أغلق محمد عثمان متجره ، كانت تمطر بغزارة والشوارع يلفها الهدوء .. فجأة مزق السكون واقع إقدام مذعورة تضرب على طريق الإسفلت، اختبأ عثمان خلف أحد الأعمدة كان المنظر غريب حقاً !! .. عربة نصف نقل تطارد رجل غامض تقطعت أنفاسه .. سقط الرجل على الأرض في المياه ، توقفت السيارة جوار الجسد المسجى ترجل منها ثلاث رجال تبدو عليهم القسوة الشديدة .. انهالوا على الرجل بالضرب المبرح بكعوب البنادق والهراوات.. ظل الرجل يتلوى ويئن حتى همد تماماً ، انطلقت العربة مبتعدة عم الهدوء المؤسف المكان فيما عدا أنفاس الاحتضار الأخير للرجل المسجى على الأرض في بركة من دماء. خرج عثمان من مكانه وهرول نحو الرجل التعس في جزع كان الرجل يهزى بكلام غريب .. حكى كل شيء ثم مات بين بديه ، اخذ عثمان المواطن البسيط يحدق فيه مذهولا وقد جلل الرجل سكون الموت ، كانت المنشورات المتناثرة حوله تعبث بها الرياح وقد اختلطت بالأوحال ومياه الإمطار.. أثرت هذه الحادثة في عقل عثمان ردحاً من الزمن ، لم يصدق أحد قصته ، حتى الطبيب ، شخص حالته بأنه مريض وقد وقع تحت تأثير السينما الأمريكية ويلزمه مزيد من الراحة " أي راحة هذه التي يعينها هذا الطبيب المسكين ؟!.. أن الصدفة وحدها هي التي أتاحت لعثمان الإطلاع على ذلك الجانب الخفي من الحياة ، خلف الكواليس . حياة لمناضلين الشرفاء ، الغزلان الوديعة وكلاب الصيد في قانون الغابة ، وقد روى لي عثمان القصة كاملة كشريط سينمائي طويل لحياة رجل مات على قارعة الطريق . * * * أسرتي بسيطة من الأسر للعمالية التي تقع بها مدينتنا عطبرة … والدي يعمل في مرفق السكة حديد تصنع أمي بعض الأشغال اليدوية من سعف النجيل أما بقية الأسرة فهم شقيقي أحمد الذي يكبرني بعدة أعوام وشقيقتي فاطمة متزوجه من رجل يعمل في إحدى دول النفط أبي من أعيان طائفة الختمية .. دأب والدي على تربيتنا تربية دينية حقيقية ، غرس فينا الصدق والأمانة … كان لوالدي مكانته في هذا المجتمع العمالي البسيط ، يأتيه صاحب حاجة مكسور النفس فيرد له البسمة ... اعتدت منذ الصغر رؤية بيتنا ملئ بالرجال والنساء ، كنت أتصفح المجلات والكتب التي يحضرها أبي .. كانت هذه الكتب تتضمن معاني كبيرة ، النقابات ، الاشتراكية ، الاميربالية كنت لا أعرف لهذه الرموز معناً وبعد أن تقدم بي العمر قليلاً عرفت أن والدي من أعضاء نقابة عمال السكة حديد ، عندما كنت صغير ، كان البوليس يداهم منزلنا مراراً ، كنت أختبئ في ثوب أمي ، ظلت أصاب برعب شديد كلما رأيت رجل الشرطة … كثيراً ما كان والدي يتغيب عن البيت لمدة تتجاوز أعوام عندما أسأل عنه أمي تخبرني أنه معتقل ، وترك هذه الكلمة بأصداء مؤلمة في نفسي … أن تصوري بأن يضع إنسان داخل حجره مغلقة مسألة مؤلمة فقد كنت أنصب الفخاخ للقطط التي تأكل الحمام .. كان القط يسقط في الفخ ويدور داخل القفص ويمؤ بأسى …ظللت أقارن بين النظرة في عيني القط الحبيس وعيني أبي كانت تحملان نفس المعنى … ومن ذكريات الماضي . أعطانا أبي أنا وشقيقي منشورات نبثها في الشوارع ليلاً … كانت مغامرة جريئة كادت تؤدي بحياة شقيقي عندما فاجئنا رجل الشرطة السواري ، طاردنا بحصانه ، اختبأت تحت عجلات عربة القطار تقف عند خط مهجور يمر بالحي الذي نقطن فيه ، ظل شقيقي يركض والحصان خلفه حتى وصل شاطئ النيل ، ألقى بنفسه في الماء وكعادة أهل المنطقة ، كان أخي ماهر في السباحة ظل يسبح حتى وصلى إلى مكان بعيد . خرج من الماء وملابسة تقطر ماء وقد سبب له ذهاب الحادث مرض الزمه الفراش مدة غير قصيرة .. * * * كنت يوما مستلقى على فراش أمام غرفة الضيوف يترامى إلى أذني صوت والدي وبعض الزوار يتداولون أمر المظاهرة القادمة بمناسبة عيد العمال العالمي . - هذه ثالث مذكرة ترفع للحكومة . ولا حياه لمن تنادي - للأسف الرئيس .. أضحى يحيط بنفسه بطبقة سميكة من القاذورات . - أرجو أن يفهم الجمهور عدالة قضيتنا ولا يتبعون الإعلام المضلل .. - أبتلع السوق الأسود كل مدخراتنا . - هذا جحيم البنك الدولي القادم . - لقد تعرضت المتاجر للنهب في المظاهرة الماضية الشيء الذي جعل الشرطة تطلق النار على المتظاهرين أدى ذلك إلى وفاة ثلاثة زملاء وجرح عدد من المواطنين . - نحن لا نريد أن يتكرر ذلك . ظلت أطراف الحوار تترامى إلى أذني ثم أخذتني عفوه. ما كدت اغمض عيناي حتى سمعت ضوضاء شديدة اعرفها جيداً ، داهم رجال أمن الدولة المنزل كالمعتاد … ولم يجدوا منشورات وخرجوا تتبعهم لعنات أمي وتدعو عليهم بالويل والثبور … كان هذا أبي . * * * أما أمي زين ابنة شائق القطار ، كانت تمتاز بسداد الرأي والعزيمة الماضية ، الفضائح حديث نساء المدينة ما عدا أمي التي كنت تلتزم الصمت واكسبها ذلك احترام نساء الحي … كانت تتحدث في التربية والاقتصاد فتخالها من كبار المفكرين مع أنها لم تكمل تعليمها الابتدائي عندما كان أبي يرسلنا نبث المنشورات في شوارع المدينة ، كانت تنتظرنا عند الباب وقد غطت الدموع عيناها ، فهي تعرف خطورة ما نحن ذاهبون إليه ، ترافقنا دعواتها الطيبة وتظل ساهرة طوال الليل حتى نعود . ومضت السنين تباعاً و انطوت صفحة مشرقة من النضال الوطني … وتوفي والدي في منتصف السبعينات خرجت كل المدينة لتشيعه إلى مثواه الأخير لا زالت أصداء ذلك اليوم ترن في نفسي ، شعر أبي بالأم شديدة في الظهر وخدر في الأطراف حملناه إلى المستشفى .. كنا نتناوب السهر على راحته أنا وأخي وفي ليله الوفاة سمعت صوته الواهن يناديني كأنه قادم من بئر جلست جواره في الفراش ، نظر إلى وقد اختفى ذلك البريق الآخاز من عينيه وبدتا زجاجتين - آت لكم أن تتجهو إلى مستقبلكم وتتركوا العمل بالسياسة . - لكن يا أبي ضمني إليه بقوة .. ثم همد جسده الذي كان ينضح بالحياة تمصلت من يديه الباردتين برفق وأغمضت له عينيه ، إنقضت لحظات لا توصف ارتبكت ، فقدت القدرة على البكاء ، طاف بخيالي والدتي .. عندما تحضر صباحاً وتجده رحل . ************* يتبع...............
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة