نصر حامد أبو زيد : لا حولااا

نصر حامد أبو زيد : لا حولااا


07-06-2010, 01:38 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=300&msg=1278376722&rn=0


Post: #1
Title: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: Amjed
Date: 07-06-2010, 01:38 AM

فارق الحياة صباح الإثنين 5 يوليو 2010 التاسعة صباحا بمستشفى زايد التخصصي وتم دفنه بمقابر أسرته بمنطقة قحافة بمدينة طنطا بعد صلاة العصر.

Post: #2
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: Amjed
Date: 07-06-2010, 01:41 AM
Parent: #1


Post: #3
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: Amjed
Date: 07-06-2010, 01:46 AM
Parent: #2

تعانى أوطاننا من أزمة خانقة ، أو أزمات فى كل المجالات وعلى كل الاصعدة ، لكن هذه الازمات يمكن ردها جميعا لأزمة الحرية .
ان القول النهضوى " ليكن الوطن محلا للسعادة المشتركة نبنيه بالحرية والفكر والمصنع " قد أدرك أن الحرية هى وحدها المفتاح الذى يقود عملية التقدم فى الصناعة والزراعة ، بإختصار الحرية هى قاطرة التنمية ، وعوائق الحرية تتمركز فى الإستبداد الذى يولد الفساد الذى يؤدى بدوره الى الخراب الشامل . ومنذ بداية القرن الماضى والمثقف العربى ، الشيخ والأفندى والتقنى ، يشكو من الاستبداد ويحلل أسبابه ويبين مخاطره ويقترح الوسائل للخروج منه إلى أفق الحرية وسيادة إرادة الأمة تحقيقا للعدل والمساواة ، وها نحن بعد قرن كامل تغيرت فيه الدنيا ، وانتقل العالم من عصر التصنيع إلى عصر تكنولوجيا المعلومات ، لانزال نراوح أماكننا من وطأة الاستبداد السياسى والإجتماعى بل والثقافى والدينى .
تغلغل الاستبداد فى تفاصيل حياتنا من وطأة تاريخ طويل من الحكم العسكرى أو الطائفى أو المشيخى ، فالأب مستبد يقهر الزوجة والطفل باسم " تماسك الأسرة " والمعلم يقهر التلاميذ باسم " حق المعلم فى التبجيل والتوقير " والرئيس أياً كانت درجته يقهر المرؤوسين باسم " الضبط والربط والنظام " ورجل الدين يقهر المؤمنين باسم " السمع والطاعة " والحاكم يقهر شعباً بأكمله باسم " التصدى للأخطار الخارجية " .
صار الوطن معسكراً ... كلنا محبوسون داخل أسواره نحيى العلم كل صباح ومساء وطوال اليوم نغنى الأغانى الوطنية وننشد الأهازيج فى حب الوطن
كان هتافنا فى المظاهرات ونحن صغار - إبان الإحتلال البريطانى لمصر والفساد المتعاون معه فى القصر الملكى - " نموت نموت ويحيا الوطن " ، ولم يكن الأمر مجرد هتاف فقد مات الكثيرون على ضفاف القناة وفى أرض سيناء وأسشتهد آخرون فى معارك حصدت الالوف ، بإختصار دفعنا الثمن وحصد آخرون الثمرة ، وظلت الأوطان كما هى رهين إحتلال من نوع آخر اسمه " الاستبداد " جنرالاته من بنى جلدتنا يمصون دماءنا حتى آخر قطرة ويسدون منافذ التنفس أمام شعوب تختنق ومطلوب منها أن تظل تهتف ، وقد تحولت صيغة الهتاف فصارت " بالروح بالدم نفديك يا .... " .
فى تقديرى أن تفكيك الإستبداد مسألة بسيطة وسهلة فحواها أن نكف عن الهتاف وأن نعيد النظر فى مسألة أننا يجب أن نموت لكى تحيا الأوطان .
لماذا يجب أن نموت ؟ وأى أوطان هذه التى ستبقى بعد موتنا ؟

لقد متنا وبقيت أوطان لانعرفها ولاتعرفنا .

أسير فى شوراع القاهرة أو بيروت أو دمشق أو الدار البيضاء ، فأجد أناساً لااعرفهم ، وأرى مبانى شاهقة وفنادق فاخرة أخاف أن أدخلها ، أبحث عن أصدقائى والناس الذين أعرفهم وأحبهم فأجدهم فى أماكن خانقة ، مكاتب التحرير فى الصحف أو دور النشر فى قاعات الدرس والمكاتب المزدحمة فى الجامعات أو فى المقاهى التى فقدت بهاءها وخلعت أرديتها للكافيتريات السياحية ، أرى وجوهاً مرهقة من التدخين والهواء الفاسد ، لكننا نتضاحك لأننا مثقفون متفائلون نؤمن بالمستقبل ، ونتيقن أنه قادم لامحالة ... هؤلاء أصدقائى الحالمون الذين أحبهم وأسعى اليهم لأنهم مثلى لايهتفون موتاً فى حب الأوطان ، ولايفتدون فلاناً بالروح والدم .
لكن هناك مثقفون آخرون يرتادون الفنادق الفاخرة والكافيتريات السياحية ويسكنون فى مساكن فسيحة صحية يأتيها الهواء النقى من كل ناحية ولهم استراحاتهم الصيفية ومنتجعاتهم . هؤلاء أبناء العصر فهموا روحه وأدركوا أن التغيير - والإصلاح - لايأتى من أسفل لأعلى ، بل يأتى من أعلى الى أسفل . ولأنهم مصلحون حقاً فقد قرروا أن يتخلوا عن صيغ الاصلاح البالية التى تحدث عنها " محمد عبده " و " عبد الرحمن الكواكبى " .. وغيرهما - محاربة الاستبداد و الفساد - وأن يتبنوا صيغة ان لم تستطع مغالبة الموج فاركبه
أشكال الفساد :
من العجيب أن عبد الرحم الكواكبى منذ أكثر من مائة عام قد نبهنا أن " الاستبداد أصل كل فساد ، إذ يضغط على العقل فيفسده ، يلعب بالدين فيفسده ، ويغالب المجد فيفسده ، ويقيم مكانه " التمجد " . كيف لم ننتبه أن الاستبداد أس الفساد وهو الكلمة المفتاح لكل حياتنا العربية فى هذه اللحظة ؟
فالفساد أولاً والفساد ثانياً والفساد أخيراً .
: فساد العقل-
هل نحتاج للشواهد ، وأنظمتنا التعليمية وجامعاتنا واعلامنا المرئى خير شاهد ؟ فساد العقل أدى الى فساد الهوية النابعة من فساد الدين والمؤدية اليه فى نفس الوقت و اقرأ الكتب التى تصدر فكم منها تستطيع أن تواصل قراءته ؟

لقد صارت اللغة تتكلمنا لانحن الذين نتكلمها

صار العقل سجيناً للغة تكلمها آخرون منذ آلاف السنين واجتاح الفساد كل قنوات وعينا ، يشكو الصحفى البارز " صلاح حافظ " من إختراق الصحافة التى أفسدها المال الذى لم يعد يدخل الى الصحف " عبر مسالكه الشرعية ونعنى الاعلانات الصريحة " بل صار يتسرب عبر مسالك أخرى غير شرعية مثل " خلط الاعلان بالاعلام لخداع القارئ والمشاهد والتدليس عليه .. فاذا أضفت الى ذلك نماذج أخرى من نوع الرشاوى الخفية والمكافآت العلنية التى عودت وزارات وأجهزة وأحزاب بل ودول أجنبية دفعها لبعض مندوبى الصحف ووسائل الاعلام من ذوى النفوس الضعيفة والذمم الخربة لأدركت عمق الاختراق الذى نفذ الى العمق " .
فى مقابل هذا الفساد أو بسبب هذا الفساد يتعرض الصحفيون والاعلاميون الأحرار " لمضايقات وصلت لحد الاعتداء البدنى والايذاء النفسى هذا فى مصر ، أما فى بيروت فان الفساد الملازم للاستبداد لايرضى باقل من القتل تفجيراً وتدميراً ، اذا فسد الاعلام فعن أى عقل يمكن أن نتحدث ؟!
: فساد الدين -
احتاج المستبد الى " الدين " ليدارى عورات استبداده ، فأمم مؤسسات " التقديس " على حد تعبير المصرى الراحل " خليل عبد الكريم " لتهتف ليل نهار بعدله واستقامته وحكمته وشجاعته وتصدر الفتاوى لتبرير مواقفه وقراراته فلم يعد أمام المعترض والمحتج إلا ان يلجأ لنفس السلاح .
هكذا ضاع الايمان لصالح الحركية ، ومع ضعف الايمان قوى التطرف و ثار التدين شكلياً .
( إزدحام المساجد مع كثرتها ، اطالة اللحى وتقصير الجلاليب وارتداء الفتيات الحجاب فالنقاب)

حين يصير الدين شكلياً يصير هو المحدد الوحيد للهوية .

وهنا يتبلور مفهوم للآخر فضفاض يساوى بين الأجنبى ( الغربى ) وابن الوطن ( المسيحى والعلمانى ) فيضع الكل فى خانة الأعداء الذين يصبح قتالهم واجباً ،

سيد قطب قسم العالم كله الى مسلمين وجاهليين فقط .

: فساد المجد-
المجد كلمة تتسع لكل القيم والأخلاقيات وأنماط السلوك إجتماعياً وثقافياً ودينياً . وفساد المجد يؤدى الى " التمجد " وهو المجد الزائف الذى حلله أحمد البرقاوى من خلال نصوص " الكواكبى " ثم صاغه بلغة معاصرة فقال : " المتمجد هو البوق الأيديولوجى عند المستبد الذى يزيف الوقائع والحقائق هو الذى يقلب الامور رأساً على عقب لأنه يخفى أهداف المستبد الذاتية الضيقة ويحولها الى أهداف باسم الامة مستخدماً المفاهيم الأخلاقية الأثيرة لدى الناس ولصقها بسلوك المستبد .. كحب الوطن وتوسيع المملكة وتوسع المنافع العامة والدفاع عن الاستقلال ، لا شك أن عبد الحميد هو المقصود بهذا الكشف والتحليل ، ربما أنه ( الكواكبى ) أخفى هذا لسببين : الخوف من المستبد أو لاعطاء معنى كلى للمستبد والمتمجد " .

أن المتجد بإختصار هو ذلك المثقف الذى لايكف عن الهتاف - سواء كان شيخاً أو أفندياً أو تقنياً - للمستبد فيتحول هو بالتدريح الى مستبد صغير فيتوالد الاستبداد ويعيد إنتاج نفسه فى أشكال وأثواب جديدة ، فيصبح استبداداً دينياً واستبداداً ثقافياً واستبداداً تعليمياً .

ولأن الاستبداد هو أس الفساد يصبح الفساد هو الهدف الذى ينصب اليه تفكيكنا؟

: تفكيك الفساد -
كيف نفكك الفساد ؟ وهل هذا ممكن ؟
نعم ... يمكن تفكيك الفساد بفضحه على الملأ بلا خوف ولا حسابات ضيقة ، الفساد الذى يتجاوز السرقة ، سرقة المال العام ، والنهب باسم الاستثمار ، و الفساد الذى يتجاوز المحسوبية ويعلى من شأن القرابة على حساب الكفاءة .. هذا الفساد الذى يتجاوز أشكاله التقليدية تلك ويصبح قتلاً فى الطريق العام : شباب ينتحر لأنه لايجد عملا ، أو لأنه حرم من فرصة العمل بسبب تواضع نسبه ، إنتخابات تدار بالرشوة والبلطجة وخراب الذمم وتخريبها ، قضاة يعتدى عليهم ويداسون بأجهزة الأمن لأنهم صدقوا أنهم مسؤولون عن ضمان النزاهة ، وأخيرا قتل المثقفين والمعارضين وأصحاب الرأى .

لا مكان للعقل ولا مساحة للتفكير الحر ، والمجد للمتمجدين المبررين .. حملة المباخر ورافعى رايات الاصلاح والتنوير الذى لايجب أن يتناقض مع التقاليد أو يخترق أسوار التراث أو يخلخل الثوابت تلك التى يصوغها المتمجدون أنفسهم ويقفون حراساً وسدنة لها .

هؤلاء المتمجدون هم المسؤولون عن فساد العقل لأنهم حولوا العقل عن وظيفته النقدية التى تخترق ظلمات التقاليد والتراث لتؤسس قيم المستقبل من خلال تفاعل خلاق مع الماضى ، وحصروا دوره فى تبرير الوضع الراهن وتجميل قبحه ، هؤلاء المتمجدون حصروا التعليم فى التلقى والتكرار وحاربوا الابداع والقفز فوق أسوار التقليد ، حين أراد المستبد أن يؤمم العقل هللوا له ، منذ حاولت الدولة العباسية أن تضم قوة السلطة السياسية الى سلطة الفكر فى قبضتها منذ عصر المأمون ففشلت لكنها نجحت فى عصر المتوكل . ففى العصر الحديث تم فى مصر تأميم الازهر باسم " الاصلاح " فى الستينات ، وفى الخمسينات كان قد تم تأميم الجامعة باسم " التطهير " ، وكانت تلك بدايات فقدان الاستقلال ، وفى السبعينات تمت عسكرة الجامعة ، وفى التسعينات تمت عملية تسييس الجامعة باستيلاء الحزب الوطنى تدريجياً عليها .
فى الوقت الذى يعلن المسؤولون فيه أنه لاسياسة فى الجامعة بمعنى أنه لايصح قيام فروع للأحزاب السياسية فى الجامعة ، يقوم حزب واحد - غير شرعى - فى تقديرى لأنه ولد فى أحضان الادارة من غير سند قاعدى ، بالاستيلاء على الجامعة من أعلى وبعملية الاختراق تلك تسلل الاستبداد وتسلل فى عباءته الفساد
والمضحك فى مصر - وكم ذا بمصر من المضحكات - أن هذا الحزب الغير شرعى يعتبر نفسه مقياس الشرعية فتمتلئ أجهزة اعلامه بأبواق تندد بقوى سياسية أخرى وتصفها بعدم الشرعية ، هى قوى سياسية قد نختلف معها ، لكن حضورها فى أرض الواقع أمر لايمكن إنكاره .
فى جامعة يسيطر عليها حزب سياسى ، أكرر غير شرعى ، سلطوى يشرع لها ويسيطر عليها بجهازه الامنى ، هل يمكن الحديث عن البحث العلمى فضلاً عن حريته ؟

كيف يمكن للخائف أن يمارس حرية ما ؟ الأمن يحاصر الجامعة من أبوابها الى قرارات تعيين المعيدين وأعضاء هيئة التدريس فضلاً عن المناصب الادارية من وكيل الكلية الى رئيس الجامعة .
هناك دائما التبرير الجاهز : الأمن والخوف من الارهاب ، فى مجتمع خائف ومؤسسات هاجسها الأمن لا يترعرع فكر ، ويصبح الحديث عن الحرية حديث وهم وخرافة .
المشكلة فى الاستبداد وقرينه الفساد أنه يجد من يبرر له من بين ضحاياه أولئك الذين فسد عقلهم وفسد دينهم واستبدلوا بالمجد المتمجد .
لا بديل الا بفتح الأبواب والنوافذ ليخترق الهواء النقى بؤر الفساد فيتحلل الاستبداد .

هذا واجب المثقفين الذين كفوا عن الهتاف وفهموا أن الأوطان لا يمكن أن تحيا بموتنا .. انهم أولئك المهددون بالقتل و التفجير ، الذين يجب أن يتكاتفوا ضد الفساد بفضحه فى كل صوره وأن يتصدوا للاستبداد بكل تجلياته مهما صغرت ، علينا أن نناضل جميعاً من أجل جامعة مستقلة مفتوحة الأبواب حتى تستعيد الجامعة قدرتها على التواصل مع المجتمع ولا تصبح مثلما هى الآن مدرسة مسورة . نريد أزهر مستقلاً يستعيد عافيته التى فقدها فى خدمة الأنظمة.
الأزهر المستقل كفيل أن يعيد للدين عافيته التى فقدها فى أتون السياسة .
ان التصدى للاستبداد والفساد المحليين فى المجتمعات العربية فى الاعلام و التعليم لايجب أن ينسينا أن الحرب ضد الفساد والاستبداد المحلى جزء من حرب ضد الفساد والاستبداد الكوكبى الذى يجد فى قضيتى الارهاب والأمن مبرراً له ، كذلك علينا أن نتحالف مع القوى المناهضة للفساد فى العالم .,
فالارهاب ليس فى التحليل النهائى سوى فرخ من أفراخ الفساد .. من الخطأ أن ننسى أسباب المرض وننشغل فقط بمعالجة الأعراض .

واسمحوا لى فى النهاية أن اشكر الجمعية الفلسفية المصرية التى جعلت مفهوم الحرية محور مؤتمرها السنوى هذا العام وفى مؤتمرها السنوى العام الماضى - والذى كان لى شرف المشاركة فيه كذلك - كان المحور هو المقاومة ، من هنا حاولت أن أربط بين المحورين .. فالمقاومة هى أعلى مستويات الفعل الحر .

دون الحرية لامقاومة ، ودون مقاومة الاستبداد والفساد لاحرية .

من هذا المنبر - منبر المقاومة من أجل الحرية ، ومنبر الحرية التى تستحيل من دونها المقاومة - اسمحوا لى أن احيى الأمجاد - وليس المتمجدين- أعضاء " جماعة العمل من أجل استقلال الجامعة ( 9 مارس ) النشيطين فى التصدى للفساد داخل الجامعة وخارجها " إنها الحركة التى تنطلق من الدلالة الرمزية ليوم إستقالة " أحمد لطفى السيد " رئيس الجامعة إحتجاجا على قرار نقل " طه حسين " من عمله بالجامعة الى وزارة المعارف العمومية عام 1932
لقد تصدت الجماعة ولاتزال لكل قرارات الاستبداد فى الجامعات المصرية وتصدت ولاتزال لكل مظاهر الفساد .

وفى رأيى أن هذا هو السبيل : التصدى بلاخوف والمواجهة دون ممالأة .

إذا لم يحدث ذلك فى الجامعة ويبدأ منها فلا خلاص للمجتمع ، لتعد الجامعة بفضل تلك الجهود وغيرها الى دورها الرائد فى إصلاح المجتمع وتنوير عقله ، بدل أن تكون مجرد متلق لأوامر إدارية عسكرية ، تفترض فى عضو هيئة التدريس أنه جندى فى كتيبة عسكرية .

إن المفكر - وعنوانه أستاذ الجامعة- حارس قيم ، لا###### حراسة .


نصر حامد ابوزيد

Post: #4
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: Amjed
Date: 07-06-2010, 01:49 AM
Parent: #3

العقلانية العوراء والليبرالية العرجاء

بقلم د.نصر حامد أبو زيد ٣٠/ ٧/ ٢٠٠٦
لا يستطيع الإنسان أن يظل صامتاً إزاء خطاب الليبراليين «العقلاء» في تحليل ما يحدث مما تقوم به إسرائيل من تدمير وقتل وتخريب وهدم لمجتمع كامل اسمه «لبنان»، كان في وقت من الأوقات قبلة هؤلاء الليبراليين ومرتعاً لممارسة أهوائهم العقلية، حين كان لبنان بحق «هايد بارك العرب». هؤلاء العقلانيون لا يرون، أو بالأحري لا يريدون أن يروا، إلا «جريمة حزب الله» الذي مارس حقه الطبيعي باختطاف جنود إسرائيليين من أجل مبادلة الأسري اللبنانيين الذين طال مكوثهم في سجون إسرائيل، رغم انسحابها الإجباري من أرض لبنان عام ٢٠٠٠. وهؤلاء العقلانيون أنفسم أصابهم «هَوَس» جماعي حين قرر الإخوان المسلمون - في مصر والأردن وغيرهما من بلاد العرب - أن يتحولوا إلي حزب سياسي ويخوضوا لعبة «الديمقراطية» بحسب قواعدها المتاحة في ظل القوانين الاستثنائية وتقييد الحريات وحالة الطوارئ. تحول الهوس إلي «عصاب» بحصول الإخوان علي ٨٨ مقعداً في المجلس، رغم البلطجة والتزوير... إلخ.


في فلسطين المحتلة قررت «حماس» الانضمام إلي طابور «الديمقراطيين»، فحصدت أغلبية أصوات الفلسطينيين، ومرة أخري أصابت لعنة «الهوس العصابي» جموع الليبراليين العقلانيين، فما هكذا تكون الديمقراطية، وما هكذا يجب أن تكون. الليبراليون العقلانيون في بلادنا يريدون الديمقراطية «التفصيل»، أو بالأحري يريدون «ديمقراطية» تأتي بهم إلي السلطة دون أن يتجشموا عناء النزول إلي مستوي «العامة» أو «الرعاع» - أو بلغة أرقي «رجل الشارع» - والاختلاط بهم وتفهم أوضاعهم، والوصول إلي مكوناتهم الذهنية والثقافية والتعامل معها.


الليبرالي العقلاني العربي ابن البرجوازية التي تحتضر، أو التي ماتت، يحاول أن يتسلق سلم «العولمة» الاقتصادي والثقافي، فيتبرأ من تاريخه الحديث كله: حركة عُرابي كانت حركة شعبوية أدت إلي احتلال مصر، كانت الناصرية مغامرة أدت إلي الهزيمة، حزب الله يعيد حكم آيات الله ويخدم المصالح الإيرانية، ويورط لبنان في مستنقع الدمار، وحماس سببت الجوع والدمار للشعب الفلسطيني.
في هذا الخطاب العقلاني الليبرالي الذي يتبرأ من تاريخه ويغسل يديه من عار «المقاومة» - أي مقاومة - تتمتع أمريكا وإسرائيل بالبراءة الكاملة: من حقهما الدفاع عن مصالحهما وعن أمنهما، من حقهما محاربة الإرهاب الذي يهدد الحرث والنسل، ولا يؤدي إلا إلي الخراب.


ولأنني عقلاني ومن دُعاة العقلانية، ولأنني ليبرالي كذلك، أؤمن بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لأنني كذلك منذ نعومة أظفاري أجدني غير قادر علي الصمت إزاء هذا التزييف المتعمد لقيم العقلانية والليبرالية. إن أهم سمات المفكر العقلاني الليبرالي التمتع بحاسة نقدية مرهفة، تجعله قادراً علي نقد نفسه ومراجعة مقولاته. من هنا قد لا أعترض علي النقد الحقيقي لتاريخنا ولثقافتنا وأوضاعنا، بل إنني أجد هذا النقد ضرورياً وجوهرياً وحيوياً لتحقيق التقدم. لكن لا أستطيع أن أتقبل النقد «الأعور» الناظر بعين واحدة إلي الحقائق: الخطأ هنا دائماً والحق هناك دائماً. ليس هذا نقداً، بل هو التزييف، لأنه يتبني دون نقد أيديولوجية الآخر.


يؤسفني أيها العقلانيون الليبراليون الذين ينظرون بعين واحدة، فيتمتعون بحاسة نقدية مفرطة تجاه الأنا، وعمي كامل تجاه الآخر، أن أعلن تبرؤي منكم ومن مواقفكم. ليست المقاومة مغامرة، بل هي الخيار الوحيد المتاح الآن أمام شعوبنا بعد أن انكشف وجه الدولة العربية الحديثة عن «تبعية مطلقة» ضد مصالح الناس. لم يفجعني موقف الأنظمة العربية قاطبة - والنظام المصري خاصة - ولم يفجعني موقف الغرب كله وراء أمريكا - إمبراطورية العالم الحديث - ولا يزعجني الجدل الداخلي بين أبناء لبنان، الذي تكاتف كل مثقفيه وكل سياسييه ضد العدوان رغم خلافاتهم. لكن يزعجني هؤلاء السادرون في تحليلات تبريرية للدولة التابعة وللأنظمة العدوانية باسم العقلانية والليبرالية.


أنتم ضد «حماس» وضد «حزب الله» وضد «الإخوان المسلمين»، بسبب أيديولوجياتهم الدينية، وتخشون أن يؤدي نمو قوتهم إلي إنشاء دول دينية، لكنكم تتجاهلون الوجود الفعلي لدولة ليست دينية فقط بل عنصرية لأنها دولة لليهود «فقط». في هذا الخوف العصابي من الداخل الديني الإسلامي، والاطمئنان المذهل في نفس الوقت لوجود سياسي ديني اسمه «إسرائيل»، تكشفون أن ليبراليتكم وعقلانيتكم ليست زائفة فقط، بل هي عقلانية تخريبية. إنها العقلانية الأمريكية، حيث تكون الفكرة صحيحة بقدر ما هي نافعة. أيها السادة أنتم خائفون من «الإسلام» وليس من الإسلاموية السياسية. وأنتم غير قادرين علي إدراك أن الخيار الإسلاموي للشعوب هو خيار المضطر، لا خيار الأحرار. اختار الفلسطينيون «حماس» من موقف اليأس من «أوسلو» التي ماتت ولا يريد أحد أن يعلن موتها، ومحاولة للتصدي للفساد المذهل للسلطة الفلسطينية مالياً وإدارياً وسياسياً. هذا هو اختيار المضطر - حسب تحليل الأستاذ هيكل في حوار بقناة «الجزيرة» منذ عدة أسابيع.


في مصر كما في غيرها من بلاد العرب، هل كان اختيار مرشحي الإخوان إلا محاولة للخروج من فساد النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟ ماذا تبقي للمصريين من خيار؟ هذا ما يجب أن نتفهمه بالتحليل دون أن نصاب بالذُعر والعصاب. الإخوان فصيل سياسي مصري يجب التحاور معه، ويجب مساعدة قياداته الفكرية - أعني الفكرية لا السياسية فقط - بالحوار البناء علي تطوير فكرهم. معني الإسلام ليس حكراً علي أحد، لكن الليبراليين العقلانيين سلموا ضمناً بأن معني الإسلام مِلْكٌ للإخوان وحدهم، وأنهم في سبيل محاربة هذا المعني يسعون للقضاء علي الإخوان وعلي الإسلام ذاته إن أمكن. مرة أخري هم أقل ذكاء من سدنتهم في البيت الأبيض، الذين يسعون لتأكيد أنهم ليسوا ضد الإسلام ذاته، بل هم ضد الإرهاب باسم الإسلام. صحيح أنهم يصنفون كل أشكال المقاومة داخل «الإرهاب»، لكنهم يسعون أيضاً لمناصرة المعني الديني الذي يتفق معهم.


ماذا عن «حزب الله»؟ هذا تنظيم نشأ في رحم المقاومة وتغذي بلبانها، ولم يصوب بندقيته أبداً ضد لبناني أو عربي، بل وتحاشي طوال تاريخه في المقاومة أن يمس المدنيين الإسرائيليين. الحرب الأخيرة دفعته دفعاً لتغيير هذا الموقف العقلاني/الأخلاقي، لأن إسرائيل لا تُحارب من أجل استعادة الأسري، بل تُدمر وطناً بأكمله، وطناً يمثل بتعدديته الطائفية المتعايشة نقيض الوجود الصهيوني. من هُنا محاولات إسرائيل المتعددة لتفكيك هذا الكيان في دويلات طائفية. يزعم الكاتب أنه متخصص في «تحليل الخطاب»، وخطاب حزب الله في إطار الحرب الدائرة ليس طائفياً ولا دينياً في جوهره، بل هو خطاب تحرري وطني، خطاب عقلاني اسمه «المقاومة».


عقلانية الخطاب أيها السادة لا تعني اجتثاثه من جذوره الوطنية، ولا تعني تنكره للقيم الإيجابية في تُراثه الثقافي، بل ولا تعني استبعاد «العواطف» من أفق العقلانية. عقلانيتكم وضعية تجريدية تتصور الحسابات العقلية حسابات رياضية. في هذه الحسابات الرياضية تصبح المصالح الضيقة - الشخصية - هي معيار صواب «الأفكار». إنكم خائفون من فقدان مواقع هشة، ومن فقدان مُتَعٍ شخصية، أما مستقبل الأوطان فلا معني له عندكم. ألا ساءت عقلانياتكم ،وسحقاً لليبراليتكم، والنصر للمقاومة.



Post: #5
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: Amjed
Date: 07-06-2010, 01:58 AM
Parent: #4

الفكر الديني المعاصر(4) الفزع من العلمانية فصل الدين عن الدولة

الفزع من العلمانية: فصل الدين عن الدولة
الثلاثاء 27 أبريل 2010
بقلم: نصر حامد أبو زيد

سيقول لنا فلاسفة الفكر الإسلاميّ إنّ أوروبا احتاجت الإصلاح الديني بسبب “الكنيسة”، المرض الذي لا وجود له في حضارتنا. وهنا بالضبط يكمن الخطأ، فلدينا كنائس لا كنيسة واحدة، إذا كان معنى الكنيسة وجود سلطة، أو سلطات، تحتكر المعنى الديني، وتكفّر كلّ من يخالف هذا المعنى. لدينا وفرة وافرة من هذه السلطات، التي تحتكر، إلى جانب المعنى الديني، المعنى الاجتماعي والمعنى الثقافي والمعني السياسي، بالإضافة إلى المعاني الأخلاقية والروحية، وكلّها معان يتمّ احتواؤها داخل المعنى الديني، الذي تنتجه هذه السلطات.

مشكلة الخطاب الديني أنه يلعب على أوتار “الخصوصية”، وكأننا بدع بين البشر، ما أصلح العالم لا يصلح لنا، دون أن يدقّق المخدوعون بمفهوم “الخصوصية”- المطروح في الخطاب الديني – ليدركوا أنها خصوصية فقيرة جدّا ومغلقة؛ لأنها تختصر هوية الإنسان في بعد واحد من الأبعاد العديدة، وهو بعد “الدين”.

ليست المشكلة أنّ هناك جماعات تحتكر الإسلام، وتنسب نفسها – وحدها – إليه. هذه إحدى تجلّيات المشكلة وليست كلّ تجلياتها. لو كان الأمر مجرد انضمام لجماعة، تزعم أنها “إسلامية” على سبيل الاحتكار لهان الأمر، خاصة إذا كان المجتمع، خارج الجماعة، واعيا بأنها مجرّد جماعة. بداية المشكلة كانت في مصر 1928، حيث نشأت “جماعة الإخوان المسلمين”، وجدت “جماعة أنصار السنّة المحمدية”، وجماعات وتجمّعات كثيرة لها أسماء أخرى، ولم تكن الدولة تتبنّى زعم أيّ واحدة من هذه الجماعات. كانت هذه إرهاصات “المجتمع المدني” في مصر شبه الليبرالية، حيث تحمي الدولة حقّ الناس في التجمّع وتنظيم تجمّعاتهم في شكل قانونيّ، سواء في شكل نادٍ، أو نقابة، أو حزب، أو جمعية خيرية، أو دينية: إسلامية أو مسيحية أو يهودية.
الكارثة الآن أنّ الدولة، بنظامها السياسيّ الديكتاتوريّ القمعيّ، تتبنّى نفس النهج؛ فتزعم أنها دولة إسلامية، وتحرص في صياغة قوانينها على الحصول على موافقة المؤسسة الدينية. بل وتتبنّى في نظامها الاقتصادي مفاهيم “الاقتصاد الإسلامي”، الذي يحتلّ ركنا خاصا داخل كلّ البنوك. وصار هناك الزيّ الإسلامي، والشعار الإسلامي، والبرامج الإسلامية، في الإذاعة والتليفزيون، وصار بعض الناس يحملون لقب “المفكّر الإسلامي”. الخطر هنا في هذه الأسلمة، التي لا هدف وراءها سوى سحب بساط احتكار الإسلام من تحت أقدام المعارضة. يمكن القول باختصار أنّ النظام السياسيّ يسجن نفسه في خندق المعارضة الإسلامية، وهو يظنّ أنّه يحاربها. لقد انتصرت بأسلمة المجتمع والدولة، دون الوصول إلى السلطة. وهذا يفسّر حالة التراوح في تقديم برنامج سياسي لخوض الانتخابات من جانب المعارضات الإسلامية. إنّ شعار “الإسلام هو الحلّ” كاف ما دام النظام السياسي يحوّل الشعار إلى سياسة.

المعضلة، في هذا الوضع، ليست فقط معضلة المسلم الذي لا يريد أن ينتمي لهذه الأسلمة الإكراهية، بل المعضلة الأكثر تعقيدا معضلة غير المسلم الذي يعيش بالإكراه والإرهاب بقوّة القانون المتأسلم في مجتمع، لا يأبه به، ولا يعير دينه أيّ قيمة، إلا بطرف اللسان والبلاغة اللفظية. وضع المرأة أنكى وأنكى، ووضع الفكر والمفكّرين، والإبداع والمبدعين لا يحتاج لمزيد من الإيضاح.

إنّها “العلمانية” – التي تفصل بين الدولة ونظامها السياسي وبين الدين – هي وحدها التي يمكن أن تفتح آفاقا للحرية والعقلانية وتعدّد المعاني. الدين شأن المتديّنين، ومهمّة الدولة أن تضمن حرية الجميع، وتحمي البعض من البغي على البعض باسم الدين أو باسم هذا المعنى أو ذاك لدين بعينه. لكنّ العلمانية لا يمكن أن تتأسّس دون الإصلاح الديني، إصلاح لم يتحقّق بعد عندنا، بل تحقّق في أوروبا القرن السادس عشر. لم تحدث عندنا ثورة فلسفية كالتي أحدثها فلاسفة أوروبا، تلك الثورة التي على أساسها تحقّقت الثورة الاجتماعية والسياسية التي أرست مفهوم “المواطن”، وأحلّته محلّ مفهوم “الرعية”، المفهوم الحاكم في مجتمعاتنا، رغم بلاغة الدساتير في تأكيد “المواطنة”. بعد تحرّر الإنسان من نير الطغيان السياسي، ونير التصوّر الكنسي للعالم، بفضل كلّ ما سبق – الإصلاح الديني وثورة الفكر الفلسفي والعلمانية – تحققت الثورة العلمية.

كلّ شيء ولد في مجتمعاتنا مختنقا، بسبب أنّ “الحداثة” الوافدة تمّ تمزيقها أشلاء في الوعي التحديثي – ولا أقول الحداثي – فتمّ تقبّل الشلو التقني فقط، وتمّ رفض الأساس العلمي للتقنية، بكل مكوّناته من عقلانية وعلمانية … الخ. تمّ تقبّل الديمقراطية، بدون أساسها وهو حرية الفرد، تمّ تقبّل الاقتصاد الحرّ، بدون أساسه من حرية الفكر. لم يحدث الفصل بين السلطات، ولا كان ممكنا أن يحدث، لارتباط مفهوم السلطة بمفاهيم قروسطية مثل “الراعي” و”الحامي” و”الزعيم الملهم” و”الرئيس المؤمن” و”أمير المؤمنين”

هناك الآن أهمية قصوى لفصل الدين عن الدولة، إذا نظرت حولك ستجد النتائج المأساوية لهذا الزواج الكاثوليكي المحرّم بين الدولة والدين في عالمنا العربي. الدين لا تستخدمه الجماعات الراديكالية أو الإسلاميون فقط، إنما تستخدمه الدولة، وهذا أمر يعود تاريخه إلى النصف الثاني من القرن العشرين، في العالم العربي كله والعالم الإسلامي كله.

فصل الدين عن الدولة غير فصل الدين عن المجتمع، لا يستطيع أحد أن يفصل الدين عن المجتمع، الدين تاريخيا مكوّن اجتماعي، وليس مجرّد مكوّن شخصيّ أو فرديّ. قد يبدأ الدين كذلك، أي يبدأ تجربة شخصية فردية، وقد يظلّ كذلك في بعض التجارب. لكنّ بعض التجارب الدينية الشخصية الفردية يتمّ تحويلها إلى تجربة مشتركة تخلق جماعة، تصبح مجتمعا ثمّ تتطوّر إلى “أمّة”. في هذه الحالة الأخيرة يصبح الدين قوّة وشيئا لا يمكن انتزاعه من المجتمع.

الدولة ليست المجتمع، بل هي الجهاز الإداري والسياسي والقانوني الذي ينظم الحياة داخل المجتمع. وإذا كان الدين قوة اجتماعية، فهو أيضا ليس المجتمع؛ إذا المجتمع جماعات وأديان. ومن حقّ هذه المجتمعات على الدولة أن تحمي بعض الجماعات من الافتئات على حقّ الجماعات الأخرى. من هنا فدور الدولة كجهاز منظّم لسير الحياة في المجتمع – المتعدّد الأديان بطبيعته – يجب أن يكون محايدا، بأن لا يكون للدولة دين تتبنّاه وتدافع عنه وتحميه. إنّ دورها حماية الناس لا حماية العقائد.

لم يحدث في التاريخ كله – رغم كلّ الادعاءات الأوهام – مثل هذا الفصل بين الدين والمجتمعات. الدولة ليس لها دين، ولا يصحّ أن يكون لها دين. “دين الدولة الإسلام”، عبارة يجب أن تكون مضحكة؛ فالدولة لا تذهب إلى الجامع ولا تصلي، والدولة لا تذهب إلى الحجّ، ولا تصوم، ولا تدفع الزكاة. الدولة ممثلة في النظام السياسي مسؤولة عن المجتمع بكل أطيافه بما فيها الأديان. معظم الدول العربية والإسلامية موزاييك من الأديان. وهذا يعني أنّ الدولة التي لها دين تلغي حقوق المواطنين الذين لا ينتمون لهذا الدين، بل الأدهى من ذلك أن هذه الدولة تضطهد أبناء نفس الدين الذين يفهمون الدين بشكل يختلف عن المؤسسات الرسمية للدولة. هكذا تصبح مفاهيم مثل “المواطنة” و”المساواة” و”القانون” مفاهيم خاوية المعنى.

الحاجة الثانية: هي الدساتير، من العبث القول أن المواطنة هي أساس الانتماء، ويقال في نفس الدستور “الشريعة – أو مبادئ الشريعة – هي المصدر الرئيسي للتشريع”، هذا تناقض حدّيّ جدّا بين مادّتين في الدستور تلغي إحداهما الأخرى. يزداد الأمر تناقضا حين يحرِّم نفس الدستور في مادة أخرى قيام أحزاب على أساس ديني، لا اله إلا الله!!

الحزب الديني يقول نفس الكلام (الدستوري)، يقول “الإسلام دين الدولة والشريعة هي مصدر التشريع”، كيف تحرّم قيام حزب يتبنّى نفس القيم الدستورية التي يتبنّاها، ويدافع عنها بضراوة، الحزب الوطني الحاكم في مصر. إمّا أنّ الدستور “لعب عيال” أو أنّ الحزب الوطني حزب غير شرعيّ مثل الجماعة غير الشرعية إياها.

ماذا يعني أن يكون للدولة دين؟ وماذا يعني أن يتنازع المتنازعان – الحزب الوطني والجماعة “غير الشرعية” – على أحقية الحكم على أساس مرجعية “الشريعة”؟ هذا يعني ببساطة تهميش غير المسلمين في المجتمع، وانظر حولك وتأمّل حال الأقباط والبهائيين في مصر، وما حدث لغالبية الأقباط من اعتبار “الكنيسة” وطنهم. حدث أيضا باسم الشريعة تهميش دور المرأة في المؤسسات السياسية والتعليمية والإعلامية. لا يصرخنّ أحد في وجهي بأنّ ذلك غير صحيح، فأنا أعلم أنّ ثمّة ديكورات للتجمّل في عالم تضغط فيه المنظمات العالمية لحقوق الإنسان وحقوق المرأة على الأنظمة والأحزاب السياسية. الذي يعانيه المواطن المسلم غير المتفق مع الدولة في تفسيرها وتفسير مؤسساتها للدين أنكى وأمرّ؛ فهناك الاتهامات الجاهزة بالردّة والخروج على الثوابت، وهناك المطارادات البوليسية بالاعتقال، بل وصل الأمر مع من يسمّون أنفسهم “القرآنيين” أو “أهل القرآن” باضطهاد أهلهم وذويهم. كلّ هذا يجعل من ادّعاء “عدم وجود كنيسة في الإسلام” محض بلاغة لفظية فارغة من المعنى؛ فالكنيسة لم تفعل بمخالفيها في العصور الوسطى أكثر من ذلك.

في العقد الحالي – العقد الأوّل من القرن الواحد العشرين والذي يوشك على النهاية – صارت الدولة أكثر راديكالية في تحديد دينها وفي ملاحقة خصومها، وإن لم تنصّ على ذلك في دساتير أو قوانين. صارت الدولة ذات الأغلبية السنّية تضطهد الشيعة، والعكس صحيح، وتزايد الاحتقان بفعل الخطابات الإعلامية غير المسئولة، فتمّ تصنيف البشر داخل الدين الواحد إلى طوائف تكفّر كلّ منها الأخرى. العراق حالة محزنة بحكم تاريخه الطويل في العيش المشترك والتزاوج والمشاركة الكاملة في الوطن. في لبنان – هايد بارك العرب – صار التأزّم الطائفي بيّنا في الواجهة السياسية. كلّ هذا يرشح حلا وحيدا: أن تتخلّى الدولة عن امتلاك الدين. الدولة لا دين لها. تحكي قصة لجنة إعداد دستور 1923 في مصر أنّ أعضاء اللجنة تردّدوا في مسألة هذه المادة التي تنص أنّ “دين الدولة الإسلام”، هل هي ضرورية أم يمكن الاستغناء عنها. والغريب في القصة أنّ أعضاء اللجنة الأقباط عبّروا بوضوح عن رأيهم بأنّه “لا ضرر” من النص على ذلك في الدستور. وقد كان، علّق طه حسين فيما بعد “وقد وجدنا فيها الضرر كلّ الضرر”. المعنى هنا أنّ التجربة كشفت عن ضررها. وفي تقديري أنّ أعضاء اللجنة الأقباط مغمورين بمناخ شعارات ثورة 1919 “الدين لله والوطن للجميع” أرادوا أن يعبروا لإخوانهم المسلمين عن ثقتهم وفخرهم بالانتماء للفضاء الثقافي العربي الإسلامي. أمّا وقد ظهر الضرر، فعلى المسلمين أن يردّوا الدين ويسترجعوا ثقة إخوانهم الأقباط بإلغاء هذه المادة من الدستور، فهل هم فاعلون؟!

Post: #6
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: Amjed
Date: 07-06-2010, 02:02 AM
Parent: #5


الفن وخطاب التحريم
نصر حامد ابو زيد




يمكن الاستماع او تنزيل تسجيل المحاضرة بالضغط على الوصلة التالية
http://www.4shared.com/file/46514583/3b48fb8/full_lecture.html[/green]

أشكركم لتحمل مشقة المجيء. هذا تكريم يفوق أي تكريم: أن تحرصوا على المجيئ رغم كل مشكلات التنقل في القاهرة. شكرا لمؤسسة المورد على هذه الدعوة الكريمة لإلقاء هذه المحاضرة في كل من بيروت والقاهرة في إطار احتفالاتها الثقافية والفنية بالربيع هذا العام. وبهذه الدعوة مكنتني من اللقاء بكم، وهو لقاء كم تمنيته منذ سنوات طويلة. اليوم تتحقق الأمنية العزيزة ويتم اللقاء بعد طول فراق. وشكرا للجامعة الأمريكية لاستضافة المحاضرة اليوم في القاهرة. وتقدير خاص للأخت العزيزة الأستاذ فريال غزول على هذا التقديم.
ألقيت هذه المحاضرة منذ يومين في مسرح “دوار الشمس” في بيروت، ومن حسن الحظ أنه لا يوجد نص مكتوب للمحاضرة، من ثم أحس بالراحة لإمكانية التواصل المباشر معكم كما حدث مع الحضور في محاضرة بيروت. وهذا خير من “دفس” الوجه في الورقة وقراءة نص معد سلفا. الآن موعد كتابة النص، وفي هذا النص المكتوب سأحاول أن أدمج “الحوار” الذي تلى المحاضرتين في هذا النص الذي أكتبه. بهذا يعتبر هذا النص المكتوب نصا حواريا لا أمتلكه وحدي، بل هو نص كل الذين شاركوا بالحوار وطرح التساؤلات بل والاعتراضات.




تقديم:

خطاب التحريم لا يقتصر على الخطاب الديني، وإن كان هذا الخطاب الديني هو الأبرز حضورا والأعلى صوتا بحكم مركزية “الدين” في أفق الحياة العامة في مجتمعاتنا. هناك خطاب التحريم السياسي، وخطاب التحريم الاجتماعي، وخطاب التحريم الثقافي، هذا فضلا عن خطاب التحريم الأكاديمي. الخطاب الديني جزء من الخطاب الثقافي العام في أي مجتمع، يزدهر الخطاب الديني بازدهار الخطاب العام، ويكون منفتحا وتحرريا وإنسانيا بقدر ما يكون الخطاب الثقافي العام كذلك. وحين يختنق الخطاب العام ويسوده التعصب وتحكمه معايير اللاعقلانية والتمترس خلف هوية تعادي الآخر وتكره الاختلاف يصاب الخطاب الديني بذات الداء: التعصب، واللاعقلانية وتحكم معاييرالهوية الجامدة، وكراهية الاختلاف.
في هذا القول نوع من التعميم بالفعل، إذ لا يفتقد الإنسان بعض البؤر المضيئة في كل الخطابات رغم سيادة خطاب الاختناق المشار إليه وهيمنته على المجال العام. لكن هذه البؤر المضيئة تمثل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها. الخطاب العربي بشكل عام، والمصري بشكل خاص، يعيش هذه الأزمة منذ فترة ليست بالقليلة. ومهمتنا يجب أن تركز على تحليل هذا الخطاب تحليلا نقديا بهدف كشف جذوره وتعريتها مستعينين بكل بؤر الضوء المتاحة بالتفاعل معها من أجل تقويتها.
نفهم أن يصاب الخطاب السياسي بالفزع من المظاهرات، ومن تعبير الناس بطريقة سلمية عن متاعبهم ومعاناتهم بسبب الظروف المعيشية القاسية التي وصلت بالناس إلى حد معاناة الجوع لا مجرد الفقر. ونفهم تبريرات الخطاب السياسي لعجزه عن ضمان الحد الأدني لتوفير الحاجات الأساسية للمواطنين بأسعار في متناول دخولهم بالاستناد إلى ارتفاع الأسعار في العالم كله. هذا كله مفهوم وإن كان غير مقبول لأنه غير مقنع، لكن من غير المفهوم ولا المتوقع أن يصدر بعض ممثلي الخطاب الديني فتوى بتحريم المظاهرات تحريما دينيا. هنا يتحول التجريم السياسي إلى خطيئة دينية. على أي نص ديني يستند خطاب التحريم هذا؟ والأدهى من ذلك أن يفتي البعض أن التدخل في تحديد الأسعار غير جائز دينيا، لأن الرسول عليه السلام لم يتدخل أبدا في تحديد الأسعار في السوق!!!! وهنا لا بد من وضع آلاف من علامات التعجب لهذه القفزة من القرن السابع إلى القرن الواحد والعشرين. ويصبح السؤال مشروعا: مثل هذا الخطاب لمن يتوجه، من يحمي ومن يخنق؟ أهو يحمي أهل الحل والعقد من غضب الناس، أم يحمي مصالح ممثليه مع أهل الحل والعقد أولئك. وأعتذر عن استخدام هذه المصطلحات البالية مثل “أهل الحل والعقد” لكن تلك هي اللغة التي تناسب مقام من يتصدى للفتوى هذه الأيام.


الفن حرية: الفزع من الحرية:

السؤال الآن: لماذا يسبب الفن فزعا لخطاب التحريم، فيحاول محاصرته ومصادرته؟ الفن هو المجال الأخصب لممارسة الحرية، وحين تصبح المجتمعات فزعة من الحرية، يكون الفن ضحية هذا الفزع. الفن هو ممارسة أقصى مستويات الحرية، يمارس الإنسان في الفن أقصى درجات التحرر, يتحرر من قيود الجسد في الرقص، من قيود الرتابة فيالموسيقى، من قيود المادة في الفن التشكيلي، ومن قيود اللغة التداولية في الشعر والأدب. في الفن تتحقق إنسانية الإنسان في علاقته بالكون، حيث يستعيد الفن الإنسان من غربته التي فرضتها الثقافة بمفاهيمها وأعرافها ومؤسساتها وقيمها، فيالفن وحده يتحرر الإنسان ليعيد بناء عالمه ويطور ثقافته. من أجل هذه الحرية المبدعة التي لا توجد إلا في الفن يكره المتشددون الفن على اختلاف طوائفهم سياسيا واجتماعياً وأخلاقيا ويمارسون ضد الفن والفنانين كل ضروب الاضطهاد، وفي أحسن الأحوال يضعون في طريقه الأشواك والمحاذير.
كان النحاة واللغويون يتتبعون دائما الشعراء فيما اعتبروه أخطاء، ذلك أن النحاة واللغويين يتحولون أحيانا إلى حراس للقواعد التي استنبطوها من استقرائهم للغة الكلام والتواصل، اللغة العادية. في لغة الشعر كسر لقواعد هذه اللغة العادية من أجل تجاوز إطارها المعرفي إلى آفاق جمالية ومعرفية تتأبى قدرة تلك اللغة العادية على حملها. لا تنكسر قواعد اللغة فقط على مستوى النحو وقواعده المعيارية، بل يخترق الشعر إمكانياتها الدلالية والتعبيرية بتوليد معان لا يمكن أن تتحقق إلا باختراق الدلالة المعيارية عن طريق الاستعارة والكناية والتشبيه، هذا فضلا عن البناء السردي في القصيدة. من القصص الدالة أن لغويا اسمه “عبد الله بن اسحاق الحضرمي” بلغ من كثرة تتبعه للشعراء وذمهم أن هجاه أحدهم بقوله:


ولو أن “عبد الله” مولى هجوته ولكن “عبد الله” مولى المواليا

فقال له “أخطات: علام نصبت “مواليا”؟ فكان رد الشاعر “على ما يسوؤك وينوءك”. ذلك أن النحو المعياري يرى أن الكلمة “عبد الله” مضاف إليه وأن حقها الجر؛ فيجب أن تكون الموالٍ بدل “المواليا”. ما لا يدركه النحوي، وربما لا يهتم به، أن هذا يكسر الوزن ويحطم الإيقاع، أي ينقل الكلام من مستوى الشعر إلى مستوى اللغة العادية. وهذا ما جعل الناقد العربي الكلاسيكي يقول: “الشعراء أمراء الكلام”، أو بعبارة أخرى الشعراء هم سدنة معبد اللغة وليس النحاة.
هناك دائما علاقة توتر بين المعياري والفني على كل المستويات. ومحاكمة الفن على أساس “المعيار”، سواء كان المعيار لغويا أو أخلاقيا أو فلسفيا أو دينيا، هو خلط للمعايير وخلط للحقائق: وهو خلط ضار بالفن. هذا هو أساس التحريم في كل الخطابات التي تسعى إلى تأبيد الواقع وتكره التغيير، أي تريد أن تجمد اللحظة التاريخية، السياسية الاجتماعية الثقافية الفكرية، وتجعلها “أبدية”. الفن سعي دائم للآفاق المجهولة بطريقته الخاصة، وهو بذلك يشارك الفكر والعلم في رحلة الاكتشاف التي لا نهاية لها ما دام الإنسان يكدح في هذه الأرض التي تسمى الطبيعة أو الكون. وإذا كان الفن في كسره للمعايير يؤسس معايير جديدة تتحول إلى “مدرسة” أو “مذهب”، فإنه هو نفسه – الفن- الذي يقوم بكسر هذه المعايير والقواعد فتتأسس مدرسة جديدة ومذهب جديد. هنا أيضا يتجاوب الفن مع التقدم الفكري والعلمي، حيث تنشا معرفة جديدة بنقد المعرفة السابقة، وتتطور المعرفة العلمية بنقد النظريات السابقة. الفن والفكر والعلم سيرورة دائمة تعتمد على “النقد”، ولهذا يرهب خطاب التحريم من “النقد” ويعادية في الفكر والعلم والفن على السواء. تاريخ اضطهاد المفكرين والعلماء والفنانين يشهد بذلك.
تحريم الفن في أي خطاب هو أحد تجليات الفزع من الحرية بشكل عام في الخطاب العام. يتجلى هذا الفزع في ظاهرة تتميز بها مجتمعاتنا عن سائر المجتمعات. حين يبدأ كلام عن “الحرية” يبدأ البحث عن “الضوابط”، و”الحدود” “والمعايير”. يحدث ذلك قبل أن تبدأ الممارسة، التي هي وحدها الكفيلة بخلق المعايير والضوابط عبر الحوار والنقاش. إن التفكير بالمعايير والضوابط والحدود قبل الممارسة هو بمثابة وضع العربة قبل الحصان، الأمر الكفيل بالتحرك إلى الوراء لا إلى الأمام. دعونا نبدأ ممارسة الحرية أولا ولاتقيدوها منذ البداية بقوانين محكومة بأفق الانسداد الذي نعيشه. إن ضوابط الدين والأخلاق والعرف والقيم ليست ضوابط مطلقة كما يتوهم ذوو النوايا الطيبة، بل هي ضوابط تتحكم فيها معايير السلطة وعلاقات القوة في المجتمع. وفي المجتمعات الشمولية تتحدد المعايير والضوابط وفق مفاهيم السلطة المسيطرة. وكل هذه الضوابط والمعايير المدعاة تستند إلى بنية تحتية عميقة فحواها أولا: أن الحقيقة واحدة لا تتغير في المجتمع وفي الثقافة وفي الفكر، إنها حقيقة مطلقة لا تاريخية.ثانيا: إن هذه السلطة التي تريد وضع الضوابط والمعايير هي وحدها التي تحتكر معرفة هذه الحقيقة. إنه مفهوم “الحاكمية” الديني يتخلل الخطاب العام وإن تم التعبير عنه بمصطلحات أخرى مثل “الثوابت الاجتماعية” و”الثوابت الأخلاقية”، و”الثوابت الدينية” … الخ.


فلسفة التحريم وسؤال الحقيقة:

طرح سؤال هام في كل من بيروت والقاهرة عن “تحريم” أفلاطون – وهو فيلسوف – للشعر ولماذا طرد الشعراء من الجمهورية وجعلها حكرا على الفلاسفة؟ والمشكلة الأفلاطونية تتمثل في مشكلة “الحقيقة”، حيث وضع أفلاطون الحقيقة في “عالم المثل”، واعتبر الواقع تشويها للحقيقة بما هو صورة انعكاسية لعالم المثل. وبما أن الشاعر يتخذ مادته الشعرية من الواقع، الذي هو صورة مشوهة للحقيقة، فالشعر يصبح تزييفا للحقيقة. فإذا أضفنا إلى ذلك أن أفلاطون اعتبر الشعر “تشويها ثانيا” للواقع المشوه أصلا، أدركنا أن الشعر – حسب أفلاطون – يشوه الحقيقة تشويها مركبا. إن الفلاسفة وحدهم هم القادرون على معرفة الحقيقة، فهم الأولى بالحكم من الشعراء.
هنا تكمن مشكلة أفلاطون، ومشكلة خطاب التحريم في كل العصور، وهي مشكلة عدم التمييز بين مستويات “الحقيقة” وتجلياتها المختلفة، فهناك “الحقيقة الفلسفية”، و”الحقيقة الاجتماعية”، و”الحقيقة السياسية”، و”الحقيقة الثقافية”، والحقيقة الدينية”، و”الحقيقة الفنية”. كل هذه الحقائق لا تتماثل وإن كانت تتقاطع وتتفاعل. مشكلة أفلاطون أنه جعل من “الحقيقة الفلسفية” معيارا – أكرر معيارا – للحكم على الشعر فطرد الشعراء من جمهوريته. لكن أرسطو انتبه للفارق بين الحقيقة الفلسفية والحقيقة الشعرية باكتشافه لوظيفة الشعر – الدراما والكوميديا على السواء – بأنها “التطهير” عن طريق إثارة الانفعالات. ليست مهمة الشعر أن يعكس الحقيقة الفلسفية التي يمكن التوصل إليها بالفكر، إنما يقوم الفن بوظيفة “التطهير” الإنساني، فيرى الإنسان عالمه بشكل أكثر براءة.


الفن والدين:

الحديث هنا عن الدين بشكل عام، أو بالأحرى الأديان، وعن الفن بشكل عام، أو بالأحرى الفنون. إن علاقة الفن بالدين علاقة عضوية يستحيل معها أن نحدد بشكل حاسم ما إذا كان الفن قد ولد في أحضان الدين، أم كان الدين هو الذي ولد في أحضان الفن. نعرف أن الإنسان البدائي، إنسان الكهف، كان يستعد للصيد بالرسم، رسم السهم يخترق أحشاء الصيد، طائرا كان أم حيوانا، وهو يتصور بذلك أن الانتصار الذي يحققه في الرسم سيتحقق حتما في الواقع. هذه قاعدة “الشبيه ينتج الشبيه” في التصورات البدائية للعالم. شيئ مثل هذا ما زال يمارس إلى اليوم في الطقوس السحرية لإزالة تأثير الحسد، حيث ترسم على ورقة صورة الشخص الذي يمكن أن يكون هو الحاسد ثم يتم تمزيق الصورة بالدبابيس ليزول أثر الحسد.
في المسيحية تمثل الصور والتماثيل (الأيقونات) إبرازا رمزيا للدلالات اللاهوتية، لكن المسيحيين لا يعبدون هذه الأيقونات كما يتوهم البعض. وفي القرن الثامن الميلادي، وربما بتأثير الإسلام ثار جدل لا هوتي حول تحريم وجود الصور في الكنائس لشبهة “الوثنية” فيها، وانتصر أنصار الصور في النهاية على محرِّميها. لكن الكنائس البروتستنية تحرِّم الصور كما هو معروف. هذا عن الصور والتصوير، فماذا عن صيغ الصلوات والأدعية والابتهالات في كل الأديان؟ تعتمد الصلوات والأدعية والابتهالات صيغا شعرية إيقاعية لا يمكن إنكارها في جميع الأديان والثقافات بلا تمييز ولا استثناء. والصلوات تكون مصحوبة بالعزف الموسيقي في الكنائس. أما في المساجد فصيغة الترتيل بإيقاعها صيغة شعرية بامتياز. ماذا عن “التماثيل”؟ ارتبطت معظم الأديان القديمة بعبادة أرواح الأسلاف (تبجييل واحترام يتطور إلى عبادة دينية) ولذلك يكون التمثال تمثيلا رمزيا لهذه الأرواح. وهذا ما يقوله محمد بن جرير الطبري شرحا لدخول الوثنية للحجاز، مع التحفظ على الدقة التاريخية في هذا الطرح. ورد في القرآن بالإضافة إلى جانب أسماء “اللات” والعُزَّى” و”مَنَاة”، (سورة النجم، رقم 53، الآيات 19-20) التي كان يعبدها العرب، ذكر لأسماء ألهة أخرى في سورة “نوح” هي “ودّ” و”سُوَاع” و”يَغوث” و”يَعوق” و”نَسْر”. يذكر الطبري في تفسيره المعروف أن المشركين كانوا يسمون:
“أوثانهم بأسماء الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه فقالوا من الله اللات ومن العزيز العُزَّى وزعموا أنهن بنات الله”،[1] ، ويقول عن الأسماء الأخرى “أنها كانت في الأصل أسماء أشخاص “صالحين من بني آدم وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم”.[2]
يبقى للكشف عن الصلة العضوية بين الدين والفن أن نشير إلى فن العمارة، كما يتجلى في بناء المعابد والكنائس والمساجد، في هذه الفخامة والجلال. كما يتجلى في الفضاء الداخلي بضوئه الناعم وضمان امتداد الصوت في كل الأرجاء، حرصا على وصول صوت الواعظ والقارئ إلى المصلين (قبل اختراع مكبرات الصوت، والتي ما تزال معظم الكنائس الكبرى في العالم لا تستخدمها). هذا بالإضافة إلى النقوش الملونه التي تزخرف زجاج النوافذ فتزيد الضوء نعومة. يكفي أن نذكر اسم “مايكل أنجلو” في عصر النهضة وما أضافته رسوماته ولوحاته من عمق للمعنى الديني بنقله من اللغة إلى اللون والصورة.
وباختصار يخترق الفن – بكل تجلياته اللغوية والتصويرية والموسيقية بالإضافة إلى النحت – الفضاء الديني، لدرجة لا يتصور معها دين بلا فن. إن التحريم الديني للفنون وُجِد دائما، لكنه ظل نقاشا لا هوتيا تجريديا، في حين ظلت الحياة الدينية في كل الثقافات تغتني بالتعبيرات الفنية والأدبية في ممارسة الشعائر وفي تقديم القرابين، في الاحتفالات. الإسلام، والحياة الدينية الإسلامية ليست استثناء من هذه العلاقة العضوية كما سنفصل من بعد.


الإسلام والفنون:

1-التصوير والنحت

إن كل خطابات التحريم تنطلق مما تتصوره تحريما للشعر فن القرآن الكريم. وسنناقش هذه القضية تفصيلا فيما بعد. يكفي هنا أن نقول أن “الشعر” كان فن القوم – قبل الإسلام – ولم يكن عندهم فن غيره. لم يكن التصوير أو النحت من الفنون المألوفة في الفضاء العربي آنذاك إلا ما علمنا من الصناعة البدائية للتماثيل/الأصنام. كان من الضروري تحطيم التماثيل/الأصنام لأن معركة الإسلام الأساسية كانت ضد الشرك المتمثل في الوثنية، ذلك أن العرب كانوا يؤمنون بالله “ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله”، لكنهم كانوا يشركون مع الله آلهة ثمثلها تلك التماثيل/الأصنام. توحيدية الإسلام ترفض رفضا قاطعا هذا “الإشراك”، من هنا الحرص على التحطيم.
هل هذا التحطيم يمثل تحريما أبديا للصور والتماثيل؟ أم أن السياق – سياق قرب العهد بالشرك – هو الذي فرض هذا الموقف. واليوم لا خوف على المسلمين من العودة إلى الشرك، فلا مجال للتحريم. هذا ما قاله “محمد عبده” وآخرون في بداية القرن العشرين؛ فأفسحوا المجال للإبداع الفني المصري في مجالي التصوير والنحت. هكذا أبدع “محمود مختار” تمثال “نهضة مصر”، وهكذا تبرع فلاحو مصر من قليل قروشهم لإقامة تماثيل للزعيم “سعد زغلول” بعد وفاته في كل مديريات (محافظات) مصر المحروسة.[3] ويمكن للإنسان أن يضيف إلى اجتهاد الإمام حقائق التاريخ؛ فالعرب لم يحطموا أي تماثيل في البلاد التي فتحوها (أو غزوها)، وإلا ما احتفظت المعابد المصرية ولا المعابد البوذية بتماثيلها.
رغم تحطيم التماثيل والحرص على التوحيد النقي الذي لا تشوبه شائبة فإن الدارس للقرآن يميز بين مستويين على الأقل في التعبير القرآني عن “الله”: مستوى التنزيه، ومستوى التشبيه. يتمسك المعتزلة والفلاسفة بمستوى التنوية ويعتبرونه “أم الكتاب”، وعلى أساسه يأولون المستوى الثاني تأويلا مجازيا لنفي مشابهة الله تعالى للبشر. والمستوى الثاني هو هذا المستوى الذي يوصف فيه الله تعالى بأن له وجها وأن له يدا وعينا جنبا … الخ، وهو المستوى الذي يرفض البعض تأويله ويقولون بالإيمان به بلا تشبيه. حسب وصف المتصوفة – وابن عربي خاصة – أن المؤولة ينظرون للحقيقة بعين واحدة، وكذلك ينظر المشبهة. كلا المنزِّهة والمشبِّهة يعاني من “العور”، أي النظر بعين واحدة للحقيقة الإلهية. والحقيقة الإلهية لا تدرك إلا بالعينين “تنزيه في تشبيه” “تشبيه في تنزيه”.
وبدون أن نتبنى هذا الموقف أو ذاك، فالحقيقة أن القرآن نزل للناس كافة – أبيضهم وأسودهم وأحمرهم وأصفرهم، المتعلم والجاهل كما يقول “ابن رشد” – والإيمان لا يمكن أن يتعلق بإله بمجرد؛ فالمؤمن يحب أن يتواصل مع إلهه، يطلب منه العون والمساعدة والرعاية، يرجو منه السماح والمغفرة والعفو عن ذنوبه. هذا هو المعنى العميق للإيمان؛ فلا يتحقق كمال الإيمان إلا بالصورة المتخيلة التي يبتهل لها المؤمن ويتواصل معها في صلاته (الله في قبلة المصلي). يحتفل المتصوفة بحديث نبوي فحواه “اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
هذه التمثيلات اللغوية في القرآن – بعد التشبيه – تمثل ثمثيلا لغويا تخييليا للحقيقة الإلهية، في هذه التمثيلات يتم استبدال اللغة بالحجر. هل هذا يعني تحريم صنع التماثيل الحجرية في هذا العصر الذي زالت فيه أسباب “الكراهة”، أقول الكراهة وليس التحريم؟
كان علينا أن ننتظر وصول “طالبان” إلى الحكم في أفغانستان لندرك خطأ المسلمين الأوائل، لأنهم أهملوا تحطيم تماثيل بوذا. وكان علينا بالمثل أن ننتظر هذه الأيام السوداء في مصر لنعرف أن رسم الموديلات ونحت التماثيل حرام في كليات الفنون ولنعرف أن كل شوارعنا ومداخل مدننا لا بد أن يتم تطهيرها من رجس التماثيل. هذا هو الحال في خطاب التحريم الحديث، وهو خطاب ينطلق من عدم إدراك للتاريخ ومتغيرات الزمان. يتصور هذا الخطاب أن إيمان المسلمين في هذا العصر ضعيف المناعة، ومن ثم يجب حمايته من التعرض لهذه الفنون.
في ندوة القاهرة اعترض أحد الشباب على هذا الكلام، ومؤدى اعتراضه أن التماثيل ما زالت تُعبد، وأن الانحناء للتمثال نوع من العبادة. وهذا عدم تمييز بين المعنى الديني للعبادة وبين التعبير عن الاحترام بالاحناء للتماثيل في بعض الثقافات. ولو فرضنا جدلا أنها عبادة، فليس من حق المسلم أن يفرض معاييره الإيمانية على أحد. نقطة أخرى جديرة بالإضافة في النص المكتوب: في القرآن أمر الله الملائكة أن “تسجد” لأدم، فهل كان هذا أمرا بالعبادة، أم أن طلب “السجود” – الذي هو أقرب للعبادة من الانحناء الذي يشبه بالركوع – ليس إلا تعبيرا عن أظهار التقدير والاحترام؟


2- الموسيقى والغناء:

لم يكن معروفا عند العرب قبل الإسلام إلا موسيقى الدفوف، نحن نعلم أن النبي حمل عائشة على كتفه للتفرج على رقص الأحباش على أنغام الدفوف. وحين اعترض عمر بن الخطاب كان رد النبي رفضا لهذا الاعتراض. لكن الأمر لا يحتاج لمثل هذه الاستشهادات؛ فترتيل القرآن فن موسيقي بامتياز. لهذا ليس غريبا أن تكون بداية كل فنانينا العظام من “سيد درويش” إلى “أم كلثوم” و”محمد عبد الوهاب” ترتيل القرآن والأناشيد المدحية. يعتمد فن ترتيل القرآن – علم التجويد – على مراعاة قواعد التنغيم والفصل والوصل. ويسمح هذا الفن إلى حد كبير بحرية اللأداء في فن “التصييت” داخل حدود القوانين العامة للترتيل والتجويد. لهذا يتميز “صييت” عن آخر؛ فأداء المرحوم “الشيخ محمد رفعت” لسورة الرحمن بصفة خاصة يتميز بكفاءة نقدرها جميعا حتى الآن.
إذا كانت موسيقى “الترتيل” و”التجويد” واجبا دينيا، وهي موسيقى يحملها الصوت الإنساني، لا تمييز في ذلك بين صوت الرجل وصوت المرأة، فكيف بالله يتم تحريم الموسيقى والغناء باعتبارهما مداخل للشيطان؟ ستدخلنا الإجابة على هذا السؤال إلى منطقة تحريم الكلام المصاحب للموسيقى، وهو تحريم يقوم على أساس أخلاقي يتم التعبير عنه بعبارت دينية. أن يغني “عبد الوهاب” مثلا “جينا الدنيا ما نعرف ليه”، أو أن يقول أبو القاسم الشابي “جئت لا أعرف من أين، ولكني أتيت” يتم الاعتراض من خارج الفن: الحقيقة معروفة فلا يجوز التساؤل عنها، معروف من أين جئنا، وإلى أين المصير؛ فالتساؤل هرطقة وكفر. هذا يشبه صوت أفلاطون الذي خلط بلا تمييز بين الحقيقة “الفلسفية” والحقيقة “الشعرية”. فقهاؤنا يخلطون بين الحقيقة الدينية والحقيقة اللاهوتية والحقيقة الإيمانية من جهة، ويخلطون بين كل هذه الحقائق وبين “الحقيقة الفنية” من جهة أخرى.
الحقيقة الدينية ليست واحدة، بل تتعدد بتعدد التفسيرات والتأويلات. تتحول هذه الحقيقة الدينية إلى “عقائد” عند علماء اللاهوت (علم الكلام). الحقيقة اللاهوتية ليست هي الحقيقة الإيمانية، بل هي الحقيقة المؤسساتية، وهي ليست ثابتة، إذ هناك تفسيرات لاهوتية متعددة للحقيقة الدينة. [4] الحقيقة الإيمانية هي مجال التعبيرات الفنية، وهي تحتمل التساؤل والشك، لأنها حقيقة فردية. الطبيعة التساؤلية هي جوهر الفن، وجوهر التعبير الأدبي، هي الحقيقة الفنية. مهمة اللاهوت تقديم الإجابات التي من حق الفن والفكر أن يتحداها بطرح التساؤلات وإثارة الشكوك. بدون هذه التساؤلات والشكوك تتجمد الحقيقة اللاهوتية وتفقد خصوبتها. يقول الشيخ أمين الخولي الذي سنستشهد بأقواله كثيرا في الفقرة الأطول التالية “تكون الفكرة أحيانا كافرة ملحدة، ثم تصبح عقيدة تتطور بها الحياة”.
بعيدا عن هذا الجدل ازدهر فن الموسيقى والغناء في كل الفضاءات الثقافية الإسلامية، ليس فقط في بلاط الخلفاء، بل في كل أركان الفضاءات الاجتماعية. يكفي موسوعة كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني. فضلا عن الموسيقى والغناء ازدهر فن الرقص في الفضائين الديني والمدني على السواء. يكفي ما هو معروف في الفضاء الديني الصوفي من عزف ورقص وإنشاد في طقس “الذكر”. من منظور اللاهوت المتجمد اعتبر هذا كفرا للأسف.
إذا كان المسلمون لم يعرفوا فن “النحت” بالمعنى الذي عرفته ثقافات أخرى، فيكفي النظر إلى عمارة المساجد في إيران ومصر وسوريا وتركيا والهند وجنوب شرق آسيا حيث تتعانق فكرة المسجد مع كل التعبيرات المعمارية الثقافية في حضارات العالم. في الصين والهند لا تخطئ العين التفاعل بين عمارة المعابد البودية وعمارة المساجد. في إسبانيا تحولت الكنائس إلى مساجد وبقي طرازها المعماري ماثلا. ماذا يبقى من الحضارة الإسلامية – التي نفخر بها كما تتباهى الصلعاء بشعر جدتها – إذا حذفنا منها كل هذه الفنون؟ سيبقى اللاهوت الجامد ويبقى كلام الفقهاء الذي نلوكه بلا نقد ونكرره بلا ملل. سيبق أن يحكم حياتنا الموتى رحمهم الله. حياة بلا فن هي حياة جافة مبتذلة رخيصة. الفن حياة، والدين حياة، فكيف يتخاصمان؟
ليس معنى ذلك أنني أؤسس دينيا لقبول الفن. كان هذا سؤالا طرح في بيروت. الفن حاجة إنسانية روحية لا تحتاج لإثبات أو تبرير من أي مصدر خارجها. إن الطفل يرقص لأي نغمة قبل أن يلقنه المجتمع حدود المسموح والممنوع. كل أطفال العالم يفعلون ذلك؛ لأن إيقاع الكون ماثل في تكويننا الجسدي. هكذا الفن استعادة لعلاقة الإنسان بالكون، تلك العلاقة التي تنظمها الثقافة وتتحكم فيها معايير التنشئة والتربية فتفسدها أحيانا وتشوهها في أحيان أخرى. الفن حاجة وليس ترفا. يمكن أن نقول نفس الكلام عن “الدين” بمعنى الإيمان؛ فهو حاجة إنسانية إذا لا يستغني الإنسان أي إنسان عن “إيمان” ما هو بالنسبة له حقيقة. هنا يلتقي الدين – كحقيقة إيمانية – بالفن. وهذه هي الصعوبة في تحديد أيهما نشأ في أحضان الآخر


القرآن مجمع الفنون:


مقدمتان ونتيجة:

سأبدا باختيار نصين من كتاب سيد قطب عن “التصوير الفني للقرآن”، وهو كتاب صدر عام 1945 عن دار المعارف المصرية، هما بمثابة مقدمتين ينتهي منهما سيد قطب إلى نتيجة هامة. الاختيار – اللذي بدأت به المحاضرتين في كل من بيروت والقاهرة – لا يخلو من خبث من جانبي. أقصد بالخبث هنا معنى المغزى الذي لا يخفى على القارئ أو الحاضر اللبيب. وهو معزي يتضح جليا دون خبث.


المقدمة الأولي:

nالتصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن. فهو يعبر بالصورة المُحسَّة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية؛ وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور؛ وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية. ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها، فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة. فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة؛ وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد؛ وإذا النموذج الإنساني شاخص حي؛ وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية. فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة؛ فيها الحياة، وفيها الحركة فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل. فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأُوَل، الذي وقعت فيه أو ستقع؛ حيث تتوالى المناظر، وتتجدد الحركات؛ وينسى المستمع أن هذا كلام يُتلى، ومثل يُضْرب، ويتخيل أنه منظر يُعْرَض، وحادث يقع. فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات، المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة، فتنم عن الأحاسيس المضمرة. إنا الحياة وليست حكاية الحياة. ص 31.

تعمدت هنا تأكيد بعض الكلمات باللون الأسود وبوضع خط أسفلها، وهي بترتيب مغاير لورودها في النص: التخييل، التصوير، العرض، المسرح، اللوحة، الصورة المحسة المتخيلة. تلك مفردات تحيل كلها إلى عالم الفن الواسع الفسيح، عالم يصف به سيد قطب القرآن، الذي هو بناء لغوي، أي بناء استطاعت لغته أن تخترق كل الآفاق الفنية وتوظف كل أدواتها. بل إن سيد قطب يتجاوز كل التحفظات التراثية التي ترفض استخدام مصطلح “التخييل” مثلا في وصف الأسلوب القرآني. لقد استخدم “الزمخشري” هذا المصطلح في وصف بعض الصور القرآنية فتعقبه المعلقون بالذم واصفين إياه بإساءة الأدب في وصف القرآن. سيد قطب ينطلق هنا من موقع “الناقد الأدبي”، الذي يدرك العلاقة العضوية بين الأدب والفنون البصرية والسمعية والدرامية، فيؤكد مر أخرى أن “القرآن”:

nتصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخييل؛ كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. ص 32.


المقدمة الثانية:

nقرأت تفسير القرآن في كتب التفسير، وسمعت تفسيره من الأساتذة. ولكني لم أجد فيما أقرأ أوأسمع ذلك القرآن اللذيد الجميل الذي كنت أجده في الطفولة والصبا. واأسفاه! لقد طُمِست كل معالم الجمال فيه؛ وخلا من اللذة والتشويق. وعدت إلى القرآن أقرؤه. في المصحف لا في كتب التفسير. وعدت أجد قرآني الجميل الحبيب؛ وأجد صوري المشوقة اللذيدة. ص 6.

في هذه المقدمة الثانية نلتقي مصطلحات تتصل بوظيفة الفن، فيما كانت مصطلحات المقدمة الأولى تتصل بطبيعة الفن. هنا نجد مصطلحات اللذة والجمال والتشويق، يتذوقها المؤلف في القرآن ولا يجدها في كتب التفسير ولا عند الأساتذة. لم يقل سيد قطب أن كتب التفسير ومحاضرات الأساتذة كان شاغلها وما يزال وضع القواعد والاهتمام بالمعايير لا تذوق لذة الفن ولا التنعم برحيق الجمال. هذا التذوق للذة والتنعم بالرحيق يوجد عن من انشغلوا بالبحث عن “سر الإعجاز” ومن حاولوا اكتشاف قوانينيه كما سنرى، وسيد قطب يشير باحترام وتوقير للشيخ “عبد القاهر الجرجاني” صاحب كتابي “أسرار البلاغة” و”دلائل إعجاز القرآن الكريم”.


النتيجة:

nإن الصور في القرآن ليست جزءا منه يختلف عن سائره. إن التصوير هو قاعدة التعبير في هذا الكتاب الجميل (ص 8). يجب إذن أن نبحث عن ”منبع السحر في القرآن“ قبل التشريع المحكم، وقبل النبوءة الغيبية، وقبل العلوم الكونية، وقبل أن يصبح القرآن وحدة مكتملة تشمل هذا كله. فقليل القرآن الذي كان أيام الدعوة الأولى كان مجردا من هذه الأشياء التي جاءت فيما بعد، وكان – مع ذلك – محتويا على هذه النبع الأصيل الذي تذوقه العرب، فقالوا: إن هذا إلا سحر يؤثر. ص 16

القرآن نص أدبي أولا وقبل كل شيء:

خطاب سيد قطب هنا جزء من الخطاب العام في الأربعينات، وهذا يؤكد ما قلناه في المقدمة. لم يكن سيد قطب وحده في التعامل مع القرآن من منظور طبيعته الأدبية، الطبيعة التي يرى قطب – مشاركا الشيخ أمين الخولي وتلاميذه – محمد احمد خلف الله وبنت الشاطئ وشكري عياد وآخرون – أنها لا تقتصر على جزء بعينه في القرآن، بل هي الطبيعة السارية في بنيته كلها. ويرى قطب أن الدراسة الأدبية يجب أن تسبق أي دراسة؛ إنها الدراسة التي تمكن الباحث من الوصول إلى النبع الأصلي “منبع السحر” الذي بهر العرب قبل التشريع وقبل النبوءات وقبل أي شيئ آخر. وهذا الفهم يتجاوب بقوة مع ما يقوله أمين الخولي بأن القرآن:
“هو كتاب العربية الأكبر، وأثرها الأدبي الأعظم … وتلك صفة للقرآن يعرفها العربي مهما يختلف به الدين، أو يفترق به الهوى، ما دام شاعرا بعربيته، مدركا أن العروبة أصله في الناس وجنسه بين الأجناس، وسواء بعد ذلك أكان العربي مسيحيا أو وثنيا، أم كان طبيعيا دهريا، لا دينيا، أم كان المسلم الحنيف … وهذا الدرس الأدبي للقرآن في ذلك المستوى الفني، دون نظر إلى أي اعتبار ديني، هو ما نعتده وتعتده معنا الأمم العربية أصلا، والعربية اختلاطا، مقصدا أول، وغرضا أبعد يجب أن يسبق كل غرض ويتقدم كل مقصد. ثم لكل ذي غرض أو صاحب مقصد بعد الوفاء بهذا الدرس الأدبي أن يعمد إلى ذلك الكتاب، فيأخذ منه ما يشاء، ويقتبس منه ما يريد، ويرجع فيه إلى ما يحب من تشريع، أو اعتقاد، أو أخلاق، أو إصلاح اجتماعي، إلى غير ذلك. وليس شيء من هذه الأغراض الثانية يتحقق على وجهه إلا حين يعتمد على تلك الدراسة الأدبية لكتاب الغربية، دراسة صحيحة، كاملة، مُفْهِمة له.”[5]
ومثله مثل سيد قطب يرى الخولي أن عقد الإيمان – أي عقد التصديق برسالة محمد عليه السلام – هو في جوهره عقد أدبي بلاغي، إذ كان الحافز المحرك للإيمان هو الأثر البلاغي الأدبي الذي أحدثه القرآن في نفوس العرب:
“وهكذا كانت الدعوة الإسلامية عملا بلاغيا قويا، أو شطرا واضحا من هذا العمل، إذ اعتمدت على حكم نقدي، وقامت على رأي في الفن القولي … وإذا كان الأمر كذلك فالعربي حين دُعِيَ إلى هذا ويواجه به، فيؤمن ويستيقن، لا يكون اعتناقه للإسلام –في جليته- إلا حكما نقديا وتقريرا أدبيا بدين الله.”[6]

استقبال العرب للقرآن (المشابهة):

إن هذه الطبيعة الأدبية البلاغية هي التي أدهشت العرب، فآمن من آمن (عمر بن الخطاب) وكفر من كفر (الوليد بن المغيرة المخزومي) وهما مثالان يستشهد بهما سيد قطب للدلالة على أساسية المدخل الأدبي البلاغي الفني لتذوق القرآن وفهمه. أما قصة الوليد فتحكي المرويات أن قريشا أرسلته ليفاوض محمدا عليه السلام لعله يتخلّى عن دعواه، فتلا عليه محمد بعض القرآن. فلما عاد لقومه متغير الوجه من تأثير ما سمع قالوا: “لقد صبأ الوليد” ، أي اعتنق الإسلام وتخلّى عن دين آبائه وأجداده. ورغم إنكاره أنه صبأ فإن الرواية تذهب إلى أنه قال: “والله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنيرٌ أعلاه مشرقٌ أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلَى عليه، وإنه ليحطم ما تحته”. سندع تلك المرويات جانبا على أساس انه يمكن التشكيك في مصداقيتها بالقول إنها مرويات مُتأخرة انتحلها المسلمون بعد انتصار الإسلام ونسبوها إلى بعض مشاهير الجاهلية من العرب. ندعها لأنها لا تضيف جديدا إلى ما نجده مذكورا في القرآن نفسه عن تلك الظاهرة. ففي سورة المدِّثر، رقم 74 في ترتيب المصحف والثانية في ترتيب النزول، (الآيات من 11-26) ورد ذكر تفصيلي لهذه الواقعة المنسوبة إلى “الوليد بن المغيرة”:
ذَرْني ومن خلقت وحيدا
وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا
ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيدا
إنه كان لآياتنا عنيدا
سأرهقه صعودا
إنه فكّر وقدّر
فقُتِل كيف قدّر
ثم قُتل كيف قدّر
ثم نظر
ثم عبس وبسر
ثم أدبر واستكبر
فقال إن هذا إلا سحر يؤثر
إن هذا إلا قول البشر
سأُصليه سقر
وهي تعكس حالة من التوتر الذهني والتشتت الانفعالي أصابت الشخص –المبهم في السورة- عند سماعه القرآن. وبعد إطالة التفكير والتقدير والتدبر والنظر، بتقليب الأمر على وجوهه كافة، لم يجد وصفا يفسر ما أصابه من تأثير ما سمع سوى أنه “سحر” من أقوال البشر. وسواء كان هذا الوصف تعبيرا عن مشاعره وأحاسيسه الذاتية، أم كان نوعا من الإرضاء لقومه الذين استهجنوا تأثَّره -على ما تذهب الرواية الإسلامية كما وردت في كتاب “أسباب النزول” للسيوطي- فإن الوصف كاشف عن حقيقة حالة “الغرابة” و”عدم الألفة” التي أصابت العرب بسماع القرآن. ويمكن ملاحظة البنية الإيقاعية الشعرية للأيات اعتمادا على تكرار حرف “الراء” برنينيه الذي يشبه جرس الإنذار. إن قصة أيمان “عمر بن الخطاب” لدى سماع الآيات الأولى من سورة “طه” -رغم أنه كان بصدد تأديب أخته وزوجها لما بلغه من اتباعهما دين محمد- تؤكد أن عقد “الإيمان” بأن القرآن من عند الله، ومن ثم عقد “اعتناق” الإسلام دينا، عقد تأسس مبناه على ذلك البُعد الأدبي؟
إن وصف مشركي مكة للقرآن بأنه فعل قولي يشبه أقوال الكهان، أو أنه قول شعري يشبه أقوال الشعراء، لم يكن إلا تعبيرا عن إدراك لطبيعته كنص أدبي. ولا يخرج عن هذا الإدراك وصفهم له بأنه سحر، ألم يؤثر عن محمد نفسه –صلعم- أنه قال: “إن من البيان لسحرا”؟ لم يكن مشركو مكة في الحقيقة مخطئين تماما في هذا الإدراك، ألا تعتمد البنية الأسلوبية للسور المكية القصيرة المبكرة النزول على بنية “السجع”، الخصيصة البارزة في أقاويل الكهان وتعازيم السحرة؟ ثم أليس في اعتماد بنية الشكل الشعري للقصيدة العربية على “القافية” وتنويعاتها داخل “البيت” الشعري ما يؤكد التشابه الأسلوبي بين السور المشار إليها وبين الشعر؟ لكن مشكلة مشركي مكة أنهم لم يكتفوا بإدراكهم لهذا التشابه، ولو اكتفوا به مع ملاحظة “التفاوت” و”الاختلاف” أيضا لهان الأمر. مشكلتهم أنهم تجاوزوا إدراك طبيعة النص، وذهبوا إلى إنكار مصدره الإلهي باتهام محمد أنه “كاهن” وأنه “شاعر” وأنه “ساحر” وأنه افترى هذا القرآن بمساعدة آخرين؛ ومن ثم أضافوا إلى اتهاماتهم السالفة تهمة “الكذب”. تلك الاتهامات تحديدا هي التي تصدى القرآن لتفنيدها، ولا يجب علينا أن نفهم من نفي الاتهامات أن القرآن يعادي الشعر. كيف وهو نفسه شعري البناء فني الأسلوب كما يؤكد سيد قطب اعتمادا على خبرته الأدبية وحسه المرهف كناقد أدبي، هو الذي اكتشف “نجيب محفوظ” وأول من كتب عنه.
تحيلنا عبارت “سيد قطب” عن “التصوير” و”التخييل” و”العرض” و”المسرح” … الخ لكي نفهم محاولات العرب التي لم تتوقف لتحديد “هوية” هذا الذي جاء به محمد زاعما – وفق تصورهم – أنه من عند الله. فذهبوا إلى أن محمدا “كاهن” ، وإلى أنه “شاعر” و”ساحر”. وقد أورد القرآن كل هذا ورد عليه:
“فذكّر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون * أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون * قل تربصوا فإني معكم من المتربصين” (سورة الطور رقم 52 الآيات 29-31)
وحين فشلوا في الاقتناع -أو الإقناع- بأنه “شعر”:
“وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين” (يس/69)
لم يجدوا وصفا يستريحون إليه ويرددونه سوى أنه
“أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملَى عليه بكرة وأصيلا” (الفرقان رقم 25/5)[7]
والحاصل هنا أن أهل مكة فشلوا فشلا ذريعا في محاولة تصنيف القرآن في إطار النصوص المألوفة لهم كالشعر وسجع الكُهَّان وتعازيم السحرة، ولم يجدوا في النهاية سوى الزعم بأنه ينتمي إلى مجال “قصص الأوائل” (وهذا هو معنى أساطير الأولين)، وأن محمدا “افترى” هذه القصص، أي اختلقها بمعونة آخرين أو أمليت عليه. ومن اللافت للانتباه أن رد القرآن على هذا الزعم الأخير يتركز فقط على نفي “الافتراء” و”الاكتتاب”:
“قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض” (الفرقان/6).
في سياق تلك المحاولات الفاشلة زعم البعض أنهم يمكن أن يختلقوا -أو يفتروا- مثل هذا الذي اختلقه محمد وافتراه، فقالوا:
“لو نشاء لقلنا مثل هذا” (الأنفال/31)،
فكان رد القرآن عليهم قبول التحدي ومطالبتهم -أولا- أن يأتوا
“بحديث مثله إن كانوا صادقين” (الطور/33)،
ثم خصص التحدي بعشر سور مفتريات، وأن يستعينوا بمن يشاءون، وذلك بعد أن أوشكت كل تلك الاتهامات الباطلة أن تنال من عزيمة محمد كما يستنبط من قوله تعالى:
“فلعلّك تارك بعض ما يوحَى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أُنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شئ وكيل * أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين” (هود/12-13).
ولمزيد من السخرية منهم وإثبات عجزهم تحداهم القرآن أن يجتمعوا ليأتوا بسورة واحدة مستعينين بكل من يستطيعون معاونتهم:
“وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين” (يونس/37).
ثم حسم القرآن القضية حسما نهائيا حين أعلن استحالة وقوع الاستجابة، وأن يأتي العرب بشيء مثل القرآن:
لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (الإسراء/88).

التوتر بين “الوحي” و”الشعر” (المخالفة):

أليس في كل هذا السجال بين القرآن والعرب، بالإضافة إلى حالة “الدهشة” و “الغرابة” التي سببها نزول القرآن، ما يؤكد أن البُعد الأدبي هو الخصيصة المميزة للقرآن من حيث هو نص مارس فعاليته التأثيرية، والتي على أساسها آمن به من آمن وكفر به من كفر؟
لكن علينا أيضا أن ندرك علاقة التوتر التي نشأت بحكم هذا السجال بين “الوحي” و”الشعر” رغم استنادهما إلى تصور ثقافي واحد فحواه إمكانية الاتصال بين الإنسان وكائنات فوق إنسانية. وفقا للقرآن كانت الجن تسترق أخبار السماء وتوحي بها إلى الكهان، الذين على أساسها يوجهون البشر في حياتهم التجارية والاجتماعية. وكان الشعراء يتلقون الوحي من “الجن”، سكان “وادي عبقر” ومن هنا الوصف “عبقري” للشاعر. هذا “التوافق” التصوري المفهومي لم يلبث أن دخل في حالة “توتر” تتطلب التمييز بين الشعر والكهانة والسحر من جهة وبين الوحي من جهة أخرى، وهذا ما نجده ماثلا في سورة الشعراء رقم 26. هذا التوتر تم حله بالتمييز بين المسارين، مسار الشعر ومسار النبوة. من أجل تحقيق هذا الحل كان لا بد من تمييز أخر بين نوعين من الجن: الجن الذي استمع إلى القرآن يتلى فآمن به (سورة الجن)، والجن الذي لم يؤمن فأكتسب صفة “الشيطنة”. هكذا صار “الشعر” من وحي الشياطين، بينما القرآن من وحي الملك.
من الضروري أن نتوقع أن يحدث هذا التصور الجديد نوعا من التطور النوعي في فهم ظاهرة الشعر، لكن هذا التطور احتاج إلى انبثاق الدرس الأدبي متمثلا في “نقد الشعر”، ومناقشة الظواهر التعبيرية الأدبية في القرون التالية، حيث تحول مفهوم وحي الشياطين للشعراء إلى مجال للتندر والسخرية. قال أحدهم ساخرا:


إني وكل واحد من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر

ومع هذا التمييز بين “الشعر” و”النبوة” من حيث مصدر الوحي كان النبي عليه السلام في حإجة إلى الشعر في معركته ضد قومه اللذين استخدموا سلاح الشعر في حربهم ضده. هكذا تم التمييز بين نمطين من الشعر: الشعر المؤمن، والشعر الكافر. وعلينا أن ندقق في الأزمة التي أحسها النبي عليه السلام في استخدام الشعر ليهاجم قومه. التقاليد الشعرية في الهجاء تتجاوز الأفراد إلى القبيلة، وهكذا كان على “حسان بن ثابت” أن يهجو قريش التي وجهت سهام شعرائها لنقد محمد وأتباعه، على اعتبار أنهم قبيلة منشقة. تساءل النبي قائلا لحسان: كيف تهجوهم وأنا منهم؟ فكان رد حسان: أسلك منهم كما تُسل الشعرة من العجين. هكذا استقرت هواجس محمد فقال لحسان: اهجهم وروح القدس يؤيدك. هكذا استقر شعر حسان في فضاء النبوة.
القارئ لسورة الشعراء، التي يستشهد بها دائما على تحريم الشعر، يدرك بسهولة بنيتها الشعرية. إنه الشعر يهون من شأن الشعر. في أحسن الأحوال هذا تعبير عن كراهة لا عن تحريم، وهي ليست كراهة لمطلق الشعر، بل للشعر الذي لا يتواصل مع النبوة. إنها كراهة أخلاقية، أو إن شئنا كراهة أيديولوجية، وما أبعد هذا عن التحريم الديني. تمثل الشعر المقبول في شعر “حسان بن ثابت” و”عبد الله بن رواحة”. ويشهد النقاد الكلاسيكيون جميعا أن شعر حسان أصابه الضعف في الإسلام، ففقد قوته وجزالته، ومن هنا قالوا “الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل عليه الخير لان”. والمقصود في رأييي ليس الخير والشر بالمعنى الديني؛ فالشعر إذا لم يكن مثيرا ومهيجا للمشاعر والأحاسيس (قارن بمفهوم التطهير عند أرسطو) لا يعيد بناء الوعي. الشعر الذي يقول لك ما تعرف مثل الفكر الذي يعتمد التكرار والإعادة بلا إفادة. يجب أن يحمل الشعر متلقيه إلى عوالم أخرى غير مطروقه، هذا هو “النكد”.
أبو عمرو عثمان بن بحر الجاحظ، مفكر موسوعي الأفق متعدد المساهمات في أغلب مجالات المعرفة، استمع إلى قول الشاعر:


ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء

فصرخ: هذا ليس بشعر وقائله ليس بشاعر، ولولا أن أدخل في الحكم بعض العنت (المبالغة) لقلت لا يخرج من صلبه شاعر. إنما الشعر صناعة وضرب من التصوير (تأكيدي). هكذا يتجاوب “الجاحظ” من فضاء القرن الثالث الهجري مع فضاء القرن الرابع عشر، قرن سيد قطب وأمين الخولي.
لو كان القرآن حرم الشعر لسكت الشعر، ولكن الشعر ازدهر مرة أخرى مع الفتن والحروب، وازدهر في بلاط الخلفاء وفي دواوين الوزراء، وتعددت طرائق الشعراء ومناهجهم. لكن الشعر قبل هذا كله كان مصدر تفسير القرآن: يقول ابن عباس (حامل لقب ترجمان القرآن): إذا تعاجم عليكم شيئ من القرآن فعليكم بالشعر فإن الشعر ديوان العرب (واضح أن الإشارة هنا للشعر الجاهلي). وبعبارة أخرى: احتاج القرآن للشعر، لعل هذا سر الهجوم الشرس الذي تعرض له طه حسين بسبب محاولته توثيق الشعر بإعادة فتح مناقشة مشكلة الانتحال. يظن البعض أن المساس بالشعر الجاهلي هو بمثابة المساس بالإطار المرجعي التفسيري للقرآن. لكن تلك قضية لا يتسع المجال لمناقشتها. سؤلت سؤالا عجبت له “هل أخطأ طه حسين أم لم يخطئ في كتاب “في الشعر الجاهلي”؟ فأجبت أن كتاب “في الأدب الجاهلي” هو النسخة الموسعة باسثناء بعض العبارات التى رأى “طه حسين” – وأنا أوافقه الرأي” لا تخل بالمنهج. لكن سؤال “المنهج” صعب على خطاب التحريم والتجريم أن يخوض فيه. إنهم يرفضون النتيجة دون فحص المقدمات، وهم يكرهون النتائج الفكرية التي لا تستوعبها عقولهم.

الإعجاز الأدبي ومرجعية الشعر:

ازدهار الشعر دليل على أن كراهة الشعر تمثل موقفا فقهيا متزمتا من البعض. ولم يخل الأمر من مرويات ركيكية في مبناها ومعناها. من الضروري هنا التنبيه إلى قضية “الإعجاز” تمحورت في الأساس على مفهوم “التفوق الأدبي” للقرآن على كل أنماط الكلام البشري، شعرا كان أن نثرا. صحيح أنها نوقشت أيضا من منظور كلامي لاهوتي أدخلها في نسيج المعضلات اللاهوتية الخلافية بين كل من المعتزلة والأشاعرة، وأبعدها بنفس القدر عن مجالها الخاص البلاغي الأدبي. لكن هذا التداخل يعد أمرا طبيعيا في السياق الثقافي التاريخي الذي انبثقت فيه المعرفة بكل مجالاتها اللغوية والأدبية واللاهوتية والفلسفية والأخلاقية –وحتى التاريخية والجغرافية-من النقاش حول نص مركزي هو القرآن. وقد استمر النقاش دائرا على مثل تلك الوتيرة لتحديد معنى الفصاحة والبلاغة، ومدى حضورها وكيفية هذا الحضور في تفسير ظاهرة “الإعجاز”.
ولا نريد أن نعيد هنا ما سبق لنا طرحه في أماكن أخرى عن هذا النقاش وطبيعته ودلالته[8]، ونتوقف عند جهد الشيخ “عبد القاهر الجرجاني” (470هـ/1078م) الذي صاغ مفهوما متماسكا لتفسير الإعجاز من منظور بلاغي نقدي. كانت القضية الأساسية في كتابي “عبد القاهر” “أسرار البلاغة” و”دلائل إعجاز القرآن الكريم” هي قضية التفرقة بين “مستويات الكلام” ، تلك المستويات التي تبدأ من مستوى الكلام العادي المألوف متدرجة إلى مستوى “الكلام المعجز” الذي يعلو على طاقة البشر الإتيان بمثله. وللتمييز بين طرفي مستويات الكلام لا بد من تحديد خصائص الكلام “الأدبي” تحديدا دقيقا. من أجل ذلك نراه لا يقنع بالتفسيرات التي طرحا أسلافه للإعجاز، كما أنه لا يكتفي بالوقوف في منطقة “اللاتعليل” التي وقفها البعض الآخر. هذا بالإضافة إلى أنه حريص كل الحرص على تحرير معاني المصطلحات التي استخدمها أسلافه وضبطها، خاصة مصطلحي “النظم” و “التأليف” الذين فسر بهما “الباقلاني” إعجاز القرآن.
في البداية يخصص عبد القاهر فصلا في “أسرار البلاغة” عن “التجنيس” ليثبت أنه جزء من بنية الدلالة في النص الأدبي، وليبدد الوهم بأنه مجرد زينة لفظية (صوتية) خارجية لا دخل لها في إنتاج الدلالة.[9] ثم هو يتوقف أمام الظاهرة نفسها في “الدلائل” ليؤكد علاقتها لا ببنية المعنى فقط بل ببنية الأسلوب كذلك، وذلك في معرض الرد على من يحصرون مفهومي “الفصاحة” و “البلاغة” في الألفاظ وحدها وتلاؤمها الصوتي والإيقاعي فقط.[10] ويكون هذا مدخله لتحرير مفهوم “التجنيس” –و”السجع” فرع منه- من المعنى الذي حصره في مجرد الزينة الخارجية والبهاء الشكلي.
ولم يكن هذا الحرص على تحرير معنى مفهوم “التجنيس” مستقلا عن محاولة الشيخ لتحرير مفاهيم “الفصاحة” و “البلاغة” من سجن ثنائية “اللفظ والمعنى”، التي انحبست فيها طويلا، والخروج بها إلى رحاب علاقات التركيب، أو “النظم.”[11] وتعريف عبد القاهر للنظم بأنه “قوانين النحو” ليس المقصود به قوانين النحو المعياري الذي يكتفي بالوقوف عند حدود التمييز بين “الصواب” و “الخطأ” في الكلام العادي، بل يقصد بـ”قوانين النحو” مستويات التراكيب والأساليب ذات التأثير الجوهري في إنتاج الدلالة، كالتقديم والتأخير، والفصل والوصل، والذكر والحذف، وتعدد أساليب النفي والاستفهام والأمر والنهي والقصر والإطناب والالتفات .. إلخ.[12] وهذه القوانين إنما تستنبط من دراسة “الشعر” وكلام البلغاء، وعلى أساسها يمكن التمييز بين مستويات الكلام، وتحديد ما علا منه وما سَفُل، وفقا لقدرة المتكلم على استثمار تلك القوانين استثمارا منتجا. والحال كذلك، فتحديد مستوى الكلام أمر ممكن من منظور علم البلاغة. من هذا المنطلق يرفض عبد القاهر الوقوف عند منطقة اللاتعليل، والاكتفاء بالقول إن “الإعجاز” أمر تُدْرَك صفته ولا تحيط به العبارة، كما يرفض قول القائلين:”إن عجز العرب عن معارضة القرآن ينهض حجة على من أتى بعدهم.” لا يقنع عبد القاهر إلا بالتعليل المقنع والتفسير الكاشف. لا يقنع عبد القاهر بمفهوم أن الإعجاز واقع خارج النص، فهذا لا يفسر التحدي. وكذلك لا يقنع بأن الإعجاز يقع في صدق إخباره عن الماضي وعن الحاضر والمستقبل، فذلك يحصر الإعجاز في آيات من القرآن دون سائر الآيات والصور. أما ذلك التأويل الذي يحصر الإعجاز في أنماط بعينها من التشبيه والتمثيل والمجاز والاستعارة فعبد القاهر يتساءل محقا: فماذا عن المواطن التي لا تتضمن أيا من تلك الأنماط البلاغية، وهي الأكثر في القرآن؟ لا يقنع عبد القاهر بآراء سابقيه، ويرى، وفقا لنظريته في “النظم”، أن الإعجاز كامن في بنية القرآن ذاتها وليس خارجها بأي حال من الأحوال، وهو كامن في كل آية من آياته طالت أم قصرت، وأيا كان موضوعها: قصصا أو تشريعا أو عقيدة، إنذارا أو بشارة أو وصفا، وعدا أو وعيدا .. إلخ. هذا الإعجاز ظاهرة يمكن اكتشافها في كل عصر وفق قوانين يمكن اكتشافها من تحليل الكلام البليغ، ولا تتوقف معرفته على العرب الذين عاصروا الوحي.[13]
والطريق الموصل إلى العلم بمعجزة القرآن الباقية أبدا واللآئحة دائما لمن أراد الوصول إلى معرفتها هي معرفة قوانين الكلام، التي لا مدخل لها بدورها إلا دراسة “الأدب”، والشعر بصفة خاصة. وطبقا للقاعدة الفقهية المعروفة “ما لا يتم فعل الواجب إلا به فهو واجب” تصبح دراسة “الأدب” واجبا دينيا لمن أراد الوصول إلى معرفة “براهين” الإعجاز، التي هي حجة صدق النبوة والدليل الهادي إلى الإيمان الواعي، دون إيمان التقليد. لا يكتفي عبد القاهر بتأكيد أن دراسة الشعر واجب ديني، بل يتهم أولئك الفقهاء الذين يقللون من شأن الشعر ويهونون من شأن دراسته بأنهم في الحقيقة يسدون أمام العلماء طريق العلم بأخطر قضايا الدين، ويقفون حائلا بين العالم المسلم وبين أدائه لأهم واجباته العلمية:
“وذلك أنا إذا كنا نعلم أن الجهة التي منها قامت الحجة بالقرآن وظهرت، وبانت وبهرت، هي أنه كان على حد من الفصاحة تقصر عنها قوى البشر، ومنتهيا إلى غاية لا يُطْمَحُ إليها بالفِكَر، وكان محالا أن يعرف كونه كذلك إلا من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب، وعنوان الأدب، والذي لا يُشَكُّ أنه كان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة والبيان، وتنازعوا فيها قصب الرهان، ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل، وزاد فيه بعض الشعر على بعض –(إذا كان الأمر كذلك) كان الصاد عن ذلك (=دراسة الشعر ومعرفة قوانين التباين والتفاضل فيه) صادا عن أن تُعْرَف حجة الله تعالى، وكان مثْلُه مثل من يتصدى للناس فيمنعهم عن أن يحفظوا كتاب الله تعالى ويقوموا به ويتلوه ويقرأوه … فمن حال بيننا وبين ما له كان حفظنا إياه ، واجتهادنا في أن نؤديه ونرعاه كان كمن رام أن يُنْسيناه (=القرآن) جملة، ويُذْهِبَه من قلوبنا دَفعةً. فسواء من منعك الشيء الذي تنتزع منه الشاهد والدليل (=على إعجاز القرآن، وهو دراسة الشعر والأدب) ومن منعك السبيل إلى انتزاع تلك الدلالة، والاطلاع على تلك الشهادة.”[14] (الزيادة بين الأقواس من وضعنا لبيان المعنى.)
ليس علم الشعر إذن، فيما يرى عبد القاهر، مجرد علم مساعد لفهم القرآن يتساوى مع غيره من العلوم المساعدة، بل هو “العلم” الذي لا غناء عنه، والذي يحتل قبل أي علم آخر مرتبة الضرورة القصوى، لأنه يقع في مرتبة “الوجوب” الدينية. من هنا يصبح علم العلوم، لا في الكشف عن “الإعجاز” فقط، بل في حسم الخلاف في قضايا “التفسير والتأويل”، وفي حماية “المفسِّر” و “المؤوِّل” من المغالطة في الدعوى أو الوقوع في أسر أوهامه الإيديولوجية. إن علم الشعر بلغة عبد القاهر:
“باب من العلم إذا أنت فتحته اطلعت منه على فوائد جليلة، ومعان شريفة، ورأيت له أثرا في الدين عظيما وفائدة جسيمة، ووجدته سببا إلى حسم كثير من الفساد فيما يعود إلى التنزيل، وإصلاح أنواع من الخلل فيما يتعلق بالتأويل، وإنه ليؤمِّنك من أن تُغالِط في دعواك، وتدافع عن مغزاك، ويربأ بك عن أن تستبين الهدى ثم لا تُهْدى إليه، وتُدِلَّ بعرفان ثم لا تستطيع أن تدُلَّ عليه، و(يؤمِّنُك) أن تكون عالما في ظاهر مُقلِّد، ومستبينا في صورة شاك، وأن يسألك السائل عن حجة يُلقي بها الخصم في آية من كتاب الله تعالى أو غير ذلك فلا ينصرف عنك بمقنع.”[15] (ما بين الأقواس إضافة من عندنا لإبراز المعنى.)


خاتمة:

إذا كان عبد القاهر قد حل أزمة “التوتر” بين الشعر والوحي باتخاذ الشعر منطلقا لفهم خصائص الكلام البليغ، فإن “سيد قطب” وأبناء جيله قد وسعوا منظور القرآن ليشمل كل الفنون كما رأينا. ولم يكن ممكنا لعبد القاهر أن يخطو هذه الخطوة دون إنجازات سابقيه المعرفية في مجال اللغة والبلاغة واللاهوت والفلسفة. ولم يكن يكن ممكنا لسيد قطب وأبناء جيله فتح مجال الرؤية إلا بما قام به رواد النهضة أمثال “محمد عبده” رائد المدخل الأدبي والتحليل السردي بلا منازع. وهو نفسه “محمد عبده” الذي فتح أفق المعنى الديني لاحتضان فني التصوير والنحت بفتاواه الجريئة التي اخترقت حوائط التقليد والركود وأعادت المعنى الديني إلى جماعة المؤمنين. من هذا المجال الخصب الواعد والمحمل بالبشارة كتب محفوظ “أولاد حارتنا”، التأويل الأدبي الإبداعي للقصص الديني، لكن المناخ كان قد تغير، وكانت وعود البشارة بالمستقبل المضيئ تعاني من اختناق الحريات. لم يتفهم كثيرون إصرار محفوظ – بعد حصوله على نوبل – على عدم طبع الرواية في مصر إلا بعد موافقة الأزهر. وفي يقيني أن محفوظ أعاد كتابة “أولاد حارتنا” في “ملحمة الحرافيش”، فانتقل بها من شكل “الأليجوري/التمثيل الشفاف إلى بنية سردية أكثر تعقيدا وغنى.
من نافلة القول أن نقول إن الاعتراض على الأعمال السردية – فضيحة “وليمة لأعشاب البحر” ورويات أخرى إلى جانب “أولاد حارتنا” يقوم على خلط بين “الأصوات” في الفنون السردية. بسبب هذا الخلط يحاسب المؤلف على أقوال الشخصيات، كما يحاسب صناع الفيلم أو المصور والنحات. كان “حسان بن ثابت” ينشد شعرا في المسجد النبوي، شعرا حسبه البعض فاحشا؛ لأنه يتضمن مفردة لغوية تنتمي لمجال العلاقة الجنسية. اعترض المعترض “أفحش في مسجد رسول الله؟” فقال حسان “إنما الفحش عند النساء”، وهذا تمييز دقيق بين “الفعل” و”القول الشعري”.
الدين لا يحرم الفنون، إنما يحرمها من يتصورون أنفسهم حماة الدين والأخلاق والأعراف والتقاليد. وهم أنفسهم حماة الأمر الواقع من رجال الحكم ومن يلف لفهم من بعض الإعلاميين والمثقفين. إنها أولا وأخيرا قضية “الحرية” في كل الفضاءات الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية. رفع حصار الحماية الذي يمارسه الاستبداد، كأن الشعوب لم تتجاوز مرحلة الطفولة. أي تحليل لخطاب التحريم في أي مجال سيجد مفهوم “الحماية” قارا فيه: حماية المشاهد (التليفزيون وكل الفنون المرئية)، حماية القارئ (مصادرة الكتب والأعمال الشعرية والروائية)، حماية الأخلاق والقيم (المراقبة على المصنفات). كل الاستبداد يرتد إلى ادعاء الحماية؛ لأن المستبد “أب” و”راع” و”حكيم” و”ملهم” و”خالد” نفديه بالروح والدم. الفن كالتعليم كالفكر كالبحث العلمي كالإعلام الحر أضواء تعري هذه الأقنعة. من هنا الخطورة على كل أشكال الاستبداد ومستوياته. ومن هنا حاجتنا للفن وللحرية.



------------------------------------

[1]جامع البيان في تأويل آي القرآن، دار الريان للتراث، القاهرة، 1407هجرية-1987م، ج 27 ص: 34.


[2] السابق، ج 29، ص: 62.


[3]شكرا للصديق الشاعر زين العابدين لتزويدي بهذه المعلومات في تعليقه في بيروت.


[4]من المهم هنا الإشارة إلى وضوح هذه التمييزات في الفكر الكلاسيكي؛ فعنوان كتاب “أبو الحسن الأشعري” المعروف هو “مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين” فعبر عن هذا التعدد باسم “مقالات”. أما ابن رشد فاستخدم اسم عقائد في عنوان كتابه “مناهج الأدلة في عقائد أهل الملة”. الإسلام إذن ملة واحدة من حيث هو دين، لكنه عقائد مختلفة من حيث التفسيرات والتأويلات.


[5] السابق، أمين الخولي: مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير، دار المعرفة، القاهرة ط1 1961، ص: 303-304.


[6]السابق، ص: 97.


[7] انظر أيضا الأنعام/25، والأنفال/31، والنحل/24، والمؤمنون/83، والنمل/68، والأحقاف/17، والقلم/15، والمطففين/13)

[8]انظر على سبيل المثال “مفهوم النص:دراسة في علوم القرآن”، المركز الثقافي العربي ، بيروت ط4 1998، الفصل الخاص عن “الإعجاز”، ص: 139-168.


[9] انظر: أسرار البلاغة ، شرح وتعليق: محمد عبد المنعم خفاجي، مكتبة القاهرة، ط1 1973، الجزء الأول، ص: 99-111.

[10] انظر: دلائل إعجاز القرآن الكريم، قراءة وتعليق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة 1984، ص: 61-62.

[11]انظر مناقشاته المفصلة لإزالة وهم ثنائية “اللفظ والمعنى” في “الدلائل”، ص: 417 وما بعدها، وكذلك في “الأسرار”، جزء أول، ص:97 وما بعدها.


[12] انظر “الدلائل”، ص: 81-28.


[13]دلائل الإعجاز، ص: 10.


[14]السابق، ص: 8-9.


[15]السابق، ص: 41-42.

Post: #7
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: Amjed
Date: 07-06-2010, 02:06 AM
Parent: #6

تجريف التدين وخصاء العقل

بقلم
نصرحامد أبوزيد






ما يحدث في مصر الآن أمر يستعصي أحياناً علي التحليل المؤدي إلي فهم تترتب عليه قدرة علي اقتراح بعض الحلول. اتسع الخرق علي الراتق كما يقال في الأمثال، المصريون متدينون منذ بداية التاريخ، وأغلبهم صاروا مسلمين في القرون التالية للفتح العربي، ولقد عشنا ردحاً من الزمن في قرانا ومدننا والناس متدينون، يمارسون حياتهم وفقاً لما يتصورونه متفقاً مع دينهم، في حالات نادرة كانوا يلجأون للشيوخ، لكن إذا حز بهم أمر يستعصي علي مداركهم حله: شأن من شؤون الميراث العويصة، أو شأن من شؤون الزواج والطلاق.. إلخ، فيما عدا ذلك كانوا يمارسون حياتهم في رفق، يغشون المساجد، ويسعون للصلوات في أوقاتها أو في غير أوقاتها، حيث كان المسجد مكاناً عاماً يؤمه المصلي وغير المصلي علي السواء، ماذا حدث للمصريين؟ لماذا يحتاجون للفتوي في كل صغيرة وكبيرة، حتي ليبدو أنهم فقدوا ثقتهم في معرفة دينهم؟ هل تتصور أن العلاقة الزوجية، علاقة الفراش، أصبحت مجالاً للفتوي بعد أن كانت أمراً من أمور «السكينة» و«المودة» و«الرحمة»، لماذا يريد الناس معرفة رأي الدين في كيفية ممارسة العلاقة الزوجية؟

هذا أمر مثير للقلق، لأن الناس حين تكثر من التساؤل في كل صغيرة وكبيرة – هل هذا حرام أم حلال؟ تمنح الفرصة للمفتين في مد مجال سلطتهم المعرفية، الأمر الذي يؤدي إلي إدماج ما ليس من الدين في مجال الدين، أصبح المفتي قادراً علي الحديث في كل شأن من شؤون الدنيا، في الاقتصاد والاجتماع والطب والعلاقات الدولية، ولم لا، والدين لم يترك شاردة ولا واردة إلا وله فيها رأي يستطيع المفتي وحده أن يكشفه، كيف وصل الحال هكذا إلي ازدياد «الطلب» علي الفتوي، فكان من الطبيعي أن يتزايد إنتاج الفتاوي لتقابل سوق الطلب التي لا تكف عن طلب المزيد؟ من حقنا أن ننظر للظاهرة من هذه الزاوية – زاوية علاقة السوق: الطلب والعرض – دون أن نقلل من شأن القنوات الإعلامية وانتشارها وفتحها برامجها لتسهيل عملية التبادل تلك، وفي مجال العرض والطلب بحسب قانون السوق لابد أن يحرص البائع علي تحسين السلعة حسب ذوق «الزبون»، ومن هنا تعددت أشكال الفتوي، وتعددت ألوان المفتين – تفننوا في تغيير الأزياء وفي تغيير اللغات – للمواءمة بين ذوق «السائل» وطبيعة البضاعة، أعني الفتوي.. من النادر جداً في هذا السياق – سياق عولمة الفتوي – أن تجد مفتياً يتجرأ، فيرد سؤال المستفتي علي أساس أنه خارج اختصاصه، أو علي أساس أنه سؤال لا محل له من الإعراب.
إ
ن بعض الأسئلة التي يطرحها المتداخلون في البرنامج قد تكون من التفاهة، بحيث يدرك بعض المشاهدين – وأنا منهم بطبيعة الحال – أن هدف السائل ليس السؤال نفسه، وأنه لا يمكن أن يكون باحثاً عن حل لمعضلة، فليس ثمة معضلة في السؤال علي أية حال، بقدر ما يكون الهدف هو مجرد أن يسمع صوته وأن يُكتب اسمه علي الشاشة. أقول من النادر أن تجد مفتياً يرد السؤال، القليل جداً هو الذي يفعل ذلك، والكثيرون يبسملون ويحوقلون، ويحاولون أن يجدوا سابقة ذكرت في هذا الكتاب أو ذاك من كتب التراث الصفراء، لكي يبني عليها حجة ويصوغ رأياً. من المرات النادرة أن الدكتور علي جمعة مفتي جمهورية مصر العربية في برنامج «البيت بيتك» حين سئل عن رأيه في فتوي فحواها أن الزوجين إذا تخاطبا مستخدمين العبارات «ماما» – يقولها الزوج للزوجة – و«بابا» – تقولها الزوجة للزوج – يصبح زواجهما باطلاً، لأنهما – هكذا تذهب الفتوي – صارا في حكم الزناة، ثار الدكتور علي جمعة، لكنه لم يجد رداً أبلغ من «حسبنا الله ونعم الوكيل» رددها عدة مرات..في قريتي التي كانت كذلك قبل أن تبتلعها المدينة حدث في سرادق عزاء أخي أن سمعت قراءة للقرآن من مكبر الصوت انزعجت من عبثها، كان صدي الصوت يحول كلمة «الرحمن» إلي الرحمنننننننننن، وأدركت أن ذلك من عبث المسؤول عن ضبط مكبر الصوت أو من عدم كفاءته في أحسن الأحوال. فاستدعيته – وأنا صاحب المأتم – وقلت له غاضباً إن هذا قرآن يرتل في سرادق عزاء، هذا الصوت يلائم الفيديو كليب في الملاهي الليلية. وبسبب نظرة الدهشة والاستغراب التي لاحظتها في وجهه زاد استيائي من استهتاره، فارتفع صوتي طالباً منه أن يضبط آلته. مندهشاً أجاب في هدوء زاد غيظي: هذا هو طلب المشايخ – يقصد القراء – فتحدثت إليهم في غضب لم أستطع أن أتحكم فيه: من فضلكم خففوا من هذا الصدي. في النهاية كانت النتيجة أقل سوءاً، لكن اللعبة استمرت. كان الناس في طفولتي يستعذبون أداء القارئ، ويقدرون جمال الصوت، أما الآن فقد تميكن أداء الذكر الحكيم. إنها التكنولوجيا اللعينة.. هل يمكن أن نلعن «العولمة» و«التكنولوجيا» وهما وجهان لحقيقة واحدة اسمها «الحداثة»، ونحملها وحدها هذه الظاهرة التي يشكو منها صديقي؟ لكن ما هذه الظاهرة التي تناولت فقط مثالين من أمثلتها العديدة والمنتشرة، ليس فقط في مجتمعنا المصري، بل في كثير من المجتمعات التي تسمي «إسلامية». لم أجد وصفاً لهذه الظاهرة يمكن أني يحتويها ويدل عليها خيراً من «تجريف التدين». والتجريف ظاهرة معروفة في التعامل مع الأرض الزراعية لتحويلها إلي أرض بناء.

يستلزم الأمر إزالة خصوبة التربة للوصول إلي القاع الصلب حتي تصلح الأرض لوضع الأساسات والأعمدة الخرسانية، التي يقام عليها البناء. في بعض الأحيان تسمي هذه العملية «التسقيع»، وذلك حين تترك الأرض بوراً، أي بلا زراعة، حتي تجف وتفقد بالتدريج خصوبتها. في تقديري أن هذا بالضبط ما حدث للتدين، وهو أمر لم يحدث بين يوم وليلة، بل حدث في مدي زمني فسيح، أي أن ما حدث أقرب للتسقيع منه للتجريف، لكن النتيجة واحدة، فقد فقد التدين خصوبته وروحه، فقد قدرته علي النمو والازدهار بفعل تفاعل التربة – تربة الدين – مع الهواء والشمس والريح والمطر.

Post: #8
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: Amjed
Date: 07-06-2010, 02:06 AM
Parent: #6

تجريف التدين وخصاء العقل

بقلم
نصرحامد أبوزيد






ما يحدث في مصر الآن أمر يستعصي أحياناً علي التحليل المؤدي إلي فهم تترتب عليه قدرة علي اقتراح بعض الحلول. اتسع الخرق علي الراتق كما يقال في الأمثال، المصريون متدينون منذ بداية التاريخ، وأغلبهم صاروا مسلمين في القرون التالية للفتح العربي، ولقد عشنا ردحاً من الزمن في قرانا ومدننا والناس متدينون، يمارسون حياتهم وفقاً لما يتصورونه متفقاً مع دينهم، في حالات نادرة كانوا يلجأون للشيوخ، لكن إذا حز بهم أمر يستعصي علي مداركهم حله: شأن من شؤون الميراث العويصة، أو شأن من شؤون الزواج والطلاق.. إلخ، فيما عدا ذلك كانوا يمارسون حياتهم في رفق، يغشون المساجد، ويسعون للصلوات في أوقاتها أو في غير أوقاتها، حيث كان المسجد مكاناً عاماً يؤمه المصلي وغير المصلي علي السواء، ماذا حدث للمصريين؟ لماذا يحتاجون للفتوي في كل صغيرة وكبيرة، حتي ليبدو أنهم فقدوا ثقتهم في معرفة دينهم؟ هل تتصور أن العلاقة الزوجية، علاقة الفراش، أصبحت مجالاً للفتوي بعد أن كانت أمراً من أمور «السكينة» و«المودة» و«الرحمة»، لماذا يريد الناس معرفة رأي الدين في كيفية ممارسة العلاقة الزوجية؟

هذا أمر مثير للقلق، لأن الناس حين تكثر من التساؤل في كل صغيرة وكبيرة – هل هذا حرام أم حلال؟ تمنح الفرصة للمفتين في مد مجال سلطتهم المعرفية، الأمر الذي يؤدي إلي إدماج ما ليس من الدين في مجال الدين، أصبح المفتي قادراً علي الحديث في كل شأن من شؤون الدنيا، في الاقتصاد والاجتماع والطب والعلاقات الدولية، ولم لا، والدين لم يترك شاردة ولا واردة إلا وله فيها رأي يستطيع المفتي وحده أن يكشفه، كيف وصل الحال هكذا إلي ازدياد «الطلب» علي الفتوي، فكان من الطبيعي أن يتزايد إنتاج الفتاوي لتقابل سوق الطلب التي لا تكف عن طلب المزيد؟ من حقنا أن ننظر للظاهرة من هذه الزاوية – زاوية علاقة السوق: الطلب والعرض – دون أن نقلل من شأن القنوات الإعلامية وانتشارها وفتحها برامجها لتسهيل عملية التبادل تلك، وفي مجال العرض والطلب بحسب قانون السوق لابد أن يحرص البائع علي تحسين السلعة حسب ذوق «الزبون»، ومن هنا تعددت أشكال الفتوي، وتعددت ألوان المفتين – تفننوا في تغيير الأزياء وفي تغيير اللغات – للمواءمة بين ذوق «السائل» وطبيعة البضاعة، أعني الفتوي.. من النادر جداً في هذا السياق – سياق عولمة الفتوي – أن تجد مفتياً يتجرأ، فيرد سؤال المستفتي علي أساس أنه خارج اختصاصه، أو علي أساس أنه سؤال لا محل له من الإعراب.
إ
ن بعض الأسئلة التي يطرحها المتداخلون في البرنامج قد تكون من التفاهة، بحيث يدرك بعض المشاهدين – وأنا منهم بطبيعة الحال – أن هدف السائل ليس السؤال نفسه، وأنه لا يمكن أن يكون باحثاً عن حل لمعضلة، فليس ثمة معضلة في السؤال علي أية حال، بقدر ما يكون الهدف هو مجرد أن يسمع صوته وأن يُكتب اسمه علي الشاشة. أقول من النادر أن تجد مفتياً يرد السؤال، القليل جداً هو الذي يفعل ذلك، والكثيرون يبسملون ويحوقلون، ويحاولون أن يجدوا سابقة ذكرت في هذا الكتاب أو ذاك من كتب التراث الصفراء، لكي يبني عليها حجة ويصوغ رأياً. من المرات النادرة أن الدكتور علي جمعة مفتي جمهورية مصر العربية في برنامج «البيت بيتك» حين سئل عن رأيه في فتوي فحواها أن الزوجين إذا تخاطبا مستخدمين العبارات «ماما» – يقولها الزوج للزوجة – و«بابا» – تقولها الزوجة للزوج – يصبح زواجهما باطلاً، لأنهما – هكذا تذهب الفتوي – صارا في حكم الزناة، ثار الدكتور علي جمعة، لكنه لم يجد رداً أبلغ من «حسبنا الله ونعم الوكيل» رددها عدة مرات..في قريتي التي كانت كذلك قبل أن تبتلعها المدينة حدث في سرادق عزاء أخي أن سمعت قراءة للقرآن من مكبر الصوت انزعجت من عبثها، كان صدي الصوت يحول كلمة «الرحمن» إلي الرحمنننننننننن، وأدركت أن ذلك من عبث المسؤول عن ضبط مكبر الصوت أو من عدم كفاءته في أحسن الأحوال. فاستدعيته – وأنا صاحب المأتم – وقلت له غاضباً إن هذا قرآن يرتل في سرادق عزاء، هذا الصوت يلائم الفيديو كليب في الملاهي الليلية. وبسبب نظرة الدهشة والاستغراب التي لاحظتها في وجهه زاد استيائي من استهتاره، فارتفع صوتي طالباً منه أن يضبط آلته. مندهشاً أجاب في هدوء زاد غيظي: هذا هو طلب المشايخ – يقصد القراء – فتحدثت إليهم في غضب لم أستطع أن أتحكم فيه: من فضلكم خففوا من هذا الصدي. في النهاية كانت النتيجة أقل سوءاً، لكن اللعبة استمرت. كان الناس في طفولتي يستعذبون أداء القارئ، ويقدرون جمال الصوت، أما الآن فقد تميكن أداء الذكر الحكيم. إنها التكنولوجيا اللعينة.. هل يمكن أن نلعن «العولمة» و«التكنولوجيا» وهما وجهان لحقيقة واحدة اسمها «الحداثة»، ونحملها وحدها هذه الظاهرة التي يشكو منها صديقي؟ لكن ما هذه الظاهرة التي تناولت فقط مثالين من أمثلتها العديدة والمنتشرة، ليس فقط في مجتمعنا المصري، بل في كثير من المجتمعات التي تسمي «إسلامية». لم أجد وصفاً لهذه الظاهرة يمكن أني يحتويها ويدل عليها خيراً من «تجريف التدين». والتجريف ظاهرة معروفة في التعامل مع الأرض الزراعية لتحويلها إلي أرض بناء.

يستلزم الأمر إزالة خصوبة التربة للوصول إلي القاع الصلب حتي تصلح الأرض لوضع الأساسات والأعمدة الخرسانية، التي يقام عليها البناء. في بعض الأحيان تسمي هذه العملية «التسقيع»، وذلك حين تترك الأرض بوراً، أي بلا زراعة، حتي تجف وتفقد بالتدريج خصوبتها. في تقديري أن هذا بالضبط ما حدث للتدين، وهو أمر لم يحدث بين يوم وليلة، بل حدث في مدي زمني فسيح، أي أن ما حدث أقرب للتسقيع منه للتجريف، لكن النتيجة واحدة، فقد فقد التدين خصوبته وروحه، فقد قدرته علي النمو والازدهار بفعل تفاعل التربة – تربة الدين – مع الهواء والشمس والريح والمطر.

Post: #9
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: Amjed
Date: 07-06-2010, 02:07 AM
Parent: #8






تجريف التدين وخصاء العقل
2
بقلم
د. نصر حامد ابو زيد

يظل السؤال: لماذا يحتاج الناس إلي رأي المفتي في كل شيء تقريبا؟ العولمة والتكنولوجيا لا يفسران الأمر بقدر ما يمثلان إطارا للاحتواء وقنوات للتبادل السلعي، أعني سلعة «السؤال» و«الجواب»: أين جوهر المشكل إذن؟ لماذا صار الناس عاجزين عن «الثقة» في الإجابات التي ظلت ردحا طويلا من الزمن ترضيهم و تشكل إطارا خلفيا لممارساتهم الدينية والدنيوية؟ في صباي المبكر كنت أراقب الناس في المسجد، كيف يتوضأون وكيف يصلون، وكنت أتعرض لاعتراضات من بعض الكبار، لأنني أصلي مثلا عاري الرأس، وكانوا يعتقدون أن غطاء الرأس شرط من شروط صحة الصلاة. كنت قادرا علي رد اعتراضهم ثقة في معلوماتي الدينية رغم صغر سني آنذاك. أذكر مرة أنني تعبت من كثرة نقد أحدهم، وكان يعمل كاتبا في المحكمة لمسألة عري رأسي في الصلاة، وهو نقد تجاوز حدود الوصف بالجهل ـ إنني جاهل بشؤون الدين ـ ووصل إلي حد الشتيمة. في فورة رد فعل حماسي قلت له: هل تعرف حدود عورة الرجل يا جاهل؟”

كانت مأساة أن يتجرأ صبي علي مخاطبة من هو أكبر منه سنا بمثل هذا القول. بلغ الأمر أبي فغضب مني وعاقبني، هذا رغم أنه اتفق معي علي أن الرجل «جاهل». عاقبني أبي علي إساءة الأدب في مخاطبة الأكبر سنا. كانت عبارة أبي التي لا أنساها «هو جاهل، لكنك قليل الأدب»!أذكر هذه الواقعة بهدف بيان أن الصبي المتعلم في قرية كان قادرا علي الحجاج، لأن التعليم في ذلك الوقت كان يمثل قيمة في المجتمع، الأب في هذه الحالة يميز بين «المعرفة» و«الأدب»، ويتوقع من ابنه «المتعلم» أن يكون «مؤدبا» في حجاجه ضد «الجهل»، وهو منظور أخلاقي راق لا شك.
ارتفعت نسبة التعليم في البلاد، وكثر عدد الجامعات وازداد عدد الخريجين، ومع ذلك فقد استشري إحساس فادح بالجهل، خاصة إذا اتصل الأمر بشؤون الدين، وهي مفارقة حادة، يزيد من حدة هذه المفارقة الازدياد الملحوظ في عدد المساجد، بما تتضمنه من دروس وعظية، وازدياد البرامج الدينية في الإذاعة والتليفزيون، هذا بالإضافة إلي الندوات والمنتديات الدينية، رغم كل مصادر المعرفة المتاحة يسأل الناس دائما أسئلتهم عن العظيم والحقير، وال######## والجاد، فيتصدي منتجو الفتاوي لملء الفراغ، من أين نشأ هذا الفراغ إذن؟ إنه التعليم في مصر الذي تم تجريفه، فتم تجريف العقل، فأصبح من السهل تجريف «التدين»، وبل أخشي أن أقول إنه تم تجريف «الدين» نفسه.
وهو خطر يجب أن يشغل الباحثين والعلماء الذين يؤرقهم سؤال الخراب الشامل في الوعي، إن تجريف التعليم أدي إلي «خصاء» العقل، فانعدمت القدرة علي التفكير المستقل عند الفرد، وأصبح كل فرد يحتاج لدليل يرشده في كل خطوة يخطوها في حياته الخاصة أو العامة.انزعجنا جميعا لصفر المونديال، ولأصفار الجامعات، وصرخنا لمحرقة بني سويف، وتصدينا للبلطجة في الانتخابات وفي الحياة المصرية بشكل عام. بكينا دموعا حارة لقتلي العبّارات، ووقفنا صفا واحدا ضد «الطائفية»، وضد قتل المصلين الآمنين في الكنائس، وها هي الجموع من كل الفئات من قضاة وأساتذة ومحامين وإعلاميين وكتّاب وفنانين تحاول أن تتصدي للفساد والطغيان. كل ذلك يحدث، ولافتة الدين مرفوعة في كل مكان، لكنه دين بلا روح ولا أخلاق. إنه دين «الحجاب» وتقصير الثياب والتجهم ضد المواطن غير المسلم، وتهديد المسلم الذي يحمل رأيا مخالفا للإجابات الجاهزة، فهذا الدين الذي تم تجريفه لا يتسع للآراء ولا يتحمل رأيا ولو كان صحيحا. إنه دين تم اختصاره في تقسيم الأشياء وأنماط السلوك، بل والأفكار إما «حرام» أو «حلال»، ولا شيء بينهما.
لا مجال للمباح الذي سكتت عنه الشريعة، فكل الأسئلة والفتاوي تحاول أن تستنطق الشريعة في كل ما سكتت عنه، ولا مجال من باب أولي لمجرد «المكروه» ـ الذي ليس حراما ـ ولا «للمندوب» الذي ليس واجبا. إن المبالغة في تأكيد «التدين» بهذا التجريف والاختصار المؤذي تكشف عن غياب «التدين» الحقيقي، التدين الذي يتسع لمساحة الخطأ، لأنه يؤمن بالمغفرة، ويتسع للتسامح لأنه يؤمن بترك الخلق للخالق، كل من يتصور نفسه متدينا شديد التدين، يري أن من واجبه أن يفرض تدينه علي الناس، الأقرب فالأقرب، بكل الوسائل مهما كانت غلظتها وفظاظتها.
نعم لابد من التمييز بين «الدين» و«التدين»، وهو تمييز بين مفهومين لا فصل بين مجالين. السبب في إصراري علي عدم الفصل ـ خلافا لكثيرين ـ أن «التدين» شأنه شأن «الخصوبة» في الأرض الزراعية يعتمد علي مدي تفاعل «الدين» مع معطيات العصر المتجددة، التي هي بمثابة التعرض لأشعة الشمس وللهواء والأمطار والرياح. إذا توقف «الدين» عن عملية التفاعل الحر تتجمد الخصوبة، أي يصاب «التدين» بالجمود، بل بالعفن.
أرجو أن يكون التمييز الآن قد صار واضحا، وأن يكون صار قد واضحا بالمثل المقصود بالدين من أنه «الفكر الديني».مرة أخري يحلو للبعض الفصل الحاد ـ لا مجرد التمييز ـ بين «الدين» و«الفكر الديني»، وهو فصل أجدني لا أرتضيه من منطلق علمي، فـ«الدين» ليس في النهاية سوي تصور ذهني لحقيقة جوهرية مفارقة يستوعبها قلب المؤمن بشكل عفوي تلقائي. و«الفكر الديني» ـ وليس غيره ـ هو الذي يملأ التصور بمضمون يمكن فهمه واستيعابه. وبعبارة أخري: إذا كان الدين هو «المطلق» في ضمير المؤمن وقلبه ـ وليس له مكان سوي هذا ـ فإن «الفكر الديني» هو «التعين» في مجالات الفكر والثقافة. أما «التدين» فهو التحقق الاجتماعي في السلوك لهذا المتعين في الفكر والثقافة، الذي قد يكون تعبيرا أرضيا ـ وأكرر أرضيا ـ عن المطلق.
ولعل الأمر يستدعي إضافة لابد منها هنا. إن «الفكر الديني» حين يقوم بتعيين «المطلق» يضفي عليه ملامح ويخلع عليه سمات، قد تساهم في ازدياد خصوبة «التدين»، أو قد تصنع العكس. في عقل المتعصب ـ سواء وصل إلي حد ممارسة الإرهاب أو ظل عند حدود التعصب اللفظي ـ يستكن مطلق تحوطه سمات «الغضب» و«الغيرة» و«الانتقام»، وهي سمات وملامح تهيمن علي سمات وملامح أخري ممكنة للمطلق، مثل سمات «الرحمة» و«العفو» و«التسامح». من السهل الحكم علي الشخص المتعصب بأنه «مريض»، ولكن حين يكون «التعصب» حالة اجتماعية، وليس مجرد حالات فردية، لابد من تلمس العلة في «الفكر الديني» السائد.وصلنا الآن إلي بنية ثلاثية تتكون من عناصر ثلاثة، هي: الدين «المطلق» و«الفكر الديني» و«التدين»، وهي كما رأينا عناصر يمكن التمييز بينها، لكن الفصل بينها مستحيل. يميل البعض إلي وضع العناصر المكونة لهذه البنية الثلاثية في شكل مثلث هندسي يكون فيه «المطلق» رأس المثلث في حين يحتل «الفكر الديني» و«التدين» طرفي القاعدة. والحقيقة أن هذا الوضع الهرمي يفترض تأثير الأعلي ـ علي رأس المثلث ـ في الأدني، أو بعبارة أخري يفترض أن «المطلق» هو المحدد للفكر الديني، الذي يقوم بدوره بصياغة التدين.
هذا التصور يصح في حالة واحدة فقط، هي إمكانية أن نعرّف «المطلق» أو نحدد ملامحه خارج «الفكر الديني» وخارج «التدين». ولأن هذا مستحيل، إلا في حالة ادعاء الألوهية والعياذ بالله، فإن المدخل «الإنساني» هو المدخل الذي لا مدخل غيره إلا بادعاءات لا محل لمناقشتها هنا.

Post: #10
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: Amjed
Date: 07-06-2010, 02:17 AM
Parent: #9

أمل دنقل
يغني في الجامعة.. متي نستعيد جامعة
نصر حامد أبوزيد




«في الليلة الظلماء يفتقد البدر» وفي أوطاننا أشرقت بدور كثيرة ما أشد افتقادنا لها هذه الأيام ورغم أني لا أحب البكاء علي اللبن المسكوب، فإن ما يدور هذه الأيام من حرب شرسة بين المقاومة في فلسطين ولبنان وبين العدو التاريخي للأمة العربية استدعي إلي ذاكرتي قصيدة «أمل دنقل» النبوءة «لا تصالح» و«أمل» ـ كما يعرف الجميع ـ هو الشاعر العرَّاف بامتياز، الشاعر الذي رأي ما لم يره أحد شأنه شأن «زرقاء اليمامة» التي بكي أمل بين يديها في ديوانه المعروف بهذا الاسم أمل وقصيدته «لا تصالح» مرتبطان في تجربتي الشخصية بالجامعة، الجامعة التي نريد جميعاً استعادتها من فكي «الأمن» و«لجنة السياسات» في الحزب المسمي ـ ويا للمفارقة ـ بالوطني.


في العام ١٩٨٢ قررت مجموعة من شباب كلية الآداب إنشاء أسرة طلابية باسم «أسرة مصر» واختاروني مشرفاً، وقرر هؤلاء الشباب الاحتفال بيوم «الأرض» بعقد ندوة ثقافية شعرية، لكن إدارة الكلية اعترضت: مش عايزين وجع دماغ قلت لعميد الكلية: هل صار اسم «فلسطين» محرما في «الجامعة»، وأعتقد أن الرجل أصابه الحرج كان ممكنا أن تسبب مثل هذه العبارات الحرج لبعض الناس في ذلك الزمن، قبل أن يتفشي داء «التناحة» بعد أن أصاب العقل ما أصابه من تجريف قال السيد العميد علي سبيل إلقاء المسؤولية من علي عاتقه: علي مسؤوليتك؟ قلت علي مسؤوليتي «لم أقل يا ريس، فلم يكن هذا اللقب العجيب قد شاع بعد».


كانت الجامعة قد سلمت أوراقها كاملة للسلطة السياسية وللأمن قبل ذلك بعام واحد كان الرئيس السادات قد قرر اعتقال كل المشاغبين السياسيين فاعتقل من ضمن المشاغبين بعض أساتذة الجامعات، ونقل بعضهم إلي أعمال إدارية فيما صار يعرف بقرارات سبتمبر، يقال إن كشوف المعتقلين والمنقولين كانت قد عرضت علي إدارة الجامعة وإدارات الكليات، ويقال إن بعض هذه الإدارات أضافت أسماء إلي الكشوف لمشاغبين لم تستطع أجهزة الأمن التعرف علي مشاغباتهم.


كان هذا هو حال الجامعة حين قرر طلاب «أسرة مصر» الاحتفال ثقافياً بيوم الأرض. السيد العميد ـ عميد كلية الآداب آنذاك ـ قرر حضور الاحتفال الذي وافق عليه من باب الحرج، والذي عقد في مدرج صغير لا يسع أكثر من ٣٠ طالباً لكن السيد العميد المحترم حضر إلي القاعة متأبطاً يد عميد آخر، عميد الأمن في الكلية بلباسه الرسمي كانت القاعة مكتظة بالوقوف، لكننا أخلينا للسيد العميد وضيفه مكانين في الصف الأول. كان حضور العميد بصحبة سَمِيه في العمادة كافياً لاستفزاز الطلاب، لكن رغبتهم في إنجاح الحفل جعلهم يكظمون غيظهم، وأنا معهم.


قال الطلاب قصائد من تأليفهم، كلها قصائد سياسية في نقد النظام. وكان من بين فقرات البرنامج إلقاء قصيدة «أمل دنقل» «لا تصالح»: وبدأ إيقاع الحفل يزداد سخونة وهم يسمعون: «لا تصالح/ ولو منحوك الذهب/ أتري حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما/ هلي تري؟/ هي أشياء لا تشتري. لاحظت تذمر العميد وتأفف العميد الآخر، والطلاب يستعيدون الفقرات من القصيدة: إنها الحرب!/ قد تثقل القلب/ لكن خلفك عار العرب/ لا تصالح/ ولا تتوخَّ الهرب! تزداد السخونة العاطفية وتختلط بسخونة الزحام في قاعة اكتظت بالواقفين في الداخل والخارج، والمطلين من النوافذ برقابهم يشاركون في الاحتفال وصوت أمل دنقل يتوهج في أصوات الطلاب: سيقولون/ جئناك كي تحقن الدم/ جئناك كن ـ يا أمير ـ الحكم/ سيقولون/ ها نحن أبناء عم/ قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك/ واغرس السيف في جبهة الصحراء إلي أن يجيب العدم.


كان المرحوم «عبدالمحسن طه بدر» حاضراً، لم يأت مع العميد، بل جاء مع الطلاب، وانحشر في زمرتهم كنت أراقب وجه عبدالمحسن ـ شيخي ومعلمي ـ وأراقب وجهي العميدين، أو الوجه المزدوج للعميد، حيث صار التمييز مستحيلاً بالنسبة لي كان وجه عبدالمحسن يحتضنني ويحتضن الطلاب، يحتضن الاحتفال بيوم الأرض في الحرم الجامعي الذي كان عبدالمحسن ـ ونحن معه ـ نعتبره بيتنا وجوه الطلاب مرهقة، لكن الحماس يظلل الوجوه بالسعادة، لأنهم مع أمل دنقل يرفضون الهزيمة.


لا تصالح/ ولو توَّجوك بتاج الإمارة/ كيف تخطو علي جثة ابن أبيكَ؟!/ وكيف تصير المليك!؟!/ علي أوجه البهجة المستعارة؟/ كيف تنظر في يد من صافحوك/ فلا تبصر الدم في كل كف؟/ إن سهماً أتاني من الخلف/ سوف يجيئك من ألف خلف/ فالدم ـ الآن ـ صار وساماً وشارة/ لا تصالح/ ولو توَّجوك بتاج الإمارة. تلتهب الأكف بالتصفيق، وعبدالمحسن يستعيد وينتشي، وعيون الطلاب تزداد بريقا، ووجها العميد مليئان بالغيظ. وأنا، أين أنا؟ أنقل عيني بين الطلاب والعميد وعبدالمحسن. ينظر الطلاب في عيني وكذلك عبدالمحسن، أما العميد بعيونه الأربع فينظر في الفراغ، في حائط القاعة كنت في غمرة السعادة وفي غمرة التوتر في نفس الوقت، كنت أعرف أن العيون الزائغة تنطوي علي انفجار وشيك.


لكن صوت أمل لم يتوقف: لا تصالح/ ولو ناشدتك القبيلة/ باسم حزن «الجليلة»/ أن تسوق الدهاءَ/ وتُبدي ـ لمن قصدوك ـ القبول/ سيقولون:/ ها أنت تطلب ثأراً يطول/ فخذ ـ الآن ـ ما تستطيع/ قليلاً من الحق/ في هذه السنوات القليلة/ إنه ليس ثأرك وحدك/ لكنه ثأر جيل فجيل/ وغداً/ سوف يولد من يلبس الدرع كاملة/ يوقد النار شاملة/ يطلب الثأر/ يستولد الحقَّ/ من أضْلُع المستحيل/ لا تصالح/ ولو قيل إن التصالح حيلة/ إنه الثأر تبهتُ شعلتُه في الضلوع/ إذا ما توالت عليها الفصول/ ثم تبقي يد العار مرسومة «بأصابعها الخمس»/ فوق الجباه الذليلة! وحين وصل المنشد إلي هذه العبارة «فوق الجباه الذليلة» انتفض العميد وظلَّه واقفين وطلب الظِّلُّ إنهاء الحفل فوراً، وهاجت القاعة وماجت وانصرف العميدان مشيعين بصيحات الطلاب، وكانت هذه نهاية «أسرة مصر» في كلية الآداب جامعة القاهرة.

عزيزي أمل دنقل: لقد تحققت نبوءتك فها قد ولد الجيل الذي لبس الدرع كاملة، وأوقد الحرب شاملة. إنه الجيل الذي يطلب الثأر ويستولد الحق من أضلع المستحيل. هكذا تري عزيزي أمل أن الثأر لم تبهت شعلته في الضلوع مع توالي الفصول بهزائهمها، ها هم أبطال المقاومة في لبنان يمسحون العار عن جباهنا، ويمرَّغون به وجه الخصم. إنها البداية يا عزيزي أمل. تري هل ينجح العالم في اجتثاث المقاومة في فلسطين ولبنان؟ إنهم يحاولون قتل الجياد باسم الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لكن من يحمي المقاومة سوانا؟ إذا تقاعسنا ستدفع الأجيال القادمة ثمنا أبهظ مما دفع جيلنا.


كيف نستعيد الجامعة التي كان يغني فيها أمل والشيخ إمام؟ كيف نفك عنها حصار «الأمن» وهيمنة «لجنة السياسات» في الحزب المسمي بالوطني؟ كيف نستعيد «الأستاذ» المعلم الحق والباحث الحقيقي؟ وكيف نستعيد «الطالب» المشاغب من أجل المعرفة، والتعليم الذي يعتبر «وجع الدماغ» ـ لا راحة الدماغ ـ مهمته الأصلية؟ بالنضال من أجل استعادة الجامعة ننخرط في المقاومة، ونخلق المناخ الذي لا يسمح باجتثاثها.

Post: #11
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: Amjed
Date: 07-06-2010, 02:19 AM
Parent: #10

نصر حامـد أبو زيـد



ما قبل أيلول سبتمبر2001 وليس ما بعده
تجديد الخطاب الديني ضرورة معرفية وليس استجابة لاستحقاقات 11 سبتمبر




من الضروري في البداية إزالة الالتباس الذي يمكن أن ينتج عن كون الدعوة لتجديد الخطاب الديني يعاد طرحها اليوم بإلحاح بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). وفي سياق الضغوط الأمريكية علي العالم العربي والإسلامي لتعديل برامجه التعليمية، خاصة منها ما يرتبط بتعليم الإسلام. لا يحتاج الكاتب هنا لإبراز جهوده في مجال (نقد الخطاب الديني) خلال أكثر من ربع قرن، هي مجمل حياته الأكاديمية.
الأسئلة والإشكاليات التي يطرحها علينا الآخرون بقدر ما يتعامل مع أسئلة الواقع الراهن، وكثير منها أسئلة مؤجلة. أكثر الأسئلة المؤجلة تتعلق بحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الأقليات، وهي الحقوق التي يمكن تصنيفها تحت مفهوم (العدل). وثمة أسئلة تتعلق بقضايا التعليم والحرية والديمقراطية والتقدم والنهضة.. الخ.
إنها قضايانا وأسئلتنا منذ عصر النهضة، الذي بدأناه في القرن التاسع عشر، وتعثرت مسيرتنا معها لأسباب عديدة، فتأجلت القضايا وتوقف حسمها من أمد ليس بالقريب. لا ينبغي إذن أن نتقاعس عن التعامل مع هذه القضايا وغيرها لمجرد أنها تثار وتنعكس علينا من مرايا الآخرين، فيركبنا العناد متصورين أننا بذلك ندافع عن هويتنا. ليست هويتنا هي (التخلف) ومقاومة (التطور).
ومن العبث أن ننحاز إلي صفوف دعاة (التجمد) باسم الدفاع عن الدين والهوية. وأخيرا فإن المعيار الذي علي أساسه نقيس الأمور يجب أن يكون معيار حاجتنا للتطور، ومقاومة (الجمود)، وهو المعيار الذي قامت علي بنائه أسس نهضتنا الحديثة، والتي لم تحقق كثيرا من طموحاتها، فتركت وراءها كثيرا من القضايا المؤجلة. لا سبيل أمامنا لاستئناف مشروع النهضة علي أسس أكثر متانة إلا أن نبحث عن أسباب إخفاقها ونواجه بشجاعة أسئلتها، أو بالأحري أسئلتنا، المؤجلة، وعلي رأس هذه القضايا قضية (تجديد الخطاب الديني).
تـــقديم
أتناول في هذه المقدمة مسألتين: المسألة الأولي علاقة (الخطاب الديني) بمجمل (الخطاب العام) السياسي الاجتماعي الاقتصادي الخ. المسألة الثانية معني (التجديد) ودلالته، آفاقه ومحاذيره حين يتصل بقضايا دينية، لا تنفصل بالضرورة عن قضايا الاجتماع والسياسة والاقتصاد. ولكن قبل الدخول في المسألتين لابد من تأكيد البديهيات، التي تتعرض للتشويه وتحتاج من ثم إلي الشرح والتوضيح. (الخطاب الديني) خطاب إنساني بشري شأنه شأن أي فرع من فروع الخطاب العام. إنه خطاب عن (الدين) وليس هو (الدين)، وهو من ثم قد يكون ـ شأنه شأن الخطاب العام ـ خطابا حافزا للتقدم والازدهار، وقد يكون خطابا محافظا يسعي لتأييد الواقع الماثل واعتبار (ليس في الإمكان أبدع مما كان). بل إنه قد يكون خطابا يقوم علي افتراض إمكانية التماثل التام مع تجربة الماضي التاريخية الاجتماعية السياسية، فيسعي لنزع صفة التاريخية عنها لتتحول إلي (يوتوبيا) يجب تحقيق نموذجها وفرضه علي الواقع الراهن ولو باستخدام القوة. نحن إذن إزاء أنماط ومستويات من الخطاب تتفاوت في مسعاها النقدي: في الخطاب الحافز للتقدم والازدهار يعلو دور (النقد)، نقد الواقع ونقد التراث، سعيا لبلورة إجاباتنا نحن عن مشكلات مختلفة من حيث الطبيعة والبناء عن المشكلات التي تعامل معها الأسلاف. هذا المسعي النقدي الخلاق لا يكتفي بنقد التراث ـ باعتباره خطابا إنسانيا أيضا عن (الدين) وليس هو (الدين) ـ بل يتناول بنفس المنهج النقدي تراث الآخر، متبعا خطوات السلف في الانفتاح النقدي الحر علي ثقافات العالم كافة.
وليس صحيحا ذلك الترويج لأكذوبة أن جيل الرواد منذ الطهطاوي حتي طه حسين مرورا بقاسم أمين وعلي عبد الرازق كانوا (مستغربين). إن نقد هؤلاء المفكرين الأعلام، الذين ذكرناهم علي سبيل المثال لا الحصر، للتراث الغربي يتماثل في عمقه مع نقدهم للتراث الإسلامي. إنه (النقد) المبدع الخلاق المضاد للتقليد الأعمي، واتباع خطي الآباء دون تبصر. أليس النهي عن التقليد الأعمي للآباء من صلب دعوة القرآن الكريم؟ وإعادة الاعتبار لجيل الرواد تنقلنا إلي مناقشة مسألتنا الأولي في هذا التقديم: هل كان هذا النمط الإبداعي من الخطاب الديني المتمثل في خطاب رواد النهضة إلا جزءا من (الخطاب العام) الاجتماعي السياسي، الذي يمكن وصفه بخطاب (النهضة الحديثة) في مجالات السياسة والأدب والتاريخ والاجتماع؟ يكفي أن نذكر كتابات (طه حسين) و(محمد حسين هيكل) و(توفيق الحكيم) و(خالد محمد خالد) و(عبد الرحمن الشرقاوي) عن (السيرة النبوية) و(حياة محمد) عليه السلام، ونضعها في سياق الكتابة التاريخية للعبادي وتاريخ الفكر الإسلامي بصفة خاصة، ذلك الذي أنجزه (أحمد أمين) في موسوعته المعروفة. إنه خطاب (التجديد) العام الذي ينطوي في عباءته خطاب (التجديد) الديني. في الخطاب المحافظ الذي يسعي لتثبيت الواقع الماثل باعتباره "أفضل الممكنات" تحل الإيديولوجيا السياسية، في صورتها البرجماتية النفعية، محل النقد. ومن السهل للقارئ الناقد أن يتابع الكتابات التي انتشرت كالسرطان في الخمسينيات والستينيات عن (الإسلام والقومية العربية) أو عن "الإسلام والاشتراكية" ليدرك غياب البعد التحليلي النقدي في هذه الكتابات. ولذلك كان من السهل علي بعض ممثلي هذا النمط من الخطاب أن يجدوا تبريرا إسلاميا لخطاب السبعينيات السياسي الاجتماعي الاقتصادي، فتم اكتشاف أن (قانون الإصلاح الزراعي) مناف للإسلام، وأن قانون (ضريبة التركات) غير إسلامي، بل تم اكتشاف أن (التجارة في العملة) تقع في دائرة (الحلال)، وأن نظام البنوك الحالي نظام ربوي خارج عن قواعد الإسلام. وهذا الخطاب الإيديولوجي كان هو الخطاب الذي أسس مشروعية (شركات الاستثمار الإسلامية)، التي لم يعد ثمة حاجة لشرح ما انتهت إليه أحوال إيداعات المواطنين المخدوعين. في سياق الكشف عن بعد (الإيديولوجيا السياسية) في الخطاب الديني نكتشف حقيقته كخطاب نساني بشري، ونعري أي قداسة مُدَّعاة قد يدعيها هذا الخطاب لنفسه. وهنا أطرح تحذيرا فحواه أن ممثلي هذا النمط الثاني من الخطاب الديني، وهم كثيرون وأصواتهم عالية مسموعة، قد يفهمون الدعوة لتجديد الخطاب الديني بأنها دعوة مدفوعة بأحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) من العام الماضي وتوابعه، وأنها من ثم مجرد دعوة لتحسين صورة الإسلام والمسلمين إزاء رد الفعل المعادي في الغرب وسعي الولايات المتحدة للتدخل في صياغة (خطاب إسلامي) ترضي عنه وتؤيده. ولعل في كثير مما يكتب وينشر في الصحف يؤكد هذا، إذ يفهم مصطلح (الخطاب الديني) باعتبار أن المقصود هو (الخطابة) في المساجد، (خطبة الجمعة) علي وجه الحصر والتحديد، وهو فهم قاصر. ليس المقصود بالخطاب الديني (الوعظ الديني) وإنما المقصود (الفكر الديني) في عمقه المعرفي. صحيح أن تجديد لغة الوعظ والخطابة مطلوب للتخلص من اللغة الرثة التي تسيطر في غياب (تعليم) حقيقي، لكن شتان بين تجديد لغة الوعظ وبين تجديد الفكر وإطلاقه حرا. بهذا المعني الأخير (تجديد الفكر) نتحدث عن (تجديد الخطاب). هذا تمييز واجب، لأن الدعوة إلي تجديد الفكر تنبع أساسا من الحاجة الملحة لتأسيس مجتمع العدل والحرية، لتأسيس الوطن (محلا للسعادة المشتركة بيننا، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع). إن تأسيس هذا الوطن هو حلم كل مواطن، وعلي ذلك يجب أن تؤخذ الدعوة لتجديد الخطاب الديني في إطار الدعوة لفتح آفاق (الحرية) التي بدونها لا يزدهر (فكر)، وبدون (الفكر الحر) لا نجاح لأي مشروع، مصنع كان أو مزرعة دواجن.
هذا التحذير ينقلني إلي المسألة الثانية: معني التجديد وآفاقه ومحاذيره، وذلك من دون حاجة إلي إفاضة الحديث عن النمط الثالث من أنماط الخطاب الديني، نمط (اليوتوبيا)، التي تتجلي في صورة (ماض) يجب صياغة (الحاضر) وفق مثاله المتوهم. هذا خطاب ضد التاريخ وضد التراث وضد الواقع، وإن كان يجد في حالة (التزمت) الراهنة أرضا خصبة لترويج دعواه.
في تحديد معني التجديد أقتبس عبارة الشيخ (أمين الخولي) التي استخدم فيها استعارة (القتل) حين قال: (أول التجديد قتل القديم بحثا)، ما معني هذه الاستعارة وما دلالتها لصياغة مفهوم التجديد؟ وفي تقديري أن (الاستعارة) - استعارة (القتل) - لا تفهم حق فهمها في سياق (الخطاب التجديدي) للشيخ إلا باقتباس عبارة أخري تتكرر أيضا في كتاباته، تلك هي (تعد الفكرة حينا ما كافرة تُحَرَّم وتحارب، ثم تصبح - مع الزمن - مذهبا، بل عقيدة وإصلاحا تخطو به الحياة خطوة إلي الإمام). إنها سنة الحياة المطردة المتكررة في حياة الفكر الإنساني عامة، وفي حياة الفكر الديني بصفة خاصة. هذه الظاهرة المطردة لا تعني أن (التجديد) وثب في فراغ، أو سعي نحو مجهول. إنه يبدأ من "قتل القديم بحثا" ولكنه لا ينتهي عند هذا، فقتل القديم إنما يعني تسليط منهج "النقد التاريخي" بضوئه الكاشف ليميز بين ما في التراث من عناصر قابلة للنماء، وما فيه من عناصر جفت وصارت من شواهد التاريخ. هذا في تقديري معني استعارة (القتل)، قتل القديم (بحثا) كمقدمة أولي للتجديد. نحن إذن في حاجة ملحة عاجلة لحرية (البحث) في التراث الديني بوصفها شرطا أوليا للتجديد. وهذه الحرية لا ضمان لها إلا برفع الحصار عن (العقل) في ممارسته للحرية. إذا كان هذا هو الشرط الأولي للتجديد، فإن آفاق التجديد يجب أن تكون بلا ضفاف، فالحديث عن ضرورة وجود (مناطق فكرية آمنة) بمعزل عن التساؤل والنقد والنقاش الحر هو مقدمة (الحجر) علي العقول، وممارسة سلطة رقابية لا وجود لها في تاريخ الفكر الإسلامي.
حين وجدت هذه السلطة كان هذا إيذانا ببداية النهاية، ودخول عصر (الجمود) و"الانحطاط" في كل المجالات، لا في مجال الخطاب الديني وحده. يؤكد هذا مرة أخرى أن (الخطاب الديني)، في الماضي كما في الحاضر، جزء لا يتجزأ من نسق الخطاب العام. يجب إذن أن تتسع دعوة التجديد لتشمل كل مجالات الفكر والإبداع، وأن تتسم بقدر هائل من التسامح مع بعض النتوءات، بل ومع بعض ما يمكن تصور أنه شذوذ وخروج علي الإجماع. إن (الحرية) هي وحدها التي تحمي نفسها، وتحمي المجتمع من (التآكل) ومن التستر على أي فساد يحتمي بمقولات زائفة عن (الحفاظ علي الهوية) و(حماية القيم).. الخ، ذلك أن مجتمعات الثقة - وعمادها الحرية الفكرية - قادرة علي التحصن ضد "التجمد و(التحلل) في آن واحد. إن خرق الإجماع - في أي مجال - يكون عادة بداية لتأسيس إجماع جديد، وهذا جوهر (التقدم) إن شيئنا أن نتقدم. أليس هذا معني أن الفكرة - التي تكون كافرة مُحَرَّمة في وقت ما - تصبح هي حاضنة التطور والتغيير في وقت آخر؟ أليس هذا هو معني الصيرورة: التطور من خلال ممارسة مستمرة للنقد، الذي ليس هو بالمناسبة (نقض) وهدم كما يشيع في الخطاب العام أحيانا حين يتصل (النقد) بالخطاب الديني؟ ومن الضروري أن أؤكد أننا في حاجة لحماية حق (الخطأ) في الاجتهاد والتجديد، والتعبير عن الرأي. أليس حق (الخطأ) محصنا في الفكر الإسلامي بالمكافأة؟ أليس من قبيل التناقض المنطقي أن يكون (التجديد) مرهونا بعدم مفارقة (الإجماع) من جهة، ومرهونا بشرط (عدم الخطأ) من جهة أخرى؟ أي تجديد متوقع إذن، وأي حرية؟ لنتناول الآن بالعرض، مجرد العرض، بعضا من قضايانا وأسئلتنا المؤجلة، لنري كيف يمكن أن نتعامل معها:
أزمة (النقد) في بنية الثقافة المعاصرة:
لماذا يمثل (النقد) حين يطال الظاهرة الدينية في أيٍ من تجلياتها أو تعبيراتها التاريخية جريمة كبري في الثقافة الإسلامية الحديثة والمعاصرة، والتي كان يفترض أن تكون - بحكم حداثيتها ومعاصرتها - أكثر قدرة علي تقبل النقد والاستجابة له بشكل إيجابي أكثر من الثقافة الإسلامية في العصور السالفة. هل يمكن أن يكون السبب كامنا في الالتباس الدلالي النابع من التشابه الصوتي في اللغة العربية بين كلمتي (نقد) بالدال و(نقض) بالضاد، فصار يُنظر إلي (النقد) بوصفه هدما و(نقضا)، وهكذا انتقلت دلالة السلب في كلمة(نقض) إلي مفهوم مصطلح (النقد)؟ لا أظن أن التشابه الصوتي يقدم تفسيرا مقنعا للخلط والالتباس الدلاليين بين معني (الفرز والتمييز) في كلمة (نقد) وبين معني (الهدم) في كلمة (نقض). إن اللغة في النهاية عملة تداولية تتحدد دلالات مفرداتها من خلال التواصل اللغوي الاجتماعي، لا من خلال الدلالات المعجمية التي تحددها القواميس، وعلي ذلك يتعين البحث خارج إطار هذا الالتباس الصوتي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخري لا يصلح هذا التعليل لتفسير ظاهرة الهلع من (النقد) في المجتمعات الإسلامية غير الناطقة بالعربية.
وبالمثل لا يمكن أن يكون الاستناد إلي إغراء التعليل، الذي يلجأ إليه البعض، بالقول إن الأزمة تكمن في بنية (العقل الإسلامي)، ذلك أن الحديث عن عقل إسلامي خارج محددات الجغرافيا والتاريخ من جهة، وبمعزل عن الشروط الاجتماعية- الثقافية للمجتمعات الإسلامية بمرجعياتها التاريخية المختلفة من جهة أخري، حديث ميتافيزيقي لا يستند إلي أسس واقعية. لعل الأكثر واقعية أن نبحث عن علة هذا الفزع العام من منهج (النقد)، خاصة حين يطال أيا من الظواهر الدينية في التاريخ الحديث، في أزمة (الحداثة) و(التحديث) وإشكالياتها النابعة من سياق العلاقة الملتبسة بين العالم الإسلامي من جهة، وبين أوروبا بصفة خاصة والغرب بصفة عامة من جهة أخري. ربما نجد في هذه العلاقة مؤشرات للإجابة علي بعض الأسئلة الحائرة. لماذا كان ممكنا مثلا في القرن التاسع الميلادي لمفكر موسوعي مثل جلال الدين السيوطي (ت 909 هـ) أن يسرد الرأي القائل بأن (القرآن) الكريم أُوحيَ إلي محمد عليه السلام بالمعني فقط وأنه هو الذي وضع صياغته باللغة العربية، ولم يعد ممكنا اليوم مجرد مناقشة هذا الرأي أو حتي حكايته؟ لماذا إذا ذكر مؤرخ - مجرد ذكر - الحقيقة التاريخية المعروفة أن محمدا، عليه السلام، فشل في دعوته في مكة حيث تعرض هو وصحبه لاضطهاد غير محتمل من قريش، ومن ثم لم يجدوا مناصا من هجرة بعضهم إلي (الحبشة) أولا، ثم هجرة الجميع إلي (يثرب) ثانيا، تهيج الدنيا ويحتج المحتجون فيحاكم الرجل ويحكم عليه بالسجن؟ ولماذا ينجرح الشعور الديني بصدور رواية أدبية أو نشر قصيدة شعرية، أو عرض لوحة فنية أو رواية سينمائية، ويحشد الخطباءُ العامةَ في مظاهرات احتجاج ضد ما لم يقرءوا أو يشاهدوا؟ ما سر ذلك العداء العجيب للفنون والآداب، خاصة فنون الموسيقي والغناء، كأن ترتيل القرآن الكريم لا ينتمي إلي فن الأداء الصوتي، وكأن القرآن نفسه ليس نصا أدبيا وفنيا راقيا بامتياز؟
وأخيرا لماذا نحرم ثقافتنا من فنون المسرح والأداء بوضع محاذير ضد ظهور بعض الشخصيات التاريخية؟ في البدء انْصَبَّ التحريمُ علي ظهور الأنبياء، ثم أخذ ينسحب تدريجيا علي الصحابة وآل البيت، والآن توضع المحاذير ضد الممثل أو الممثلة الذي يشخص دور شخصية مهمة من التابعين، كأن يقال مثلا إن عليه، أو عليها، أن يجعل من هذا الدور آخر الأدوار التشخيصية. أليس معني ذلك أن التمييز بين (الشخصية) و(الممثل) الذي يشخصها غائب غيابا تاما من أفق الوعي العام؟ إنه التوحيد التام بين (المثل) و(الممثول)، سواء في اللغة - بين الألفاظ والمعاني والدوال والمدلولات - أو في الواقع بين "الفكر) و(الشخص)، أو في الأداء الفني والأدبي بين (المتخيل) و(الواقعي). وكأن الثقافة الإسلامية ما تزال في مرحلة التفكير البدائي(السحري)، الذي لا فارق فيه بين اللغة كنظام رمزي وبين ما تمثله وترمز إليه من دلالات، ولا بين (الممثل) والدور الذي يمثله والشخصية التي يقدمها، ولا بين العمل الفني أو الأدبي وبين (العالم) الذي ينبثق عنه، أو الفنان الذي يبدعه.
يبدو هذا كله غريبا في ظل ثقافة دينية انطلقت من آفاق مرجعية تراثية رحبة، انبثقت بصفة أساسية من (قرآن) تأسست دعوته علي العقل - نقيضا للجهل والتعصب وضيق الأفق المسمي(جاهلية) - وعلي (العدل) نقيضا للظلم الذي يتأسس علي قوة (الجهل) في كل مناحي الحياة، وعلي (الحرية) نقيضا للعبودية بكل معانيها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. من هذه المرجعية الأساسية - وبفعل الفكر في تفاعله مع قضايا الواقع التاريخي الإسلامي - تولدت أبنية ثقافية فكرية فلسفية عقلانية أسست قواعد الخروج من أسر الثقافة السحرية البدائية. لكن الثقافة الفلسفية العقلانية لا تقضي قضاء نهائيا علي التصورات الثقافية ذات الطابع السحري، بل تدفع بها إلي (الهامش) وتحصرها في أطر الممارسات الشعبية، خاصة في ظل نسق ثقافي يحرص علي التمييز تمييزا مطلقا بين (الخاصة) و(العامة)، وبين (العلماء) و(الحشوية) وبين (أهل الحل والعقد) من جهة و(الطغام) من جهة أخري، أو باختصار في ظل ثقافة لا تتأسس علي (ديمقراطية) المعرفة والعلم. من هنا علينا أن نبحث عن (العلة) في استشراء (الجهل) وانتشار (الظلم) وتفشي قيم (الاستعباد) في التاريخ الاجتماعي للإسلام لا في النصوص المؤسسة للدين، علينا أن نتأمل تاريخ المسلمين لا بوصفه تاريخا مقدسا بل بوصفه تاريخ بشر من البشر، بوصفه تاريخا حرَّكته، ككل التاريخ الإنساني، عوامل الاجتماع والاقتصاد والسياسة بكل صراعاتها. وعلينا في التحليل الثقافي ونقد الفكر أن ننظر لتاريخ الثقافة الإسلامية في مجمل اتجاهاتها، أي ألا يعتمد تحليلنا علي نهج انتقائي غير تحليلي وغير نقدي. ففي قلب (العقلانية) يمكن أن نتلمس عناصر (سحرية) لا يجب تجاهلها. وبالمثل في قلب الثقافة السحرية يمكن تلمس عناصر عقلية لا يجب الاستهانة بها. إن الفصل التام بين الأبنية الثقافية في تاريخنا الفكري يفترض أنها لا تتشارك في عناصر جوهرية لرؤية العالم. ولعل أخطر من الفصل المشار إليه في بنية الثقافة - أو الثقافات - ذلك الفصل غير المنهجي بين (الإسلام) و(المسلمين)، كما يفعل منا البعض، فيفضي هذا الفصل إلي الحديث عن إسلام مفارق لبنية التاريخ، إسلام مثالي ذهني طوباوي بريء من أخطاء البشر، ومُطَهَّر من تراب الجغرافيا وغبار التاريخ. هذا الإسلام المثالي الطوباوي لا وجود له في الأعيان.
أزمة الحداثة ومشروع "الإصلاح الديني:
وهناك أسباب كثيرة تقف وراء محاولات التمييز بين (الإسلام) والمسلمين، أو علي الأصح التمييز بين (الديني) و(الدنيوي). لعل أقرب هذه الأسباب زمانيا ضغط الهجمة الاستعمارية الشرسة ضد العالم الإسلامي في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وهي هجمة ما زالت توابعها مستمرة في الوجود الصهيوني في فلسطين. تزامن مع الاحتلال العسكري والسيطرة السياسية والاقتصادية خطاب غربي سياسي - أكاديمي فيما عرف بظاهرة (الاستشراق) فحواه أن (الإسلام) هو العقبة الرئيسة التي تعوق المجتمعات الإسلامية عن تحديث أنفسها كما فعلت أوروبا. وكان من الطبيعي في سياق (رد الفعل) المصاحب لسياق المقاومة السياسية للسيطرة الاستعمارية أن يكون الخطاب الإسلامي خطابا دفاعيا اعتذاريا. في القلب من هذا النهج - الذي يمكن أن نضرب مثلا له بخطاب (جمال الدين الأفغاني) وتلميذه (محمد عبده) المصري- الحرص الشديد علي الفصل بين (الإسلام) وبين (حال المسلمين) من التخلف والهزيمة. في مثل هذا الخطاب لم يتم فقط تبرئة (الإسلام) من ذنب تخلف المسلمين، بل تم في الوقت نفسه وضع التاريخ الإسلامي في حيز (المثال) و(النموذج) الذي يجب أن يُحتذي. هذا الفصل بين (الإسلام) و(المسلمين) يمثل جوهر مشروع الإصلاح الديني في سياق التحدي الأوروبي المزدوج: تحدي القوة العسكرية ممثلا في الاحتلال والسيطرة المادية، وتحدي (التقدم) ممثلا في إلصاق تهمة (التخلف) ومعاداة التطور بالإسلام. في مواجهة التحدي الأول كانت الاستجابة هي التسلح بالتكنولوجيا العسكرية وتكوين الجيوش القوية باستيراد عناصر (القوة) من العدو لمنازلته بنفس سلاحه. وفي مواجهة تحدي (التقدم) لم يكن ممكنا إنكار حقيقة (التخلف)، بل كان لابد من الإقرار بها، وذلك من أجل تسويغ نهج (الاستيراد). لكن الإقرار بحقيقة التخلف كان يستدعي نفي صفة (التخلف) عن الإسلام ذاته، ومن هنا كان لابد من التمييز بين (الإسلام) و(المسلمين)، فإذا تم وصف المسلمين بالتخلف فإن الوصف لا ينسحب علي (الإسلام). ولا شك أن هذا التمييز كان أداة مهمة مكنت مشروع الإصلاح الديني، في كتابات (محمد عبده) علي وجه الخصوص، من إعادة قراءة النصوص التأسيسية وإعادة تفسيرها وتأويلها بما يتناسب مع التحديات التي طرحتها الحداثة الأوروبية.
لكن هذا التمييز كان له وجهه السلبي الذي آن لنا أن ندركه. لقد ساهم في تجميد صورة الماضي وتمجيده في مقابل إدانة الحاضر ونقده. وقد احتاج نقد الماضي إلي جيل آخر، لكن هذا النقد حدث في سياق أكثر تعقيدا، كانت المجتمعات الإسلامية قد دخلت فيه بداية مرحلة الانشطار والتشظي الفكري والثقافي. في محاولة تأسيس تفسير عقلاني يسمح بتقبل بعض منجزات الوافد الغربي - خاصة في مجال العلم والتكنولوجيا ومؤسسات الدولة الحديثة في السياسة والتعليم الإدارة - تمت إدانة الممارسات الدينية الشعبية - كزيارة الأضرحة والموالد والتوسل بالأولياء لشفاء الأمراض وحل المشكلات.. الخ - الأمر الذي عزَّزَ الفصل بين الثقافتين الرسمية - ثقافة العلماء والمتعلمين - والثقافة الشعبية. وهذه سلبية أخري لا يمكن تجاهلها، إذ توجه النقد للحاضر بشكل مكثف مع تبرئة الماضي من أي شائبة. ومع إنشاء نظام التعليم المدني الحديث وفصله فصلا تاما عن مؤسسات التعليم التقليدية تزايدت الفجوة بين الثقافتين.
وساهم انتشار حركة التعليم وتزايد أعداد المتعلمين في إنشاء طبقة وسيطة بين طبقتي (العلماء) و(الجهلاء)، وهي طبقة تعتمد بشكل أساسي علي (التحصيل) من الإنتاج المعرفي الذي تنتجه الطبقة الأولي، في الوقت الذي تنظر فيه هذه الطبقة الوسيطة من أنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين للطبقة الدنيا - طبقة الجهلاء- بعين الريبة والاحتقار. غني عن البيان القول إن تيار (الإصلاح الديني) بعقلانيته المذكورة وسعيه لتأسيس سلطته المعرفية كان يتراوح في مواقفه السياسية بين (نقد) الأنظمة الديكتاتورية السياسية وبين الاستعداد للتعاون معها إذا أبدت تعاطفا - ولو مرحليا مع مشروعه الفكري. وغني عن البيان كذلك أن الأنظمة السياسية تميل في الغالب إلي السعي حثيثا لإدماج المثقف في مشروعها السياسي، فتحتاج أحيانا للعقلانية - نموذج علاقة الخليفة العباسي (المأمون) بالمعتزلة وتحالفه معهم ضد الحنابلة - وتنفر منها في غالب الأحيان، انقلاب الخليفة (المتوكل) ضد المعتزلة والتحالف مع الحنابلة. ولا شك أن هذا التراوح في العلاقة بين السياسي والفكري له مردود سلبي لا يمكن تجاهله في تحليل البنية الفكرية لمشروع (الإصلاح الديني).

Post: #12
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: صلاح عباس فقير
Date: 07-06-2010, 04:28 AM
Parent: #11

نصر حامد أبوزيد -رحمه الله-
رغم كونه كاتبا بارزاً صاحب مواقف،
لم يتح لي أن أقرأه،
ولكن الآن عبر ما نقلته عنه في هذا البوست،
ومن خلال نظرات عجلى،
شعرت بأن الرجل كان متميزاً حقاً!
وعزمت على قراءته بمزاج!
شكراً لك أخي أمجد!

Post: #13
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: عبد الحي علي موسى
Date: 07-06-2010, 05:04 AM
Parent: #12

يا سلااااااااااام
تغمده الله برحمته وتقبله قبولا حسنا

Post: #14
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: قلقو
Date: 07-06-2010, 08:23 AM
Parent: #13

شـكرا ياأمجد.
بوسـت كامل الدسـم.
الا رحم الله المفكر الفذ د.نصرحامد ابوزيد.

Post: #15
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: Amjed
Date: 07-07-2010, 07:07 AM
Parent: #14

صلاح و عبد الحي و قلقو
شكراً على المرور و ابو زيد يستحق فعلاً القراءة مرات عدة

Post: #16
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: Amjed
Date: 07-07-2010, 07:10 AM
Parent: #15

فلسفه التأويل: دراسه في تاويل القران عند محي الدين بن عربي
نصر حامد ابو زيد
للتحميل :
http://www.al-mostafa.info/data/arabic/depot2/gap.php?file=010354.pdf

Post: #17
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: Amjed
Date: 07-07-2010, 07:18 AM
Parent: #16

أحد اجمل مولفاته على الاطلاق هو كتاب : النص, السلطه, الحقيقه:الفكر الديني بين اراده المعرفه و اراده الهيمنه
للتحميل
http://www.al-mostafa.info/data/arabic/depot2/gap.php?file=010110.pdf

Post: #18
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: Amjed
Date: 07-07-2010, 07:26 AM
Parent: #16

التفكير في زمن التكفير ضد الجهل و الزيف و الخرافه
http://www.4shared.com/file/64985211/2ee39063/________.html?s=1

Post: #19
Title: Re: نصر حامد أبو زيد : لا حولااا
Author: قلقو
Date: 07-07-2010, 07:47 AM
Parent: #18

اكرر لك الشكر ياايمن فهداياك لم تنقطع .
افادك الله .