في ذكرى رحيل ابني عثمان: إنهم يتاجرون بالموتى..

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا قبض ولد المؤمن ـ والله أعلم بما قال العبد ـ قال الله تبارك وتعالى لملائكته: قبضتم ولد فلان؟ فيقولون: نعم ربنا؟ قال: فيقول: فما قال عبدي؟ قالوا: حمدك واسترجع، فيقول الله تبارك وتعالى: أخذتم ثمرة قلبه وقرة عينه، فحمدني واسترجع، ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد. وعن أنس بن مالك قال: توفي ابن لعثمان بن مظعون ـ إلى أن قال : ـ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إن للجنة ثمانية أبواب ، وللنار سبعة أبواب، أفما يسرك أن لا تأتي بابا منها إلا وجدت ابنك إلى جنبك، أخذ بحجزتك، يشفع لك إلى ربك؟ فقال: بلى، فقال المسلمون: ولنا يا رسول الله في فرطنا ما لعثمان؟ قال: نعم لمن صبر منكم واحتسب الحديث. نحمد الله ونشكره جزيل الشكر فلقد رزقنا المولى عز وجل طفلاً جميلاً وحمداً وشكراً له أن اختاره إلى جواره فاحتسبناه إليه سبحانه وتعالى عسى أن يكون شفيعاً لنا يوم القيامة ونحن ندرك تماماً ان عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء، فإذا أحب الله عبدا ابتلاه بعظيم البلاء، فمن رضي فله عند الله الرضا، ومن سخط البلاء فله السخط. اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا وأجرا (آمين).

حقيقة ما دفعني للكتابة في يوم رحيل ابني الوليد (عثمان) ليس إحساس الحزن بالفقد ولكن شعور بأمرنا في هذه الدنيا الزائلة وكيف نتعامل نحن معشر المسلمين بنواصي الغربة في ظروف كهذه! ففي البدء استوقفتني الرقة في التعامل بالمستشفى بلندن عندما أدركوا وفاة المولود. غمرونا بأحضان دافئة وبأحاسيس عميقة لم تتغلف بالزيف وافتعال البكاء واستعراض أدوات الزينة. كنا نبكي لبكائهم ونصبر على البلاء فتزداد عاطفتهم نقاءً وصدقاً وحميمية تصيبك بالدهشة. خصصوا لنا قابلة مؤهلة رافقتنا طوال إقامتنا بالمستشفى وأخرى تأتينا بالمنزل لدى خروجنا غير الزائرة الصحية والأطباء من تحت التمرين إلى الاستشاريين. أتوا لنا برجل دين مسيحي قال مباشرة وهو على أبواب حجرتنا بالمستشفى والحزن عميق بعينيه: معذرة أن نلتقي في لحظة كهذه وأنا أدرك أنكم مسلمون لكن مهمتي أن أوجهكم للمسلمين أصحاب الاختصاص والمعرفة بهذه الأمور التي تخصكم وبعض الأمور العملية الأخرى. بعد مواساة عميقة شرح لي إجراء استخراج شهادة الميلاد والوفاة وتصريح الدفن إلخ. ثم قال لي يمكننا مساعدتكم في كل شيء من إجراءات إدارية وحتى الدفن وهي خدمة مجانية تتم تحت إشرافكم فنحن نقدر مدى الألم الذي يعانيه الوالدين في مثل هذه الحالات لذلك نقدم لهم كل العون والمساعدة بلا تكلفة مادية. ورغم علمي ببساطة ما يقره الشرع في مثل هذه الحالة ومقدرتي القيام بها مع بعض الأصدقاء بمساعدة إدارة المستشفى, إلا أنني قررت الاتصال بأرقام الجهات الإسلامية بالمنطقة وهي ستة جهات مختلفة حتى أحس بالجو الإسلامي النقي وهو يغلف زوايا الحزن بداخلنا ويمنحنا ألفة التسامح والتعاضد المجيد فنحس أننا كالبنيان في شدتنا وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى, وكالتلال في غبننا إذا هبت عليها رياح العتمة والغليان.

في أول محادثة لتلك الجهات الإسلامية لم أتلق كلمة عزاء واحدة بل سألني محدثي إن كنت أجيد الإنجليزية؟ قلت نعم أجيدها ولكن أفضل الحديث بالعربية.. لكن اتضح أنه من غير الناطقين بها.. قال لي عليك أن تحضر هذه الورقة وتلك المعاملة وافعل كذا ولا تفعل كذا فنحن كما تعلم لسنا مثلهم!! ثم قال محدثي: هذا الأمر سيكلفك هذه المئات (الكثيرة جداً) من الجنيهات الإسترلينية (الباهظة الثمن).. والدفع مقدماً !!!! عندها أدركت تماما أننا فعلاً لسنا مثلهم فهو الشيء الوحيد الذي كان صادقاً فيه!! لاحظت الممرضة الإنجليزية علامات الحزن والامتعاض على وجهي فسألت ماذا هناك؟ هل من شيء خطأ؟ خصوصاً وهي كانت تستمع لمحادثتنا التي تمت من على هاتفها ولاحظت تهربي من منحه أرقام هاتفي (حتى لا يلاحقني بالمحادثات ليقدم بعض التخفيضات في السعر وأنا لست حمل إحباط آخر من بني ملتي)، .. قلت لها في سري: لا شيء .. لا شيء يا عزيزتي .. إنهم فقط يتاجرون بالموتى !!

مدخل للخروج:
حتما ً تعزّي فيك كل المغفرات وتهتدي بك أغنيات الصدق يسمو في صفائك كل من أبكاه حزنك في العميق، وكل من قد هزّه هول الخبر.. من غاب عنكم في الجنان بوجهه ترك المآثر والعبر.. لا تحزني يا من سَمت بنقائها فوق العوالم كالدُرر.. لا تحزني..