دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.

دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.


02-19-2008, 02:05 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=150&msg=1203383123&rn=0


Post: #1
Title: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.
Author: Khalid Kodi
Date: 02-19-2008, 02:05 AM

دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته (1 من 8)


الدكتور عمر مصطفى شركيان

[email protected]

الملايين أفاقت من كراها

ما تراها.. ملأ الأفق صداها..

خرجت تبحث عن تاريخها..

بعد أن تاهت على الأرض وتاها

حملت أفؤسها وانحدرت من روابيها..

وأغوار قراها..!

فأنظر الإصرار في أعينها وصباح البعث يجتاح الجباها

من أبيات قصيدة "أغاني إفريقيا"

للشاعر محمد الفيتوري

مقدِّمة

حين تأسَّد النِّظام "الإنقاذي" معلناً متحدَّياً المعارضة السُّودانيَّة أنَّ نظامه لا يتفاوض إلا مع الذين يحملون السِّلاح، كان هذا تأبُّطاً في الشر وإخفاقاً في الديبلوماسيَّة وانتهاجاً لسياسة رعناء سرعان ما أخذ أهل دارفور هذا التحدِّي بقوة. ولكن قبل هذا التحدِّي وبعده تكاثفت جملة من العوامل التأريخيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة لتدفع أهل دارفور إلى تبني ما تبنوه من عمل سياسي وعسكري في الآن نفسه. فعندما وضعت الحرب الأهليَّة الأولي في جنوب السُّودان أوزارها العام 1972م بدأ أهل الجنوب ينعمون بنوع من التمثيل السياسي في المركز (منصب النائب الثاني لرئيس الجمهوريَّة وبعض الوزارات الهامشيَّة)، وفي الإقليم (الحكم الذاتي)، فضلاُ عن تمتُّعهم بالخدمات التنمويَّة والاجتماعيَّة والتعليميَّة. عندئذٍ تيقَّن سكان السُّودان المهمَّشون أنَّ السبيل الوحيد لانتزاع الحقوق السياسيَّة المتمثِّلة في المشاركة في السُّلطة والتَّوزيع العادل في الثروة القوميَّة هو عن طريق حمل السِّلاح. وكذلك ما أن أوشكت الحرب الأهليَّة الثانية في جنوب السُّودان، جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق أن تجد طريقها إلى الحل السياسي حتى تأكَّد أهل الهامش – بما فيهم مواطنو دارفور - في أكثر ما يكون التأكيد بأن سبيل النضال المسلَّح هو الحل، لذلك ارتأينا في وصف الحرب في دارفور بأنَّها "حرب ما بعد حرب". ومن خلال ما سوف نرى يبدو أنَّ جماهير دارفور أتعبها الواقع، وباتت لا ترى حلاً لمشكلاتها السياسيَّة ومشكلات هذا الواقع إلا بالخروج إلى حمل السلاح، وبالنسبة إليها كان هذا الخروج اضطراراً، حتى وإن كانت كلفته أكثر، ومن يركب البحر لا يخشى من الغرق.

بيد أنَّ ما أسفرت عن الحربين الأهليتين من نتائج إيجابيَّة لأهل الجنوب وغيرهم لم تكن هي العنصر الرئيس في تأجيج الصراع المسلَّح في دارفور، لأنَّ العدائيات المسلَّحة كانت تدور في هذا الإقليم منذ أمد بعيد بشكل أو بآخر، وكانت النِّزاعات القبليَّة قائمة بصورة أو بأخرى، حتى ولو أصبح من الصعب جداُ تحديد على وجه الدقة تأريخ بداية هذه الصِّراعات القبليَّة في دارفور. إذ أنَّ تركيزنا هنا سوف يكون على العدائيات التي نشبت في شباط (فبراير) 2003م، وأخذت طابعاً سياسيَّاً وإقليميَّاً ودوليَّاً، حيث لفتت أنظار المجتمع الدولي، ومنظَّمات الإغاثة المحليَّة والدوليَّة، وجماعات حقوق الإنسان، وحكومات الدول الغربيَّة والإتحاد الإفريقي. وعليه سوف لا نغفل عن الحديث عن النزاعات القبليَّة التي حدثت قبل هذا التأريخ كمحاولة منا لفهم طبيعة أزمة دارفور في المشكل السُّوداني من النواحي التأريخيَّة والأثنيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والبيئيَّة. وبما أنَّ لإقليم دارفور حدود مع ثلاث دول هي ليبيا في الشمال، وتشاد في الغرب، وجمهورية إفريقيا الوسطى من الناحية الجنوبيَّة-غربيَّة، كان لمجريات الأحداث في دارفور انعكاسات سالبة على هذه المنطقة من النواحي الإنسانيَّة والأمنيَّة والسياسيَّة، وبخاصة دولة تشاد أو ما بات يُعرَف ب"قلب إفريقيا الميت" (The Dead Heart of Africa)، وذلك لوضعها الانغلاقي وسط القارة.


دارفور.. الأرض (الجغرافيا) والشَّعب والتأريخ


إنَّ إقليم دارفور – الذي يعني حرفيَّاً أرض الفور – يمتد تأريخياً بين خطي العرض 10-16 درجة شمالاً، وخطي الطول 22-27 درجة شرقاً، وتبلغ مساحته 140,000 ميلاً مربعاً – أي ما تعادل مساحته فرنسا، ويسكنه حوالي 6,5 مليون نسمة. إذ لم يتم دمجه رسميَّاً في دولة السُّودان إلى بعد هزيمة آخر سلطان دارفور وهو علي دينار العام 1916م. وبما أنَّ لهذا الإقليم طبيعة جغرافيَّة مميَّزة وتأريخ زاخر وتباين أثني، إلا أننا نترك الحديث عن الجغرافيا جانباً، وإن لعبت هذه الجغرافيا أو العوامل البيئيَّة – كما سنبين لاحقاً – دوراً فعيلاً في الأحداث المأسويَّة التي نود الخوض فيها. برغم من ذلك كله، كان علينا أن نشير هنا إلى أنَّ هذا الإقليم تحده من الشمال الصحراء الليبية، ومن الشرق قطاع عريض من التلال الرمليَّة، ومن الجنوب حدود ذبابة التسي تسي التي تمنع توغل الحيوانات إلى ما وراء نهر الجور، الذي سماه السُّودانيُّون المستعربون "بحر العرب" تزويراً للمعالم الإفريقيَّة. بيد أنَّ الجانب الغربي من الإقليم يمثِّل امتداداً جغرافيَّاً بذات الميزات في دولة تشاد. وعليه نجد أنَّ الأحداث السياسيَّة صوب هذا الاتجاه – أي تلقاء تشاد – هي التي تحدِّد مجريات الأحداث في هذا الإقليم، كما سنرى لاحقاً، وليست عوامل التربة، النبات، أو المناخ. وكان ارتباط دارفور بالعالم الخارجي قديماً – أي تحديداً منطقة البحر الأبيض المتوسط – وكان يتم هذا التَّرابط عن طريق درب الأربعين بين أسيوط في مصر العليا وكوبي – العاصمة التجارية لدارفور يومئذٍ، وعن طريق طرابلس مروراً ب"جالو"، كفرة، وايتي ثمَّ دارفور.

وتسكن في إقليم دارفور – وتساكن فيه – مجموعات أثنية متباينة (الجدول رقم (1)). بيد أنَّه لا يمن تبني هذا التَّواجد القبلي بصورته هذه كنهاية قصوى، لأنَّ هناك قبائل صغيرة لكنها أصيلة ومنتشرة في هذه الولايات، وهناك مجموعات قبليَّة ممتدة على طول الحدود الولائيَّة وعرضها، ثمَّ هناك القبائل التي عبرت – وما زالت تعبر – الحدود الدوليَّة من تشاد أو جمهوريَّة إفريقيا الوسطى واستوطنت في دارفور؛ حيث تزداد هذه الهجرات، إما أولاً بازدياد النِّزاعات المسلَّحة بسبب السلطة السياسيَّة، وإما ثانياً عند اصطراع المجموعات الأثنيَّة المتنافرة حول الموارد الطبيعيَّة التي تنشأ نتيجة الظروف البيئيَّة القاهرة، وإما ثالثاً هروباً من الضرائب والتزامات المواطنة في السُّودان وتشاد – مثلما يفعل الغجر في أوربا (The Gypsies) – فلتجدنَّهم يسجِّلون في السُّودان تارة، ويهربون إلى تشاد تارة أخرى كلما قويت يد الدولة وصارت قابضة. إذ يمكن تصنيف القبائل في دارفور إلى خمس مجموعات رئيسة هي:

(1) القبائل المستقرة (الإفريقيَّة): وهي الفور، المساليت، الداجو، التُّنجُر، القِمِر، البيرقيد، والبرتي.

(2) القبائل البدويةَّ أو شبه بدويَّة (الإفريقيَّة): وتشمل الميدوب والزغاوة. وفي كتاب "الزغاوة ماض وحاضر" أورد المؤلفان محمود أبكر سليمان وحمد على أبكر سليمان "الطيناوي" فروع وإدارات الزغاوة وفق ترتيبها الأبجدي وهي: دار الزغاوة الأرتاج، دار الزغاوة البديات، دار الزغاوة التوار، دار الزغاوة أولاد دقيل، دار الزغاوة القلا، دار الزغاوة الكابتنق، دار الزغاوة الكجر، دار زغاوة الكوبي، ودار زغاوة منطقة أنكا "البقيري". والزغاوة يطلقون كلمة بيري على أنفسهم، وهي تعني الزغاوة ويصنِّفون البيري إلى ثلاثة أقسام هي: ويقي، توباء، وكوبارا. ويشمل الويقي الفروع التالية: الأرتاج والقلا والتوار والنيقيري وأولاد دقيل والكجر والكايتنقا؛ أما التوباء فهم البديات، والكوبارا هم زغاوة الكوبي.(1) ولغتهم شبيهة بلغة تابو، وقد تكون لهم صلات بالبر في ليبيا، حيث نجد أنَّ للزغاوة – كأمة من الأمم الإفريقيَّة - في السُّودان امتداد في جنوب ليبيا وتشاد وجمهوريَّة إفريقيا الوسطى. والزغاوة في تشاد قبيلة رعويَّة أكثر من كونها تجاريَّة، وليس كما هي الحال في السُّودان. ويقول الإمام شهاب الدين بن عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي إنَّهم "لجنس من السُّودان (...) ومملكة الزغاوة مملكة عظيمة من ممالك السُّودان في حد المشرق منها مملكة النُّوبة، الذين بأعلى صعيد مصر، بينهم مسيرة عشرة أيام، وهم أمم كثيرة، وطول بلادهم خمس عشرة مرحلة في مثلها عمارة متصلة، وبيوتهم جصوص كلها وكذلك قصر ملكهم، وأنَّه إذا اتفق لأحد من الرعية أن يلقي الإبل التي عليه زاده قتل لوقته في موضعه لاعتقادهم بأنَّ ملكهم لا يأكل، وهو يشرب الشراب بحضرة خاصة أصحابه، وشرابه يُعمَل من الذرة مقوَّى بالعسل، وزيَّه لبس سراويلات من صوف رقيق والاتشاح عليها بالثياب الرفيعة من الصوف الأسماط والخز السوس والديباج الرفيع، ويده مطلقة في رعاياه ويسترق من شاء منهم، ومعايشتهم من الزروع، واقتناء المواشي (...)".

(3) القبائل البدويَّة الأبَّالة (العربيَّة): ومنها الزياديَّة، وهم ينتمون إلى مجموعة فزارة القبليَّة، وإنَّهم لأخوة مع مجموعة دار حامد (المحاميد) القبليَّة في كردفان.

(4) القبائل المستقرة (العربيَّة): وهي بني فضل، المسيريَّة، والمعاليا.

(5) القبائل البدوية البقَّارة (العربيَّة): وتشمل الرزيقات (المهيريَّة والنوايبة) وهم من عرب جهينة وجدَّهم الذي ينتسبون إليه هو رزيق، الهبَّانيَّة (التارا والصوت)، التعايشة (الكلاوا والعِرق)، والبني هلبة.

وتذكر بعض المصادر أنَّ هناك 500 قبيلة في دارفور. فبالإضافة إلى التي سبق ذكرها نجد قبائل البرقو، البرنو، البيقو، المراريت، أولاد راشد، أولاد زيد، الكرتان، الزبلات، الشويحات، الكواهلة، الحسانيَّة، الكسياب، العريقات، العطيفات، الفلاتة، الترجم، الهوارة، الجوامعة، المهادي، المحاميد، الجلول، العطوريَّة، وخزام، والميما، الأرنقا، الأسنقور، السنجار وغيرها.


الولاية (العاصمة) المساحة (كلم2) السكان (نسمة) القبائل

شمال دارفور (الفاشر) 260,000 2,000,000 الفور، الزغاوة، الميدوب، المساليت،

القِمِر، البديات، البرقو، الرزيقات

الشماليَّة، الزياديَّة، المهادي،

والتًنجُر.

غرب دارفور (الجنينة) 150,000 1,900,000 الفور، المساليت، القِمِر، التاما، أولاد

راشد، أولاد زيد، أولاد علي،

التعايشة، بني حسين، إضافة إلى

قبائل أخرى صغيرة.

جنوب دارفور (نيالا) 137,000 3,964,000 الرزيقات، الهبانيَّة، الفلاتة، الفور،

التعايشة، بني هلبة، السلامات،

الداجو، الزغاوة، إضافة إلى قبائل

أخرى صغيرة.

الجدول رقم (1): إقليم دارفور.. التقسيم الولائي، المساحة، والسكان.

المصدر: صحيفة "الحياة"، الثلاثاء، 27/7/2004م، العدد 15096.


ففي المنطقة الشماليَّة القاحلة من الإقليم تسكن مجموعات ذات أصول إفريقيَّة وأخرى عربيَّة من رعاة الإبل الرحل (الأبَّالة). وتشمل هذه القبائل: البديات والزغاوة غير العربيَّة، وقبائل المهيريَّا (الرزيقات) والعريقات والمحاميد وبني حسين العربيَّة. وتقيم في المنطقة الوسطى الغنيَّة القبائل غير العربيَّة وهي الفور والمساليت والبرتي والبرقو والبرقيد والتاما والتُّنجُر. ثم نجد في المناطق الشرقيَّة والجنوبيَّة شبه الجافة القبائل العربيَّة الرحل (البقَّارة) وهي: قبائل الرزيقات والهبانيَّة والبني هلبة والتعايشة والمسيريَّة. هذا هو التصنيف الجغرافي لسكان دارفور. كذلك اعتمد الباحثان عبد الغفار محمد أحمد وشريف حرير العام 1982م آلية مغايرة لتقسيم سكان دارفور إلى أربعة أقسام هي: البقارة (رعاة البقر) والأبَّالة (رعاة الإبل) والزرقة (السود من غير العرب) وسكان المراكز الحضريَّة. ثمَّ هناك من يقسِّم سكان دارفور – اعتماداً على البعد الثقافي – إلى أربع مجموعات على أساس علاقتها بالدم والثقافة العربيَّة، وهي: العرب والمستعربون تماماً والمستعربون جزئيَّاً وغير العرب. إلا أنَّ سيان أوفاهي قد تبنَّى تقسيماً مختلفاً مستنداً إلى الهجرة والعوامل اللغويَّة وسبل كسب العيش كعناصر لمعرفة التركيب السلالي لسكان دارفور. وأخيراً هناك من يرى أنَّ سكان دارفور يمكن تقسيمهم إلى مجموعتين فقط هما العرب والأفارقة (الزرقة).(2) هذا التعدُّد الأثني يمكن أن يكون مصدراً للاستقواء الاجتماعي والتمكين الثقافي، وذلك في حال وجود قيادة رشيدة قادرة على حل المشكلات السياسيَّة والاجتماعيَّة الناشبة بالحكمة والموعظة الحسنة، وبعيداً عن الأهواء الذاتيَّة والمصالح السياسيَّة سواء المحليَّة أم المركزيَّة. ومن جانب آخر، إذا تم استغلال هذا التعدُّد القبلي في أسوأ ما يكون الاستغلال، وذلك عن طريق تهويل الفوارق العرقيَّة والثقافيَّة، وإحياء جذور الثأرات التأريخيَّة، وإثارة حمية الجاهليَّة الأولى، فلسوف يقود هذا المسلك إلى مشكلات أمنيَّة واجتماعيَّة وإنسانيَّة بالغة التعقيد، كما سوف نرى لاحقاً.

وعلى كل حال، فسنمضي إلى التأريخ الآن، فهو الذي يمدُّنا بالمعطيات اللازمة للوقوف على مصائر الشعوب الذين عاشوا في تلك الفترة التأريخيَّة في دارفور. وإذا كانت مهمة التأريخ هي إطلاع العصر على حقائق الماضي، فإنَّ الاعتبار بالتأريخ من مهمة الناظر إلى التأريخ، وليس مهمة التأريخ نفسه. إذ إنَّه لمن الأمر العصي جداً التعرُّف الكامل على التأريخ القديم لإقليم دارفور، وذلك لغياب السجلات المدوَّنة وانعدام الدراسات الأثريَّة عن المواقع التأريخيَّة العديدة التي تعج بها المنطقة. بيد أنَّ أ جي آركيل، وهو كان الباحث الحديث الذي قام بدراسات جادة حول التأريخ القديم لدارفور، قد أثبت وجود آثار للمسيحيَّة في دارفور في الزمن الغابر، وذلك بعد الدراسة التي قام بها على بعض القطع الأثريَّة التي عثر عليها في "عين فرح". إذ خلص آركيل إلى القول إنَّ عين فرح ربما كانت عاصمة هذا الإقليم الذي كان حكمه خاضعاً لمملكة النُّوبة المسيحيَّة؛ أو ربما كانت هذه المنطقة مستوطنة نوبيَّة، لكنها سرعان ما أمست مستقلَّة. وكذلك ذكر آركيل أن حكم التُّنجُر في دارفور – تحت حماية مملكة النوبة – ازدهرت بين القرنين الثامن والعاشر الميلاديين. وحينما أخذت مملكة النُّوبة في شمال السُّودان تنهار رويداً رويداً لبثت مملكة التُّنجُر في دارفور ردحاً من الزمان حتى العام 1240م؛ ومن بعد استولت عليها مملكة كانم من الغرب (تشاد حاليَّاً). ثمَّ من بعد ذلك أمسى تأريخ دارفور طي الكتمان لمدة 400 عاماً حسوماً، حيث بسطت مملكة البرنو نفوذاً قويَّاً على دارفور خلال هذه القرون.

ففي إطار مكوناتها الإفريقيَّة السُّودانيَّة تعاقبت على سلطنة هذا الإقليم عدة سلالات وهي الداجو – وكان أشهر ملوكهم عمر كوسوفرو، الذي أمر رعاياه بتحويل الجبل من موضعه إلى موضع آخر - والتُّنجُر، ومن بعدهم الفور الذين صبغوها بصبغتهم. وقد حكم من الفور أحد الفروع الرئيسة وهم الكنجارة إلى جانب التحالف مع فرعين آخرين هما التومركة والكراكيت. وتمضي التقسيمات الاجتماعية حتى داخل فرع الكنجارة ليصبح الكيرا من بينهم كباراً للقوم.(3) هذه هي الأثناء التي فيها ظهرت إلى السطح العائلة المالكة المعروفة باسم "الكيرا-الفور"؛ إذ ادعى منتسبو هذه العائلة أنَّ حسبهم ونسبهم يرجعان إلى عرب بني هلال دون الإتيان ببرهان مبين. بيد أنَّ البُحَّاث يعتقدون أنَّ أصولهم تعود إلى أهل الكنجارة، وهم فرع من إثنية الفور. إلا أنَّه بعد استيلاء سليمان صولون على العرش العام 1640م بدأت الأضواء تتسلط على تأريخ سلطنة دارفور، وأخذت رقعتها تتسع حتى شملت إقليم دارفور بأكمله وجزءاً من كردفان – كما سنرى لاحقاً. وقد قيل عن سليمان صولون هذا إنَّه لمن بني هلال، وإنَّه قد اقترن بأميرة فوراويَّة. ولتجدنَّ هذا النوع من الأساطير في مملكة تقلي في جبال النُّوبة وغيرها – أي أسطورة الحكيم العربي القادم إلى منطقة إفريقية وإدخال الإسلام وبعض العادات والتقاليد الثقافية التي لم يألفها السكان المحليُّون الأصليُّون من قبل. أيَّاً كان من أمر هذه الأسطورة، فقد حكم سليمان لمدة 40 عاماً وأدخل الإسلام إلى السلطنة. وفي هذه الأثناء تأسست مملكة ودَّاي (هي جزء من الأراضي التشاديَّة اليوم) وسادت بين سلطنة دارفور ومملكة ودَّاي علاقات اتَّصفت بالمد والجزر في أغلب الأحيان وحروبات طاحنة في أحايين أخرى. وفي خلال فترة ال200 عام منذ وفاة سليمان صولون حكم 10 سلاطين سلطنة دارفور، كان أشهرهم السلطان محمد تيراب (1752-1787م)، الذي خاض حرباً ضد الرزيقات بعد أن رفض الأخير دفع الضرائب. وفي آخر أيام حكمه اشتبك السلطان محمد تيراب مع سلطان الفونج في كردفان، حيث بسطت سلطنة الفونج نفوذها على كردفان العام 1650م. ففي نهاية القرن الثامن عشر الميلادي تدهور نفوذ سلطنة الفونج في كردفان بعد تأسيس سلطنة المسبَّعات العام 1753م بواسطة هاشم المسبَّعاوي، وهو كان متمرِّداً على العائلة المالكة في دارفور، وباتت سلطنة المسبعات تشن غارات متكررة على دارفور. وفي نهاية الأمر شن السلطان تيراب حرباً شعواء على سلطنة المسبعات انتهت بهزيمتها، وتقدَّمت جيوش تيراب حتى أم درمان، حيث توفى في هذه الحملة.

على أيَّة حال، استمرَّ حكم دارفور على كردفان 30 عاماً، حيث انتهت بالغزو التركي-المصري على السُّودان العام 1821م، وهزيمة قوات السلطان محمد الفضل – سلطان دارفور – في بارا، حيث استبسل آخر ملوك النُّوبة في هذه المدينة أي استبسال، مع العلم أنَّ هذه المدينة كانت آخر عاصمة للنُّوبة في السُّودان بعد تقهقرهم غرباً. إذ لم يكن للأتراك-المصريين من الجيوش والمال بما فيهما الكفاية للزحف تلقاء الفاشر – حاضرة سلطنة دارفور، وهكذا لبثت هذه السلطنة مستقلَّة لمدة 53 عاماً. وقد تحدَّت السلطنة الإمبراطوريَّة التركية في مصر في عهد سلطانها محمد الفضل ابن السلطان عبد الرحمن الرشيد، وذلك بعد أن أرسل له محمد علي باشا رسالة العام 1830م فيها يدعوه للتسليم والخضوع له أسوة ببقيَّة بلاد السُّودان. وقد كان خطاب السلطان محمد الفضل – الذي حرَّره الشيخ حسن ولد عماري (العالم الأزهري) – آية من آيات الاعتزاز بالنفس.

مهما يكن من شيء، فحين جاء الهجوم على دارفور كان من الجنوب بواسطة الزبير باشا رحمة، أي بعد أن خلع عليه الخديوي في مصر لقب الباشا. وقد أتى هذا العدوان الذي شنَّه الزبير على الرزيقات في جنوب دارفور بعد أن نقض الرزيقات عهداً كان قد تمَّ بينهم من جهة وبين الزبير من جهة أخرى؛ إذ يسمح هذا العهد – فيما يسمح – لقوافل الأخير من الرقيق بالعبور وسط ديار الرزيقات إلى أسواق النخاسة في الأبيض، أم درمان، شندي، ثم سواكن إلى شبه الجزيرة العربيَّة، أو شمالاً نحو مصر. وقد هزم الزبير الرزيقات شر هزيمة، وفي هذه الأثناء أرسل السلطان "الدرافوري" إبراهيم قرض جيشاً لطرد الزبير من جنوب السلطنة، واصطدم الجيشان العام 1874م في موقعة منواشي، حيث انتهت المعركة بهزيمة الفور، ومقتل السلطان إبراهيم في المعركة، ودخول الزبير مدينة الفاشر في مستهل تشرين الثاني (نوفمبر) 1874م. وقبل المعركة أرسل الزبير باشا رحمة عدة رسائل إلى السلطان إبراهيم قرض، حيث سمى مجموعة هذه الرسائل "الأبوية السديدة في إنذار وتهديد أهل المكيدة". وقد اتَّصفت هذه الرسائل – كما هو واضح من العنوان - بالكبرياء والإساءة لأهل دارفور. والجدير بالذكر أنَّه كانت هناك نهضة مرموقة في سلطنة دارفور قبل الاحتلال "الزبيري"، وكانت البنت تتعلَّّم قبل الولد، بل كان الشرط الأساس للزواج أن يكون الزوجان متعلِّمين، ولذلك ليس غريباً أن نجد معظم نساء دارفور من كبار السن يعرفن القراءة والكتابة ويحفظن القرآن. وكان مما أُخِذ على الزبير باشا رحمة أنَّه حارب وقضى على دولة تدين بالإسلام، وتتمسك به، وتحرص نساؤها على حفظ القرآن كرجالهم بالفعل، بل كانوا يقومون بإرسال المحمل لكسوة بيت الله الحرام بمكة المكرَّمة سنويَّا. والأهم في هذا الأمر كله أنَّه "ينتمي مسلمو دارفور إلى إسلام هادئ ومتسامح، شكَّل سمة السُّودان في التأريخ القريب، ولا يزال يطبع أهله عرباً وأفارقة"ً.(4)

برغم من أنَّ الأتراك-المصريين قد سيطروا على بعض الأجزاء من دارفور، إلا أنَّه كان هناك ستة سلاطين توالوا على حكم منطقة جبل مرة، ولم يستطع الأتراك-المصريُّون بسط سيطرتهم الكاملة على دارفور أرضاً وشعباً. وقد أنفق سلاطين باشا، الذي عُيِّن حاكماً لدارفور في شباط (فبراير) 1881م، جهدا جهيداً - طيلة الفترة التي قضاها في دارفور – في محاربة قبائل دارفور التي استمرَّت في عصيانها ومقاومتها للحكم الأجنبي حتى ظهور الثورة المهديَّة. وأخيراً تم القبض على سلاطين وتسليمه للمهدي، حيث بقي أسيراً ردحاً من الزمان في دولة المهدية قبل الهروب إلى مصر والعودة إلى السّودان كرة أخرى كمفتش-عام مع الجيش البريطاني-المصري العام 1898م. وقد دون سلاطين باشا سيرته الذاتيَّة عن تجربته في السُّودان عامة، وبقائه في الأسر خاصة في سفر معروف باسم "السيف والنار في السُّودان".(5) وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ المهديَّة كثورة وطنيَّة ضد الاستعمار الأجنبي قد خلقت وضعاً مثاليَّاً لدي بعض السُّودانيين جعلهم – من واقع الحماس الوطني – يغضُّون الطرف عن كشف عوراتها؛ هذا وإن كان المهدي ذاته قد تعرَّض لمعارضة من أهله في البحر، وبخاصة طائفة الختميَّة وعلماء الدين الآخرين الذين رفضوا الإيمان بمهديَّته. كذلك استقرَّ رأي أهل السُّودان النيلي – أي أولاد البحر – على الحياد، ظناً منهم في بادئ الأمر أنَّ المهدي قد لا يستطيع أن يحقِّق نصرا موزراً على السُّلطات التركيَّة-المصريَّة. غير أنَّ معارضة بعض السُّودانيين للخليفة عبد الله التعايشي كان من نمط خاص، وقد أبانت هذه المعارضة في أفضح ما يكون البيان العلاقة التنافريَّة بين أولاد البحر النيلي وأبناء الغرب السُّوداني. فماذا جرى، إذن، في ذلكم الزمان المنقضي من القرن الماضي؟

عندما شعر الإمام المهدي أنَّ أهله الأشراف – أولاد النيل "البحر" – غير راضين أن يكون خليفة المهدي من غيرهم، وبخاصة أنَّ المهدي كان قد حسم أمر خلافته للخليفة عبد الله التعايشي بمنشور معروف، ذهب المهدي أبعد من ذلك. فما كان منه إلا أنَّ تبرَّأ منهم، لأنَّهم أبدوا امتعاضهم من أن يتولَّى الخلافة من هو "غريب الوطن والجنس"، فصعد المهدي المنبر في 12 حزيران (يونيو) 1885م، وبعد خطبة الجمعة، وقف قائلاً: "أيها الناس إني قد مللت النصح والمذاكرة لأقربائي الأشراف الذين تمادوا في الطيش والغواية، وظنوا أنَّ المهديَّة لهم وحدهم، ثم مسك ثوبه ونفضه ثلاث مرات، وقال إنا برئ منهم، فكونوا شهوداً عليَّ بين يدي الله."(6) هكذا نرى أنَّ عنصريَّة "أولاد البحر" ضد الخليفة عبد الله التعايشي وأهله من غرب السُّودان لم تأت بعد وفاة المهدي مباشرة، أو حتى بعد استمرار خليفته في الخلافة سنيناً عدداً حتى يظن من يظن ويعلِّل من يعلِّل أنَّ هذه الموجدة ضد الخليفة عبد الله ما هي إلا ردة فعل طبيعيَّة ضد دكتاتوريَّة الخليفة وإخفاقاته في إدارة دولاب الدولة المهديَّة بعد وفاة المهدي. إذ أنَّ التضجُّر ضد الخليفة عبد الله – برغم من عروبته الجهويَّة – يعكس التوجه العنصري لدي ما سموا أنفسهم ب"الأشراف"، مما يعني أنَّه إذا كان هناك ثلة ممن يسمون أنفسهم بالأشراف فلا بد أن يكون هناك ممن هم ليسوا بالأشراف – أي العبيد؛ وأولئك العبيد ينبغي أن يكونوا هم – حسب اعتقادهم وإدراكهم – "أهل الغرب". فهل كان عبد الله التعايشي خليفة المهدي أم خالفته؟ إذ أنَّ الخليفة هو من يقوم مقام السالف ويسد مسده؛ وبهذا المعنى يعني اسم "الخليفة" الرجل الذي يلي السالف، وينوب عنه، ولا يعني من يقوم مقامه. أما الخالفة فهو الذي يأتي بعد السالف، وليس عنده غناؤه، ولا معه خصائصه. فإذا كان عبد الله التعايشي خليفة المهدي فإنَّ النقد المصوَّب نحوه ينبغي أن يوجه للمهدي نفسه، أما إذا كان هو خالفة المهدي – وهذا ما نظن – فإنَّ النقد الموجَّه إليه مبعثه شيئان: التوجهات العنصريَّة لدي الناقدين، ثمَّ ترديد الدعاية الاستخباراتيَّة من قبل الحكومة الثنائيَّة (البريطانيَّة-المصريَّة) ضد دولة المهدي حتى لا تقوم لهذه الدولة قائمة كرة أخرى، ولا يفوتنا أن نذكر أنَّ الثورة المهدية هي التي قتلت الجنرال غردون باشا. هذا لا يعني أنَّ صحائف إدارة عبد الله التعايشي كانت بيضاء من غير سوء، وبخاصة في معاملة رعاياها المعارضين في أقاليم السُّودان المختلفة. إلا أنَّ المعارضين من أولاد البحر و"الأشراف" قد ركَّزوا على الجانب العرقي والجهوي في نقدهم، مما يعبَّر عما كانت تضمره ضمائرهم، وتحويه طبائعهم من غل دفين، وحقد عنصري بغيض. هذه هي الإشكاليَّة الجدليَّة الأولى بين المركز والهامش في تأريخ السُّودان المعاصر، وفي ظل دولة وطنيَّة حكامها مواطنين سودانيين. إذ شكَّل مكان الميلاد بصورة صارخة، والإثنيَّة العرقيَّة بشكل أوضح، مصادر ومكامن هذه الجدليَّة السياسيَّة التي يعيشها أهل السُّودان اليوم، وباتت تأخذ صور الهويَّة الثقافية والاجتماعية التي حولها يصطرع أهل الريف المهمشين ضد أصحاب السلطة في المركز المهيمن.

ومع هذا لا نكون قد افترينا على الحق إن قلنا إنَّ الذين ليزعمون أنَّ عبد الله التعايشي كان فظاً غليظ القلب يتناسون أنَّ المهدي قد أعدم القاضي ميرغني ود تميم، أحد علماء مملكة تقلي بعد أن طلب منه المثول – مع المك آدم أم دبالو وعشيرته الأقربين - أمامه في الأبيض؛ وسُيق المك آدم مقرَّناً بالأصفاد ليلقي حتفه بالقرب من شبشة بالنيل الأبيض وهم زاحفون نحو الخرطوم. أما العلماء دفع الله بقوي ويوسف أحمد والعالم طه – أولئك الذين كانوا يشكِّلون القيادة الروحيَّة في مملكة تقلي – فقد نجوا من الموت الزؤام، في بادئ الأمر، لأنَّهم تخلفوا عن الهجرة مع المك آدم والقاضي ميرغني إلى المهدي بعد فتح الأبيض وواقعة شيكان، وظلَّوا في الجبال رافضين للمهديَّة إلى أن وجه المهدي حمدان إلى حرب الجبال، وكان مصيرهما القتل. ويتغاضي الذين يتحدَّثون عن قسوة الخليفة، ولا يتحدَّثون عن قسوة المهدي، أوامر الأخير بعد فتح الأبيَّض بقتل اثنين من أعظم أنصاره، وهما المنة إسماعيل وعجيل الجنقاوي، من كبار مشايخ الرزيقات لمناقشة حصلت بينهما وبين الخليفة عبد الله التعايشي. ثمَّ إنَّ هؤلاء الزاعمون بفظاظة الخليفة وغلظة قلبه ليتعامون عن إعدام المهدي لفخر الدين حسن المعلاوي لأنَّه ادعى أنَّه خليفة المهدي، وكاتب المهدي ذاكراً أنَّه قد سمع هاتفاً من عند الله يقول: "إنَّا جعلناك خليفة في الأرض"، مع أنَّ فخر الدين المعلاوي لم يتخذ أي موقف عدائي من نظام المهديَّة، بل طلب مكاناً في إطار نظامها، ويشير المهدي في رسالته إلى ذلك قائلاً: "والحمد لله إذ جئت منيباً بلا سيف فنرجو الله على جوابك هذا أن يزيل عنك كل حيف." وفي نهاية الأمر يمتزج في جريمة فخر الدين العامل الديني بالعامل السياسي.(7) على أي، وكأنَّما أولئك الذين يستدلِّون ببربريَّة الخليفة عبد الله وهؤلاء الزَّاعمون في معصوميَّة المهدي يعتقدون أنَّ كل ما ذهب صواباً في دولة المهديَّة بعد وفاة المهدي كان نتاجاً من تعاليم المهدي نفسه؛ أمَّا ما جاء بعده خطأً فإنَّهم يعزونه – بلا شك – إلى خليفته الذي هم زاعمون أنَّه أخفق في تفسير رسالة المهدي الروحيَّة. هذا التباس في الفهم، وسوء في الاعتقاد.

مهما يكن من الأمر، فمثلما فشلت السلطات التركية-المصريَّة (1821-1885م) في بسط الأمن والسيطرة الكاملة على دارفور، أخفقت كذلك الدولة المهديَّة (1885-1898م) في إخضاع أهل دارفور بصورة شاملة. فبالإضافة إلى معارضة الأشراف (أولاد البحر) في المركز، تعرَّضت حكومة الخليفة عبد الله التعايشي من تمرد بعض القبائل في الغرب وبعض مناطق السُّودان الأخرى. إذ لم تنجح محاولات يوسف ابن السلطان إبراهيم قرض في إعادة عرش والده في الفاشر ومقتله في هذه المغامرات، ولا تحالف أبو الخيرات – شقيق القتيل يوسف. وكذلك فشلت محاولات محمد زين، الذي اشتهر بلقب أبو جميزة، في دار تاما في القضاء على المهديَّة في دارفور برغم من انتصاراته الأولى ضد جيوش المهديَّة. لم يأت أبو جميزة برسالة جديدة أو ابتداع مذهب مناوئ للمهديَّة، بل اعتبر نفسه واحداً من أتباع المهدي. إذ توفى أبو جميزة – وهو كان فقيهاً لأهل تاما، يفتيهم في أمر دينهم ودنياهم – وهُزِم أهل تاما خارج مدينة الفاشر في 22 شباط (فبراير) 1889م، وهرب أبو الخيرات من المعركة. وحين ضربت المجاعة أهل السُّودان العام 1889م رفض أهالي قِمِر وتاما ومساليت، الذين لم يتم إخضاعهم بعد للمهديَّة، رفضوا تصدير الذرة إلى الفاشر، وقد حاول عثمان آدم – الحاكم المهدوي في دارفور – إخضاعهم بقوة السلاح، لكنه مات بسبب الوباء الذي تفشَّى وسط جنده. وفي العام 1890م قُتِل السلطان أبو الخيرات بواسطة رجاله في ظروف غامضة، وأصبح علي دينار – حفيد السلطان محمد الفضل – سلطاناً رمزيَّاً على دارفور. وفي الأيام الأخيرة من المهدية أمست دارفور هادئة، إلا من بعض الحملات التي قام بها محمود ود أحمد – الذي عيَّنه الخليفة عبد الله التعايشي حاكماً لكردفان ودارفور خلفاً لعثمان آدم – ضد دار تاما العام 1893م. إذ لم يستطع – كذلك - إخضاع المساليت برغم من الحملات المتقطِّعة ضدهم.(8)

هذه هي حال دارفور – باختصار شديد – عشيَّة وفجر وضحى الغزو البريطاني-المصري للسُّودان العام 1898م. فما هي الدروس والعبر التي أسفرت عنها تجربة الدولة المهديَّة في دارفور قبل وبعد سقوطها في أم درمان – أي بعد موقعة كرري في 2 أيلول (سبتمبر) 1898م؟ نتيجة لحروب المهديَّة في إقليم دارفور، ومحاولة بسط النفوذ العسكري على الأوضاع السياسيَّة والاجتماعيَّة فيه خلقت نمطاً من الكراهيَّة وسط بعض من القبائل الدارفوريَّة ضد المهديَّة. فبعد انهيار النِّظام المهدوي لم يجد قادته أي منقلب عليه ينقلبون في دارفور، وذلك بعد أن أحرقوا صحائفهم بأيديهم، وكان عربي دفع الله عامل الخليفة عبد الله التَّعايشي في الرجَّاف بالإستوائيَّة منذ العام 1893م هو أحد هؤلاء القادة الذي ركله أهل دارفور. فقد أصبح عربي دفع الله طريداً شريداً بعد أن طرده البلجيك في الكونغو، فنزل في بور ومنها إلى جنوب دارفور، ليطرده السلطان علي دينار إلى دار التعايشة، ومنها إلى مكان قصي في الحدود الغربيَّة لإقليم دارفور – أي في دار كارة. وكانت حروبات المهديَّة قد خلقت ظروفاً سيئة في الإقليم، مما دفعت أهله إلى البحث عن الحريَّة وسبل الانعتاق من قيود المركز وربقة التسلطيَّة باسم الدين الإسلامي. وقبل ذلك الحين وحتى اليوم كانت الحروبات الكثيرة في أي مكان تُولد رغبة جامحة جانحة إلى الاستقلال، والحروب الطويلة تفجِّر في نفوس ضحاياها رغائب دائمة في طرق سبل الخلاص من مركز القرار الذي يبعث هذه الحروب ضدهم؛ وهذه الرغائب تثير في نفوس هؤلاء المسحوقين نوعاً من الطُّموح والطُّموع إلى شكل من أشكال التحاكم السياسي الذي يوفِّر لهم الحريَّة والمساواة وذاتيَّة القرار. وأهل دارفور ليسوا هم بمختلفين عن ذلك. هذا فقد وجد السلطان علي دينار في هذه العوامل السياسيَّة والاجتماعيَّة عناصر مساعدة له بالتفرُّد بالإقليم سلطة سياسيَّة، وسيادة إقليميَّة، وإرادة جماهيريَّة؛ هذا ولئن استثنينا بعض النشاطات المعارضة التي تبنَّتها بعض القبائل العربيَّة – ربما من منطلق عنصري، أو لأسباب تأريخيَّة – كما سنرى لاحقاً.




Post: #2
Title: Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.
Author: Khalid Kodi
Date: 02-19-2008, 02:09 AM
Parent: #1



دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته (2 من 8)


الدكتور عمر مصطفى شركيان

[email protected]


إعادة سلطنة دارفور.. علي دينار سبق الطيَّار



حين طفق عمر علي قسومة يكتب عن السلطان علي دينار في باب شخصيات من التأريخ المعاصر في صحيفة "السياسة" الخرطوميَّة اليوميَّة، استهل بحثه بالقول: "تأريخ البشريَّة زاخر بحياة الملايين الذين ينشأون تحت ظروف قاسية قاهرة، فيتسم كل من يعيش تحت وطأتها بروح اليأس والقنوط، فيقضون حياتهم في غمار الدهماء وسقط المتاع على هامش الحياة، ولكن من بين هذه الملايين يبرز من وقت لآخر الأفذاذ من الرجال، أولئك هم العصاميُّون الذين يشقون طريقهم وسط العواصف والأنواء، فيتخطون كل عوامل الهزيمة والإحباط، التي تحيط بهم بالكفاح والنضال، حتي يبلغوا ذروة النجاح في تحقيق تطلعاتهم، فيسجل التأريخ أسماءهم بأحرف من نور في سجل الخالدين." وكان ممن سجل التأريخ أسماءهم بأحرف من نور هو محمد علي دينار، الذي ذاع صيته باسم السلطان علي دينار، ويعتبر بحق من أبرز الشخصيات في تأريخ السُّودان المعاصر. وحين تجتمع مزايا الشجاعة والتضحية وغياب الرغائب الذاتيَّة - وهي دوماً سر نجاح عدد من القادة الجياد في حروب العصابات – يصبح الأمر عسيراً على الطغاة هزيمتهم في المعارك، أو ممالئتهم بالمال، أو إغوائهم بالمناصب السياسيَّة. مهما يكن من شأن، فقد وُلد علي دينار بمدينة الفاشر (حوالي العام 1867م) وأبوه الأمير زكريا بن السلطان محمد الفضل، وأمه كلتوم بنت علي بن يحيي بن السلطان أحمد بكر. هذا وقد رُزِق الأمير زكريا من زوجه كلتوم بنتاً واحدة وهي الميرم تاجة، وولداً واحداً هو محمد علي؛ وقد أُطلِق عليه اسم علي تفاؤلاً باسم جده لأمه ثم أضيف إليه لقب دينار تيمناً باسم أحد سلاطين دار برقو، وهو كان رجلاً شهيراً بالقسوة والصرامة في معاملة رعاياه، فأصبح ذلك المولود يُعرَف باسم علي دينار منذ طفولته، فالتصق به هذا الاسم، وأصبح لا يًعرَف إلا به.(9) هذا هو الرجل الذي اعتلى عرش دارفور، وذلك بسبب الفراغ السياسي الذي حل بالبلد أولاً، وبفضل إرثه السلطاني ثانياً، والظروف السياسيَّة والاجتماعيَّة التي خلفتها سياسات التركيَّة من قبل والمهديَّة من بعد – كما أشرنا إليها سلفاً – ثالثاً. فلا نغالي فيه فنؤلهه، ولا نبخسه دوره، أو نقلِّل من شأنه؛ وأنَّ ثمة من الأحداث والأمور العظيمة قد أثَّرت في حياته منذ ذلك الحين حتى مماته.

على أيَّة حال، فقد وضعت سلطات النظام الجديد في الخرطوم مسؤولين بريطانيين في إدارة كل مديريَّة من مديريات السُّودان المختلفة باستثناء دارفور في غرب السُّودان، الذي بلغت مساحته وقتذاك 170,000 ميلاً مربعاً. وقد باتت إدارة هذا الإقليم في يد السلطان علي دينار، حيث كانت الحكومة المركزيَّة في الخرطوم تصانعه وتلاينه وتداريه حتى لا يتمرَّد على السلطة ويعلن الاستقلال التام. إذ فرضت عليه حكومة الخرطوم ضريبة رمزيَّة كان يدفعها إلى الحاكم-العام في الخرطوم، وكانت هذه الضريبة بمثابة حبل الوصل الوحيد الذي كان يربط دارفور بسلطة الحكومة المركزيَّة.(10) فيما عدا ذلك، كان للسلطان علي دينار مطلق اليد في تصريف أمور البلاد والعباد في إقليمه الذي ظلَّ شبه مستقل.

فحين دخلت تركيا العثمانية في الحرب العالميَّة الأولى (1914-1918م) ضد بريطانيا، سعت الأولى أن تؤثِّر على الدول الإسلاميَّة التي تقع تحت التاج البريطاني وفي إمرة الحلفاء لكي يقفوا مع دولة الخلافة الإسلاميَّة التي تمثِّلها. إذ دعت تركيا – بعد دخولها الحرب العام 1916م – "المسلمين المخلًصين كافة إلى نصرتها في الجهاد ضد الكفار وكلاب النصارى". وقد نجح الأتراك-العثمانيُّون في استمالة السنوسيين في واحات ليبيا، ومشاركتهم فعليَّاً في الحرب لصالحها. وفي العام 1915م طلب الأتراك مباشرة من السلطان علي دينار أن ينضم إليهم في الحرب، واستلم السلطان علي دينار شحنة أسلحة من الحركة السنوسيَّة في كانون الثاني (يناير) 1916م، ومن ثَمَّ توقف علي دينار عن دفع الضريبة السنويَّة الرمزيَّة التي كان يدفعها باعتبار أنَّ إقليم دارفور كان في عهد الحكومة المهديَّة مديريَّة من مديريات السُّودان. علاوة على ذلك، أرسل علي دينار مبعوثاً إلى حكومة السُّودان حاملاً حراباً وعصى منحوتة عليها استهجان للبريطانيين الذين سموهم "الكفار"، بعد أن تشرًّب بلغة الأتراك العدائيَّة ضد بريطانيا وحلفائها. ثم أتبع ذلك برسالة تحدِّي موجَّهة إلى "حاكم الجهنَّم في كردفان ومفتش النيران في النهود". كانت هذه الرسائل تعني إعلان الحرب ضد الدولة. غير أنَّ ذلك لم تكن مفاجأة بالنسبة للسلطات الاستعماريَّة، حيث أنَّ حكومة السُّودان كانت مستعدة لتقبل التحدِّي. ففي ذلك الرَّدح من الزمان أعلن السيِّد عبد الرحمن المهدي وقوف أنصاره مع بريطانيا في هذه الحرب، وكذلك أخذ أحد أبناء الخليفة عبد الله التعايشي - الذي كان ضابطاً في الجَّيش المصري – قسم الولاء والطَّاعة، وتطوَّع في الذهاب إلى مناطق العمليات. وإمعاناً في سياسة "فرِّق تسد" قام البريطانيون بتسليح القبائل العربيَّة في دارفور للمواجهة المحتملة مع الفور. وقد شرعت الحكومة الثنائيَّة (البريطانيَّة-المصريَّة) في مزاولة سياسة تسليح قبائل السُّودان بالتَّصديق على منح موسى مادبو – زعيم الرزيقات – أسلحة مقدارها 300 قطعة سلاح ناري و30,000 من الذخيرة. وكانت هذه الكمية عبارة عن قرض حكومي على أن يكون مادبو مسؤولاً شخصياَ عن إعادته في المستقبل. وتم شحن هذه الأسلحة سراً إلى دار الرزيقات، وبواسطتها تم تسليح عينات مختارة من شباب الرزيقات ليشكِّلوا وحدة عسكريَّة للمنطقة. كذلك أقرَّ حاكم كردفان بإقراض علي التوم – زعيم الكبابيش – 200 قطعة سلاح لحماية أنفسهم مخافة أن يثير ضدهم علي دينار قبيلة القرعان، هكذا زعمت السلطات الحكوميَّة. وبالتَّالي نجد أنَّ سياسة تسليح قبائل السُّودان لدعم السلطة المركزيَّة التي بدأت بالرزيقات أخذت سبيلها في البلاد منذئذٍ حتى اليوم، سواء كانت السلطة المركزيَّة في السُّودان استعمارية أم وطنيَّة. وفي حال الأخيرة نجد أنَّ السلطة تعمَّدت عدم حماية جزء من مواطنيها، بل وقفت مع الجانب الآخر ضد الأغيار، وهذا ما سوف نرى في هذه الصفحات المقبلة، مما يجعل دعاوي السيادة الوطنيَّة ما هي إلا شعارات خادعة لاضطهاد وقهر فئة من الشَّعب، وبخاصة هؤلاء الذين يصرخون في وجه السُّلطات الحكوميَّة ضد الظلم والتَّهميش، ويتصايحون في سبيل العدالة الاجتماعيَّة والمشاركة في السلطة السياسيَّة. أيَّاً كان من أمر التسليح، فقد قام العرب المسلَّحون في شمال دارفور بمهمات استطلاعيَّة، التي سرعان ما أساءوا فهمها، وشرعوا يقومون بهجمات ليست في دارفور فحسب، بل على نطاق واسع خارج الإقليم، وعلى مسافة تُقدَّر ب300 ميلاً أو أكثر داخل مناطق تقع تحت النفوذ الفرنسي في تشاد، وذلك ضد أعدائهم التقليديين من قبيلتي البديات (الزغاوة) والقرعان، حيث قاموا بنهب حيواناتهم واختطاف نسائهم وأطفالهم. وبعد انتهاء الحملات العسكريَّة على السلطان علي دينار ذهب المفتش الإنكليزي إلى دار الكبابيش في كردفان لإحصاء حيواناتهم، ومن ثَمَّ عثر على 17 طفلاً مختطفاً أثناء إغاراتهم على القبائل غير العربيَّة، وقد أعاد المفتش هؤلاء الأطفال المختطفين إلى ذويهم في غرب دارفور.

مهما يكن من الأمر، فقد استخدمت الحكومة الثنائيَّة (البريطانيَّة-المصريَّة) قوة ضخمة ونيراناً كثيفة في سبيل إخضاع الفور للسلطة المركزيَّة في الخرطوم. واشتركت في هذه الحملة قوات المشاة السُّودانيَّة، سلاح الخيالة والهجانة، قوات المشاة والمدفعيَّة المصريَّة، وبعض رجال المدفعيَّة البريطانيين، حيث استخدموا مدفع مكسيم الفتاك. إذ اشتبكت القوتان في قرية برنجيَّة على بعد 12 ميلاً شمال مدينة الفاشر في يوم 22 أيار (مايو) 1916م. هذا فلم تتمكن القوات الحكوميَّة من القضاء على السلطان علي دينار نهائيَّا إلا في تشرين الثاني (نوفمبر) 1916م، حيث قُتِل في هذه المعركة الفاصلة.(11) ونسبة للعداوة التي استمرَّت ردحاً من الزمان بين الفور والرزيقات لم نندهش حين أيَّد وابتهج موسى مادبو – زعيم الرزيقات – لسحق الحكومة الثنائيَّة للسلطان علي دينار، وجاء هذا التأييد والابتهاج في رسالة بعث بها مادبو إلى حكمدار عموم السُّودان وسردار الجيش المصري ودولة الحاكم العام في الخرطوم (ملحق رقم (1)).

ومن جانب آخر كان وضع المساليت السياسي في القرنين السَّابع عشر والثامن عشر الميلاديين متنازعاً عليه بين سلطنتي ودَّاي ودارفور، وقد حمل القرن التَّاسع عشر الميلادي نوعاً ما من الاستقرار، حيث أصبح الجزء الغربي من دار مساليت تحت نفوذ ودَّاي بينما أمسى الجزء الشرقي تحت سيطرة الفور، أما الذين كانوا في الوسط فباتوا في منطقة التماس. ولكن سرعان ما تغيَّر هذا الوضع بعد العام 1874م حين احتل الأتراك-المصريُّون دارفور. برغم من سيطرة الفور على المساليت، إلا أنَّهم كانوا مقسَّمين إلى ثلاث مناطق، حيث استغل هجام حسب الله فرتاك – الذي كان إداريَّاً قديراً تحت سلطنة الفور – هذه الفرصة، وقام بتوحيد المساليت بالقوة، وشملت الوحدة – فيما شملت – المناطق الغربيَّة التي لم تكن جزءاً من الإدارة "الفوراويَّة" في بادئ الأمر. هكذا استطاع هجام حسب الله أن ينجح في هذه المهمة، إلا أنَّه كان مبغضاً، وقد تمَّ عزله العام 1883م في الوقت الذي كانت المهدية تأخذ طريقها وئيداً نحو دارفور.

وما أن أعلن محمد أحمد بن عبد الله مهديتَّه حتى زاره وفد من أعيان المساليت، وكان من ضمن أعضاء الوفد إسماعيل عبد النبي، وهو كان معلِّماً للدين الإسلامي. ثمَّ عاد الوفد إلى دار مساليت حاملاً رسالة المهدي "الإصلاحيَّة"، التي كانت تدعو – إلى ما تدعو – إلى الامتناع عن شرب الخمر، تقليل مهر العروس ونبذ بعض التقاليد والطقوس التي كانت تمارس قبل الإسلام، بالإضافة إلى حفظ المدائح والالتزام ببعض التعاليم الإسلاميَّة ما استطاعوا إليها سبيلاً. لقد عيَّن المهدي إسماعيل أميراً على المساليت، وكسب إسماعيل أتباعاً كثراً، واستطاع أن يستولى على مقاليد السُّلطة السياسيَّة في السلطنة بعد عزل هجام. وبعدئذٍ وضع إسماعيل أساس سلطنة المساليت، وهو يعتبر الأب الروحي للأسرة الحاكمة في دار مساليت. وقد استطاع إسماعيل بأسلوبه الحربي أن يحافظ على استقلال المساليت من تدخُّل سلطنة الفور، ويهزم مرشحي سلاطين الفور في دار مساليت. وبعد سنين عدداً، وبُعيد وفاة المهدي أصاب إسماعيل يأس وفتور من المهديًَّة، وأصبح ولاؤه موضع شك مريب، وقد تمَّ استقدامه إلى أم درمان حيث مات هناك. ثمَّ اعتلى عرش السلطنة أبكر ابن إسماعيل عبد النبي العام 1889م واستطاع أن يحكم سلطنة المساليت حتى العام 1905م بحكمة وجدارة. ومن بعد، قطع ابنه أية علاقة مع المهديَّة، وأمست السلطنة مستقلَّة وممتدة، وكذلك حافظت سلطنة دار قِمِر على استقلالها منذ المهديَّة. بيد أنَّ هذا الاستقلال وهذا التمدد لم يكونا من الأمر اليسير؛ إذ دخلت السلطنة في حروبات مع المهدويين، الفور، الفرنسيين – كما سنرى لاحقاً – ومع بعض القوى الأخرى، ونتيجة لذلك فقدت السلطنة الأجزاء الغربيَّة لصالح الفرنسيين في سلطنة ودَّاي العام 1912م. وفي العام 1905م هاجم السلطان علي دينار دار مساليت، وانتهت المعركة بهزيمة المساليت وأسر السلطان أبكر واُقتيد إلى الفاشر. ثمَّ تولى عرش السلطنة أخاه تاج الدين، الذي أفلح في خلال بضعة أشهر أن يطرد الفور من دار مساليت، ويهزم قوة أخرى أرسلها علي دينار. إذ انتقم السلطان علي دينار على هزائمه المتكرِّرة بإعدام السلطان "المسلاتي" الأسير أبكر. وفي العام 1907م اعترف السلطان علي دينار بالسلطان تاج الدين سلطاناً على دار مساليت، ووقَّع معه اتفاقاً للصلح يقضي بوقف العدائيَّات، وعدم التعدي على أراضي بعضهما بعضاً، واعتبار وادي باري فاصلاً بين الطرفين.(12)

وفي العام 1905م توغَّل الفرنسيُّون من الغرب إلى داخل سلطنة المساليت، وضموا أجزاءاً من السلطنة إلى مستعمرة تشاد، إلا أنَّ هذه المحاولات الفرنسيَّة قد قاومها أهل مساليت بضراوة. على أيَّة حال، لقد أظهر أهل مساليت مهاراتهم العسكريَّة حين هاجموا الفرنسيين في يوم 4 كانون الثاني (يناير) 1910م وسط الأشجار في بئر طويل في وادي كجا (بالقرب من مدينة الجنينة الحالية) وقتلوا الضابط الفرنسي – النقيب فيجينشو – واثنين من ضباطه في رتبة ملازمين، وقضوا على سريته، وهرب 8 من الجنود إلى تشاد لإبلاغ القيادة الفرنسيَّة بأخبار الهزيمة. إذ فقد الفرنسيُّون 180 قطعة سلاح و20,000 من الذخيرة، علاوة على انكسار الروح المعنويَّة لديهم. وقد أطلق أهل مساليت اسم كيريندينج على أرض المعركة، وصدحت نساء المساليت بأغاني ازدراء للفرنسيين، وذلك احتفاءاً بهذه المعركة، وشبَّهن الفرنسيين بالنساء، وأي احتقار يمكن أن يلحقه الأفارقة بالأغيار حين يصفوهم بالنساء. إذ كان لسان حالهن يقول:

النصارى يلبسون أزياء نساء ذيليَّة!

السلطان مثل الجاموس في الحرب! هكذا يقولون.

أين مكان اللِّقاء؟

في كيريندينج أحاطوا بك مثل الستار!

وفي المعركة الثانية في قرية دروتي في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 1910م انتصر الفرنسيُّون على المساليت، وقُّتِل السلطان تاج الدين ووزيره أمين داؤود، وجُرح محمد بحر الدين الملقَّب ب"أندوكا"، واكتفى الفرنسيُّون باحتلال شريحة من أراضي المساليت، مما أعطتهم فرصة مريحة لرسم الحدود بين ودَّاي ودارفور في وقت لاحق دون عناء. وقد رثا أهل مساليت غناءاً تدمير عاصمتهم – دروتي – واستهجنوا الخائن توجا الذي أرشد القوات الفرنسيَّة إلى دار مساليت، ونعوا السلطان تاج الدين ووزيره أمين داؤود، الذي كان ينتمي إلى جيرنيانغ، إحدى بطون المساليت. وفي نعيهم هذا ورثائهم ذلك كان لسان حالهم يقول:

دروتي تُرِكت منطقة مهجورة.

آه توجا: كيف تتحمَّل هذا الذنب العظيم!

يا أهل السلطان هرولوا سراعاً!

إنَّ النصراني لا يملك لبناً (أي ليس له رحمة إنسانيَّة):

لا تدوروا رؤوسكم!

وفي رثاء آخر ردَّدوا:

ليست هناك تعويذة يمكن أن تسود ضد بندقيَّة "الطيرة".

أتركوا بذورهم لأهالي جيرنيانغ!

النصراني، لم يعدم أحفادهم!

شعب أمين داؤود، أين هم؟

وقد تجسَّد الشاعر محمد الفيتوري – الذي ولد في الجنينة نفسها – هذه البطولات الجماعيَّة لأهل مساليت ووقفتهم الانتصارويَّة في قصيدة صماء مخلِّدة ذكرى هذا البطل الإيجابي الأسطوري – السلطان تاج الدين – في آذار (مارس) 1964م. والقصيدة بعنوان "مقتل السلطان تاج الدين"، وتقول أبياتها:

فوق الأفق الغربي سحاب أحمر لم يمطر

والشمس هنالك مسجونة

تتنزَّى شوقاً منذ سنين

والريح تدور كطاحونة

حول خيامك يا تاج الدين

يا فارس

سرج جوادك ليس ظهر الأرض

وحسامك مثل البيرق يخترق الظلمات

يا فارس

مثل الصقر عالي الشرفات

نارك لا تخبو.. لا تسود

وجارك موفور العرض

يا فارس..

حتى مات!

"كان السلطان يقود طلائعنا

نحو الكفار

وكان هنالك بحر الدين

وأشار إلينا تاج الدين

وأطلَّ بعينيه كالحالم..

في قلب السهل الممتد

ثمَّ تنهد:

"الحرب الملعونة

"يا ويل الحرب الملعونة

"أكلت حتى الشوك المسودّ

لم تُبق جداراً لم ينهدّ

"ومضى السلطان يقول لنا

ولبحر الدين:

- هذا زمن الشدة يا إخواني

هذا زمن الأحزان

سيموت كثير منا

وستشهد هذي الوديان

حزناً لم تشهده من قبل ولا من بعد

وارتاح بكلتا كفيه فوق الحربة

ورنا في استغراق

نحو وجوه الفرسان

كان الجو ثقيلاً، مسقوفاً بالرهبة

وبحار من عرق تجري فوق الأذقان

وسيوفهم المسلولة تأكلها الرغبة

والخيل سنابكها تتوقَّد كالنيران

ومضى السلطان يقول لنا

ولبحر الدين:

- هذا زمن الشدة يا إخواني

فسيوف الفرسان المقبوضة بالأيدي

تغدو حطباً ما لم نقبضها بالإيمان

والسيف القاطع في كف الفارس

كالفارس يحلم بلقاء الفرسان

وترجَّل تاج الدين

جبلٌ يترجَّل مزهواً من فوق جبل

وترجَّل بحر الدين

وحواليه عشرة آلاف رجل

سجدوا فوق رمال "دروتي" لله معه

وأطلَّت كل عيون الطير المندفعة

في هجرتها من أقصى الغرب لتاج الدين

فعلى أفق الوادي الغانم

تمتد رؤوس وعمائم

وبيارق يشبهن حمائم

... ثم ارتجفت أفواج الطير

وراء السحب المرتفعة

- يا تاج الدين

الأعداء أمامك .. فارجع

لهب .. وقذائف حمر ..

وخوذات تلمع

والحربة مهما طالت

لن تهزم مدفع

لن تهزمهم يا تاج الدين

بسلاح كزمانك يا مسكين

وكعاصفة سوداء تلفَّت تاج الدين

في سخط الجبَّارين تلفَّت تاج الدين

وأطلَّ على وجه القائل

كانت شفتاه رعوداً وزلازل

كانت كلمات السلطان

سلاسل

- يا ويلك لو لم تك ضيفي يا عبد الله

ما أقبح ما حركت به شفتيك

ما أبشع ما منيت به عينيك

عار ما قلت ..

وعار أن نستمع إليك

فاثن زمام جوادك

وخذ الدرب الآخر

يا بحر الدين أعده للدرب الآخر

وتدفَّقت الرايات

وغطَّى الأفق صهيل الخيل

و"دروتي" العطشى ما زالت

تحلم بمجيء السيل

وتحدَّر من خلف الوديان المحجوجة

علم قانٍ .. ومدافع سبعٍ منصوبة

وحرائق وضجيج شياطين

هاهم قدموا يا تاج الدين

فانشر دقات طبولك ملء الغاب

حاربهم بالظفر، وبالناب

طوبى للفارس

إنَّ الموت اليوم شرف

داسوا عزة أرضك

هتكوا حرمة عِرضك

عاثوا ملء بلادك غازين

غرباء الأوجه سفَّاكين

فاضرب .. اضرب .. يا تاج الدين

اضرب .. اضرب .. اضرب ..

- يا مولاي السلطان

سلام الله عليك

قتلى أعداؤك مطروحون

لدي قدميك

أسرى مغلولون وخُدَّام بين يديك

أكلت نيران مدافعهم نيرانُك أنت

بالسيف وبالحربة

وبإيمانك قاتلت

يا فارس تسحق أعداءك

أنَّى أقبلت

حين استبقوا نحوك

باسم بلادك ناديت

"لن يحجبني عن حبك شيء"

"إنَّك ملء دماي وعيني"

"يا دار مساليت أنا حيّ"

وهجمت وأجفل قائدهم

وانشق ستار

كان ستار رصاص

كان ستاراً من نار

نصبوه في وجهك صفين

كي لا ترى قائدهم بالعين

لكنك يا فارس أقدمت

فوق المدفع بالسيف مشيت

ولحقت بقائدهم فانهار

القائد ذو الجبروت انهار

ذو المركبة الناريَّة والخوذات انهار

أحنى رأساً ماتت في عينيه الرغبات

مدَّ يديه يبكي في حشرجة الأموات

عرَّى صدراً دمويَّاً أعشب فيه العار

هذا الصدر العاري المنهار

من قبل لقائك زانته نياشين الأكبار

لكنك يا فارس آليت

أن لا تهب الكافر صفحك

أن تسقي من دمه رمحك

أن تصلبهم عبر الفلوات

أن تجعل موتاهم مثلاً

لزمان عبر زمانك آت

تحت الراية غرقت رأس القائد في الدَّم

أرخى عينيه في رعب ..

ثم استسلم

سلمت كفك يا تاج الدين

فاقض على أحلام الباقين

صاروا بعد القائد

قطعان غنم

طاردهم بجنودك

عبر الفلوات

عبر "دروتي" عبر الأكمات

قتلاك من الأعداء مئات

والأسرى قد ملأوا الساحات

والقائد ملقى في الطرقات

سلمت كفك يا تاج الدين

لكن الشمس المسجونة

والريح الحبلى الملعونة

ما زالت مثل الطاحونة

تجري .. تجري حول خيامك

تجري من خلفك وأمامك

- يا تاج الدين

- يا تاج الدين

ما زال عداتك مختبئين

أيديهم راعشة .. ورصاص بنادقهم

يتزاحم في بطء نحو جبينك

يا فارس خذ حذرك

من طعنات طعينك

يا فارس خذ حذرك

يا فارس خذ حذرك

ليتك لا تتحرَّك

فبنادقهم لا زالت راكضة إثرك

أترى تثقب رأسك

أترى تثقب صدرك

يا فارس خذ حذرك

ليتك لا تتحرَّك

.. وتحرَّك بحر الدين

كانت عيناه حينئذٍ

تقفان على جرحاه

والراية في عينيه

قد لطخها الدَّم

وأنت ريح الخريف

تتراكض خلف خطاه

وتجهَّم وجه "دروتي" بالسحب وأظلم

وأنت بضع رصاصات

خجلات مضطربات

أقبلن من الظلمات

فرأينا تاج الدين

يبدو وكأنَّ قد مات

يا تاج الدين سلمت

مزَّق أستار الصمت

عد من وديان الموت

أو تذهب حتى أنت

وتساقط تاج الدين

لم يقو الفارس أن يرجع

لبكاء الشعب عليه

فرصاصات خمس صدئات

تسكن في عينيه

لكن أحداً لم ير رايته

تسقط من كفيه

ولعل الإشارة إلى الفرنسيين بالنَّصاري – على سبيل الإساءة المخفَّفة – تارة والكفار تارة أخرى سواء كانت الإشارة في أغناني أهل مساليت الشعبيَّة أم في قصيدة الفيتوري الحماسيَّة تعود إلى سببين: أولهما، شيوع الإسلام وسط أهل غرب السُّودان شيوعاً خلق من بعضهم طائفة من الناس شرعوا ينظرون إلى غير المسلمين بهذه النظرة المتزمِّتة، حتى ولو كانوا أهل كتاب؛ أما ثانيهما فقد جاء التوسع الفرنسي في القرن التاسع عشر الميلادي في زمان سادت فيه الحركات الإسلاميَّة التحرريَّة، وكان هذا هو الخطاب السياسي الذي تبنته الحركة السنوسيَّة في جنوب ليبيا والثورة المهديَّة في السُّودان في سبيل حربها "الجهاديَّة" ضد الأتراك-المصريين – ولئن كانوا مسلمين – وأعوانهم الأوربيين المسيحيين. هذا التفاعل بين الفكر القومي والخطاب الديني جعل كل محاولة للانعتاق السياسي تتم داخل الشكل الديني نفسه، سواء التحرُّر من الدولة العثمانيَّة أو من السيطرة الفرنسيَّة القادمة من الغرب.

وفي كانون الثاني (يناير) 1911م خاض الفرنسيُّون ثلاث معارك مع المساليت، حيث انتهت بهزيمة المساليت أمام السلاح الناري والجيوش السنغاليين الذين جلبهم الفرنسيُّون في هذه الحملة. إذ أدرك الفرنسيُّون أنَّ هؤلاء الأفارقة لا يستطيع هزيمتهم إلا الأفارقة أمثالهم، لأنَّهم يفهمون الأسلوب القتالي لبعضهم بعضاً، وبذلك يتحقَّق لهم منطق "أقتل العبد بالعبد". مهما يكن من شأن، فقد خلف محمد بحر عمه الشهيد سلطاناً لدار مساليت العام 1911م، ووقَّع اتفاقيَّة السلام مع الفرنسيين. وقد استطاع أن يحكم سلطنته ورعاياه لمدة ستة أعوام دونما أيَّة تدخُّلات خارجيَّة حتى العام 1917م حين ظهر المسؤول البريطاني في حدود السلطنة الشرقيَّة ممثِّلاً لحكومة السُّودان. وفي العام 1918م تم بناء حامية عسكريَّة في كرينيك داخل حدود سلطنة المساليت الشرقيَّة، التي احتوت على سريَّة من جنود المشاة السُّودانيين تحت إمرة ضابط بريطاني ومحطة لاسلكي. هذا وقد تم التَّوقيع على اتفاقيَّة رسم الحدود بين السُّودان من جهة وإفريقيا الإستوائيَّة الفرنسيَّة (تشاد وجمهوريَّة إفريقيا الوسطى) من جهة أخرى في باريس في يوم 8 أيلول (سبتمبر) 1919م، وذلك بين ممثلي حكومة بريطانيا وفرنسا.(13) ثم انتفض أهل مساليت وقتلوا المفتش البريطاني تينينت ماكنيل والموظف البيطري هاري شاون في نيالا حين هاجمتهما قوة من المتمرِّدين المساليت تراوح تعدادها 5,000-6,000 مقاتل. برغم من ذلك كله احتفظت السلطنة باستقلالها الذاتي حتى العام 1922م حين بسط الحكم الثنائي (البريطاني-المصري) نفوذه على دار مساليت، ومن ثَمَّ باتت السلطنة جزءاً من السُّودان البريطاني-المصري، وتمَّ الاحتفاظ بالنظام الإداري الذي كان سائداً من قبل في السلطنة تحت مسمى جديد هو "الإدارة الأهليَّة" كأساس رسمي للحكومة حتى انقلاب العقيد جعفر محمد نميري في 25 أيار (مايو) 1969م. ومنذ ذلك الحين أصبحت الحكومة تحل محل مؤسسات الإدارة الأهليَّة تدريجيَّاً، وتضع في مكانها فروعاً للمؤسسات القوميَّة السياسيَّة.(14)

مما سبق يتضح جليَّاً أنَّ القبائل في دارفور مولعة بجنوحها للاستقلال من كل حكومة – أي التمرد على المركز. إذ أنَّ ذلك كله قد شكَّل بالنسبة إليهم ذلك المخزون الثوري الذي طبع تأريخهم التليد الطارف. وفي التأريخ الحديث – كما شهدنا – نجد نماذج عدة؛ فالسلطان علي دينار أعاد أمجاد أجداده بترميم سلطنة دارفور من ناحية، ومقاومة الأطماع الفرنسيَّة من ناحية أخرى، وإعلان تحالفه مع الأتراك-العثمانيين ضد البريطانيين في الحرب العالمية الثانية من ناحية ثالثة، مما انتهت مواقفه باستشهاده في أرض المعركة. ومما يحكى عن مطاردة البريطانيين له بالطائرة أنَّه سبق الطائرة، وذهب مثلاُ: "علي دينار سبق الطيَّار (الطائرة)". غير أنَّنا لا نستطيع إثبات ذلك في السياق التأريخي للأحداث التي جرت حينئذٍ. هذا هو التأريخ، وإنَّ التأريخ لمادة خاضعة للاختيار والتفسير (History is a matter of selection and interpretation). ومع هذا، يتناوله الناس بحكايات على مر العصور ويحدثون فيه تبديلاً وتنويعاً. أيَّاً كان من أمر علي دينار، فدونكم والمساليت وكيف استبسلوا أي استبسال في حروباتهم ضد سلطنة دارفور تارة، والمستعمرين الفرنسيين تارة أخرى؛ وكذلك أهل دار تاما الذين أمست دارهم منطقة نزاع بين سلطنة دارفور من جهة، والفرنسيين في تشاد من جهة أخرى. والجدير بالذكر إنَّ إرث علي دينار لم يمت بعد، ففي الفاشر قد قدَّم أبناء السلطان علي دينار عريضة للحكومة – أي حكومة "الإنقاذ" – فيها يوضِّحون أنَّهم قبلوا استيلاء الحكومة الحالية على مكاتب أبيهم وقصره بعد أن هزمته (السلطات الاستعماريَّة) بقوة السلاح، أما إذا تغيَّر الحكم الحالي وحاول ناس البحر من السُّودانيين أن يحتلوا القصر والمكاتب فإنَّهم لا يلتزمون بقبول ذلك، وسيعارضونه بكل ما أُوتوا من قوة.(15) أيَّاً كان من الأمر، فتشير وقائع الأحداث – حتى قبيل الاستقلال - أنَّ إقليم دارفور ظلَّ شبه منعزل عن بقية أقاليم البلاد كما يتضح من حديث أحمد الشقيري. إذ يروي أحمد الشقيري – أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينيَّة – في مذكراته أنَّه عندما اجتمع المؤتمر الأول للقادة العرب (المملكة العربيَّة السَّعوديَّة، الأردن، لبنان، مصر، واليمن) في أيار (مايو) 1946م في "أنشاص" بدلتا مصر، وقَّعوا على بروتوكول الجامعة العربيَّة، حيث وقَّع الملك فاروق باسم ملك مصر والسُّودان ودارفور وكردفان. إذن، ماذا أردنا بهذا السرد التأريخي؟ وما هو الجديد الذي به أتينا؟ إنَّنا لنرى أنَّ الوعي بحقيقة الأوضاع الاجتماعيَّة، ونماذج الشخصيات السُّودانيَّة ومصالحها وأهدافها المتباينة، وإدراك التناقضات والعوامل الديناميكيَّة (المحركة)، التي تتفاعل داخل المجتمع الإنساني، والمؤثرات والأحداث التي تحرِّك التأريخ السُّوداني تعميماً وتأريخ دارفور تخصيصاً، ضروري لا بد من الإلمام به أو بطرف منه لمعرفة طبيعة المشكل الذي نحن بصدد الكتابة عنه. والجديد الذي قذفنا به من الحق ضد الباطل هو الرؤية الإنسانيَّة الجديدة للواقع الاجتماعي المتغيِّر، فيما يُعرَف اليوم ب"النظام العالمي الجديد".




Post: #3
Title: Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.
Author: Khalid Kodi
Date: 02-19-2008, 02:11 AM
Parent: #2

دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته (3 من 8)



الدكتور عمر مصطفى شركيان

[email protected]

دارفور عبر ثلاث حقب (1956-1986م)

لا ريب في أنَّ تململ أهل الهامش ضد أولاد البحر (الوسط النيلي) قد بدأ باكراً، أي قُبيل وبُعيد استقلال السودان العام 1956م. فأولاد البحر حظوا بالتعليم الباكر، فأصبحوا هم أصحاب المؤهلات لاحتكار السلطة بعد خروج الاستعمار. فلتجدنَّهم في قيادة القوات المسلَّحة وقمة الخدمة المدنيَّة وعلى زعامة الأحزاب السياسيَّة والسلك الدبلوماسي وهلمجراً؛ أما أهل الأطراف فليس لديهم دور إيجابي على هذه المؤسسات التي تُنعت بالقوميَّة، حيث لم يستطيعوا التأثير على مجريات الأحداث السياسيَّة في المنعطفات التأريخية الحرجة، ليس بسبب عجز فيهم، ولكن نسبة للعثرات التي يضعها أهل المركز في طريقهم. ففي ندوة جامعة الخرطوم بقاعة الشارقة في 29 كانون الأول (ديسمبر) 2006م "على شرف العيد الذهبي للاستقلال" قال المهندس عبد الله علي مسار – القيادي بحزب الأمة (القيادة الجماعية) ومستشار رئيس الجمهوريَّة: "إنَّ ضعف التنمية وقتها (أي في الخمسينيَّات والستينيَّات من القرن الماضي) خلق احتجاجات سياسيَّة، (مما) أدَّت إلى قيام "حركة اللهيب الأحمر" و"حركة سوني" و"جبهة نهضة دارفور" (...)، وأكَّد أنَّ الاحتجاجات التي قامت كانت لها مطالب سياسيَّة، ولكنها لم ترتبط بقبيلة معيَّنة، إلا أنَّ الظروف المناخيَّة التي تعرَّضت لها (منطقة) دارفور منذ العام 1980م أدَّت إلى تحويل الصراع إلى صراع قبلي، ولكن مرتبط بنقص الموارد، وظروف المناخ، وزيادة عدد السكان، وزيادة الماشية، والصراعات الداخليَّة، والصراع التشادي-التشادي والتشادي-الليبي، ومنذ ذلك الحين بدأ الصراع يرتدي طواقي عدة حتى تحوَّل إلى مصالح مجموعات حينما تولَّد النَّهب المسلَّح."(16) على أيَّة حال، لم يقتصر هذا الاحتجاج الإقليمي على دارفور فحسب، بل قامت تكتلات إقليميَّة أخرى في كردفان وشرق جنوب السُّودان، مثل: اتحاد عام جبال النُّوبة، مؤتمر البجة، وحزب سانو، على التوالي، وذلك لأنَّ المثقفين في هذه المناطق الريفيَّة شعروا بأنَّ الأحزاب السياسيَّة الموجودة في السَّاحة حينئذٍ لا تعبِّر عن تطلُّعات وآمال أهالي هذه المناطق، ولا يتفهَّمون مشكلاتهم الحقيقيَّة؛ وبالتَّالي آن الأوان أن يأتي أبناء هذه المناطق ليعبِّروا عن هذه الطموحات الإقليميَّة والوطنيَّة معاً، وبخاصة أنَّ البطون الجائعة والأجساد العارية تتساوى في المطالب الحيويَّة في هذه الحياة الدنيا.

هذه هي الظروف السياسيَّة التي فيها ظهرت "حركة اللهيب الأحمر" العام 1957م كحركة سريَّة بعد عام فقط من استقلال السُّودان العام 1956م. وكان من أهداف الحركة - فيما كانت لها من أهداف – تنوير أهل دارفور بالتَّهميش الذي مُني به الإقليم؛ إذ استخدمت الحركة المنشورات المحرَّرة بخط اليد لإبلاغ رسالتها. وفي الفترة ما بين (1963-1964م) ظهر في مدينة نيالا تنظيم عسكري سري باسم "حركة سوني"، التي كان قوامها عدد من الضباط والعسكريين المتقاعدين من القوات المسلَّحة بعدما حاربوا في جنوب السُّودان؛ وبعد عودتهم إلى ديارهم في دارفور باتوا مقتنعين الاقتناع كله أنَّ الحرب الأهليَّة في ذلك البقاع من السُّودان غير شرعيَّة ولا أخلاقية، ومن ثَمَّ أسسوا حركتهم في دارفور لمواجهة قضيَّة التَّهميش الذي كان – وما زال – يتعرَّض له الإقليم. وأصدر هذا التنظيم بياناً في كانون الثاني (يناير) 1969م جاء فيه: "إنَّ محافظات دارفور يقل حظها في التنمية بسبب سيطرة فئة الجلابة على الحياة الاقتصاديَّة، واستغلالهم لأهلنا البسطاء، وتسخيرهم في الزراعة والعمالة الرخيصة، مما جعل دارفور غير قادرة على استغلال مواردها والإسهام في تنمية قدراتها، وإنَّ الثَّورة على الأوضاع الراهنة تتطلَّب وحدة الفور والمساليت والتُّنجُر لقطع الطريق أمام الانتهازيَّة التي هي جزء من الرأسماليَّة والنظام العشائري." وبما أنَّ المعلومات عن هذه الحركة شحيحة، غير أنَّ بعض الناس – استنباطاً من لغة الخطاب، والإشارة إلى قبائل بعينها كما ورد في البيان – ذهبوا استنتاجاً أنَّ الحركة وجدت دعماً من الحزب الشيوعي السُّوداني، وانحصر تكوينها وسط مجموعة قبائل الفور والمساليت والتُّنجُر.(17) أمَّا "جبهة نهضة دارفور"، فقد تأسَّست في الفترة (1964-1965م) في مدينتي نيالا وزالنجي، ثمَّ امتدَّت إلى الفاشر والجنينة كتنظيم مطلبي غرضه الأساس هو التنمية الاقتصاديَّة، واستقلاليَّة القرار السياسي عن المركز (الخرطوم)، ولكن سرعان ما انضم مؤسسوها للأحزاب السياسيَّة القائمة يومئذٍ. فما زالت الجبهة لديها بعض الأفراد النشطاء في مجال التنمية الإقليميَّة. ونذكر أخيراً في الكتاب "منظَّمة مواطني غرب السُّودان"، التي نشأت في الفترة ما بين (1977-1979م)، وهي كانت حركة معارضة تم تأسيسها بالخارج، وأمست عضواً ل"لجبهة الوطنيَّة"، التي كانت تعارض نظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري في السبعينيَّات.

مهما يكن من شيء، فلقد ظهرت "حركة اللهيب الأحمر"، و"حركة سوني"، و"جبهة نهضة دارفور"، و"منظَّمة مواطني غرب السُّودان" نتيجة للشعور بالإحباط العام وسط أهالي مديريَّة دارفور الذي تسبَّبت فيه الأحزاب التقليديَّة وعدم تمكنها الواضح من مجابهة الصعوبات والخطوب التي كانت تلم بالبلاد وكان الغرض الرئيس من الجَّبهة – أو تحديداً - هو "خلق حركة متعددة الجنسيات تقوم بتوجيه التطلعات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والدينيَّة، وعلى وجه الخصوص في مديريَّة دارفور في وجهتها الصحيحة". كان إجماع أهل دارفور واضحاً في توجهه عندما أجمعوا وعبَّروا بأنَّ لهم قضيَّة ذات أبعاد سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة تتمثَّل في الإهمال والتخلف الاقتصادي والبشري والتَّهميش السياسي، وكانت "جبهة نهضة دارفور" تمثِّل تعبيراً عن سخطهم على الأحزاب التقليديَّة وتطلُّعاتهم إلى التطوُّر والتنمية والمشاركة الفعليَّة في السلطة السياسيَّة، وتوفير العدالة الاجتماعيَّة والمساواة في الفرص، لئلا يظل الإقليم يعيش في القرون الوسطى، ويعاني أهله الفاقة والجهل والحرمان. وقد احتوى دستور الجبهة – فيما احتوى - على الأهداف الآتية:

(1) تطوير مديريَّة دارفور وتحقيق الآمال التي يتطلَّع إليه المواطنون منذ نيل الاستقلال (العام 1956م).

(2) اتخاذ موقف يتَّصف بإيجابيَّته واتحاده وإجماع الآراء عليه من أجل تحقيق الآمال التي يصبوا إليها أبناء دارفور.

(3) وضع مصالح أهالي مديريَّة دارفور العامة فوق مصالحهم ومصالح الموالين لهم.

بيد أنَّ الجبهة قد قُوبِلت بالمعارضة من مجموعتين: أولاً المجموعة المحليَّة التي لا تعود بانتمائها إلى دارفور، ولكنها تعيش بها كالتجار ورجال الخدمة المدنيَّة الذين وجدوا في نشاطات الجبهة معاداة لهم؛ ثانياً معارضة الأحزاب التقليديَّة التي رأت في نشاطات الجبهة معادة لسياساتها، وذلك بسبب تخوف هؤلاء من نفوذ مجموعات الضغط ومن تحول ولاء الأهالي عنهم.(18) إنَّ معارضة "جبهة نهضة دارفور" للتجار ورجال الخدمة المدنيَّة الوافدين إلى المنطقة هي ردة فعل طبيعيَّة لممارسات أولئك وهؤلاء تجاه أهالي دارفور المحليين. تلكم التصرفات هي التي تتصف دوماً بالاستغلال المادي والتعالي والظلم في ساحات القضاء، والتعيينات الوظيفيَّة وتوزيع الخدمات وغيرها. وفي المجتمع الدارفوري – وغيره من مناطق السُّودان المهمَّشة - ثمة أدلة دامغة، والتي لا يكف عن إنكارها إلا أولئك التقليديين، الضيِّقي الأفق، من أنصار النزعات الاستعلائيَّة.

هذه هي خلفيَّة "التَّهميش التأريخي" في دارفور – كما هو في بقيَّة أقاليم السُّودان الأخرى - الذي لا مريَّة في أنَّه نشأ أثناء الاستعمار وعقب الاستقلال، وتفاقم في عهود الحكومات الوطنيَّة بتعميق الفروق الاجتماعيَّة من جهة وتعميق الفروق بين مستوى الحياة في الأمصار القصيَّة وبين مصالح الفئات التي ارتبطت بالدولة وصارت تسيطر على الجزء الأكبر من الفائض الاجتماعي والسياسي من جهة أخرى. أمام هذا الحشد المتنوع من الاحتجاجات وجد أهل دارفور أنفسهم ينتقلون من "التَّهميش التأريخي" إلى "التَّهميش المعاصر"، ومن "التَّهميش الإقليمي" في ديارهم بإقليم دارفور إلى "التَّهميش الحضري" حين ينتقلون إلى مدن العاصمة بسبب الجفاف والتصحُّر والحروب الأهليَّة التي ضربت مناطقهم، واضطرتهم الفاقة أو الظروف الأمنيَّة إلى النزوح الداخلي



.

Post: #4
Title: Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.
Author: AMNA MUKHTAR
Date: 02-20-2008, 03:42 PM
Parent: #1

شكرا ألأخ خالد كودى..

قرأت للدكتور شركيان كتاب ومبحث رائع بعنوان :
النوبة فى السودان ..نضال شعب فى سبيل العدالة والمشاركة فى السلطة .

Post: #5
Title: Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.
Author: Khalid Kodi
Date: 02-20-2008, 03:53 PM
Parent: #4

الأخت آمنه،

تحيه و على المشاركه فى هذا البوست،

الدكتور شركيان باحث مثابر وله الكثير من الدراسات الممتازه والتى بدون شك أثرت المكتبه السودانية، وطبعا سيأتى اليوم الذى يعرف فيه الناس قيمة مايكتب .

تحيه له.

وسأواصل نقل المقالات.

Post: #6
Title: Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.
Author: Khalid Kodi
Date: 02-27-2008, 02:40 AM
Parent: #1

دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته (4 من 8)/الدكتور عمر مصطفى شركيان
Feb 25, 2008, 19:48

دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته (4 من 8)


الدكتور عمر مصطفى شركيان

[email protected]

النِّزاعات القبليَّة في دارفور

إن كان لا بد من تفسير ما يجري اليوم في دارفور في إطار قبلي، وذلك بعد الإذعان للطريقة التي بها تعبِّر العناصر الحديثة عن ذاتها في هذا الإطار المذكور، كان لزاماً علينا أن نتبصَّر في الكيفيَّة التي بها تعمل القبائل، وبخاصة تلك القبائل ذات الإرث والتقاليد العربيَّة والإسلاميَّة. هكذا تبدو للغريب أنَّ القبائل في حروب دائمة ضد بعضها بعضاً، وقد يجادل هذا الغريب أنَّ السبب الرئيس في تكوين القبائل هو الدفاع المشترك ضد العدو الخارجي، وتقوية مقدراتها للتنافس حول الموارد الطبيعيَّة. كما أنَّ هناك رؤية أخرى وهي التعاضد المشترك للعمل الجماعي أو الانقراض الجماعي. إذ أنَّ تعاضد القبيلة وتعاونها في السراء والضراء من السمات القبليَّة العربيَّة منذ عهدهم بموطنهم الأصلي في الجزيرة العربيَّة، وتأريخ العرب - قبل الإسلام وفي ضحى الإسلام وظهر الإسلام – زاخر بقصص شعبيَّة وأخرى أسطوريَّة عن الإغارات والحروب القبليَّة وتمجيد هذه الأفعال في أشعارهم وتراثهم. فقد كنا نندهش الاندهاش كله عندما كنا نقرأ عن حرب البسوس في ضرع ناب بين بكر وتغلب، وعن حرب بُعاث في مِخرق تمرٍ بين الأوس والخزج، وعن حرب غطفان في سبق دابة (الداحس والغبراء) بين عبس وذبيان، وحرب الفِجار التي كانت في حرم مكة بين قيس وقريش وغيرها. وبالتَّالي فقد انطبعت الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة عندهم بالطابع القبلي الذي يحتم على أهلها التكتل مع بعضهم بعضاً لردع أيَّة محاولة عدوانيَّة عليهم، أو صد كل من يحاول التطاول على حمى القبيلة، مما ولد عندهم عصبيَّة قويَّة كان لحياة البداوة دور كبير في إذكائها. فالعصبيَّة – كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري – هي "رابطة اجتماعيَّة سيكولوجيَّة، شعوريَّة ولا شعوريَّة معاً، تربط أفراداً وجماعة ما قائمة على القرابة ربطاً مستمراً يبرز ويشتد عندما يكون هناك خطر يهدِّد أولئك الأفراد – أفراداً أو جماعة (...)." فلا مُراء في أنَّه حين هاجرت بعض من هذه المجموعات القبليَّة إلى شمال إفريقيا ثم إلى السُّودان - غزاة أم تجاراً – حملت معها هذه الثقافة الغاراتيَّة، التي تعتبرها ضرباً من الفروسيَّة ونمطاً من المجد التليد الطارف، وتستوي في ذلك عيشتهم في القرى عيشة الاستقرار والدعة وترحالهم عن قراهم تتبعاً للغيث والتماساً للكلأ. وحول هذه القرى والبوادي، بما فيها من شظف العيش وقسوة الحياة والتنقل في التماس المراعي، نجد الخصومات المتصلة التي تثيرها العصبيَّة بين القبائل، والتي تنتج الغارات والحروب. وفي الأدب الشَّعبي السُّوداني نجد قصصاً عن قبائل متبدِّية لا تخضع لسلطان، وإنَّما لتعيش عيشة الأعراب في بواديهم، ويتحدَّث رواة الأدب الشَّعبي عن هؤلاء الأعراب في "الهمبتة" و"الشفتة"، وذلك مما هم به يقومون ويفاخرون من إغارات على القبائل الأخرى ونهب إبلهم ومواشيهم وماعزهم وضأنهم، وسبي نسائهم واختطاف أطفالهم، وحين يكون الهجوم على العنصر الإفريقي تأخذ العنصريَّة مجراها في الدوافع والنتائج. هذه الخلفيَّة التأريخيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة وأوهام التفوُّق العنصري هي التي اعتمدت عليها السلطات السياسيَّة المركزيَّة في الاستعانة بالمجموعات العربيَّة في التَّمليش وتوجيهها وفق رؤية سياسيَّة محددة. وفي سبيل النَّظر إلى مشكل دارفور في إطار فرضيَّة النِّزاع القبلي المسلَّح، إذن، من ذا الذي يقتل مَنْ؟ ومن ذا الذي يغير على مَنْ؟ ولماذا كان هذا القتل؟ وما هي الدوافع الكامنة وراء هذه الإغارات؟

إنَّه لمن الأمر العسير تحديد جميع الصراعات الأثنيَّة التي نشبت في دارفور، وكذلك إنَّه لعصي علينا تحديد دوافعها وأسبابها بدقة متناهية. فلم يقتصر الصراع القبلي في دارفور بين العرب وغير العرب فقط، بل حدثت نزاعات بين القبائل العربيَّة مع بعضها بعضاً، وكذلك بين القبائل الإفريقيَّة مع بعضها بعضاَ. ففي النِّزاع العربي-العربي نجد الصِّراعات التي حدثت بين الرزيقات والمعاليا (التي تعيش تحت إدارة الرزيقات) العام 1967م، وبين الرزيقات وأبناء عمومتهم المسيريَّة الزرق، وبين البني هلبة (الذين يشتغلون بالزراعة، ويملكون ثروة حيوانيَّة) والمهيريَّة (وهم من الأبَّالة)، وبين التعايشة والسلامات وهما قبيلتان عربيَّتان. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2005م أدى القتال الذي نشب بين قبيلتين من العرب – هما الحوطية (من البقارة) والنويبة عبد الله (من الأبالة) – بالقرب من مدينة زالنجي أثر نزاع حول المرعى إلى مقتل 60 شخصاً، وإصابة العديدين بجراح، ونزوح 250 أسرة إلى مدينة زالنجي هرباً من المعارك. ثمَّ نجد نزاع الرزيقات والهبانيَّة، الذي حدث في محليَّة الضعين وراح ضحيته أكثر من 100 شخص من الطرفين العام 2006م. وفي النزاع الذي اشتعل بين الرزيقات (الأبالة) والترجم العربيَّتين في أوائل العام 2007م، ثمَّ تجدَّدت في تموز (يوليو) 2007م كانت حصيلة الضحايا 670 قتيلاً وجريحاً، وفي نيسان (أبريل) 2007م فقد الطرفان 400 مواطن خلال 3 أشهر فقط – أي أنَّ القبيلتين فقدتا أكثر من ألف شخص خلال ذلكم العام. إذ لم تفلح مقررات مؤتمر أم زعيفة للصلح بين الجانبين الذي تمَّ التوقيع عليه في نيسان (أبريل) 2007م، لذلك تجدَّدت الاشتباكات بينهما غرب مدينة نيالا في 25 تموز (يوليو) 2007م حين هجمت مجموعة من الرزيقات على الترجم وقتلت 25 شخصاً منهم، ورد أهالي ترجم بالهجوم على الرزيقات من أربع اتجاهات، حيث استمر القتال يوماً كاملاً، وأدَّى إلى مقتل 34 شخصاً. وتعتبر هذه هي المرة السَّابعة التي فيها خُرِق اتفاق وقف العدائيَّات منذ شباط (فبراير) 2007م. وحين تجدَّدت المواجهات بين قبيلتي الترجم والرزيقات ارتفعت حصيلة الضحايا إلى 60 قتيلاً و23 جريحاً. وقد قال زعيم قبيلة الترجم حمد جلالي: "دفنا (في يوم) السبت 23 جثة، ونُقلت ليلاً 37 أخرى إلى مشرحة مستشفى نيالا، وتجمهر مئات من قبيلة الترجم أمام مستشفى نيالا بعد وصول القتلى والجرحى، رافضين دفن قتلاهم قبل أن تقدِّم الحكومة "تفسيراً منطقيَّاً للأحداث". والجدير بالذكر أنَّ الاشتباكات قد وقعت بين الطرفين بعد سرقة 500 رأس من أبقار يملكها أشخاص من الترجم يُعتقد بأنَّ أفراداً من الرزيقات سرقوها.(19) وتجدَّدت الاشتباكات بين السَّلامات والهبانيَّة (أم تاشا)، حيث بلغ عدد القتلى بين الجانبين 120 شخصاً وجرح آخرين. وقد جاءت هذه الاشتباكات في منطقة تقع غرب برام يوم الجمعة 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2007م.(20)

وعلى صعيد آخر، تفجِّرت النزاعات بين القبائل الإفريقيَّة مع بعضها بعضاً؛ وتعتبر الاشتباكات التي وقعت بين "الزغاوة والمساليت" و"الزغاوة والبرقو" مثالين لتلك الصِّراعات. غير أنَّ النزاعات الأكثر شيوعاً وفتكاً هي تلك التي تحدث بين العرب وغير العرب، وذلك لأنَّ الأثنيَّة وطبيعة الحرف التي يمارسها أفراد هذه المجموعتين تختلف عن بعضها بعضاً، ويلعب هذان العنصران جانباً جهنميَّاً في تأزيم الصراع، فضلاً عن تدخل الدَّولة في معظم الأحايين لصالح القبائل العربيَّة، لأنَّها تمثِّل الامتداد الأثني للذين هم يملكون مقاليد السُّلطة في الخرطوم وفي إقليم دارفور نفسه. برغم من أنَّ هناك صراعات أثنيَّة نشبت في إقليم دارفور من قبل، إلا أنَّ الصراع الذي التهب بين العرب والفور في الفترة بين 1987-1989م كان ذا أثر بليغ. "وقد ذاقت جماعات الفور المزارعة المستقرة مرارة الخراب الذي أحدثته هذه الحرب؛ إذ فقد 2,500 من رجال القبيلة حياتهم، وأصبح المئات منهم معوَّقين. كذلك فقد الفور 40,000 رأس من الماشية وأُحرِقت لهم 400 قرية يعيش بها 10,000 نسمة، وبلغ عدد النازحين من الفور (...) في المناطق الحضريَّة في الإقليم عشرات الألوف. إذ اُقتِلعت أشجار الفاكهة أو أُحرِقت على يد القبائل العربيَّة، وفُقِدت استثمارات كبيرة من السيارات وطلمبات المياه والمحاريث والمطاحن (...). وفقدت المجموعات العربيَّة، الطرف الآخر من الصراع، 500 قتيل، 200 معوَّق، و3,000 رأس من الماشية، وحُرِقت المئات من الخيام والمساكن. حيث أنَّ منطقة الفور تمثِّل البوابة الإستراتيجيَّة الآمنة لإمدادات الغذاء في دارفور، (إذ) لم يكن مدهشاً أن تمر معظم المجموعات في دارفور بنقص خطير في المواد الغذائيَّة خلال وبعد الحرب، (حتى) تصاعدت أسعار الغذاء."(21) وتفجَّرت الاشتباكات بين الرزيقات (العربيَّة) والبرقو (الإفريقيَّة) في تموز (يوليو) 2004م، مما أدَّى إلى مقتل 70 شخصاً ونزوح 35,000 آخرين في إقليم دارفور، حيث تمَّ العثور على 14,000 من هؤلاء الفارين من ديارهم.(22) ففي أحداث قرية حمادة بولايات دارفور راح ضحيتها أكثر من 110 مواطنين، وكان الضحايا من قبيلة البرقيد غير العربيَّة والمتهمين من أفراد بعض القبائل العربيَّة. وكذلك أدَّت الاشتباكات التي وقعت بين قبيلتي المعاليا والزغاوة في منطقة عديلة في ولاية جنوب دارفور في يوم 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006م إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى، ونُهبت فيها 600 رأس من الإبل، ونزوح عدد كبير من المواطنين إلى عديلة والضعين. وفي الاشتباكات التي اندلعت بين الفلاتة (العربيَّة) والقِمِر (الإفريقيَّة) بمنطقة رهد أزقول قرب محليَّة تُلس بولاية جنوب دارفور في كانون الثاني (يناير) 2008م، لقي 11 شخصاً من الفلاتة مصرعهم وجُرِح 7 آخرون، إلى جانب قتلى من الطرف الآخر يفوقون 22 فرداً، فضلاً عن اختطاف بعض عربات المواطنين. وقد بدأت فعاليات مؤتمر الصلح بين القبيلتين تحت رعاية والي ولاية جنوب دارفور – علي محمود – في نيالا في الفترة 15 – 18 كانون الثاني (يناير) 2008م، داعياً لجنة الأجاويد إلى العدالة والإنصاف و"طول البال" في إطار التوسُّط لإصلاح ذات البين، ومطالباً القبيلتين بالتجرُّد التَّام للوصول إلى نتيجة مرضيَّة (...) ليسود الأمن والاستقرار في المنطقة (...). والجير بالذكر أنَّ الأحداث التي دارت بين القبيلتين العام 2007م حصدت أرواح ما يقارب ال 100 شخص، إلى جانب أنَّ المشكل بين القبيلتين في السَّابق كانت من أعنف المشكلات القبليَّة التي شهدتها الولاية، إلا أنَّها اختتمت بمؤتمر صلح جامع بولاية غرب دارفور العام 1987م.

أمَّا في حال المساليت، فقد بدأت المشكلات المعاصرة في منطقتهم حين خلقت الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة 30 منصباً بلقب أمير في المنطقة الإداريَّة التقليديَّة لأهل مساليت، وملأت هذه الوظائف بالعرب، وبخاصة عرب أم جلول. فسرعان ما نظر أهل المساليت لهذا العمل بأنَّه وسيلة من وسائل الحكومة لتقليص سلطانهم وتهميش دور قادتهم التقليديين. هكذا كانت ردة فعل المساليت غاضبة وعنيفة، وتفجَّر النِّزاع بينهم وبين العرب، وتدخَّلت الحكومة بتغيير حاكم غرب دارفور – محمد أحمد فضل – باللواء حسن حمدين، الذي وضع الإقليم تحت حكم عسكري. وقد أعقبت هذا الإجراء حملات اعتقالات واسعة، وتعذيب وسط القادة النَّافذين في دار مساليت، وبخاصة من كانوا من ذوي العلم والمعرفة، أو أصحاب سلطة قبليَّة كالعمد والشيوخ وأعضاء المجلس البلدي. وفي هذه الأثناء قامت المليشيات العربيَّة المدعومة بواسطة الحكومة بالإغارات على قرى المساليت منذ آب (أغسطس) 1995م. وفي إحدى هذه الإغارات شنَّت الميليشيات هجوماً على قرى المساليت المعروفة باسم مجمري - وهي تقع شرق مدينة الجنينة – وتمَّ حرقها تماماً، وقُتِل 75 شخصاً، وجُرِح 170 آخرين، ونهب 600 رأس من الماشية. وفي حادث مماثل، هاجمت الميليشيات العربيَّة قرية شوشتة جنوب-غرب الجنينة في مساء 5 تموز (يوليو) 1996م وقتلت – على أقل تقدير – 45 شخصاً، وكانت غالبيَّة الضحايا من النساء والأطفال. وكانت تتم هذه الهجمات ليلاً حين يهجع أهل المساليت إلى النوم؛ وفوق ذلك كله كانت هذه الإغارات تُشن قبيل الحصاد، حتى يتم تجويع من بقي على قيد الحياة. فلم يكن النِّزاع بين العرب والمساليت ذا طابع محلي فحسب، بل أخذ طابعاً إقليميَّا وعربيَّاً. ففي هجوم الميليشيات على قرى جبل جنون استطاع أهل مساليت قتل بعض أفراد الميليشيات، وعند فحص هُويَّاتهم كان من بين القتلى من كان سوريَّاً هو محمود محمد شغر، وليبيَّاً يدعى فتحي عبد السَّلام، وجزائريَّاً يسمَّى بلوغي حماد وعدد آخر من تشاديين وسودانيين من أجزاء أخرى داخل السُّودان، مما يوضِّح بوضوح اشتراك تنظيم الحركة الإسلاميَّة (الأخوان المسلمين) العالميَّة في هذه العمليات. ثمَّ تكرَّرت هذه المآسي في 26 آذار (مارس) 1997م، وفي نيسان (أبريل) 1997م، والعام 1998م. وقد أخذت الأحداث صورة مأسويَّة أكثر في يوم 17 كانون الثاني (يناير) 1999م – أي في اليوم الأول لعيد الفطر المبارك – إثر حادث مقتل أحد المزارعين المساليت بواسطة إعرابي أطلق حيواناته على مزرعة المسلاتي المسن. إذ تطوَّرت هذه الأحداث بما عُرِفت ب"أحداث العيد الدَّامية بالجنينة"، واستنفرت الحكومة ميليشياتها، وقامت بإغارات جويَّة وبريَّة على قرى المساليت في المنطقة، كانت حصيلتها مقتل 2,000 من المساليت، وجرح آلاف آخرين، وهروب آخرين ولجوئهم إلى تشاد، ليعيشوا تحت وطأة ظروف إنسانيَّة سيئة للغاية. وفي شباط (فبراير) 1999م عقدت حكومتي تشاد والسُّودان اتفاقاً أمنيَّاً يقضي بمراقبة اللاجئين، ووقف المعارضة السُّودانيَّة أو التشاديَّة من العمل داخل أراضي بعضهما بعضاَ، وتعزيز الاتفاقات السَّابقة حول تبادل المجرمين، مما فتح الأبواب على مصاريعها لاعتقال قادة المساليت في تشاد وإرسالهم إلى السُّودان، ليقعوا تحت وحشيَّة النِّظام السُّوداني. والغريب في الأمر أنَّ هذا الاتفاق قد تمَّ التَّوقيع عليه في إنجمينا – حاضرة تشاد – بين وزير الخارجيَّة السُّوداني الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل من جهة، ونظيره التشادي محمد صالح نظيف من جهة أخرى، حيث ينتمي هذا الأخير إلى ذات القبيلة العربيَّة التي قامت بالمجازر البشريَّة ضد أهل مساليت في دارفور.(23) إذن، ما هي العوامل الماديَّة والبشريَّة المحركة للنِّزاعات المسلَّحة التي تنشب بين القبائل أو وسط المجموعة الأثنيَّة من وقت لآخر في إقليم دارفور؟

لقد رصد الدكتور محمد سليمان آدم – الأمين العام للسلطة الانتقاليَّة في دارفور حالياً – النزاعات القبليَّة ومؤتمرات الصلح في دارفور منذ العام 1957م حتى العام 1999م، ولخَّص الأسباب الرئيسة في نشوب هذه الصراعات – برغم من تعقيداتها وكثرتها – في الآتي: طرق سير الرعاة (المسارات)، الجفاف والتصحر، التدخل الحكومي، نظام الديار أو الحيكورة، والنَّهب المسلَّح. وقد شهدنا كيف استغلَّت الحكومة المركزيَّة في السبعينيَّات من القرن الميلادي الماضي نظام الحكم الإقليمي – الذي فرضته حكومة جعفر محمد نميري – لممارسة أسلوب "فرِّق تسد" في الحكم، بدلاً من استخدامه في نقل السُّلطة الحقيقيَّة إلى مواطني إقليم دارفور، كما حدث جليَّاً في نزاع قبيلتي القِمِر والفلاتة العام 1987م. ففي حال العامل البيئي نجد أنَّه حين ضرب الجفاف والتصحر منطقة شمال دارفور نزحت المهيريَّة بإبلهم إلى الوديان ودخلوا في مزارع البني هلبة، كما أنَّ نزاع التعايشة والسلامات هو صراع إداري وحول عموديَّة، حيث تحول إلى مشكل كبير، مما أدَّى الأمر إلى استدعاء الجِّيش لحماية المتحاربين. بالإضافة إلى هذه العوامل البيئيَّة، نجد أنَّ هناك عوامل اقتصاديَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة وتأريخيَّة وعرقيَّة وغيرها. والنزاعات السياسيَّة في دارفور هي الأكثر دمويَّة لأنَّ مسبباتها خارجيَّة عن الإقليم أو السُّودان، أما النزاعات الأخرى بين الرعاة والمزارعين فإنَّها تحل دوماً في إطار الإدارة في الإقليم أو في إطار "الأجاويد" (الصلح المحلي) من المشايخ والعمد. إذن كيف فكَّرت الإدارة السَّابقة في دارفور في حل مشكل نزوح القبائل الرعويَّة حتى لا تصطدم في اشتباكات دمويَّة مع أخرى زراعيَّة مستقرة؟ ففي هذا الصدد يقول السيد أحمد إبراهيم دريج – حاكم إقليم دارفور الأسبق (1981-1983م) – إنَّهم فكَّروا في منطقة تكون مهيأة لاستيعاب النازحين، أو مكاناً لانتقال بعض القبائل، واختاروا منطقة "قوز دنقو" القريبة من الحدود مع جمهوريَّة إفريقيا الوسطى، وهي منطقة رمليَّة يمكن للرعاة العيش فيها، كما يمكن المزارعين العمل بها، إلا أنَّ هذه المنطقة كانت تحتاج إلى تهيئة مما يعني أن تقرِّر الدولة ميزانيَّة لها لإقامة مدارس ومراكز علاج. وقبل ذلك اقترح السيِّد دريج على الحكومة الملايين من الجنيهات التي كانت تقدِّمها السوق الأوربيَّة لمشروع غرب السافنا، إلا أنَّهم وجدوا أنَّ هذا المشروع لا طائل منه، لأنَّ الجزء الأكبر من الأموال تُصرَف على العربات والبنزين.(24)

مهما يكن من شيء، فقد تطوَّرت هذه النزاعات وأخذت طابع ما بات يسمَّى ب"النَّهب المسلح". فقد تفشَّت ظاهرة "النَّهب المسلَّح" في دارفور في بداية السبعينيَّات من القرن الماضي الميلادي. إذ استهدفت هذه الظاهرة – فيما استهدفت – أرواح وأموال المواطنين الأبرياء، وفي ذات الوقت صاحبت هذه الظاهرة تقاعس السُّلطة المركزيَّة عن القيام بمهامها في تسليح ورفع كفاءة قوات الأمن في الإقليم، حتى تضطلع بدور فعَّال في ردع هذه العصابات. إذ يعود ظهور هذه العصابات إلى عدة عوامل نذكر منها:

(1) الحرب التشاديَّة-التشاديَّة.

(2) الحرب الليبيَّة-التشاديَّة.

(3) التدخلات الأجنبيَّة داخل الإقليم.

(4) دور المركز – وبمداخل مختلفة – في إزكاء الصراعات داخل الإقليم، وإضرام نار الاضطراب الأمني، وعدم الاستقرار في الإقليم، وهذا عنصر غير مرئي.

أما الباحث الأكاديمي محمد آدم فاشر فيرى أنَّ أسباب الصراعات المسلحة في دارفور تعود إلى عوامل مباشرة وأخرى غير مباشرة. ومن العوامل المباشرة يذكر محمد آدم فاشر ما يلي:

(1) التحريض السياسي.

(2) محاولة الحكومات في ضرب التطلعات السياسيَّة عن طريق جماعة سكنت في الإقليم منذ وقت طويل، ولكنها لم تنس جذورها التي تمتد إلى مناطق سودانيَّة أخرى ظلَّت على الدوام تلعب دور مخلب قط في تأجيج الصراعات القبليَّة.

(3) قلة مصادر المياه.

(4) الحدود القبليَّة المقدَّسة – بغياب مفهوم الدولة الحديثة، حيث أنَّ دارفور أقرب إلى المملكة القديمة من جزء من الدولة الحديثة إذا كانت حديثة فعلاً.

(5) التصحر – القحط في شمال دارفور، وتداخل نطاق الرعي والزراعة في جنوب دارفور (مقروءة مع البند (4)).

(6) عدم توفير الاعتمادات اللازمة لحفظ الأمن في الإقليم.

(7) إسناد مهمات حفظ الأمن إلى الجيش، وإطلاق اليد للقيام بأعمال العنف المبالغ مع تجاوزات خطيرة، مما يترتَّب عليه آثار جانبيَّة أخطر من المشكل الأساس.

أما الأسباب غير المباشرة فيرى الأستاذ فاشر أنَّها تتلخَّص في الآتي:

(1) إمكانيَّة الحصول على السلاح من الدولة وخارجها.

(2) وجود عدد كبير من الجنود المسرَّحين من الخدمة كعادة المؤسسة العسكريَّة السُّودانيَّة أن تسرح أغلب الجنود بعد خدمة ست سنوات.

(3) استثمار الأميَّة من جانب الحكومات المتعاقبة بغرض تسخيرهم لخدمة الجنديَّة في حفظ توازن الحرب على الأقل.

(4) استثمار الأميَّة بغرض استخدامهم كأيد عاملة رخيصة في المشاريع الزراعيَّة، وفي المنازل، وفي الإنشاءات المعماريَّة - أي الذين يبنون القصور وهم بلا مأوى، وهو حديث منسوب لإسماعيل خورشيد – وغيرها بأبسط مقومات الحياة.

(5) استثمار الأميَّة بغرض إقصائهم من المساهمة في السلطة لبسط الهيمنة.

(6) غياب مشاريع التنمية التي تستوعب بعض الأيدي العاملة.

(7) فتح البلاد مجالاً للصراع بين القوى الأجنبيَّة، وقد حُسِمت معظم أو كل الصراعات التشاديَّة-التشاديَّة أو الليبيَّة-التشاديَّة داخل دارفور في الفترة الممتدة من 1981-1990م.

(8) عدم وجود كوادر أمنيَّة مؤهلة لمعرفة أنماط وأبعاد الخلافات الأثنيَّة في السُّودان عامة وغرب السُّودان خاصة.

(9) نزوح جماعات كبيرة من تشاد بحثاً عن أماكن استقرار لها في دارفور.

(10) عدم ثقة حكومات السُّودان بأبناء الإقليم في إدارة شؤونهم لاعتبارات سياسيَّة (وعنصريَّة)، مما ترتَّب على ذلك فرض طاقم الحكام من خارج الإقليم لم تكن كل اهتماماتهم قضايا دارفور وإن شذَّ منهم القليل.

(11) عدم وجود الطرق البريَّة الصَّالحة على الأقل والجسور على الأودية.

(12) الأطروحات الأيديولوجيَّة وأنواع الإسلام والقوميَّات عابرة القارات والبحار؛ فالمواطن البسيط لا يستطيع أن يستوعب الطَّرح كما هو المتصدِّر، أو إدراك أبعادها الحقيقيَّة.

(13) الدور غير الفاعل لبعض القيادات السياسيَّة من أبناء الإقليم، وتقوقع بعضهم لنتائج الصراعات واستجابة البعض للتحريض، وانصراف أغلب المتعلِّمين للمؤسسات الأكاديميَّة.

(14) الاستيطان وعدم التأهيل للاغتراب.

وكما أسلفنا الذكر، يلعب المسؤولون الحكوميُّون وإعلام الدولة دوراً فعيلاً في إثارة النعرات العنصريَّة وإلهاب المشاعر الجهويَّة. وفي هذه الأثناء نذكر أنَّه في عهد نظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري اعتبرت الحكومة المقاتلين - الذين شاركوا في حركة العميد محمد نور سعد في 2 تموز (يوليو) 1976م - مرتزقة، وإنَّهم غير سودانيين. وفي ذلك الحين من الزَّمان وقف الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم – أحد قادة نظام مايو - يهتف: "لا غرَّابة بعد اليوم"، لأنَّ من بين الذين قدموا من ليبيا في تلك الحركة كانوا من الزغاوة، وهم مواطنون سودانيُّون في إقليم دارفور بغرب السُّودان. هذا وقد استاء الزغاوة من هذا الهتاف الصفيق، وكان الطيِّب المرضي حاكماً لإقليم دارفور، حيث شعر بأنَّ الزغاوة بوزنهم في الإقليم سوف يؤثِّرون على مجريات الأحداث، فسافر على متن أول طائرة إلى الخرطوم، ونقل هذا الاستياء "الزغاوي" إلى الرئيس نميري. فطلب منه نميري أن يحضر وفد منهم ليعتذر لهم عن هذا الهتاف، ويجبر بخاطرهم، وبالفعل أعلن الرئيس نميري ذلك في الإذاعة، وعيَّن المهندس محمود بشير جماع وزير دولة بوزارة الري، ومن قبل كان يشغل وظيفة مساعد وكيل وزير الري، ولكن تمَّ فصل جماع بعد شهرين عندما هدأت الخواطر. ثمَّ كان هناك انقلاب المقدم حسن حسين عثمان وهو بديري أو هواري، إلا أنَّه من غرب السُّودان – كردفان؛ وقد وُصِفت محاولته الانقلابية بالعنصريَّة. هذا ولم يفلت النُّوبة، الذين شاركوا في هذه المحاولة، من إساءات الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم. هذه المفاهيم ينبغي أن تُصحح، وعلى المسؤولين والإعلام الحكومي أن يؤكِّدوا بأنَّ أي مواطن – إن كان من دارفور أو كردفان أو الجنوب أو أي مكان آخر في القطر – من حقه السياسي أن يحكم السُّودان، ويتمتَّع بحقوقه الدستوريَّة كاملة بدون نقصان.(25) ففيما مضى ومما يلي لا شك في أنَّ المركز قد أخذ يلعب دوره الجلي في إزكاء نار الفتنة القبليَّة والنعرات العنصريَّة وإحداث شرخ في البنية القبليَّة في إقليم دارفور في كل العهود السياسيَّة منذ استقلال السُّودان العام 1956م. إذ يمكن تلخيص هذه الأدوار في الآتي26)

(1) إعادة تقسيم إقليم دارفور؛ إذ أنَّ هذا التقسيم يأتي كجزء من المحاولات المستمرة لإضعاف الوحدة الجغرافيَّة والإداريَّة والسكانيَّة. فمثلاً نجد استقطاع أجزاء كاملة من الإدارات الأهليَّة – المعروفة باسم "حواكير" منذ عهد بعيد (عهد السلاطين) – وإخضاعها لولايات أخرى قُصِد منها إثارة فتنة في الإقليم أو في بعض مناطق الإقليم.

(2) الهيمنة المركزيَّة على الأقاليم، فمثلاً نجد أنَّ السلطة الانتقاليَّة العام 1985م قد قامت بإعادة مركزة السلطات الإقليميَّة، وصدرت قرارات بإعادة مركزة مرافق الكهرباء والإسكان دون استشارة حكام الأقاليم، ومن قبل كان أهل الأقاليم المختلفة ينظرون إلى الحكم الإقليمي بأنَّه من المكتسبات التي ليس من المفترض العبث بها.

(3) في ظل النظام الفيديرالي المطبَّق حاليَّاً في السُّودان يصدر رئيس الجمهوريَّة قرارات بتعيين الولاة في كل الولايات (فيما عدا الولايات المحكومة وفق اتفاقيَّة السلام الشَّامل للعام 2005م). هؤلاء الولاة هم في مستوى سلطات ضباط مجالس ريفيَّة، والمجالس الريفيَّة كان يتم تكوينها في السابق بواسطة مجلس الشعب الإقليمي، ولذلك نرى أنَّ الإجراءات المسماة فيديراليَّة لم ترتق في مضمونها وصلاحياتها لسلطات الحكم الإقليمي حتى ذلك الذي طُبِّق في عهد الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري.

(4) برغم من إعادة الإدارة الأهليَّة في دارفور في عهد حاكم دارفور السابق - الدكتور التجاني السيسي - لكي تعني بشؤون الأهل والقبائل بواسطة النظار والعمد والمشايخ دونما تدخل من قبل السلطة التنفيذيَّة في الإقليم، إلا أنَّ النظام "الإنقاذي" في الخرطوم قد قام بإنشاء إدارات موازية للإدارات الأهليَّة، وسموا هذه الإدارات أمارات، والقائمين عليها أمراء. وبناءً على هذه الإدارات الموازية، تمَّ تعيين سلطان للفور في الخرطوم، وكان هذا المسلك هو السبب الأساس للصراع القبلي في دار مساليت حينما تمَّ تعيين بعض الأمراء العرب في سلطنة دار مساليت، مما أدى إلى الحرب القبليَّة بين الطرفين – كما أوردنا
سلفاً.(27)


Post: #7
Title: Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.
Author: Khalid Kodi
Date: 02-27-2008, 02:43 AM
Parent: #6


ومنذ الانتفاضة الشَّعبيَّة ضد نظام الرئيس الأسبق المشير جعفر محمد نميري العام 1985م بدأت الأحزاب السياسيَّة والتنظيمات الجهويَّة تحذِّر من تفاقم الأوضاع الأمنيَّة في غرب السُّودان، مشيرة إلى تزايد الصراعات القبليَّة وتحولها إلى ما يشبه الحرب القبليَّة ذات الدمار الشامل، وبخاصة بعد دخول السلاح بصورة كثيفة إلى هذا الإقليم. إذ كان مصدره الصراعات العسكريَّة التي كانت قائمة خارج أراضي السُّودان، وتواطؤ بعض الأحزاب السياسيَّة (الحاكمة أو المعارضة) مع دول أجنبيَّة أو عناصر محليَّة لها مصالح ذاتيَّة أو قبليَّة في استمرار العنف وعدم الاستقرار كما سنرى لاحقاً. وفي كتابات الكُتَّاب ودراسات البُحَّاث نجد استصراخاً لأهل الحل والعقد بأنَّ أزمة دارفور يمكن أن تتطوَّر وتقضي على الأخضر واليابس، ولا تبقي ولا تذر، إلا أنَّهم لم يلتفتوا إلى هذا النذير المبين، وكأنَّما الأمر لم يكن يعنيهم. إزاء هذا الوضع المأسوي انقسم أهل الإقليم بين جماعتين - وبخاصة بعد مذكِّرة ما سمِّي يومئذٍ ب"التجمع العربي" العام 1988م (الملاحق رقم (2) إلى (7)) - إلى تجمع قبائل عربيَّة وأخرى زرقة أو غير عربيَّة. وكانت هذه المذكرة محصلة التطورات السَّابقة التي نشأت منذ السبعينيَّات من القرن الماضي. شكَّلت هذه الوثائق المفاهيم النظريَّة للتمليش القبلي العربي الذي سوف يظهر دوره بصورة أقبح وأفدح في وقت لاحق. وكانت المذكِّرة – كما أمل أصحابها أن توقع عليها مجموعة كبيرة من العرب، إضافة إلى الذين لم يوقِّعوا عليها أصلاً – تمثِّل النِّداء المباشر للسيِّد الصَّادق المهدي كعربي وكقائد للأنصار لكي يقلب موازين ومكاييل القوى في دارفور لصالحهم. إذ يبدو هذا الاستنجاد جليَّاً في التعبير الوارد في الخطاب: "إنَّك لأخينا، وإنَّ المرء ليتوقَّع كثيراً من الأخ أكثر من الأغيار". وقد نتج عن وثيقة التجمع العربي ما يلي:

(أ) انحياز الحكومة للمجموعة العربيَّة وفق الشواهد الآتي:

(1) نزع سلاح الفور مباشرة بعد اتفاقيَّة العام 1989م، وإعادة تسليح القبائل العربيَّة العام 1990م بحجة حماية الماشية وقوات السَّلام.

(2) الكيل بمكيالين عندما يكون الحرب بين العرب أنفسهم تظهر الحكومة الجديَّة والحسم، فمثلاُ صراع المعاليا والرزيقات، وعندما يكون بين الفور (والعرب) تكون السمة الغالبة هي المماطلة والمراوغة، حيث حُوكِم الجناة الرزيقات، ولم يُحاكم الجناة العرب في حوادث شوبا-أم حراز، وكل تلك الأحداث كانت في شهر واحد.

(3) عدم حماية المواطنين وممتلكاتهم، حيث تتم تغطية البلاغات بعد ست ساعات أو يوم كامل من تأريخ الحدث، مثلاُ: "حريق بري كلونغا"..

(4) عدم الاهتمام بإعادة تعمير القرى المحروقة والمهجورة، حيث كانت مساهمة الحكومة ثلاث خيام فقط من مجموع 73 قرية محروقة ومهجورة.

(5) التحرُّش بأعيان الفور، والتضييق عليهم في الوظائف وملاحقة النشطاء بالاعتقال.

(6) إنشاء إدارات وهميَّة للعرب في مناطق الفور والمساليت.

(7) عدم اعتراف الحكومة صراحة بحقيقة الصراع بأنَّها عرقي.

(8) عدم الوفاء بمواثيق الصلح، وبخاصة إعادة توطين المهجَّرين وإجلاء الأجانب.

(ب) داهمت جنود الحكومة في وضح النهار قرى كرنج، باردي، عرديبة، كاقورا، وتمَّ نهب المتاجر والمنازل و36 رأساً من الماشية والضأن؛ هذا ولم يُحاكم جندي واحد مع علم الحكومة بتلك التجاوزات.

(ج) ارتفع عدد المقتولين من الفور حتى العام 2001م ارتفاعاً واضحاً.

(د) حرق وتدمير القرى، وهي قريبة من ثكنات الجيش دونما أي تدخل من الجيش لحماية المواطنين: مثلاً: قرية شوبا، حيث تعرَّض أهلها لمجزرة راح ضحيتها 18 مواطناً وجُرِح 17 شخصاً، واستمرَّت المعركة بين الفور والعرب زهاء الخمس ساعات، وهي كانت على مسافة 8 كيلومترات من الحامية العسكريَّة.

وقد لعب الدكتور التجاني السيسي محمد أتيم – حين كان حاكماً لإقليم دارفور – دوراً مشهوداً في حل نزاع الفور مع القبائل العربيَّة العام 1987م. إذ بدأت مجهوداته نحو الصلح منذ أيلول (سبتمبر) 1987م بتشكيل لجان في كل مناطق الصِّراع، وسمِّيت ب"لجان تهدئة الخواطر"، تمهيداً لعقد مؤتمر للصلح بين المجموعات المتنازعة، وتمَّ إصدار قرار بانعقاد ذلك المؤتمر في كانون الثاني (يناير) 1989م. وبعد اجتماعات عدة بين لجنتي المجموعات العربيَّة وغير العربيَّة، تمَّت مناقشة جهود الإقليم في الصلح مع اللجنة الوزاريةَّ التي كوَّنها رئيس الوزراء السيِّد الصَّادق المهدي.(28) وفي نهاية الأمر تمَّ التوصُّل إلى تسوية سلميَّة قبل الانقلاب "الإنقاذي" في 30 حزيران (يونيو) 1989م. إذ كان من المفترض أن يكون هناك احتفال بالصلح يوم 4 تموز (يوليو) 1989م في مدينة الفاشر، لكن قام الانقلاب العسكري، ومن ثَمَّ احتفل الانقلابيُّون "الإنقاذيُّون" بالصلح الذي عقدته الإدارة السَّابقة وزعموا بأنَّهم أصحابه وإنَّه لمن ثمرة انجازاتهم الأولى. ثم طبع قادة الانقلاب كتاباً عن الصلح، حيث لم يضيفوا فيه شيئاً للمجهودات التي تمَّت قبل الانقلاب إلا خطاب الحاكم العسكري. وبعد أن وُقِّع الصلح واتفق أهل دارفور على السلم والمعايشة، لجأت الحكومة من جديد إلى تأجيج الصراع بأساليب جديدة، ومن بين هذه الأساليب إنَّها لم تحم هذا الصلح، وحماية الصلح تتحقَّق من خلال دفع التَّعويضات، إعادة تعمير التَّخريب الذي حدث، ثمَّ توفير الأمن والعدالة بين كل الأطراف. وحسب ما جاء في تقرير مؤتمر الصلح بين العرب والفور فإنَّ الأهالي قد اعترفوا أنَّ العنصر الرائس في المشكلات بين القبائل في دارفور ينبعث من مستصغر الأحدث، والتي يمكن تلافيها بقليل من المجهود والحكمة، لكنها تتضاخم لعجز السلطات الحكوميَّة في حلها بأسرع فرصة، وبعدئذٍ تتداخل العوامل القبليَّة والسياسيَّة والمصالح الذاتيَّة الأخرى. ولسوف تبقى هذه المقاصد حيَّة دوماً، إذ ينبغي أن يكون الهدف الأساس هو حرمان أصحاب المصالح الذاتيَّة من فرص استغلال هذه الحوادث الصغيرة، وذلك عن طريق المراقبة الأمنيَّة والقضاء الناجز العادل. ففي حال العدائيَّات بين الفور والعرب في كل من كبر وميري وجيري يتضح الدور الجلي للحكومة في إشعال الفتنة بين العرب والفور. وكانت منطقة كبر قد هُوجِمت وأُحرِقت وقُتِل عمدتها ليس لأنَّه من الفور فحسب، بل كنتيجة حتميَّة لسلسلة أحداث مرتبطة. وقد بدأت الأحداث بوجود القوات التشاديَّة – وهي كانت جزءاً من قوات بن عمر، التي مثَّلت المعارضة العربيَّة ضد الحكومة القائمة حينئذٍ في إنجمينا – في منطقة كبر. وفي هذه الأثناء توسَّل الجَّيش السُّوداني إلى عمدة كبر للتوسُّط بينهم وبين القوات التشاديَّة، وقد فعل العمدة ذلك. وفي الاجتماع الذي تم بين الجيش السُّوداني والتشادي، قتل الجَّيش السُّوداني التشاديين، وكان تدمير منطقة كبر عملية انتقاميَّة لما حدث للعرب التشاديين في القوات التشاديَّة. كما أنَّ أحداث ميري وجيري تعكس أيضاً التقاعس السلطوي في مطاردة الجناة ومحاكمتهم قبل أن تستفحل الأمور وتخرج عن نطاق السيطرة. ومع هذا كله خرجت نصوص اتفاق السَّلام – برغم من أنَّ الفور خسروا خسراناً مبيناً في هذه الحرب القبليَّة – مصوِّبة العتاب الأكبر على الفور، وكذلك كانت التَّقارير تلوم الفور بأنَّهم يتلكأون نحو مؤتمر السَّلام.(29)

إنَّ أكثر ما تميَّز به نظام "الإنقاذ" هو الإعلام الجهير، والدعاية الصاخبة، وعقد مؤتمرات وندوات وورش عمل لا تقدِّم أيَّة خدمات عمليَّة لصالح المواطن المغلوب على أمره. فإنَّه لا ينفع تكلُّم بحق لا نفاذ له، وإنَّه لضرب من قول الحق لإرادة الباطل. ولم تقتصر هذه المؤتمرات على المجالات الأكاديميَّة فحسب، بل تعداها إلى مخاطبة القضايا الجوهريَّة مثل أمور المعاش والممات والحروب الأهليّة – وقد أمست كثيرة - والفتن القبليَّة التي هي من مصنوعات النِّظام ذاته، وويل لمن كانت غنيمته من الأيَّام عقد القلوب على البغضاء، وإطلاق الألسنة بالمذام. وكان أكثر المتكلِّمين في هذه الندوات يحرصون في أكثر ما يكون الحرص على صياغة اللغو وصيانة الخطابة مع دعمهما بآيات قرآنية وأحاديث نبويَّة بشيء من التزيُّد والتكثُّر، وشن هجوم أيديولوجي واسع مستند على منظومة جديدة تستمد مبرِّراتها الأساس من مفاهيم يجري تغيير معناها استناداً إلى تفسيرات مقصودة للآيات القرآنيَّة. هذه هي الخلفيَّة الفكريَّة التي فيها ولج النِّظام مؤتمرات الصلح في إقليم دارفور. وفي إحدى مؤتمرات الصلح بالإقليم نظَّمت محافظة الجنينة بولاية غرب دارفور "مؤتمراً للنظام الأهلي والتعايش السلمي" في الفترة من 19 وحتى 21 من آب (أغسطس) 1996م بمدينة الجنينة لمناقشة ومعالجة النزاعات القبليَّة والتدهور الأمني في بعض مناطق المحافظة. وأهم الأوراق التي حُظِيت بنقاش في المؤتمر بعد خطاب والي ولاية غرب دارفور – اللواء ركن حسن حمدين سليمان – ورقتي "الجوانب القانونيَّة لحفظ الأمن للرجل الإداري الأهلي" و"الدعوة والعقيدة". بيد أنَّنا لم نر منطقاً واحداً في إدخال ورقة "الدعوة والعقيدة" في هذا المؤتمر؛ إنَّها لعبارة لتبرير ما لا ينسجم سياقاً، ولا يتَّسق موضوعاً، أو كما يقول المثل الشَّعبي: "زي شُرَّابة الخُرج لا تعدِّله وتميله"، وهو في معنى قول القدماء: "كواو عمرو" لمن لا عمل له ولا يحتاج إليه. لذلك تعمَّدنا هنا أن نضع كلمتي "الدعوة والعقيدة" بين معقوفتين لسبب أساس، هو أنَّه من الصعب اعتبار ما جرى في دارفور – وما زال يجري – مسألة ذات أبعاد دعويَّة أو عقديَّة، ومتى كانت الدعوة والعقيدة مشكلاً يوماً في دارفور! وفي نهاية هذه المناقشات الطويلة خرج المؤتمرون ب"ميثاق التعايش السلمي بين القبائل" (ملحق رقم (8))، وأقسم الجميع على الالتزام بما ورد فيه.(30)

وفي سبيل البحث عن معالجات لمشكلات دارفور الرعويَّة-الزراعيَّة، ذهب الدكتور محمد سليمان خطوات إلى الأمام حين اقترح خطة عمليَّة لحل النزاعات التي تنشب بين الرعاة الرحل والمزارعين المستقرين على غرار التجربة الإثيوبيَّة. إذن، ما هو الجديد الذي أتت به الخطة الإثيوبيَّة؟ أورد الدكتور محمد سليمان "أنَّ بعض القبائل المتحاربة في جنوب إثيوبيا استطاعت أن تصل إلى حل لنزاعها الطويل حول الموارد المتناقصة في المنطقة، وذلك بالاتفاق على خطة اقتسام عادلة تعترف بحق قبيلة البوران على أراضيهم وثرواتها وب"حق" جيرانهم الذين يمرون، هم وحيواناتهم، بمحنة، مثل الكونسكو والتيسماي والآربوري، في البقاء عليها. ولقد وافقت جميع الأطراف ذات الصلة بالأمر على خطة السَّلام تسمح للحيوانات بالدخول إلى أراضي البوران مباشرة بعد حصاد الذرة. ولقد تدعَّم الحال باتفاقيات أخرى تتعلَّق بإعادة تأهيل الموارد والتنمية، بالإضافة للتعليم المختلط لأبنائهم. ولقد وافق المراقبون لمحادثات السَّلام، والطقوس المرافقة لها، من منظَّمات الإغاثة على تأييد مبادرة السَّلام بمنح الدعم المالي لتسهيل تطبيقها."(31) وفي إثيوبيا كذلك أسهمت الإستراتيجيَّة الثقافيَّة في التوزيع العادل للموارد وسط القبائل. فنجد أنَّ للبوران نظام تعاون تقليدي يسمى ال"قعدة"، وتعمل هذه المؤسسة التقليديَّة كشكل من أشكال الضمان الاجتماعي؛ إذ أنَّ في استخدام الإدارة الرشيدة ضماناً على عدم التبذير في الموارد الطبيعيَّة. ويعتقد الرعاة في هذه المنطقة أنَّ الرَّعي يحافظ على الأرض ضد التصحُّر، وذلك من خلال تنقُّل الرعاة، وعدم تركيز الرَّعي على منطقة واحدة. هذا ما كان من أمر إثيوبيا، وعوداً إلى السُّودان نجد أنَّ في الورقة التي قدَّمها الدكتور عبد الجبار عبد الله فضل في ورشة عمل دارفور، التي انعقدت بقاعة الصداقة بالخرطوم في الفترة من 28-30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2004م، عدَّد الدكتور فضل الأسباب الآتية كأهم عناصر الصراع القبلي في دارفور32)

(1) التوسع الزراعي نتيجة لضعف الإنتاجيَّة الناتج من قلة الأمطار والآفات أثَّر سلباً على الأراضي الرعويَّة في جميع أنحاء دارفور.

(2) زيادة الثروة الحيوانيَّة، وتدهور المراعي هو السبب في زيادة الاحتكاك بين المزارعين والرعاة.

(3) دخول عناصر رعوية، وبخاصة رعاة الإبل من دول الجوار، مع عدم احترامهم للعلاقات الموروثة لحل النزاعات حول الموارد بين الرعاة والمزارعين سادت حدة الاحتكاك والصراعات.

(4) الرعي المشاع هو أكثر أسباب الاحتكاك والصراع بين المزارعين والرعاة.

(5) إضعاف الإدارة الأهليَّة وتسببها قلَّلت فاعليتها في التخفيف من حدة الصراعات بين الرعاة والمزارعين في دارفور.

(6) ضعف وانعدام التنمية لتطور الزراعة الرأسيَّة في النبات والحيوان زاد من حدة التنافس والاحتكاك بين الرعاة والمزارعين حول الأرض، وبالتالي أدَّت إلى الصراعات القبليَّة والاقتتال.

(7) السياسات الحكوميَّة والإجراءات الخاصة بإدارة شؤون المجمع القاعدي، والتي تبنى في الحالات على أسس غير مدروسة وغير مناسبة (قوانين الطليق وبيع زرائب الهوامل للتجار أو المواطنين) أسهم كثيراً في إذكاء الصراعات القبليَّة، وإثارة الفتن بين المزارعين والرعاة.

وأوصي الدكتور فضل في ورقته على الآتي:

(1) تطوير وتنمية قطاع الزراعة والمراعي بالطرق العلميَّة لزيادة الإنتاجيَّة والإنتاج في القطاعين، وبالتالي تقليل الاحتكاك والتنافس في الزراعة والحيوان.

(2) إلغاء مبدأ الرعي المشاع في المناطق الزراعيَّة، وإبطال قوانين الطليق لتمكين وتنظيم علاقة المنفعة المتبادلة بين المزارعين والرعاة، تشجيع المزارع على بيع المخلفات الزراعيَّة لأصحاب الحيوان، وتشجيع زراعة الأعلاف في الأراضي الزراعيَّة التي يفشل فيها إنتاج المحاصيل الغذائيَّة مثل الدخن والذرة، وبذلك يؤدِّي إلى تشجيع الاستثمار في مجال إنتاج الأعلاف والذي بدوره يؤدي إلى تغيير نمط تربية الحيوان من الرعي المشاع إلى الرعي المقفول.

(3) تشجيع الرحل، وبخاصة مربِّي الإبل، من التخلُّص من تربية الإبل والتحوُّل إلى الضأن الأكثر نمواً وفائدة من الإبل.

(4) اعتبار دخول عناصر رعويَّة من دول الجوار (تشاد) إلى دارفور إحدى العوامل الأكثر فعالية في إذكاء الصراع في دارفور، وبالتالي يجب العمل على تقليل أو منع دورها السلبي.

أمَّا في ندوة "دارفور ما بين التدخلات الأجنبيَّة والحلول الوطنية" فقد تحدَّث الدكتور إبراهيم الأمين عن "انتعاش القبليَّة في دارفور" وعدد أسباب الصراعات المسلحة في الإقليم في غياب مشاريع التنمية وانتشار البطالة، والجفاف والتصحر والنزوح بأعداد كبيرة إلى مناطق مستقرة، استمرار الحرب الأهليَّة في الجنوب وتداعياتها على الإقليم، وبخاصة شعار "السُّودان الجديد" الذي رفعته الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، والبعد الإقليمي (تشاد وليبيا)، حيث أنَّ التوجه الليبي صوب إفريقيا بعد تخليه عن الشعارات العربيَّة، والوجود الفرنسي والمصالح الأمريكيَّة في تشاد وغيرها من العوامل الرئيسة في تأجيج الصراع في دارفور. واقترح الدكتور الأمين من الحلول – فيما اقترح – تعميق الوعي القومي والقيم الداعية للتسامح والتعايش وقبول الآخر، والإصلاح الشامل لمؤسسات الحكم، وبسط التنمية بمفهومها الشامل (تنمية متوازية) وغيرها.(33) إذن، ما هي الحلول المبتغاة في سبيل معالجة مشكلات إقليم دارفور الأمنيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة؟ إذ يمكن تلخيص هذه الحلول، كما تطرَّق لها المشاركون في الندوة السياسيَّة التي أقامتها صحيفة "الخرطوم" في العاصمة المصريَّة - القاهرة – في كانون الأول (ديسمبر) 1996م فيما يلي34)

(1) تمليك المواطنين الموجودين في الديار المختلفة في الإقليم السلطات والصلاحيات التي تمكنهم من إدارة شؤونهم، وأن نحد من الهيمنة المركزيَّة، وذلك بتوزيع (تفويض) السلطات على الأقاليم.

(2) تطوير الإدارة الأهليَّة، وليس إعادتها فحسب؛ فقد تطوَّرت المشكلات نفسها وتعقَّدت الحياة، فإذا عادت الإدارة الأهليَّة بشكلها القديم وبوسائلها القديمة لا تستطيع أن تساهم في حل المشكلات.

(3) على المتعلِّمين من أبناء المنطقة أن يلعبوا دوراً هاماً، وألا يكونوا مخالب قط بأيَّة حال من الأحوال. إذ عليهم أن يكونوا متجردين وأمناء ومخلصين لقضايا أهلهم حتى يساهموا في حل هذه القضايا بنصح أهلهم والارتقاء بوعيهم، ومحاولة نصح وإرشاد ساسة الخرطوم، وعليهم أن يلعبوا دور الوسيط بين أهلهم والإدارة في الخرطوم.

(4) ينبغي أن يكون النظام الفيديرالي ذا مضمون، وألا يكون شعارات أو شكلاً لاستغلال الجماهير كالذي يحدث الآن في السُّودان.

(5) رفع الوصاية الاقتصاديَّة عن الأقاليم، ومن ناحية السلع والأسعار والتصدير؛ كما لا بد من رفع الوصايا السياسيَّة عن الإقليم.

(6) إرساء أسس التنمية المتوازنة ذات بعد اجتماعي، بحيث لا ننظر للتَّعليم بأنَّه حق متنازع فيه، وإنَّما هو مدخل لتنمية الوعي حتى نهيئ لتنمية اجتماعيَّة لخلق مواطن سوداني قادر على العمل مع الآخر من منطلق الفهم والوعي والتطوُّر. كذلك لم تعد الطرق خدمات، بل هي مدخل لفتح مراكز تتيح للمواطنين فرص التفاعل السياسي والانصهار الاجتماعي.

وكما هو معلوم فإنَّ دارفور قد عرف منذ أقدم العصور أنماطاً متعدِّدة من أشكال السلطة السياسيَّة (الشعبيَّة) التي عُرِفت فيما بعد بالإدارة الأهليَّة. وحسب الترتيب الهرمي، فقد مارس السلطان، مجلس الملك، أبو دالي (حاكم المنطقة الشرقيَّة)، أبو ديمة أو ديمنقاوي (حاكم المنطقة الجنوب-غربيَّة)، أبو توكنقاوي (حاكم المنطقة الشماليَّة)، أبو أمة أو أمنقاوي (حاكم المنطقة الجنوبيَّة)، المقدوم (نائب السلطان)، المناديب، القاضي، والشرتاي (حاكم المنطقة ومفتش القبائل) عند الفور؛ والسلطان والفرشة والشيخ عند المساليت؛ والشيخ والعمدة عند العرب وغيرهم قد مارسوا كلهم أجمعون أبتعون سلطاتهم الإداريَّة بفعاليَّة في توطيد أركان السلطنة أو الإقليم. وباتت الدَّولة تعتمد عليهم بمسميات مختلفة في جباية الضرائب، وحفظ الأمن العام، وفض النزاعات وتسوية الخلافات التي تحدث داخل المجموعة القبليَّة أو بين قبيلتين أو أكثر. وكثيراً ما كان القضاء يلجأ إلى تلك المؤسسات الأهليَّة طالباً التدخُّل للفصل في بعض القضايا المعقَّدة، كالقتل مثلاً، والتي يعجز القانون الموضوع في بعض الأحايين في وضع حد لها. لكنه تمَّ العبث بهذا الجهاز الإداري في أكثر ما يكون العبث في طول وعرض سنوات ما بعد استقلال السُّودان منذ العام 1956م، ودون الإتيان ببديل أمثل لحل مشكلات دارفور الاجتماعيَّة والسياسيَّة والتنمويَّة. ومن نافل القول نستطيع أن نخلص إلى حقيقة مفادها أنَّ الصراعات القبليَّة في دارفور قديمة قدم تأريخ المنطقة نفسها. وتتفجَّر بين العرب والعرب تارة، والعرب والأفارقة تارة أخرى، والأفارقة ضد الأفارقة تارة ثالثة؛ وكانت الأجاويد الشَّعبيَّة هي الميكانيكيَّة الاجتماعيَّة التي كان يستخدمها رجال الإدارة الأهليَّة لعقد المصالحات بين هذه الأطراف المتنازعة. ولا مريَّة في أنَّ هذه الاشتباكات الدمويَّة تنشأ دوماً من حادث عابر أو مشكل صغير، لكنه سرعان ما يستفحل لعدة عوامل منها التباطؤ أو التواطؤ الحكومي تجاه الجناة، أو بسبب ردة الفعل الانتقاميَّة من القبيلة لنصرة فرد أو أفراد القبيلة ذاتها، أو تداخل العوامل الخارجيَّة نتيجة التجاور الإقليمي لإقليم دارفور مع ثلاث دول مضطربة سياسيَّاً وتحتكم إلى القوة العسكريَّة لفض منازعاتها السياسيَّة والأثنيَّة بين الفينة وأخرى. وكذلك كان دور المركز – سراً أو جهاراً – رائساً في إلهاب النِّزاعات، ومسانداً لطرف من طرفي المشكل، بدلاً من أن تتخذ الدَّولة دور الوسيط المحايد (An honest broker) في حل مشكلات رعاياها بالعدل والمساواة وسطوة القانون. وكان هذا التدخل سافراً في عهد حكام "الإنقاذ"، وقد أحدثوا في السُّودان الحدث الذي لم يسبقهم إليه أحد من حكام السُّودان الأولين، حتى ظنَّ أهل السُّودان أنَّهم يعيشون في زمن سرمدي الذي قد لا يزول، ودبَّ الملل إلى أنفسهم دبيب الصهباء في الأعضاء، والكرى بين أهداب الجفون.

Post: #8
Title: Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.
Author: bakri abdalla
Date: 02-27-2008, 06:42 AM
Parent: #7

الأخ خالد
شكرا لك ولدكتور عمر مصطفى شركيان على هذه الإضافة القيمة.

Post: #9
Title: Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.
Author: A.Razek Althalib
Date: 02-27-2008, 08:14 AM
Parent: #7

Quote: إذ لم يتم دمجه رسميَّاً في دولة السُّودان إلى بعد هزيمة آخر سلطان دارفور وهو علي دينار العام 1916م.

لا حولاآآآآآآآآآه..

الله يرحم البطل القومي الخليفة عبدالله التعايشي..
يعني هو تزييف وتزوير التاريخ حيكون كيفن بس..
أصحى يا زول.. ما بين نكبة 1916م وكسحة 1899 ما يقارب الـ(17) عام من إطلاق الخليفة سراح علي دينار من السجن وشق الأخير للجيش في ملحمة أم دبيكرات..
ألف رحمة ونور لبطلنا القومي الخليفة عبدالله التعايشي (تور الشيل) الإستشهد في نوفمبر 1899م ..

شهداء أم دبيكرات الخليفة عبدالله التعايشي الأمير علي ود حلو وبقية العقد الفريد








العظمة لله..

Post: #10
Title: Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.
Author: Khalid Kodi
Date: 03-05-2008, 06:47 AM
Parent: #1

دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته (5 من 8)


الدكتور عمر مصطفى شركيان

[email protected]


الحركة الإسلاميَّة وصناعة الحركات المسلَّحة في دارفور


وكما شهدنا فإنَّ أزمة دارفور هي محصلة تراكمات تأريخيَّة لمشكلات متباينة. بيد أنَّ سياسة الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة قد سارعت في إخراجها للسطح، وبصورتها الوحشيَّة هذه، وبخاصة إذا راجعنا أقوال الدكتور حسن عبد الله الترابي، وأمعنا فيها النَّظر. والمعروف أنَّ الترابي لم يكن يوماً من النوع الذي يمضغ كلماته كثيراً قبل أن ينطقها أو يكتبها – بحسب تعبير فرنسي شهير مفاده أنَّ من لا يمضغ كلامه، هو الذي يطلق كلامه على عواهنه. فماذا قال الترابي بصدد دارفور؟ لقد "أصدر التَّرابي، عندما كان عرَّاباً للجَّبهة (القوميَّة الإسلاميَّة)، ويمسك بمقود وكل مفاصل النِّظام، فتوى تبيح تمزيق دارفور الكبرى لقيام حزام أمني عربي إسلامي، هو في الواقع تأمين لدولة عربيَّة إسلاميَّة في السُّودان بما فيه كل الغرب. (وقد) جاء في تلك الفتوى التي أصدرها الدكتور حسن الترابي: إنَّ الإسلاميين من القبائل الزنجيَّة صاروا يعادون الحركة الإسلاميَّة، وتهدف خطة الجبهة (القوميَّة) الإسلاميَّة إلى تأييد القبائل العربيَّة بإتِّباع الخطوات التالية: التهجير القسري للفور من جبل مرة وحصرهم في وادي صالح، ونزع سلاحهم كليَّاً، وإعادة توطين المهيريا والعطيفات والعريقات (وهي قبائل عربيَّة)، وعدم إعادة السِّلاح للزغاوة وتهجيرهم من كتم إلى أم روابة (في ولاية شمال كردفان)، وتسليح القبائل العربيَّة وتمويلها، بحيث تكون نواة التجمع العربي الإسلامي". هذه الفتوى تمثِّل الأساس الذي انبنت عليه الخطة "الترابيَّة" وجرى تنفيذها حرفيَّاً في دارفور حتى بعد انتزاع مقود السُّلطة من الترابي العام 1999م.(35)

ومن ذا يكون أعلم – أو أشدَّ مراساً - من الدكتور فاروق أحمد آدم بدور الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة غير المرئي في تأجيج المشكلات أجيج مشكلاأ

السياسيَّة في دارفور. ففي إيضاحه عن هذا الدور قال الدكتور فاروق أحمد آدم – العضو السَّابق في الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، والعضو القيادي في الحزب الاتحادي الدِّيمقراطي: "(إنَّ) سياسة الجَّبهة (القوميَّة الإسلاميَّة) تجاه غرب السُّودان – وفي واقع الأمر – ربما (تكون) غير (ملموسة) من الناس كما لمسته بحكم عضويَّتي في الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، وهي حزب محدود العضويَّة، تتركز في محاولة تمكين الأقليات لحكم غرب السُّودان، وحكم دارفور بالتحديد." ويستطرد الدكتور آدم قائلاً: "وقد كانت هذه السياسة مصدر خلاف واسع داخل أجهزة الجبهة في دارفور، وانتقل هذا الخلاف إلى مستوى المركز، وشهد طرفاً منه الدكتور حسن عبد الله الترابي، وكانت هذه السياسة يقودها الدكتور على الحاج محمد، وله اعتقاد بأنَّ دارفور ينبغي أن تتفتَّت وأن تضعف القبائل الكبيرة، بل يضعف كل من يأتي من هذه القبائل الكبيرة، وتمكن الأقليات لكي تحكم دارفور (...) ويعتقد بأنَّه لا بد أن يحزم أمره لكي يحدِّد موقفاً من الظلامات التي تأتي من المركز." عليه، عندما تدفَّقت الأموال العربيَّة والإسلاميَّة منذ السبعينيَّات على السُّودان، وبخاصة في الثمانينيَّات حينما اجتاحت السُّودان المجاعة، كانت سياسة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة هي التركيز على عزل دارفور عن الاستفادة من هذه الأموال؛ ولم يُنشأ فرع لبنك فيصل الإسلامي في الفاشر إلا بعد جهدٍ جهيد وصراع مرير. وكانت هناك ثلاثة ملايين دولار مرصودة لإغاثة دارفور تحت اسم "منظَّمة الإغاثة الإفريقيَّة"، حيث لم يصرف على الإقليم إلا قي حدود ثلاثمائة ألف دولار، أما المبالغ المتبقية فكانت توظف لصالح الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، ولتركيز سياستها الاقتصاديَّة. إذ كان الإقليم مصدراً لجلب الأموال من الخارج كي تُوظَّف في مجالات أخرى مختلفة. ثم يؤكِّد الدكتور آدم "أنَّ الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة كانت لديها سياسة مقرة مركزيَّاً بتهميش دارفور، وتفتيت أبناء الإقليم كي لا يتوحَّد صفهم، أو تتَّحد كلمتهم، بل نلاحظ أنَّ الناشطين من أبناء دارفور في الجبهة هم مهمَّشون تماماً منهم نصر الدين محمد عمر، الدكتور أبو سم، التيجاني سراج، أمين بناني، وهم رموز للحركة الإسلاميَّة (الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة) في المركز، إلا أنَّه بعد استلام الجبهة للسلطة تمَّ تهميشهم تماماً." إنَّ عوامل الظلم والتَّهميش لهي الأسباب التي دعت المرحوم داؤود يحيى بولاد للخروج من الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، ويحمل السلاح ضدها كما سنبين لاحقاً؛ وكذلك هو الأمر الذي دفع الدكتور فاروق أحمد آدم وعبد الجبار آدم عبد الكريم أن يستقيلا من الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة العام 1987م، وكانا أعضاء في الجمعيَّة التأسيسيَّة (1986-1989م) باسم الجَّبهة، التي باتت تشكِّل خطراً على بلاد السُّودان عموماً، وعلى إقليم دارفور خصوصاً، وذلك من جراء السياسات التي كانت تنتهجها والمرامي البعيدة التي كانت – وما زالت - تريد أن تقود البلاد والإقليم إليها.(36)

حين تيقَّن داؤود يحيى بولاد من دعم السلطة المركزيَّة للعدوان على قبائل الزرقة – بما فيها الفور، وهي قبيلته – قصد الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان يطلب سنداً ومدداً. إذ تدخَّلت الحركة آنذاك لمصلحة الفور فأرسلت كتيبة من الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في تشرين الأول (أكتوبر) 1991م إلى جنوب دارفور، ووصلت حتى مناطق حفرة النحاس، سنغو، أم دافوق، وأم دخن؛ والتقت قبائل عربيَّة مثل الحمر والتعايشة وبني هلبة وبني حسين والمهيريَّة وأم جلول. كذلك التقت هذه الكتيبة بقبائل الزغاوة والفلاتة، وشرح لهم الجيش الشَّعبي أهداف الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان فاستجابوا، ولم يحصل تصادم معهم برغم من محاولات الحكومة "الإنقاذيَّة" ممثلة حينذاك بوالي دارفور العميد (طبيب) الطيب إبراهيم محمد خير بزرع الفتنة بين القبائل وتحريض العرب ضدهم.. وحصلت صدامات مع القوات المسلحة الحكوميَّة في تلك المناطق. لكن المفاجأة كانت في تدخل ميليشيات قبائل "الجنجويد" بعدما كانت رفضت المشاركة في القتال في بادئ الأمر، وأُطلِق على تلك المليشيات اسم "فرسان العرب".(37) إنَّ الخلفيَّة التأريخيَّة لنزاع دارفور هي الجفاف والتصحُّر الذي أجبر البدو الرحل على البحث عن الماء والكلأ في مناطق جديدة؛ فهناك تنازع حقيقي لمصالح متضاربة، واختار النظام "الإنقاذي" أن يقف مع الرعاة العرب من الناحية العرقيَّة والاقتصادية، وذلك لما تملكها هذه المجموعات العربيَّة من ثروة حيوانيَّة هائلة. وكما شهدنا كيف وقفت الحكومة المركزيَّة إلى جانب الأثنيات العربيَّة في دارفور ضد الأفارقة – أو الزرقة، وبخاصة بعد تحالف هذه القبائل العربيَّة من داخل إقليم دارفور وخارجه ضد الفور العام 1987م، ومن بعد فكَّرت القبائل الإفريقيَّة مليَّاً في حماية أنفسهم وممتلكاتهم وأعراضهم، وهنا نشأت فكرة ميليشيات "البشمرقة" و"التورا بورا" الإفريقيَّة، التي شكَّلت نواة حركة وجيش تحرير السُّودان فيما بعد. هذا، وقد هاجمت ميليشيات "البشمرقة" مدينتي اللعيت جار النبي وطويشة – مسقط رأس والي شمال دارفور، عثمان محمد يوسف كبر، واختطاف الناظر الصَّادق عباس ضو البيت (ناظر عموم قبائل شرق دارفور)، ومدير البنك الزراعي باللعيت، والقاضي المقيم.(38)

هذا فقد أخذ نشاط أهل دارفور طابعاً عسكريَّاً وسياسيَّاً منظَّماً العام 2000م باسم "حركة وجيش تحرير السُّودان" برئاسة المحامي عبد الواحد محمد أحمد النور، الذي تخرَّج في جامعة الخرطوم العام 1995م، واشتغل محامياً بعد تخرُّجه، وأمينها العام مني أركو مناوي، إلا أنَّ الحكومة السُّودانيَّة نعتها ب"حركة تحرير دارفور" لإلصاق الصبغة الجهويَّة أو الإقليميَّة عليها، ووصفها بالانفصاليَّة أو "العنصريَّة" كما يحلو دوماً لحكام الخرطوم نعت الحركات المطلبيَّة لأهل الهامش بهذه النعوت المنكرة. فالسيد مني اسمه بالكامل سليمان أركو مناوي؛ أما قصة تسميته ب"مني"، فإنَّ قبيلة الزغاوة تُكني من يُسمَّى سليمان ب"منا أو مني"، مثلما يقولون ل"عبد الله" دلي، وهكذا. وهو من مواليد مدينة فوراويَّة في شمال غرب مدينة كتم بولاية شمال دارفور العام 1968م، وقد درس المراحل التعليميَّة في مدرسة فوراويَّة الابتدائيَّة، ثم مدرسة كرنوي المتوسطة، ثم التحق بمدرسة الفاشر الثانويَّة، وبعدها عمل مدرساً بمرحلة الأساس لمدة العام (1994-1995م) بمدينة فوراويَّة، وبعدئذٍ غادر إلى دولة تشاد فدرس اللغة الفرنسيَّة لمدة العام (1995-1996م)، ثم التحق بجامعة لاغوس ودرس اللغة الإنكليزيَّة، وبعد تخرجه عمل في مجال الأعمال التجاريَّة الحدوديَّة متنقلاً بين الكاميرون ونيجيريا وليبيا، وأخيراً التحق بالعمل العسكري الميداني العام 2001م.(39) على أيَّة حال، فقد كان أول ما فعلوه - حين ظهورهم وظهور رغباتهم الثوريَّة - أن نفَّذوا عمليات عسكريَّة صغيرة العام 2001م لينتقلوا إلى عمليات أكبر في شباط (فبراير) 2003م، حيث كان الميلاد الحقيقي للحركة، أي عندما استولت على محافظة قولو في جبل مرة لتعلن وجودها السياسي والعسكري. ومن ثمَّ تلتها هزيمة كتائب القوات المسلحة السُّودانيَّة حول جبل مرة، نيالا، مليط، الطينة، وكتم. بيد أنَّ الهجوم الذي قامت به قوات الحركة على مطار الفاشر في نيسان (أبريل) 2003م قد شكَّل منعطفاً خطيراً في عملياتها العسكريَّة، وكانت هذه الإغارة أكبر عمليَّة عسكريَّة تقوم بها قوات الحركة ضد القوات المسلحة السُّودانيَّة، وكانت بمثابة نذير لثمة أشياء قادمة، حيث دمَّروا ست من الطائرات في مطار المدينة، وقُتِل عدد من القوات الحكوميَّة، وجُرِح آخرون وأُسِر البعض الآخر، بما فيهم اللواء بسلاح الطيران إبراهيم البشرى المسيري.

أما "حركة العدل والمساواة" فيرأسها الدكتور خليل إبراهيم محمد، وهو طبيب من قبيلة "الزغاوة"، وهو كان قد تخرَّج في كلية الطب بجامعة الجزيرة العام 1984م، وكان يعمل وزيراً للتعليم في ولاية شمال دارفور حتى استقالته العام 1999م. وقد زامل الكاتب الطالب خليل إبراهيم في جامعة الجزيرة، وكان خليل كادراً نشطاً في "الاتجاه الإسلامي" – وهو اسم الحركة الإسلاميَّة (أو الإخوان المسلمون) في الجامعات والمعاهد العليا حينئذٍ. ثم كان خليل عضواً في اتحاد طلاب جامعة الجزيرة ممثلاً لذلكم التنظيم، ويذكر الكاتب خروج خليل وزمرته الإخوانيَّة في تظاهرة للتأييد والتهليل لقوانين أيلول (سبتمبر) 1983م – أو القوانين "السبتمبريَّة" المسماة بقوانين الشريعة الإسلاميَّة – حيث جابوا شوارع مدينة واد مدني، وبعد عودتهم مع مجموعة من "إخوان المدينة"، وثبوا على الطلاب المستقلين الذين وقفوا في وجهم في الجامعة، وأوسعوهم ضرباً، وكان يتقدَّمهم خليل، حيث كاد أن ينهي حياة أحد زملائي، بعد أن طرحه أرضاَ وأشبعه ضرباً بفرع شجرة اقتطعها من أشجار الجامعة المورقة في الكليَّة الإعداديَّة. وكنا نشاهد هذا، فنكشِّر أنيابنا مستهجنين ساخرين. هذا ما كان من أمر خليل الذي ذكر أنَّه أسس حركته منذ العام 1993م، وأعلنها العام 2003م، أي بعد انتظار دام حقبة كاملة، وبعدما أنفق ريعان شبابه جنديَّاً مستميتاً كل الاستماتة في صفوف الحركة الإسلاميَّة. هؤلاء هم قادة الحركتين المسلَّحتين، اللتين ظهرتا في دارفور، وأضحوا يتحدَّثون عن التَّهميش. فالتَّهميش واقع يعتاشه أهل السُّودان في الأمصار وفي الضواحي أطراف المدائن. وقد أوفى الدكتور حامد البشير مشكل التَّهميش حقه في التفنيد الاجتماعي والتعليل العلمي. إذ كتب دكتورنا الألمعي يقول: "إنَّ التمايز الاجتماعي والبناء الطبقي والتراتبية الاجتماعية في السودان قد أخذت – خلال سنوات الإنقاذ – شكل التلاحم الحميم بين الإثنية والطبقية، أي بين الانتماء الطبقي والانتماء الأثني. وهذا التطابق هو الذي ولد شعوراً كاذباً بالاستعلاء لدى البعض، وربما ولّد غبناً واحتقاناً لدى الطرف الآخر. وفي خلال هذا السياق يمكن فهم العلاقة الجدلية بين التهميش والجريمة، وبالطبع بين التهميش و(العقاب)، والجريمة في المحصلة النهائية هي نتاج لخيار يائس يختاره اليائسون، الذين حرموا من التعليم، ومن الزرع، ومن الضرع، ومن الاندماج الثقافي والاقتصادي (Empowerment)، ومن انعدام الخيارات ومن غياب آليات الرفع والدعم الاجتماعي والاستقواء، وحرموا أيضاً حتى من فرص اندماجهم مع ذواتهم المقهورة، وذلك من خلال تغييب آليات تحقيق الذات (Self-realisation). إذن الجريمة التي تعج بمرتكباتها السجون من صانعات الخمور البلدية ومن ضحايا السرقات الصغيرة ومن الأطفال المشردين هي كلها تمظهرات للفقر (الأثني) والذي أضحى بدوره أول نتائج للتهميش والإقصاء لهذه الكيانات الأثنية والجهوية التي ظلت تعيش لعقود من الزمن تحت خط الفقر ودون الوصول إلى الخدمات الضرورية، التي تعين على الترقي والنمو الاجتماعي داخل تراتبية المجتمع، وأصبح حال هذه المجموعات أشبه بحال الذي تعطل نموه وتوقف. وقد أصبح الفقر هو الشيء الوحيد الذي تتوارثه الأسرة عبر أجيال وبالطبع للأنثى مثل حظ الذكرين، وبخاصة أنَّ الفقر الحضري أصبح أهم ما يميزه هو التأنيث في ظل استشراء الطلاق للإعسار والترمل بسبب الحروب والتيتم (femininisation of poverty) بموت الأب والأم والابن العائل أحياناً، وكذلك أصبح الفقر الحضري يتميز ببروز ظاهرة التأثين (Ethnicisation of poverty). حيث أن المجموع الأكبر والتمثيل الأكبر وسط شريحة الفقراء هم الأثنيات من الأقاليم الهامشية الذين ألقت بهم أقدارهم في الأحياء الطرفية العشوائية في تركيبة المدينة الكبرى في السودان، إنها أحياء أشبه بأحياء سويتو، وفي واقع سياسي قابض أصبح أشبه بحالة الأبارتهيد الذي كان يديره ديكليرك في جنوب إفريقيا في تلك الأيام الكالحات." ثم يمضي الدكتور حامد يتساءل موضوعيَّاً: ما هو الحل؟ ويرد على تساؤله على الناس "إنَّ الحل حتماً ليس في معالجة التمظهرات للتهميش وما أفرزه من تمييز واضح في بنية المجتمع وفي الفرص المتاحة لأفراده .. إنَّ العلاج الناجع المفضي إلى التوحد والوئام الاجتماعي ليكمن في معالجة الأسباب الجذرية لهذا الإقصاء ولنتائجه من خلال توزيع عادل لفرص التعليم والصحة وبرامج محاربة الفقر وتحقيق الاستقواء الاجتماعي والاقتصادي، وكل ذلك يتم من خلال برامج طموحة لتعيد لهؤلاء المهمَّشين كينونتهم وذاتيتهم، وترد لهم اعتبارهم المفقود، وفوق ذلك نعيد دمجهم في المجتمع من خلال ترتيبات إصلاحية وإدارية، مثل التمييز الإيجابي وإتباع نظام الكوتا (Affirmative Action or Positive Discrimination) والتخصيص حتى تتحقق المساواة المفقودة في المجتمع."(40)

هذا هو التَّهميش بكل أنماطه، والذي يذهب البعض في سبيل البحث عن مسبِّباته إلى إرجاعه لظروف زمانيَّة ومكانيَّة، واستظهار الاستعمار، واستبعاد العامل البشري المتحكِّم في شمال السُّودان من أيَّة مسؤوليَّة تجاه ذلك. ففي عمودها اليومي "صدى" في صحيفة "الصحافة" الخرطوميَّة، كتبت الأستاذة آمال عباس عن "اختلال ميزان السلطة والثروة في السُّودان"، فقد كتبت – فيما كتبت - تقول: "في الأصل الحقيقة غير ذلك تماماً (...)". ف"مشاكل أقاليم السُّودان التي تبدو وكأنَّها تغول وظلم يوقعه أهل الشمال على البقية، بينما الحقيقة (...) ترجع لظروف تأريخيَّة، وسياسيَّة، واقتصاديَّة (...) لا لأهل الشمال فيها يد على باقي الأقاليم." ومضت آمال تقول: "فقضية التنمية والهُويَّة تدافعت إلى تشكيلها عوامل تأريخيَّة واقتصاديَّة وعرقيَّة وجغرافيَّة من أزمان سحيقة"، وخلقت "واقع مكوناتنا التأريخيَّة والعرقيَّة والمعتقديَّة والثقافيَّة".(41) بيد أنَّ الأستاذة آمال تناست أن تذكر العناصر التي تصنع التأريخ وتساهم في حركة الثقافة والتنمية والاقتصاد وغيرها سواء في السُّودان خصوصاً أم في العالم عموماً. أفلم يكن للبشر يد في هذه الحركة؟! وفي حال السُّودان ألم يكن لأهل الشمال وصفوتهم الحاكمة دوراً رئيساً في هذه الحركة العرقيَّة والتنمويَّة والتأريخيَّة وغيرها قبل وبعد استقلال السُّودان العام 1956م؟! إنَّ طبيعة المشكلات والتناقضات التي تطوَّرت من بعد في دارفور – خصوصاً حيال العشرين سنة الأخيرة – قد تمَّ نسيانها، ذلك لأنَّ تحليل المشكل السياسي السُّوداني ظل مقتصراً إما على المناطق الأساسيَّة للشمال أو طبيعة العلاقة بين الشمال والجنوب. إنَّ دارفور – مثل بقية المناطق المهمَّشة الأخرى (البجة، ومعظم إقليم النيل الأزرق وجبال النُّوبة) – لم تلق إلا النذر اليسير من الاهتمام. ففي كتابه "دارفور.. الحالة المبهمة للإبادة" يشير المؤلف جيرارد برونيه إلى التجاهل الإداري والتنموي في ظل الحكومات الاستعماريَّة والوطنيَّة، إذ "كانت كلها متجاهلة للإقليم". ثم يعطي أمثلة قائلاً: "إنَّه في العام 1935م كان في دارفور كلها 4 مدارس ابتدائيَّة حكوميَّة فقط، وفي العام 1929م لم يكن بين طلاب كليَّة غردون التذكاريَّة (جامعة الخرطوم لاحقاً) – وعددهم آنذاك 510 (خمسمائة وعشرة طلاب) لم يكن بينهم طالب واحد من دارفور، بينما حظيت الخرطوم وحدها ب311 طالباً. وحتى مطلع الخمسينيَّات فإنَّ من بين ثماني عشرة مستشفى للولادة في السُّودان لم يكن نصيب دارفور منها شيء البتة."(42) كذلك "يضرب المؤلف مثلاً أنَّه في العام 1952م كان في دارفور مدرسة حكوميَّة متوسطة واحدة من جملة 23 مدرسة متوسطة في السُّودان (...) (و) بنهاية فترة الحكم الثنائي فإنَّ 56% من المشروعات الاستثماريَّة ظلَّت في الخرطوم وكسلا والشماليَّة يقابلها 17% فقط لكل من دارفور وكردفان (...) (و) إنَّ هذا التفاوت الكبير في توزيع العائدات والخدمات ليبدو فادحاً حين يعلم المرء أنَّ الجزء المستفيد بالقسط الأكبر وقتذاك كانت كثافته السكانيَّة 2,5 مليون (مليونان ونصف المليون)، بينما كان سكان كردفان ودارفور آنذاك 3 ملايين نسمة".(43) وتحت إشراف الدكتور علي حسن تاج الدين تمَّ إحصاء لعدد مواقع وكيل وزارة، وكانت النتيجة على مستوى الخرطوم 350 وظيفة، بينما أربع وظائف يحتلها أبناء دارفور بالتحديد. أما على مستوى السفراء فأول مرة يتم فيها تعيين سفير من دارفور كان العام 1992م، وهو الدكتور التيجاني صالح فضيل. فلم يكن من باب الصدف، إذن، إن أحصى كاتبو الكتاب الأسود التعيينات الدستوريَّة في السلطة التنفيذيَّة والتشريعيَّة والقضائيَّة والديبلوماسيَّة والإعلاميَّة وهلمجراً، وكيف استحوذت أقاليم بعينها وأثنيات معينَّة بنصيب الأسد، وذلك عشيَّة الاستقلال حتى اليوم. ثمَّ فصَّل الكتاب صوراً من اختلال الميزان في تقسيم الثَّروة القوميَّة في البلاد.(44) ومن هنا ندرك أنَّ العصيان العسكري في إقليم دارفور قد جاء نتيجة أحداث مريرة استوجبت الثورة وحتَّمت قيامها، ولم يكن مجرَّد تمرُّد مفاجئ، أو عدوان مدبَّر بدون أسباب.

ومثلما ركَّزت حركة وجيش تحرير السُّودان على النِّضال المسلَّح، اهتمَّت كذلك بالعمل التنظيمي والبناء السياسي. ففي المؤتمر التأسيسي للحركة، الذي عُقِد بحسكنيتة بولاية جنوب دارفور خلال الفترة من 28 تشرين الأول (أكتوبر) – 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005م، أُجيز النظام الأساس للحركة ودستورها الذي قنَّن اختصاصاتها وهياكلها الإداريَّة بصورة واضحة، واُنتخب السيد مني أركو مناوي رئيساً لها بدلاً من الأستاذ عبد الواحد محمد أحمد النور الذي قاطع المؤتمر. كما اُنتخب نائباً للرئيس وأميناً عاماً للحركة، واُنتخب كذلك مجلساً ثورياً للحركة هو بمثابة البرلمان واُنتخب رئيساً له، واحتوى الهيكل الإداري للحركة على ثماني عشرة أمانة متخصصة، تم ملؤها بشخصيات ذات تأهيل وكفاءة عالية مع تحديد الاختصاصات بدقة لكل مستوى من المستويات الإداريَّة والشخصيات التي تشغله.

ومع ذلك لم تنج الحركة من الآفات التي تصيب الحركات التحرُّريَّة أو التحريريَّة في أي مكان وزمان. إذ إنَّ أكبر المشكلات التي تعصف دوماً بالحركات التحرُّريَّة أو التحريريَّة – التحرُّريَّة من جميع الأطر والقيود الرجعيَّة الاستعماريَّة أو الإمبرياليَّة، والتحريريَّة من التحرير السياسي والاجتماعي والهيمنة الثقافيَّة الظاهر في استقلال كل دولة على حدة داخل حدودها الوطنيَّة الملغومة - هي التشظي إلى حركات متناثرة، إمَّا لتتباعد نهائيَّاً وتبدأ في انشغالها بمحاربة أو معاداة بعضها بعضاً بدلاً من العدو المشترك، أو لتعيد صياغة نفسها وتكوِّن تحالفات جديدة مع إقصاء البعض الآخر من هذه المعادلة الجديدة. ويلعب العامل القبلي، وحب السُّلطة، والوقوع فريسة للإغراء المالي والخديعة السياسيَّة من عدو الأمس، والجهل أحياناً بقوانين اللعبة السياسيَّة تلعب كافة هذه العوامل وغيرها دوراً رائساً في هذه الانشطارت. وحال الحركات المسلَّحة في السُّودان ليست باستثناء فسواء في حال الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان أو الحركات المسلَّحة في شرق السُّودان في الأمس القريب، أو حركتي تحرير وجيش السُّودان أو العدل والمساواة في دارفور. إذ نضرب مثلاً على ما نقول إنَّه في يوم الجمعة 20 كانون الثاني (يناير) 2006م تمَّ بالعاصمة التشاديَّة – إنجمينا – توقيع تحالف سياسي وعسكري بين حركة وجيش تحرير السُّودان برئاسة مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة بزعامة الدكتور خليل إبراهيم محمد، والقائد خميس عبد الله أبكر وحركة وجيش تحرير السُّودان (جناح عبد الواحد محمد أحمد النور) تحت مسمى "تحالف القوى الثوريَّة لغرب السُّودان". لكن هذا التحالف الوقتي لم يدم طويلاً، فسرعان ما مضت كل حركة إلى سبيلها، بل تقسَّمت أشلاءاً – كما سنرى لاحقاً. أيَّا كان من الأمر، فقد ظهرت حركتا تحرير السُّودان والعدل والمساواة في وقت ساعدتهم الظروف العالميَّة لإبراز قضيَّة دارفور في الإطار الإقليمي والمجتمع الدولي، وكان للإعلام العالمي والأمم المتحدة ونشاطات منظمات حقوق الإنسان دوراً مشهوداً على تنوير الرأي العام العالمي بالتجاوزات الفظة لحقوق الإنسان في دارفور. وقد امتازت حركة العدل والمساواة بإمكانيات مادية هائلة أمكنتهم من تمويل حركتهم والمشاركة في المنتديات الإقليمية والدوليَّة لإعلام العالم بمشكل دارفور، إلا أنَّ تشدُّدهم العقائدي وضبابيَّة رؤيتهم حول مسألة الدين والدَّولة – وربما لأسباب أخرى – قد باعدتهم من حركة وجيش تحرير السُّودان، برغم من تعاونها معها في القضايا الجوهريَّة حول تقسيم السُّلطة والثروة وخصوصيَّة إقليم دارفور. وتدعو الحركات المسلحة في دارفور إلى مواجهة جذور الصِّراع السياسي في دارفور، والقضايا الدستوريَّة مثل نظام الحكم، وحقوق الإنسان، وفصل المسائل الدينيَّة عن الأمور السياسيَّة، والتنمية الاقتصاديَّة العادلة للمناطق المهمَّشة. وهكذا نجد أنَّ الحركات المسلَّحة الحالية في دارفور قد تطوَّرت من المقاومة الطبيعيَّة المستمرة ضد التَّهميش المتعمِّد والتجاهل المقصود للإقليم إلى مرحلة إشهار السِّلاح. وإذا كان هناك من ثمة شيء فعلينا أن ندرك أهميَّة فصل الدين عن الدَّولة، لأنَّ رواة التأريخ الإسلامي الحديث وأهل السيرة يُحدِّثوننا أنَّ الدولة الكهنوتيَّة قد فُهِمت فهماً نفعيَّاً، ومن ثَمَّ عملت بما فهمت. أي أنَّها عملت في ظل الثنائيَّة الموحدة – الدِّين والدَّولة – فسارت بعكاز واحد، واتَّخذت من الكهنوت عكازاً غليظاً، فعبثت ولهت وحوَّلت الرِّسالة الدينيَّة – بشهادة وقائعها وتطبيقاتها – إلى رسالة منفعيَّة ذرائعيَّة تستهدف بناء الفرد، لا بناء الفكرة، ودعم العشيرة لا دعم الإنسانيَّة، وكانت هي الحال في سودان "المشروع الحضاري".

Post: #11
Title: Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.
Author: Khalid Kodi
Date: 03-05-2008, 06:48 AM
Parent: #10

والمشروع الحضاري "الإنقاذي" – مثلما هي الحال في بعض المشاريع الحضاريَّة الزائفة – قد قام بدون مُثل إنسانيَّة. وقد بُني هذا المشروع من هذا النوع على امتصاص خيرات الريف لصالح جمهوريَّة المدن الثلاثة (الخرطوم، الخرطوم بحري وأم درمان)، واعتصر جهد الغالبيَّة لصالح فئة محدودة. ومن ثَمَّ نشأ – وما زال ينشأ – نتيجة لذلك، عالمان من البشر في إطار حضارة مزعومة: عالم يتمتَّع بكل الخيرات، وعالم يتجرَّع كل الموجعات؛ أي – وبأسلوب آخر – فئة محدودة تتمتَّع بالمغانم، بينما يحظو الرِّيفيُّون بالمغارم. إنَّها لحضارة متناقضة خالية من العدل والمساواة، بحيث يمكن وصفها بأنَّها حضارة مدن لا حضارة شعوب، حضارة طبقة لا حضارة أمة. إنَّها لحضارة حاصرة ومحصورة، وبطبيعة تركيبة مصالح أفرادها، تحتكر الخيرات كلها للأقليَّة، بينما توزِّع البؤس على الأكثريَّة. فكيف يمكن لهؤلاء القادة أن يحملوا رسالة إسلاميَّة عادلة، وهم يظلمون المسلمين أنفسهم. وفي الحق لقد اختفت الرسالة وبزغت الجباية، وتلك هي الحقيقة الفادحة. وعلى أساس هذه القسمة الضيزى ظهر الرفاه على النخبة الحاكمة، وظهر الجوع والفقر على المواطنين المسحوقين، بحيث أنَّه جعل من السُّودان منجماً ماليَّاً يوفِّر النماء للمدن الثلاثة، والترف لأولي الحكم، والجدب للريف حتى تركه هشيماً. وقد صدق الدكتور حيدر إبراهيم علي في أعظم ما يكون الصِّدق حينما شرع يجادل بفشل هذا المشروع الحضاري "الإنقاذي" – ولئلا نقول الإسلامي.

إزاء هذا الوضع السياسي برز ثلة من الإسلاميين الذين ظنوا في الحركة الإسلاميَّة خير الظنون، واستماتوا في سبيلها، ظناً منهم أنَّها الحق، ولكن حين تبيَّن لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود – وذلك حين استدركوا أنَّها حركة عنصريَّة آثمة كل الإثم، وتستهدفهم في أهليهم – هجروها هجراً مليَّاً، وقلبوا لها ظهر المجن، وتمرَّدوا عليها، وشهروا ضدها السِّلاح. وكان السيِّد داؤود يحيى بولاد والدكتور خليل إبراهيم محمد من هؤلاء السَّاخطين على الحركة الإسلاميَّة من إقليم دارفور. ثمَّ هناك ثلة أخرى ممن بدأوا يتضجَّرون من مسالك الحركة الإسلاميَّة وطرائقها في إدارة البلاد والعباد، وأخذوا يجاهرون بانتقادها في وسائل الإعلام المتاحة لهم، وكان من هؤلاء الدكتور عبد الوهاب الأفندي والدكتور الطيِّب زين العابدين. فقد انعقد مجلس الشوري القومي للحركة الإسلاميَّة السُّودانيَّة في يومي 22 و23 كانون الأول (ديسمبر) 2005م، ولم يخرج البيان – الذي نُشِر في صحيفة "الرأي العام" في 27 كانون الأول (ديسمبر) 2005م، وفي صحيفة "الأيام" في يوم 28 كانون الأول (ديسمبر) 2005م – بشيء ذي أهميَّة للوطن سوى نعي الأخوة أبو القاسم الكاشاني وعمر الشيخ محمد صالح وحسن الشيخ محمد خير. فبرغم من أنَّ الاجتماع "استمر ليومين وشرَّفته قيادة الدولة التنفيذيَّة والتشريعيَّة وحاشيتهم، لم يتحدَّث الاجتماع عن حجم الفقر الذي استشرى في البلاد، ولا عن الفساد المالي والأخلاقي الذي يزكم الأنوف ويشوِّه التجربة الإسلاميَّة (...) ولا عن التطرُّف الديني، وممارسة العنف". هذا ما وصفه الدكتور الطيب زين العابدين ب"الحركة الإسلاميَّة وخداع النفس".(45) كما – والإضافة من عندنا - أنَّها لم تأت بأيَّة رؤية، عاجلة أو آجلة، لحل مأساة إقليم دارفور، ولا عن أهالي الإقليم والغارات الغاشمة التي تفاجئهم وتفجعهم، وهم يصطلون بنار حرب ضروس. كل ما بدأ يهتم به الإسلاميُّون هو تغيير الأسماء في سبيل جهودهم لتغيير هويَّة السُّودان. ففي الرسالة التالية – برغم من طابعها الشخصي – إلا أنَّها "تحمل الطابع الرَّسمي لرئاسة الإقليم الأوسط، تشير إلى ضلوع شخصيات منظَّمة الدَّعوة الإسلاميَّة في هذا المخطط الإجرامي". فالحركة الإسلاميَّة لا تكاد تفرِّق بين النشاط السياسي والمصالح الحزبيَّة والدعوة الدِّينيَّة والعمل الخيري؛ وأساليبها في الحياة العامة توضِّح ذلك بصورة فاضحة، "وهي تعبِّر عن استباحة الإسلاميين لمكاتب وأجهزة الدولة المختلفة لتنفيذ أهدافهم." وفي هذه الرسالة يتَّضح اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً دور الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، وسلطة "الإنقاذ"، ومسؤوليتها عما يحدث في دارفور. فماذا جاءت به الرسالة؟