فصل من ( مرايا ساحلية )

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-28-2024, 02:01 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-04-2004, 07:04 AM

أمير تاج السر

تاريخ التسجيل: 04-04-2004
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
فصل من ( مرايا ساحلية )

    مرايا ساحلية

    الطبعة الأولى- النركز الثقافي العربي - الدار البيضاء2000
    الطبعة الثانية - الشركة العالمية للنشرالخرطوم 2003
    -1-
    لا زال تذوقي وهو ينبش في أطباق الحضر ..بيتزا وهبيرجر.. واسبغيتي .. يحن إلى ذلك الطعم النادر لفول ( الدبل ) وطعمية ( ديجانقو) وسندوتشات الكبدة والكلاوي المتربة في نادي ( الرماية ) .
    لازالت الدروب التي قطعتها ( الموريس ماينور ) الخضراء ذات المقود اليمين ، والجسد المختصر المفلطح ، بدءا من زرقة البحر حتى عروق الصحراء ، تزحف في الذهن ضاجة كما هي ، وعرة كما هي ، مسفلتة بإسفلت البلاد الفقيرة.. إسفلت الهبات.. و ( جابو ) شرطي المرور الحنظلي يراقبها بصفارة صدئة ، وإشارات عرجاء ،وملامح منسوفة اكتسبها من هجير الشمس، وسخط السائقين .
    لا زالت العين ترمش فترى الشبق الساحلي ممدداً أخاذاً يرسمه ( المرضي ) بريشة عاشق من مكان بين الوعي والتثاؤب، فترى البحر يزفر، الظلال تغني،وسفن الرحيل الغريزي منسجمة تستريح على لون وطعم ، كانت الحكمة في البحر ، الصيد في رئة البحر ، رائحة اليود من عرق البحر، ونزهاتنا ( العصراوية ) في شريط لاصق يلصق بجسد البحر . كانت المدينة قد رسمت حكاياتها بحكاياتها ..بنت أحياءها بأحيائها ، واحتضنت ملامح سكانها بملامح سكانها ..الآن ألمس أهل المدينة ، أشمهم، يمسكون بعطر الكتابة ، يودون لو خرجوا في العطر .
    هذا ( عزيزو ) المجذوب ، مندلقاً في المسافة بين الوعي والغياب، أمامه كتب وأقلام ، ودفاتر ،وتواريخ ،واسطوانات ومن فمه المحلى بالجوع، تسقط ثقافة مجذوبة، التقطها من حيث لا يعلم أحد .
    من أنت يا عزيزو .. ؟
    من أنت يا طويل وأشعث ، ومدغدغ القدمين؟ ..ومفترشا فظاعة الدرب.. لا ترد السلام؟.لست من الشرق أبداً ، ولا من الشمال أبداً .. كأنك من الجنوب لكن فيك فصاحة لم تصل ( الرجاف ) ، ولا ( مريدي ) ولا ( جوبا) .. كأنك من الغرب لكن عطر الغرب لا يغلف جلدك ..
    يلهث في صباحك أولاد المدارس ، داكنين ، ومتسخين ، ومهرجين،وذاهبين إلى الدرس مجبرين لا أبطالاً .. تحصد من طيشهم بذاءة وهرجلة ، ويحصدون من موتك المسمر في الطريق شعراً ونثراً ، وأغنيات مرحومة ( لكرومة ) و ( سرور).
    تلهث في ظهيرتك النساء الذاهبات إلى حيث تذهب بهن الخطى ، تحصد من تنوعهن، وعطورهن، وتبرج أجسادهن ضحكة ، وشفقة ، وربما اشتهاء ، ويحصدن من موتك المسمَّر تجاوباً مجنوناً .
    يلهث في ليلك الكفرة ، واللصوص وقطاع الطرق ، وشرطة الخيالة على أزياء يابسة ، وأحصنة متليفة ، تحصد من خشونتهم سرقة، ولدغة ، وعراكاً وسيجارة من تبغ رخيص ، ويحصدون من موتك المسمر..موتاً مكفناً.. هادئاً ..مدفوناً . لو كنت في هذا الزمان ، لقلنا مجنداً أمنيَّاً محشواً بالخطط والمطاردات يلاحق ساسة مساكين، لم يكن في زمانك سوط ولا ساطور، ولا سراديب تحت الأرض .. كانت الدولة شعباً حاكما وشعباً محكوماً،قلباً نابضاً، وقلباً يستريح إلى حين .
    يقول معاصروك ممن شهدوا اندلاقك بين الوعي والغياب ، أنك عاشق جامعي قتلته امرأة ، ففر من منبع القتل بنصف عقل وربع دنيا ..
    هل كانت قاتلتك رائعة يا عزيزو ؟
    هل كانت دافئة ؟..
    لابد أن لها وجهاً مدوراً ، و(زماماً )في الأنف ، وشفة موشومة ، وشعراً ليلياً،وشلوخاً خضراء تمتد من حلمة الأذن حتى منابت الأضراس .. أليست هذه صورة حية براقة لحسناوات ذلك الزمان ؟
    ما اسمها يا عزيزو ؟ .. لابد أنه السرة أو العافية ، أو الزينة ، أو ست البنات..أليست هذه أسماء جارحات القلوب ومدرات العطش ، والباركات على ليالي التعب في ذلك الزمان؟ .. ما اسم عطرها يا عزيزو.. إنه ( أوراق الخريف).. إنه ( سرتية الهند ).. إنه (بنت السودان ) ، إنه عطر ( السيد علي ) . وثيابها الزاهية في عينيك .. لابد أنها ( رسالة لندن ) أو موضات ( أبو قجيجة ) ..أو( الحمام طار ) ، أو حتى ثياب( الزراق )الموغلة في فقر اللون وفقر القماش.
    كنا من تلاميذ المدارس يا عزيزو ، ابتدائيين لم نؤذك ، ولم تؤذنا ، فقط رميناك مرة بحجر، ورميتنا ببيت شعر عن عود صندل أشعل فزاده الإشعال طيباً، فأصبحنا ندماء لثقافة الجنون المنبثقة من تحت الوعي والغياب. نعاقرها كلما سمح وقت الشيطنة .أذكر يوم كانت السلطة تلم غوغاء الطريق ، ترسلهم إلى حصاد القطن ، و إيذاء دودة القطن ، وتعيدهم إلى منابتهم آدميين ومغسولين بلا غوغائية . ظنوك غوغائياً فلمومك ، التممت عدة أشهر قطنية ، ودودة قطنية،وعدت إلى ركنك القديم عارياً كما كنت..ومت يا عزيزو .. مت بعد أن كاد ركنك القابض على المدرسة الأميرية، يقاسمها الأسمنت والحرارة،ولهاث الدروس، وشرود أذهان التلاميذ،يستحيل مدرسة. وجدوك ميتاَ صعلوكاً، فواروك مواراة ميت صعلوك بجنازة خرجت من مشرحة ، وتجهم طبي ، وانغرست في حفرة بلا اسم تحت أشجار المسكيت المالحة، ووجدوا دفاترك ، وأقلامك ،واسطواناتك ، وكراريس حزنك أيتاماً..فأحرقوهم بنفس تلك القسوة ، وذلك الحذر الذي تحرق به ضفائر الطاعون.. وظللنا نحن المشاركين في فظاعة الدرب ، نبكي رهافة ،نقتفي آثار موتك أياماً ، نتسلق العناد الضال لركنك الخالي ونهرشه إلى أن نسيناك…نسيناك لأن ( حمدة ) المتسولة جاءت ، انغرست في ركنك القديم بشبق، ذوقته بجسد أنثوي ، وعرق أنثوي، وتشرد أنثوي أيضاً..وسترت عورة النوم التي كنت تتركها عورة بملاءة بيضاء انسخط بياضها وتحول إلى شئ بين البياض واللابياض.وأطلقت في فظاعة الدرب نداءها الذي ظل يرافق نمونا في المدينة الساحلية يضعف قليلاً ، يزحف على لحنه نشاز أشيب،وتزحف على جمله حروف متآكلة،كلما كبرنا ، لكنه يظل نفس النداء
    ( الله فرجه قريب يا حمدة
    الله رزقه كثير يا حمدة . ) .
    لو أنك التقيت بحمدة يا عزيزو ، كنت التحفت بذات حيرتنا التي التحفنا بها ..والتحفت بها المدينة من زرقة البحر إلى عروق الصحراء . كانت امرأة قاسية الجمال ، بيضاء وفي وجهها برق ، وعينان سوداوان .. وملامح أخرى مرتبة لا تنسب إلى أي هرج قبلي.. حتى لقبها الطريق بالملاك المتسول .كانت حجازية ، أو نجدية ، أو هجيناً من هذا وذاك ، حتى اسمها الذي هوت به إلى عالمنا ، وعالم المدينة ، كان غريباً لم نسمع به من قبل لا في أم ولا أخت ولا جدة. لقد تلكأ الساحل كثيراً في محاولة تأصيلها ، قربها قليلاً من (الجعليين )، و كثيراً من (مغاربة بربر) ،وبيض ( أمدرمان ) ذوي الأصول المبهمة ، لكنه كان مجرد تلكوء لا أقل ولا أكثر.فقد ظل كنزها الجذوري مخبأً أمام ضغط التأصيل ،و خرائط البحث والفضول، وطوال جلستها الوظيفية في ركنك القديم لم تقل شيئاً سوى النداء الشحاذ ، ولم تمد إلى خارج الثوب الملفوف بأسى،سوى يد الشحذة اليمنى العارية من الحناء والخواتم ومستلزمات مثل هذا الجمال الفذ، كان تلاميذ المدارس المراهقين يرجمونها بغزل منكود ، ونساء الطريق يغرن منها غيرة بلا معنى ، والكفرة واللصوص ، وشرطة الخيالة يودون لو نهبوا شقاءها الليلي ،وسمعنا ونحن صغار على السمع ، لكن آذاننا سميعة ، أن كثيراً من وجهاء المدينة وشياطينها وآفات ليلها في ذلك الزمان ، حاموا حول جمالها المتسول ،عرضوا تنظيفها ، وكسائها وطلاء عالمها، وإلحاقها مالئة للغرائز في ليالي الجوع،وأن متيَّماً عجوزاً هش القلب، جاءها بشاهدين ، ومأذون، وكسوة ، وبكاء مضطرب ، قال .. على سنة الله ورسوله يا حمدة .. فقهقهت لأول مرة ، وشاهدت المدينة أسنانها الحية البياض ، ولسانها الأحمر حتى الدم ، ويدين اثنتين ترجمان عجوز الوله بالرمل والحجارة. وفي إحدى السنوات ظهرت جميلة وأخوها جميل، كانا معاقين من بيت ( هدندوي ) يشبهان الكتابة الصينية في كل تثنياتها والتواءاتها ونماذجها المنقوشة على كثير من السلع و البضائع ، حتى اشتهرا بذلك اللقب بين شاغلي الطريق،دخلا صنعة التسول من باب العيوب الخلقية ، وركاكة الجينات وكانا بارعين في ذلك، اقتربا كثيراً من ركن حمدة ، ركنك القديم ، واحتلا جزءا من شفقة الطريق، لكن جزء الشفقة الكبير كان لحمدة لا يزال .
    حمدة الآن في الركن امرأة ممحوة الجمال ، سمراء وفي وجهها رمل وعينان يابستان ، وملامح أخرى مبعثرة تنسب إلى مائة هرج قبلي . تجاوزتها الشفقات بجدارة لتشفق على جيل جديد قاسمها الركن والصنعة وجدد في نداء الشحذة حتى صار موسيقى راقصة، وبدا ذلك الفرج القريب الذي نادت به ،و خرّف في مفردات ندائها بعيداً جداً..أراها تعذب خبزها اليابس تسجنه في كيسها الممزق لأيام ، وتعذب صوتها المسن تحمله فوق طاقة العمر.وحين تؤخذ أحياناً في حملة عصبية لنظافة المدينة ،وتلقى في مستودع مهجور خارج نطاق الطرق ، يتلفت الاعتياد باحثاً عنها ، وحين تأتي يطمئن الاعتياد..يتجاوز ندائها إلى النداءات الجديدة .أيضاً جميلة وأخوها جميل .. شاخا في الوجهين وظلت كتابة الجسد الصينية على حالها .. وعندما أصبحت للسفر طرق برية ، وتبع ذلك من إنشاء محطة لباصات ذلك السفر ، أسسا تسولا جديدأً في تلك المحطة .
    أتركك الآن يا عزيزو .. في الذاكرة مائة ألف وجه .. ومائة ألف قناع.. ليست كلها في خصوبة وجهك .. لكنها ندبات في المسيرة باقية حتى النهاية.
    هذا ( بشارة البيجاوي ) ، متسول آخر لم يمد يد التسول إلى أحد أبداً، فقد ولد بلا يدين ، ويبدو أن تلك الولادة المتأزمة قد هيأته لينعم بحياة رغدة لا ينعم بها الكثيرون ، فقد كان نجماً من نجوم كرة الطاولة ملأ بضوئه الساحل وشغل الناس.لا يعرف أحد كيف أتيح لبشارة وهو قيلي معوق،يرطن في بيئة الرطانة التي لا تعرف رياضة أو نجومية ، يأكل بأطراف رجليه ، ويمشي مشوشاً من خلل التوازن ، أن يتقن تلك الرياضة ، لكن هذا ما حدث .. كنا نشاهده غارقاً في زي أبناء البجة ، ورطانتهم ، يتمدد في الأندية والملاعب ، ومهارة الماهرين ، ويأكل الجو بلا مشقة ، وفي نهاية كل معركة، تعبأ جيوبه بالمال . وأذكر أن صحفا عاصمية جاءته بمحررين ، ومصورين ، وخبراء لتقييم أدائه، فأدلى بأحاديث راطنة لم يفهما أحد ، لكنه رد كيد الخبراء إلى العاصمة مستغرباً .
    الآن رتب العم ( حمزة ) غرفته الصغيرة ترتيبه المتأني ، وضع ملاءة على لحاف ، وكيس على وسادة ، وضوء شاحب على فانوس صغير .. مشط شعره الناشف بمشط من حديد، دهن وجهه الإسفلتي بزيت سمسم نفاذ .. قرب عينيه المنطفئتين إلا قليلاً من وجوهنا الطفلة وبدأ يحكي بصبر..
    ( قال له جبريل: اقرأ .
    قال : لست بقارئ .
    قال : اقرأ وربك الأكرم .. الذي علم بالقلم . ) .
    تلك كانت نداءات الليل الأثيرة ، لم يكن في الفضاء بث غامض ، ينتزعنا نحن أبناء وسط المدينة من أسرتنا وغطاءاتنا ، وكتبنا وكراريسنا ، وتشنجات أمهاتنا.. كان العم ( حمزة ) فضاءا وحيداً ,وبثا ناضجاً .. يقص على عقولنا الطفلة أحسن القصص ، يسربنا إلى محن موسى و يوسف وذي النون، ونار ( الخليل)،يسردها في ترف ، وننام ونحن أنقياء بكينا على الطفل الملقى في النهر بكاء أمه ، والتعنا على الصبي المغروس في البئر لوعة أبيه .. قلنا.. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، وصفقنا بنشوة حين استحالت نار الخليل إلى سلام وبرد . فيك شي غريب يا حمزة.. يا عم .. لابد أنك كنت جارا للستين في ذلك الوقت ، أو تقيم معها في مكان واحد..كان لسانك يبدو شاحباً بلا دم ..كانت أسنانك لا تشبه أسناننا، تنتزعها كلها ، تضعها في إناء من الماء ثم تعيدها إلى ذات الفم دون أن تنقص سناً .. وكانت عمومتك برغم اجتهادك في إبقائها واقفة على قدميها، إلا أنها كانت تترنح..لم نر لك زوجة ، ولا ولداً ،ولا حفيداً ولا أهلاً ولا أقارب.. ولا ذكريات مشتاقة تتسرب إلى البث صدفة..ورأيناك بائعا متجولاً عصبياً في سوق الطبالي ، وخادما محني الإرادة في بيت حكومي عندما يغلق البيع فمه ، ملامحك ترسلك إلى غرب البلاد بجدارة، ولهجتك ترسلك إلى شماله بجدارة أيضاً، وزيك المكون من الصديري والسروال والعمامة يبقيك لاصقاً بالشرق حيث عرفناك .. سنوات ونحن مشاهدي بثك المسائيين ، ولا نعرف..وحين أردت أن تموت ، أو تنمحي ، أغلقت بيعك المتجول العصبي ، وخدمتك المنزلية محنية الإرادة، وفضاءك الليلي الذي رشحك عمَّا لعيال وسط المدينة أجمعين، حملت حقيبة من صفيح صدئ، ووجها من ملامح ذائبة،ورجلين من عظم هش ، وانتفيت ..
    إلي أين ذهبت يا حمزة .. يا عم ؟
    هل ذهبت إلى الغرب حيث قالت ملامحك ، أم إلي الشمال حيث قالت لهجتك ، أم بقيت لاصقاً بغراء من خيال في الشرق حيث يقول صديريك، وسروالك ، وتقول عمامتك المبقعة.. لو مت حقاً لكان موتك في ذلك الزمان رنان وذا صدى ، كنا رأينا سرادقا وعزاءً،ودمعاً مراً ليس في بيت مخدوميك الحكوميين فقط، لكن في عيوننا نحن رواد بثك المسائي ..نمضي إلى أولئك المخدومين.. نسألهم بإلحاح الطفولة الذي لا يلح إلا في ساعة القيلولة المسترخية.. أين عمنا يا مخدومين ؟
    يقولون .. عاد إلى وطنه .
    أين وطنه يا مخدومين ..؟
    يقولون لا ندري .. يسدون باب الإلحاح بجلافة ، ويسرعون إلى أسرتهم ، يلمون ما تبقى من نعاس القيلولة .
    نعاود الإلحاح .. ويعاودون سد الإلحاح .. وكانت توجد في بيت أولئك المخدومين، امرأة نصف أنثى .. لها شارب رفيع كشوارب المراهقين،لم تكن خادمة ، ولا مربية ، ولا زوجة ، ولا جدة .. كان وجودها من نوع ذلك الوجود الغامض الذي ينتشر كثيراً في بيوت الوطن ولا تستطيع حتى تلك البيوت تفسيره ..كانت طويلة وسمراء ، وتشبه حصان سباق معتزل .كنا نسميها ( المبروكة)..دون أن ندري إن كان ذلك اسمها حقاً.. أم اسما اخترعناه بإيحاء من بركة كنا نراها فيها.. لم تكن تظهر في الحي أبداً ..وحتى أمهاتنا اللائى كن يجسن بزياراتهن في الحي ، يقتلن ملل النهار ، ويدخلن ذلك البيت من حين لآخر ،كن يرينها ضباباً يتلوى بين الغرف دون أن يستقر في جلسة.وحين يبدأ بث حمزة المسائي، كانت تلتف حوله ، تحاصره بحواس الحصار كأنها رقيب مكلف .وفي بعض الأحيان كانت تدعم ذلك البث بشاي أحمر تصبه من إبريق قديم . كانت تبدو متأثرة بشدة، تتبعنا إلى الطريق خطوات .. تقول حمزة سيعود ..ثم تسرع إلي داخل المنزل .
    نمضي إلى ( جمعة جامع ) مهاجر الغرب القديم ،و خياط الفقر والفقراء في دكانه المهمش في طرف السوق الكبير ، نعرفه صديقاً لاصقاً للعم حمزة ، كنا نراهما ستينيين يحتسيان شاي ( القرفة ) ، وقهوة ( الزنجبيل) ، و يلهثان في ضحك أكبر من طاقة العمر، وفي ظهر الجمعة حيث لا خياطة في السوق، ولا بيع في الطبالي، ولا خدمة منزلية ، كانا يذهبان لصيد السمك ، فيصيدان إرهاقاً، وتعبا،وآلاماً في المفاصل ويرجعان.
    نسأله ..
    أين عمنا يا صاحب عمنا ؟
    يقول .. حمزة انقرض ..
    نسأله عن الانقراض الذي تعرفه أذهاننا صفة متوحشة تخص ديناصورات كانت تعيش في عهد قديم.. ولا تخص أحداً آخر..يلحسنا ببصر ميت ،ثم ينكفئ على مهنة الشقاء المر ، يكمل ثوباً فقيراً .لفقير ينتظر.وبعد عام أو عامين ، لا أذكر بالتحديد ، انقرض ( جمعة) نفسه ، كانت ليلة الوقفة لأحد الأعياد ، انزنق فيها متبعا القول القديم .. ( زنقة الترزي يوم الوقفة )، وعندما سلم آخر فقير ثوب عيده، ذهب لينقرض في أحد الأحياء البعيدة .








                  

العنوان الكاتب Date
فصل من ( مرايا ساحلية ) أمير تاج السر05-04-04, 07:04 AM
  Re: فصل من ( مرايا ساحلية ) AlRa7mabi05-04-04, 09:46 AM
    Re: فصل من ( مرايا ساحلية ) nassar elhaj05-04-04, 09:55 AM
      Re: فصل من ( مرايا ساحلية ) أمير تاج السر05-04-04, 06:20 PM
    Re: فصل من ( مرايا ساحلية ) أمير تاج السر05-04-04, 06:15 PM
      Re: فصل من ( مرايا ساحلية ) أمير تاج السر05-06-04, 06:14 AM
        Re: فصل من ( مرايا ساحلية ) nassar elhaj05-07-04, 04:35 PM
          Re: فصل من ( مرايا ساحلية ) أمير تاج السر05-08-04, 06:23 AM
  Re: فصل من ( مرايا ساحلية ) Imad El amin05-08-04, 01:44 PM
    Re: فصل من ( مرايا ساحلية ) أمير تاج السر05-08-04, 08:55 PM
      Re: فصل من ( مرايا ساحلية ) Tumadir05-09-04, 05:24 AM
        Re: فصل من ( مرايا ساحلية ) أمير تاج السر05-09-04, 06:14 AM
          Re: فصل من ( مرايا ساحلية ) Ali Alhalawi05-14-04, 06:16 PM
            Re: فصل من ( مرايا ساحلية ) أمير تاج السر05-14-04, 06:38 PM
              Re: فصل من ( مرايا ساحلية ) nassar elhaj05-18-04, 09:51 PM
                Re: فصل من ( مرايا ساحلية ) أمير تاج السر05-19-04, 07:55 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de