم وكرهتها عقولهم. واصبحت "عودة قرنق" عندهم أشبه بالتميمة السحرية السياسية. وأخطر ما في هذه الجماعة انها جاءت بفاقتها السياسية هذه لساحة مفاوضات السلم. فأهلها لم يعتبروا في حساباتهم ابداً ميزان القوة في الميدان العسكري الذي لا يصح التفاوض لإحلال السلام بدونه. وقد اعفوا أنفسهم من هذه الشعيرة السياسية لانهم ما كانوا يثقون في الجيش او الحكومة ويفضلون قرنق علىهما. ولذا أفسدوا المفاوضات على المفاوضين من الطرفين وأصبحوا لا هنا ولا هناك: لم يرضوا قرنق الذي كان قد لبس الجنوب خاتماً و"تعزز ليمونه" ولم يسلموا من وصف الاسلاميين، لسان حال القومية الشمالية الغالب، بـ "التهافت" على قرنق و"التخذيل" للقوات المسلحة.

كان هذا هو السياق السياسي والثقافي الذي حمل الاسلاميين للاستماتة عند قوانين سبتمبر وان تكون لهم بالتبني بعد ان كانت لهم بالاكراه. لأنه، حسب نشيدهم المعروف، فهم اذا مات الواحد منهم في سبيل الله ما همه "على أي جنب كان مصرعي." وقد نأول "الجنب" هنا لتعني أية نسخة او صورة للاسلام حتى ولو كانت من مستبد كالنميري. وقد كتبنا هذا السياق السياسي لتورط الاسلاميين في منهج نميري الديني بصورة أدنى الى فهم الاسلاميين له آنذاك حتى يحسن القاريء تقدير اعتصامهم بقوانين الديكتاتور المخلوع والثمن الفادح الذي ظلوا يدفعونه من حر عقيدتهم لهذا العناد. وهو عناد شابته شبهة أنانية تنظيمية اقتضاها استرداد شرعيتهم السياسية وقد قبضوا متلبسين بموالاة المستبد نميري وتزيين الامر له كما شاء. وقد جربنا في السياسة السودانية ظاهرة التطرف والغلو من اولئك الذين يفارقون الجماعة ويوادون المستبدين. فقد اعترت هذه النوبة حزب الشعب الديمقراطي الذي كان حالف الفريق عبود بمذكرة ولاء عرفت بمذكرة "كرام المواطنين." ولما قامت ثورة اكتوبر وانتبذ الناس الحزب، وكاد له الاخوان المسلمون بالذات، بدت على الحزب اعراض التطرف مثل مقاطعة الانتخابات في 1965 لاستثناء بعض دوائر الجنوب منها لاعتبار أمني. ولم يرده عن هذا الغلو حتى اقبال أحزاب جنوبية راكزة على خوض الانتخابات. وقس على مستوى الافراد تطرف المرحوم أحمد خير ، وزير خارجية الفريق عبود، في حرب ديكتاتورية نميري أو انخراط منصور خالد، الوزير المرموق في نظام النميري، في سلك الحركة الشعبية.

لم أورد هذا السياق السياسي لاعتصام الحركة الاسلامية بقوانين سبتمبر لألقي لها المعاذير. واسلام نميري فرعوني وقع لنا وسيقع كلما استبدت بالحكام العزة بالإثم وشعواء السلطان. وهو اسلام تعارف على وصفه عامة الناس وخاصتهم بـ " استغلال الدين." ويريدون بذلك أن ينفون فرعونية نميري عن الدين شفقة به وعشماً في خيره المستتر. ولست على هذا الرأي. فالاسلام عندي، على رأي المرحوم مارشال هودجسون، الذي أبقى فينا كتاباً شديد الحفاوة بالاسلام هو مبادرة الاسلام ، هو حزمة تقى تاريخية منها الشرعانية التي تشدد على حرف الشريعة، ومنها الصوفية التي ترجح الباطن على استعصامها بالشرع، ومنها العقلانية المعتزلية الفلسفية الضعيفة بيننا منذ عهد طويل. ومن تلك التقى تقوى الملوك التي إن اسقطناها من سجل الاسلام اسقطنا شطراً مرموقاً من مبادرة الاسلام.

وكان بوسع الحركة ان تطرح قوانين نميري وأن تستنبط اسلاماً أصغى الى عصره وأحنى بأهله مما فعل نميري. وقد بدا لي انها مما استعد لهذه التقوى المبتكرة بعد دراستي لافكار الدكتور حسن الترابي التي وصفتها بأنها "لاهوت الحداثة" في كتاب يصدر لي قريبا من دار الأمين بالقاهرة. وخلاصة رأي الرجل ان الحداثة ابتلاء خصنا الله به ليمتحن به اجتهادنا بالاسلام لجعلها نعمة لنا في المعاش والمعاد لا انزعاجاً على الاسلام لحفظ بقيته من عاديات الزمن. وقد استغرب كثير امثالي كيف ضلت الحركة عن عافيتها الفكرية هذه للخوض في ابتلاء الحداثة ووقعت في حبائل اسلام نميري السلطاني الذي سقط صاحبه بهبة مسلمين لم يقبلوا الدنيئة في دينهم او سياستهم. وقد وجدت الحامدي، التونسي محرر "المستقلة" ينعي على الحركة الاسلامية المفارقة بين ميثاق صحوتها المبين وبين ما تلحد به من دين في عالم السياسة والتشريع. وكانت ايضاً هذه ملاحظة السيد الصادق المهدي الذي انتهى الى وصف الحركة بـ "الوصولية السياسية."ولم يحتمل اهل الشفافية والمهنية من الحركة ذاتها اسلام نميري. فقد خرج كل من مولانا دفع الله الحاج يوسف والاستاذ الحافظ الشيخ من القضائية حين تنكبت محاكم العدالة الناجزة سراط العدالة واجراءاتها. بل والاكثر دلالة ان نميري نفسه قد نكص على عقبيه عن العدالة الناجزة حين اخذها بعض قضاته مثل الدكتور ابراهيم المهدي مأخذ الجد الديني و جاءوا برجال دولته واتحاده الاشتراكي مذنبين أذلة أمامهم.

استعصمت الحركة بقوانين سبتمبر تلاقي بها هموم الدنيا والدين فيما بعد انتفاضة 1985، وحين لم تقبل الحركة بقوانين نميري تبديلا كانت قد فارقت حكمة الدين القائلة بأن المشقة من موجبات التيسير. وقد ظل العامة والخاصة يردونها عن التشدد الذي يحسنه كل احد الى الثقة في الدين واستخدام رخصه. قالوا لهم عن سيدنا عمر الذي عطل الحدود في عام الرمادة وعن نهي المصطفي علىه السلام عن تنفيذ الحدود في حالة الحرب خشية أن يفر من علىه الحد الى بلاد العدو فتضعف شوكة المسلمين. واستعطفوهم ان ينظروا الى قدوة سيدنا عمر الذي ترك التغريب في حد الزنا حين لحق احد المعزرين بالروم وتنصر. وما أجدى من ذلك شيئاً.

ضيقت الحركة بذلك واسع الدين. ووقعت بذلك عندي في باب من فقه السياسة السودانية كنت استعنت على وصفه بقوله تعالى "بئر معطلة وقصر مشيد" وهي الحالة التي يغيض فيها المعنى في حركاتنا السياسية ويبقى المبنى وتخرج الروح ويتهافت الجسد. فقد جففت الحركة الاسلامية بئرها وفقه حداثتها الجزيل في منعطف ساخن من مسيرة الوطن واكتفت بما اتفق لنميري من الاسلام في محاولة أخيرة منه لاستدامة سلطانه الباهظ. وظلت الحركة الاسلامية منذ 1983، أي لقرابة نصف حياتها السياسية وهو النصف الذي يؤبه به لأنه سن العقل والنضج والابداع، أسيرة تقوى سلطانية محضة اصبح فيها فقه البيعة للحاكم مقدماً على ما سواه. وقد عاد الدكتور حسن الترابي بعد خصومته لحكومة الانقاذ ينعى على الخوارج علىه ممن وقفوا مع الفريق البشير، رئيس الجمهورية، تهافتهم على السلطان وهجرانهم الدين. وقد يكون عذرهم ان الشيخ لم يعلمهم من فقه الدين والسياسة الا علم الطاعة لمن تكون وكيف. وواضح انهم قد تحصلوا هذا العلم، واستمزجوه، وبرعوا فيه. وقد رأوا فيه رأياً مغايراً. فقد استصحب الاسلاميون فقه البيعة هذا لفض النزاع في خلاف القصر والمنشية عام 1999 فقد ثارت خلافات فكرية فقهية حول مرجع بيعة الاسلاميين في دولة الانقاذ وهل هي للامام الظاهر، الذي هو الفريق البشير، أم للامين الباطن الذي هو الدكتور حسن الترابي؟ وتفرع هذا الخلاف الفكري وتشعب. غير أن الاكثرية مالت الى شرعية بيعتها للبشير دون الترابي بفقه بسطته في وثيقة صادرة عن المؤتمر الخامس للكيان الإسلامي الذي انعقد عام 2001، فقد تداول المؤتمر الأمر وخلص الى ما يلي:" اما فيما يلي الاجتهادات التي عرضت على المؤتمر في فقه البيعة العامة وعهد الجماعة وعلاقة الجماعة برئاسة الدولة فإن المؤتمر قد أقر بان التقدير الشرعي واصول الفكر الاسلامي في البيعة الشرعية يلزم الحركة بالبقاء على بيعتها لرأس الدولة لأنها لم تر كفراً بواحا علىه من الله برهان ولم تر خروجاً على نهج الجماعة بل سمعت من رأس الدولة تمسكاً بأصول الشرع والتزاماً بالشريعة معلناً الي العالم أجمع الذي يناصب كبراؤه الشريعة العداء." وهذا من باب الحوار الذي غلب شيخه. كفت الحركة عن كل اجتهاد في الحكم او الاخاء السوداني بعد الانتفاضة وبقيت رهينة قوانين سبتمبر. فهي لم تقبل الغاءها كما اتفق ذلك لمن عارضوا نميري واسقطوه. وزاد من تشددها أن ذلك الالغاء كان من ضمن شروط الحركة الشعبية الخمس للجلوس الى مائدة المؤتمر الدستوري الموعود. وانعزل الاسلاميون في صحبة الاتحادي الديمقراطي وحده عن مؤتمر التجمع الوطني لانقاذ الوطن (مارس 1985) ومؤتمر كوكا دام (مارس 1986) اللذين اجازا ذلك الالغاء. وجاء وقت هجر الاتحاديون موقف التمسك بقوانين سبتمبر في ملابسات غيرتهم من الحركة الاسلامية التي نافستهم في الموقع الثاني في البرلمان وفي الزلفى للسيد الصادق المهدي في حزب الاغلبية.

ولما كاد يجمع الناس على اتفاقية الميرغني وقرنق في نوفمبر 1988 شذت الحركة الاسلامية ولم تقبل حتى بتجميد الحدود حتى يأذن الله بالمؤتمر الدستوري الذي سيتفق على شيء ما بشأن القانون في السودان. وقبلت الحركة، من الجهة الاخرى، ان تعمل على تشريع قوانين بديلة لتلك التي وضعها نميري لما دخلت شريكة في الحكم في وزارة السيد الصادق. ومن المؤسف أنها لم تبدل في مشروع قانونها الجنائي لعام 1988 غير اسقاط الجنوب من تطبيق الحدود الاسلامية اكراماً لخاطر الجنوبيين. وهذا تحصيل حاصل وإن لم يقبل بهذا الاسقاط فريق من الاسلاميين. ولم تتسع سماحة الحركة الاسلامية لتعتبر المسلمين الذين تأذوا من قوانين سبتمبر واختلفوا معها من حيث مادتها وظرف تنزيلها. ولم يكن هؤلاء شذاذاً. فقد اتفقت معهم لجنة من ارشد علماء المسلمين استأنس السيد الصادق برأيها وقالت إن تلك القوانين معيبة في جوهرها وصياغتها وتطبيقها وفيهم الشيخ مصطفي الزرقا والشيخ محمد سليم العوا وآخرون.

وقد أحزنني بالذات تقنين القانون الجنائي 1988 لمادة الردة التي لم تكن اصلاً في قانون نميري وانما وقعت لقضاته "كشفاً" حين قضوا على المرحوم محمود محمد طه. ولم يعتبر واضعو القانون مشاعر المسلمين وغير المسلمين التي أزري بها حكم الردة المرتجل ومقتل الشيخ والتعريض بتلاميذه. وهو حكم نقضته المحكمة العلىا في 1986 ببيان شاف ونفته عن مقتضى العدالة وردته الى اصله في غبائن السياسة السفلى. وكتبت من فرط حرجي بازاء هذا الحكم المشين وعودة الاسلاميين للخوض في أمر الردة مذكرة وجهتها الى الخريجين للتوقيع علىها لمعارضة القانون الجنائي ومادة الردة منه بوجه خاص. وقلت في فقرة منها:

"لقد حسبنا أن بشاعة تنفيذ حكم الردة في الاستاذ محمود مما يعلمنا جميعاً بعدم جدوي البطش بالرأي، وأملنا ان يراعي بعض الدعاة الاسلاميين حساسيتنا لهذه المسالة كأهل رأي يعتدون بقيمة الفكر ومنزلته في نهضة الوطن، وأن لا يفجعونا باستعلائهم الفكري مرة بعد مرة وبخاصة واكثرنا لا تزال تؤرقه غفلته حين لم نرتاب بالقدر الكافي في قوانين سبتمبر حتى خرجت علىنا بثمار المشانق المر وأنوف الاستتابة الراغمة." وأكثر ما يحيرني في حماسة الحركة الاسلامية لقانون الردة وقتل محمود أن ردة الرجل واغتياله لم يكن فكرة اصيلة للحركة. فقد جاء في كتاب الدكتور عبد الوهاب الافندي عن الحركة الاسلامية (أو في الرسالة الجامعية الأصل فيه) انه لما حكمت المحكمة الشرعية العلىا بردة محمود غيابياً في 1968 لم تنفعل الحركة الاسلامية بذلك في حين وجه الترابي الجماعة ان لا تلقي بالاً للرجل وأن تعده من الشذاذ الشاطحين. وربما اشفق الترابي من كيد الجماعة لرجل علمه اول حروف السياسة. فقد كانت اول مظاهرة سياسية اشترك فيها الترابي، وهو لم يزل تلميذاً في وسطى رفاعة، تلك التي قادها المرحوم محمود ضد الادارة الاستعمارية في حادث ختان رفاعة عام 1946. وهي الحادثة التي اختصم أخيراً في تفسيرها الدكتور خالد المبارك والجمهوريون من شيعة محمود على الصحف وشبكة الانترنت. وقد رشح دم القتيل، الذي ناصب الاسلاميين العداء وبادلوه له بقوة عارضة، على تاريخ الحركة الاسلامية بغير قصد مبيت من جانبها. لقد قتلوه لأنهم لم يأنسوا القوة في أنفسهم لرد المستبد الى حرمة القانون والنفوس. ولقد ارتضوا أن يكونوا قتلة من مقاعد المتفرجين والهتيفة. ومع ذلك عاد الاسلاميون يقننون القتل للردة في 1988 والقانون الجنائي 1991، وهذا شطط.

ولم يكن بوسع الحركة الاسلامية ان "تلولي" للأبد قوانين النميري بدون وجود النميري نفسه. ولذا فهي لم تجد بداً من اختراع لنميري جديد، طالما غاب النميري الأصلي، ليحرس قوانين سبتمبر التي لا سبيل لحمايتها بدون الشدة والغلظة. وهذا بعض منشأ انقلاب البشير وصحبه الاسلاميين في يونيو 1989، وقد سبق الانقلاب توارد أحداث في آخر 1988 والنصف الاول من 1989 اتجهت الى تعطيل الحدود في قوانين سبتمبر نزولاً عند الرغبة في استصحاب قرنق الى المؤتمر الدستوري وسكة السلم. وتناصرت هذه الوقائع وأدت الى تحالف سياسي في حكومة للوحدة الوطنية في فبراير 1989 ضم كل الاحزاب وباركته القيادة الرسمية للقوات المسلحة لنشدان السلم على هدى اتفاقية الميرغني وقرنق. واعتزل الاسلاميون، في قول الترابي، هذه الحكومة لخلو برنامجها من الالتزام بما اسموه "التأصيل الاسلامي." وكانت القوات المسلحة قد ذاقت من تحول الميزان العسكري لصالح الحركة الشعبية، المعززة بسلاح المتعاطفين المتزايدين لها في العالم واعلامهم، وضاقت "بنقة" الاحزاب فخيرتها بين طلب حثيث للسلم أو الاعداد للحرب. وجاءت حكومة الوحدة الوطنية في فبراير 1989 جانحة للسلم. وأجازت اتفاقية الميرغني وقرنق في ابريل 1989 وأرجأت النظر في مناقشة القوانين حتى ينعقد المؤتمر الدستوري في حين قررت تجميد الحدود في نهاية يونيو 1989، وشرعت في انهاء اتفاقيات الدفاع مع مصر. واتفق الطرفان على وقف لاطلاق النار من مايو حتى يونيو ويعقب ذلك لقاء بين السيد الصادق وقرنق في 4 يوليو 1989 لرفع حالة الطواريء. واجهض ذلك كله انقلاب 30 يونيو 1989 الذي تم تنفيذه بواسطة الضباط الاسلاميين وحلفائهم في القوات المسلحة.

وسألقي نظرة فاحصة في حديث قادم على دافع الاسلاميين للقيام بانقلابهم بما يتجاوز المتداول من إدانتهم وتخوينهم الى علم أفضل بالمسألة.


Post: #2
Title: Re: الحركة الاسلامية وشريعة سبتمبر: اعادة اختراع النميري
Author: zumrawi
Date: 01-29-2003, 02:45 AM
Parent: #1

يعيد الجهاد الى المنهج الدراسي

فرضت الحكومة السودانية على تلاميذها في مرحلتي الاساس والثانوي تدريس الجهاد في المناهج الدراسية، وذلك بعد ان كانت وزارة التربية والتعليم قد حذفته في فترة سابقة من المنهج في اعقاب الاتهامات الموجهة للحكومة بتأجيج الحرب الدائرة في الجنوب بمفاهيم دينية. ونقلت صحيفة «ألوان» المحلية عن دكتور احمد بابكر وزير التربية والتعليم لدى لقائه كمال الدين ابراهيم المنسق العام لقوات الدفاع الشعبي ان الحكومة قررت ادخال «الجرعة الجهادية» في المناهج التربوية لمراحل تعليم الاساس والثانوي للحفاظ على قيم الشريعة التي لن تكتمل بغير الجهاد