مأساة تموز او في التناص بين اليوت وبدر شاكر السياب

مأساة تموز او في التناص بين اليوت وبدر شاكر السياب


12-16-2005, 08:53 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=19&msg=1201285828&rn=0


Post: #1
Title: مأساة تموز او في التناص بين اليوت وبدر شاكر السياب
Author: Agab Alfaya
Date: 12-16-2005, 08:53 PM

اهداء خاص الي الكاتب والقاص الاخ / عبد الغني كرم الله

مأساة تموز - دراسة في تأثير اليوت على شعر السياب*

بقلم : عبد المنعم عبد الله عجب الفيا



أذكر أنه في بداية انفتاحي على القصيدة الحديثة ، في بواكير الشباب كنت معجبا جدا بمطلع قصيدة السياب " أنشودة المطر " حيث يقول :

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأي عنهما القمر


وكنت قد سمعت هذين الشطرين من أحد زملاء الدراسة فعلقا بذاكرتي على الفور وصرت دائم الترديد لهما . ودفعني هذا الإعجاب إلى البحث عن النص الكامل للقصيدة . وكم كانت خيبتي كبيرة عندما قرأت القصيدة كاملة . فقد كنت أظن أن القصيدة من شعر الغزل ، وأن الشاعر سوف يستمر في النسج على المنوال الغنائي الحالم الذي استهل به القصيدة . لكنه ما أن تجاوز الشطر الخامس أو السادس حتى أنتقل فجأة دونما تمهيد من تلك الغنائية الحالمة إلى تصوير مشاهد الموت والجفاف والجوع والعظام المبعثرة واستغاثات الأطفال والعصافير لنزول المطر ثم الفيضان المدمر .

ولم أدرك سر ذلك التحول المفاجئ في نظام القصيدة إلا بعد أن اطلعت على قصيدة ( الأرض الخراب ) للشاعر الإنجليزي الأمريكي ت . اس . اليوت . عندها فقط تبين لي حجم التغيير الذي أحدثه اليوت ليس في شكل ومضمون القصيدة العربية وحسب بل في طريقة قراءتها وتذوقها أيضا .

وتنطلق فكرة قصيدة ، اليوت الأرض الخراب ) من فرضية أن العالم قد تحول عشية الحرب العالمية الأولي إلى أرض جرداء ميتـة وأن أمـل الشاعر صار في إمكانية استعادة الخصوبة إلى هذه الأرض الميتة وبعث الحياة فيها من جديد . وقد انطلق اليوت في الترميز لهذه الرؤية الشعرية بأساطير وطقوس الخصوبة والنماء عند شعوب الشرق القديم والتي استمدها من كتاب " الغصن الذهبي " لجيمس فريزر ، وكتاب "من الطقوس لادب الرومانس " لجسي وستن .

يقول صاحب " الغصن الذهبي " أن الأغريق أخذوا عبادة ادونيس إله الجنس والخصوبة من البابليين والسوريين في حوالي القرن السابع قبل الميلاد . وإن الاسم الحقيقي لأدونيس هو تموز وأن ادونيس مأخوذ في الأصل من اللفظ السومرى ادون أو أدوناى بمعنى الرب أو الإله ويقول أن الأغريق استعملوا لقب التعظيم خطأ وتركوا الاسم الحقيقي . لذلك فهو يعتقد أن قصة ادونيس وافردويت إلهة الحب والجنس الإغريقية هي في الأصل محاكاة لقصة تموز وعشـتار البابلية .

و يعتقد أن الإله تموز يموت في كل سنة مرة وعند موته تختفي معشوقته الإلهة عشتار رمز الأم والخصوبة في عالم الأموات بحثا عنه وفي فترة غيابها يجف الزرع والضرع ويعم القحط . وبعد لأي تنجح في إقناع إله الموت بإطلاق سراح تموز والعودة به إلى عالم الأحياء وعند عودتهما تزدهر الحياة من جديد في الحيوان والنبات . ويمثل غياب تموز لإنسان الشرق القديم فصل الصيف بينما تمثل عودته إلى الحياة ، الربيع . وكانت المراثي والطقوس الاحتفالية تقام في شهر تموز ، الذي سمي باسمه كل عام من أجل عودته وانبعاثه مرة أخري في الربيع . (1)

و قد استلهم اليوت أسطورة إله الخصوبة ، ادونيـس أو تموز، لتجسيد أمله في عودة الحياة والنظام والاستقرار إلى العالم الذي عمته الفوضى والإفلاس الفكري والجدب العاطفي بسبب الحرب العالمية الأولي .

وجريا على طريقة اليوت التقط شعراء الحداثة العرب الفكرة ووظفوها للتعبير عن واقعهم العربـي الـذي رأوا فيـه واقعـا مزريا ينطبق عليه وصف ( الأرض الخراب ) تلك الأرض الميتة التي فقدت القدرة على العطاء . ولم يروا مخرجا من الاستعانة بهذه الرموز الأسطورية التي استفاد منها اليوت والتي هي أصلا جزءا من موروثهم الحضاري القديم وذلك لتجسيد حلمهم بنهضة أمتهم العربية من سباتها الطويل .

وكان جبرا إبراهيم جبرا قد ترجم الأجزاء الخاصة بادونيس وآتيس وأوزيرس من كتاب ( الغصن الذهبي ) لجيمس فريزر . ونشرت الترجمة بإحدى المجلات ببغداد سنة 1954م قبل أن تصدر في كتاب بيروت سنة 1957م (2) . ويبـدو أن السياب قد تعرف على هذه الأساطير من اطلاعه على ترجمة صديقه جبرا . وإذا كان جبرا إبراهيم جبرا قد أطلق صفة الشعراء التموزيين على شعراء الحداثة العرب الذين استلهموا أسطورة تموز ( ادونيس ) في إشعارهم ، فإن بدر شاكر السياب يعد أكثر هؤلاء الشعراء استخداما لرمز تموز وعشيقته ( عشتار ) .

وفي تبريره لتوظيف الأسطورة في الشعر استخدم السياب ذات المنطق الذي سبق أن استخدمه اليوت لتبرير الشئ نفسه . يقول السيباب في ذلك :
" .. لم تكن الحاجة إلى الرمز ، الأسطورة أمس مما هي اليوم . فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه ، أعني أن القيم التي تسوده قيم لا شعرية والكلمة العليا فيه للمادة لا الروح . وراحت الأشياء التي كان في وسع الشاعر أن يقولها ، أن يحولها إلى جزء من نفسه تتحطم واحدا فواحدا ، أو تنسحب إلى هامش الحياة . إذن فالتعبير المباشر عن اللاشعور لن يكون شعرا فماذا يفعل الشاعر إذن ؟ عاد إلى الأساطير إلى الخرافات التي ما تزال تحتفظ بحرارتها لأنها ليست جزء من هذا العالم ، عاد إليها ليستعملها رموزا وليبني منها عوالم يتحدى بها منطق الذهب والحديد ، كما راح من جهة إلى أخرى يخلق أساطير جديدة ، وإن كانت محاولاته في خلق هذا النوع من الأساطير قليلة حتى الآن " .(3)

إذن الغرض من استلهام الأسطورة فنيا هو محاولة لاعادة بناء عالم جديد بديلا لهذا العالم الذي يرفضه الشاعر . وفي ذلك يقول اليوت :
" .. إنها ببساطة – أي الأسطورة – وسيلة لاعادة تشكيل العالم تشكيلا يجعله ذا معنى ومحاولة للسـيطرة علـى حركـة التاريخ المعاصر الذي تسوده الفوضـى والعبـث واللاجدوى " .(4)

ومن خلال فكرة الانبعاث والتجدد التي استوحاها من قصيدة ( الأرض الخراب ) وظف السياب ، أساطير الخصوبة لبعث وبناء العالم الذي يحلم به فـي أشعاره . وبلغ قمة نضوجـه فـي ذلك فـي مجموعتـه التي تضم أعظم أشعاره " أنشودة المطر " التي صدرت سنة 1954م ، وأبرز قصائد هذه المجموعة التي تجسد فكرة الانبعاث هي : ( مدينة السندباد ) ، ( مدينة الآلهة ) ، ( تمـوز جيكـور ) ، ( سربروس في بابل ) ، ( رؤيـا عام 1956م ) ، ( النهـر والموت ) ، إضافة إلى ( أنشودة المطر ) التي تحمل اسم الديوان .

فإذا كان العالم قد بدأ في نظر اليوت عشية الحرب العالمية الأولي ( أرضا خرابا ) فإن العالم العربي غدا في نظرالسياب هو الآخر أرضا خرابا أيضا ، لا بسبب الحرب وحسب بل بسبب عوامل أخرى مثل الجهل والتخلف والظلم والاستبداد .

وإذا كان اليوت قد استلهم أساطير الخصوبة عند الشعوب القديمة لمعالجة فكرة استعادة الحياة والنظام إلى أرضه الخراب ، فإن بدر شاكر السياب فعل الشيء نفسه باستعادة هذه الأساطير للتعبير عن رؤاه الشعرية المتمثلة في استنهاض واقعه وتجديده . وإذا كان إله الخصوبة يموت طقوسيا في الصيف ليعود ويبعث في الربيع ليجدد دورة الحياة في الإنسان والحيوان والنبات . فإن الشاعر يرى في هذا الموات الذي يحسه يسود عالمه ، ضرورة حتمية وثمن لابد من دفعه لتأمين طريق النهضة ( الانبعاث ) العربي . بل هو يتمني هذا الموت ويحلم به لأنه السبيل الوحيد لاستعادة الحياة إليه من جديد في قوله بقصيدة ( النهر والموت ) :

أود لو غرفت في دمى إلى القرار
لأحمل العبء مع البشر
وأبعث الحياة إن موتي انتصار
!

وكذلك في قصيدة ( مدينة السندباد ) حيث يقول :

فآه يا مطر !
نود لو ننام من جديد
نود لو نموت من جديد
فنومنا براعم انتباه
نود لو أعادنا الإله


ولعل أكثر قصائد السياب تجسيدا لفكرة بعـث ( الأرض الخـراب ) مـن
مواتهـا ، قصـيدة ( أنشودة المطر ) وذلك بخلاف ما يوحي بـه ظاهر القصيدة لا سيما مطلعها الذي يوهم القارئ أول وهلة بأن القصيدة غزلية ذات نغمة رومانسية حالمة . ولعل هذا الاستيهام هو الذي جعل هذه القصيدة الأكثر شهرة بين سائر القراء .

تبدأ ( أنشودة المطر ) بتأكيد خصوبة الأرض وعطاءها السخي حيث تضج كل عناصر الطبيعة بالحب وعنفوان الشباب وذلك في إشارة خفية غير مصرح بها ، إلى ذورة العلاقة وعنفوانها بين الإلهة عشـتار ( الأرض ) وعشيقـها الإله ( تموز ) . ثم ما يلبث أن يدور الزمان دورته ويستحيل كل هذا الرخاء والسخاء إلى جفاف وعقم ويعم الفقر والجوع والموت . ويظل الجميع يحلم بنزول المطر الذي يروي الأرض ويفجر بذرة الحياة فيها لتنبت من كل زوج بهيج .
ولكن حتى عندما يستجاب الدعاء وينزل المطر ، يستحيل إلى فيضان مدمر فيتحول الماء الأمل المرتجي إلى عنصر هلاك ودمار وخراب هو الآخر . ومع ذلك يظل الشاعر يحلم بنزول المطر !

لقد أتخذ السياب في هذه القصيدة ، من ( ثيمة ) المطر ناظما جماليا أو "معادلا موضوعيا " حسب المفهوم الاليوتى للتعبير عن الجفاف المادي والمعنوي رغبة منه في أحياء الموات الذي يسود العالم . وذلك مثلما فعل اليوت حينما وظف ( ثيمة ) الماء للتعبير عن ذات الفكرة في ( الأرض الخراب ) . لذلك نجد أن مفردة ( مطر ) تكررت في قصيدة السياب كثيرا وقد وردت أحيانا في صيغة لازمة موسيقية توالت في ايقاع منتظم : " مطر .. مطر .. مطر .. " أكثر من مرة وبذات الطريقة التي تكررت بها مفـردة ( مـاء ) فـي قصيـدة اليوت .
فقول السياب :

ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودة المطر
مطر ..
مطر ..
مطر
..

هو في الواقع محاكاة لقول اليوت بالقسم الخامس والأخير من ( الأرض الخـراب ) المسـمى ( مـاذا يقـول الرعـد ) حيث يصور اليوت رحلة البحث ( الصحراوية ) عـن المـاء بمعنـاه المـادي والمعنوي تصويرا رائعا تتقطع لـه الأنفاس (5):

Here there is on water but only rock
…………….
If there were the sound of water only
Where the hermit-thrush sings in the pine trees
Drip drop drip drop drop drop
But there is on water

لا ماء هنا وإنما صخر
.........
لو كان هنالك فقط صوت الماء
حيث تغرد عصافير السمان على أشجار الصنوبر
( طق .. طق .. طق )
قطرة ، قطرة ، قطرة
لكن لا ماء
.

حتى الخليج الذي يتكرر ذكره في قصيدة السياب أكثر من مرة والذي صار لايهب سوى الموت وعظام الغرقى ، فيه إشارة إلى خليج الدردنيل الذي غرق فيه جان فردينال صديق اليوت في الحرب العالمية الأولي . وقد وردت إليه الاشارة في قـول اليـوت فـي الأرض الخراب :

I think we are in the rats alley
Where the dead men lost their bones.

" أفكر، أنا في ممر الجذران ، حيث فقد الموتى عظامهم " .
ويأتـي ذكـر الخليج في ( أنشودة المطر ) في مقطع شعري يتكرر نحو ثلاث مرات في صورة لازمة موسيقية حيث ينادي الشاعر الخليج بقوله :
" يا خليج يا واهب اللؤلؤ والمحار"
فيرتد إليه صدى النداء خاسئا حسيرا :
" يا خليج يا واهب المحار والردى "
مستبدلا كلمة اللؤلؤ بالردى .

إن ( الموت بالماء ) أو الموت غرقا هو عنوان الجزء الرابع من ( الأرض الخراب ) ويمثل هذا العنوان خاصية من خصائص اليوت الأسلوبية الساخرة وهي توظيف المفارقة كقيمة جمالية للتعبير عن رؤاه الشعرية . فالماء العنصر الأساسي والوحيد في انبعاث الموات واعادة الحياة إلى ( الأرض الخراب ) يتحول إلى عامل من عوامل هذا الموات نفسه . ويعتبر الجزء الرابع ( الموت بالماء ) أقصر أجزاء قصيدة اليوت وقد خصصه اليوت للحديث رمزا عن صديقه جان فردينال الذي مات غرقا في خليج الدردنيل وذلك من خلال توظيف أسطورة الإله الفينيقي فليباس حيث يقول :

Phlelbas the Phoenician, a fortnight dead,
Forget the cry of gulls, and the deep sea swell
And the profit and loss.
A current under sea
Picked his bones in whispers.As he rose and fell
He passed the stages oh his age and youth
Entering the Whirlpool.


فيلباس الفينيقي ميت منذ أسبوعين
نسى صوت النوارس ولجة البحر العميق
والربح والخسارة
تيار بعمق البحر فت عظامه في رفق
وإذ صار يعلو ويهبط
وهو يلج الدوامة
مر بمراحل طفولته والشباب


استلهم السياب في ( أنشودة المطر ) صورة هذا الملاح الغريق الذي تناثرت عظامه في قاع البحر بعد أن ظل طافيا بفعل الموج لبعض الوقت ، ليعيد صياغتها لوصف الخليج ( العربي ) الذي صار لا يلقي باللؤلؤ كما كان يفعل من قبل وإنما يلقي بالزبد وجثث الغرقى من البحارة والمهاجرين البائسين الفقراء ، حيث يقول :

وينشر الخليج من هباته الكثار
على الرمال ، رغوة الأجاج والمحار
وما تبقي من عظام بائس غريق
من المهاجرين ظل يشرب الردى
من لجة الخليج والقرار


لاحظ التناص بين قوله : " وما تبقي من عظام بائس غريق ظل يشرب الردى من لجة الخليج والقرار " . وقول اليوت : " تيار بعمق البحر فت عظامه في رفق – وإذ راح يعلو ويهبط وهو يلج الدوامة " .

كذلك استعار السياب في ( أنشودة المطر ) صور شعرية أخري لاليوت من غير ( الأرض الخراب ) . ومن ذلك تشبيه المساء بإنسان وهي من التشبيهات المستحدثة التي أدخلها اليوت ووقف عندها النقاد وقلده فيها الشعراء . وقد ورد هذا التشبيه في أول قصيدة ( أغنية حب الفريد ج . بروفروك ) .
ومن ذلك أيضا تشبيه اليوت الشهير للمساء المتمدد على الكون كتمدد مريض مخدر على منصة طبيب جراح والوارد في مطلع القصيدة المذكورة . وقد استعار السياب هذا التشبيهات في ( أنشودة المطر ) في قوله :
" كالبحر سرح اليدين فوقـه المساء " . وقولـه : " تثـاءب المساء " .

وإذا جاوزنا قصيدة ( أنشودة المطر ) نجد أن السياب وظف فكرة الدفن الواردة في عنوان الجزء الأول ( دفن الموتى ) من قصيدة اليوت في قصائد مثل ( سربروس في بابل ) ، و ( من رؤيا فوكاى ) ، و ( عودة جيكور ) وغيرها ، وذلك في ترسيخ فكرة الانبعاث والانبـات من جديـد . وقـد كانـت جثة إله الخصوبة ادونيس ، تموز ، آتيس ، أوزيريس عند الشعوب القديمة ، تدفن في المزارع كسبر لاستمرار اخضرار الأرض من جديد . ولما كان السياب يتخذ من موت إله الخصوبة كغيره من شعراء الحداثة الذين عرفوا بالتموزيين ، رمزا لموات الواقع العربي ، فإن النهضة التي ينشدها لا تتحقق إلا بدفن هذا الواقع الميت . يقول في قصيدة ( سربروس في بابل ) :

ليعو سربروس في الدروب
وينبش التراب عن إلهنا الدفين
تموزنا الطعين
يأكل ، يمص عينيه إلى القرار
يقصم صلبه ، ينثر الورود والشفيق
آواه لو يفيق
إلهنا الفتى لو يبرعم الحقول
لو ينثر البيادر النضار في السهول
لو ينتض الحسام لو يفجر الرعود والبروق والمطر
ويطلق السيول من يديه . آه لو يؤوب
!

وجريا على طريقة اليوت يشـرح الشـاعر فـي هوامش القصيـدة معنى ( سربروس ) ويقول : " سربروس هو الكلب الذي يحرس مملكة الموت في الأساطير اليونانية حيث يقوم عرش برسفون إلهة الربيع بعـد أن أختطفها إله الموت ، وقد صوره دانتى في الكوميديا الإلهيـة حارسـا ومعذبا للأرواح الخاطئة " . (6)

إذن فالكلب الذي أشار اليوت بطرده في المقطع الأخير من الجزء الأول من الأرض الخراب ، حتى لا ينبش الجثة التي زرعها الشخص الذي يخاطبه ويمنعها من الاخضرار والأنبات – هو ذاته الكلب الإله حارس الموتى في الأسطورة اليونانية الذي حبس إلهة الربيع مثلما حبس الإله تموز ومنعه من العودة إلى عالم الأحياء ليعيد الخصوبة إلى الأرض التي ضربهـا الجفاف والعقم فـي غيابه . يقول اليوت :

That corpse you planted last year in your garden,
Has it begun to sprout? Will it bloom this year?
Or has the sudden frost disturbed its bed?
Oh keep the Dog far hence ,that’s friend to men,
Or with his nail he will dig it up again!


هل أنبتت الجثة التي زرعتها في حديقتك ؟
العام الماضي ؟ أتراها تزهر هذا العام ؟
أم ترى أن الصقيع المفاجئ اقضي مضجعها ؟
ألا فتطرد الكلب ، صديق البشر بعيدا عنها
وإلا نبش بأظافره وأخرج الجثة من جديد
!!

فالسياب آخذ هذه الصورة الشعرية من اليوت وأعاد توظيفها في قصائده وبالإضافة إلى الحمولات الأسطورية لهذه الصورة التي أشرنا إليها ، فإن اليوت يسخر هنا من جدوى الحرب التي زرعت جثث الموتى في كل مكان ويتساءل لو كان في الإمكان أن تبعث هذه الجثث إلى الحياة من جديد كما كان يبعث إله الخصوبة بعد موته كل عام . ولا شك أن اليوت مهموم بصفة خاصة بالطبع بصديقه جان فردينال الذي مات في الحرب .

ولما كان الموت معبر حتمي إلى الحياة الأبدية الخالدة فهو في حد ذاته شكل من أشكال الحياة وإن أختلف عن الحياة التي نعرفها . فـي الجـزء الأول من ( الأرض الخراب ) يذهب الشاعر إلى العرافة الشهيرة فتجد أن في حياته هذا ( الملاح الفينيقي الغريق ) في إشارة إلى جان فردينال :

Here, said she,
Is your card, the drowned Phoenician Sailor,
(Those are pearls that were his eyes. Look ! )

قالت : هنا !
ها هو كارتك ،
الملاح الفينيقي الغريق
أنظر ! هاتان اللؤلؤتان كانتا عينيه
.

ويستعير السياب صورة العينين اللتين تستحيلان إلى لؤلؤلتين من اليوت في قصيدة ( من رؤيا فوكاي ) حيث يقول :

أبوك رائد البحار نام في القرار
من مقلتيه لؤلؤ يبيعه التجار
وحظك الدموع والمحار


وكان اليوت قد ذكر فـي هوامـش ( الأرض الخـراب ) أنه أخذ عبارة ( لؤلؤتان كانتا عينيه ) من قول شكسبير في مسرحية ( العاصفة ) حيث كان الخادم الجني يغني سلوانا لفردناند الذي ظن أن أباه مات غرقا في العاصفة ويخبره أن أباه لم يمت وإنما مر بتحول بحري نفيس ونادر (7):

ها على بعد خمسة أميال
يرقد أبوك ..
من عظامه صنع المرجان
عيناه صارت لؤلؤلتان
لا يتحلل منه شىء
بل يتحول إلى شئ غال ونفيس
عرائس البحر يقرعن ناقوس نعيه كل ساعة
دنغ ، دنغ


ويثبت ذلك السياب في هوامش قصيدته ويقول : " العاصفة ، شكسبير أغنية آريل لفردناند وقد اتخذه ت . س . اليوت في قصيدة الأرض الخراب رمزا عن الحياة من خلال الموت . ولكن لاحظ كيف حولت يبيعه التجار المعنى ! " .(

و" فوكاى " كما يقول السياب في مقدمة كتبت اعلي القصيدة: " كاتب في البعثة اليسوعية في هيروشيما جن من هول ما شاهده عندما ضربت بالقنبلة الذرية " .
اذن إذا كانت قصيدة ( الأرض الخراب ) قد كتبت لنعى الحضارة الغربية عشية الحرب العالمية الأولى ، فإن قصيدة السياب من ( رؤيا فوكاى ) قد كتبت للاحتجاج على أهوال الحرب العالمية الثانية التي وصلت قمة مأساتها بأول تفجير للقنبلة الذرية . لذلك تعد قصيدة ( من رؤيا فوكاى ) أكثر القصائد التي حذا فيها السياب حذر اليوت في ( الأرض الخراب ) من حيث تقسيم القصيدة إلى أجزاء كل جزء يحمل اسما خاص به . ومن حيث توظيف ظاهرة التناص أو التضمين والاستعانة بالهوامش لتوضيح المصادر التي اقتبس منها . إلى جانب تقليد اليوت في استخدام شخصية أسطورية تلتقي عندها جميع شخصيات القصيدة الأخرى .

في أحد هوامش القصيدة يقول السياب : " وليلاحظ قراء قصيدتي هذه أن هنالك شخوصا ثلاثة تترابط في ذهني : الصياد الياباني أو الصيني الغريق الذي أخاطب ابنته ، وابو فرديناند الذي زعم آريل أنه غرق – والقردة ( البابيون ) التي أتخذت مكان أم الطفل في قرارة المحيط كما جاء في قصيدة ايديث ستويل ترنيمة السرير .. " . (9)

وهذه محاكاة صريحة لاليوت عندمـا حـاول أن يجعـل جميع شخصيات ( الأرض الخراب ) تلتقي عند شخصية تيرزياس الأسطورية حيث يقول في هوامشه :
" بالرغم من أن تيرزياس مجرد شاهد في القصيدة إلا أنه يعتبر أهم شخصية في القصيدة كلها ، إذ أنه يوحد بين الجميع . وتلتقي عنده كل الشخصيات الأخري . فالتاجر الأعور وبائع الزبيب يذوبان في الملاح الفينيقي . والملاح الفينيقي لا يختلف هو الآخر كثيرا عـن فردينانـد أميـر نابولـي فـي مسرحية ( العاصفة ) . وكذلك فإن جميع النساء في القصيدة امرأة واحدة ، ويلتقي الجميع رجال ونساء في شخصية تيرزياس . فالذي يراه تيرزياس في الواقع هو جوهر القصيدة .. " . (10)

ولما كانت قصيدة ( من رؤيا فوكاى ) بمثابة مرثية لضحايا القنبلة الذرية في اليابان فقد عمد السياب إلى إيجاد أسطورة يابانية أو صينية ليتخذها معادلا موضوعيا للتعبير عن تعاطفه مع الضحايا والاحتجاج على النهاية المأساوية البشعة التي انتهت إليها الحضارة الغربية . وعن هذه الأسطورة يقول السياب في هامش القصيدة :
" تحدثنا إحدى الأساطير الصينية عن ملك أراد ناقوسا ضخما يصنع من الذهب ، والحديد والفضة والنحاس . وكلف أحد الحكام بصنعه . ولكن المعادن المختلفة أبت أن تتحد . واستشارت كونغاى – وهي ابنة ذلك الحاكم – العرافين بالأمر فأنباؤها بأن المعادن لم تتحد ما لم تمتزج بدماء فتاة عذراء .. وهكذا ألقت كونغاى بنفسها في القدر الضخمة التي تصهر فيها المعادن .. فكان الناقوس .. وظل صدى كونغاى يتردد منـه كلمـا دق : هياى .. كونغاى ، كونغاى " . (11)

وقد جعل السياب من صوت الناقوس في رثاء كونغاى عنوانا للجزء الأول من قصيدة ( من رؤيا فوكاى ) والتي يقول مطلعها :

ما زال ناقوس أبيك يقلق المساء
بأفجع الرثاء :
" هياى .. كونغاى ، كونغاى "


ولا يخفى الشبه بين قول السياب هذا وأغنية ( آريل ) في مسرحية (العاصفة) لشكسبير في رثاء أمير نابولي والتي استوحاها السياب من تناصص اليوت معها في ( الأرض الخراب ) لا سيما في استخدم الناقوس كوسيلة لاعلان الموت والحداد .

وكان قد تعرف السياب قد تعرف اول مرة على شعر اليوت ، أثناء دراسته بكلية المعلمين العالية ببغداد حيث يقول : " وفي سنتي الأخيرتين في دار المعلمين العالية ، تعرفت لأول مرة بالشاعر الإنجليزي تي . اس . اليوت " (12)
وكانت أول إشارة إلى اليوت في شعر السياب ، وردت في ديوان ( أساطير ) الذي صدر سنة 1950م وضم قصائده التي كتبها في سـنتيه الأخيرتيـن بـدار المعلميـن وهما سنتي 47 – 1948م . ووردت الإشارة إلى اليوت في هذا الديوان في موضعين ، الأولى في قصيدة ( ملال ) في قوله :

وتجول عيني في الطريق وتستقر على كتابي
وأكيل بالأقداح ساعاتي وأسخر باكتئابي



فقد أقتبس قوله : " أكيل بالأقداح ساعاتي " من تشبيه مشهور لأليوت ورد بقصيدة " أغنية حب الفريد ج بروفروك " حيث يقول :
" أقيس حياتي بملاعق القهوة " . والإشارة الثانية جاءت في قوله :-

فلتنبت الأرض الخراب
على سنا النجم الحزين
صبارها
. (13)

ويعلق السياب على هامش القصيدة على عبارة " الأرض الخراب " قائلا : " عنوان قصيدة للشاعر الإنجليزي الرجعى ت . اس . اليوت " . ووصفه لأليوت هنا بالرجعى ربما يعود إلى انتمائه إلى الحزب الشيوعي آنذاك . حيث كان اليوت في ذلك الوقت يصنف من قبل الشيوعيين باعتباره رمزا من رموز الرجعية الرأسمالية في الأدب . ويبدو أن السياب لا يعبر هنا عن رأيه الشخصي فـي اليوت ، بقدر ما كان يعبر عن ممالاة التزامه الحزبي . فبعد سنوات من ذلك يعود ويصف اليوت بأنه أعظم شاعر حديث في اللغة الإنجليزية . (14)

وبعد انسلاخه عن الحزب الشيوعي في حوالي عام 1953 صار أكثر حرية في التعاطي مع تيارات الشعر العالمي بمختلف اتجاهاته . وبتأثير من الشاعر الإنجليزي اليساري استيفن سبندر تبنى له اتجاها شعريا جديدا سماه " الواقعية الحديثة " حيث يقول : " .. الواقعية التي أدعو إليها هي الواقعية الحديثة التي تحدث عنها الناقد والشاعر الإنجليزي ستيفن سبندر في محاضرته القيمة عن الواقعية الجديدة والفن والتي جاء فيها أن الفنان الحديث أصبح انطباعيا وسرياليا وتكعيبيا ورمزيا في محاولة منه للانسجام بين ذاته والمجتمع " .(15)

هذا المفهوم الشمولي للفن دفعه إلى الإقبال على شعر اليوت والتأثر به أكثر فأكثر . وتجلى ذلك أول الأمر في استلافه لأساطير الخصوبة والبعث التي استلهمها اليوت في قصيدة ( الأرض الخراب ) . فبعد أن كان استعماله الأسطورة لا يتجاوز الزج بأسماء الأساطير اليونانية القديمة في ثنايا قصائده كما كان يفعل شعراء الغرب الرومانسيين مثل كيتس وشيلى اللذين تأثر بهما في بواكير شبابه ، صار يستدعى الأساطير الشرقية مثل عشتار وتموز وادونيس ويحولها إلى مطلق أو معادل موضوعي يجسد أحلامه وأشواقه الخاصة والعامة .

وهكذا يتضح مدي عمق تأثر السياب - أهم رواد قصيدة الحداثة العربية- باليوت وأسلوبه الشعري . إلا أنه يمكن القول إجمالا أن هذا التأثر يكاد ينحصر في الاقتباس والتضمين ( التناص ) وفي استخدام الأسطورة ولا يتعدى ذلك إلى البنية الموسيقية والدرامية للقصيدة والتعبير بالصورة الشعرية ، بديلا عن التقرير المباشر الذي يميز طريقة السياب في الكتابة الشعرية .

________

* نشرت بمجلة الرافد - دائرة الثقافة والاعلام بالشارقة - عدد 69 - مايو 2003
** فصل من كتاب تحت الطبع : تاثير اليوت علي القصيدة العربية الحديثة

الهوامش :

1- James Frazer,The Golden Bough,Oxford Press,1994,p300-3004
2- د. احسان عباس - بدر شكر السياب - حياته وشعره - دار الثقافة - بيروت - الطبعة الخامسة ص
3- ناجي علوش - مقدمة ديوان بدر ساكر السياب - المجلد الاول - دار العودة بيروت - طبعة 1995 ص
4- Students Guide to the selected poems of T.s.Eliot, B.c.Southam,Faber & Faber,Six Edition,p.131
5- ديوان بدر ساكر السياب - المجلد الاول - دار العودة بيروت - طبعة 1995 ص 482
6- ديوان بدر ساكر السياب - المجلد الاول - دار العودة بيروت - طبعة 1995 ص 356
7- د. عبد الواحد لؤلؤة - الارض اليباب - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - الطبعة الاولي 1980 - بيروت
8- ديوان بدر ساكر السياب - المجلد الاول - دار العودة بيروت - طبعة 1995
9- المصدر السابق ص 357
10- T.S.Eliot,The Waste land and other Poems,Faber & Faber,1990,p 44
11- ديوان بدر ساكر السياب - المجلد الاول - دار العودة بيروت - طبعة 1995 ص 355
12- د. احسان عباس - بدر شكر السياب - حياته وشعره - دار الثقافة - بيروت - الطبعة الخامسة ص 89
13- المصدر السابق ص 145 .
14- المصدر السابق ص 145 .
15- ديوان بدر ساكر السياب - مقدمة ناجي علوش - المجلد الاول - دار العودة بيروت - طبعة 1995

Post: #2
Title: Re: مأساة تموز او في التناص بين اليوت وبدر شاكر السياب
Author: Sidig Rahama Elnour
Date: 12-17-2005, 01:56 AM
Parent: #1

الاخ الأستاذ المجود عبدالمنعم عجب الفيا
جهد مقدر ومقال جميل بسرد مُحكم ، وواحد من مفاتيح قراءة الشعراء الاجانب وقوة تاثيراتهم وتاثرهم بالبئية الشعرية العربية حيث لم تحظى أعمال كثيرة حتى الآن بمقاربات ادبية ودراسات جادة ولم تنال نصيب كبير من عناية دارسي الأدب العربي في اللغة الإنجليزية. ولعل ذلك أن المعنيين بتتبع الشعر العربي الحديث في تلك اللغة هم قلة قليل. ربما لصعوبة فهم الشعر وتذوقه على غير الناطقين بلغته. و الملاحظ أن ابرز الكتب التي نشرت بالإنجليزية عن الشعر الحديث قام بها دارسون شرقيين أو ناطقون بالعربية. وخير مثال على ذلك ستجده واضحاً اذا تتبعت مسرحية مآساة الحلاج للشاعر صلاح عبدالصبور والجهود التي يبذلها الباحثون للتعرف على تفاصيل حياة الحلاج ، معظهم كان من المهتمين الغربيين.
لذلك تظل تاثيرات الشعراء الأجانب أو تاثرهم بالشعر العربي بعيدة عن متناول اليد ومن الصعوبة بمكان الحصول على مقالات في المكتبة العربية تشبع نهم المعرفة الذي يجتاح الهواة والطلاب الباحثين عن المعرفة في هذا الصدد.
فليس من الصعوبة ان نعرف أن مقال مثل هذا يحتاج الى جهد المقل والإجتهاد الكبير لإخراجه في هكذا جمال ليبني جسر عظيم من التلاحم والتكميل بين ضفتيى الحقول الشعرية.
وقع في ناظري منذ مدة طويلة مقالة ومعادلة بين إليوت وأبي العلاء المعري ولا أذكر عن ملامحها الكثير ولكن مقالك هذا شجعني للبحث عنها لمقارنتها بما كتبت
تحياتي وتشكراتي على المقاربة الجميلة والتي بلاشك ستكون خير جليس لي في أمسية اليوم

Post: #3
Title: Re: مأساة تموز او في التناص بين اليوت وبدر شاكر السياب
Author: Agab Alfaya
Date: 12-17-2005, 12:22 PM
Parent: #2

Quote: فليس من الصعوبة ان نعرف أن مقال مثل هذا يحتاج الى جهد المقل والإجتهاد الكبير لإخراجه في هكذا جمال ليبني جسر عظيم من التلاحم والتكميل بين ضفتيى الحقول الشعرية.

الاستاذ صديق رحمة النور
جزيل الشكر علي تثمين هذا الجهد الذي ارجو ان يكلل باخراج الكتاب الذي بشرنا به والذي ظل رهين الادراج ما يزيد علي خمسة عشر سنة .
يتالف الكتاب من ثلاثة اجزاء رئيسية :
الاول في التعريف باليوت كشاعر وناقد والتعريف بقصيدة الارض الخراب .
والثاني في الرد علي الدكتور عبد الله الطيب .
والثالث في تاثير اليوت علي شعراء القصيدة العربية الحديثة ونماذج من هذه التاثرات : السياب وصلاح عبد الصبور ومحمد عبد الحي واخرون .

نتمني ان نوفق في ذلك في القريب العاجل .

اكرر شكري وعميق احترامي .





Post: #4
Title: Re:مفتاح قصيدة الارض الخراب
Author: Agab Alfaya
Date: 12-17-2005, 09:14 PM
Parent: #1

مفتاح الارض الخراب - T.S.Eliot Waste Land

جان فردينال

مفتاح " الأرض الخراب
"


لعل الشهرة التي نالتها قصيدة The waste Land " الأرض الخراب " للشاعر الإنجليزي الأمريكي تي . أس . إليوت لم تنلها أي قصيدة أخرى في القرن العشرين . لقد كانت بمثابة إنجيل للشعر الحديث . فقد نسج على منوالها شعر كثير ولا يزال ينسج وسكب في دراستها مداد كثير حيث ألفت العديد من الكتب والمقالات النقدية عن القصيدة وعن شاعرها .

وقد تأثر الشعراء العرب المحدثون كغيرهم من الشعراء بالقصيدة واستلهمها الكثيرون من جيل رواد القصيدة الحديثة وحذو حذوها في تجاربهم الشعرية ، ومن هؤلاء السياب والبياتي وأدونيس وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي ومحمد عبد الحي وأمل دنقل وآخرون . وقد ترجمت القصيدة إلى اللغة العربية أكثر من مرة . وقد اختلف المترجمون العرب في ترجمة عنوان القصيدة . فقد ترجمه د. لويس عوض بالأرض الخراب ، وتبعه في ذلك جماعة مجلة " شعر " أدونيس ويوسف الخال . وترجمه الدكتور إحسان عباس بالأرض اليباب وتبعه في ذلك الدكتور عبد الواحد لؤلؤة وآخرون . أما الدكتور عبد الله الطيب المجذوب فقد اختار ، الأرض القفر ، ترجمة للعنوان وذلك في بحثه المشهور الذي نشر لأول مرة في مجلة الدوحة القطرية في عام 1982م تحت عنوان : الفتنة بإليوت خطر على الأدب العربي .

واعتقد أن ترجمة عنوان القصيدة بالأرض الخراب ، هي أقرب إلى الدقة لأنها تعبر عن الفكرة العامة والمناخ العام للقصيدة . فقد كتبت القصيدة في أجواء الحرب العالمية الأولى .
واتفق النقاد تقريبا على أن إليوت يقصد بالأرض الخراب ، العالم عشية الحرب الكونية الأولى وقد عمته حالة من الخراب والدمار المادي والمعنوي والخواء الفكري والروحي ي ولعل اليوت مهموم،كما يتضح من قراءة القصيدة، بالخراب المعنوي اكثر من اهتمامه بالخراب المادي لأن الخراب المعنوي هو الذي يقود إلى الخراب المادي . وكلمة ،الخراب، تشير إلى الدمار المادي كما تشير في الوقت نفسه إلى الدمار المعنوي لذلك فهي الأقدر والأكثر دلالة على فكرة القصيدة إذ أنها تشير إلى المعنيين : المادي والمعنوي . هذا بالإضافة إلى أن كلمة الخراب تستعمل في اللغة العربية للدلالة على المستويين ، المادي والمعنوي ، فنحن نقول مثلا ، خراب الذمم ، ونقصد به الفساد الأخلاقي وهو معنى معنوي . أما في المستوي المادي فقد وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) .. سورة الحشر الآية 10.

قلنا أن القصيدة كتبت في أجواء الحرب العالمية الأولى ونشرت لأول مرة عام 1922م . لذلك لابد لقراءة القصيدة وتأويل دلالاتها التأويل الصحيح من استصحاب هذه الأجواء التي كتبت فيها . لأن الذين أسقطوا السياق الزمني الذي كتبت فيه القصيدة وصفوها بالانهزامية وبأنها نعي للحضارة الغربية ووصفوا شاعرها بأنه شاعر رجعي ومتشائم . لذلك لابد من النظر إلى القصيدة في سياقها التاريخي . فهي تعبر أكثر عن الجيل الذي عانى ويلات الحرب وعن الآثار النفسية التي تركتها على ذات الشاعر .

وإذا كان معظم النقاد قد اتفقوا على أن إليوت يرمـز بالأرض الخراب إلى العالم في أعقاب الحرب العالمية الأولى وعن حالة الخواء الفكري والفراغ الروحي الذي خلفته الحرب على إنسان الحضارة الغربية ، إلا أن الأمر الذي حير النقاد كثيرا ولم يجدوا له تفسيرا أول الأمر ، هو هذا المطلع الذي استهل به إليوت القصيدة والذي يصف فيه الربيع ( أبريل ) بالقساوة والوحشة بينما يصف فيه الشتاء بالدفء والسكينة . يقول في مطلـع القصيدة :

April is the cruellest month, breeding
Lilacs out of the dead land, mixing
Memory and desire, stirring
Dull roots with spring rain.
Winter Kept us warm, covering
Earth in forgetful snow

أبريل أقسى الشهور ، منبتا
الليلاك من الأرض الموات ،
مازحا
الذكرى بالرغبة ، مثيرا
الجذور الخاملة بأمطار
الربيع
الشتاء أدفانا
..

فلماذا هذه المفارقة المباغتة من أول القصيدة التي يصف فيها أبريل الذي يعتبر مقدم الربيع في أوروبا ، بالقساوة والوحشة ؟ لقد فشل النقاد أول الأمر في تحديد السبب المباشر الذي يكمن وراء هذه الصورة القاتمة التي رسمها الشاعر للربيع وذهبوا إلى أن هذه المفارقة لا تعدو أن تكون انعكاسا للحالة النفسية الصعبة التي كان يعانى منها الشاعر .

إلا أن إليوت كان قد كتب مقالا بمجلة Criterion " المعيار " اللندنية نشر بعدد شهر أبريل عام 1934م واصفا فيه ثراء الحياة الثقافية والاجتماعية في باريس مقابل الجفاف في لندن آنذاك . وقد أشار إليوت في هذا المقال إلى بعض الصور التي يبدو أن لها علاقة مباشرة مع الصور التـي رسمـها فـي افتتاحية
الأرض الخراب .

يقول إليوت في هذا المقال : " لابد أن أقر بأن أعمق ذكرياتي تعود إلى عصر ذلك اليوم حيث الغروب المثير بحدائق لكسمبورج وصورة أحد أصدقائي مقبلا نحوي ملوحا بغصن من زهور الليلاك . ذلك الصديق الذي عرفت ، فيما بعد ، أن جسده قد امتزج بوحل غاليبولي " .
"Iam willing to admit that my own retrospect is touched by a sentimental sunset, the memory of a fiend coming accross the Luxembourg gardendsin the late afternoon waving a branch of lilacs, a friend who was later(so far asI could find out)to be mixed with the mud of Gallipoli."

فلو تأملنا ما جاء في هذه الفقرة من المقالة التي نشرها إليوت في أبريل 1934م بمجلة " المعيار " وقارنا بينها وبين افتتاحية الأرض الخراب أعلاه ، لتبين لنا أن افتتاحية القصيدة تكاد تكون هي الصياغة الشعرية لذكريات الشاعر التي أشار إليها في تلك المقالة والتي يتحدث فيها عن ذلك الصديق الذي كان يلوح له بغصن الليلاك في ذلك الغروب بحدائق لكسمبورج في ذلك الربيع الذي وصفه بالمثير بباريس ؟ فمن هو هذا الصديق الذي تثير ذكراه في نفس الشاعر كل تلك القساوة والوحشة وتحول الربيع في نظره من فصل جميل ورائع إلى فصل كئيب وقاتم ؟

يقول البروفسير والناقد الأمريكي جيمس ميلر في كتابه :

T. S. Eliot’s Personal Waste Land والذي صدر لأول مرة عن جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة عام 1977م إن ذلك الصديق الذي تثير ذكراه في نفس الشاعر تلك القساوة والوحشة وتحيل الربيع في نظره إلى فصل كئيب وقاتم هو جان فردينال . ذلك الشاب الفرنسي الذي كان يزامل إليوت أيام الدراسة بالسربون بفرنسا حيث كان يدرس الطب ويتعاطى الشعر . وقد ربطته علاقة صداقة حميمة جدا بإليوت ، ولما نشبت الحرب العالمية الأولى سنة 1914م عاد إليوت إلى إنجلترا والتحق جان فردينال بخدمة القوات المسلحة الفرنسية حيث شارك في الإنزال البحري الذي قامت به قوات الحلفاء في 24 أبريل 1915م للاستيلاء على غاليبولي التركية على خليج الدردنيل . إلا أن الحلفاء فشلوا في هذا الهجوم في الاستيلاء على غاليبولي واستشهد في هذه المعركة عدد كبير من قوات الحلفاء وكان جان فردينال أحد آلاف الضحايا من الجنود الفرنسيين والإنجليز والأستراليين الذين امتزجت دماؤهم بمياه الدردنيل .

وقد ترك نبأ استشهاد فردينال أثرا سيئا في نفس إليوت وضاعف من الأزمة النفسية التي كان يمر بها وزاد من تدهور حالته الصحية خصوصا بعد فشل زواجه من السيدة فيفيان ، فنصحه الأطباء بالسفر إلى لوزان بسويسرا للاستشفاء حيث واصل كتابة الأرض الخراب من هنالك .

وكان إليوت قد أهدى أولى قصائده " أغنية حب الفريدج . بروفروك " التي لفتت إليه الأنظار ونشرت عام 1917م . أهداها إلى جان فردينال ، وجاء الإهداء في الطبعة الأولى كآلاتي : " إلى جان فردينال 1888 – 1915م مات في الدردنيل " . وأضاف إلى الإهداء عبارات استعارها من دانتي كتبها كما هي بالإيطالية تقول : " كلما تأملت إغراءات هذه الدنيا أيقنت أن الحياة ظل زائل ويا ليتك تفهم مبلغ الحب الذي يربطني بك "
"Now can you understand the quantity of love that warms me towards you,so that I forget our vanity,and treat the shadows like the solid thing."

لكل ذلك فإن البروفسير جيمس ميلر يـرى أن جـان فردينال هو مفتـاح الأرض الخراب وقد أعاد قراءة القصيدة كلها في ضوء العلاقة التي ربطت إليوت بجان فردينال واستطاع بذلك أن يضع يده لأول مرة على المفتاح الحقيقي للقصيدة وتمكن من إجلاء الغموض الذي ظل يكتنف بعض تفاصيل القصيدة لأكثر من نصف قرن من الزمان .

وبالرغم من أن الكتاب صدرت طبعته الأولى منذ عام 1977م إلا أنه حسب علمي لم يترجم إلى العربية حتى الآن وهذا بمثابة دعوة للمتخصصين والباحثين لنقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية . هذا بالرغم من أن الدكتور عبد الواحد لؤلؤة قد قدم دراسة قيمة عن القصيدة في كتابه المعنون : الأرض اليباب ، إلا أنه لم يشر إلى جان فردينال وعلاقته بإليوت وكذلك لم يشر إلى كتاب جيمس ميلر TS. Eliot’s Personal Waste Land
وكان إليوت قد رمز في القصيدة إلى جان فردينال مرة بالملاح الفينيقي الغريق ، ومرة أخرى بفليباس الفينيقي . ففي الجزء الأول من الأرض الخراب يذهب الشاعر إلى قارئة الطالع والمنجمة الشهيرة فتخبره أن في حياته هذا :

The drowned Phoenician Sailor,
Those are pearls that were his eyes. Look !

الملاح الفينيقي الغريق
أنظر ! : لؤلؤتان كانتا من قبل عينيه


والملاح الفينيقي الغريق هنا ما هو إلا المعادل الموضوعي لجان فردينال ، صديق الشاعر الذي مات غرقا في أبريل في خليج الدردنيل في الحرب العالمية الأولى عام 1915م . والدلالة الرمزية للملاح الفينيقي الغريق تكمن في أن الشاعر يتمنى لو أن فردينال الذي مات غرقا ، يبعث من جديد كما كان يبعث أدونيس إله الخصوبة الفينيقي بعد موته كل عام كضمان لاستمرارية الخصوبة وعودة الربيع . أما قوله : " لؤلؤتان كانتا عينيه " اقتبسه إليوت ( من قول شكسبير بمسرحية ، العاصفة حيث كان ، آريل ، يغنى عزاء للأمير فرديناند بطل المسرحية ، ويخبره بأن أباه لم يمت في العاصفة ، وإنما مر بتحول بحري نفيس ونادر إذ تحولت عيناه إلى لؤلؤتين وعظامه إلى مرجان . وإليوت في استلهامه لأغنية آريل يتمنى لو أن صديقه مر بذلك التحول النفيس ، بل يتمنى بالأحرى لو أن فردينال لم يمت أصلا كما كان الحال مـع فرديناند فـي مسرحية العاصفة الذي يكتشف مؤخرا أن أباه لم يمت ولم يمر بذلك التحول البحري النفيس بل أن الطيف آريل كان يغنى سلوانا له حتى قاده إلى حب ميرندا التي شغف بها حبا .

أما في الجزء الرابع من القصيدة الذي يحمل عنوان : " الموت بالماء " فيرمز فيه الشاعر إلى جان فردينال ، بفيلباس الفينيقي ويقول :

Phlebas the Phoenician, a fortnight dead,
……………………
O you who turn the wheel
And look to the windward,
Consider Phelbas, who was once handsome
And tall as you.

فليباس الفينيقي ميت
منذ أسبوعين …
وأنت يا من تدير الدفة
وتنظر
صوب الريح
تأمل فليباس ، فقد كان
وسيما وفارعا مثلك
!

ويقصد بفليباس الفينيقي إله الخصوبة عند الفينيقيين التي كانت صورته ترمى في البحر كل عام كضمان بتجديد دورة الحياة في الحيوان والنبات وضمان لدوران الفصول وتداولها .

وتظل صورة فردينال تطارد الشاعر في كل تفاصيل القصيدة تقريبا وتلح عليه ولا تبارح مخيلته أبدا . فحتى وهو في لحظات النشوة حينما يكون جالسا بجوار محبوبته يظل شارد الذهن مستغرقا في استحضار ذكرى صديقه ، وعندما تسأله في الجزء الثاني من القصيدة " لعبة شطرنج " فيما يفكر يجيبها بقوله :

I think we are in rats’ alley
Where the dead men lost their bones.

أفكر أنا في ممر الجرذان
حيث فقد الموتى عظامهم

وممر الجرذان هنا ، ما هو إلا خليج الدردنيل الذي مات وفقد فيه آلاف الجنود ومن بينهم بالطبع صديق عمره جان فردينال . وفي محاولة يائسة لبعث الحياة في الموتى الذين زرعت الحرب أشلاءهم في كل مكان ، يبصر الشاعر في المقطع الأخير من الجزء الأول من القصيدة المعنون " دفن الموتى " بشخص وسط الجموع المتدفقة ذات صباح شتائي غائم على جسر لندن فينادي صائحا :

You who were with me in the ships at Mylae
That corpse you planted last year in your garden,
Has it begun to sprout? Will it bloom this year?
Or has the sudden frost disturbed its bed?
Oh keep the Dog far hence, that’s friend to men,
Or with his nails he will dig it up again
You” hypocrite lecteur – mon semblable,
Mon frere “

يا من كنت معي على السفن
بميلاي
هل أنبتت الجثة التي زرعتها
بحديقتك العام الماضي ؟
أتراها ستزهر هذا العام ؟
أم ترى أن الصقيع المفاجئ
أقض مضجعها
ألا فلتطرد الكلب بعيدا عنها
وإلا نبش بأظافره فأخرج
الجثة من جديد
اا

و ميلاي معركة حربية بين روما وقرطاجة في القرن الثالث قبل الميلاد . ولعل إليوت يتخذ منها رمزا لكل الحروب المدمرة التي وقعت في التاريخ ، لا سيما الحرب العالمية الأولى التي عانى الشاعر من ويلاتها الكثير وفقد فيها أعز صديق لديه ألا وهو جان فردينال . أما استفساره لذلك الشخص عن مصير الجثة التي زرعها بحديقته العام الماضي ربما أراد أن يعبر به عن سخريته المريرة بجدوى الحرب التي لم تخلف عبر التاريخ الطويل سوى الدمـار والخراب . كما أن الاستفسار عن مصير الجثة ينطوي على إشارة واضحة إلى طقوس الخصب عند الشعوب القديمة التي يقول إليوت في هوامش الأرض الخراب ، إنه استوحى منها رموزه ورؤاه الشعرية . كما يقول أن السؤال عن مصير الجثة يومئ إلى رغبة دفينة لدى الشاعر في أنه لو كانت تلك الممارسات الأسطورية المتمثلة في دفن صورة إله الخصوبة في الزرع وبعثه كل عام حقيقة وذلك في إشارة إلى إمكانية بعث جثة صديقه الذي مات غرقا .

وهكذا إن تجربة الحرب قد ارتبطت في وجدان إليوت بذكرى صديقه جان فردينال . وإن فردينال هو الخيط الذي ينتظم كل أجزاء القصيدة ويجمع أطرافها التي تبدو أول وهلة مفككة متناثرة . وإن فصل الربيع - أبريل - الذي وصف بالوحشية والقساوة يثير في نفسه ويؤجج نار كل تلك الذكريات الجميلة والمؤلمة في آن معا . إنه يذكره بصديقه الذي مات غرقا في الحرب في خليج الدردنيل في أبريل 1915م ، والذي ارتبطت ذكراه في ذهن الشاعر بصورته وهو وسط حدائق لكسمبورج بباريس في ذلك الغروب المثير ملوحا بغصن من زهـور الليلاك . تلك الصورة الرومانسية التي حفرت في وجدانه عميقا وصارت رمزا وتجسيدا حيا لتلك الذكريات الخصبة والأيام الجميلة التي قضياها قبيل الحرب بفرنسا وألمانيا وإيطاليا .

ومن هنا كان مصدر اختلافنا مع البروفسير الراحل المقيم عبد الله الطيب الذي كان يرى أن إليوت قد أخذ عنوان القصيدة وعنوان الجزء الأول منها ومطلعها من معلقة لبيد بن ربيعة العامرى بينما نرى نحن كما سبق البيان ، إن إليوت كان يصدر في صياغة القصيدة عن تجربة شعورية حقه عاناها عن المستوى الواقع والشعر . وقد أوردنا رأينا هذا في كتاب أنجز منذ عام 1992م ولم يرى النور حتى الآن والذي أخذنا منه هذا المقال .

_______________________________________
نشرت بمجلة الرافد الامارتية-عدد-يناير2001
_______________________________

المراجع
___________________________________




1- The students Guide to the selected Poems of T.S.Eliot, southman, Faber and Faber, London ,Six Edition 1994
.
2- The Waste Land and other Poems. T.S.Eliot, Faber and Febar, London 3 rd ed.1995.
3- T.S. Eliots Personal Waste Land, James Miller,Pensylvania University Press,1977 p.24,25,26

4 -الارض اليباب-الشاعر والقصيدة-د.عبدالواحد لؤلؤة-المؤسسة العربية للدراسات والنشر-الطبعة الاولى-بيروت
والجدير بالذكر ان لؤلؤة لم يتحدث في كتابه رغم اهميته عن جان فردنال كما لم يشر الي كتاب ميلر

5في الادب الانجليزي الحديث-د.لويس عوض-الهيئة العامة للكتاب-القاهرة-طبعة1990-الطبعة الاولي كانت 1950
6-الفتنة باليوت خطر علي الادب العربي -د.عبدالله الطيب-مجلة الدوحة القطرية -فبراير،مارس،ابريل1982




عبد المنعم عجب الفيا





Post: #5
Title: Re: التناص بين اليوت وصلاح عبد الصبور
Author: Agab Alfaya
Date: 12-19-2005, 01:11 PM
Parent: #1

التناص بين اليوت وصلاح عبدالصبور*

عبد المنعم عجب الفيا


لا شئ يعبر عن عمق المكانة التي أحتلها اليوت في وجدان الشاعر صلاح عبد الصبور أكثر من وصفه له بالعظمة . ففي سياق حديثه عن القراءات الأولي التي فتحت وعيه الفني يقول عبد الصبور إن ظلال كل هذه القراءات تلاشت عن ذاكرته الجمالية ولم تبق سوى ظلال " اليوت العظيم " . (1) وهذا الوصف فيه ظلال من وصف اليوت لأستاذه عزرا باوند عندما خاطبه في إهداء ( الأرض الخراب ) بقوله : " إلى المبدع الاعظم " . ليس هذا فحسب ، بل أنه يصف اكتشافه لاليوت بأنه نعمة ساقها الله إليه عن طريق صديقه بدر الديب ، الكاتب والناقد الذي هيأ له فرصة قراءة أشعار اليوت لأول مرة حيث أعاره مجموعة من شعره كانت ترقد بمكتبة الجامعة حيث كان يعمل بدر .

وإذا كان بدر الديب قد قاد عبد الصبور إلى قراءة أشعار اليوت فإن لويس عوض كان أول من لفت نظره إلى اسم اليوت . لقد " هبط اليوت إلى بلادنا لأول مرة على صفحات كتاب لويس عوض عن الأدب الإنجليزي الحديث . ولكن لويس عوض حذرنا منه كأنه الحلوى السامة حين قال أنه شاعر عظيم ورجعى عظيم أيضا . ولقد كانت كلمة رجعى في تلك الفترة أسوأ الكلمات وقعا فـي آذاننـا "(2) .

ولكن هذه المقولة كانت متعجلة في نظر صلاح عبد الصبور . فاليوت لم يكن هروبيا ولا رجعيا حيث لم " تكن افكاره عن الماضي إلا رغبة في عرض الحاضر بفقره الروحي عليه ، لكي يكون دافعا لأبناء الحاضر أن يتجاوزوا إملاقهم الروحي والفكري " . (3) وهنا يكمن سر عظمة اليوت في نظر عبد الصبور فهو قد جمع كما يقول استيفن سبندر" بين الطابع الروحي السلبي لعالمنا المعاصر ، وبين الطابع الروحي الإيجابي للعالم القديم . فقد كان شاعرا ممسوسا بفكرة الزمن ، ولقد التقى في شعره الماضي والحاضر في هيئة رموز تكشف حين التأمل عن قيم اجتماعية ودينية بالغة العمق " (4) .

هذه الرؤية الجدلية أو التاريخانية ، إن شئت ، للتراث الإنساني هي التي أثارت إعجاب عبد الصبور بنظرية ( الموروث الأدبي ) على حد تعبيره ، التي بسطها اليوت في مقالته الشهيرة ( التقاليد والموهبة الفردية ) . وهو يرى في هذه النظرية حلا للصراع بين القديم والجديد . ويقول أنه استعان بها بأوسع مما استعان بها اليوت نفسه ، لاعادة قراءة التراث العربي والشعر العربي القديم : " فنحن بحاجة ملحة إلى أن نعيد النظر في تراثنا الشعري منذ امرئ القيس 00 ننظر في هذا التراث بمقاييسنا الجديدة .. ثم نستبقي من هذا التراث ما نراه ملائما لأذواقنا وأنفسنا .." (5) .

والحقيقة بالإضافة إلى ذلك هناك أسباب أخرى ربما تكون شخصية لانجذاب صلاح عبد الصبور لطريقة الشاعر ت . س . اليوت . فقد بدأ لي أثر مطالعة الأعمال الأدبية لهذين الشاعرين أن هنالك شبه في التكوين النفسي والمزاجي . هذا الشبه أدى إلى تقارب إن لم أقل تطابق في الرؤية الفنية لكيهما . فالنزعة الصوفية التأملية ورنة الحزن ( المنخولية ) التي تضفي جوا من الكآبة الميتافيزيقية إلى جانب العمق الفلسفي وإحكام الصنعة وتجويد الأداء هي قواسم مشتركة في آثار الشاعرين . هذا بالإضافة إلى اوجه الشبه الأخرى . فكلاهما ناقد ومفكر وكاتب مسرحي وصحافي متميز إلى جانب المكانة الشعرية المتميزة والأثر الأدبي الذي خلفه كل منهما في بلده .

على مستوى الكتابة الشعرية فأول ما لفت نظر صلاح عبد الصبور في أسلوب اليوت هو اللغة الشعرية . يقول : " حين توقفت عند الشاعر ت . س . اليوت في مطلع شبابي لم تستوقفني أفكاره أول الأمر بقدر ما استوقفني جسارته اللغوية . فقد كنا نحن ناشئة الشعراء نحرص على أن تكون لغتنا منتقاة منضدة تخلو من أي كلمة فيها شبه العامية أو الاستعمال الدارج " (6).
ويضرب مثالا على هذه الجسارة اللغوية التي شدت انتباهه أول الأمر بأبيات من قصيدة " الأرض الخراب " وردت فيها كلمات مثل ، الشاي والأكل المعلب والجوارب والستيان والشبشب والغسيل المنشور . وهي الأبيات الواردة بالجزء الثالث من القصيدة المسمى " موعظة النار " . يقول مثل هذه الألفاظ لم نعتاد على استعمالها في الشعر فقد خرجنا من عباءة المدرسة الرومانتيكية العربية بموسيقاها الرقيقة وقاموسها اللغوي المنتقي الذي تتناثر فيه الألفاظ ذوات المدلولات المجنحة والإيقاع الناعم . وكنا قبل ذلك كله أسرى للتقليد الشعري العربي الذي يؤثر أن تكون للشعر لغته الخاصة المجاوزة للغة والحياة والبعيدة عنها في بعض الأحيان . لذلك كنا نشده أولا لهذه الجسارة اللغوية حتى أدركنا بعد قليل أن الشعر لا قاموس له وأن الشعر الحديث في العالم كله قد تجاوز منطقة القاموس الشعري منذ أمد ليس بقريب " .(7

وقد حاول صلاح عبد الصبور أن يتجاسر بالخروج على القاموس الشعري العربي منذ ديوانه الأول " الناس في بلادي " الذي صدر سنة 1956م . فقد شهدت قصائد مثل ( الحزن ) و ( شنق زهران ) و ( الملك لك ) والقصيدة التي تحمل اسم الديوان خروجا بائنا على عمود اللغة الشعرية وتناولت مواضيع من صميم الحياة اليومية باللغة البسيطة المتداولـة إلا أن هـذا التجاسـر اللغوي لم يمر بسلام ، فلما نشرت قصيدة (( الحزن )) التي يقول فيها :

طلع الصباح فما ابتسمت ، ولم ينر وجهي الصباح
وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح
وغمست في ماء القناعة خبز أيامي ، الكفاف
ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش
فشربت شايا في الطريق
ورتقت نعلي
ولعبت بالنرد الموزع بين كفى والصديق
.

صدمت هذه الجسارة اللغوية الذوق الأدبي آنذاك " ودار حولها حديث كثير ولعل معظمه كان اعتراضا على قاموس المشهد الأول منها حيث حاولت التحرر من اللغة التقليدية إلى لغة رأيتها أكثر ملاءمة للمشهد .. وتهكم بعض الأصدقاء والنقاد بعد نشر القصيدة ما شاءوا بالشاي والنعل المرتوق " (

ولكن إذا كان عبد الصبور يقول أن تعلم الخروج على القاموس الشعري والنزوع إلى تصوير مظاهر الحياة اليومية التي يعيشها عامة الناس فـي ديوانـه
" الناس في بلادي " من البوت ، فإن الشاعر والناقد السودانـي الدكتـور محمـد
عبد الحي يرى أن " تأثير اليوت قد اختلط في ذهن صلاح عبد الصبور في شعره في الناس في بلادي – بتأثير شاعر آخر تغلغل تأثيره في الشعر العربي الواقعي عميقا هو الشاعر التركي ناظم حكمت " (9)

فعبد الحي يرجع نزوع عبد الصبور إلى تصوير الحياة الواقعية واستعمال التعابير الشعبية الدارجة لا إلى اليوت بل إلى ناظم حكمت ذلك أن اهتمام صلاح باليوت قد تزامن مع اهتمامه بالفكر الواقعي الذي ازدهر في تلك الفترة . فقصائد مثل – شنق زهران ، و ( الملك لك ) ، و ( الناس في بلادي ) " تحمل في طواياها فكرا واقعيا . وقد يكون صلاح قد تأثر فيها بشيء من اليوت ، بما في ذلك الجسارة اللغوية ، رغم أن جسارتها اللغوية لا تخرج عن استعمال ألفاظ دارجة وأمثال وتعابير شعبية ، بينما جسارة اليوت اللغوية لا تخلو من سفسطائية مثقفة ولديه دائما لمسة نارية أخيرة يرفع بها لغة الحديث العادي إلى مرتبـة الرمز "(10)

أما استعمال الألفاظ الدارجة في قصيدة ، الملك لك ، بالرغم من أن عنوانها قد يكون مأخوذا مما أخذ عبد الصبور من ( الرجال الجوف ) – فهو أقرب إلى اللغة التي راجت مع تأثير الشعر الواقعي العالمي في العالم العربي منها إلى طريقة اليوت . إن اليوت يستعمل الألفاظ التي لم نعتد على استعمالها في الشعر حينما يتكلم عن السأم والضجر وفقدان المعنى في المدنية الحديثةالمنفصلـة عن الينابيع الروحية للوجود ، وترتفع لغته وتأخذ طابعا كلاسيكيا نقيا مع ارتقاء إحساسه بتفجر تلك الينابيع في نفسه وشعره . أما في قصيدة ، الملك لك ، وامثالها فاللغة الشعبية وسيلة لتمجيد الحياة
الشعبية مع الاحتجاج علي الفقر"11

ومن الدلائل التي يسوقها عبد الحي على تأثر عبد الصبور بناظم حكمت في قصائده الواقعية ، رواج شعر حكمت في الوطن العربي أثر ترجمة الدكتور على سعد لمجموعة من أشعاره سنة 1951م مشفوعة منه بمقدمة تحمل نفس الروح التبشيرية التي حملتها مقالة لويس عوض عن اليوت المنشـورة فـي مجلـة ( الكاتب ) سنة 1946م . وقد لخص الدكتور على سعد في تلك المقدمة طريقة ناظم حكمت في كتابة الشعر وعرض لارائه الثورية ولعودته لاستلهام الينابيع الشعبية المحلية في أمته .

وقد شهدت الخمسينات حركة نشطة في ترجمة الشعر العالمي الحديث إلى اللغة العربية . فقد ترجمت أشعار فدريكو غارسيا لوركا ومايكوفسكي وبول ايلوار واندريه بريتون وآرغون وسان جون بيرس وماريا ريلكه . وقد صاحبت هذه الترجمات مقدمات ومقالات نحت منحنا تبشيريا في الدعوة إلى ابتكار أساليب جديدة في الكتابة الشعرية وإلى تحطيم الحواجز بين الشعر والحياة . وبالرغم من أن هؤلاء الشعراء قدموا وترجموا من قبل نقاد وشعراء " متبايني النزعات مختلفي الأساليب والمعتقدات إلا أن الجميع يكاد يلتقى في اللهجة التبشيرية التي تدعو إلى الاستفادة من الشعر الأجنبي لابتداع لغة جديدة للشعر العربي تستطيع أن تحمل التجارب والهموم التي استجدت مع العصر بعد أن ضعفت لغة الشعر الرومانتيكي وفقدت قوتها وحيويتها ". (12)
ولعل رواج مثل هذه الترجمات في ذات الفترة التي بدأ الترويج فيها إلى اليوت هو سبب هذا التآلف بين اليوت وحكمت في ديوان الناس في بلادي لصلاح عبد الصبور . أن هذه الظاهرة يمكن أن تفسر على أنها " جزء من تلك المعادلة التي أرادت أن توحد بين طريقة اليوت وبين الفكر الثوري التي كان قد دعي إليها لويس عوض في مقالته عن اليوت بتأثير من شعراء اليسار الإنجليزي ".(13)

ويخلص محمد عبد الحي إلى أنه يمكن القول أن " هنالك توترا بين ما يمكن أن تطلق عليه ( القطب الاليوتي ) و ( القطب الناظمي ) في قصائد ديوان الناس في بلادي انحسر بعدهما تأثير ناظم حكمت مع تبلور فكر الشاعر ونضج شعره في دواوينه الثانية " . (14)

حقا أن بصمات اليوت في شعر عبد الصبور تتضح أكثر في دواوينه اللاحقة " للناس في بلادي " ليس على مستوى اللغة الشعرية وحسب ، بل على مستوى المعاني والأخيلة والرؤى الشعرية . ويبدو لي أن علاقة صلاح عبد الصبور باليوت ليست مجرد تأثر يقوم على المحاكاة السطحية بقدر ما هو تفاعل وانفعال سببه تقارب الأمزجة والأحاسيس الشعرية . وقد تراوح هذا الانفعال وهذا التجاذب الشعري من مجرد اقتباس وتضمين عبد الصبور أبيات من شعر اليوت في قصائده إلى التماهى في الرؤيا الشعرية والتركيب البنيوى للقصيدة في غير ما تكلف وتصنع .

ويمكن أن نسوق بعض الأمثلة للدلالة على ما ذهبنا إليه . ولنبدأ بالاقتباس المباشر لأبيات من أشعار ت . س . اليوت :

يقول عبد الصبور في قصيدة ( لحن ) من ديوان ( الناس في بلادي ) :

جارتي ا لست أميرا
لا ، ولست المضحك الممراح
في قصر الأمير
.

وفي هذا اقتباس أو قل تناص لقول اليوت من قصيدة أغنية حب الفريـد جي .بروفروك :

No Iam not Prince Hamlet

Nor was meant to be ;

لا ا لست أنا الأمير هاملت
ولا قصدت أن أكون


في ديوان ( احلام الفارس القديم ) هنالك قصيدة بعنوان ( بودلير ) الشاعر الفرنسي الذي تأثر به اليوت كثيرا و أقتبس منه أكثر من موضـع فـي قصيـدة
( الأرض الخراب ) ومن ذلك قول بودلير بمقدمة ديوان ( أزهار الشر ) الذي ضمنه اليوت آخر الجزء الأول من القصيدة كما هو باللغة الفرنسية والذي يقول فيه :

Hypcorite lecteur, mon semblable, mon frere

أنت أيها القارئ المنافق يا شبيهي !يا شقيقي !

وقد حذا صلاح عبد الصبور حذو اليوت وأخذ قول بودلير وضمنه قصيدته ارده اللغة الفرنسية حيث يقول مخاطبا بودلير :

يا أسير الفؤاد الملول
وغريب المنى
يا صديقي أنا

Hypocrite Lecteur
Mon Semblable, mon frere


وإذا تجاوزنا الاقتباس والتضمين المباشر إلى النظر في الصور والرؤى نجد أن عبد الصبور قد استلهم كثيرا من الأخيلة الشعرية من اليوت وهو استلهام نابع إلى حد ما من تشابه التجربة الشعورية وتقارب الأمزجة كما سبقت الإشارة . ومن ذلك يقول عبد الصبور في قصيدة ( الحزن ) بديوان ( الناس في بلادي ) واصفا تغلغل الحزن في مدينته :

حزن تمدد في المدينة
كاللص في جوف السكينة
كالأفعوان بلا فحيح


هذه الصورة الشعرية للحزن ، فيها ظلال وأصداء من تشبيه اليوت للمساء في قصيدة ( أغنية حب الفريد جي . بروفروك ) بإنسان مريض ممد على منضدة جراح :

Let us go then, you and I
When the evening is spread out
Against the sky
Like a patient etherized upon a table

فلنذهب سويا ، أنا وأنت
عندما يتمدد المساء على السماء
كتمدد مريض مخدر على منضدة


وفي قصيدة ( تأملات ليلية ) من ديوان ( شجر الليل ) يصور عبد الصبور زحف جيوش الظلام ومداهمته له بعربة سوداء وهمية . وهذه الصورة مستوحاة مـن قـول انـدرو مارفـيل فـي قصيدتـه ( إلــى محبوبتـه الصـدود ) To his coy Mistress :

But at my back I always hear
The time’s winged chariot
Hurrying near

ولكن أسمع من ورائي دائما
عربة الزمن المجنحة تسرع في الاقتراب


ولكن يبدو أن صلاح قد أخذ هذا المعنى من اليوت ولم يأخذه من اندرو مارفيل مباشرة . وكان اليوت قد ذكر في هوامش ( الأرض الخراب ) أنه استعار قول مارفيل هذا وتناصص معه في الجزء الثالث من القصيدة في قوله :

But at my back from time to time I hear
The sound of horns and motors, which shall bring
Sweeney to Mrs. porter in the spring

ولكن أسمع من ورائي بين الفينة والأخرى
أصوات ازيز السيارات وابواقها
التي ستقل سويني إلى السيدة بورتر في الربيع


أما فـي قصيـدة ( تنويعـات ) مـن ديوان ( شجر الليل ) فيستوحى عبد الصبور قصيدة اليوت ( أربعاء الرماد ) Ash- Wednesday حيث يقول :

أهتف أحيانا ، يا رباه ا
أرفع عنا هذا الزمن الميت
أقس علينا ، لا تعبر عنا كأس الآلام
علمنا أن نتمزق بإرادتنا العمياء
في منقار الأيام


يقول اليوت :

And pray to God to have mercy upon us
…………………………………………
May the judgement not be too heavy upon us
…………………………………………
Teach us to care and not to care
Teach us to sit still


أدعو الله أن يرأف بنا ويرحمنا
أدعوه أن يحاسبنا حسابا يسيرا
000000000
يا رباه ا
علمنا أن لا نتململ في جلستنا


كذلك في الأبيات الأخيرة من الجزء الأول من ( الأرض الخراب ) يسخر اليوت من جدوى الحرب ويتمنى لون أن جثة صديقه جان فردينال الذي مات في الحرب الأولي بعثت من جديد كما كان إله الخصوبة عند الشعوب القديمة يموت ويبعث كل عام ضمانا لاستمرار دورة الحياة ، يقول اليوت :

That corpse you planted last year in your garden
Has it begun to sprout? Will it bloom this year?
Or has the sudden frost disturbed its bed?

هل بدأت تنبت الجثة التي زرعتها
في حديقتك العام الماضي ؟
أتراها ستزهر هذا العام ؟
أم أن الصقيع المفاجئ أقضي مضجعها
؟

أخذ صلاح عبد الصبور هذا المعنى وضمنه قصيدته ( الشيء الحزين )

فأنت لو دفنت جثة بأرض
لأورقت جذورها وأينعت ثمارا
ثقيلة القدم


وهنالك العديد من الأمثلة والشواهد التي يمكن للقارئ المطلع على قصائد الشاعرين الوقوف عليها بكل سهولة ولكنا نمسك عن إبراز المزيد لأن ما أوردناه يكفى للتدليل على مدى تغلغل شعر ت . س . اليوت في وجدان صلاح عبد الصبور .

أما إذا انتقلنا إلى الحديث عن تأثر صلاح عبد الصبور بتوظيف الأسطورة في شعره ، نجد أن صلاح قد انتهج نهجا في ذلك يختلف عن سائر معاصريه من شعراء الحداثة العرب . فهو لا يزج بأسماء الأساطير في ثنايا قصائده ويلصقها بها إلصاقا وانما يستخلص مضمون أو مغزى الأسطورة ويوظفه في التعبير عن تجربته الشعرية ، ولا أظن أنني قد عثرت حتى الآن على اسم أي أسطورة يونانية أو رومانية مستخدمة في أية قصيدة من قصائده .

وعن نهجه هذا في التعاطي مع الأسطورة يقول صلاح : " قبلناها عندما تكون عنصرا فنيا مندمجا في كيان القصيدة يحمل ايحاءتها ويعمل على جلاء صورها . ورفضناها حين تلصق لصقا بالقصيدة " .(15) وعن فلسفته في استخدام الأسطورة يقـول " أنني أحاول دائما أن أستخرج الثيمة Theme في الأسطورة وأن أعيد عرضها على تجربتي الخاصة بغية اكساب هذه التجربة بعدها الموضوعي ولكنى أكره دائما الصاق الأسماء " . (16) ذلك أنه يرى أن الدافع إلى استعمال الأسطورة في الشعر ليس مجرد معرفتها ولكنه محاولة لاعطاء القصيدة عمقا أكثر من عمقها الظاهر ، ونقل التجربة من مستواها الشخصي الذاتي إلى مستوى إنساني جوهري أو بالأحرى حفر القصيدة في التاريخ على حد تعبيره .

ويقول عبد الصبور أن هذا هو فهمه في استخدام الأسطورة والتراث منذ أن أطلع في مطلع حياته الشعرية على " نظرية الموروث " ، ولعله يقصد بها نظرية " التراث والموهبة الفردية " التي بسطها اليوت في مقالته التي ورد الحديث عنها آنفا .
وقد قادت طريقة اليوت في توظيف الأسطورة صلاح عبد الصبور إلى الرجوع إلى التراث العربي والإسلامي لاستلهامه واستخدامه في التعبير عن تجربته الشعرية . ويقول أن استخدام اليوت لأسطورة تريزياس في قصيدة "الأرض الخراب " هداه إلى اكتشاف ما يسمى بقصيدة ( القناع ) . فقد جعل اليوت من شخصية تريزياس الكفيف الذي مر في الأسطورة بتجربة الرجل والأنثى ، شاهدا ومعلقا على ما يجرى من احداث في القصيدة وينطق بالرأي السديد في واسط الفوضى والتناقض .
وبوحى من ذلك كتب عبد الصبور قصيدة ( مذكرات الملك عجيب بن الخصيب ) ، " واضعا قناع شخصية فوكلورية لكى أتحدث من ورائه عن بعض شواغلى وهمومي الفكرية . والملك عجيب بن الخصيب أحد ملوك ألف ليلة وليلة يرد ذكره في حكاية الجمال والبنات ، حيث نشهد صعلوكـا خـرج مـن ملكــه أو أدركه السأم فطمع إلى السفر للفرجة على البلاد والناس . وقد حاولت في هذه القصيدة أن أذكر ما فات ألف ليلة وليلة وهو حال عجيب بن الخصيب قبل رحلته التي حولته أهوالها من ملك إلى صعلوك " . (17

بعد قصيدة ( عجيب بن الخصيب ) يقول أنه كتب قصيدة ( بشر الحافي ) قصيدة قناع أخرى استدعاءها سطر قرأه عن هذا الصوفى في أحد كتب الطبقات . وعن الطريقة التي يتبعها في معالجة المادة التاريخية واستدعاء الشخصيات والرموز التراثية يقول عبد الصبور أن الأسلوب الذي يؤثره " هو إخفاء هذه المادة تحت السطح الظاهري للقصيدة بحيث تختفي إلا عند الأعين النافذة الناقدة . فأنا أؤمن كل الإيمان بالقراءة الثانية للقصيدة .." . (18

وإذا كان عبد الصبور قد وصف هذا الأسلوب الشعري في استدعاء التراث ( بالقناع ) ، فإن القناع هنا حسب التعبير الاليوتي هو " المعادل الموضوعي " وهو يقوم أصلا على إخفاء العواطف والمشاعر الشخصية كما سبقت الإشارة من خلال إيجاد صورة موضوعية خارجية ترمز إلى هذه المشاعر والعواطف وتعبر عنها بشكل غير مباشر . والحقيقة قد وفق عبد الصبور في توظيف هذا الأسلوب في الكتابة الشعرية توفيقا مميزا من خلال استدعاء القصص والسير التراثية . ولعل أنجح قصيدة في نظري في هذا النهج هي قصيـدة ( الخـروج ) من ديوان ( أحلام الفارس القديم ) . فقد استخدم عبد الصبور في هذه القصيدة هجـرة النبي ( ص ) وخروجه من مكة إلى المدينة كمعادل موضوعي أو كقناع حسب تعبيره للبوح عن رغبته الشخصية وعن توق الإنسان المعاصر بصفة عامة إلى الخروج من هذا الواقع المرير إلى واقع أكثر إشراقا وصفاء أو بعبارة الشاعر نفسه : " .. استخدمت خطوط هجرة الرسول العربي من مكة إلى المدينة ، فأخفيت ذلك تحت سطح القصيدة ، بحيث يظل للقصيدة مستويان ، مستوى مباشر هو التجربة الشخصية ، ومستوى آخر هو هذه التجربة بعد أن تحولت إلى تجربة موضوعية عامة ، هي توق الانسان إلى التحرر والحياة في مدينة النور " . (19

إن قصيدة " الخروج " تعد في نظري أجود نموذج للتناص في الشعر العربي الحديث . فيها تجاوز حتى لمفهوم التناص كما طبقه اليوت في قصائده . التناص هنا لا يقف عند حدود اقتباس أو تضمين نص آخر وإنما يتجاوز ذلك إلى إستحضار حالة أو حادثة تستغرق كل قصيدة لا لتكرار ما تقوله وإنما لاعادة توظيفها للتعبير عن حالة ماثلة ليس بالضرورة أن تكون مطابقة لتلك الحالة أو الحادثة . ولأهمية هذه القصيدة نورد نصها بالكامل :

أخرج من مدينتي من موطني القديم
مطرحا اثقال عيشي الأليم
فيها وتحت الثوب قد حملت سرى
دفنته ببابها ثم اشتملت بالسماء والنجوم
00000
أنسل تحت بابها بليل
لا آمن الدليل ، حتى لو تشابهت على طلعة الصحراء
وظهرها الكتوم
00000

أخرج كاليتيم
لم اتخير واحدا من الصحاب
لكى يفديني بنفسه ، فكل ما أريد قتل نفسي الثقيلة
ولم أغادر في الفراش صاحبي يضلل الطلاب
فليس من يطلبني سوى " أنا " القديم
00000

حجارة أكون لو نظرت للوراء
حجارة أكون أو رجوم
سوخى اذن في الرمل ، سيقان الندم
لا تتبعيني نحو مهجرى ، نشدتك الجحيم
00000

إن عذاب رحلتي طهارتي
والموت في الصحراء بعثى المقيم
لو مت عشت ما أشاء في المدينة المنيرة
مدنية الرؤى التي تشرب ضوءا
مدنية الرؤى التي تمج ضواء
هل أنت وهم واهم تقطعت به السبل
أم أنت حق ؟
أم أنت حق ؟


فإذا كانت هجرة النبي ( ص ) من مكة إلى المدينة ، فإن هجرة الشاعر هي هجرة داخل نفسه أو أقل محاولة للخروج والهروب من نفسه المحبوسة في سجن الجسد الترابي وماديته المقيدة إلى نفسه الكاملة ( القديمة ) ذات الأصل الإلهي ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ) . ومدينة الشاعر هي نفسه الكثيفة التي يطمع في هجرها والخروج منها إلى المدينة المنيرة ( حيث الشمس لا تفارق الظهيرة ) وهي عبارة لطيفة في الإشارة إلى المطلق والتحرر من سلطان الزمن وأوهامه . ولذا يمكن القول أنه إذا كانت هجرة النبي ( ص ) من مكة إلى المدينة أفقية ، فهجرة الشاعر هنا هجرة رأسية شبيه بإسراء النبي ومعراجه إلى سدرة المنتهي .

والشاعر في هجرته عازم على الوصول إلى هدفه فهو يخلى قلبه عن كل ما يشغله عن هذا الهدف لذلك يقسم بينه وبين ( نفسه ) بأنه سوف لن يلتفت مجرد الالتفات ليلقى نظره أخيرة إلى مدينته وموطنه الذي خلفه وراء . وهنا يستدعى الشاعر قصة النبي لوط والعذاب الذي حل بقومه حيث يتناصص مع الآية الكريمة: " فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب " – سورة هود الآية 81 . وجاء في الكتاب المقدس في هذا السياق أن امرأة لوط التفتت إلى الوراء فتحولت إلى عمـود ملح . وفي قول الشاعر( حجارة أكون لو نظرت للوراء ) إشارة إلى ذلك . أما قوله ، ( سوخي اذن في الرمل سيقان الندم ) فيه استدعاء لقصة سراقة الذي ساخت أقدام فرسه في الأرض عندما شارف إلى اللحاق بالنبي وصاحبه في طريق هجرتهما من مكة إلى المدينة .

إلا أن تحقيق الحلم بالوصول إلى ( المدينة المنيرة ) والفوز بالحياة الكاملة لا يتم إلا عبر المرور بتجربة الموت " لو مت عشت ما أشاء في المدينة المنيرة " ففي موته بعثه الدائم السرمدي الذي لا يعقبـه نقصان . أنهـا الفكـرة ذاتها ، فكـرة " الانبعاث " التي استوحاها شعراء القصيدة الحديثة العرب من توظيف اليوت لأساطير الخصوبة في ( الأرض الخراب ) كالإله أدونيس أو تموز عند الاشوريين والبابليين والفينقيين والإله أوزيريس عند الفراعنة . فقد كان إله الخصوبة يبعث بعد موته كل عام لتجديد دورة الحياة على الأرض كما سبقت الإشارة . وقد وظف شعراء الحداثة هذه ( الثيمة ) لاستنهاض الأمة العربية من سباتها الطويل . وكان بدر شاكر السياب قد أشار إلى هـذا المعنـى في قصيدته: ( النهر والموت ) حيث يقول :

أود لو غرقت في دمى إلى القرار
لأحمل العبء مع البشر
وأبعث الحياة أن موتى انتصار


ولا تخفى الإشارة في العنوان ( النهر والموت ) إلى أوزيريس رمز الخصوبة والخلود عند قدماء المصريين والذي قتل وقطعت أوصاله ونثرت في النيل ولكنه بالرغم من ذلك بعث حيا من جديد . وليس بالضرورة أن يكون قتل الشاعر في قصيدة ( الخروج ) لنفسه ( الثقيلة ) قتلا ماديا بقدر ما هو إشارة إلى ابتعاث النفس ( اللطيفة ) والتخلص من النفس الكثيفة الثقيلة التي تعقد بالجسد عن النهوض وارتياد الآفاق . وفي الحديث : ( من سره أن ينظر إلى ميت يمشى بين الناس فلينظر إلى أبى بكر ) و ( موتوا قبل أن تموتوا ) في إشارة إلى موت رغائب النفس ( الثقيلة .

أما إذا انتقل الحديث إلى المسرح الشعري . فعبد الصبور مقر بتأثره بطريقة اليوت في كتابة الدراما الشعرية . وقد كثر حديث النقاد في المقارنة بين مسرحيته ( مأساة الحلاج ) ومسرحية اليوت ( جريمة قتل في الكاتدرائية ) إلا أن عبد الصبور يقول أنه ليس فزعا ولا منزعجا لهذه المقارنة التي تصل إلى حد الاتهام بالسرقة والمحاكاة . بل يذهب أكثر من ذلك في التبرير لهذا التشابه بين المسرحيتين بالاستناد إلى نظرية اليوت ( التراث والموهبة الفردية ) ويقول في سياق الرد على اتهامه بالسرقة : " أن رجلا مثلى قرأ نظرية اليوت في الموروث الأدبي لابد أنه قد نقد هذه الحساسية المريضة . فليس التراث إلا حلقات ممتدة يفيد منها لاحق عن سابق ومتعلم من معلم " . (20

ومع ذلك فهو يقول أنه عندما كتب مأساة الحلاج كان له تصوره الشخصي فالقضية التي تطرحها المسرحية هي قضية خلاصه الشخصي . وهي دور الفنان في المجتمع ." فقد كنت أعاني حيرة مدمرة إزاء كثير من ظواهر عصرنا وكانت الأسئلة تزدحم في خاطري ازدحاما مضطربا وكنت اسأل نفسي السؤال الذي سأله الحلاج لنفسه ا ماذا أفعل ؟ ..
وكانت إجابة الحلاج هي أن يتكلم.. ويموت .. كان عذاب الحلاج طرفا لعذاب المفكرين في معظم المجتمعات الحديثة ، وحيرتهم بين السيف والكلمة… وكانت مسرحيتي مأساة الحلاج معبرة عن الإيمان العظيم الذي بقى لي نقيا لا تشوبه شائبة ، وهو الإيمان بالكلمة.. "(21)

ثم يخلص عبد الصبور إلى التذكير بان ( جريمة قتل في الكاتدرائية ) ليست هي المسرحية الأولى من نوعها في مجال مسرح " الاستشهاد والقداسة " على حد تعبيره . فهنالك مسرحيات ( التعزية ) الفارسية ومسرحية " القديسة جـون " لبرنارد شو و( رجل الله ) لجان انوي وغيرها .(22)

ولكن عبد الصبور ينسى أن يذكر إلى جانب تلك المسرحيات المسرحية الاشهر في هذا المجال والأقرب إلى موضوع مسرحيته " مأساة الحلاج " ألا وهي مسرحية ( سالومي ) لأوسكاروايلد . والتي نسجت على منوالها مسرحيات كثيرة في العالم العربي . منها مسرحية يوسف الخال التي تحمل ذات الاسـم ومسرحية ( الحسين شهيدا ) لعبد الرحمن الشرقاوي ومسرحية ( رؤيا الملك ) للشاعر السوداني محمد عبد الحي . وتصور مسرحية اوسكار وايلد ( سالومي ) مأساة بني الله يحي بن زكريا ( يوحنا المعمدان ) الذي كان يبشر الناس بمجيء المسيح فحبسه ملك الجليل من قبل الرومان وقطع رأسه وقدمه هدية في طبق من فضة في سبيل رقصة من ( سالومي ) الجميلة.

والمسرحيات الثلاث ، مأساة الحلاج ، وسالومي وجريمة قتل في الكاتدرائية ، تعالج موضوع الصراع بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية. فالحلاج يتهم أولا بتأليب (العامة) بالثورة ضد السلطان احتجاجا على الفساد والظلم ولكن تلفق ضده تهمة الزندقه أثناء المحاكمة حتى يكون قتله مقبولا لدى العامة .والقديس توماس- بيكيت اسقف كانتربري الكاثوليكي قتل لرفضه العمل كمستشار في حاشية الملك ، ملك بريطانيا فمات شهيدا دفاعا عن استقلال الكنيسة والدين عن السلطة – السياسية .




المصادر والهوامش :

(1) أقول لكم عـن الشـعراء – الأعمـال الكاملـة – صلاح عبد الصبور الهيئة المصرية للكتاب – 1992م – ص 397 ، 399
(2) المصدر السابق ص 397
(3) المصدر السابق ص 400
(4) المصدر السابق ص 399
(5) أقـول لكـم عـن الشـعر – الأعمال الكاملة – صلاح عبد الصبـور –
الهيئة المصرية للكتاب – 1992م – ص 122
(6) حياتي في الشعر – صلاح عبد الصبور – دار أقرأ – بيـروت 1981م –
ص 127
(7) المصدر السابق ص 127 ، 129
( المصدر السابق ص 132
(9) ت . س . اليوت والقارئ العربي – د. محمد عبد الحي – مجلة الدوحـة
( القطرية ) – الحلقة الثالثة – أبريل 1980م
(10) المصدر السابق
(11) المصدر السابق
(12) المصدر السابق
(13) المصدر السابق
(14) المصدر السابق
(15) حياتي في الشعر ( سبق ذكره ) ص 137
(16) المصدر السابق ص 141
(17) المصدر السابق ص 141
(1 المصدر السابق ص 143
(19) المصدر السابق ص 144
(20) أقول لكم عن الشعراء ( سبق ذكره ) ص 400
(21) حياتي في الشعر ص 195
(22) أقول لكم عن الشعراء ص 400
(23) قراءة في القصيدة الحديثة-عبدالله الغذامي- مجلة فصول1981
(24) الشعر العربي الحديث-محمد فريد ابو حديد- فصول العدد الاول1980

المراجع الانجليزية:

1-The Waste Land and other poems,T.S.Eliot,faber&faber
London,1993
2-The Sacred Wood,T.S.Eliot,faber&faber,London,1997


-------------------
* نشر هذا المقال بمجلة الرافد التي تصدر عن دائرة الاعلام بالشارقة_
عدد يوليو 2003

Post: #6
Title: Re: التناص بين اليوت وصلاح عبد الصبور وعبدالمنعم الفيا
Author: Agab Alfaya
Date: 12-19-2005, 01:16 PM
Parent: #1

التناص بين إليوت وصلاح عبدالصبور وعبدالمنعم الفيا

Post: #7
Title: Re: معاوية محمد نور واليوت
Author: Agab Alfaya
Date: 12-22-2005, 11:00 PM
Parent: #1

التعريف بالشاعر اليوت في العالم العربي*



اليوت ومعاوية محمد نور :

يكاد يجمع الدارسون العرب على أن اليوت لم يعرف في العالم العربي إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية . ويرجعون الفضل في ذلك إلى كتابات الأديب الدكتور لويس عوض التي بدأ في نشرها بالصحف المصرية في النصف الثاني من الأربعينات وذلك بعد عودته من جامعة كمبريدج مع نشوب الحرب .

والحقيقة أن هنالك أديب وناقد عربي رائد يعد أول من لفت الأنظار في العالم العربي إلى تى . اس اليوت وأول من حاول تطبيق نظرياته النقدية الحديثة على الشعر العربي وذلك منذ بداية الثلاثينات أي في ذات الوقت الذي بدأ فيه القارئ الإنجليزي يتعرف على شعر اليوت ومذهبه النقدى الجديد .

ذلك الرائد هو الأديب والناقد السوداني معاوية محمد نور الذي لا يذكره الباحثون إلا نادرا . ولعل الكثيرين لا يعرفون عنه شيئا . وربما يرجع السبب في ذلك إلى وفاته باكرا . ولعل معاويه نور كما يقول عنـه الدكتـور الشاعـر محمد عبد الحي هو أول ناقد عربي ذكر تي . اس اليوت والشعر الإنجليزي – آنذاك – شعر ت . أ . هيوم وعزرا باوند و د . هـ لورنس وأديث سيتويل . وأول من أنتقد من وجهة نظر هذا الشعر واسسه النقدية شعر كبار الرومانتيكين العرب أمثال على محمود طه وإبراهيم ناجي وهم في أوج سيطرتهم على الذوق الأدبـي للعصر " . (1)

وقد أشار معاويه إلى اسم اليوت لأول مرة في مقالة نقدية له حول شعر عبـاس محمـود العقـاد ، نشـرت بجريـدة ( الجهـاد ) المصريـة بتاريـخ 3 مـايو 1933م بعنوان " القالب في شعر العقاد " . وهو يقصد بالقالب هنا الشكل الشعري أو الصياغة الشعرية التي عمادها الصنعة المحكمة والإحساس المرهف بكيمياء اللغة والتي يرى فيها خاصية يكاد ينفرد بها شعر العقاد دون سواه من معاصريه من الشعراء .

ووردت الإشارة إلى اسم اليوت في هذه المقالة في سياق الحديث عن ميزة التيار الشعري الجديد الذي برز في انجلترا بتأثير من اليوت : " انما القالب الجديد لا يترك شاردة ولا واردة في معنى أو لفظ إلا ويأتي بها في مكانها من الوضع وترتيبها من النسيج الفني حتى انك لتجد الجمل الاعتراضية في شعر عظام الشعراء أمثال : تى . اس . اليوت وبراوينج واندادهم لها قيمة الشعر مع أنها حتى في الكتابة الفكرية مجرد تحديد وتوضيح " . (2)

ولا تقف أهمية هذه المقالة الرائدة على أنها أتت بذكر اليوت لأول مرة في اللغة العربية وإنما تتعدى ذلك إلى كونها أول تجربة رائدة في تطبيق نظريات اليوت النقدية على الشعر العربي في الثلاثينات . فنجد معاوية في هذه المقالة يقيم شعر العقاد من خلال معالجته لنظرية ( المعادل الموضوعي ) ونظرية تيار الشعور أو الوعى إلى جانب الافادة مـن مفهوم ( موسيقى الشعر ) عند اليوت .

فإذا كان بعض معاصري العقاد من النقاد يرى أن شعره فكر كله ومنطق وخـال مـن العاطفـة والإحساس ، فإن معاوية من خـلال توظيفـه لنظـرية ( المعادل الموضوعي ) يحتج عليهم بأن ليس مهمة الشعر إثارة العاطفة وإنما ترجمة العاطفة والإحساس إلى فكر ومنطق : " .. فات هؤلاء ان أقصى ما يرتجيه الشاعر أن يترجم العاطفة والإحساس إلى لغة الفكر والمنطق " ذلك " أن العاطفة لا يمكن أن يعبر عنها بعاطفة وإنما سبيل التعبير عنها هو اللفظ ، واللفظ أداة الفكر لا أداة العاطفة . ويجب أن نزيد على هذا غرض الشعر الصحيح هو إثارة عاطفتك – لأن خبر موت أحد أقاربك يثير عاطفتك وليس هنالك من يقول أن هذا الخبر شعر وإنما غرضه الأسمى هو إرضاء وتهدئـة العاطفـة المفكرة " . (3)

ويذهب معاوية أكثر من ذلك في تأكيد دور الفكر في الشعر ويجعل له دورا حاسما في موسيقى الشعر إذ يرى أن موسيقى الشعر ليست موسيقة لفظية وإنما موسيقى فكرية أيضا . " .. أن موسيقى الشعر الجيد ليست هي موسيقى لفظية فحسب ، وإنما هي موسيقى فكرية أولا وأخيرا ، يلمحها الذهن ويرتاح إليها التفكير الشاعر الدقيق ، في تقسيم الفكرة وتسلسل الإحساس واصطحاب اللفظ الموفق والعبارة الدقيقة في المعنى ، المنسجمة في اللون والصورة مع لون الإحساس وصورة الفكرة " . (4)

ولا يخلو وصف معاوية لموسيقى الشعر بأنها ( موسيقى فكرية ) من أصداء وصف الناقد الإنجليزي الشهير أ . أ . ريتشاردز ، أحد أقطاب ما عرف بالنقد الأمريكي الجديد أو النقد العملي ( التطبيقي ) الذي راج في الثلاثينات وذلك حينما وصف قصيدة ( الأرض الخراب ) بأنها " موسيقى أفكار " .

ويصف معاوية الموسيقى التي تعتمد على رنين الألفاظ فقـط بأنهـا موسيقى رخيصة " .. بعض هؤلاء النقاد يعتقد أن الشعر كل الشعر بما يكون في سهولة الأداء وموسيقى اللفظ . ويعنى بسهولة الأداء وموسيقى اللفظ أن يكون معنى الشعر في سطحه وأن تكون الموسيقى من النوع الذي يقول ( أنا موسيقى ) لرخص عنصرها ولرنينها الذي تعرفه الأذن أول ما تعرف الرنين " . ويضرب مثالا على رخص هذه الموسيقى اللفظية بشعر آدجار آلان بو وشوتيريان ويقول عنهما أنهما " أعظم الشعراء الذين أجادوا الموسيقى اللفظية في شعرهم مع أنهم لا يذكـرون الآن إلا لنقد موسيقاهـم اللفظيـة وتوضيـح قيمة الموسيقى الشعريـة الحقـة " . (6)

هذا أبرز ما ورد عن اليوت وعن مذهبه الشعري الجديد في مقالة ( القالب في شعر العقاد ) وهو يكشف مدى إدراك معاوية نور الواعي والمبصر ومدى استيعابه العميق والمبكر لتيارات الحداثة الشعرية في وقت لم تكن فيه هذه التيارات معروفة على نحو كاف حتى في أوربا نفسها .

أما المقالة الثانية التي ذكر فيها معاوية اسم تي . أس اليوت فهي مقالة نشرت في جزئيـن بمجلـة ( الرسالـة ) المصريـة بتاريخ 15-22 أكتوبر سنة 1934م تحت عنوان ( أصدقائي الشعراء ، هذا لا يؤدى ا ) أنتقد فيها معاوية شعراء الحركة الرومانسية العرب – آنذاك – الذين كانوا يسيطرون على الذوق الأدبي ، انتقادا لاذعا ، وعاب عليهم تمسكهم بالأساليب والموضوعات الشعرية البالية وانغلاق افقهم الشعري على مظاهر الطبيعة التقليدية وحثهم فيها على الالتفات إلى مظاهر الحياة الحديثة وتياراتها الفكرية والإلمام بوعي العصر وتمثل ذلك كله في تجاربهم وعوالمهم الشعرية .

وقد جاء ذكر اليوت في هذه المقالة في سياق حديث معاوية للشعراء الرومانسيين العرب للإفادة من أساليب شعراء الحداثة في أوربا أمثال ت . س . اليوت و د. هـ لورنس و ت. أ هيولم : " أولئك الشعراء الذين نراهم جاهدين يفتشون عن الله ، ويبحثون في الجنس ونشوة العفاف الروحي ، ثم يعود كل منهم وحقيبة وعيهم ملأى بالأحاسيس المختلفة والأفكار المريرة أو العذبة ، ملأى بالثعابين التي تبرق كاللؤلؤ وبالسلام الذي تعقبه أشد فترات الحرب تمزيقا للأجسام والأرواح وبالذهول الذي يسمو إلى طبقات السماء ، وبالسخر الذي : يرى القمر في أمسية حب أشبه ببالون يلعب به صغار الأطفال . ويرى : المساء ينام كرجل عليل ينتظر مبضع الجراح .. وربما يرى : في أنامل الحبيب أقطارا متسعة ولو أنها بادية التناقض أو بأحاسيس متناقضة بعيدة ، حالكـة الظلمـة أو شديـدة الوهج " . (7)

يشير معاوية هنا إلى بالقمر الذي يشبه بالون لعب الأطفال إلى قول الشاعر الإنجليزي ت . أ هيولم في قصيدته : " لدى المرسى " :



لدى المرسى الهادئ عند منتصف الليل
مشتبكا في حبال أعلى السارية
تدلى القمر
إن ما بدا نائيا جدا
ليس غير بالون طفل منسي بعد اللعب



أما اشارة معاوية إلى : " المساء الذي ينام كرجل عليل ينتظر مبضع الجراح "
اشارة الي قول تي . اس اليـوت الـوارد فـي قصيدتـه الشـهيرة The love song of J. Alfred Profrouk ( أغنية العاشق جي . الفريد بروفروك ) حيث يقول :

Let us go then, you and I,
When the evening is spread out against the sky
Like a patient etherized upon a table;

هيا بنا نتمشى سويا
حيث المساء ممد على السماء
كما يتمدد مريض مخدر على منضدة


وهذا " تشبيه يفرغ المساء مما أرتبط به من جماليات عاطفية تعلقت به في الشعر الرومانتيكي . ومادته مستمدة من جوانب غير مطروقة في تجارب ذلك الشعر " . (

ولعل معاوية ساق هذا التشبيه للتدليل على ضرورة تفاعل الشعراء العرب في ذلك الوقت مع اشكالات الحياة وقضاياها العملية . عوضا عن الانغلاق في العوالم الرومانسية الحالمة . وهو الأمر الذي دفعه إلى انتقاد رموز الحركة الرومانسية وتحديدا إبراهيم ناجى وعلى محمود طه بالرغم من صداقة الاثنين له وبالرغم من أن كلا منهما قد أهداه نسخة من ديوانـه ليلـة صـدوره وهما ديوان ( الملاح التائه ) لعلى محمود طه وديوان ( وراء الغمـام ) لإبراهيـم ناجـى : " وهما لاشك ينتظران المديح والثناء من صديق يجلس معهما ويأنس إلى صحبتهما غير أن الموضوع في رأينا قد تعدى أخيرا هذين الأديبين إلى ما هو أخطر وأبعد شأنا ، تعداه إلى الحديث عن طبيعة الشعر والكتابة ، وأن الأقلام قد خطرت في هذا الطريق بكلام تعد معظمه خطرا على الحركة الأدبية في مصر ، وفهم الفنون الأدبية على الوجه الذي يفهم منها في الجيل الحاضر . ولهذا رغبنا في كتابة هذه الكلمة لا لنمدح أو نذم ، ولكن لندلى برأي في الشعر كما نقروءه ونفهمه ، وكما ننتظر من الكتاب والقراء أن يقرأوه ويفهموه " . (9)

وأول ما يأخذه معاوية على هذين الشاعرين هو أن ديوان ( وراء الغمام ) لإبراهيم ناجى ، يكاد ينحصر في الحـب ومطالبـه ، وأن موضوعـات علـى محمود طه في ديوانه ( الملاح التائه ) تكاد تنحصر في النظم عن مظاهر الطبيعة .

وهو يرى أن ذلك ( الشيء ) الذي يسمى شعرا – هو خلاف الكلام الحسن عن الأشياء العادية : " أنه يتطلب شاعرا يأكل كبقية الناس ولا شك ويحب مثلهم ، ولكن نظره وأحاسيسه والتفاتات ذهنه وقفزات وعيه نحو هذه الأشياء العادية غير عادى .. فالحب يصبح موضوعا جديرا بالشعر حينما يكشف لنا الشاعر معنى ونغما وراء مظاهره المعروفة ومصاحباته العادية .. أما الشاعر الذي يبدى ويعيد في الحديث عن ملذاته وآلامه وحسراته التي يثيرها شخص المحبوب أو ذكراه فحسب ، مهما اختلفت القافية وتعدد الإيقاع ، لا يعدو أن يكون إنسانا لم تتسع أنانيته إلى أكثر من حاجاته البسيطة المتعارفة " . (10)

أن كثرة استعمال ( الشعريات ) مثل الشعر والشعور والزهور والألحان والطيور والأقمار والآكام لا تجعل من أي إنسان شاعر كما يرى معاوية بل " أن مثل هذا الشعر ليوحي إلى القارئ الدقيق الحس كراهة الآكام والزهور والبحار والأنغام وما إليها من هذه النغمة المبتذلة الكثيرة التكرار التـي لا تحـس معهـا واقعـة حـال صحيحة أو شعور مباشر " . (11)

ففي الطبيعة .. أشياء أخرى خلاف البحر والشواطئ " أدق وربما كانت ألصق بحياتنا وأجدر بالتفات الشاعر . فالحجر الصلد الذي يقف في طريقك ، والشارع الذي تصقله مصلحة التنظيم حيث جماعة المهندسين ، والفأر الهارب من سفينة خربة ، والذباب الذي يطن على جبة عفنة ، قطعة الحديد التي أكلها الصدأ والخشب الذي نأكل عليه والنمل وضجيج الترام وصوت الباخرة وخلافها من المظاهر .. هي أجزاء حية في الطبيعة . والالتفات إليها في وضع جديد أتى به نظام حياتنا الراهنة وحضارتنا المعاصرة ، لأدل على فهم الطبيعة من آلاف القصائد عن البحر والشفق والنجوم ا " . (12)

فهو يرى أن الثقافة ووعى العصر الذي نعيش فيه لابد منهما لأي فنان يكتب ليقرأه الجيل الذي يعيش بينه . و " الشاعر العصري سواء في مصر أو في الصين الذي لا تثيره تيارات الفكر المعاصر واكتشافاته ومتاعبه والذي ليس له وجدان يتغير ويتفاعل بما يسمع ويقرأ ويفكر ويشاهد من عيوب في نظام حياتنا الحاضرة أو نشوز في أنغام فكرنا المعاصر أو فراغ في إنسان بادئ الامتلاء أو أغنية في زوايا بيتنا المعنوي ليس له ، بل لنا الحق في ألا نعده في عداد الشعراء المخلصين " . (13)

" ويبدو لي من قراءة هؤلاء الشعراء والحديث معهم أن ليس في حياتهم الفكرية والشعرية أي شئ يشبه الصحارى العارية الجرداء ، أو الظلمات الحالكة ، أو البريق الخاطف أو الحيرة الشاعرة أو أي اشتغال جدي بناحية من نواحي حياتنا الراهنة .

" إن نظرة واحدة إلى حيث يتقاطع شارع عماد الدين بشارع فؤاد الأول مثلا في أي مساء لحرية بأن تبعث في الفنان أحاسيس وأفكارا تصلح لأن تكون قصيدة جيدة " . (14)

وباختصار فإن " الفنان الذي لم يحس بقبس أو لمحة أو ناحية من تيار وعى Stream of consciousness كامل يمكنه من رؤية التشابه في أشياء ومظاهر بادية الاختلاف ، أو بالعناصر والقوى والفكر التي تذهب جميعا لاخراج فكرة أو مظهر عادى مما نراه في حياتنا اليومية ، .. ليس له ذلك الإحساس الناقد القدير على التكوين والتخيل الذي يجبـر القـارئ علـى الإنصـات له والاستماع لنغمته " .(15)

لقد حرصنا على إيراد الاستشهادات التي تمثل الأفكار المحورية في هذه المقالة الرائدة ذات القمة التاريخية الخاصة . فهي من ناحية تكشف للقارئ ليس الاتصال الباكر لمعاوية بتيارات الحداثة الأدبية التي لم تكن معروفة حتى في بلدانها وحسب وإنما تكشف عن عمق إدارة معاوية ووعيه النافذ بضرورة التغيير والتجديد . ومن ناحية أخرى تكاد تمثل هذه المقالة بما حوته من أفكار وآراء جديدة وجريئة ( مانفيستو ) لحركة الحداثة الأدبية في العالم العربي صدر قبل أوانه بنحو عشرين سنة أو يزيد . بدليل أنه لم يتنبه الأدباء والشعراء العرب إلى ضرورة الانفتاح على تيارات الحداثة والإفادة منها إلا بعد نهاية النصف الثاني من القرن العشرين .

ولعل مصطلح ( تيار الوعي ) Stream consciousness الذي أشار إليه قبل قليل ، يرد في هذه المقالة لأول مرة في اللغة العربية . ويعد تكنيك تيار الوعي من أبرز الخصائص الأسلوبية التي أدخلها تي . اس اليوت على الشعر . وكان معاوية نور قد سبق أن تعرض لشرح مفهوم هذا المصطلح في مقدمة كتبها لقصة قصيرة نشرت له بجريدة ( مصر ) بتاريخ 11 نوفمبر 1931م بعنوان ( المكان – قصة تحليلية ) وجاء في هذه المقدمة : " حينما فرغت من كتابة هذه القصة رأيت واجبا على أن أعين القارئ العربي على فهمها لأن هذا الضرب من التأليف القصصي حديث العهد حتى في أوربا نفسها وهو آخر طور من تطورات القصة التحليلية .. وقد انتشر هذا النوع في أوربا منذ عشر سنوات تقريبا حينما أخرج مارسيل بروست الفرنسي روائعه القصصية كما عرف في أتمه وأحسنه عند كاترين مانسفيلد وفرجينا ولف " . (16)

ويعرف معاوية في تلك المقدمة تكنيك تيار الوعي بقوله : " أن هذا الأسلوب الفني " ليست مهمته تصوير المجتمع ولا النقد الاجتماعي ، وليس من مهمته أن يحكى حكاية ، وإنما يتناول التفاعلات الداخلية في عملية الإحساس والتفكير عند شخص من الأشخاص ويربط كل ذلك بموسيقى الروح واتجـاه الوعي " إنه " يعرض الجانب الغامض في تسلسل الاحساسات واضطراب الميول والأفكار وتضادها في لحظة واحدة من الزمان عند شخص ما . كما أنه يصور ما يثيره شئ تافه من ملابسات الحياة في عملية الوعي وتداعى الخواطر ، وقفز الخيال ، وتموجات الصور الفكرية . ويمزج ذلك بنوع من الشاعرية والغموض العاطفي ، فيخرج كل ذلك تحفة فنية حقا " . (17)

وبالرغم أن الباحث والشاعر الدكتور محمد عبد الحي يرى أن معاوية نور في نقده لشعراء الحركة الرومانسيين العرب ، (1 قد وقع على كتاب ناقد جامعة كمبيردج ف . ر. ليفيز : ( اتجاهات جديدة في الشعر الإنجليزي ) New bearings in English poetry الذي نشر سنة 1932م – أي قبل سنة من نشر مقالة معاوية ، إلا أن عبد الحي يخلص إلى أن معاوية كان أصيلا في إطلاعه وتقييمه لتيارات الحداثة الشعرية ولم يكتفي فقط بترديد الآراء التي أوردها ليفيز في كتابه ويدلل على ذلك بأن معاوية أورد أفكارا ونماذج من قصائد هؤلاء الشعراء لم يشر إليها ليفيز في كتابه ومن ذلك تشبيه اليوت للمساء بمريض مخدر مستلقى على منضدة طبيب جراح في قصيدة ( أغنية حب الفريد جي . بروفروك ) وكذلك تشبيه الشاعر ت . أ . هيولم للقمر ببالون يلعب به الأطفال في قصيدته ( لدى المرسى) . حيث لم يتطرق إلى هذين التشبيهين في كتابه ولم يناقشهما .

اليوت وسلامة موسى :-

بعد عام تقريبا من نشر مقالات معاوية التي أشار فيها إلى اليوت ومذهبه في الشعر الجديد ، وتحديدا في سنة 1933م أصدر الأستاذ سلامة موسى ، أحد أعمدة التنوير في العالم العربي في القرن العشرين كتابا بعنوان " الأدب الإنجليزي الحديث " تضمن عرضا لأبرز رموز التجديد في الأدب الإنجليزي من أمثال برنارددشو و هـ . ج. ولز و د. هـ. لورنس وجيمس جويس وغيرهم . إلا أن الكتاب قد خلا تماما من أية اشارة إلى اليوت رغم احتفاله بالتجديد وعناصر التجديد في الآداب عموما . وكان واضحا أن الأستاذ سلامة موسى لم يكـن علـى معرفة باليوت وربما لم يكن قد سمع به عند صدور الكتاب لأول مرة في 1933م .

ولم يتنبه سلامه موسى إلى أهمية اليوت إلا في سنة 1948م عندما عاد وأصدر الطبعة الثانية من الكتاب وزاد فيها ثلاثة فصول جديدة ، فصل عن الدوس هكسلى وآخر عن ت . س . اليوت وثالث عن الشاعر اودن . وبدأ حديثه في الفصل الخاص باليوت وكأنه يعتذر عن اغفاله له في الطبعة الأولـي مـن الكتاب حيث يقول : " اكتب هذا الفصل في سنة 1948م عن هذا الشاعر الذي لم يكن بارزا في وجداني في سنة 1933م حينما خرجت الطبعة الأولي من هذا الكتاب " . (19)

ويبدو أن سلامة موسى لم يكتب عن اليوت إلا بعد أن أطلع على ما كتبه لويس عوض في مقالته الضافية عـن اليـوت التـي نشرها سنة 1946م بمجلة ( الكاتب المصري ) والتي سيأتي الحديث عنها أكثر تفصيلا أدناه . ذلك أن جل ما ذكره سلامه موسى عن اليوت وشعره لا يعدو أن يكون ترديدا لما أورده لويس عوض في مقالته المذكورة . وأغلب الظن أن الأستاذ سلامة موسى حتى وهو يكتب عن اليوت في سنة 1948م لم يطلع على قصيدة ( الأرض الخراب ) أشهر قصائد اليوت . فهو يتحدث عن ( الأرض الخراب ) ويقول أنها صدرت سنة 1925م ويورد أبياتا طويلة باللغة الإنجليزية ويأتي بترجمة مقابلة لها إلى العربية ويقول : أنظر إلى قوله في ( الأرض الخراب ) . بينما في الحقيقة أن القصيدة التي يتحدث عنها والأبيات التي أوردها هـي من قصيـدة ( الرجال الجوف ) وليست ( الأرض الخراب ) . والتاريخ الـذي أورده هـو تاريـخ صدور قصيدة ( الرجـال الجوف ) وليس ( الأرض الخراب ) . (20)

أن الخطأ في حد ذاته ليس عيبا خاصة في تلك الفترة المبكرة ولكن العيب كل العيب في إغفال تصحيح هذا الخطأ في الطبعات اللاحقة للكتاب . و يتحمل الناشر وأصحاب امتياز حقوق نشر أثار سلامة مسؤولية تكرار هذا الخطأ في الطبعة الثالثة الصادرة في 1978م . فالواجب كان يحتم عليهم إزالة هذا الخطأ حتى لا يشوش على ثقة القارئ في أحد أهم من حملوا لواء التنوير ووهبوا حياتهم ثمنا له .

أليوت ولويس عوض

بالرغم من إشارات معاوية نور الرائدة إلى تجربة اليوت الشعرية في أوائل الثلاثينات ومحاولته تطبيق اطروحات اليوت النقدية لتقد شعراء الحركـة الرومانسية العربية ، إلا أن ت . س . اليوت لم يعرف في العالم العربي على نطاق واسع إلا بعد نحو عشرين سنة . وذلك بعد أن عاد الأديب والناقد المصري الدكتور لويس عوض من جامعة كمبريدج إلى مصر عند نشـوب الحـرب العالميـة الثانيـة ليدرس الأدب الإنجليزي بجامعة فؤاد الأول ( القاهـرة ) حيث نشر مقالته الشهيرة عن أليوت سنة 1946 وذلك بمجلة ( الكاتـب المصري ) التي كان يرأس تحريرها آنذاك الدكتور طه حسين . ونشرت المقالة فيما بعد في كتاب ( في الأدب الإنجليزي الحديث ) والذي صدرت طبعنه الأولى سنة 1950م .

ويرى محمد عبد الحي أن مقالة لويس عوض التي يصفها بوضوح الفكر والأسلوب ، أول محاولة جادة وحقيقية للتعريف باليوت " كتبت بروح تبشيرية منحتها قوة ، لمست وترا مشدودا في وجدان جيل من الشعراء الشبان الذين كانوا يبحثون عن أنغام جديدة تعيد للشعر حيويته بعد أن أحسوا أن أنغام الرومانتيكية قد وهنت ولم تعد تقوى على حمل تجـارب العصر " . (21)

إلا أن جوهر مقالة لويس عوض ، حسب عبد الحي ، ينحصر في موقفه الذي يتراوح بين الإعجاب والرفض في آن واحد معا . فهو معجب أشد الإعجاب بأسلوب اليوت الشعري الحداثي الذي يصفه بأنه نقطة تحول في تاريخ الشعر الإنجليزي والعالمي ومعجبا بثقافته الموسوعية وموهبته النقدية الفذة ، لكنه رافض لآرائه الفكرية التي يصفها بالرجعية وبأنها ثورة على ثورتين لا على ثـورة واحدة . فهو يصف اليوت بأنه منحاز للأستقراطية ناقم على الرأسمالية وحضارة الآله التي يرى فيها سبب شقاء البشرية .، لكنه رافض في ذات الوقت لثورة 1917م ويرى أن إحلال الشيوعية محل الفردية كالاستجارة من الرمضاء بالنار . لذلك فهو يصفه بأنه " مفكر طبقي ، يندب طبقته التي اختفت وتختفي مع زبد القرون وبأنه روح هائم عبر القرون وعبقري ولد بعد جيله بأجيال ، فزمانه الطبيعي هو العصور الوسطي وبيئته الطبيعية هي حضارة الإقطاع ، وهو نهاية مدنية بائدة ونرجو لها أن تبيد " . (22)

ويرى عبد الحي في هذا الحكم القاسي على موقف اليوت الفكري بأنه محاولة لتبرير تأثر لويس عوض وجيله بأسلوب اليوت الشعري من جهة وبالفكر الماركسي من جهـة أخري . وتطمع هذه المحاولة في الجمع بين النقيضين إلى قبول اليوت فنيا ورفضه فكريا . " وقد كان لهذه المحاولة للجمع بين الشكل الفني لاليوت والمضمون الثوري تأثير كبير على جيل كامل من الشعراء الجدد في العالم العربي " . (23)

وموقف لويس عوض التراوح بين الرفض والقبـول لاليـوت ، حسب عبد الحي ، هو انعكاس لموقف الشعراء الشباب التقدميين المنتمين إلى اليسار الماركسي من أمثال ، ستيفن سبندر ، سيسيل داى لويس ولوى ماكنيس وأودن الذين امتزجت أفكارهم الثورية الماركسية باكتشافات علم النفس المحدث وتقاليد الفلسفة الإنجليزية التي تشربوا بها في جامعة اكسفورد . وقد حاول الشاعر والناقد سيسيل داى لويس في مقالة له بعنوان " الثوريون والشعر " نشرت سنة 1936م التبرير لفكرة قبول اليوت فنيا ورفضه فكريا بقوله : " مدخلنا لقبول قصيدة ما هو جودتها ، وأعنى بذلك ، الجودة الفنية ، فالقصيدة ذات الصياغة الرديئة مثل المنزل ذي المعمار الركيك ، لا يشفع له أن بنى هيكله معماري وعامل لهما وعـى طبقي . فالقصيدة أيضا قد يتفوق في نظمها برجوازي رجعي ، ولكنها تظل لجودتها ذات فائدة للشاعر الثوري . و ( الأرض الخراب ) قصيدة من هـذا النوع . فالقصيدة الجيدة الصنع لابد أن تكون ذات فائدة ، فهي تطلعنا على طبيعة تفكير فئة من الناس ، قلت أو كثرت " . (24)

وكان داى لويس قد أصدر سنة 1934م عن جامعة اكسفورد كتاب ( أمل الشعر ) يقول عنه عبد الحي أنه كتاب صغير الحجم ، قرأه لويس عوض سنة 1938م في سنته الأولي في كمبريدج وأعتبره مانفيستو الشعراء الشباب الذين جمعوا بين الماركسية والتأثر بأسلوب اليوت الشعري .

وقد تركت هذه النظرة التوفيقية القائمة على قبول اليوت فنيا ورفضه فكريا أثرها على رواد الشعر الحديث في العالم العربي من أمثال بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وأدونيس وصلاح أحمد إبراهيم ، وغيرهم من الشعراء الذين ارتبطوا بدرجات متفاوتة بالفكر اليساري وبالبحث عن أساليب جديدة للتعبير الشعري . وقد وجد هؤلاء الشعراء ، كما يقول محمد عبد الحي حلا مريحا لبعض الوقت ، في معادلة لويس عوض وسيسيل داى لويس في التعبير عن الآراء التقدمية التي يؤمنون بها .

ويعدد لويس عوض في مقالته أهم الخصائص الفنية التي تميز شعر اليوت على مستوى الشكل والمضمون . فمن حيث الشكل يرصد عدة ظواهر أسلوبية تميز طريقة الكتابة الشعرية وهي :

1- إذا كان الشعر التقليدي في السابق يقوم على التتابع المنطقي فـي أي جـزء من أجزاء السياق وفي السياق كله وما خرج على ذلك يعد هذيان محموم أو ترهات مجنون . فشعر اليوت والشعر الحديث عموما لا يقوم على التتابع المنطقي بقدر ما يقوم على تدافع العواطف والذكريات بلا ترابط منطقي بين أجزاء السياق .

ويرجع الدكتور لويس عوض هذه الظاهرة إلى سببين : الأول إنها نتيجة من نتائج الثورة على العقل التي عمت أوربا في فترة ما بين الحربين بعد أن ثبت للأوربيين إفلاس العلم وعجزه عن تحقيق التقدم والسلام المنشود للإنسانية . والثاني تأثر الشعر بفن السينما الذي يقوم على الانتقال المفاجئ من منظر إلى آخر دون اعتبار لصلات الزمان أو المكان أو التسلسل المنطقي في عملية الانتقال هذه والاعتماد التام على وحدة الفيلم في مجموعه .

2- استخدام ما يعرف بتيار الوعي أو ما أسـماه لـويس عـوض ، بالتداعـي اللامترابط في التعبير عن التجارب الشخصية ، فاليوت " يحشو شعره باختبارات شخصية لا يشاركه فيها إنسان ، وهو لا يمهد لهذه الاختبارات الشخصية بل يدمجها في السياق إدماجا دون رابط .. " ويفسر لويس خاصية التداعي الحر للذكريات في الشعر الحديث إلى انسحاب الفنان الفرد المشفق على فرديته منهزما أما القوى الحضارية الجديدة التي تسحق الفردية سحقا وإصراره على إعـلان اختياره الشخصي .. فهي بمثابة احتجاج على روح المجموع التي انتشرت بمجـيء الانقـلاب الصناعي .

3- استخدام الصور الشعرية والتشبيهات المستمدة من منجزات الحضارة الآلية والعزوف عن التشبيهات المستمدة من مظاهر الطبيعة التقليدية . ومن الأمثلة التي يوردها على ذلك تشبيه اليوت للمساء بمريض يرقد مخدر على منضدة جراح الذي سبق أن أشار إليه معاوية محمد نور في إحدى مقالاته الرائدة .

4- الإفادة من تقاليد المدرسة الرمزية في فرنسا لا سيما أشعار لافورج ورامبو وفاليري الأمر الذي زاد من غموض الشعر الحديث على حد تعبير لويس عوض .

5- استلهام التراث القديم عن طريق اقتباس إشارات وتضمينات من الديانات والأساطير القديمة لمختلف الشعوب .

هذا من حيث الظواهر الأسلوبية التي تميز شعر اليـوت حسـب الدكتـور لويس عوض . أما من حيث المضمون والرؤية الشعرية فيخلص إلى أن اليوت شاعر حزين ومتشائم . غير أنه يرى أن تشاؤمه كان في البداية ممزوج بشيء من الميل إلى الدعابة والسخرية وحزنه كان خاليا من المرارة ولكن نشوب الحرب العالمية الأولي أدخله في أزمة روحية حادة أفقدته الثقة في الحياة وفي الحضارة . ويدلل على ذلك بقصائد : ( الأرض الخراب ) و ( الرجال الجوف ) ويرى فيهما ابلغ رثاء للعالم وللحضارة للإنسانية ويصفهما بأنهما " أشبه بقداس كئيب في كاتدرائية فخمة خربة " . ويرى أن شعر اليوت في فترة ما بين الحربين شعر الكارثة " فالمحن تكسر روح الإنسان واليوت شاعر عامر بإنسانيته وفنه منصرف إلى استنباط الرموز الصالحة للتعبير عن جد الحياة الإنسانية " .

ولعل في ذلك ما يفسر النزعة الصوفية التي يحاول اليوت التعبير عنها في قصائده . غير أن لويس عوض يرى أن تصوف اليوت تصوف غير أصيل . أنه تصوف " مستعار من تأملات الغير وليس تصوفا صادقا مبنيا على الاختيار المباشر .. فهو ثمرة اجتهاد المفكر في اختراق حجب الغيب أكثر من إشراق الصوفي في ساعة الوجد " ودليله على ذلك أن اليوت غاضب ويائس وحزين والصوفية الحقة تتناقض مع كل هذه العواطف الكدرة إذ أنها تقوم على الاندماج في الكل والاتحاد مع سر الكون وسقوط الغشاء الذي يعوق الحواس من التغلغل وراء الظواهر " . واليوت في نظره لم يصل قط إلى الصفاء الأبدي أو النرفانا بلغة الهنود ، لذا فهو ليس شاعر صوفي بل شاعر ديني على طريقة خاصة ، أو شاعر مسيحي كنسي .

وما قاله لويس عوض عن صوفية اليوت بصدق على كثير من الشعراء العرب الذين تأثروا بنزعته الصوفية التأملية من أمثال أدونيس ويوسف الخال وخليل حاوى وصلاح عبد الصبور ومحمد عبد الحي . فهؤلاء الشعراء ليسوا بمتصوفة وإنما يتمثلون أساليب المتصوفة وتأملاتهم للتعبير عن رؤاهم الشعرية .

لم يكتف لويس عوض بالتبشير بالاسلوب الشعري لأليوت بل قرر أن يخوض بنفسه تجربة الكتابة على هذا النمط الجديد فأصدر سنة 1947م أي بعد سنة من نشر مقالته التبشيرية ، مجموعة قصائد تحت عنوان ( بلوتو لانـد وقصائـد أخرى ) . نظمت هذه القصائد في الثلاثة سنوات التي قضاها بجامعة كامبريدج ما بين 1938م و 1940 قبل أن يعود إلى مصر عند نشوب الحرب العالمية الثانية . وعلى الرغم من أنه يقر بأنه ليس بشاعر إلا أنه يقول أن الغرض من شعر الديوان هو فتح الباب أمام الشعراء العرب الشباب للتجريب والخروج على عمود الشعري العربي الذي لم يعد قادرا على استيعاب الأساليب الحديثة في الكتابة الشعرية في نظره .

لذلك فالسمة المميزة لقصائد الديوان هي الخروج على العروض الخليلي . فقد تراوحت ما بين الشعر المرسل وهو الشعر المتحرر من القافية المحتفظ بالوزن والشعر المنثور وهو المتحرر من القافية والوزن معا على حسب تعريف لويس عوض . إضافة إلى قوله أنه ابتكر وزنا جديدا على أوزان الخليل الستة عشر هو وزن ( فاعلن ، فاعلـن ، فاعلـن ، ) . وإدخاله لغة الكلام أو اللهجة الدارجة في النظم والاعتماد على وحدة القصيدة أو تسلسل المعنى في كل أجزاء القصيدة بديلا عن وحدة البيت . وإجمالا يمكن القول أن قصائد الديوان حوت كل الخصائص الأسلوبية والبنيوية للقصيدة الحديثة على الرغم من ضعف قيمتها الفنية لافتقار صاحبها للموهبة الشعرية .

إلا أن القيمة التاريخية والأدبية الحقة لهذا الديوان تكمن في المقدمة التي أستهل بها لويس عوض الديوان والتي أختار لها عنوانـا اسـتفزازيا تحريضيا هو : ( حطموا عمود الشعر ) . فقد كانت هذه المقدمة بمثابة مانيفستو أو بيان تأسيس لحركة الشعر الحديث التي انطلقت في العالم العربي في نفس سنة صدور الديوان . ولعل أهم الأفكار التي وردت في هذا ( البيان ) دعوة جيله من الشعراء الشباب آنذاك إلى كسر عمود الشعر العربي والخروج عن الأوزان الخليلة وتجاوز التعريف التقليدي للشعر بأنه هو الكلام الموزن المقفى وكذلك تجاوز المفهوم القديم للغة الشعر واستخدام لغة الكلام والمفردات المستحدثة في الكتابة الشعرية . ولم يكتف بالدعوة إلى كسر عمود الشعر وعمود اللغة وحسب بل دعي إلى " كسر رقبة البلاغة " التقليدية .

ومن الأسباب التي يوردها لويس عوض لدعوته الشعراء إلى تحطيم عمود الشعر العربي ، هي زعمه أن الشعر العربي ( التقليدي ) قد مات بموت أحمد شوقي في 1932م . وأن الجيل الجديد جيل مختلف عن جيل شوقي ولم يعد الشعر العربي بشكله القديم يستوعب همومه وتطلعاته . ويصف هذا الجيل الذي ينتمي إليه بأنه أكثر إحساسا بالشـعر مـن جيـل شوقـي ويعـدد حيثيـات هـذا الاختلاف بقوله : " .. إن جيلنا يحس الشعر أكثر مما أحسه جيل شوقي ، فجيلنا معذب ، وجيلنا ثائر وجيلنا عاش في الأرض الخراب التي انجلت عنها الحربان ورقص حول شجرة الصبار ، وجيلنا لم يولد بباب أحد ، وجيلنا يقرأ فاليري و ت . س . اليوت ولا يقرأ البحتري وأبا تمام ، وجيلنا يكسب قوته بعرق جبينه ، ويكافح الاستعباد والاستبداد ولا يشترى القيان من سوق النخاسة كما كانوا يفعلون وجيلنا عزيز لا يعفر الجباه لأحد ، وجيلنا سخي يتسع قلبه للإنسانيـة جمعاء " . (25)

ولقد لقى الديوان ردود فعل متباينة . فقد قوبل بصمت شامل من الصحافة باستثناء مقال " طويل شجاع كتبه الدكتور حسين مؤنس في جريدة البلاغ يحي فيه الديوان تحية غير ممنونة – بسبب دعوته للتجريب " وفي جامعة القاهرة تجاوب معه بعض الطلاب الذين صار لهم شأن في دنيا الأدب منهم صلاح عبد الصبور وفاروق خورشيد . كما قوبل ببعض الرضا من الدكتور طه حسين وبعدم الرضا من الأستاذ العقاد " .(26)

وبعد مضى أكثر من نصف قرن على صدور الديوان يعيد صاحبه النظر إليه بحكمة الشيوخ ويقول عنه بأنه كان " من آثار عبوديتي للشاعر ت . اس . اليوت أيام شبابي " . بينما يصف المقدمة الملتهبة للديوان بأنها كتبت في درجة حرارة مرتفعـة " لأنهـا كتبت في مناخ الدعوة للثورة على جمود العهد البائد وفساده والدعوة للخروج من القديم . ولذا فهي وثيقة تاريخية بغض النظر عن صحة مضامينها أو عـدم صحتها . إذ أنها تصور مناخ تلك الفترة ( 1945 – 1952 ) المشبع بالثورة والتحدي في الأدب والفن والفكـر الفلسفي والسياسـة والاقتصاد والقيم الاجتماعية والأخلاقية " . (27)



________________

* فصل من كتاب تحت الطبع : " تاثير اليوت علي القصيدة العربية الحديثة
** نشرت بمجلة كتابات سودانية

الهوامش والمصادر:

1- معاوية نور ونقد الرومانتيكين العرب في الثلاثينات – د. محمد عبد الحي – مجلة الدوحة – السنة الرابعة العدد 40 – أبريل 1979م .

2- القالب في شعر العقاد – معاوية محمد نور – جريدة الجهاد – العدد 590 – 3 مايو 1933م – نقلا عن – مؤلفات معاوية محمد نور – إعداد الرشيد عثمان خالد – دار الخرطوم للطباعة والنشر – ص 216 .

3- المصدر السابق

4- المصدر السابق

5- المصدر السابق

6- المصدر السابق

7- أصدقائي الشعراء : هذا لا يؤدى – معاوية محمد نور – مجلة الرسالة العدد 67/68 – 15 و 22 أكتوبر سنة 1934م – نقلا عن من آثار معاوية محمد نور – جمع د. الطاهر محمد على البشير – الدار السودانية الطبعة الأولي 1970م – ص 257 .

8- معاوية نور ونقد الرومانتيكين العرب في الثلاثينات – سبق ذكره .

9- أصدقائي الشعراء هذا لا يؤدى ا سبق ذكره

10- المصدر السابق

11- المصدر السابق

12- المصدر السابق

13- المصدر السابق

14- المصدر السابق

15- المصدر السابق

16- المكان – قصة تحليلية – معاوية محمد نور – جريدة مصر – العدد 10324 – 11 نوفمبر 1931 – نقلا عن - مؤلفات معاوية محمد نور – إعداد الرشيد عثمان خالد – سبق ذكره .

17- المصدر السابق .

18- الأدب الإنجليزي الحديث – سلامة موسى – سلامه موسى للنشر والتوزيع – الطبعة الأولي 1933م – الطبعة الثالثة 1978م ص 147 .

19- معاوية نور ونقد الرومانتيكيين العرب في الثلاثينات – ومحمد عبد الحـي – سبق ذكره .
20- د. محمد احمد البدوي - اوتار شرقية علي القيثار الغربي .

21- في الأدب الإنجليزي الحديث – د. لويس عوض – الطبعة الأولي 1950م الطبعة الثانية 1987م – الهيئة المصرية للكتاب – ص 286 .

22- معاوية نور ونقد الرومانتيكيين العرب في الثلاثينات – د. محمد عبد الحي سبق ذكـره .

23- المصدر السابق .

24- بلوتولاند – د. لويس عوض – الهيئة المصرية العامة للكتاب 1989م ( الطبعة الأولي 1947م ) ص 10

25- المصدر السابق ص 137 .

26- المصدر السابق ص 148 ، 141 .














Post: #8
Title: Re: مأساة تموز او في التناص بين اليوت وبدر شاكر السياب
Author: عجب الفيا
Date: 01-25-2006, 02:01 PM
Parent: #1

الي حين عودة