|
المحبة ما بين ملاسي وعثمان محمد صالح... نص اتفاق السلام (Re: jafar hashim)
|
عليه وإنفاذاً للاتفاق وكبادرة لحسن النوايا رأت اللجنة نشر المساهمة التالية:-
Quote: عـبد الستار الدَيلّمي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أقصوصة
كان في بواكـير الشباب عـندما أرغـمـته سطوة الإستبداد السياسي على مغادرة بلده العراق. وعـندما تعرّفـت عـليه في لقاءٍ رتـّبـت تفاصيله صديقـة مشتركة، من أصل غجري، تدعى سـتيليانا، في أواخر التسعـينات، كان قـد أمسى عجوزاً هـرماً نخـرت زنازين السجـون البلغاريـة روحه وجـسده !
لم أصدق عـينيّ عـندما لمحـته في تلك الأمسية الشتوية وهـو يلج ببطء وتثاقـل مقهى إتحاد الكُـتـّاب البلغار، في سـنتر صوفـيا، متوكـئاً عـلى عـكازة قـصيرة ذات مقـبض معدني مقـوّس، يده ترتجـف من الضعـف و الكهـولة والـبرد ، ورجلاه لاتـقـويان عـلى حمل جسده الهزيل. لوهـلةٍ حـسـبته شخصاً آخر خلاف من كنت أنتظر.
كان يرتدي سترة من الصوف قـديمة مهلهلة تصل إلى ما تحت الـركـبة وبنطالاً عـريضاً مهترئاً من النوع الذي كان يلبسه الناس مضطرين ـ لغياب البديل أو ندرته أولضعف القـدرة الشـرائية أو لصعـوبة الحصول عـلى العـمـلة الصعـبة في حال توفـر البضائع الأجـنبية في الأسواق الحـرّة ــ إبّـان" إشتراكـية الأمـر الواقع" قـبل أن تنهارأعـمدة"المعـبد المقـدّس" فـوق رؤوس الجميع ، ويضع عـلى رأسه كوفـيّة مصـنوعة مـن الـفـرو، مـن ذلك الـنـوع الـذي إشـتهـر بإرتدائه الـروس فإرتبط بصورتهم النمطية في الأذهان، ويـلـف عـنقه بشال سميك من النوع الذي تغزله نساء البلقان في ساعات الـفـراغ .
حـيـّاني بصوت واضح النبرة . كانت إبتسامـته شاحـبة ومكـتئبة وهـو يمد لي يداً معـروقة محاولاً أن يبث في الأصابع الـباردة العجـفاء قـدراً مـن حـرارة الـقـلـب دلالة الترحاب. نضا عـن جسده المتهالك السترة والشال وخلع الكوفـيّة فأيقـنـت بأن الواقـف أمامي جـثة تنتظر نداء الرب في كل حين . جلس و طلب لنفـسه شاياً مخلوطاً بالكونياك( الوصفـة البلغارية الشائعة المـضادة للتجـمّد ) وأصّر عـلى إكرامي فـطلبت قـنينة ميرندا.
كان المقهى غاصاً بخلق غـفـير : كُـتـّاب وشعراء ورسامين وزوار عاديين دفـعـهم الفـضـول و قادهـم حب الإستطلاع لمعرفة ما يدور في تلك الـواحة المحاصرة بجليد إقـتصاد السوق الذي أحال العديد من المكتبات العريقة إلى متاجر و صالات بليارد و حـّول عـدداً غـير قـلـيـل مـن الكُـتـّاب إلى متسولين وباعة للكـتب القـديمة في الـنفـق الـقـريب من جامعة صوفـيا وفي الفـضاء المحاصر بين سينما كولتورا و مكـتبة المدينة و خط الترامات رقم4 و8 و20 ، فاُخـتـِتمت عـلى نحـو ٍ تراجـيدي سـنوات العز" الـشمولي" و صارت محض ذكريات سيـّر" العـطلات الإبداعـية " وتـوابعها مـثـل " دورالإستجمام" التابعة لإتحاد الكُـتـّاب في المصايـف الجـبلـية و الساحلـية ، وغـيرها من إمـتـيازات ونـِعّـم" الإنتـلجـنسيا الثورية" في تلك الحقـبة. كانت حـلـقـات النقـاش الدائر في جـنـبات المقـهى حامـية و صاخبة. حـرمنا ضجـيج الأصوات المتعالية مـن تجاذب أطراف الحديث فـتبادلـنا أرقام الهـواتـف و إتـفـقـنا عـلى تجديد اللقـاء، عـلى أن يتم ذلك في أي مكان آخر بعـيداً عـن مقهى إتحاد الكُـتـّاب .
بعد مضيّ أسبوعـين من اللقاء المذكور كـنا نحـتـل ركناً منعـزلاً في مقـهى الصالون الأخضر( زيلين سالون) وهـو كافـينيه مـشهـور يطل عـلى حديقة الرسّامين ويجاور مسرح الجيش الوطني ودار الثقافة التشـيكـية بصوفـيا.
كان الوقـت أصيلاً والمقهى يسبح في مويجات من الخضرة اللامتناهـية تغمر الأشياء في وداعةٍ و لطف : الواجهة الزجاجية ، البساط، المقاعـد، الموائد، السقـف، اللوحات المُدلاّة من الجدران ، أدوات الزينة الفـلكلورية الموزّعة في الأنحاء بحـساب دقـيق دونما إفـراط ودون تقـتير أيضاً، الأبجورات ، دائرة البار الذي يتوسط المكان دون أن يشكل حاجزاً بين القـسمين الأمامي والخلفي للصالون والذين تربط بينهما عـتبة رباعـية الدرجات وأخيراً: الـزوايا الخفـيّة . أثاث الصالون منتـقى و مُصَمّم بعـناية، وموضوع في زوايا معينة تمنح المرء إحساس الجلوس المطمئن في رحاب روضةٍ فـيحاء. القائمون علي خدمة الزبائن في مـنتهى اللطف وهم يتجـوّلـون بين المـوائـد كالظلال، والزوّار الغاطسون في نعـومة المقاعـد الوثـيرة ذات المساند الشامخة( تحاكي تـويجات الـزهـور المتـفـتحة) لايتحدثون إلاّ هـمساً، وجهاز التسجـيل يبث من وراء شـجيرة نخـيـل تحـتـل نهاية الصالون ، موسـيقى كلاسـيكـية خـفـيـتة الصـوت ، مضادة للـتوتر ومـثيرة للشجـن. بإختصار: كل شيئ في الصالون يشي بروح الكمال و يفـتح شهـيّة الـمرء للشراب والحـوارات الطويلة.
حضر النادل فـطلبت كأساً من العرق المصنوع من الكريز( جـيـريشوفـا رَكيّه) وعـلبة كولا وصحناً مـن الفـستق. فـضّل عـبد الستار كأساً من الكونياك وماءاً معدنياً وصحناً مملوءاً بالفـيشار. غاب النادل حاملاً قائمة الطلبات وفي تلك الأثناء سألني عبد الستار في لهجة ساخرة : هـل تدري بأن الجالس أمامك حديث عهد ٍ بالحرية؟ ـ أخبرتني بذلك ستيليانا. ـ هـل لي أن أعرف ماذا حدثـتـك عـنّي؟ ـ لن أذكر التفاصيل. أشياء كثيرة. أهـمها في نظري أنك لم تفـقـد رغـبتك في الحياة. ـ الحياة! ردّد الكلمة أكثر من مرة . سرح بعيداً ثم عاد وهـو يقـول : لقـد جردتني السجون التي تنقـلت فـيها من الحياة ، لكـنني مصمّم عـلى العـثور عـليها من جديد! لم أجد ما أقـوله فـساد صمت أحضر النادل في أثـنائه الطلبات. رشف جرعة من الكونياك ثم إلتفـت متسائلاً: منذ متى تـقـيم في هـذا البلد الماسخ الطعم ؟ ـ منذ9 أعـوام تقـريباً. قـدمت لأول مرة في أواخر1988. ـ لهذا السـبب لـم نـلـتـقي من قـبل . في أواخر 1988 كانت قـد مضـت عـلى إقامتي في سجـن مديـنة " لوفـيدج" 6 سنوات.
أتبعنا الكأسين بأخريات، ثم غـرقـنا في بحور الشعر. تلوت عـليه آخر ما كتبت فأطلعني بدوره عـلى نماذج مـن قـصائده المنشـورة في العديد من الإصدارات الدوريّة لإتحاد الكتـّاب البلغار. أذهـلتـني قـدرته عـلى كتابة الشعر باللغـتين العربية والبلغارية بذات الطلاقة والفـصاحة والعـمـق الفـلسـفي . ثم حدثـني عـن سنوات السجن العشر وكيف أن السجّانين تعـمّـدوا إذلاله وإيصاله إلى حافة الهـلـوسة والجـنون ، وكـيف أن شعـر رأسه تساقـط كليّةً من أثر الـنوبات العـصبية المتتالية و التي كانت تغشاه في أحـلك ساعات اليأس و القـنوط وهـو يرى عـمره يذبل وراء الـقـضبان ، وأن اللحظات الوحيدة التي كان يشعـر فـيها بأنه مايزال"عـلى قـيد الحياة " في وثائق الدولة البلغارية، كانت تلك التي يتم فـيها نـقـلـه من سـجـن إلى آخر !
وعـندما سرت نشوة الخمرة ترقـرقـت الدموع في عـينيه الصغيرتين وتهـدّج صوته وهـو يعلن أنه نادم عـلى جريمته لأن الله خـلـقـه شاعـراً وليس قاتلاً. إنحبس صوته وهـو يشاطرني هـواجسه الجديدة متـنسّـماً هـواء الحرية التي لايدري ماذا يفـعل بها. حكى لي عن إبنته التي تركها طفـلة وحيدة عـندما دخل السجن، وكـيف أنها لم تتخلى عـنه وناصرته في محنته، وأنه يشعر بالخجل والإنكسار كلما صادفـت عـيناه بعينيها. سألته ـ بعد تردّد ـ عـن مورد رزقه فأجاب : بارك الله في الترجمة. لولاها لكـنت الآن في خبر كان! كان الليل قـد إنتصف فـقـررنا مغادرة الصالون. ودّعـته في الخارج ثم لبـثـت في مكاني أراقـبه بأسى وهـو يخطو مترنحـاً بإتجاه محطة الترام في شارع " قـراف إقـناتيف. ساعـتها داخلني شـكٌ فـيما إذا كان العمر سـيسعـف الشاعر البدويّ العجوز حتى نتمكن من ترتيب لقاءٍ جديدٍ نكمل فـيه ما إنقـطع من حديث ٍ مخمور، لكـنني كـنت واثـقـاً من حـتمـيّة حـدوث أمر ٍ واحـد : سوف أزور عـبد السـتار الديلمي عـندما يـُوسّـد الثرى في مـقـبرة الأسـرة بجانب زوجـته الـتي قـتـلـها في لحـظة غـيرة ٍ عـمياء. تمـنـّيـت من الأعـماق أن تغفـر له الـقـتيلة طعـنة السكـين عـندما يلـتـقـيا من جديد، وأن تدعه يضمّـد لها ــ بأشلاء الكـفـن ـ الجرح النازف طوال 10 أعـوام، وأن تـوآنـسه و تخـفـف عـليه الوحـشـة الأبديّة بين نزلاء مقابر صوفـيا المركزية . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اسمان مهيميد ساله عثمان محمد صالح 18 يوليو2004 |
يا ملاسي طبعاً انت موافق.. إن شاء الله الأخ عثمان ما يكون عندو مانع من النشر وأهو الحقوق محفوظة
عن اللجنة واحد
|
|
|
|
|
|
|
|
|