أعن هذا !! يسار إلى الطعان!!؟

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-20-2024, 05:06 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-07-2005, 03:43 AM

عبدالغني كرم الله بشير
<aعبدالغني كرم الله بشير
تاريخ التسجيل: 12-06-2005
مجموع المشاركات: 1082

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أعن هذا !! يسار إلى الطعان!!؟


    (ترتيب حقيبة السفر)!!

    كنت ارتب في الحقيبة، قمصان وبناطلين، قطفتهما وأنا راجع لوطني، كما يقطف خالي حبات الطماطم، بفرح غامر (هذا سألبسه للسفر، وهذا لعرس سوسن، وهذه الكورة لمدثر، ..)، كانت الشنطة مليئة، مثل بطن أنثى حامل، حامل بعشرات الهدايا، بل مئات....

    مرت الإجازة كبرق... كبرق شق ظلام الملل، وكعادته، وكغريزته، تلاشى عجولاً...

    والآن أرتب في الحقيبة، كي تغادر عيوني محاجرها، كعادة المناخ في بلدي، يقسو على البذرة، كي تهاجر أوراقها، وزهورها، وثمرتها، إلى فجاج عميقة، وتبقى ساق عجفاء، بلا شعر أخضر، يزين رأسها، أو ثمار متوهجة(اشتهي أن اشرب الشاي مع أختي علوية، ومحاسن، وحسين وعبد العظيم، معا معاً معاً)، دعاء بسيط، وساذج، ومستحيل، فلم شمل أسرتي، صعب، كأن تعود أوراق شتتتها الرياح إلى أغصانها، والرياح لا تزال تولول، مضخمة ساديتها....

    شنطة سوداء، (لا تحاكي عيون الحبيبة، ولا صوت أمي الملي بالحداد فقط )، بل تحاكي أي غد، تجري ساعاته، ولحظاته، بعيدة عن شمس وطني، ونبضه الفريد...

    (ما في داعي للمكوة) هكذا قلت لندى، بنت أختي (فتاة مرهفة جداً، حياتها معجزة، مثل لهب شمعة يرقص واهنا، رغم أصرار الريح الصرصر على ابتلاعه)، فهي مرهفة، بشكل يهدد حياتها، بالموت، أو الجنون، تأسيا بإدريس جماع...(داير شنو تشيلو معاك، فول نبق، ويكة؟) سؤال خالتي التقليدي، رائحة المكوة، ملابس مبعثرة في السرير، كجثث لغارة جوية يومية... قمصان جميلة، كفن جميل لجسد سيفارق روحه... بنات خالي جئن للمساعدة، كعادتهن، في السراء، و(الضراء)، الجدران تبكي، المكوة تدوس على كرمشة الكم، بحرقة، كي تحرقها .. تضغط سوسن الصغيرة على الكم بقوة، ثم ترشه من فمها، من منقارها، من لسان يشق صمت حوشنا كل صباح (كيف أصبحتو ياخلاتي علوية)، أنا غريق، غريق، اتمسك بكل شئ من حكاوي أهلي، أيتها القابلة ارجعيني لرحم أمي، فصرختي الأولى لم تتوقف، ولن تتوقف، بل تفاقمت، إلى أنين وبكاء وجنون......

    (قاسي قلبك علي ليه) خرجت موسيقى الأغنية من موبايل (إشراقة)، رنين لمكالمة من أخيها كرم الله، ردت عليه بعبرة وحشرجة (كرم عامل كيف... عبد الغني مسافر الليلة)....

    دخلت القصمان الحقيبة، كما يدخل السجين الزنزانة، فهذا آخر عهد لها بالإيدي الآدمية الحنونة، وبالطشت، أيدي تغسل الكم واللياقة بإحساس من يغسل طفل، أو يتحسس حنايا الحبيب، ثم تعلق القمصان، كالعصافير على الحبل، كي تنزف ماء الوطن، قطرة قطرة، وتجف من أوساخ وطني وغباره المبارك...

    الحقيبة صغيرة، وسأحمل بداخلها نهر النيل، سألفه بدقة، حتى لاتضيع منه موجة واحدة، أو تغرق مركب، أو تختنق سمكة، والقباب لو طأطأت قمتها الشامخة، كي أحشرها مع كتاب الإنداية، وديوان ابن الفارض....

    مدثر الصغير يلتصق بي، رغم الإغراء الكبير (أمشي جيب صلصة وزيت وشيل الباقي كلو)... أولاد أختي، بل أخواتي، في الغرفة المجاورة، يتحدثون في مواضيع عادية، عادية، (غير عادية، ستحتل مكانها لهجات أخرى، هندية وسريلانكية وشامية) تشعرني بأنني نبات صيفي، ذرع في عز الشتاء....

    الحزن كالهواء، يملأ رئة المنزل، حتى سمية (ذات الثلاث شهور)، (فهي حديثة عهد بفراق جنة الرحم) كانت تبكي بحرقة، ثلاث ساعات لم يتحدث أحد، أمي تخرج وتدخل، للمرة الثامنة، دون أن تلفظ كلمة واحدة، السكون الذي يسبق البكاء، تذكر أمي أخي عبد العزيز، المسافر في تخوم السماء، مع أي سفر لي، سوسن يوجف قلبها، سنة كاملة لن تراني، وهي لن تصحو على مطر بارد جدا، يسقط على رأسها كل صباح، مطر يسقط من كوز، (والله ما بنسمع عثمان حسين إلا معاك)، ثم تمضي مغنية بصوتها العادي (والله كل ما نسمع عثمان حسين نذكر رقدتك و....)، قالت كلمة (والله) بأسى وكبير، وكأنني قد سافرت، في خيالها، ب(بالفعل) ولي سبع شهور...

    دخلت أمي مرة تاسعة، جسمها ملئ بالعرق، وخاصة ظهرها، فهو يقابل فتحة في الراكوبة، يكتوي ظهرها بنار الشمس، ونور الحب دوماً، أحس بأني عاق، (بكرة حا أصلح قد الراكوبة دي)، وهل يأتي بكرة خالي الوفاض، عزائم، ودعوات، أو كسل، ولكن ليست بأهمية ظهر أمي المكتوي....

    طوال الإجازة، أصحو في العاشرة، وفي هذه الفترة، تكون فاطمة بت عبد الله، الصغيرة، قد باعت أكثر من خمس أدوار كارو، وحضر خالي من الحقل متعباً، طيباً، أما أمي، فهي دوما تسبق عباد الشمس، في يقظته الحتمية، كي تعد اللبن للأطفال، ثم تجمع الجرائد، والتي قرأ اخي عثمان صفحاتها السياسية، والرياضية، ومعه قرأت صفحتها الثقافية، فتدسها أمي في فرن الكانون، محاطة بالأحفاد من كل جانب، فتصحو رشا، وفي انحناءة واحدة، تكنس ما يعادل نصف ملعب كرة قدم...

    لا أقوى، بل لن اقدر على وصف لحيظات الفراق، فإذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.....

    خرجت من الدار، كان هناك طفل وأمه في فسحة أمامنا....الخريف زخرفها بما يشاء من إبداعه السنوي الساحر... تسمرت أمام المشهد، أنه آخر مشهد، طرف الثوب الأخير لطفل ينزع من أمه، لطفل يغرق في عتمة البعاد:

    يركض الطفل بعيداً عن أمه، وقد أفلت من يدها، يجري مسرعاً أمامها، ثم يتوقف، هل فتر؟ أم أحس بألم فراقه لأمه، نأى عن وطنه، إنها مجرد 50 خطوة صغيرة تبعده عن يدها الحانية، التفت خلفه وهو ينظر بشغف لأمه، والتي لم تغير إيقاع خطواتها، ينشغل بشي في الأرض وهو جالس في انتظارها ، شئ نفيس، وإلا لما سرح في تأمله، إنها خنفساء ملساء، لونها أسود ذو نقط صفراء، ولكنها تومض كزحل في عينيه الشاعرتين دوماً، غرق في نشوة لمس ظهرها الأملس، تاركاً أمه تتجاوزه، بخطواتها الموزونة.

    فجأة هب مذعوراً، وكأنه أحس بأن أمه أغلى من روعة حركة قرني الخنفساء، ليت بمقدوره أن يراقب قرنيها ويلحق بأمه في آن واحد، ركض سعيداً لأمه، وعينيه تتابع قرني الخنفساء وهي ترقص كأشعة الليزر، أمسك بيد أمه، وكأنهم لم يلتقيا منذ سنين، حنان بالغ لا يفارق محياة ومضة برق، نظرت الأم ممتعضة إلى الطين الذي يحنن يديه.

    فشلت كل محاولاته في وزن خطواته الصغيرة بخطواتها ، أمه لا تعير اهتماماً للأشياء النفسية التي تسب عينيه الشاعرتين، إنه مشغول بنفائس الأرض وكنوزها، حشائش وحشيرات وحصى ويرقات، أمه تبدو مشغولة بشي ما، شي في الماضي، في المستقبل، وهو غارق حتى أذنيه في أنثيال الحياة أمامه، يجري يساراً، ثم يعود، يميناً، ثم يعود، خيط لا مرئي يربطه بأمه، يفكه، ويربطه، أحياناً يجري بكل قوته ، وكأنه يريد أن يمسك ملاكا غير مرئي، في عين أمه، فر من يديه، أو يحاكي غزال، يقفز بداخله.

    ركض سعيداً نحوها، يحمل بكفه الصغير شئ عزيزا، التقطه من ظل شجيرة صغيرة، كي تطرب مثله برؤيته، ، كان سعيداً بصيده الثمين، أنها حبة قمح جميلة، تعثر في طريقه، كعادته، ضاعت حبة القمح، ظلت عينه ترقصان كالبندول بحثا عنها، وحين عثر عيلها، نظرت أمه لها بفتور وهي في كفه المتسخ، وبخت كفه المتسخ، ولم ترى حبة القمح تتلألأ في حقل يده الغضة، السعيد والمشرف على الموت لا يتفاهمان، ليس ذهن الكبار معيارا للأشياء، يجري ثم يتوقف، متنازع بين حياة القطيع والتفرد، يجري بقوة وكأنه مسكون بمارد، أو مطارد من قبل حورية، يتعثر، ويقوم، فيسقط أرضا، أيود أن يطير، مقلدا الحمام والفراشات، لا استحالة بقلبه الغض، يبكي من الألم، تبتل خدوده بالدموع والطين، يخربش الارض المبتلة بريشه أنامله، تتجاوزه أمه للمرة الثامنة، أهم في سباق!؟، إنها ذاهبة للبيت، وهو إلى أين، معها، لم ينشغل ذهنه بهذه الترهات، المسلمات، إنه لا ينظر سوى لأنثيال الحياة أمامه، نافورة من الخمر والدهش حيث ما يولي بصره، تاركاً لفطرته العنان.

    أنه يغير خطواته عشرات المرات، يسرع ويبطئ، و هي، موزونة الخطوات، والخيط الرفيع لازال يربطه بوطنه، بأمه، قوة طرد وجذب مركزية، نجوم تدور في أفلاك، صورة مصغرة جميلة لما يجري في الأفاق، بريق سحري ينبعث من كل الأشياء، انبطح على بطنه كي يتفرج على موكب النمل، أنه يسمع أنينها وهي تتسلق جبال الحصى، أن يرخي سمعه لموسيقى أرجل النمل وهي تضرب بأقدمها الأرض، لا يكترث لاتساخ ملابسه، لا يقدم فاضل على مفضل، الأولية للفرح، (تعالي شوفي الخنفساء)، (ماما شوفي الحصي دي)، (زهرة صغيرة صفراء) (اسمعي صوت اليرقات) (ماما السحب رسمت فيل) لا حياة لمن تنادي، (من جهل العزيز لا يعزه)، لم تتغير خطوات أمه، ظلت كما هي، بدون أن يثير فها الأفق، ورقصات السحب، وقافلة النمل، ودغدغة النسيم، ورائحة الحشائش، أي شي، كي تلتفت لها، مثل صغيرها الولهان بكل شئ، بكل شئ، حتى فتور أمه، لم يأبه سوى لنفسه المترعة بالحب.

    يجري ثم يعود لأمه، أي خمر شرب، حتى يرى الضوء يبرق من الحصى، الفحم، أعواد الثقاب، القناني، يسبق أمه بخطواته الصغيرة، ثم تسبقه أمه بخطواتها المحسوبة، الموزونة، العاقلة، الفطرة أم العقل، أي سباق هذا؟...

    *******

    ركبت الطائرة متجها نحو قبري، كنت بطل المسرح، شئ عزيز، تنتظرني إخواتي آخر الليل، تمر أمي على سريري أكثر من سبع مرات وأنا نائم، كي تغطي أي سنتمتر وقد انزلقت منه الملاءة، وتتمتم (أحرسه بجناح جبريل)، وحين أصحو في العاشرة أجد كل شئ أمامي، البسمات، والشوق .. إلى الشاي واللقيمات.. أصحو في العاشرة كما يحلو لي، وليس على صوت قنبلة المنبه، وهي تفرقع في الخامسة صباحاً، عابسة، كالطريق إلى العمل، كالزملاء، كالزمن السلحفائي، وهو يحبو نحو إجازة سنوية أخرى، بعيدة....

    ***

    أعن هذا يسار إلى الطعان....
    أبوكم آدم سن المعاصي، وعلمكم مفارقة السودان.... الجنان...

    (عدل بواسطة عبدالغني كرم الله بشير on 12-07-2005, 03:46 AM)

                  

12-07-2005, 02:26 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أعن هذا !! يسار إلى الطعان!!؟ (Re: عبدالغني كرم الله بشير)


    الأشياء تستعيد سلطتها التي سرقتها الثنائيات المتعارضة

    كتب ـ محمد الربيع

    السرد قصا كان أو رواية‚ يعيد الاعتبار للتفاصيل والأشياء‚ ويخرجها من عزلتها في الكون‚ ويدخلها إلى موسيقى الوجود الكلية‚ التي يأخذ فيها أي عنصر موقعه الحقيقي‚ ويوحي ويدل ويشع على السياق بأكمله‚

    والأشياء لا تعيش في عزلة إلا في ذهننا السائد‚ لأنها في الحقيقة مرتبطة حيويا بالإنسان وبوجوده منذ بدء الخليقة‚‚‚ إلا ان خطاب الثنائيات المتعارضة‚ القائم على النظر إلى العالم وإلى الحياة بوصفة حصيلة لصراع أو حوار قطبين بين كوكب الفعل والمفعول به‚ مسخ الاتساق النغمي لحركة الاشياء في سمفونية الوجود الكلي‚ ووحدتها الجمالية‚

    والقاص والكاتب السوداني عبدالغني كرم الله‚ في كتابه «آلام ظهر حادّة» الصادر حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر يعيد الاعتبار إلى جذوة الاشياء‚ التي سرقها خطاب الثنائيات المتعارضة‚ ويكشف عن الجمال المخبوء وراء مصداته السميكة التي تمنع تبخر روائحها‚ واصواتها وملامحها‚ بالسرد‚

    فابطال كرم الله في «آلام ظهر حادّة» ليسوا شخوصا من لحم ودم‚ يديرون حركة الحياة والعالم من موقع الفاعل‚ وتكتفي الاشياء بالاستجابة والتلقي السالبة لأوامر الفاعل‚ بل هي اشياء تكشف عن سطوتها وسلطتها في المشاركة في إدارة مصير الإنسان‚ لذلك هي أحذية‚ وطمي‚ واحجار‚ ونهيق حمار وحنين كلبة‚ حررها الكاتب بواسطة السرد من غيابها‚ وجعلها تضج بالروح والأشجان والهواجس‚ في مملكة تتبادل فيها الكائنات الفعل والتأثير والشعور‚ في خطاب جمالي محض‚ متحرر من اكراهات الايديولوجيا وسطوة الثنائيات المتعارضة لذلك يصرخ «الحذاء» بطل النص الافتتاحي للمجموعة الذي يحمل عنوان: هدية عنصرية:

    ولا يحق لنا المطالبة أو حتى مجرد الحلم بأن نكون على الرأس مثل الكاب‚ أو حول خصور النساء كالأحزمة‚ أو في الأيدي مثل كتاين الساعات والأسورة‚ وبأننا لم نخلق إلا للوطء والدوس‚ وحقا لماذا لا يولد بني آدم واحذيتهم بأطراف أرجلهم مثل حوافر الحمير‚ وأظلاف الماعز‚ ونُكفى شرهم‚ وكأنهم طردوا من جنة الرحم قبل نضوج حوافرهم‚ فأخفوا عاهتهم بانتعال الحذاء‚ طوبى للأحذية في بطون الحوامل‚ فهي عذراء وملساء من أرجل الأجنة وبطش المسامير‚ فلم اسمع كشكشة صندوق الإسكافي تتسلل من بطن الحامل‚ فالطبيب يذهب حيث يكون المرضى‚ وكفى الله أرجل الجنين شر الترحال في سبيل القوت‚ أم ضرب على بني آدم السعي في فجاج الأرض لجهلهم بمواقع خزائن الله وأسراره‚ فالموتى ينعمون بحياة رغيدة في جوف القبر‚ بلا حذاء أو ماء أو نور أو سلطان‚ ما أشد فقر بني آدم‚ فذاته لا تكفيه‚ وكأنه ولد ناقصا‚ لم لا يكون مثل شجرة النيم‚ في قوتها وصبرها وموتها‚ فهي لم تخط في حياتها خطوة واحدة من مسقط رأسها وحتى حتفها‚ ولم تجر بدمها الأخضر غريزة الترحال‚ ومع هذا‚ عاشت طويلا‚ فنبتت برعما طريا‚ ثم أورقت وأزهرت وأثمرت‚ وتمتعت جذورها بمص طين الأرض الطيب‚ وحين تموت‚ تموت واقفة‚ وكأنها تسخر من الفناء‚ «انتصب حتى تسقط بصورة أفضل»‚ أما بني آدم فيحتاج للسكين والحذاء والبطانية والكتب والنبوءات والنور حتى يقضي وطره السرمدي‚ ولا يتردد الحذاء في الرثاء لمرتديه الذي لا يستطيع الاصغاء لانكاراته الخفية وهو يصدح بمونولوج طويل:

    لا أخفي عليكم سرا‚ كم من المرات كنت أرثي لهذا الكائن ذي الرجلين‚ الذي يبدو كتلة من هم‚ بلا هدف‚ حيران‚ يتسكع كقارب بلا حبل‚ في بحر حياه متلاطم‚ الأرزاق‚‚ المجهول‚‚ الخوف‚‚ كينونة الوجود‚‚ الجوع والبرد‚ تركبه مثلي ملايين الأرجل‚ يتصبب عرقه في جسمي‚ فأشعر بملوحة وحموضة أحشائه‚ محروق بسجن الغرائز‚ سجن لا فكاك منه سوى الدخول بباب الموت إلى عالم آخر‚ لا يهمني ذلك العالم‚ لا شكله‚ ولا ماهيته‚ ولكن هل يا ترى فيه شوك‚ وحصى‚ وهل ما زال بنو آدم يمتطون الأحذية‚ أم تظل الأرجل عذراء ولدنة‚ كأرجل الأجنة في الأرحام‚ ولم يخرج من ذلك الباب أحد‚ حتى أرى هل برجليه حذاء معفر؟!

    في الصبح‚ وقبل أن تهجر الطيور أعشاشها‚ وتمضي بلا أحذية في طلب قوتها المقدور‚ حشرتُ بداخلي الرجل‚ قدر لا فكاك منه‚

    أما «رائحة الطمي» فتنثر كنانتها من الشعور والمشاعر‚ وتكشف عن قراءتها لخرائط الإنسان‚ عبر مونولوج‚ استعار له الكاتب قاموس الحواس‚ ليعبر بها حدود الخطاب وسجونه‚ ويجعلها تقدم في سردية محكمة مشهدها الكامل المتكامل:

    ومع هذا فهي الرائحة الوحيدة التي تثير غيرتي‚ كما أني احتل موقعا أثيرا في أنف فضل الله‚ فهو حين يستنشقني‚ يسرح بعيدا‚ في حديقة أعماقه‚ كما لو أن بداخله حياة حقيقية‚ أرق وأنضر وأعمق مما هي عليه بالخارج‚

    وأما الرجل الوحيد‚ والذي اعترفت كل الروائح‚ حقيرها وجليلها‚ بأنها لا تحرك فيه ساكنا‚ «ولا شم لمن تنادي» فهو رجل قوي البنية‚ عميق التفكير‚ يجلس في أحد الميادين الرئيسية بالمدينة‚ وقد ظل يجلس مدة تفوق الخمسين عاما بلا حراك‚ فهو يجلس على حجر ويحدق في الأرض‚ حتى الطيور‚ والتي جعلت من صلعته عشا لها‚ لم تكن لديه الرغبة في طردها من وطنها الصغير‚ ولا يرفع رأسه البتة‚ وكأنه مل ما يجري حوله‚ أو يؤثر عليه اجترار الذكرى‚ فسيماء وجه تنم وكأنه يراقب حربا بداخله‚ بين نفس بهيمية هيمنت على ما سلف من أيامه‚ وعقل منزو‚ وان كان متوقدا‚ فقد اقتصر دوره على الندب وشق الجيوب ولطم الخدود‚

    وكنت أقف عند أنفه ساعات طويلة‚ ولا أرى في شعيرات مناخيره الدموية أي أثر لزيارتي‚ وحقا «أكرم محدثك بالإنصات إليه» وأقرع يفتح لك‚

    أما بطل «جزيرة النمل» فهو حجر‚ يؤرخ لتاريخ الاختلال في خريطة الوجود‚ من خلال تراث الاقصاء والالغاء والنفي‚ وتحويله إلى مجرد مفعول به في مجرة الثنائيات المتعارضة‚‚ فيصرخ في مسرح الوحشة‚

    أنا حجر‚ مجرد حصى أملس‚ وحجمي كما قلت‚ يمكن أن تحتويه يد طفل لا يزال يتعفر بالتراب حردا ان قضمت شقيقته جزءا ضئيلا من بسكويته المتآكل الأطراف بلعابه‚ بالرغم من أني عمري مقارنة بهذا الطفل الباكي‚ مثل عمر حصة التسميع لطيش الفصل‚ وعمر البرق‚ كنت قبل هذا‚ حجرا ضخما وذا نتوءات حادة‚ لا يقوى على حملي كل من هب ودب‚ ولكني استسلمت لصروف الدهر‚ فجعلني أملس الوجه وحقير الوزن‚

    والآن أنا ملقى في قارعة الطريق‚ لا يكترث بي سوى بعض الصبية وإطارات السيارات‚ وأيادي الأطفال الأشقياء‚ والتي تقذفني بشدة بعضها نحو بعض‚ أو نحو كلب نائمة فتنته تحت سيارة معطوبة‚ وقبل أن ألقى في قارعة الطريق‚ كنت أسكن على ضفاف النهر‚ تغسل جسمي الاملس أمواج النهر‚ إلى أن قرر أحد أثرياء المدينة بناء دار مخيم‚ فحملنا على ظهر اللوري حتى نصب في أعمدة الدار الاسمنتية‚

    ولقد كنت سعيدا لأنني سأكون جزءا من بناء شاهق‚ انظر إلى العالم من عل‚

    وهكذا يستمر عبدالغني كرم الله في إعادة بناء سردية الكون والحياة في ضوء تقاطع الأشياء والتفاصيل والشخوص في وحدة وجود عرفانية وجمالية‚ يستعيد فيها الكل شخصيته ورائحته وصوته‚


                  

12-08-2005, 06:46 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أعن هذا !! يسار إلى الطعان!!؟ (Re: عبدالغني كرم الله بشير)

    (عدت الى أهلى، يا سادتى، بعد غيبة طويلة، سبعة أعوام على وجه التحديد، كنت خلالها أتعلم فى أوربا، تعلمت الكثير، وغاب عنى الكثير، لكن تلك قصة أخرى. المهم، أننى عدت، وبى شوق عظيم الى أهلى فى تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل. سبعة أعوام وأنا أحن اليهم وأحلم بهم، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتنى حقيقة قائما بينهم، فرحوا بى وضجوا حولى، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجا يذوب فى دخيلتى، فكأننى مقرور طلعت عليه الشمس. ذاك دفء الحياة فى العشيرة، فقدته زمانا فى بلاد "تموت من البرد حيتانها". تعودت أذناى أصواتهم، وألفت عيناى أشكالهم من كثرة ما فكرت فيهم فى الغيبة، قام بينى وبينهم شىء مثل الضباب، أول وهلة رأيتهم. لكن الضباب راح، واستيقظت ثانى يوم وصولى، فى فراشى الذى أعرفه فى الغرفة التى تشهد جدرانها على ترهات حياتى فى طفولتها ومطلع شبابها وأرخيت أذنىّ للريح، ذاك لعمرى صوت أعرفه، له فى بلدنا وشوشة مرحة. صوت الريح وهى تمر بالنخل غيره، وهى تمر بحقول القمح. وسمعت هديل القمرى، ونظرت خلال النافذة الى النخلة القائمة فى فناء دارنا، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير، أنظر الى جذعها القوى المعتدل، والى عروقها الضاربة فى الأرض، والى الجريد الأخضر المنهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة. أحس أننى لست ريشة فى مهب الريح، ولكننى مثل تلك النخلة، مخلوق له أصل، له جذور، له هدف.
    وجاءت أمى تحمل الشاى، وفرغ أبى من صلاته وأوراده فجاء. وجاءت أختى، وجاء أخواى، وجلسنا نشرب الشاى ونتحدث، شأننا، منذ تفتحت عيناى على الحياة، نعم، الحياة طيبة، والدنيا كحالها لم تتغير.) إنتهى من بداية "موسم الهجرة الى الشمال"
                  

12-08-2005, 09:10 AM

مطر قادم
<aمطر قادم
تاريخ التسجيل: 01-08-2005
مجموع المشاركات: 3879

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أعن هذا !! يسار إلى الطعان!!؟ (Re: عبدالله عثمان)

    الاخ عبد الغنى كرم الله
    كل التحايا
    خمسة عشر عاما لم اراك فيها فلم يتبدل الكثير الظعن ظعن البلقاء والضرب ضرب ابى محجن
    نفس الروح والاثر ايام زمان وساعود
                  

12-09-2005, 09:06 AM

عبدالغني كرم الله بشير
<aعبدالغني كرم الله بشير
تاريخ التسجيل: 12-06-2005
مجموع المشاركات: 1082

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الجميل الأجمل (Re: عبدالغني كرم الله بشير)

    الجميل الأجمل...
    مقطر قادم،
    عميق حبي، وشوقي، يالها من ذكرى، والله مشتاقين، كيف اخبارك، ألا تزال تحب الحرف، وطلب المستحيل، طبعا ترددت وأنا أقرأ لك عن ادونيس، وموت الخيل، ولكن تحول الشك إلى يقين، (ياهو مطر زاتو)، لانزال في فوضى الغربة، الروحية والمادية، ولا شئ (يغري العين بالنظر)، يالها من دومات، بحرية، وصحراوية، تتلاعب بمصائرنا، والله مشتاق مشتاق، اجتر ذاكرك وطلتك الباهية، ألا تزال طويلا، أم قصرت السنوات، ألا تزال تلك البسمة، وحقيبتك، لا تزال حبى ب(البياتي، وادونيس، وبنيس)، عميق شوقي وحبي، طبعا اخوك، لازال، (كعادته القديمة)، نلف وندور، حول تلك النار المقدسة، فلا احترقنا كالفراشات، ولا اضاءت لنا الدواخل كالانبياء، والله مشتاق، وبرضو مسارت كتابة القصة، القصيرة، عسى تخفف جزء من القلق القديم الحديث، وسأرسل لك منها نسخة، وسميتها (آلام ظهر حادة) تيمنا بوطني المنكوب، دوما، وظهره (النيل)، أما أن يفيض، كعادته كي يؤذي الناس على ضفافه، وأما أن يجف كي يؤذي الناس ايضا....

    ابلغك سلامي وحبي وتقديري، حاولت ارسل لك رسالة خاصة، وما عرفت، أو في سودانيز يظهر مافي رسالات خاصة، المهم، ما بيينا يستاهل الظهور، وأكرر شوقي وحبي
                  

12-10-2005, 05:45 PM

مطر قادم
<aمطر قادم
تاريخ التسجيل: 01-08-2005
مجموع المشاركات: 3879

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الجميل الأجمل (Re: عبدالغني كرم الله بشير)

    الاخ والصديق وزميل الدراسة والصبا
    الشامخ الظريف عبد الغنى كرم الله

    تحياتى ومودتى واشواقى
    اعلم,ان حياتى كلها عوائق وفى ظلامى نجوما تتلألأ ولاشى يمحوها وفى آخر سككى وعدا يمحو شروط الظلام وابعد من ذلك"ام ترانى ارى فى النور اشباح الظلام"
    Quote: صباح حنون

    ادرك مدى عمق شعور كشعور الحنين,الحنين الناضج نعومة" وفخامة انه النداء القادم من دهاليز النفس والاغوار.حلت اسطورة الفردوس المفقود محل الدعامة لهذا العطش الذى فينا والذى هو فوق اشكال الحنان كلها_اذا كان الثعلب يقول للاميرالصغير بعد تحديق طويل(من فضلك روضنى)فذلك هو الحنين الى عالم ترضى فيه طاقاتنا المتوحشة ان تترقرق وتلين بين يدى ماهو اسمى منها!
    انه نداء امامى حين يهتف رامبو(لسنا فى العالم,الحياة الحقيقية غائبة) فذلك لانه سمع النداء.....ولى ملاحظتان:
    الاولى ان اسم الحى الذى تقع فيه جامعتنا هو حى (السكّر)
    الثانية عبد الغنى كرم الله لم انتبه لدلالة الاسم وموسيقاه
    ولا ادرى هل تم الاحتفاء الباذخ بك عند دخولك وبعد فلك التهنئة على صدور باكورة انتاجك اننى مسرور ....ياالهى..........نسختى عاجلا
    ذهبت بهذا البوست بعيدا !!!اعطنى ايميلك
    واشواق
    كرم الله كأس المودة يدور
    وسلام يحمل محبه يحمل كلام
    آلام ظهر حادة- الكاتب عبدالغني كرم الله يُطلق رائعته، وأنتم أول من يعلم!
    آلام ظهر حادة- الكاتب عبدالغني كرم الله يُطلق رائعته، وأنتم أول من يعلم!
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de