محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-27-2024, 05:57 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   

    مكتبة الاستاذ محمود محمد طه
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-11-2002, 07:31 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18724

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة

    محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة
    عادل عبد العاطي
    (لا يبلغ أحد درج الحقيقة، حتي يشهد فيه ألف صديق، بأنه زنديق).
    الجنيد: توفي 297 هجرية.
    (علماء الظاهر هم زينة الأرض والملك، وعلماء الباطن هم زينة السماء والملكوت.. وعلماء الظاهر هم أهل الخبر واللسان، وعلماء الباطن من أرباب القلوب والعيان)
    أبو طالب المكي ت 368 هجرية.
    تعرض الأستاذ محمود محمد طه (1909 ــ 1985) لظلم تأريخي كبير في تقييمه، شخصا
    وفكرا ومواقف، من قبل بعض مؤيديه وجل معارضيه علي السواء.. ومما يؤسف له أن
    محاولة جادة لتقييم نشاطه وجهده علي ساحة الفكر والفلسفة والسياسة السودانية،
    لم تتم حتي الآن، رغم مرور اكثر من 15 عاما علي رحيله من دنيانا.(1)
    وان كان الظلم من قبل أعدائه، والذي تبدي في ابشع صوره، في مهزلة إعدامه البشعة في كانون الثاني (يناير) 1985، قد لقي جزاءا من التصحيح علي مستوي القانون، بحكم
    المحكمة العليا ببطلان حكم الإدانة والإعدام (1987)، إلا أن التصحيح علي مستوي
    الفكر لم يتم حتي الآن، ولا يزال كثير من المواطنين السودانيين، وغير السودانيين، والذين وان رفضوا مهزلة إعدامه لاسباب عرفوا أنها كانت، ولا زالت، سياسية، الا انهم لا يزالون ينظرون حتي الآن، إلي كثير من أفكاره ومواقفه من خلال منظار التشويه الذي لعبت فيه دعاية القوي الظلامية القسط الأكبر، ولعب دورا غير قليل منه عدد من اتباعه انفسهم، وان بنيات طيبة.
    وإذا كان اتباعه قد ظلموه في حياته، فقد فعلوا ذلك عندما حملوه اكثر مما يحتمل من آيات التقدير والتقديس، فلم ينظروا إلي فكره بمنظار النقد العلمي التاريخي.. وحين ربطوا مجمل حركتهم بشخصه، وحين رأوا فيه الكمال.. وظلموه اكثر، حينما روجوا قبل أيام من موته أوهاما لا يسندها منطق، حول عدم قدرة الحكام علي اغتياله.. فتركوه بذلك في يد الموت وحيدا، في وقت كان اكثر ما يحتاج فيه إلي التضامن، وغلوا بذلك أيادي قوي شعبية كثيرة، كانت سحائب غضبها تتجمع ضد النظام. وحين زعم بعضهم استحالة إعدامه، وضعوا الناس قسرا في حالة ترقب في انتظار المعجزة، وأخلوا بذلك الساحة بينه وبين السفاحين.
    وظلمه بعض اتباعه بعد موته، حين تراجعوا بغير انتظام، ودعموا تراجعهم بفكرة انه مات فداءا لكل الشعب، مدخلين مزيدا من الغيبية علي معني موته البطولي النبيل، وجاعلينه ستارا للإحباط والسلبية، من دون أن يفرقوا بين معاني الفداء الإيجابي المحرك لدواعي النضال، والتضحية السلبية التي ترتبط بالانكسار والاستسلام.. وحين تركوا للمتطرفين منهم وهم انه لم يقتل، أو علي الأقل سيعود من جديد، لم يفعلوا غير أن تأخروا عن قامته خطوات وخطوات.
    إلا أن الظلم الحقيقي يتبدي في فشل معظم اتباعه ومؤيديه عن أن ينظروا بعين النقد والتحليل لنتاج فكره ونشاطه ومنهجه، وتركوا بذلك الجهد الذي بناه عبر عشرات السنين، يضيع بين طيات التجاهل و النسيان أو سوء الفهم، وفي تركهم الحركة التي بناها تتحطم وتقف عند الحدود التي رسمها لها، والتي ما كان لها إلا أن تنهار وتندثر بموته، إذا أرادت أن تلتزم بمنهج فكره القديم. أن مقتل هذه الحركة الذي تكرس بمقتله وتحللها من بعده، ليجد جذوره في مجمل النهج الفكري والاجتماعي لمحمود، الأمر الذي سنناقشه لاحقا، إلا إن تلاميذه لم يخطوا خطوة واحدة للأمام، لإنقاذ هذا التراث العظيم، بفهم هذا المنهج نفسه وتطويره، بدلا من التكلس في صورته المثالية، التي تكرست في أذهانهم عنه، والتي تعرضت للاهتزاز بشدة، في درامية موته ورحيله.

    في أفق المعرفة
    نظرة في فكر محمود الفلسفي:
    بالرغم من تعدد اوجه نشاط محمود الفكري، وكتابته في العديد من المواضيع السياسية والفكرية والاجتماعية، إلا إن تصنيفي الأول والأخير له يقوم باعتباره صوفيا، صوفيا في عالمه الفكري، صوفيا في ممارسته، صوفيا في صورة استشهاده ورحيله.
    وقد لا يدرك الكثير، بمن فيهم بعض اتباع محمود، أن جل أفكاره تتماهي مع لب أفكار الصوفية، سواء في مدارسها الكونية، أو في صورتها العربية الإسلامية، أو في تجليها في الواقع السوداني.. إن التناقض ــ أو التمايز ــ بين الظاهر والباطن، بين الحقيقة والشريعة، والذي هو ركن أساسي في نظرية المعرفة عند الصوفية، قد تحول عند محمود محمد طه إلي تناقض وتمايز الأصول والفروع في القرآن، أو كما سماها بالقرآن في مرحلته المكية والمدنية، كما إن الطريق للوصول إلي الحقيقة، والقائم علي السعي ومجاهدة النفس عند الصوفية، هو نفسه طريق التقليد والأصالة عند محمود، والذي يتبلور حول فكرة أن الرسول محمد كان
    هو الأصيل الأول، والذي وصل إلي أصالته ــ الأخذ مباشرة عن الرب في ليلة الإسراء والمعراج ــ بعد جهد من تقليد عبادة إبراهيم، واتباع جبريل.. كذلك طريق الأصالة لأي فرد يقوم علي تقليد الرسول، و إجادة التقليد، حتي كشف الحجب وإدراك الأصالة.. بل أن فكرة الإنسان الكامل عند محمود، إنما هي فكرة قديمة ومفهوم أساسي عند قدامي الصوفية، ويقوم عليها مجمل اعتقادهم في وحدة الوجود المادي والإلهي والإنساني، يكتب ابن عربي إن مرتبة الإنسان الكامل إنما هي جميع المراتب الإلهية والكونية التي تضم العقول والنفوس الكلية والجزئية، ومراتب الطبيعة إلي آخر تنزلات الوجود، فهي (مرتبة الإنسان الكامل) مساوية للمرتبة الإلهية، ولا فرق بينهما إلا في الألوهية، لذلك صار الإنسان الكامل خليفة الله في الأرض).
    أن فكرة الإنسان الكامل، تجد انعكاسها في العديد من الأديان والفلسفات، وعلي رأسها المسيحية، وقد انعكست في الفلسفة الصينية التاوية، وكان لها وجودها في الفلسفة العربية الإسلامية، إن مفاهيم مقاربة ايضا لهذا المفهوم، مثل وحدة الوجود، والمعية (وهو معكم أينما كنتم)، والسريان، الذي وسعه صلاح الدين الشيرازي، ليجعل وجود الله حضورا فعليا في الموجودات، والمشابه لمفهوم التاو TAO، كقوة مادية في الموجودات، عند الفيلسوف الصيني تسونغ تسه، تحتاج إلي قراءة دقيقة لمعرفة مدي تقاربها أو توازيها مع الفكر الجمهوري(2).
    ان محمود في فكره، يتماهي مع الحلاج والسهروردي وابن عربي، وان كان في صورة سودانية معصرنة، أي بالشكل الذي فرضه واقع الزمان والمكان الجديدين، لكن المأساة الكبري في حياة وفكر محمود، انه حاول دمج طريق الصوفية، والذي هو طريق للخلاص والمعرفة، قائم علي البعد عن العالم والزهد فيه، والبعد عن الجماعة والانصراف عنها، والبحث عن الحقيقة في ذات الإنسان الصوفي، والوصول إلي الله والي منابع الحق متفردا، حاول جمع كل ذلك مع طريق جماعي ونشاط اجتماعي، و هو طريق مخالف تماما لنهج الصوفية الفردية (في عالمها الفكري والسلوكي وليس في كاريكاتوراتها الطرائقية)(3).
    إن محمود بتنظيمه للحزب الجمهوري، ومن بعد للإخوان الجمهوريين، قد خالف طريق الصوفية الفردي، فإذا كانت العلاقة بين الصوفي والمريد، بين الشيخ والحوار، بين القطب والسالك، هي علاقة فردية قائمة علي الاتصال الشخصي والتأثير المباشر، فان محمود حاول بناءها عن طريق تنظيم، رابطة، جماعة، تغير اسمها من الحزب إلي الإخوان، إلا إنها احتفظت دائما بصورتها كتنظيم له أفكاره الفلسفية والاجتماعية وله نشاطه السياسي.(4)
    ومن الطبيعي أن نمو الأحزاب السياسية والنقابات ومعركة الاستقلال، وهي الأحداث التي عاصرها محمود، ووجود ونشاط التنظيمات الدينية القديمة والجديدة، في شكل طرائق دينية أو طرق صوفية أو حركات سلفية، قد فرضت علي أي مفكر جاد الانخراط في درجة من درجات العمل التنظيمي والفعل الاجتماعي والسياسي، الا أن طريق أهل الحق، طريق الصوفية، لا يمكن الوصول إليه بوسائل أهل الدنيا، أهل الظاهر. إن محمود في سعيه لنشر فكره، قد كان مواجه بمشكلة الأداة، وقد اختارها بان يطرح كل أفكاره أو جلها في كتبه وإصداراته، حتي يتصل بها مع تلاميذه ومؤيديه، لكنه بهذا طرحها أمام الجميع، فعرضها بذلك لسوء الفهم ــ أو سوء النية ــ المعشعشة في البيئة السلفية، التي حاصرت بها المؤسسات الدينية الرسمية المسلم العادي في وسط وشمال السودان لعشرات السنين.
    إن تناقض محمود وحركته أراه في تناقض الطريق الفردي الصوفي للمعرفة والسلوك، مع الشكل الجماعي الواسع والمكشوف للنشاط، الذي اتخذته حركته، وهو تناقض كان لا بد أن يؤدي إلي الانفجار، وتحطيم أحد طرفي التناقض.

    في أفق الشهادة
    او الابتسام في مواجهة الموت:
    موت محمود محمد طه، يشكل في تاريخنا الفكري ــ السياسي الحديث، علامة بارزة علي
    حجم الأزمة والمأساة التي عاناها مجتمعنا، في أواخر سنوات حكم الطاغية نميري. ويطل كحصيلة مرة للتردي الشامل الاقتصادي والسياسي والفكري الذي ساد تلك الحقبة. انه وصمة عار في جبين عصرنا، ويوم كالح في تاريخ شعبنا.
    لكن الميدالية لها وجهان.. فأمام العنف الوحشي للسلطة، والهوس اللاعقلاني والتشنج المرضي الذي ركب السلفيين، ورغبتهم العارمة في رؤية انهار الدم وهي تسيل، كان الوجه الآخر يتمثل في الصمود البطولي لمحمود، وانشراحه في مواجهة الموت، الذي شبه بصمود فرسان العصور الوسطي وبصمود ود حبوبة وأبطال المهدية (حسب محمد إبراهيم نقد).. وتكرر مرة أخري، وان بشكل المهزلة هذه المرة، مقتل الحلاج والسهروردي وبنفس السيناريو: تحالف الحكام الفاسدين المفسدين (علماء السوء الذين وضعوا أنفسهم مطية لكل ظالم) أسوأ حثالات المجتمع التي وقفت تطالب بدمهم و تستمتع بمشهد موتهم!
    الصمود والبطولة والجمال في استشهاد محمود، قدم للوجدان الشعبي مادة غنية للعديد من الحكايات التي دخلت حيز التداول والانتشار.. وبغض النظر عن مدي الدقة والحقيقة التاريخية الكامنة في هذه القصص، إلا إنها تشكل معيارا لحساسية الشعب وتعامله مع مجمل القضية، ولاتجاه خط تعاطفه.. فقد تردد أن محمود قبل صياغة بيانه الشهير: هذا أو الطوفان.. قد طلب إحضار تسجيل أغنية احمد المصطفي أنا أم درمان، وكان يسمعها ويردد معها المقطع القائل:
    (فيا سودان إذا ما النفس هانت اقدم للفداء روحي بنفسي)
    وتردد ايضا أن محمود كان يقول إن محنة مايو لن تنقشع إلا إذا كانت هناك تضحية كبري، كان يموت رجل عظيم، أتراه كان يقصد نفسه، ومن اعظم منه كان بارزا علي الساحة وقتها؟
    المحكمة ذاتها التي حكمت زورا وبهتانا علي محمود، كانت مربضا للقتلة، لا منبرا للقضاء.. ويصح في وصفها ووصف موقف محمود منها قول الشاعر المصري كمال عبد الحليم في رثاء الطالب اليساري السوداني صلاح بشري، والذي استشهد في السجون المصرية بداء الصدر، عام 1948:
    صاح فيهم لن أدافع لن أقول كلمة
    يا شياطين المدافع كيف صرتم محكمة؟
    فقد رفض محمود مطلق التعامل معها، وهذا وان كان بتقدير سياسي يحسب في دائرة الخطأ، حيث كان يمكن تحويل المحاكمة بعمل سياسي وقانوني منظم، إلي مظاهرة كبري ضد النظام، كما تم في محاكمات فاطمة احمد إبراهيم والبعثيين في ذلك الوقت، وان يتم بذلك غل يد القتلة والنظام قانونيا وتحريك العمل الشعبي سياسيا وتعبويا، إلا إن الصوفي عند محمود له مرجعية أخري، إنها مرجعية التسليم (سلمت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين).. إن شهادة محمود في المحكمة، تشكل علي قصرها قمة أدب السهل الممتنع، والاختصار المحكم، وشهادة وإفادة للتاريخ والأجيال.. كما إنها تعبر عن درجة عالية من النضج السياسي والفكري، وبها وحدها أدان محمود قوانين سبتمبر إلي ابد الدهر، أدان السلطة وقضاتها المأجورين ووضع علي جبينهم وصمة العار الأبدية.. لقد اصبح محمود اذن هو القاضي الحقيقي، وشاهد العصر وضمير الشعب، وتحولوا هم إلي مدانين.. فلنتأمل في هذا النص المعجز:
    (.. أنا أعلنت رأيي مرارا في قوانين ايلول (سبتمبر) 83 من أنها مخالفة للشريعة والإسلام، اكثر من ذلك، فإنها شوهت الشريعة وشوهت الإسلام.. ونفرت عنه. يضاف إلي ذلك انها وضعت واستغلت لإرهاب الشعب، وسوقه إلي الاستكانة عن طريق إذلاله.. ثم أنها هددت وحدة البلاد، هذا من ناحية التنظير.. أما من ناحية التطبيق، فان القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها، غير مؤهلين فنيا، وضعفوا أخلاقيا، عن ألا يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، تستعملهم لإضاعة الحقوق، وإذلال الشعب، وتشويه الإسلام، وإهانة الفكر والمفكرين، وإذلال المعارضين السياسيين..
    ومن اجل ذلك فأنا غير مستعد للتعاون مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل، ورضيت ان تكون من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر والتنكيل بالمعارضين السياسيين)(5).
    بهذا النص أنهي محمود محمد طه سيرة حياة عامرة بالنشاط الفكري والمواقف الاجتماعية ببطولة نادرة، كما انه تجاوز به كل نواقص فكره السياسي، وكل تأييد سابق له لمايو. رافضا بصورة قاطعة الديكتاتورية والإرهاب ومسخ الدين. بل انه انتقل إلي أفق آخر اكثر واقعية، في التعامل مع مسألة الشريعة، حيث انتقل من المفاهيم المجردة والمثالية المطروحة في نظرية (الرسالة الثانية من الإسلام).
    والتقسيم ــ غير المفهوم شعبيا وغير المتجانس منطقيا ــ بين آيات الأصول والفروع، وبين الشريعة والسنة، إلي منهج يتعاطي مع الإطار السياسي والاجتماعي لوظيفة القانون، وكون القانون ــ أي قانون ــ يأخذ محتواه في مجري تطبيقه، وبمقدار تعبيره عن السلطة التي تكرس به سيادتها.. وان القيمة الحقيقية للقانون تأتي عندما يستجيب لنوازع الحرية، ويعبر عن احتياجات المجتمع والشعب الملحة في لحظة معينة من لحظات تطوره (وفي تلك الأيام تمثلت هذه الاحتياجات في القيم التي دافع عنها محمود، كالديمقراطية الوحدة الوطنية حرية الفكر والاعتقاد الخ الخ). هذه القيم التي صيغت وطبقت قوانين سبتمبر لقمعها وإهدارها..
    إن محمود بهذا النص القصير، قد سجل تقدما في الفهم السياسي لطبيعة النظام القائم، مقابل تقليص لجانب الاجتهاد الفكري المختلف عليه، حيث لم يبن رفضه لقوانين سبتمبر علي أسس أيديولوجية (عدم صلاحية الشريعة للقرن العشرين و عودة الإسلام بالسنة لا بالشريعة) وإنما علي أسباب قانونية وسياسية (التشويه في هذه القوانين لمبادئ الشريعة المدرسية، والغرض السياسي القهري من تطبيقها).
    إنها واقعية اكثر، و أصالة اقل إذن، تجاوز بها محمود نفسه وتنظيمه بوعي سياسي عال وحس وطني وتأريخي مرهف وعميق.. رجوعا مرة أخري إلي روايات الوجدان الشعبي، انه في تلك الأيام الحرجة بين حكم المحكمة والتنفيذ، قامت مجموعة من بيروقراطيي الاتحاد الاشتراكي (في صراعها داخل ذلك التنظيم ضد الهيمنة المتزايدة للإخوان المسلمين)، قامت بالتدخل لدي نميري لاسترحامه حول قضية محمود، علي أساس أن محمود قد دعم النظام دائما وفي ظل أوقات حرجة وعصيبة، فلا يمكن أن تكون هذه نهايته. فرد السفاح بما فيه من عنجهية وطغيان وبطر، بأنه مستعد للعفو عن محمود، شرط أن يعتذر له علنا. ووصلت المساعي والإخبار إلي محمود، فكان رده بعد التأكد من أن رده سيصل السفاح: قولوا لنميري أنا ما بنكسر ليك، وأنا بموت وبقابل ربي نضيفا، لكن أنت حتموت بي سوء الخاتمة!! .
    هل كان محمود يبحث عن الموت؟؟ هذا ما قد يتراءي من الوهلة الأولي، في تعامل محمود مع المحكمة ومع مجمل مؤسسات النظام، في الشهور الأخيرة من حياته، وفتحه للمعركة واضحة ضد النظام وسياساته، وهو الذي يعلم مبلغ الحقد الذي تكنه ضده القوي السلفية، وخصوصا جماعة الأخوان المسلمين، كما لابد يعلم الطابع الدموي والطغيان المنفلت للسفاح نميري..ومما يعزز هذه الرؤية كذلك فكرة الفداء التي لا بد من وجود سند واقعي لها في تفكير محمود، طالما قد كررها الجمهوريون مرارا بعد استشهاد محمود، بأن الأستاذ قد فدي الشعب السوداني (6).
    إلا إن تعامل محمود مع تلاميذه ورفاقه المتهمين معه في نفس القضية، قد سجل جانبا آخر.فمما لا ريب فيه، أن محمود قد أوصي تلاميذه بتجنب الموت ومسايرة السلطة، حتي ولو كان ذلك بالتبرؤ منه (7).. وفق مبدأ التقية الذي سارت عليه العديد من الحركات الإسلامية المعارضة، وحتي بعض أقطاب الصوفية، إلا أن محمود قد رفض هذا الخيار لنفسه، فيما حاول حماية حياة رفاقه وتلاميذه..
    هنا مرة أخري يظهر سلوك الصوفي، السائر وحده في درب الحقيقة، والموت هو أقصي تجلي للحقيقة، سواء في صورته البيولوجية أو في صورته المعرفية.. في صورته البيولوجية باعتباره الحقيقة الوحيدة الثابتة حتي الآن، والخاضع لها كل بشر .. وفي صورته المعرفية، باعتباره الكسر الآخير للحاجز بين الإنسان ومصدر الحقيقة، باعتباره افناء للجسد واندماجا بالروح مع مركز الأنوار وسر الأسرار .. وبالنسبة لصوفي يؤمن بوحدة الوجود فما كانت فكرة الموت لتشكل له رعبا أو فزعا (إذا استطعت بذل الروح فتعال، وإلا فلا تشتغل بترهات الصوفية).. لهذا فقد كانت ابتسامة محمود الغامضة حين النطق بالحكم (أكانت يا تري ابتسامة رضي أم ابتسامة سخرية؟)، ولهذا كان انشراحه وتماسكه وهو يصعد درج المشنقة.
    توصية محمود لتلاميذه بالتنكر له، ان صحت، تظهر مبدأ الفردية عند الصوفي، وتحمله للمسؤولية وحده، وهذا يذكرنا بالحلاج الذي دافع عن تلاميذه وأصدقائه وحماهم من الموت ولم يدافع عن نفسه، بل كان يري انه يستحق الموت، لأنه (أفشي الأسرار).. وفي الحقيقة فهناك تشابهات مذهلة ما بين شخصية محمود ومصيره وشخصية الحلاج ومنتهاه ــ يذكر هادي العلوي أن الحلاج قد قتل لتأسيسه تنظيما سريا لمعارضة السلطة، وليس لشطحاته الصوفية ــ ومحمود رغم انه لم يذهب إلي مرحلة الحلاج، من معارضة السلطة منذ البدء أو تصريحات الانجذاب،الا انه قد قتل حتما لاسباب سياسية.كما انه بهذه الوصية وذاك السلوك قد انخرط تماما في درب مشابه، درب الوحدانية الصوفية، وتخلي عن فكرة الصوفية الجماعية في شكل تنظيم أو جماعة .
    جريدة (الزمان) العدد 1231 التاريخ 2002 - 6 - 6
                  

06-17-2002, 02:10 PM

خالد عويس
<aخالد عويس
تاريخ التسجيل: 03-14-2002
مجموع المشاركات: 6332

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: بكرى ابوبكر)

    الاخ بكري
    تحياتي
    كنت ارسلت هذا الموضوع بعد استئذان من نقلوه الي البورد ، الي الزمان وحبذا لو كتبت مقالات اخري عن الاستاذ الشهيد
    وبصراحة وجد الموضوع اهتماما جليا لدي الادارة بلندن
    واعذرني بكري علي عدم تمكني من الرد عليك خلال الايام الماضية فقد كنت خارج السعودية لمدة اسبوع وعدت امس فقط وفتحت الماسينجر صباح اليوم
    سأجيب عليك في غضون الايام المقبلة تفصيلا
                  

02-06-2003, 07:07 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18724

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: خالد عويس)

    up
                  

02-07-2003, 04:52 PM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: خالد عويس)

    الاخ خالد

    حمدلا على السلامة

    كنت قد ارسلت لك عدة ايميلات ؛ ولكن يبدو انها لم تصلك

    بمناسبة المقالات حول نفس المحور ؛ فارسل فى بوست تحت نفس العنوان مقدمة لدراسة طويلة عن الحركة الجمهورية ؛ واكون شاكرا لو اصلتها لادارة الزمان

    لى النية كذلك فى اصدار كتيب عن الحركة الجمهورية والفكر الجمهورى ؛ واتمنى مساعدتك فى انجاز ذلك

    مع تحياتى وشكرى الجزيل

    عادل
                  

02-06-2003, 12:29 PM

Elmosley
<aElmosley
تاريخ التسجيل: 03-14-2002
مجموع المشاركات: 34683

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: بكرى ابوبكر)

    موضوع حدير بالمناقشة
                  

02-06-2003, 02:00 PM

atbarawi
<aatbarawi
تاريخ التسجيل: 11-22-2002
مجموع المشاركات: 987

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: بكرى ابوبكر)

    مقال اكثر من رائع
    up
                  

02-06-2003, 04:39 PM

Kabar
<aKabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18537

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: بكرى ابوبكر)

    شـكرا يا بكري على هذا الاختيار الـموفق ، والتحية للباحث الـمجتهد عادل عبد العاطي وحفرياته في منجزنا الثقافي والفكري والسياسي ..وقد آن الآوان لـمساءلة هذا المنجز من باب التقييم والـمراجعة والتجاوز ، ان كانت هناك ضرورة لذلك..
    والـمقال يثير في قارئه عدة اشياء ، واحسب ان هذه واحدة من اهم مرامي الكتابة الجيدة..
    و في ظني مشـكلة حركة الاخوان الجمهوريين ، ومشكلة معظم تشكيلاتنا الأخرى الـمشابهة لها في المنبع والأصول ، هو الاعتماد على المنظر/المفكر الواحد ..وذلك يعكس تصورنا الاجتماعي لمفهوم القيادة ، وهو مفهوم يستند على الأبوة كسلطة متناهية في التدبير وتسيير الشؤن ..وهو نفس التصـور الذي يسود تشكيلاتنا الأجتماعية الدينية المعروفة بالطرق الصوفية..وخطورة هذا الفهم تكمن في تحلل التشكيل بعد رحيل الأب كما في حالة الحركة الجمهورية في السودان..
    الـمسألة التانية..تحول الصـوفي الى ناشط يومي في معترك السياسي اليومي..وهذه مسألة مهمة يجب البحث فيها بصورة أوسع..وكلنا نلاحظ ان هذه الفكرة قامت عليها حركة الـمهدية ثم التنظيمات السياسية من بعد كحزب الأمة والأتحادي والجبهة الاسـلامية من بعد.. ولك ان تلاحظ مسألة الأبوة/القيادة في بنية هذه التنظيمات..
    ودمت
    محمد النور كبر
                  

02-06-2003, 06:20 PM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: بكرى ابوبكر)

    قال السيد المسيح "إن كلمتي لا ترد إليُ فارغة"
    تأسيسأ علي ذلك- يمكنني القول- بعد شكر الأستاذ بكري أبوبكر و الزملاء المشاركين، يمكنني أن أقول أن الأستاذ محمود قال كلمته و لكنه لم يرحل، إذ أنه لا يزال يثير جدلا و كما كان يقول الأستاذ أحمد المصطفي دالي في أركانه الشهيرة- المزارع بنوم لكن التيراب ما بنوم- فها هي دعوة الأستاذ تتكسب كل يوم أرضا جديدة كما كتب هو في رسالة الصلاة أن هذا الأمر قد تهيأت له البشرية بالحوجة له و بالطاقة به
    في النفس كثير ليقال و آمل ان أعود
                  

02-07-2003, 09:35 AM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48579

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: بكرى ابوبكر)

    شكرا يا بكري لرفع دراسة الأخ عادل عبد العاطي

    وأعتقد أن الناس قد قرأوا عن الأستاذ محمود ولم يقرأوا له بالقدر الكافي.. وقد أعود للتعليق.

    أما الآن فقد جذبني تعليق باب الله وتذكرت العوض، يا عبد الله، وهو يقول بعد رحيل العم محمد فضل الصديق ـ أحد أبكار الأستاذ محمود
    كنت بالأمس رأيتك في منامي
    تنفض القبر وتحيا من جديد

    كان في القلب يقينا أنه راح لإحياء النشيد
    [..ٍ]
    يدفع الركب لعرس الأرض واليوم السعيد
    وغدا ألقاك تحدو فهو يبدي ويعيد
    =======
    حقا لم يرحل الأستاذ إلا بجسده، ولكنه فينا بروحه وبفكره.. إن عظمة الأستاذ ليست في تحقيقه السامي وإنما في فتحه الطريق للناس لكي يحققوا السلام مع أنفسهم ويعرفوها وينشروها فيكونوا رسل السلام والمحبة في الأرض..
    اقرأو هذه المقدمة التي كتبها الأستاذ في عام 1976 للطبعة الثالثة من كتابه "قل هذه سبيلي" وتأملوا!!



    من كتاب "قل هذه سبيلي"
    بسم الله الرحمن الرحيم
    "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً، وقبائل، لتعارفوا.. إن أكرمكم عند الله أتقاكم.. إن الله عليم خبير.." صدق الله العظيم


    المقدمة .. الطبعة الثالثة

    [1976]


    هذا الكتاب "قل هذه سبيلي" صدر في عام 1952 ومع أنه صدر بعد "السفر الأول" إلا أنه كتاب يتناول الدعوة بالتفصيل والتحديد، ننشره كما هو، بمناسبة ذكرى مرور ثلاثين عاماً على دعوتنا، التي أخذت اسمها "الجمهوريون" من ملابسات الوقت الذي نشأت فيه الحركة السياسية والوطنية ضد الاستعمار، في الأربعينات..
    هذا الاسم لا يعبر تعبيراً كافياً عن محتوى دعوتنا، ولكنه صالح في المرحلة، لتمييز دعوتنا عن الدعوات الفارغة، التي تتسمى باسم الاسلام، وهي خالية الوفاض منه، ولقد كان همنا الأول أن يكون محتوى دعوتنا إسلامياً، وإن كان إسمنا مرحلياً، حتى يجيء اليوم الذي يتوكد فيه أن دعوتنا ما هي في الحقيقة إلا الإسلام عائداً من جديد.. ويومها يكون إسمنا الحقيقي إسماً مشتقاً من المعاني الإنسانية الرحيبة..


    الحضارة الغربية واغتراب الإنسان



    إن دعوتنا هذه إنما هي لمدنية جديدة تخلّف المدنية الغربية الحالية، والمنقسمة بين النظام الرأسمالي والشيوعي، والتي ظهر قصورها عملياً عن حل مشكلة الإنسان اليوم، فقد برعت وافتنت في صنع الآلة، وأنجزت إنجازاً كبيراً، في المجال المادي، والتقني، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً، في استيعاب طاقة الإنسان المعاصر، وتوجيهه. والحق أن صعّدت، وجسّدت، وأبرزت، أزمة الإنسان المعاصر أكثر من أي وقت مضى، وهذا ليس عيباً، كما قد يظهر في أول وهلة، وإنما هو حسنة من حسناتها، فقد وضعت الإنسان اليوم في أعتاب الحيرة، وجعلت منه باحثاً عن القيمة وراء المادة ــ القيمة الإنسانية ــ ورافضاً للمجتمع المادي، الذي يحيل الإنسان إلى آلة إنتاج، واستهلاك، يفقد روحه وحريته، وهي بذلك إنما وضعته في أول طريق الخلاص.
    الإنسان اليوم مغترب عن النظم السياسية، والإجتماعية، مغترب عن التقاليد، والأعراف، والموروثات، والمسلمات، والقيم التقليدية، واغترابه إنما هو شعوره بالحيرة المطبقة، وبالقلق، والاضطراب، ثم هو في القمة شعوره بفرديته المتميزة التي يرفض أن يذيبها عفوياً في تيار التطور المادي. والسبب الأساسي في اغتراب الإنسان هو أنه ذو طبيعتين، طبيعة مادية، وطبيعة روحية، فهو مكون من جسد ومن روح. فإذا أشبعت حاجة المعدة والجسد، الحاجة المادية، برز جوع الروح، وجوعها إنما هو حنينها إلى وطنها، الذي صدرت منه، حنينها إلى الله. فالاغتراب في الأصل، هو اغتراب الإنسان عن الله، وهو في المستوى المشعور به، يكون واضحاً، ولكن هناك مستوى غير مشعور به، وهو ما برز للإنسان المعاصر في رفضه للمادة، وفي بحثه عن القيمة الإنسانية، وعن الحرية.. في بحثه عن نفسه. وهو بحث في الحقيقة عن الله، ولعل ذلك يفسر لنا اتجاه الشباب الرافض في أوروبا وغيرها في الآونة الأخيرة إلى مظاهر من التدين غريبة، منها اللجوء إلى العقائد الهندوسية، أو تبني نوع من المسيحية ليس لها علاقة بالقديم، وإنما تتصور المسيح تصوراً جديداً.


    الأزمات تجتاح العالم



    ومشكلة الإنسان المعاصر هي لدى التمادي، مشكلة المجتمع اليوم، فمع اقتدار الحضارة الغربية، في ميدان تطويع القوى المادية، لإخصاب الحياة البشرية، واستخدام الآلة لعون الإنسان، فقد عجزت عن تحقيق السلام. والسلام هو حاجة البشرية اليوم. وهو في ذلك حاجة حياة أو موت، ذلك بأن تقدم المواصلات الحديثةن قد جعل هذا الكوكب أضيق من أن تعيش فيه بشرية، متنافرة، متحاربة فيما بينها، بل إن اختراع وسائل الحرب والدمار الرهيبة، قد وضع الإنسانية أمام أحد طريقين، إما السلام، وإما الدمار والفناء..
    والحضارة الحالية وبفلسفتها الاجتماعية مع فشلها في تحقيق السلام، فإنها أيضاً تقف عاجزة أمام الأزمات المتلاحقة في العالم، وعلى قمتها أزمة الاقتصاد العالمي، التي أبرزت تناقضات النظام الرأسمالي والشيوعي. وظهرت في الموجة الحادة من التضخم والغلاء، التي تجتاح العالم، والتي يعاني منها الناس جميعاً، أشد المعاناة، وفي أزمة النظام النقدي العالمي، الذي يعاني من عدم الاستقرار.. وفي أزمة الغذاء العالمي التي تهدد البشرية بالمجاعات والأمراض ونقصان الغذاء، ثم في أزمة الانفجار السكاني، وأزمة الطاقة زيادة على مشاكل الحروب، المتواصلة والنزاعات العنصرية، والاقليمية.. إن هذه الأزمات علّمت الإنسان ضرورة التعاون الدولي، وأكدت له وحدة مصيره، وضرورة تكاتفه لمجابهة الأخطار التي تهدد وجوده.


    قصور الفلسفات المعاصرة
    وعلى رأسها الشيوعية



    قلنا أن الحضارة الغربية بفلسفتها الإجتماعية قد فشلت في تنظيم مجتمع اليوم لأنها تقوم على أديم مادي، وقد تمادى هذا التفكير المادي بالشيوعية إلى قطعها صلة الإنسان بالغيب. والحضارة الغربية إنما فشلت لأن الفكرة الشيوعية، والرأسمالية وإن اختلفتا، في ظاهر الأمر، فإنهما تقومان على أديم واحد، وتنطلقان من منطلق واحد، هو التفكير المادي. ولقد عجز هذا التفكير المادي بشقيه عن استيعاب طاقة إنسان اليوم، الذي يبحث عن القيمة وراء المادة، يبحث عن الحرية، والذي أعلن تمرده في الشرق والغرب في ثورات الطلاب والشباب، ورفضه للمجتمع المادي، الذي يمارس صناعة القيم، وتحطم فيه مواهب الإنسان وطاقاته. ويفرض عليه المجتمع نمطاً معيناً من السلوك الاستهلاكي، وأخلاقاً معينة، من التعامل الآلي الجاف.
    وأيضا فشلت هذه الفلسفات الاجتماعية، لأنها لم تستطع أن توفق بين حاجة الفرد للحرية، وحاجة الجماعة للعدالة الاجتماعية الشاملة، فالشيوعية قد جعلت الفرد وسيلة المجتمع فأهدرت قيمته، وحريته، وحقه، وأقامت نظامها على القهر والعنف، وعلى دكتاتورية الدولة. أما الرأسمالية في الطرف الآخر، فإنها قامت على إهدار حقوق الأفراد، فهي نظام للتسلط الاقتصادي، واستغلال العمال، ثم هي تمارس ديمقراطية زائفة، تعطي الفرد حرية الانتخاب والترشيح، ولكنها لا تحرره من استعباد الرأسمالي له، الذي يمكنه أن يوجهه لأن يصوت لجهة ما بالتصريح أو بالتلميح، فيفعل ذلك، لأن الرأسمالي يملك قوته، وفي أحسن الأحوال يمكن للرأسمالي شراء صوته بوسائل عديدة، بل يمكنه أن يصنع ويزيف الرأي العام بامتلاكه للصحف، أو بمقدرته على شراء حديثها أو صمتها. فلا حرية مع النظام الرأسمالي ولا حرية مع النظام الشيوعي، الحرية موؤودة في كلا النظامين، والحرية هي طِلْبَة واحتياج إنسان اليوم، ولذلك لا مستقبل لهذين النظامين، لأنهما لا يوافيان احتياج الإنسان.


    اليسار الجديد



    ولقد شعر أذكياء الماركسيين بما يواجه النظرية، من فشل في التطبيقن ومن تحدٍ واضح لأصولها النظرية. فذهبوا مذاهب في محاولة محاولة إنقاذها فيما سمي باليسار الجديد، والذي حاول تعديل التعاليم الأساسية للفكرة الماركسية، بما يتناسب مع الواقع الديالكتيكي الجديد الذي طرحته الحياة. وفي الحق أن تعديل الفكرة الماركسية إنما بدأ منذ عهد لينين نفسه، الذي أدخل تغييرات جوهرية تمس أسس النظرية الماركسية، فهو قد طبق النظرية في دولة زراعية لم تنضج فيها الظروف الثورية، التي تضع العمال في قيادة حركة الثورة والتغيير، كما يظن كارل ماركس. فروسيا لم تُدخِل الصناعة آنذاك إلا في حيز ضيق. ولذلك إضطر لينين إلى إدخال الفلاحين والمثقفين الوطنيين في تحالف مع طبقة العمال الصغيرة، وقام بإنشاء الحزب على هذا الأساس، المخالف للنظرية في أصولها. ولمخالفات لينين للنظرية فقد فكر الماركسيون في إضافته كمُنظّر ثانٍ مع كارل ماركس فيقولون عن أعماله وأقواله "الماركسية اللينينية".
    ولعل من أبرز الانحرافات التي واجهت التطبيق الماركسي، هو اضطرار النظام الروسي نتيجة للإنخفاض المتوالي للإنتاج، وبالرغم من الرقابة البوليسية على العمال، إلى إعطاء حوافز ربح للعمال، فيما سُمي بحوافز ليبرمان، والتي دار حولها نقاش ضافٍ في جريدة البرافدا، من قِبل الاقتصاديين السوفيت، ووصفها بعضهم في هذا النقاش بأنها زحف رأسمالي على الإشتراكية، وأعلنوا معارضتها. وإنها لكذلك، فهي نكسة لحافز العمل الرأسمالي لم تجد الشيوعية منها بداً، وهي لم تجد منه مفراً لأن نظريتها إنما تقوم على قطع صلة الإنسان بالله، وإقامة المجتمع بذلك على قيمة واحدة، هي القيمة المادية، مما أفقدها القدرة على إعطاء أي حافز للإنتاج، والتضحية، فاضطرت للحافز المادي.
    وهاهو اليسار الجديد وبتحليله لظواهر المجتمع الصناعي والمجتمع الإنساني اليوم يخلص إلى نتائج مغايرة، لكثير من نتائج كارل ماركس. فيقرر مفكروه ومنهم هربرت ماركوس أن الأداة الثورية، التي اعتمد عليها كارل ماركسن اعتماداً أساسياً، في تحليله لظاهرة الطبقات، واعتمد عليها في القيام بالثورة، وهذه الأداة ــ وهي طبقة العمال ــ قد مسخت وصارت أداة سلبية، وذلك لامتصاص النظام الرأسمالي لثوريتها، باعترافه بتنظيمات العمال، وبرفع أجورهم، وتهيئة فرص المعيشة الحسنة لهم وفرص الاستمتاع بمباهج الحضارة، سواء بسواء مع الآخرين ثم بملاقاة النظام الرأسمالي للاشتراكية، في منتصف الطريق، وتطبيقه لبعض مظاهرها. وبنهاية ثورية العمال، سددت ضربة قاضية ومميتة للنظرية الماركسية. أكثر من ذلك فإن نظام "الأوتوميشن" وهو النظام الذي تدار به المصانع في جميع عملياتها، بدون تدخل من أحد، وذلك بواسطة العقول الإليكترونية. هذا النظام الذي بدأ ينتشر سيؤدي إلى نهاية الطبقة العاملة، والتي تعاني اليوم من جراء تقدم الآلة من إنحسار كبير، في عددها، لأن الآلات الحديثة كل يوم جديد تكون أقل احتياجاً للعامل وهي قد تحتاج للفنيين المدربين أكثر. وهؤلاء يشكلون طبقة جديدة، سماها اليساريون الجدد طبقة "التكنوقراطيين" والمديرين المسئولين عن عمليات الانتاج جميعها. وبهذا التطور العلمي، فقد واجهت الماركسية تحدياً سافراً، لا يمتص الأداة الثورية فقط، وإنما يسعى لإعدامها. وفكر اليساريون الجدد في طبقة أخرى للقيام بالثورة، فاقترحوا الطلاب، لإيقاظ الطبقة العاملة، ورأوا إعطاء المزيد من الاعتبار لكينونة، وحرية الفرد، لأن الديكتاتورية والقهر مرفوضة تماماً من إنسان اليوم. وفي اتجاه اليسار الجديد انساق الماركسيون الذين تمردوا على أسس جوهرية في النظرية الماركسية، وتبنوا نظام تعدد الأحزاب، والوصول للسلطة عن الطريق البرلماني ومنهم الحزب الشيوعي الفرنسي، والحزب الشيوعي الإيطالي وأحزاب شيوعية أخرى. وكان على رأس ذلك في فرنسا جورج مارشيه وقبله بوقت قصير كان غارودي. كل هذا التخبط والتردد يقرر بوضوح نهاية التجربة الماركسية وتصدعها في جميع الجبهات.


    الكتلة الثالثة
    "الاشتراكية والديمقراطية معاً"



    وأمام هذا الموقف الذي استعرضناه للعالم، موقفه الاجتماعي، وموقفه الفكري، فإنا نرشح الإسلام ليكون الكتلة الثالثة، التي تستطيع أن تصفي الصراع المذهبي في العالم لمصلحتها، وفتعيد توحيد العالم، بتلقيح الحضارة الغربية الحاضرة، وبعث الروح في هيكلها، المادي العملاق ولقد كان ذلك ممكناً في ماضي أسلافنا، في الجزيرة العربية، وهو ممكن اليوم، فقد ظهروا بالإسلام في منطقة مجدبة، ومتخلفة، فأشعلوا به الثورة في نفوسهم، وبرزوا به بين الحضارة الفارسية ــ الشرقية ــ والحضارة الرومانية ــ الغربية ــ كتلة ثالثة، استطاعت أن تصفي وبسرعة الكتلتين الشرقية والغربية، وتطوي تراثهما تحت جناحها. والتاريخ اليوم يعيد نفسه وإن اختلفت الصورة. فإذا انبعثت الثورة الإسلامية الثانية، بمقدرتها على حل مشاكل الإنسان، وبمقدرتها على إحراز السلام، وإحراز التوفيق بين بين حاجة الفرد للحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة للعدالة الاجتماعية الشاملة، فإنها ستبني مدنية المستقبل ــ مدنية الانسانية الشاملة ..
    ومقدرة الاسلام على التوفيق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة، إنما تكمن في التوحيد، وفي أن تشريعه يقوم على شريعة عبادات، وشريعة معاملات، كلاهما مكمل للآخر. فسعادة الفرد طريقها إسعاده للآخرين. هذا التوفيق بين الفرد، والجماعة هو الذي يعطي الإسلام وحده، الفرصة في تطبيق النظام الاشتراكي الديمقراطي، والذي يمتنع تطبيقه على جميع الأنظمة، لفقدانها القدرة على هذا التوفيق بين حاجة الجماعة وحاجة الفرد.
    إننا نرشح الإسلام لبعث المدنية الجديدة المقبلة، ذلك لامتلاكه عنصر الروح، عنصر الأخلاق. هذا العنصر الذي بفقدانه جُردت الحضارة الغربية من فرصة قيادة مستقبل البشرية. ثم لأن الإسلام بوضعه الفرد في مرتبة الغاية، والمجتمع في مرتبة الوسيلةن قد أعطى منزلة الشرف للحريةن والحرية هي قضية إنسان اليوم. ثم لأن الإسلام يملك المنهاج الذي يمكن به حل مشكلة اغتراب الإنسان ويمكن تحريره من حالة القلق والاضطراب..
    فالإسلام علم نفس، وظف منهاجه لتحقيق الصحة للنفسن بتحريرها من الخوف والكبت، الموروث والمكتسب، وبإطلاقها من إسار العقد النفسية، وبوصلها بأصلها الذي منه صدرت. ولمقدرة الإسلام على تحقيق السلام، ومقدرته على تبني التراث الإنساني جميعه، وتلقيحه، وصقله وتوجيهه.. بهذه المقدرة على المواءمة والتبني الصحيح، فإن الإسلام هو صاحب المدنية المقبلة، التي تشارك فيها الإنسانية جمعاء الشرق والغرب والجنوب والشمال فهي مدنية إنسانية، الدين فيها علم وتحقيق، وهي مدنية تقيم علائق الناس على السلام والمحبة والصلة. [..]



    انتهى

                  

02-07-2003, 12:32 PM

SAMIR IBRAHIM
<aSAMIR IBRAHIM
تاريخ التسجيل: 01-05-2007
مجموع المشاركات: 2628

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: بكرى ابوبكر)

    شكرا الاستاذ بكري

    استاذنا وشيخنا لم يغب عنا ...فقد رحل عنا جسدا ومازالت روحه تحلق بيننا......وارجو ان كانت لك بحوذتك جزء من محاضرات الاستاذ ان تنشرها علي حلقات لكي تواصل الاجيال معرفه الشيخ الصوفي والعلامه الاستاذ المرحوم محمود محمد طه ....رحمك الله استاذنا الجليل
                  

02-07-2003, 03:06 PM

Kudouda


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: بكرى ابوبكر)

    الاستاذ ياسر الشريف ..
    الرجاء الاطلاع علي المسنجر..
    الرجاء الرد في الاميل..
    [email protected]
    ولكم كل الموده والاحترام
                  

02-07-2003, 06:06 PM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: Kudouda)

    الاخ خالد

    الرجاء ارسال المقال ادناه لادارة الزمان

    الاخوات والاخوة المشاركين ؛ اتمنى ان تنال هذه القراءة اهتمامكم

    عادل

    ----------------
    نبذة عن المؤسس :

    الاستاذ الشهيد محمود محمد طه :



    لا يمكن تناول الحركة الجمهورية ؛ بعد حوالى58 عاما من تاسيسها ؛ و18 عاما على توقف نشاطها الرسمى ؛ بمعزل عن شخصية الرجل الذى اسسها وعاصرها وقادها ؛ منذ مولدها الاول وحتى ماساتها الدامية فى يناير 1985 . ان الفكرة والحركة الجمهورية قد ارتبطتاارتباطا لا فكاك منه ؛ بشخصية مؤسسها ومفكرها وزعيمها الاول والاخير ؛ الاستاذ الشهيد محمود محمد طه .

    ولد الاستاذ محمود محمد طه فى العام 1909 بمدينة رفاعة ؛ شرق النيل الازرق ؛ وتلقى تعليمه الاولى والمتوسط بمدينة رفاعة ؛ والتى رغم صغرها فقد كانت واحدة من اهم مدن السودان فى سبقها للتعليم الاهلى والعمل الاصلاحى ؛ والتى خرج منها المصلح الاجتماعى والتربوى الكبير الشيخ بابكر بدرى ؛ ثم التحق بكلية غردون التذكارية (جامعة الخرطوم لاحقا) ؛ كلية الهندسة ؛ والتى تخرج منها بتفوق فى العام 1936 ؛ و مارس عمله كمهندس بمصلحة سكك حديد السودان بمدينة عطبرة ؛ وقد كان ملتزما طوال عمله بعطبرة جانب العمال وصغار الموظفين السودانيين فى مواجهة عنت وظلم الادارة الانجليزية ؛ وكان ذلك موقفا متفردا وسط كبار الموظفين والمهندسين ؛ وعاملا حاسما للدفع عن مصالح المستضعفين ؛ فى غياب التنظيم النقابى للعمال وصغار الموظفين . ثم ما لبث بحثا عن الاستقلالية ان استقال من عمله فى الحكومة فى العام 1941 ؛ ليمارس عمله الخاص بعد ذلك فى المجال الهندسى ؛ والذى مارسه حتى انطلاقة نشاطه السياسيى فى منتصف الاربعينات .

    فى اكتوبر 1945 ؛ عقدت مجموعة من الخريجين اجتماعا بنادى الخريجين بالخرطوم ؛ اسست فيه الحزب الجمهورى ؛ وانتخبت المهندس محمود محمد طه رئيسا له ؛ وما لبث الاستاذ ان دخل فى مواجهات حادة مع الادارة الاستعمارية ؛ وتصاعدت الحملة لتصل الى اعتقال الاستاذ محمود ومجموعة من رفاقه لمدة خمسين يوما ؛ اطلق سراحه بعدها ؛ ثم ما مضى حين الا واعتقل مرة اخرى ؛ حيث قاد حملة تضامن مع امراة ؛ فى مدينة رفاعة ؛ اعتقلت لممارستها الختان الفرعونى تجاه ابنتها ليمضى حوالى العامين فى السجن ؛ ويخرج منه فى العام 1949 ؛ ليدخل فى خلوة بمدينة رفاعة استمرت حتى العام 1951؛ سيخرج بعدها بشخصية دينية واضحة ؛ ومذهبية جديدة عرفت فى السودان بالفكرة الجمهورية .

    مارس الاستاذ من بعدها نشاطه السياسى والفكرى والتعليمى ؛ عن طريق الاشتراك فى النشاطات الوطنية والتحررية ؛ فكان من المناهضين لقانون النشاط الهدام فى اوائل الخمسينات ؛ وغيره من القوانين المقيدة للحريات ؛و كما اتجه للكتابة الصحفية ؛ فكانت مقالاته ورسائله حول القضايا المحلية والاقليمية والعالمية تحتل صفحات الصحف الرئيسية فى الخمسينات ؛ومن بينها صحيفة الحزب القصيرة العمر ؛الجمهورية ؛ والتى استمرت لمدة 6 اشهر ؛ اضافة الى اصدارات الحزب الرسمية ؛ والى كتبه والتى بدا سيلها ينهمر منذ اوائل الستينات ؛ والتى توجها باصداره للكتاب الام للدعوة الجمهورية ؛ والذى ضمن فيه افكاره التجديدية والاصلاحية ؛ تحت عنوان : "الرسالة الثانية من الاسلام " والذى صدرت طبعته الاولى فى يناير 1967 ؛ وصدرت منه بعد ذلك اربع طبعات لاحقة ؛ وترجمة للانجليزية ؛ ودارت حوله الكثير من الدراسات والكتب ؛ والتى تراوحت ما بين الاطراء والتاييد ؛ ومحاولات النقد الهادف ؛ والهجوم السلفى عليها بدعوى الكفر والردة والالحاد .

    فى سياق ذلك ؛ فقد تعرض الاستاذ محمود الى المؤامرة الاولى تجاهه فى العام 1968 ؛ حيث رفع بعض ممن يسموا نفسهم برجال الدين قضية ضد الاستاذ محمود امام محكمة للاحوال الشخصية (المحكمة الشرعية ) يزعموا فيها بردته ؛ وقامت المحكمة فى غياب الاستاذ وتجاهله لها ؛ وكان ان حكمت بغلاظة وجهل بردته ؛ وبتطليق زوجته منه ؛ ودعت الى حل الحزب الجمهورى واغلاق دوره ومصادرة مملتكاته ؛ فى سابقة قد تكون هى الاولى فى العالم الاسلامى فى النصف الثانى من القرن العشرين .

    كان حكم المحكمة الشرعية سياسيا ؛ وقد كان جزءا من الحملة الفكرية والدعائية الى قادتها قوى الطائفية والظلام ضد ثورة اكتوبر ومنجزاتها ؛ والتى اسست على استغلال الدين لاهداف سياسية ؛ فتم تحتها حل الحزب الشيوعى وطرد نوابه من البرلمان ؛ ومطاردة وتحجيم الحركة النقابية ؛ وبناء ديكتاتورية مدنية باسم الدستور الاسلامى . ان اختيار الاستاذ محمود ليكون هدفا لحكم الردة لم يكن عبثا ؛ فقد كان من ابرز الناشطين فى مؤتمر الدفاع عن الديمقراطية ؛ ومن اكثر الناقدين للطائفية وسياساتها ؛ ومن اكثر المتصدين لدعوات الهوس الدينى والظلامية المرفوعة من تنظيم الاخوان المسلمين ؛ فحق بذلك عليه غضب هذا الحلف غير المقدس من تجار الدين ومستغلى الشعب من قادة البيوتات الطائفية وانصارهم من الجهلاء وغلاظ القلوب ممن اسموا انفسهم زورا بعلماء الدين .

    بعد وصول انقلاب مايو 1969 الى السلطة ؛ وحله لجميع الاحزاب السياسية ؛ بما فيها نشاط الحزب الجمهورى ؛ فقد انتهى الحزب كتنظيم ؛ بينما ساند الاستاذ محمود ومؤيدوه النظام ؛ باعتباره انقاذا للبلاد من السياسات الطائفية المعادية للديمقراطية والفكر ! وفى العام 1973 اعاد الاستاذ محمود تنظيم الحركة الجمهورية فى صورة جماعة ؛ اخذت اسم الاخوان الجمهوريين ؛ والتى مارست نشاطها الفكرى والدعائى منذ ذلك الحين عن طريق توزيع الكتيبات والنشرات والندوات فى الجامعات والمعاهد وما اسموه باركان الحوار فى الاسواق واماكن التجمعات العامة . وفى كل ذلك واصل الاستاذ تاييده المعلن للنظام حتى العام 1983 ؛ حيث تم الاختلاف بين النظام والجماعة ؛ وبدا الاستاذ محمود نشاطه المناهض لسياسات النظام الاصولية المتزايدة ؛ وتعرض من جراء ذلك للاعتقال لاول مرة تحت نظام مايو قى اوائل يونيو 1983 ؛ بعد اصدارالجمهوريين لكتيب ينتقد مباشرة النائب الاول للنميرى : عمر محمد الطيب ؛ ليقضى فترة حبس دون محاكمة حتى 19/12/1984 ؛ حيث اطلق سراح الجمهوريين فى خطوة محسوبة ظاهرها العفو ؛ وفى باطنها تدبير مؤامرة جديدة تجاه الاستاذ ؛ الذى ما لبث بعد خروجه ان اصدر بيانا بعنوان "هذا او الطوفان" فى 25/12/1984 ؛ ينتقد فيه قوانين سبتمبر وجملة من سياسات السلطة ؛ فما كان من النظام الا اعتقاله مرة اخرى فى 5/1/1985 ؛ وتدبير محكمة – مهزله له واربعة من رفاقه ؛ قامت على قوانين امن الدولة مواد اثارة الكراهية ضد الدولة ومحاولة قلب نظام الحكم ؛ وقد رفض الاستاذ محمود مطلق التعامل معها ؛ وحكمت المحكمة على المتهمين بالاعدام . ورفع الحكم الى محكمة الاستئناف ؛ والتى لم تناقش جوهر القضية وانما اضافت لها اتهاما بالردة ؛ وهى جريمة لا ينص عليها القانون الساري حينذاك؛ وايدت الحكم ؛ الذى رفع الى السفاح نميرى ؛ الذى لم يؤيد فحسب وانما اضاف اتهامات جديدة وبينات جديدة ؛ فى خرق واضح للقواعد القانونية والقضائية ؛ واعطت محكمة الاستئاف ؛ ومن بعدها السفاح لبقية المتهمين حق التوبة ؛ بينما حجبته عن الاستاذ ؛ مما يوضح سؤء النية وابعاد المؤامرة التى كان غرضها تصفية الاستاذ ؛ الامر الذى تم فى صبيحة الجمعة الحزينة ؛ فى 18 يناير 1985 .وتم نقل جثمانه بطائرة هيلكوبتر حيث تم دفنه بمكان مجهول فى الصحراء شمال غرب ام درمان .

    كان اغتيال الاستاذ محمود ؛ الشيخ البالغ من العمر 77 عاما ؛ واحد مؤسسى وقادة الحركة الوطنية السودانية ؛ وواحدا من ابرز المفكرين السودانيين ؛ ماساة دامية على جبين عصرنا؛ وعلامة لا تقبل الجدل على الانحطاط الاخلاقى والعجز الفكرى والجبن السياسى لمناهضيه من السلفيين ونظام نميرى . فقد تميز الاستاذ محمود ؛ على عكسهم ؛ فى طول حياته ؛ بسعة الافق والتسامح الشخصى مع مناهضية ؛ والحوار الراقى والجدل الفكرى مع اطروحاتهم ؛ والنشاط السلمى والبعد عن اى مظهر للعنف ؛ فى ظل التمسك التام بافكاره ومبادئه ؛ رغما عن سؤء الفهم العام وتشويهات السلفيين لها. ومارس حياة متقشفة زاهدة ؛ ولم يستفد من دعم مناصرية وايمانهم المطلق بشخصة ورسالته ؛ فى جلب مكسب مادى لشخصه ؛ كما انه وطوال سنوات تاييده ومسايرته لمايو لم يسع الى مكسب مادى من ذلك التاييد وتلك المسايرة ؛ وحين اتت محاكم النظام الجائرة بحكم مصادرة ممتلكاته ؛ لم يجد المنفذون ما يصادرون غير سرير خشبى شعبى –عنقريب- وبضع بروش ؛ ومنزل مبنى من المواد البلدية – الطين والجالوص - ؛كان فى حقيقته بيتا للجماعة اكثر منه ملكا شخصيا للاستاذ ؛ وحزمات من الكتب والمخطوطات احرقوها فى شوارع الخرطوم ؛ فى ممارسة اعادت للاذهان تجارب النازية فى حرقها للكتب ؛ كمظهر اعمى للعداء الثقافة والفكر والعجز عن الحوار .

    ان الاستاذ محمود محمد طه ؛ وغض النظر عن الاختلاف او الاتفاق مع اجتهاداته الفكرية والدينية ؛ وغض النظر عن تقييمنا لمجموعة من مواقفه السياسية ؛ يبقى معبرا رئيسيا لكرامة الفكر والمفكرين فى السودان . ومثالا حيا ابد الدهر ؛ للشجاعة المرتبطة بالوعى ؛ ورمزا متميزا عن الانتهازيين من الساسة والمفكرين ؛ والذين يبدلوا مواقفهم كما يبدلوا ملابسهم ؛ ويذبحوا المبادى الغالية على اعتاب السلطة ؛ وينكسروا امام جهل الجمهور او تحريضات الجهلة او عنف الخصوم . ان محمود على غرابة افكاره وعلى جراة تجديده وعلى اشكالية مواقفه الاجتماعية والسياسية ؛ قد وجد الاحترام والتقدير من العديد من مفكرى السودان والعالم ؛ فلم يكن غريبا ان يكتب عنه الشاعر الفذ محمد المهدى المجذوب ؛ عند اعتقاله الاول فى كوبر ؛ ممجدا لصمود محمود ؛ ومستنكرا ان تضم جدران كوبر الضيقة تلك الهامة الفارعة ؛ ولم يكن غريبا ان يكتب الاستاذ عبدالله الطيب ؛ وهو من هو من من سلفية الافكار والمواقف ؛ قصيدة رثاء حارة ينعيه فيها بعد استشهاده ؛ ولم يكن غريبا ان يرفعه فى سلم التقدير درجات قادة اليسار الماركسى فى السودان ؛ وهو الذى نقدهم – فكريا – بصورة جذرية ؛ كما لم ينقدهم احد فى السودان ؛ حيث شبه الاستاذ محمد ابراهيم نقد استشهاده ببطولة فرسان القرون الوسطى ؛ وباستشهاد ود حبوبة وابطال النضال الوطنى . وليس غريبا ان يستلهم تراثه ومواقفه وشخصه ؛ العديد ممن لا تربطهم بالفكر الجمهورى صلة ؛ وتربطهم بالاستاذ محمود الف صلة وصلة .
                  

02-07-2003, 07:06 PM

السوباوي
<aالسوباوي
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 209

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: Abdel Aati)

    لك التحية الاستاذ بكري وبقية الاساتذة الإجلاء
    عذرا إن لم أتابع مقالاتكم السابقة عن الاستاذ محمود محمد طه ...
    ولكني أود أشير غلى أضائتين ... في أعدام الأستاذ بالرغم من أني فقير جدا عن معرفة الكثير من تفاصيله الفكرية .. ولكن ما يهمني أن أقوله هنا فقط وجهة النظر القانوينة ولا أدري أن كان من تطرق لها قبلي أم لا ...
    أولا كل السودانيين أو السواد الأعظم منهم المهتم بقضية الأستاذ محمود محمد طه وبالرغم من أن معظمهم غير قانونيين ولكنهم يعرفون ... أن الأستاذ محمود قد حكم تنفيذا لنصوص وقواعد القانون الجنائي السوداني لعام 1983م ... وذلك لتجريمه بأرتكاب جريمة الردة ... مع العلم أن القانون السوادني لم يكن في نص يشير إلى هذه المادة ولا إلى عقوبتها .... وهذا ما صححته المحاكم لاحقا ولا زال وصمة عار في جبين القضاء السوداني .. والذي كان يعترف به ويخجل منه كبار دكاترتنا في كلية القانون .. وكنا نحترم فيهم ذلك .. هذه نقطة أولى
    أما الثانية ... وهذه يشهد بها من حضروا تنفيذ الإعدام عن قرب ومن كان حاضر من هيئة السلطة القضائية أو من منفذين أو غيرهم وهذا ما يجب أن يعرفه التاريخ ويعلن عنه هؤلاء الحضور إن كانت بهم شجاعة مع احترامي أيضا لبعض أساتذتي القانونيين الكبار .. الذين لا زال هذا الموقف يؤثر فيهم ولكن كنت أتمنى لو أنهم تمكنوا من نشرة في كل وسائل الأعلام ... وهي كالآتي وكما ذكر أحد الاخوان أن الاستاذ كان وقت تنفيذ الإعدام يبتسم بثبات ولكنه لم يبتسم فقط .. أتدرون أن الاستاذ محمود محمد طه لما أزفت ساعة التنفيذ قد حرك شفايفه نطقا بالشهادة ولم يكن صوتا مسموعا بقدرما يمكن أن تسميه درجة تحت الهمس ولكن طريقته في تحريك شفائفه بنطق الشهادة .. لا تغيب على الرجل العادي بأن هذه التي تتحرك بها الشفاه ما هي إلا شهادة أن لا اله إلى الله وأن محمد رسول الله ... وأن تقضينا عن تطبيق النص الغير موجود أصلا .. فتعتبر هذه شبه تدرأ الحد لو كان في الذين حضروا من له ضمير ومسألة الحدود تدرأ بالشبهات أمر لا يحتاج إلى مفتي ولكنه حديث وامر وضح في تعاليم ديننا الحنيف ....

    فهناك الكثير أعزائي حول ذلك الظلم الذي الحقته المحكمة بهذا الاستاذ ...
    لا يجدر بنا سوى أن نقول أن الله المستعان
                  

02-07-2003, 08:13 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48579

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: السوباوي)

    الأخ سوباوي

    تحية طيبة
    لقد أعجبتني مساهمتك ولكنني ضحكت كثيرا، وتألمت لعدم معرفتك للأستاذ، عندما قرأت مداخلتك في هذه النقطة:

    Quote: أتدرون أن الاستاذ محمود محمد طه لما أزفت ساعة التنفيذ قد حرك شفايفه نطقا بالشهادة ولم يكن صوتا مسموعا بقدرما يمكن أن تسميه درجة تحت الهمس ولكن طريقته في تحريك شفائفه بنطق الشهادة .. لا تغيب على الرجل العادي بأن هذه التي تتحرك بها الشفاه ما هي إلا شهادة أن لا اله إلى الله وأن محمد رسول الله ...


    من قال لك أن الأستاذ محمود لم ينطق الشهادة من قبل؟؟ ارجو أن تتمكن من قراءة كتابه الإسلام ، وكتابه "محمود محمد طه يدعو إلى طريق محمد" على هذا الرابط، لتعرف مدى علاقة الأستاذ محمود بالشهادة..
    http://www.alfikra.org/books/index.htm

    وفي الختام لك مني التقدير والاحترام
                  

02-07-2003, 07:31 PM

WadalBalad
<aWadalBalad
تاريخ التسجيل: 12-20-2002
مجموع المشاركات: 737

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: بكرى ابوبكر)

    أيها الإخوة الكرام

    لكل هذا وذاك فتحنا حلقة فى سلسلتنا "نحو سودان جديد" لمناقشة "الحركة الجمهورية والمستقبل" وذلك لمعرفتنا التامة بأن هذه الفكرة تحوى الكثير الذى يمكن أن يفيد السودان وأرجو من الإخوة العارفين ببواطنها توضيح ذلك حتى نتمكن من تصور أتجاهات السياسة السودانية بصورة أفضل
                  

02-07-2003, 08:26 PM

السوباوي
<aالسوباوي
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 209

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: WadalBalad)

    الاستاذ العزيز ياسر الشريف
    لك كل الشكر والود
    أرجو أن لا تضحك ولا تحزن ... فأنا اقول لم أعرف تفاصيله الفكرية وقد يكون ذلك لظروف كثيرة .. ليس هنا الآن وقت لسردها

    أما بخصوص الشهادة .. أنا لم أقل أنه لم ينطق الشهادة من قبل ولم أكفره على الأطلاق ولم أقل أن شهادته في لحظة الأعدام هي أول شهادة له
    ولكن حتى لو كان هذا الموقف انطبق على ارفع رجال الدين .. باتهامه بالردة ... وفي لحظة الحكم نطق بالشهادة أنا أقول أنه قد نطق الشهادة وليس معنى هذا ... أنني أنفي منه صفة الإيمان في كل ماضيه ..... فعذرا عزيزي ... قرأت للأستاذ الكثير ... ولي كثير من الأصقاء الذين عاشروه وحدثوني عنه .. وأظنك تعرف العم خيري .. الأخ عاصم ... أحترم كل هؤلاء ... قرأت له عزيزي ياسر ... ولم أقل أنه لا أعرفه ولكن كان تعبيري أن لا أعرف الكثير عن تفاصيله الفكرية فأرجو أن تركز لي على تفاصيله ...

    لك الود الاستاذ ياسر .. ويجب أن نستفيد منكم .. فيما نجهله .. بس بدون ضحك أو حزن
                  

02-08-2003, 07:43 AM

Yaho_Zato
<aYaho_Zato
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: السوباوي)




    قبل أن أبدي رأيي .. و قبل أن أقوم بحقي و واجبي في نقد الناقد .. أريد الإشادة بما يقوم به السيد عادل عبد العاطي من دراسة بحث و نقد جادة لشخصية المفكر محمود محمد طه .. و للحركة الجمهورية كجسد متكامل

    أنا على قناعة بأن النقد الصحيح لفكر الأستاذ محمود (و أسميه فكر الأستاذ مسايرة لما جرت عليه العادة بتسمية الفكر بأصحابه .. و هو أمر له سلبياته و إيجابياته) .. لا يتأتى إلا بالدراسة المسهبة لتاريخ الصوفية الطويل و تاريخ شخصياتها المشهورة .. بالإضافة إلى دراسة الفلسفات التاريخية القائمة على تطوير المجتمع إجتماعيا و أخلاقيا و سياسيا .. ذلك لسبب بسيط .. هو أن الفكرة الجمهورية جامعة للقضيتين .. و هذا الجمع ليس مأخذ سلبي كما يوحي به عادل عبد العاطي (و ذلك رأيه الذي أحترمه).. و إنما هو عين الإيجاب في هذه الفكرة الكونية .. ذلك أن الصوفية .. و من قبلها البوذية و الكونفوشيوسية .. و حتى المسيحية .. لم تفلح في جمع خصائص علم نفس الإنسان، و علم الإجتماع .. لاحظوا أنني أتكلم و أقارن فكر الأستاذ محمود بجميع أشكال الفلسفات و الديانات العالمية .. و ذلك لأني لا أرشحها لمركز غير أن يكون في منافستها جميعا بجميع أشكالها .. و لكن لا حظوا أيضا أنني لم أذكر الإسلام .. و لم أذكر النبي عليه الصلاة و السلام كصاحب فكرة الإسلام على الأرض .. ذلك لأن هذا من هذاك .. و ليس هناك في حقيقة الأمر إختلاف بين ما جاء به النبي محمد بن عبد الله قبل خمسة عشر قرنا، و بين ما جاء به محمود محمد طه في هذا العصر إلا إختلاف مقدار لتقدير الزمان و المكان .. و هذا هو عين الفهم الذي يختص المقولة الشهيرة بأن الإسلام رسالة خلاص الإنسانية جمعاء .. و هي خلاصة الحقيقة التي يبحث عنها الفلاسفة و العلماء في كل زمان و مكان .. لذلك فإن الزمان و المكان لا يحتويها.. و إنما تتطور الإنسانية في هذين الأطارين لفهمها و الإحاطة بها.. فزمان الرسالة الأولى من الإسلام كان زمانا لم يرتق فيه البشر إلى فهم الحقيقة .. إلا رجل واحد .. و لهذا كان تكليفه بالوصاية على هؤلاء الذين لا يعرفون و لا يطيقون المعرفة .. و كذا كان المكان أرض الديانات .. حيث تودع الطاقة الكامنة لفكرة الإسلام .. و يودع معها السبيل للوصول لها.. حتى تتطور البشرية عبر الزمان للخروج بهذه الطاقة

    فالزمان الآن إختلف عن القرن السابع إختلافا عظيما نحو الأعلى و الأفضل .. و المكان أصبح أصغر من المكان في القرن السابع الميلادي .. فالأن كل العالم قرية واحدة .. و بهذا الإعتبار يمكن أن نقول أن كل الأرض أصبحت في حجم ما بين مكة و المدينة بقياس القرن السابع الميلادي .. و بهذا أصبحت الأرض كلها أرضا خصبة للأفكار العالمية القديمة قدم التاريخ، و الحديثة حداثة العصر و اللحظة .. وحدها دون الإقليمية... أو الموسمية ... و هنا ظهر قصر جميع الفلسفات الأرضية مقارنة بالإسلام .. حيث ظهر لنا كيف أن الفلسفات الحالية غير قادرة على هذا الإحتواء العظيم .. رغم محاولة المسيحيين قصارى جهدهم كوكبة فلسفتهم سواءا بالأداء السياسي أو التبشيري .. و أخص بالذكر المسيحية هنا لسبب واحد هو أنها أكبر ديانة في العالم من حيث عدد المعتنقين و تنوع خلفياتهم الثقافية و العرقية (يليها الإسلام طبعا).. ظهر لنا قصر كل هذه الفلسفات بإزاء الإسلام ... أما هذا العجز .. فلم يظهره لنا الفقهاء الأربعة .. و لم يظهره لنا إبن رشد كأحد المفكرين العقلانيين في التاريخ الإسلامي .. و لم يظهره الإخوان المسلمين كتنظيم إسلامي حديث .. و إنما أظهره محمود محمد طه .. ذلك الرجل الأسمر بسيط المولد و النشأة و الحياة .. من أرض السودان التي ليس لأهلها عهد بأن يكون فيهم من يمتد بفكره فيغالب ماركس .. و يغالب فرويد .. ويغالب سقراط و أرسطو و أفلاطون معا.. و يتفوق بجدارة على بوذا في السرد الروحاني و التحليل النفسي .. و يطور منظار السيد المسيح في المعاني الخالدة و يزيح عنها غبار الزمان لتلمع من جديد بعد أن فقدنا الأمل في تجديدها ... كل هذا إعتمادا على محمد بن عبدالله .. صاحب فكرة الإسلام .. و الذي لم يعرفه و لم يعرف حدة و دقة فكره حق المعرفة حتى صحابته و أهله

    لا حظوا أنني في الفقرة الأخيرة أيضا لم أذكر الصوفية .. و هم لم يسقطوا سهوا .. بل هم جذور محمود محمد طه .. و هم مدده الذين أصبح بإستقاءه من منبعهم منهم .. و فيهم .. و اصبح مميزا بينهم .. و جوهرة فريدة في عقدهم

    هذا الكلام قد يفسره الكثير بأنه مبالغة أتية من احد أتباع محمود محمد طه يحاول أن يظهر فيها أستاذه على أنه هو .. و هو وحده .. صاحب الحقيقة .. و هذه عادة اصحاب الملل و الفلسفات عندما يتحدثوا عن متبنياتهم الفكرية و المعتقدية .. و لكني أضيف هنا للمعلومية فقط أنني لا أتكلم من هذا الباب لأنني صاحب إرث تاريخي يحتم علي أن أكابر و أنقض معه جميع سلبيات فكرتي .. و لا أظهر إلا إيجابياتها حتى لا أظهر أمام الناس كصاحب الأخطاء في التقدير و التحليل .. فأنا ليس لي أي إرث مادي أو معنوي من الحركة الجمهورية التي قامت في أرض السودان .. و لا ينسب إلي منها أي شرف أو مذمة (إن كانت هناك مذمة).. و هذا على ما أعتقد كافي لأن يجعلني ناقدا مثلي مثل السيد عادل عبد العاطي


    سأنتقل الآن إلى نقطة شدت إنتباهي جدا في مقال عادل عبد العاطي .. و هي ما قاله أن محمود محمد طه لم يفلح في تبني منهاجين مغايرين لبعضهما من صوفية تدعو إلى التفرد و الإنعزال .. و حركة إجتماعية سياسية تدعو إلى فضائل المدنية .. هذا طبعا كلام يعود و يرجع في النهاية إلى رأي و منطق حسب فهم صاحبه و إستيعابه .. و هو ليس إستيعابا قاصرا .. و لكن فلنقل فقط أني أختلف معه في هذه النظرة .. و سأبين هنا لماذا

    بدأت منذ فترة ليست بالوجيزة الإهتمام بالفلسفات الإنسانية و تتبع مساراتها .. الشرقية منها و الغربية .. هذا لأني عرفت ببساطة أن كوننا الذي نعيش فيه تحكمه فلسفات بعينها .. معاصرة و تاريخية .. يتبعها الناس في كافة الأرجاء و الأقطار .. منهم من هم على علم بها و منهم من هم ليسوا كذلك .. و لكن يتبعوها دون ان يعرفوا أنها في الحقيقة مدونة و فيها شرح لتصرفاتهم و آرائهم العامة في أحد الكتب .. في مكان ما .. و هذا ليس تعميما غير مؤسس .. إذ أنه تعميم لما هو عام من تصرفات و أفكار .. و ليس فيه حديث عن تفاصيل .. و تعميم العام و تصنيفه ليس فيه خلل .. و ليس مستحيلا

    ما توصلت إليه هو من ما توصل إليه قبلي من دارسي الفلسفة .. و هو أن هناك فرقا كبيرا في شرح علم الإنسان و الكون بين الفلسفات الشرقية و نظيرتها الغربية .. و كلاهما ينطلق من نفس الهدف .. و هو أن غاية الإنسان المطلقة هي السعادة .. السعادة الدائمة في كل يوم .. و كل ساعة .. و كل لحظة .. تقول الفلسفات الشرقية بأن السعادة الإنسانية هي غاية ذاتية .. و غاية ليس من سبيل للوصول إليها إلا بالتعمق في النفس الإنسانية و سبر أغوارها حيث تكمن الإجابة .. و أتباع هذا المنهاج منهم البوذية .. و منهم الكونفوشيوسية .. و المسيحية .. و يصنف معهم الصوفية.. في حين نجد أصحاب المنهاج المغاير.. اصحاب الفلسفات الغربية .. يجدون تحقيق السعادة الإنسانية في التكامل الإجتماعي البشري، و يسعون إلى تكوين هذا المجتمع عن طريق تأهيل الفرد ليكون عضوا صحيحا في جسد مجتمعه المدني .. فالمجتمع هو الغاية .. و الفرد هو الوسيلة ... و لا تحقق السعادة المطلقة لفرد في ذلك المجتمع إلا بعد كمال جسد المجتمع .. و من هذه الفلسفات اليوتاليتيرية (المنفعية) .. و الكانتية (رغم قرب بعض مفاهيمها من الفردية).. و الماركسية .. و الإسكيبتيسيزم (أو هلامية الأخلاق حسب ترجمتي).. و غير هذه و تلك الكثير

    هذا جزء بسيط دون إسهاب لماهية تكون و تطور الفلسفات الإنسانية في حاضرنا و تاريخنا البشري .. و كما يلاحظ الواحد منا فإن المعضلة تكمن دوما في تفسير العلاقة بين الفرد و المجتمع .. و تقديم إحداهما على الأخرى في حالة تعارض المصالح .. و للصوفية مكانها المرموق في مصاف الفلسفات المعنية بالبحث الداخلي عن السعادة .. و الصوفية طبعا تدرس في مدارس الفلسفات العالمية بإزاء البوذية و غيرها من مناهج الرياضة الروحية و النظريات البصيرية (نقيض البصرية) .. و لهذا ليس من الغريب أن يتعجب عادل عبد العاطي من كون محمود محمد طه صوفيا .. و مصلح إجتماعي في نفس الوقت

    الحقيقة الفلسفية أيضا تقول .. أن جميع الفلسفات ما زالت تدور .. و قد حققت إنتصارات في مجالات .. و حاقت بالهزائم في مجالات أخرى .. و لا يخرج من هذا الإطار الصوفية .. غير أن الصوفية تعود إلى حقيقة لم يتأتى لأي فلسفة أخرى فهمها .. و هي مسألة أدب الوقت المعروفة لدى العارفين من الصوفية .. فالصوفية لم يدعوا يوما أن علمهم قد إكتمل .. في حين إدعى ذلك بوذا (حسب ما نقل عنه .. و هو ما أشك فيه) ... و غيره من أصحاب الرياضات الروحية .. فكلمة بوذا مثلا تعني صاحب النور ، أو المتنور .. بمعنى صاحب الحقيقة ..أو عارف الحقيقة .. في حين أن الصوفية لم يدعي أحد منهم يوما علم كل العلم .. بل هو واضح في تاريخهم تطور الأفكار و ظهورها من عدمها النسبي كما هو الحال في كتب إبن عربي و الفرق بينها و بين كتب الصوفية قبله .. فإبن عربي أتى بالجديد الكثير إضافة للصوفية .. و لم ينكر عليه أحد من المتصوفة ذلك لأنهم عرفوا أنه يأخذ من نفس المعين الذي إستقى منه العارفين قبله .. و حقيقة هذا الأمر تتجلى عندما نعود إلى أصل الصوفية .. و هو النبي الكريم .. فهو صاحب الحديث الشهير الذي يقول فيه أن من يتوكل على الله حق توكله لعلمه الله من العلم ما لم يعلمه لأحد حتى هو صلى الله عليه و سلم .. و فسر ذلك بأن الله أعظم من أن يحيط بكامل علمه أحد

    من هنا نقول أن محمود محمد طه لم يخالف خط الصوفية .. فهو قد أضاف إليها الكثير .. في نفس الوقت الذي أمن فيه على أن ما لديه ليس كل موعود البشرية .. بل هو قد قال أن من المعرفة ما هو قادم و لم يأت بعد .. فهو كان إضافة للسلسلة الطويلة .. و لكنه لم يدع أنه آخر السلسلة .. و بالتالي هو لم يخرج من خط الصوفية إطلاقا .. إنما تابعه و قومه من جديد حيث كان قد زاغ بعض الشيء مع الزمان عن طريقه الأوحد ... ثم إرتحل

    خطوة محمود محمد طه في تعريف المعرفة الصوفية و تقديمها للمجتمع الخارجي هي خطوة جريئة كان هو اهل لها من تأهيله الكافي لها .. فهو قد مارس النشاط السياسي و الإصلاح الإجتماعي لسنين إكتسب منها خبرة عملية .. ثم إعتكف و خلا إلى نفسه و إلى ربه سنينا بعد ذلك .. ثم خرج على العالم بفكرة ذات توفيق للنقائض .. نقائض الفرد و المجتمع .. عن خبرة و دراية بالمجالين .. فهو إذا دخل بالصوفية عهدا جديدا .. لم تعرفه من قبل.. لهذا تنكر له قليلي الإدراك .. من صوفية و غيرهم .. و رحب به أصحاب الإدراك من الصوفية .. و أصحاب الإطلاع و الثقافة من غير الصوفية .. و هذا إنجاز سيشهده له التاريخ .. عاجلا أم آجلا

    أما بعد .. فللمعلومية أذكر أن أفكار محمود محمد طه تلقى ترحابا و إقبالا خارج السودان الآن أكثر مما هي داخله .. و قد أثارت أفكاره ضجة في جنوب أفريقيا .. و أوروبا .. وآسيا .. و أمريكا اللاتينية ... و هي ضجة خافتة .. و لكنها تكبر كل يوم .. و ستبقى تكبر حتى يسمعها كل العالم .. و تأخذ مكانها في مصاف عظائم الأفكار الإنسانية ... و سوف ينسب كل هذا للإسلام .. و لمحمد بن عبدالله بن عبد المطلب .. و النقد العلمي الجاد الذي يقوم به أمثال عادل عبد العاطي يعد بلا شك من تروس هذه الحركة المتطردة .. و ستظهر نتائجه على السطح عما قريب .. لذا ترقبوا معي .. فأنا أيضا مترقب


                  

02-08-2003, 09:42 AM

Abdel Aati
<aAbdel Aati
تاريخ التسجيل: 06-13-2002
مجموع المشاركات: 33072

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: Yaho_Zato)

    الاخ يا هو ذاتو

    تحياتى القلبية لك ؛ ومن قبل للجهد العظيم الذى تبذله قراءة وكسبا ؛ ثم تطرحه لنا كالدرر فى هذا المنبر وفى غير هذا المنبر

    اتفق معك فى وحدة التفكير الانسانى ؛ وفى صيرورته الى فكر عالمى انسانى ؛ حاول اغلب المفكرين والمصلحين وضعه ؛ ولكن عاقتهم ظروف الزمان والمكان ؛ ومستوى تطور الفكر والعلم فى زمانهم ؛ وهى عوائق موضوعية ؛ اذا سلمنا بالنظرة التطورية ؛ والتى تقول بتفوق الفكر الانسانى فى كل عصر جديد؛ على ما سبقه ؛ وليس النظرة الماضوية التى تبحث عن العصر الذهبى فى زمن غابر

    بهذا المنطق ؛ ما اسهام الرسل والفلاسفة والعلماء والمصلحين ؛ الا احجار تضع فى هذا البناء العظيم ؛ وما اتى به موسى ؛ وعيسى ؛ ومحمد ؛ وكونفوشيوس ؛ وزرادشت ؛ وبوذا ؛ ولاوتسى ؛ وهيجل ؛ وماركس ؛ وفرويد ؛ وداروين ؛ ومحمود ؛ الا اضافات للقكر الانسانى ؛ هذا اذا نظرنا من خارج نظرة المتدينين والعقائديين ؛ والذى يرى كل منهم فى ديانته وعقيدته الكلمة الفصل ؛ والحقيقة المطلقة ؛ المتنزلة من الله او الخارجة من رحم التجربة او المنبثقة من عبقرية الروح

    وليست الصوفية والنشاط الاجتماعى ضدان ؛ كما فهمت من نصى ؛ وانما هما طريقان صعب الجمع بينهما؛ فى صورة تنظيم ؛ بل ان اغلب الصوفية قد كان لهم موقف اجتماعى واضح ؛ من الظلم ؛ ومن انتهاك كرامة الانسان ؛ ومن قمع حرية التدين والتفكير ؛ بل ان الفعل الصوفى فى ذاته ؛ هو موقف واضح ؛ واعتراض بين ؛ على سير الاشياء فى هذا العالم ؛ وقد كان للمتصوفة السودانيين باع كبير فى الوقوف مع المظلومين ؛ وفى نشر التعليم ؛ وفى الخدمات لمجتمعاتهم ؛ ومن يرغب فى تحقيق ذلك ؛ فدونه كتاب طبقات ود ضيف الله ؛ او كتاب الفقهاء والسلطنة فى سنار ؛ لمولفه عبد السلام سيد احمد ؛ وغيرها من الكتب والدراسات

    ما قصدت الاشارة اليه فى المقال ؛ وما اوضحته فى كتابات لاجقة ؛ اتمنى ان انشرها على هذا البورد ؛ هو ان الاختيار الصوفى اختيار فردى ؛ ولا يمكن ان يكون اختيار مجتمع او جماعة ؛ اى يمكن للمراة او الرجل ان يكونا صوفية او صوفي ؛ ولا يمكن للحزب او المجتمع ان يكونا صوفيان ؛ ولذلك فاننى وددت لو فرق ما بين الصوفية كاختيار فردى - معرفى ؛ والعمل الاجتماعى كاطار سياسى - اجتماعى ؛ وقد كان الحزب الجمهورى فى مطلع ايامه كذلك ؛ ولو كانت به شخصيات مؤثرة اخرى ؛ لكان الحزب تجمعا سياسيا اجتماعيا ؛ ذو اهداف وطنية واصلاحية يتفق عليها الكثيرون ؛ ولكان الاختيار الايدولوجى للقادة والاعضاء متعددا ؛ وفى ذلك لا عتب على اختيار الطريق الصوفى لمحمود ؛ او العلمى لاخر ؛ او الفلسفى لثالث

    مهم هنا ؛ استذكار تجربة الشهيد كمال جنبلاط ؛ مؤسس وزعيم الحزب التقدمى الاشنراكى فى لبنان ؛ فقد كان الرجل صوفيا ؛ وماركسيا ؛ ولكنه لم يفرض خياراته على الحزب ؛ بل كان ما يجمع الناس فى حزبه هو البرنامج السياسى والاجتماعى ؛ ورغم خروج كمال جنبلاط من اسرة طائفية ؛ وتراث درزى ؛ كان يمكن ان يستغنى بهما عن اى تاسيس برامجى ؛ فقد طور هو الحزب ليتجاوز حدود الطائفة ؛ واحتفظ بخياراته االمعرفية لخاصة نفسه ؛ فى نفس الوقت الذى نشط فيه اجتماعيا عن طريق العمل السياسى والبرنامج الاجتماعى الذى يوحد الناس على اساس مصالحهم وخياراتهم السياسية والاحتماعية العامة ؛ لا على اساس الايدولوجية

    وقد ذكرت انا من قبل ؛ ان معضلة المرحلة الثانية من تطور الحركة الجمهورية ؛ اى عند تحولها الى تنظيم دينى ؛ تتمثل فى ان فكرها لن ينال التطبيق ؛ الا اذا اصبح كل االمجتمع جمهورى ؛ وهذا من المحال ؛ فالمجتمعات تتاثر بالايدولوجيات ؛ ولكنها لا تتادلج كلية ؛ ناهيك عن ان الفكر الجمهورى مربوط ربطا لا فكاك منه بالدين الاسلامى ؛ وهو من هذا المنطلق يقصى من حدوده غير المسلمين ؛ ولعلك قد تابعت تطور الفكرة البهائية ؛ والتى رغم مرور اكثر من قرن ونيف عليها ؛ وتخولها الى دياتة مستقلة ؛ الا انها لا تزال تراوح مكانها ولا تستطيغ فكاكا من اصلها الاسلامى ؛ ولا تزال علاقتها بالاسلام مثار جدل وصراع وخلط وعداءات

    ما هو اتجاه التطور فى نظرى ؛والذى يمكن ان تسير عليه المجتمعات ؛ لو لم تدمر الحكومات والساسة كوكبنا هذا ؛ اتجاه التطور فى الفكر يمر فى نظرى بعدة مراحل :

    - المرحلة الاولى هى مرحلة التعايش ؛ وهى مرحلة ان يتم الاعتراف لكل شخص بحقه فى اختيار ما يشاء من فكر او عقيدة ؛ وهى مرحلة العلمانية السياسية ؛ والدولة القومية ؛ والحرية الفكرية والدينية
    - المرحلة الثانية وهى مرحلة التلاقح ؛ وعى مرحلة تحتفظ فيها المجتمعات كما الافراد ؛ بما تشاء من افكار وعقائد ؛ وللكنها تتحاور وتتلاقح فيما بينها ؛ وتكسر حواجز الشكوك والمرارات التاريخية وسؤء الفهم والتعصب ؛ وهى مرحلة تستدعى الحوار الفكرى ؛ ووضع الاسس الرئيسية التى تجمع الناس - مواثيق دولية مصاغة بالتراضى وبقبول الجميع ؛ وهى كذلك مرحلة التجمعات الاقليمية والتعاون الدولى
    - المرحلة الثالثة وهى مرحلة الوصول الى الجامع المشترك الاعظم فى مجال القيم ؛ وهى مرحلة القيم الانسانية العالمية ؛ ؛ وهى مرحلة المجتمع العالمى ؛ وربما مرحلة الحكومة العالمية ؛ وهى مرحلة عالية فى تقارب الجنس البشرى

    اننا نرى الان ؛ فى العديد من الافكار والمنظمات ؛ بذورا من كل هذه المراحل ؛على تفوت فى تطورها ؛ فنحن فى السودان لم نصل بعد الى المرحلة الاولى ؛ بينما تخطو بعض الاقاليم ؛ كالاتحاد الاوربى مثلا ؛ الى منتصف المرحلة الثانية ؛ ونرى فى بعض عبقرى الاقكار والنشاطات ؛ بذور المرحلة الثالثة

    ان اسهام الاستاذ محمود ؛ كان يمكن ان يصب فى المجال الاجتماعى والسياسى ؛ فى تعزيز المرحلة الاولى ؛ ؛ وفى المجال الفكرى والمعرفى فى اجتراح افق المرحلتين الثانية والثالثة ؛ ولكن كل انسان محكوم بظروفه ؛ وبخياراته ؛ ولو لاحظت رسالة الاستاذ محمود ؛ والمعنونة : اعداد الانسان الحر ؛ لوجدت فيها بذورا لقيم المرحلة الثانية والثالثة ؛ ولوجدت ايضا انه يعطلها حين يربطها بدين بعينه ؛ وكتاب بعينه ؛ قد لا يرى فيه غير المسلمين ؛ او حتى بعض المسلمين ؛ ما يراه فيه الاستاذ محمود

    ولو نظرت حتى الى الجمهوريين ؛ لوجدت بينهم اختلاقا عظيما ؛ فى تقييم شهصية وفكر الاستاذ محمود ؛ فعمر القراى مثلا ؛ لا يرى فيه الصوفى ؛ وانما ينظرقبل كل شى الى السياسى ؛ ويزعم بامكانية تحقيق السياسى فى الفكرة الجمهورية ؛ بينما يراها ياسر الشريف فكرة دينية فى المقام الاول ؛ ويحاول حيدر بدوى ؛ والباقر العفيف ؛ ان ينظرا الى افقها الكونى ؛ ويحاولا ان يفك الربط ما بين الفكرة ؛ كتوجه شخصى ؛ والنشاط السياسى ؛ كاسهام عام ؛ يوحدهما مع آخرين ؛ من منطلقات فكرية مختلفة ؛ ويحاول نفس الشى محمد عثمان سليمان ؛ وان بقراءة مختلفة تماما لسلم الاولويات ؛ حيث يراها فى محاربة الطائفية ؛ والترابية ؛ وبتعامل مع حيثيات النظام الراهن

    اعتقد انا ؛ انه قد حان الاوان ؛ لفك المتشابك فى شخصية وسيرة وفكر الاستاذ محمود ؛ وفرز ما هو ظرفى وتاريخى ؛ مما هو مستقبلى وعالمى وعبقرى ؛ وفرز الاكتساب الفكرىوالسياسى والحركى ؛ عن الموقف الشخصى ؛ والذى تجاوز به العديد من نواقص الفكر والتنظيم ؛ وفك التنظيم عن الايدولوجية ؛ واعادة مرحلة الواجبات والمهام من جديد ؛ واستخلاص الحكمة الكاملة من التجرية

    وآمل حقا فى ان يكون لى حظ بسيط من عملية التفكيك واعادة التركيب هذه ؛ليس فى مجال الفكر الجمعورى فحسب ؛ وانما فى مختلف مكونات الفسيفساء الفكرية السودانية ؛ ونترك لمن ياتى بعدنا ؛ من الشباب الواعد ؛ من امثال ياهو ذاتو ؛ وموديك ؛ وغيرهم ؛ واجب اجتراح افاق جديدة

    مع التقدير

    عادل
                  

02-08-2003, 08:25 AM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48579

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: السوباوي)

    عزيزي السوباوي

    تحية ملؤها التقدير والإخلاص

    وأنا جد آسف لسوء الفهم، فأرجو المعذرة.. والحمد لله زعلتك مرقت درر.. نعم أعرف كل الذين ذكرتهم ولهم في قلبي مكان خاص، ولك كذلك..

    ولك العتبى حتى ترضى
                  

02-08-2003, 12:00 PM

السوباوي
<aالسوباوي
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 209

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: Yasir Elsharif)

    الاستاذ العزيز جدا ياسر الشريف
    نحن فوق أن نحوج بعضنا ... لأعتذارات وسوء فهم .. كل شيء جائز حدوثه ... أتمنى أن نعلم منك المزيد .. عن ما لم تسعفنا الظروف على معرفته عن الاستاذ محمود ... وأتمنى أن يكون رأي أو مساهمتي الأولى في حق الرجل هي من وجهة نظر قانونية فقط لا غير
    أما بالنسبة لمن ذكرتهم لك
    فالعم خيري الأمدرماني بالثورة الحارة التامنة ... فجلست معه كثيرا .. وحكي لي الكثير الكثير عن الأستاذ من الأشياء التي لم يعرفها عنه إلا من كا نوا لصقين به كالعم خيري ويبدو لي أنك تعرف علاقتهم مع بعض ... أما الاستاذ عاصم حامد فبيني وبينه علاقة دم قبل كل شيء ... وأما الباشمهندس معاوية الجاك فهو في مقام خال بالنسبة لي ... ومن هؤلاء كنت ... أتشوق لأن أكون قد عايشت هذا الرجل المعجزة

    ولك تحياتي ...
                  

02-08-2003, 07:30 PM

Yaho_Zato
<aYaho_Zato
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 1124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة (Re: السوباوي)




    الأخ عادل .. و لك من التحايا أجزلها ... و النقاش معك له مذاق طيب


    Quote:
    بهذا المنطق ؛ ما اسهام الرسل والفلاسفة والعلماء والمصلحين ؛ الا احجار تضع فى هذا البناء العظيم ؛ وما اتى به موسى ؛ وعيسى ؛ ومحمد ؛ وكونفوشيوس ؛ وزرادشت ؛ وبوذا ؛ ولاوتسى ؛ وهيجل ؛ وماركس ؛ وفرويد ؛ وداروين ؛ ومحمود ؛ الا اضافات للقكر الانسانى ؛ هذا اذا نظرنا من خارج نظرة المتدينين والعقائديين ؛ والذى يرى كل منهم فى ديانته وعقيدته الكلمة الفصل ؛ والحقيقة المطلقة ؛ المتنزلة من الله او الخارجة من رحم التجربة او المنبثقة من عبقرية الروح

    كلامك أعلاه لا غبار عليه .. و هو عين الفهم الصحيح الذي لم يخالفه محمود محمد طه ... ولكنني لم أتطرق إليه في قضية النقاش لأنه من الأساسيات التي تبنى عليها لا حقاتها .. و لو لم أكن مقتنعا بكلامك لما كان لذكر الفلسفات الأخرى و مقارنتها جدوى .. و لك العذر إن فهمت من كلامي غير ذلك

    Quote:
    وليست الصوفية والنشاط الاجتماعى ضدان ؛ كما فهمت من نصى ؛ وانما هما طريقان صعب الجمع بينهما؛ فى صورة تنظيم ؛ بل ان اغلب الصوفية قد كان لهم موقف اجتماعى واضح ؛ من الظلم ؛ ومن انتهاك كرامة الانسان ؛ ومن قمع حرية التدين والتفكير ؛ بل ان الفعل الصوفى فى ذاته ؛ هو موقف واضح ؛ واعتراض بين ؛ على سير الاشياء فى هذا العالم ؛ وقد كان للمتصوفة السودانيين باع كبير فى الوقوف مع المظلومين ؛ وفى نشر التعليم ؛ وفى الخدمات لمجتمعاتهم ؛ ومن يرغب فى تحقيق ذلك ؛ فدونه كتاب طبقات ود ضيف الله ؛ او كتاب الفقهاء والسلطنة فى سنار ؛ لمولفه عبد السلام سيد احمد ؛ وغيرها من الكتب والدراسات




    فعلا .. كلامك صحيح .. فالمتصوفة في كل زمان كانوا أصحاب مواقف لا تشوبها شائبة من الناحية الأجتماعية و السياسية .. و لكنهم لم يتخذوا طريق إصلاح المجتمع بنشر أفكارهم الإجتماعية بالشكل المتعارف عليه .. و إنما كانوا دوما يتمركزون حول الفرد .. في التعامل و الخطاب ... لهذا السبب أخذت الحركة الصوفية مسمى الحركة اللادنيوية .. مثل البوذية و غيرها .. فمن المعروف أيضا أن البوذيين أصحاب مواقف واضحة إجتماعيا و سياسيا.. و أنا عرفت أنك لم تقصد أن الصوفية منعزلين عن المجتمع إنعزالا تاما .. و لكن كان علي أن أختارإحدى طرفي المعادلة فقط حتى يصبح نقدى مركزا و متوسط الحجم

    Quote:
    ما قصدت الاشارة اليه فى المقال ؛ وما اوضحته فى كتابات لاجقة ؛ اتمنى ان انشرها على هذا البورد ؛ هو ان الاختيار الصوفى اختيار فردى ؛ ولا يمكن ان يكون اختيار مجتمع او جماعة ؛ اى يمكن للمراة او الرجل ان يكونا صوفية او صوفي ؛ ولا يمكن للحزب او المجتمع ان يكونا صوفيان ؛ ولذلك فاننى وددت لو فرق ما بين الصوفية كاختيار فردى - معرفى ؛ والعمل الاجتماعى كاطار سياسى - اجتماعى ؛ وقد كان الحزب الجمهورى فى مطلع ايامه كذلك ؛ ولو كانت به شخصيات مؤثرة اخرى ؛ لكان الحزب تجمعا سياسيا اجتماعيا ؛ ذو اهداف وطنية واصلاحية يتفق عليها الكثيرون ؛ ولكان الاختيار الايدولوجى للقادة والاعضاء متعددا ؛ وفى ذلك لا عتب على اختيار الطريق الصوفى لمحمود ؛ او العلمى لاخر ؛ او الفلسفى لثالث


    كلامك صحيح نظريا .. و فيه نظر معلوماتيا .. فالحزب الجمهوري لم يفرض على متبعيه إيمانهم بفكر الإستاذ .. و حقيقة الأمر الذي عرفته من إخوة جمهوريين بعينهم هو أن الحزب الجمهوري إستقطب الناس بفكره السياسي كما إستقطبهم بفكره الكوني و الديني .. و لكن لنضع في عين الإعتبار أن الحزب الجمهوري لم يعد حزبا سياسيا بعد عام 1969 بعد نقض الأحزاب .. و أصبح جلل إهتمامه و نشاطه فيما يختص الثورة الثقافية الموسوعيةالشاملة سياسيا و دينيا و إجتماعيا .. و لكنه كان يضع آراءه فكريا .. و ليس سياسيا (بمعنى مانيفيستو الحزب الجمهوري) .. فالأستاذ محمود كان منذ البداية صاحب خط واحد منذ أن آل إليه منصب رئيس الحزب (و الحزب لم يكن فكرته هو حسب تعليقه بنفسه).. إلى أن إرتبط الفكر الجمهوري بشخصه إرتباطا موثقا.. و لم يكن يفرض آراءه الدينية و الإجتماعية .. و لا حتى السياسية على اعضاء تنظيمه الحزبي .. و الجدير بالذكر أنه لم يفعل ذلك مطلقا حتى لحظة إعدامه .. و لكن الرجل كان صاحب قدرة على الإقناع و سوق الحجج و الدلائل .. فشمل بفكرته من جاء من باب السياسة فقط .. و من جاء من باب الفكر فقط .. و من جاء من باب الدين فقط .. فأصبحت فكرته موزعة بالتساوي على أعضاء تنظيمه بكامل قناعتهم .. و أما من لم يقتنع منهم فقد ترك الحزب دون شقاق لأن رأيه أصبح يتعارض مع رأي الأغلبية .. لذا فليس هناك غير التنظيم الديموقراطي البحت في سير الحركة الجمهورية .. و سيرة محمود محمد طه .. قائدا و عضوا

    Quote:
    وقد ذكرت انا من قبل ؛ ان معضلة المرحلة الثانية من تطور الحركة الجمهورية ؛ اى عند تحولها الى تنظيم دينى ؛ تتمثل فى ان فكرها لن ينال التطبيق ؛ الا اذا اصبح كل االمجتمع جمهورى ؛ وهذا من المحال ؛ فالمجتمعات تتاثر بالايدولوجيات ؛ ولكنها لا تتادلج كلية ؛ ناهيك عن ان الفكر الجمهورى مربوط ربطا لا فكاك منه بالدين الاسلامى ؛ وهو من هذا المنطلق يقصى من حدوده غير المسلمين ؛ ولعلك قد تابعت تطور الفكرة البهائية ؛ والتى رغم مرور اكثر من قرن ونيف عليها ؛ وتخولها الى دياتة مستقلة ؛ الا انها لا تزال تراوح مكانها ولا تستطيغ فكاكا من اصلها الاسلامى ؛ ولا تزال علاقتها بالاسلام مثار جدل وصراع وخلط وعداءات



    إسمح لي أن أخالفك هنا قلبا و قالبا .. فما أفهمه من كتب الأستاذ و من دعوته أن كون المجتمع الإنساني يصبح تحت راية واحدة .. فكرية و عقائدية .. هو أمر لم يسع محمود محمد طه لتحقيقه .. و لكنه كان يحلم به .. و يضع الأسس للوصول إليه و هو يضع في عين الإعتبار صعوبة تحقيق ذلك .. و هذا في الحقيقة ليس مطلبه هو فقط .. إنما هو مطلب صاحب كل فكر منذ قيام الفكر في التاريخ البشري

    الفكرة الجمهورية ليست فكرة دينية ... بالمعنى المفهوم للأديان .. فهي تخاطب جميع الناس بكافة خلفياتهم المعتقدية و الثقافية و العرقية .. و تطلب منهم تحقيق حد ادنى من التفاهم و الإنسجام .. و ليس في هذا إجحاف أو شطط .. و لو تأملت في كتب الفكرة جيدا .. لوجدت أن الجانب الديني دائما يخاطب ضمير الفرد .. لا ضمير الجماعة .. في حين ليس للحد الأدنى المطلوب من الجماعة علاقة بالدين (نظريا).. إنما هو المنطق وحده .. و هنا يكمن السر في كونية الفكرة الجمهورية .. و هو ما تحدثت عنه بإسهاب في مقالي الأول .. حيث التوفيق بين الرؤى و الطموحات الفردية .. و الوحدة الجماعية .. إذا ففقرتك أعلاه هي التي كان فيها التفصيل في خطابي الأول ... و بدونها لأصبحت الفكرة الجمهورية كمثيلاتها من الأفكار الهائمة على سطح الارض

    أما كلامك على إقتصار الفكرة الجمهورية على نطاق الإسلام (بمعناه المفهوم حاليا).. فأنا أيضا أخالفك فيه .. فالفكرة الجمهورية لديها من الأدوات ما يجعلها بابا منفردا للإسلام .. بمعنى أنه لا يشترط في الفرد أن يكون مسلما حتى يستوعب الفكرة الجمهورية .. و يعتنقها .. و يصبح مسلما عن طريقها .. و هذا أيضا ينصب في مصب ما قلته لك عن كونيتها .. و إعذرني إن ذكرت لك أن محاولة مقارنة الفكرة الجمهورية بالبهائية لا تنساق لي .. حيث أن البهائية ممثلة الآن دوليا و تنظيميا في شكل ديانة منفردة .. لها ممثليها المنفردين في هيئة الأمم المتحدة .. و لها معتنقيها ممن لا و لم يمتوا للإسلام بصلة يوما .. و الفكرة البهائية فيها طرح عقائدي قوي ... في شخص بهاء الله و كلامه .. و ليس فيها سرد علمي لدعوتها بالشكل الكافي .. لذلك فهي تختلف عن الفكرة الجمهورية كليا من الناحية العلمية (التي كانت عماد فكر محمود محمد طه).. و من الناحية الإنتمائية .. فإذا تحدثت مع بهائي و آخر جمهوري .. ستجد الخطاب العقائدي الميت المعتاد عليه في كلام البهائي .. في حين لا يفترض أن تجد ذلك في كلام الجمهوري .. إنما يفترض أن تجد النظرة العلمية و التحليل العلمي للامور .. و فكرة محمود محمد طه كان جل رهانها على الجانب العلمي من الإسلام ... فمحور الفكرة الجمهورية قائم على أن المجتمع الإنساني الكوني سيتوحد بالعلم .. لا بالعقائد.. فتأمل

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de