|
يميني أم يساري ؟
|
يميني أم يساري ؟
أمير تاج السر
مسجد الشيخ ( قريب الله ) بأمدرمان .. عصر أحد أيام شهر سيتمبر ..جو من السحر والغرابة يرسمه الضريح المغروس بإتقان ، والمسجد الذي بني برحابة وسعة صدر ، ومجهود، فوقف شاهقا وعظيما ..كانت المناسبة عقدا للقران ..تزف فيه إحدى قريباتي إلى ذلك القفص المذهب .. لبيته كضرورة اجتماعية .. وكنت منشرحا ..تلك أجوائي التي أعشقها .. التقي فيها بوجوه سيرة الوجع ، ووجوه سير أخرى لابد أكتبها في يوم من الأيام …ومنذ كتبت روايتي الأولى ( كرمكول ) ..غذيتها بعبق تلك الأجواء ..وما زالت تمسك بكتابتي الى الآن . كان طقس القران يأخذ مجراه ..مأذون بدفتر وقلم وصوت متزن .. ووكيل وموكل ، وشهود ومئات من العمائم والجلاليب .. تنظر وتنتظر ..هي أيضا أجواء أستاذنا الطبيب العظيم ( توم حامد ) .. كانت عقود القران جزءا من ممارساته الحياتية ..يستلف الوقت من مشاغله العديدة ليحضرها ، ويضيف الى طقسها الرسمي طقوسا من عنده ..ولولا رقدته الساكنة تحت أشجار( المسكيت) المالحة في مدينة بورسودان ، لظننتني أراه وسط تلك العمائم والجلاليب ..كنت من القلائل الذين أتوا ( متفرنجين ) ، فمنذ أن نما شاربي وأنا أحاول أن أضع العمامة على رأسي ، فأجدها لا تشبه عمائم الآخرين ..جربت ( الكرب) ، و( التوتل ) ..ولم أفلح .. ففضلت الحياة متفرنجا ..ولكن بدم أصيل .وفي مغتربي البعيد حين تحدث مناسبة كتلك ، أبحث عن صديقي البروفيسور ( محمد عبد الكريم ).. الذي قضي خمسين عاما يحاول لف العمامة على الرأس ولم ينجح..فصادقني صداقة ( مناسبية ) تجلسه الى جانبي ، وتنتهي إلي حين . ( زوجت موكلتي من موكلك ..) قبلت زواج موكلي من موكلتك .. ) واقترب مني أحدهم .. كان أحد الذين التقيتهم منذ أيام .. التقيته لثلاث دقائق فقط .. عرف فيها الكثير عن طبي ،واغترابي ، وعيالي الذين أنجبتهم ، واشتم رائحة الكتابة في دمي .. بفضل ذلك الترويج الإعلامي الذي استهلكني في الأيام الماضية بمناسبة زيارتي للبلاد.. وجعل مني سيرة حقيقية للوجع . كان ستينيا بنضارة خمسيني ، نحيفا ومتماسكا ، وتغيظني عمامته بتلك ( اللفة ) المتقنة .. أمسكني من يدي ، وجرني الى خارج الطقس قائلا .. - عن اذنك . انسقت خلف الرجل خارجا من الطقس .. ومتكئا على جدار بعيد .. كنت مستغربا من تلك الحاجة الملحة التي اضطرته إلى قطع استمتاعي وجري إلى ذلك الحائط البعيد .. - سؤال .. لو سمحت ..هل أنت يميني أم يساري ؟ كان سؤالا مدهشا وغريبا ، وخارج النص ( التفكيري ) الذي وضعته ، ولا يتوقعه الضريح الذي كان يرقبنا ، ومأذون العرس ، والموكلون ، وشهود القران ، وسائقو ( الركشة ) العابرون ، ولا حتى أمن المطارات ، وحراس الحدود ..ولو كانت شكوى من صداع أو مغص ، أو جرح في القلب لتقبلتها ..كنت الآن خارج الطقس بمرارة ..أتأمل الرجل .. وأندهش ، وأنصرف خارجا من عينيه ، ومن الطقس كله .. مساء اليوم نفسه ..وفي خيمة مزركشة .. تحمل العرس ، و( المعاريس ) ، والعشاء ( الكوكتيل ) ، وعطور النساء وزينتهن ،وتثاؤب الصغار ، وصراخ آلات الإزعاج ، وصوت أحد ( الفرافير ) الجدد .. ( دارا ما داري أنا مالي بيها .. البلد الما بلدي ما بمشي ليها ) .. يد ستينية تدق على كتفي ، وصوت صارخ يخترق إزعاج الطرب ..لينتشلني منه .. - لم تجب على سؤالي .. هل أنت يميني أم يساري ؟
|
|
|
|
|
|
|
|
|