عن التأويل/ لقصي مجدي سليم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-30-2024, 00:27 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-09-2004, 03:26 AM

مأمون التلب
<aمأمون التلب
تاريخ التسجيل: 11-28-2004
مجموع المشاركات: 322

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم (Re: مأمون التلب)


    • التفسير بين التخيير والتسيير.
    تعتبر مشكلة التخيير والتسيير من المشاكل الاولى التي طرأت على الفكر الاسلامي بعد فترة ما يسمى بالفتنة الكبرى. وكان لإعتزال واصل بن عطاء الله للحسن البصري أكبر دور في تفجير هذه المشكلة.
    من الواضح تماما أن نصوص القرآن تمتلئ بتسيير الانسان، كما توجد إشارات أخرى لتخييره. ولقد بنى المعتزلة موقفهم ضد التسيير على فكرة العدل الالهي التي هي أحد اهم الاصول الخمسة للمعتزلة.
    والعدل الالهي يتطلب أن الله لا يجبر عبدا على فعل ما ثم يحاسبه عليه. وهذه الفكرة، (مع الاربع الباقيات)، كانت بمثابة نظرية عامة للمعتزلة في النظر الى كافة النصوص القرآنية وكذلك النصوص النبوية.. ولأن المعتزلة أصحاب نظرية في النص لهذا نجد أن تأويل المعتزلة كان ـ بلا شك ـ أكثر ترابطا من تفسير أهل السنة.
    ولكنه ـ في ذات الوقت ـ وبناء على النص نفسه ـ كان متهافتا بالمقارنة مع تأويل فلاسفة المتصوفة الذين يعتمدون على نظرية مغايرة ومختلفة تماما مع نظرية المعتزلة.
    فنظرة التخيير المطلقة جعلت المعتزلة في مطب حاولوا الفكاك منه بشتى الطرق والوسائل، حتى انهم عمدوا الى تغيير دلالة النص الظاهرة شكلا لعدم تمكنهم من تأويل بعض النصوص وفق نظريتهم. ولقد قاموا بانكار النصوص النبوية التي لا تتماشى مع فلسفتهم في التاويل ... وهذا بلا شك عجز عن التاويل. ففي المثال الاول قاموا بتغيير سورة الفلق عند قول القران :
    {قل أعوذ برب الفلق* من شرِ ما خلق} الى (من شرٍ ما خلق). وبوضع تنوين على كلمة (شر) أصبحت (ما) هنا نافية، وهذا بخلاف إجماع أهل القرآن في هذا النص13. ولم يتم هذا التغيير على أساس مرجعي أو نقلي، وإنما قام على أساس النظرية العامة التي ترفض خلق الله للشر وأنه حادث من صنع الانسان ... ولو تابعنا هذه الفكرة لوجدناها أشبه بفكرة تعدد الالهة التي كانت عند الاغريق فهناك اله للخير وآخر للشر وثالث للحب الخ.. ولو واصل المعتزلة على هذا المنوال لإحتاجوا لتغيير 20% من آيات القرآن ومن الاحاديث النبوية كلها تقول بخلق الله للشر، ولأفعال الناس جميعها.
    وفي المثال الثاني فلقد رفض المعتزلة كل الاحاديث التي تدعم فكرة التسيير، لا طعنا في رواتها، ولا في أسانيدها، بل طعنا في بنيتها ـ أي المتن ـ إذ لا يتماشى أيضا والنظرية العامة لهم .
    ورغم أننا نقر أن الحديث لا يثبت خطأه من صحته لمجرد قوة السند فقط. الا اننا نؤكد ان الحديث صحيح الرواية لا يمكن تجاهله لمجرد عدم اتفاقه مع نظريتنا العامة في الدين، وكذلك لا يمكن أن نفعل بالحديث ضعيف الرواية. بل ان الحديث ضعيف الرواية يظل من المقبول الاخذ به اذا اتفق والنظرية العامة ولكن العكس ليس صحيح. أي لا يصح دفعه لمجرد خلافه مع النظرية العامة.
    لأن النظرية العامة (للمسلم) مبنية في الاساس على النص، والايمان به، فالنص هنا هو نص (مؤمن) به سلفا، ووفق مجموع النصوص تتشكل النظرية العامة.
    فاذا جاز الاتفاق ان النصوص النبوية قابلة للاخذ والرد وفق سندها فان النصوص القرآنية غير قابلة لذلك. فكيف إذن يتم التحايل على النص ليماشي نظرية تختلف تماما وذلك النص!!!!!!!!.
    يقول النص القرآني :{الله خالق كل شئ}14 (وكل) هنا لا تحتمل التحايل على النص، لا دلالة، ولا تفسيرا.. فهي تعني (كل) بلا إستثناء من أصغر وحدة بناء في المادة الى أكبر عنصر تم إكتشافه مرورا بالانسان، وشكله، ومشاعره، وافعاله...الخ...
    ولكن أسوأ ما وقع فيه المعتزلة هو نزولهم بعلياء التأويل الى درك الدلالة. فالتأويل عندهم يبدأ بالدلالة نفسها ـ تأويلا، والا ما عمدوا لتغيير آية (الفلق) المذكورة. وهذا يكشف عيبا في نظريتهم الكلية اذ هي معارضة للنص القرآني وبالتالي فالحل يكمن في تغيير ذلك النص. وهو نفسه ـ لو تذكرنا ـ عيب المفسر ولكن بصورة معكوسة، فالمفسر يقوم:
    *بتطويع اللغة للنص.
    والمعتزلة يقومون:
    *بتطويع النص للنظرية.
    هذا ما كان في شأن المعتزلة وتأويلهم، أما أهل السنة ومن يدعي الانتماء اليهم مثل (ابن كثير ،وابن قيم الجوزية، وابن تيمية...) فهم لايرحبون بالتأويل... ولقد رفضه الصغاني في كتابه( ترجيح اساليب القران على اساليب اليونان) وابن تيمية في كتابه(درء تعارض العقل والنقل) وكذلك السيوطي15 ولكن الجرجاني يوافق عليه بشرط ان يكون موافقا للكتاب والسنة16. وعلى العموم فإن أهل السنة وان كانوا لا يرحبون بالتأويل كقاعدة عامة لهم الا انهم قد مارسوا التأويل فعلا ومثال لذلك الاية التي أولها ابن عباس وذكرناها في المقدمة وهي معتمدة بهذا التأويل عند ابن كثير والقرطبي. كما أن هناك تفسيرا لمحمد بن جريري الطبري عنوانه(جامع البيان في تأويل آي القرآن) ورغم ان الكتاب لا يحتوي على تأويل، بذاك المفهوم الذي أوردناه، للتأويل إلا ان اعتماد التأويل في حد ذاته من الطبري يعد إعترافا به رغم إختلاف المفاهيم.
    واما تفاسير اهل السنة وتأويلاتهم فهي لا تخدم قضية التسيير والتخيير كثيرا اذ ظل موقفهم منها ـ ومن كثير من القضايا ـ موقف المراقب من بعد، ويتدخل في بعض الاحايين على إستحياء. ولعلنا نذكر أن سبب إعتزال (واصل) للـ(بصري) كان في الاساس لعدم تكلم الآخير في مرتكب الكبيرة أهو كافر أم مؤمن. لهذا نجدهم تارة مع التسيير اذا خالفوا المعتزلة، وأخرى مع التخيير إذا خالفوا الجبرية17، ولكن يغلب عليهم التسيير في كثير من الاحيان. ولقد ألف الغزالي (المتصوف السني )كتابا أسماه (الاقتصاد في الاعتقاد) ينادي فيه بالكف عن الكلام في هذه القضية، ولعل النظرية العامة لأهل السنة هي ما أجمله الغزالي في كتابه هذا... ولكنه إتفاقا لا يقوم بين اهل السنة والتصوف السني لأنهم وإن كان عدائهم للتصوف السني أقل من عدائهم لفلاسفة المتصوفة الا انه عداء قائم.. ولن ينفك تعارضهم لأن كلا المنطلقين مختلفين ... فالغزالي صاحب (الاقتصاد في الاعتقاد) وبعد تركه للفقه وتوجهه للتصوف إنصرف الى تأليف الكتب التي تعين السالك في طريق التصوف مثل ما اشتهر به(احياء علوم الدين) وكل ما ورد في تلك الكتب كان يصدر عن شخص (يسلك) صغار المريدين وهي لا تنتمي بالطبع لكتب الفقه والتفسير والتي هي في الاساس إبراز وجهات نظر وتنظيم لحياة الناس ومرافقهم. لهذا فان ما أجمله الغزالي في (الاقتصاد) وهي بمثابة نظرية عامة لاهل السنة، لا يفيد كثيرا تناوله في هذا الموضع اذ ليس هنا محله. فنحن لا نبحث في الاعتقاد ومشاكله، وانما همنا في الاساس البحث عن مشاكل التأويل في النص القرآني، وليس اهل السنة بمعين كبير في هذه القضية، إذ يبنون نظريتهم على الإيمان فقط، ولا ننسى قول من يدعي الانتماء اليهم في العصر الحديث تطبيق القرآن الكريم والسنة وفق فهم السلف الصالح)!!!.
    ولعل الشريك الاساسي الذي يقتسم الموقف مع المعتزلة هم فلاسفة المتصوفة. فإن كان أهل السنة والمتصوفة السنيين يحجمون عن الكلام فإن فلاسفة المتصوفة لا يحجمون عن ذلك، بل يتوسعون في القول، والكشف، حتى بنوا نظرية موازية تماما لنظرية المعتزلة. ورغم أن المتصوفة هم الأقرب لأهل السنة من المعتزلة الا انهم ظلوا محل حرب الفقهاء المتواصل. بل وصل الامر بهم الى التآمر مع الخلفاء لقتلهم ، كما فعلوا بالسهروردي إذ دفعوا (الناصر الايوبي) الى قتله في قضية هي من المضحكات18.
    وكما تآمروا على محي الدين بن عربي في مصر وحاولوا قتله لولا أن ساعده الشيخ (البجائي) على الهرب19. وكما فعلوا بالحلاج المشهور فعلوا ايضا نفس الشئ مع عبد الحق بن سبعين إذ دسوا له السم بتحريض من (الملك المظفر) ملك اليمن20. والتاريخ مليئ بعداء الفقهاء للمتصوفة القدماء والمحدثين إبتداء من (الجنيد شيخ الطائفة الصوفية) و (الشبلي) و (الغزالي) نفسه الذي لم يسلم من الأذى حيا وبعد إنتقاله .. مرورا بـ(الجيلاني) و(الرفاعي) و(البدوي) و(الدسوقي) وهم عند الصوفية يدعون بالأقطاب الاربعة.. وصولا (للتجاني، والسكندري، وابوالعباس المرسي، وابن ابي جمرة).. وحتى عصرنا الحالي وهذا سيأتي في موضعه ..(وعلى المهتمين مراجعة ذلك في مواضعه مثل كتاب الطبقات الكبرى).
    ولعل السبب الاساسي الذي يخلق هذا العداء بين الفقهاء والمتصوفة (سنيين وفلاسفة) هو مقدرة الصوفية على التأويل بطريقة مترابطة هي أكثر إقناعا وجذبا للناس من غيرهم ... وهناك سبب آخر هو التأويل نفسه دون حاجة لترابطه أو إقناعه، ولهذا السبب كان حظ المعتزلة من التعذيب لا يغفل رغم أنه كان أقل من المتصوفة، وهذا رغم ان التصوف بشكله المتكامل قد ظهر بعد الاعتزال بمدة طويلة.
    والنظرية العامة للصوفية وهي أن{الله خالق كل شئ} بلا إستثناء، يكثر ذكرها في أثرهم وكتبهم بطرق مستورة تارة وأخرى واضحة لا تقبل الشك..جاء في كتاب أخبار الحلاج أن (عبد الله بن طاهر الأزدي قال: كنت أخاصم يهوديا في سوق بغداد. وجرى على لفظي أن قلت له ياكلب. فمر بي الحسين بن منصور ونظر الي شزرا وقال: لا تنبح كلبك. وذهب سريعا، فلما فرغت من المخاصمة قصدته فدخلت عليه فأعرض عني بوجهه، فاعتذرت إليه فرضى ثم قال: يا بني الأديان كلها لله عز وجل، شغل بكل دين طائفة لا إختيارا فيهم بل إختيارا عليهم، فمن لام أحدا ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنه أختار ذلك لنفسه، وهذا مذهب القدريةـ والقدرية مجوس هذه الأمةـ وأعلم أن اليهودية والنصرانية والاسلام وغير ذلك من الاديان هي ألقاب مختلفة وأسام متغايرة، والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف...)21. ولقد قال ابن عربي شعرا مثل هذا المعنى سيذكر في هذا الفصل من الورقة (انظر ص24).
    ويقول ابن عربي:[فاعلم أن العبد تارة يقيمه الحق في معصيته، وتارة يقيمه في طاعته] ثم أنشد في هذا المعنى:
    ( اذا عصى الله قد وفى حقيقته
    وان اطاع فقـ د وفى طريقته)22

    • عودة للنص القرآني {وإن تصبهم حسنة ...الخ}
    ان هذا النص وفق نظرية المتصوفة يصير قابلا للحياة مرة أخرى، فهم يقرون في البداية أن الله خالق كل شئ أي أن (كل من عند الله) فالخير والشر والحسنة والسيئة كلها من عند الله فالتفسير الذي هو قاعدة التأويل لا يتهرب من توضيح المقصود من دلالة الايات والالتفاف على اللغة(كما رأينا في مثال اهل السنة) فالسيئة هي السيئة لا مبرر لتحويل دلالتها وصرفها عن موضعها الظاهر وهي من عند الله، لا متصرف معه أحد. ثم أن هذه السيئة التي هي من عند الله كان لها سبب(وهو أيضا من الله) وهذا السبب ليس فرضا لحدوثها لان الخالق لا يتعلق فعله بالاسباب ـ ضرورة ـ وإن تعلق. فأنت عندما تعصي الله يكون هذا سببا للبلاء أي السيئة بالسيئة ... ولكن مايفك التعارض في قوله {كل من عند الله} هو أنك لا ترتكب السيئة الا بإرادة الله وأمره. فالكفر بالله سيئة وهي مصيبة مقدرة من الله تقوم بها أنت، فلولا الكافر ما كان كفر... والأيمان بالله حسنة وهو مقدر عليك وهو قائم بلا حاجة للإنسان ـ هذا في الشريعة، وإن كانت هناك حاجة للإنسان في الحقيقةـ لأن غاية الايمان هي التوحيد، والله غني عن توحيد الإنسان له إذ وحّد ذاته بذاته في قوله:{شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}23.
    قال ابن عربي:
    ({وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله} إلى آخره..أثبت أنهم قدريون، يضيفون الخيرات الى الله، والشرور الى الناس، يتشبهون بالمجوس في إثبات مؤثرين مستقلين في الوجود، وإضافتهم الشرور الى الرسول ـ لا الى أنفسهم ـ كانت لأنه باعثهم ومحرضهم على ما يلقون بسببه الشر عندهم. فأمر الرسول بدعوتهم الى [توحيد الأفعال] ونفي التأثير عن الأغيار، والإقرار بكونه فاعل الخير والشر بقوله:{ قل كل من عند الله، فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا}لإحتجابهم بصفات النفوس وإرتجاج آذان قلوبهم التي هي أوعية السماع والوعي. ثم بين ان الله فضلا وعدلا فالخيرات والكمالات كلها من فضله، والشرور من عدله ـ أي يقدرها علينا ويفعلها بنا لإستعداد وإستحقاق فينا يقتضي ذلك. وذلك الاستحقاق انما يحدث من ظهور النفس بصفاتها وإرتكابها المعاصي والذنوب الموجبة للعقاب، لا بفعل آخر ـ كما نسبوا ما أصابهم من الشر الى الرسول ـ لأن الاستحقاق مرتب على الإستعداد .... فكذبهم وخطأهم في قدريتهم بإثبات أن السبب الفاعلي للخير والشر ليس الا الله وحده بمقتضى فضله وعدله. وأما السبب القابلي فهو وان كان ايضا منه في الحقيقة الا ان قابلية الخير هو من الاستعداد الاصلي الذي هو من الفيض الاقدس الذي لا مدخل لفعلنا واختيارنا فيه وقابلية الشر من الاستعداد الحادث بسبب ظهور النفس بالصفات والافعال الحاجبة للقلب، حتى إحتاج للصقل بالرزايا والبلايا لا من قبل الرسول او غيره)24.
    وأول ما نلحظه في هذا التأويل هو المقدرة الفائقة على ربط النظرية العامة بالآية. فما تخلى ابن عربي عن نظريته رغم إختلاف ظاهر النص معها، كما انه لم يعمد الى تغيير النص لكي يوائم تلك النظرية، وأيضا لم يقم بشرح لغوي بعيد عن دلالات المفردات الظاهرة.
    لقد قام وبصورة بارعة بدمج تأويله مباشرة مع النص مستخدما نظريته كمنهج عتيد لا يتغير، فكانت النتيجة هذه الكلمات المترابطة التي ـ إن إختلفنا أو إتفقنا معهاـ لا نستطيع أن ننكر أنها لم تضحي بالنص أمام معبد النظرية، كما أنها لم تتخلى عن النظرية لصالح ظاهر النص. هذا عكس ما يفعله المعتزلة وخلافا لتفاسير أهل السنة.
    وبصورة مقتضبة جدا ولكنها واضحة يسوق لنا الامام القشيري تأويله لهذه الآية:
    (... ثم أخبر أنه لضعف بصائرهم ومرض عقائدهم اذا أصابتهم حسنة فرحوا بها وأظهروا الشكر، وإن أصابتهم سيئه لم يهتدوا الى الله فجرى فيهم العرق المجوسي فأضافوه الى المخلوق، فرد عليهم وقال: قل لهم يا محمد كل من عند الله خلقا وإبداعا، وإنشاء واختراعا، وتقديراوتيسيرا. قوله جل ذكره{ ما أصابك من حسنة ، فمن الله، وما أصابك من سيئة، فمن نفسك. وأرسلناك للناس رسولا. وكفى بالله شهيدا} ما أصابك من حسنة فمن الله فضلا، وما أصابك من سيئة فمن نفسك كسبا وكلاهما من الله سبحانه خلقا)25.
    وأول ما يلحظه المتنبه في هذين التأويلين وكذلك في القصة التي أوردناها عن الحلاج سابقا هو ربطهم (المتصوفة الثلاثة) لمن يعتقد بتعدد الأفعال وإضافة الفعل للمخلوق، بالمجوس.. وكأنهم قد نقلوا أقوالهم عن بعضهم البعض .. لنشاهد مرة أخرى تلك الأقوال:
    الحلاج فمن لام أحدا ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنه أختار ذلك لنفسه، وهذا مذهب القدرية ـ والقدرية مجوس هذه الأمة ـ وأعلم أن اليهودية والنصرانية والاسلام وغير ذلك من الاديان هي ألقاب مختلفة وأسام متغايرة، والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف...).
    إبن عربي {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله} إلى آخره..أثبت أنهم قدريون، يضيفون الخيرات الى الله، والشرور الى الناس، يتشبهون بالمجوس في إثبات مؤثرين مستقلين في الوجود ).
    القشيري ... ثم أخبر أنه لضعف بصائرهم ومرض عقائدهم اذا أصابتهم حسنة فرحوا بها وأظهروا الشكر، وإن أصابتهم سيئه لم يهتدوا الى الله فجرى فيهم العرق المجوسي فأضافوه الى المخلوق ).
    ولم يرد ذكر المجوس في تفسير هذه الايات في كل التفاسير التي إعتمدناها لهذا البحث وهي
    (تفسير القرآن العظيم )لابن كثير، (فتح القدير) للشوكاني، (تفسير القرطبي)القرطبي.
    ولعل ترابط قول الصوفية وتوحدهم في التأويل يرجع الى قوة منهجهم وتوافق نظريتهم مع النص القرآني وإتفاقهم على مصادرهم.
    ولكن لا يظنن ظان أن التفسير المجرد لا يخدم النص القرآني البتة فيقوم التأويل بديلا عن التفسير، فهذا قول خاطئ لأن التفسير يمكنه أيضا حل كثير من معضلات الدلالة. فالآيات قطعية الدلالة والتي لا تحتاج الى تفسير أو تأويل مثل قوله:{فذكر. إنما أنت مذكر*لست عليهم بمصيطر}26،أو قوله{ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن....}27أو قوله{ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}28، أو قوله{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فاليكفر...}29، أو قوله{ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم.. جميعا. أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}30، أو قوله{لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي...}31. كل هذه الآيات وأخواتها ـ كثرـ هي واضحة الدلالة في الدعوة الى الله بالرفق وعدم التسلط في هذه الدعوة، وعدم قهر الناس حتى يؤمنوا. ولكنها آيات تصطدم مع أحاديث نبوية ومع آيات أخرى هي أيضا قطعية الدلالة.. كقوله: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير}32 وقوله:{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، فإن إنتهوا فلا عدوان الا على الظالمين}33، ثم قوله{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير}34، وقوله{فإذا انسلخ الأشهر الحرم، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم، وأحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد. فإن تابوا، وأقاموا الصلاة، وءأتوا الزكاة، فخلوا سبيلهم. إن الله غفور رحيم}35، وآخر مثال قوله{قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}36.
    وكل هذه الآيات تنافي دلالتها ما كان من دلالات سابقة في الطائفة الأولى التي أوردناها. فالطائفة الأولى تأمر النبي أن يذكر الناس ولا يسيطر عليهم، وأن يدعوهم بالرفق واللين، وأن لا يقابل الشر بالشر بل يقابله بالخير والإحسان، وأن لا يكره الناس في الدخول الى الدين، بل يتركهم وحرياتهم.. وهذا أشبه بقول الانجيل:{ولكني أقول لكم ايها السامعون: أحبوا أعدائكم، أحسنوا الى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون اليكم. من ضربك على خدك فاعرض له الآخر أيضا، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضا، وكل من سألك فأعطه، ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه}37.
    ثم بدأت الطائفة الثانية بآية فيها الإذن لهم أن يردوا الظلم عن نفسهم، ثم أن يحاربوا الناس لدرء الفتنة، ثم محاربتهم ليقيموا الدين، ثم قتال اهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وقتال المشركين حتى يسلموا والا فهي الحرب معلنة عليهم أبدا، وفي هذا السياق جاء حديث نبوي في صحيح البخاري باب(زكاة1) برقم(1400) يقول: (أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله)..ومن الواضح بما لا يدع مجالا للشك أن فهم هذه الايات بالدلالة فقط تجعل القرآن متناقضا ومعارضا بعضه بعضا، ولقد قام التفسير بفض هذا التعارض بإستناده أيضا على نظرية عامة (هي محل خلاف عند أهل التفسير ولكنها تعمل عند الجمهور) ومفادها أن في القرآن ناسخ ومنسوخ. والنسخ هنا بمعنى الإبطال والإزالة، فما كان من أحكام واضحة الدلالة (كما في الطائفة الأولى مثلا) يتم نسخها بأحكام أخرى واضحة الدلالة أيضا. وعلم الناسخ والمنسوخ من أهم العلوم الاسلامية والجهل به يضع المسلم في موضع خطير، سأل علي بن أبي طالب رجلا يعظ الناس: أعلمت الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا؛ قال: هلكت وأهلكت!.وهكذا قد أخرج أهل التفسير أنفسهم من مطب خطير ليواجهوا الاسئلة التالية:
    1/لماذا أنزل الله حكما ثم خففه وبإمكانه إنزال المخفف من البدء؟.
    2/لماذا نسخ الله آياتا ـ في ظني، وظن كل مؤمن بالعدل والمساواة ـ هي قمة في التعامل الحضاري ونموذجا جيدا يحاول الناس في العصر الحديث أن يصلوا اليه. بآيات هي دونها من حيث روح التعامل؟، بل ومن حيث مراد الدين نفسه فقوله{يا ايها الذين آمنوا إتقوا الله حق تقاته ، ولا تموتن الا وانتم مسلمون}38، قد نسخ بقوله{فاتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا واطيعوا، وانفقوا خيرا لانفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولائك هم المفلحون}39. ولا أعتقد أن أي شخص يمكنه أن يقول أن مراد الله في الأصالة ليس هو أن يتقى حق تقاته، بل ان يتقى بقدر الاستطاعة!! .
    3/ثم ماهو مصير الايات المنسوخة؟.
    ونحن بالطبع لم نسأل من علة النسخ لان علته كما نعلم هي التخفيف، ولكنا تجاوزنا هذا الأمر وقفزنا لنسأل عن علة إنزال المشدد ثم شفع بالتخفيف بعد زمن ...
    هنا يقف التفسير عاجزا عن حل هذه المعضلة، مما نحى بطائفة منهم لإنكار النسخ نفسه، وهذا قول غريب جدا لأن النسخ موجود في ظاهر النص بلا لبس أو غموض .. يقول {ما ننسخ من آية، أو ننسأها، نأت بخير منها ، أو مثلها. ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير}40، ولا شك (لغوي) هنا أن النسخ قد تم، اللهم الا أن يكون هناك تأويلا وهذا ليس محل نقاشنا الآن، لأنه ليس عمل أهل التفسير.
    ولا تزال الاسئلة الثلاث تقبع في مكانها من غير رد مقنع لأهل التفسير... وهنا تظهر للتأويل خاصية أخرى وهي معرفة الغايات الحقيقية للنص أو قل أن للتأويل القدرة على ربط الغاية بالنص بصورة مقنعة ومتسقة مع (النظرية العامة). ولا أقول أن كل المأولين قد تطرقوا لهذه الغايات، بل ان المثال الوحيد الذي أمامنا هو للأستاذ محمود محمد طه، يقول : (قوله {ما ننسخ من آية} يعني :ما نلغي، ونرفع من حكم آية... قوله{أو ننسأها} يعني نؤجل من فعل حكمها...(نأت بخير منها} يعني أقرب لفهم الناس، وأدخل في حكم وقتهم من المنسأة....{أو مثلها} يعني نعيدها، هي نفسها، الى الحكم حين يحين وقتها.. فكأن الآيات التي نسخت انما نسخت لحكم الوقت، فهي مرجأة إلى أن يحين حينها..فإذا حان حينها، فقد أصبحت هي صاحبة الوقت ويكون لها الحكم.....هذه هي الحكمة وراء النسخ..فليس النسخ، اذن، الغاء تاما، وانماهو ارجاء يتحين الحين، ويتوقت الوقت)41، وعندما نعلم أن الاستاذ يرى بأن الله ما أنزل المنسوخ إبتداء الا لأن القرآن جاء يحمل بين طياته كل ما تريد السماء قوله، لنا، ولمن سبقونا، وللذين من بعدنا.. عندها لا يتبقى لنا سؤال بلا إجابة..فإن قلت لم الاختلاف في الاحكام؟ كان الجواب بسيطا..لإختلاف الزمان والمكان.
    وفي رأيي أن الأستاذ محمود محمد طه، أفضل المتصوفة في توضيح (النظرية العامة) للتصوف بطريقة حديثة ومختصرة، كما أنه قد دفع بالنص القرآني الى العلياء، فجاء تأويله قمة يتقاصر دونها كل تأويل. فهو لا يكتفي بتأويل النص فقط، بل يبحث في تأويل سببه، وعلته، وغرضه، وزمانه، ومكانه، وإستخداماته المتعددة. فيجيئ التأويل متسقا مع النظرية العامة التي اعتمدها، والتي لا تختلف كثيرا مع النظرية العامة للتصوف، بل تستند عليها في رقيها وعروجها.
    وإن كان الأستاذ قد لاقى من بعض (أدعياء التصوف) كثير من النصب والمشقة، بل بلغ بهم(ولأول مرة في تاريخ التصوف) أن تآمروا مع السلطة الزمنية لقتله. لقد شهدنا هذه الحرب بين المتصوفة والمذاهب الأخرى وكان المتصوفة دوما هم محل الانتقام والتنكيل والقتل، ولكنا لم نشهد(ولا مرة واحدة)إستخدام المتصوفة السلطة الحاكمة لقتل أعدائهم...لهذا فنحن لا نعد من تآمر على الأستاذ من المتصوفة بل هم ـ كما ذكرنا ـ أدعياء تصوف.
    وأيضا كانت جناية الاستاذ ـ كبقية الصوفية المعذبين والمقتولين ـ هي التأويل، ونوعيته التفردة.
    ولنقم بتلخيص ما ذكرناه في هذا الباب:
    1. إن الدلالة غير قادرة تماما على فك معاني النص القرآني، لأن النصوص القرآنية فيها كثير من التضارب الظاهر (الدلالة). لهذا كانت الحاجة للتفسير ماثلة، حتى تتم الموائمة بين النصوص المختلفة شكلا.
    2. والتفسير لا يتم بمعزل عن (نظرية عامة ) للمفسر، ينتهجها حتى يتسنى له التفسير على ضوءها.
    3. تلك النظرية العامة جعلت المفسرين في كثير من الاحيان يلجأون الى تطويع اللغة للنص فخرجت أغلب تفاسيرهم غير مقنعة، ومثار للجدل والإختلاف فيما بينهم، فعمدوا الى إلباسها ثوب القدسية وذلك عن طريق المطالبة بالإيمان والتصديق، دون الحاجة الى دليل أو إقناع.. حتى صار موت النص وشيكا.
    4. التأويل هو صاحب القدرة الحقيقية لبث الروح في النص من جديد، ولكن ولضمان نجاح هذه العملية يجب أن تتسق (النظرية العامة) مع التأويل، كما يجب الحفاظ على النص سليما دون تحريف، فلا شك أن تحريف النص هي إحدى أدوات قتله.
    5. يعتبر الصوفية هم الأجدر في هذا الميدان فلقد كان تأويلهم متسقا مع (نظريتهم العامة) كما أنهم حافظوا على النص سليما.
    6. حافظ مفسرو أهل السنة على النص ولكنهم لم يخرجوا بتفاسير مقنعة، كما أنهم بحالة صمتهم التي هم فيها لم يشرحوا نظريتهم العامة بصورة سليمة.
    7. المعتزلة عمدوا على تغيير النص ولم يحافظوا عليه حتى يتفق مع نظريتهم العامة (وهي الأصول الخمسة).
    8. كان للأستاذ محمود محمد طه فضلا عظيما في دفع التأويل ليخدم أغراضا غير بنية النص الشكلية فقط. بل تعدته لتبحث في ما وراء النص. وهذا ما سيكون له الباع الأكبر في الباب المقبل والذي يبحث في تطور مفهوم التأويل في النص القرآني.

    خامسا: تطور مفهوم التأويل في النص القرآني.
    لقد ذكرنا قبلا كيف أن الكلمة يتحدد مفهومها، دلالة، عن طريق الممارسة، ولقد جاء التأويل ليخبرنا كيف أننا نحدد مفهوم المعنى أيضا عن طريق الممارسة. لهذا فإن التأويل ـ عكس التفسيرـ قابل للتطور، ذلك التطور الذي لا ينفي ما سبقه بل يؤكده بدعوى حكم الوقت. فهم ـأي اهل التأويل ـ وإن تعارض تأويلهم فلا يقولون بأن المعارض قد نفى بعضه بعضا بل يؤكدون على كل الآراء، كل حسب زمانه ووقته(فإن أنت تمعنت في الأضحية وهي وسيلة للتقرب الى الله في زمن النبي إبراهيم ثم رأيتها في زماننا هذا كيف إنتقلت من التضحية بالانسان الى الحيوان، ثم وجدت فهما دقيقا لهذا الإختلاف في المقدار..عندها لن يتعذر عليك فهم رأي الصوفية في إختلاف التأويل حسب المكان .. والحال). فإذا خدم التأويل غرضه صار من اللازم الانتقال الى تأويل آخر. بهذا نضمن حياة النص الى الأبد، إذ يظل يعمل في كل الظروف ..وهذا، لعمري، بعينه قولهم (الاسلام صالح لكل زمان ومكان) ولكنه صلاح لا يتم الا بهذا الفهم لأن (القرآن لا ينطق، بل ينطق عنه الرجال).
    وتحديد المعنى عن طريق الممارسة يتطلب جهدا أكبر من تحديد الكلمة. فأنت إن لم تكن رأيت (جملا) فمن السهل أن يوصف لك شكلا، وفي أي شئ يستخدم، وعدد أنواعه الموجودة والمنقرضة...... تماما كما نعرف الان الكثير عن الديناصورات دون أن نشاهدها. فالتفسير قد يحل محل الممارسة في تحديد الدلالة، وهنا تكمن سهولة هذه العملية.
    أما في التأويل فليس هناك بديلا عن الممارسة والتجربة(لأن التأويل من مكملات عمل اللغة، ومن المهارات الفائضة منها) ولهذا بالضبط فإن المتصوفة عموما يحتمون بنصوص كثيرة تدعو للممارسة التي بفضلها ينتج العلم. ومن هذه النصوص ما يرجع للقرآن والحديث النبوي، ومنها ما ابتدعوه بأقوالهم الشخصية ... فمن القرآن يستدلون بقوله:
    {واتقوا الله، ويعلمكم الله، والله بكل شئ عليم}42. ومن الحديث {من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم}. ومن آثارهم(أسلك .. تعلم) أي إنتظم في سلك التصوف بسلوكك، تعلم.
    ولكي لا ندخل في قضايا عقائدية نحن في غنى عنها، فاننا نحب أن نقرر حقيقة تتفق وما ينحى له المتصوفة وهي أن التأويل لا يمكن قيامه بمعزل عن نظرية (أيدلوجية)......بالمعنى العام لأيدلوجيا...... تحكم التأويل وتحدد مساراته. وهذه النظرية تمتلك معجمها الخاص بها (للكلمات) و(الجمل) و (المفاهيم)... فالله عندهم ـ أي الصوفية ـ يختلف عن الله عند المعتزلة، والذين بدورهم يختلف مفهومهم له عن الله عند أهل السنة.. وهكذا ... وكذلك جملة (لا اله الا الله) يختلف مفهومها بين هذه الطوائف ـ كل حسب نظريته العامة. فالإصطلاح في القاموس الأيدلوجي يختلف عن الاصطلاح في اللغة الصرفة.
    وبما أن اللغة مغلقة تجاه الإصطلاحات ـ أي أنها لا تنتج إصطلاحا خارجا منهاـ فكل الإصطلاحات ما هي الا معان موجودة سلفا في اللغة، لهذا فإن اللغة لا تقبل بالممارسة خارجها. ولأن التفسير مرتبط باللغة فهو بدوره لا يقبل بالممارسة خارج نطاقهاـ وإن حدث ذلك فهو قول يكلف التفسير ما لا يطيق، وأكبر مثال لذلك السور التي تبدأ بحروف لا تؤدي تشكيلاتها المختلفة الى معنى لغوي فأجمع المفسرون على تعذر تفسيرها بقولهم[الله أعلم بمرادها]،ولقد أوضحنا كيف أن كافة التفاسير التي نأت عن اللغة جاءت غير منطقية البتة.
    ولكن التأويل يقبل تلك الممارسة، ويقرها، بل لا يقبل العيش بدونها، فهو إن أغلقت في وجهه الممارسة فقد خاصية أساسية من خواصه المتعددة. وهذا لأن الإصطلاح في أي قاموس أيدلوجي قابل للإتساع والتمدد. بل قد يخرج عن اللغة نفسها ـ إذا لزم الأمرـ ويبحث عن دلالات أخرى في لغات أخرى. وهذا التمدد والإتساع متاح لكل باحث داخل أي نظرية أيدلوجية.
    (إذن فإعمال [الفكر] داخل النظرية الأيدلوجية هو الوسيلة [للمارسة] التي تحدد المعنى).
    ولأن القرآن (كلام الله) ـ بإتفاق الطوائف الثلاث موضوع البحث ـ فإننا يجب في البدء أن نحدد المصدر الذي أنتج ذاك (الكلام) ولا ننخدع بهذا الإتفاق الشكلي!.
    (فكلام الله) عند المعتزلة لا تعطي نفس المعنى لكلام الله عند الصوفية أو أهل السنة. فعند المعتزلة (القرآن) مخلوق والكلام ليس صفة قديمة لله. وعند اهل السنة فإن القرآن غير مخلوق والكلام صفة قديمة لله.أما أهل التصوف فلهم إتفاق مع الرأي الثاني ولكنه إتفاق لا يتم لأنهم يفرقون بين:
    1/الله الذات . 2/ الله الصفات والأفعال . 3/الله الإسم العلم .
    يقول الأستاذ محمود محمد طه:
    ( وحضرات التنزلات كثيرة،لا تحصى، ولكنها جميعا تنضوي تحت ثلاث، فأن الذان العلية، تنزلت من إطلاقها، وصرافتها، الى مرتبة الإسم العلم ـ ثم إلى مرتبة الصفة(الإرادة)ـ ثم الى مرتبة الفعل (القدرة)ـ..ومن هذه الثلاث جاء خلق المخلوقات، فحضرة العلم أحاطت بالمخلوقات، وحضرة الإرادة خصصت الصورة الأولى، وحضرة القدرة أبرزتها إلى الوجود الأول، وفق تخصيص الإرادة، وإحاطة العلم، ثم باشرت إبراز تعاقب الصور في نسق حكيم، وتسلسل دقيق، تضبط منازله الإرادة الرشيدة، ويوجه خطوه العلم المحيط الى سدة الذات العلية في علاها.. والسير الى سدة الذات العلية، في علاها، إنما هو تطور من الكثافة الى اللطافة، أو قل من الجهل، الى المعرفة..)43
    ويفصل القول أكثر من ذلك متابعا:
    (فالله في ذاته الساذج لا يعرف، ولا يسمى، ولا يوصف، ولكنه[بمحض فضله] تنزل من صرافة ذاته، الى منازل اسمائه، وصفاته، وافعاله...ثم أنزل القرآن ليحكي هذه التنزلات، لكي يعرفه عباده، فيسيروا الى عتبة ذاته..والتنزلات في جملتها سبع، تتكرر بغير حساب.. وهذه السبع سميت بالصفات النفسية، وهي:الحياة، والعلم، والارادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام.. هذه صفاته تبارك،وتعالى، وهي، في نفس الوقت، صفات عباده. فإنه قد خلقهم على صورته..بيد أن صفاته، تبارك، وتعالى، في مطلق الكمال، وصفات عباده في طرف النقص..ثم هو أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأوجب الواجبات، ليسير عباده اليه ليلاقوه..ولقد أسلفنا القول بأن السير الى الله ليس بقطع المسافات وإنما هو بتقريب الصفات من الصفات ـ تقريب صفات العبد التي هي في طرف النقص، الى صفات الرب، التي هي في مطلق الكمال.....)44
    ( وعن تنزلات القرآن هذه قال تعالى:{وقرآنا فرقناه، لتقرأه على الناس على مكث، ونزلناه تنزيلا) ..فالقرآن في مقام الجمع، والفرقان في مقام الفرق.. وقوله {فرقناه} تعني: فرقناه من بعد جمعية، فعددنا وجوهه..وتعنى أنزلناه منجما، ومفرقا..وقوله{ونزلناه تنزيلا}..يعني تنزيلا من بعد تنزيل، في مراتب التنزلات السبع، التي سلفت الإشارة اليها..وهذه التنزلات انما هي تنزلات الذات، من صرافتها الى مراتب الصفات..وهذه الصفات..أعلاها صفة الحياة، وأدناها صفة الكلام، وهي مرتبة على هذا النحو:الله حي، وعالم، ومريد، وقادر، وسميع، وبصير، ومتكلم.. وهو في ذلك حي بذاته، وعالم بذاته، ومريد بذاته، وقادر بذاته، وقادر بذاته، وسميع بذاته، وبصير بذاته، ومتكلم بذاته، لا يقع منه شئ من هذه الصفات بجارحة على نحو مايقع منا نحن.. فهو تعالى، لا يتكلم بلسان، ولا يبصر بعين، ولا يسمع بأذن، وإنما يتكلم بذاته، ويبصر بذاته، ويسمع بذاته.. والقرآن العربي الذي هو بين دفتي المصحف الآن هو كلامه تعالى....)45.
    هذا الكلام يعتبر أدق وصف لمفهوم (كلام الله) عند المتصوفة، وهو ـ على طوله الذي أوردناه ـ يفيدنا في ثلاث مواضع :
    أولها:نقل رأي الصوفية في كلام الله بصورة واضحة ومختصرة، تغنينا عن مجلدات ضخمة، وفيها من الإضافات الجيدة والمبتكرة شئ كثير.
    ثانيها:توضيح الرأي المضاد لرأي المعتزلة، بطريقة توضح رأي المعتزلة عن طريق نظرية (التميز بالضد).
    ثالثها: توضيح قصور رأي أهل السنة في (كلام الله)، إذ أنهم يرفضون كلام المعتزلة دون توضيح (لنظريتهم العامة) ـ وهذا ليس كما فعل المتصوفة، وكما شهدنا الآن من كلام الأستاذ ـ هذا القصور دفعهم لرفض منطق المعتزلة ولكنهم في كثير من التفاسير يلجأون إلى آراء هي أقرب لآراء المعتزلة (وهذا سيجيئ في موضعه).
    والمعتزلة يرون(أن إثبات صفة القدم للقرآن هي إثبات[قديمين]، [الله، والقرآن]، وهذا في رأيهم شرك لا يكون. ويتعارض مع أهم أصل من أصولهم الخمسة، أصل التوحيد).
    وأول تناقض يرى في هذا القول هو إثبات صفة القِدَم(لله)، ونفي صفة الكلام له بغير مبرر، لأنه إن كان الله (قديم) فهي صفة، وهي قديمة، وكون الله متصفا بصفة قديمة ـ أيا كانت هذه الصفةـ هذا يعني أنه يمكن إتصافه بصفات أخرى قديمة، والقول بإتصاف الله بصفة الكلام، ولكنها صفة غير قديمة، ينفيها بالضرورة... وإن كان هذا النفي متعلقا بزمن محدد... لأنه يعني أن الله لم يكن متكلما ثم صار كذلك.
    والصفات إما متعلقة بالذات، وإما غيرية، ولا تحتمل الجزئية في ذلك، لأننا نتكلم عن مطلق، فإن كانت (القِدَم) صفة ذاتية فهذا يعني أن كل الصفات ذاتية، وهي قائمة بالذات. والقول بعكس ذلك يعني نفي صفة (القِدَم) نفسها عن الذات، وهذا ممكن على إفتراض أن(القِدَم) صفة غيرية متعلقة بالزمان والمكان! وهي ليست الذات التي هي خارج الزمان والمكان!!. فتصبح (القِدَم) شيئا غير الذات، ولكنه إفتراض ـ على غرابته ـ لا يعين تلك النظرية، فإن صح ذلك فهذا يعني أن صفة (الكلام) أيضا غيرية وينتفي إرتباط قدمها مع الشرك .
    والصفات إن كانت حادثة، فالقدرة حادثة، وإبراز الحوادث يحتاج الى قدرة !!! فكيف برزت القدرة نفسها؟؟؟...
    والقرآن يقول:{ حم* والكتاب المبين*إنا جعلناه قرآنا عربيا، لعلكم تعقلون* وإنه، في أم الكتاب، لدينا، لعلي حكيم}46..وللمتمعن في هذا النص فإنه يشاهد إثبات صفتين من صفات الله للقرآن، وهذا في قوله:{لعلي حكيم}..كما أن قرينة {لدينا} تجعلنا نقف برهة لنتأملها جيدا ...
    يقول الأستاذ محمود (فإن كلمة {لدينا} هنا، ليست ظرف مكان، وانما هي للتناهي، حيث ينتهي الزمان والمكان..)47
    وهذا لعمري قول لا يمكن أن لا نتفق معه ـ هذا إن كنا نتحدث عن مطلق حقا. (فلدى) الله يعني عنده كقوله:{يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب}48.. (وعنده) هذه إن كانت تفترض المكان والزمان فهذا تحديد للمطلق لا يجوز في حقه. فإن تعذر إثبات المكان فهذا يعني الإطلاق فالذي يعني بدوره إتصاف القرآن بهذه الصفة.
    إن القول (بخلق القرآن) قول يجعل (النظرية التدينية) برمتها فاسدة ...خصوصاً تلك المتعلقة بالإسلام. ودعوى المعتزلة إلى نفي صفة (القِدَم) للقرآن بحجة أنها شرك، لدعوى تلاقي ما يرد عليها بنفس حجتها، هذا من الناحية الموضوعية، أما من الناحية الشكلية فهناك أيضاً ما يضحدها من نصوص القرآن نفسه .. فقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}49، يعني أن ظهور الإرادة متعلق بقوله: كن. فإن كانت كن هذه مخلوقة فهي في حاجة إلى كن أخرى وهذه في حاجة إلى ثالثة.. وهكذا دواليك.. فمتما توقفت عملية الخلق في هذه الفرضية إنتفت عن الله صفة أخرى وهي أنه (خالق) فإذا أراد أن يخلق فيجب عليه (خلق) هذه الصفة.
    أما أهل السنة فانهم لا يقرون بخلق القرآن _ كما ذكرنا _ ولكنهم لا يوضحون لنا ماهية القرآن. فهو عندهم (كلام الله) هكذا فقط.. وعندما ضرب الإمام (أحمد بن حنبل) في هذه القضية كان يقول: (لا أقول بقول لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمسك عنه صحابته) وكذلك قال (البخاري) و (الطبري) .. إلخ.. فكلهم متفقون على أن القرآن هو (كلام الله) القديم، وأن الله كان متكلم ولا زال وسيكون بلا بدء ولا نهاية. ولكن تصورهم لله لم يكن كافياً لبناء نظرية تدافع عن هذا القول وتدفع الرأي الآخر. وفي رأيي أن المشكلة الأساسية التي يقع فيها أهل السنة هي: إغلاقهم لمفهوم الله في دائرة هي أقرب للعباد ـمن حيث قصورهم ـ منها للإطلاق.
    ولعل أوضح هذه الآراء هو رأي تلك الطائفة التي تدعي الإنتماء لأهل السنة ولكنهم لم يتمسكوا بنهجهم وابتدعوا في عقيدة أهل السنة الكثير، وأعني طائفة (أهل التوحيد) والتي ازدهرت على يد الشيخ (ابن تيمية) ثم ظهرت في العصر الحديث باسم (جماعة أنصار السنة المحمدية) وهي فرع من مجموعة كبيرة تضم تلك التنظيمات (الوهابية).
    يحكي ابن بطوطة عن ابن تيمية فيقول: (فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع، ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا. ونزل درجة من درج المنبر. فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء، وأنكر ما تكلم به...)50، ولعل من الظلم درج هذا القول وأمثاله ضمن أهل السنة كما هو واضح من معارضة الفقيه المالكي له، ولكن أهل السنة أنفسهم لا يستطيعون الرد على هذا القول بنظرية متكاملة .. وعندما إنبرى الشيخ (إبن القيم الجوزي)51 لمثل هذه الجماعات جاءت رسالته تدعو للتمسك برأي السلف في الامساك عن مثل هذه التشبيهات لله. وكانت كل ردوده عباره عن تبيين أن هذا الرأي لا ينتمي لأهل السنة. ولعل هذا الأسلوب مقبول في الرد على جماعة تدعي ذلك الإنتماء وتفترضه أساساً لدعوتها، ولكنه غير مقبول عند الباحث عن حقيقة الأمر.
    ومرة أخرى فقد أنبرى الصوفية لهذه القضية فألف الشيخ (محي الدين بن عربي) كتاباً أسماه: (رد المتشابه إلى المحكم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية)، فند فيه تلك الآراء وأوضح خطأها وطرح نظرية التصوف كبديل لها بصورة موسعة وواضحة، ذلك التوسع الذي لا يقره إبن القيم ولا يعتد به فهو القائل: (وما رأيت أحمق من جمهور قصاص زماننا، فإنه يحضر عندهم العوام الغشّم فلا ينهونهم عن خمر وزنا وغيبة ولا يعلمونهم أركان الصلاة ووظائف التعبد بل يملؤون الزمان بذكر الاستواء وتأويل الصفات وأن الكلام قائمٌ بالذات فيتأذى بذلك من كان قلبه سليما وإنما على العامي أن يؤمن بالأصول الخمسة.... ويقنع بما قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق. والإستواء حق، والكيف مجهول)52.
    وما بين احجام أهل السنة وقول المتصوفة تظل قضية التشبيه والتجسيم محل رفضهما بتضييق الفرع الأول وتوسع الثاني. ولكن ذلك التضييق قد أضر في هذا العصر بقضية (التوحيد) لأن كثير من المسلمين ينتمون إلى طائفة أهل السنة، وبهذا ظلت كثير من الأسئلة دون أجوبة. ولهذا فإننا لا نقف كثيراً عند أهل السنة ومنطقهم فهم لا يفيدون التأويل إلا بالقدر الذي يجعلهم مجرد مراقب ومتفرج وشاهد على التأويل في العصور السابقة.
    ورغم أن المعتزلة قد بنوا آراءاً كثيرة أثبت المنطق خطأها إلا أنها قد أفادت عملية التأويل أيما إفادة. فهم قد صنعوا النقيض الذي يدفع (الديالكتيك) للتطور.
    والحق يقال أن هناك ثمة تشابه بين رأي المعتزلة في الصفات ورأي الصوفية. فالمعتزلة يرون أن الصفات حادثة وأن الله قديم ولكنه حدوث تم (بالخلق)، والصوفية يقولون بأن الذات الإلهية لا تحيط بها العبارة ولا الإشارة وأنها صرفة.. ومجردة، ثم أنها تنزلت في الإسم العلم (الله) وهذه مرتبة قيد وتنزل الاسم العلم إلى مرتبة الصفات والأفعال، و(الله) في مرتبة الاسم العلم المقيد (حادث)، ولكنه حدوث لم يتم بالخلق بل عن طريق التنزل وهما يكمن الخلاف الأساسي فحدوث الصفات بالخلق (كما يعبر المعتزلة) قول غير مقنع، (فالخالق) نفسها صفة ويتوجب حدوثها خلق.. وهذه جدلية تعرضنا لها سابقا ولسنا في حاجة لاعادتها هنا..
    ولكن الجديد الذي أضافه الصوفية هو (الله) الذات الحادث وهذا قبل الصفة. وحدوثه تم عن طريق التنزل لا الخلق كما أسلفنا. و (الله) علم مقابل للإنسان الكامل عندهم53، والذي هو نفسه ـ أي الانسان الكامل ـ الذات المحمدية، لهذا قد عبر الأستاذ محمود محمد طه عن هذا التنزل بقوله: (الذات المحمدية هي أول قابل للتجليات الإلهية)54. كما أن الأسماء الحسنى هي في حق الإنسان الكامل.
    بهذا فإن الكلام صفة ـ كما أوضحنا أيضاً ـ قائمة بالذات لا مخلوقة، وهذا تبرير ـ في رأيي ـ يخرج مفهوم (الحدوث) عند كلا الطرفين من أزمته.. فالحدوث مقرر عند الطرفين ولكن كيفية المتصوفة أقرب للعقل والمنطق من المعتزلة، ثم أن هذه الكيفية نفسها تعطي للتأويل سمة اضافية يستمدها من كون أن النص مطلق المصدر وهي أنه قابل للتطور والتجدد، فكلما فض جزءاً من النص في مرحلة من السير وجد نقصاً وإغلاقا يحتاجان إلى تكميل وفض في حيزٍ آخر وهكذا دواليك. ولكن نظرية المعتزلة تحد من التأويل بجعل النص مستمد من محدود وهي الصفة الحادثة المخلوقة. يقول الأستاذ محمود محمد طه: (ثم حقيقة القرآن.. ما هي؟؟ هي العلم المطلق.. وعندما تأذن الله أن يسرع الإنسان في معرفة المطلق نزله من الإطلاق إلى القيد، فكانت، في قمة القيد، الإشارة، وفي قاعدة القيد العبارة..)55... ولا شك أن فرص المأول في أن يعمل داخل نص لا محدود يتيح له فرصة للعمل والممارسة، أفضل من نص مغلق في وجهه. وإن كنا نريد لعملية التأويل هذه أن تستمر نحو تطور رأسي(لا نهائي، وفق ما يقول المسلمون: أن القرآن صالح لكل زمان ومكان) فلا سبيل أمامنا غير إعتماد أن النص القرآني هو نص مطلق المصدر وهو في ذاته نزل من الإطلاق للقيد. بهذا نضمن تطور عملية التأويل واستمرارها دون توقف. هذا ليس تطويع (المعنى) للنظرية، ولكنه معنى يقبله النص كما يقبله المنطق وهو بالطبع مطابق للنظرية.
    وإن كان هناك آخرون يرون أن فكرة المعتزلة أقرب (للحيوية والدينماميكية) كما عبر عنها (نصر حامد أبو زيد)56، فهي رؤية ما قامت لتقوم على مقاربة فكرة المعتزلة للنص القرآني، بل قامت لأنها تفترض أن (معنى قِدَم القرآن وأزلية الوحي يجمد النصوص الدينية ويثبت المعنى الديني)..وتفترض أيضاً أن (معنى حدوث القرآن وتاريخية الوحي هو الذي يعيد للنصوص حيويتها، ويطلق المعنى الديني ـ بالفهم والتأويل ـ من سجن اللحظة التاريخية إلى آفاق الإلتحام بهموم الجماعة البشرية في حركتها التاريخية)56... وافتراض أن معنى قِدَم القرآن يجمد النصوص الدينية هو افتراض وضعه في الذهن أن القائلين به (من المتشددين) قد قاموا بالفعل بتجميد النصوص، ولكنه لا ينسحب بالضرورة على كل القائلين به. والكاتب نفسه يفصل بين (الدين) و (الفكر الديني) حيث يمثل الأخير الاجتهادات البشرية لفهم (الدين) الذي يمثل النصوص المقدسة الثابتة تاريخياً57. ونحن نقر بأن التأويل إن كان قاصر عن مجارات الواقع وإيجاد الحلول للقضايا المستعصية فهو يظل بلا فائدة ترجى ويجعل النص عاجزاً أمام قضايا حياتية. ولكننا نشير إلى أمرين مهمين:
    أولهما: ليست مهمة التأويل الأولى البحث عن حلول موائمة بين النص والواقع، بل إن هذا قد يكون من الآثار التي ينتجها التأويل. لأن مهمة التأويل هي فك طلاسم النص عن طريق منهج متكامل غير متناقض.
    ثانيهما: إن من القائلين (بقِدَم القرآن) طائفة لم تجمد النصوص الدينية، بل انطلقت بها إلى آفاق "الالتحام بهموم الجماعة البشرية في حركتها التاريخية". وهي طائفة أكثر مرونة من المعتزلة نفسهم. ولعل أبرز دليل عليها أبيات إبن عربي التي تقول:
    لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذ لم يكن ديني إلى دينه داني
    لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان وديراً لرهبان
    وبيتاً لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
    أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني.

    هذا من جانب. ومن جانب آخر فإن النص من حيث هو نص لا يشكل عبئا على أحد، كما لا يشكل أي تأويل كان. ولكن الإشكال قد ينتج من محاولة فرض النص ثم فرض التأويل وهذين أمرين قد قام بهما المعتزلة في فترة حكمهم إبان الحكم العباسي.
    إن الجماعات المتشددة التي تحاول فرض مفهومها الديني بالقوة، هي إمتداد طبيعي للإعتزال الذي منذ تكونه كان دلالة واضحة لرفض الحوار عن طريق (الإعتزال). وأما تمسك هذه الجماعات بآراء هي أقرب للمعسكر الآخر فما هو الا تمسك بقشرة لا غير أملته عليهم الكثرة البشرية التي تنضوي تحت معسكر (أهل السنة، والصوفية).
    واما القول بأن (معنى قدم القرآن..يثبت المعنى الديني..) فهو قول حق..لا أدري ما الضير منه!!خصوصا وإن كان هذا متفقا مع المعنى الديني، لا محاولا للإلتفاف عليه.
    وهناك عبارة أخرى للدكتور نصر أبوزيد تحتاج الى تصحيح وهيأن الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص، وتأويلها، وإستخراج دلالاتها ..)58. فالفكر الديني هو حقا الإجتهادات البشرية لفهم النصوص، ولكن ليست كل آليات المفكرين واحدة. فالتأويل، وإستخراج الدلالات، عبارتان وردتا وكأنهما الطرق (الموحدة) لكل مفكر في الحقل الديني، وهذا خطأ قد تطرقنا له في الأبواب التي تعالج علاقة التأويل بالدلالة، وعلاقة التأويل والدلالة بالنص القرآني.. فاليراجع في موضعه من هذا البحث.
    والقول بأن (معنى قدم القرآن وأزلية الوحي يجمد النصوص الدينية..) وبالمقابل أن (حدوث القرآن يعيد للنصوص حيويتها...الخ...) قول يحتاج منا لدفعه بأكثر مما ذكرنا. وسوف نخصص الفصل القادم للحديث عن الى أي مدى قد دفع (القائلين بقدم القرآن) النصوص ـ عن طريق التأويل ـ حتى تحررت من "سجن اللحظة التأريخية الى آفاق الإلتحام بهموم الجماعة البشرية في حركتها التأريخية ". وهو حديث قد يكون مفيدا أيضا لهذا الباب الذي تحدث عن تطور مفهوم التأويل في النص القرآني. وسوف نأخذ الأستاذ محمود محمد طه نموذجا بوصفه من القائلين بقدم القرآن المحدثين، مما يتيح لنا دراسة معاصرة لهذه القضية.
                  

العنوان الكاتب Date
عن التأويل/ لقصي مجدي سليم مأمون التلب12-09-04, 03:25 AM
  Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم مأمون التلب12-09-04, 03:26 AM
  Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم مأمون التلب12-09-04, 03:29 AM
  Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم مأمون التلب12-09-04, 03:31 AM
    Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم تاج السر حسن12-09-04, 04:11 AM
  Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم مأمون التلب12-09-04, 04:19 AM
  Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم قصي مجدي سليم12-11-04, 04:55 AM
  UP مأمون التلب12-11-04, 11:48 AM
    Re: UP محمد صالح علي12-11-04, 12:27 PM
      Re: UP Muhib12-11-04, 01:15 PM
  Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم قصي مجدي سليم12-12-04, 07:40 AM
    Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم Yaho_Zato12-12-04, 08:06 AM
  Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم مأمون التلب12-12-04, 09:44 AM
  Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم قصي مجدي سليم12-12-04, 11:02 AM
  Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم مأمون التلب12-12-04, 10:57 PM
  UP مأمون التلب12-13-04, 07:07 AM
    Re: UP Yaho_Zato12-13-04, 04:35 PM
  Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم مأمون التلب12-13-04, 11:49 PM
  Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم قصي مجدي سليم12-15-04, 11:20 AM
    Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم محمد حسن العمدة12-15-04, 04:42 PM
      Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم معتز تروتسكى12-15-04, 09:39 PM
        Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم Yaho_Zato12-16-04, 07:52 AM
  Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم قصي مجدي سليم12-16-04, 10:11 AM
  up مأمون التلب12-19-04, 00:15 AM
  Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم قصي مجدي سليم12-20-04, 11:07 AM
    Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم Yaho_Zato12-22-04, 07:31 PM
  Re: عن التأويل/ لقصي مجدي سليم قصي مجدي سليم12-24-04, 09:16 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de