مستر "طيب" ذاك الذي سقته الى حتفه ـ قصة حقيقية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-19-2024, 11:42 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-05-2006, 02:50 PM

بدر الدين الأمير
<aبدر الدين الأمير
تاريخ التسجيل: 09-28-2005
مجموع المشاركات: 22958

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مستر "طيب" ذاك الذي سقته الى حتفه ـ قصة حقيقية

    درجت مع حلول عام 76 من القرن المنصرم على التردد بنسق يومي على فندق (ر. ج.) القابع بحي كينسغتون العريق بمنحى لندن الغربي، وكنت كلما احتواني بهو اللوبي الثماني الأضلاع والمشيد على طراز هندسي رائع ونمط فني منمق، لا أتوانى هنيهة في التجوال بردهاته المتسعة مستمتعاً بسماع أنغام شجية لسمفونيات ومقطوعات موسيقية لشوبان وفرانز ليست ومانيوويل وثيودور هيلست وبرامز وموزارت تصدح على مر الساعات مشنفة للآذان ومدغدغة للحنايا والأوصال، ومتأملاً في كل مرة لتلك اللوحات الضخمة المثبتة على الجدران الرخامية والفسيفسائية والتي تمثل اصطراع الحضارات المتنوعة من خلال تنافسها الفني إبان حقب الاستنارة والنهضة المزدهرة، فهناك مجموعة رسومات خالدة لفنانين مبدعين أمثال فرانسيسكو دي غويا وجيروم ليون ورفائيل وبول سيزان ودافينشي وجيوفاني وكوكتو وسلفادور دالي وبيكاسو وجوجان، وهناك أيضاً التماثيل الحجرية والبرونزية النابضة بالحياة والتي يشع منها بريق السحنة الآسيوية مما يوحي بأنها قد نحتت بأزاميل حديثة وأخرى تقليداً لأصول كلاسكية قديمة لمشاهير عالميين كجيوتو ولورانزو وبرانكوس قسطنطين وغاستون ودوناتللو.
    طالما أثار فضولي وجذب انتباهي وجود شاب يعمل بإدارة الفندق، قمحي اللون معتدل القامة رشيق القوام أنيق الهندام فاحم الشعر يحظى باحترام النوادل وتبجيل العاملين بالكفتيريات والمقاهي والمطاعم المطلة من زوايا وأركان الرواق الأرضي له، يتلقى وهو في غدوه ورواحه وخبه المتصل نبرات الود والتحايا الجزلة من رواد الفندق الدائمين، ولا ينفك يتحدث بإطالة وطلاقة وبشاشة مع المرتادين والنزلاء لا سيما مع أولئك القادمين منهم على وجه الخصوص من بلدان جنوب شرق آسيا ودول الأقصى البعيدة أرض سهول الأرز ومراتع التنين الأصفر، وقد تمادى انبهاري يوماً أضعافاً حينما استرقت السمع متلصصاً لافاجأ بأن كلمات سرده معهم كانت عبر لغة لم أهضم مفرداتها ولم أستوعب شيئاً من معانيها.
    حاولت كثيراً وفي مرات مترادفة أن أنتهز السوانح المتاحة والفرص المواتية للولوج في حوار معه اسبر فيه غوره وأدرك كنهه وأروي غليل فضولي المتلهف نحوه، غير أنه سرعان ما كان يشيح بوجهه بعيداً عني ويصدني ويفحمني بردود جافة مقتضبة يضمنها رغبته الملحة في بتر الحديث وإنهائه الفوري وينسل من ثم متوارياً ليترك لي المكان برمته وينسحب صوب ملاذ آخر لا تستطيع نظراتي المتربصة ارتياداً له فيه، إلا أن الصدفة البحتة قد هيأت لي في مرة معرفة اسمه دون بذل جهد مني أو كد يذكر عندما كررت موظفة بدالة هواتف الفندق من خلال نداء الصوت الداخلي عبارة "يرجى الانتباه، هناك مكالمة هاتفية لمستر "طيب"، وبحلقت حينما هب هو الذي لا مراء فيه واقفاً من مجلسه ومتجهاً نحو الكابينة المعدة لتلقى المحادثات، وتمتمت ساعتها في سريرتي بسعادة كمن ازدرد بغيته ونال وطرته المشتهاه بعد طول تمهل وانتظار "إذا فأنت تدعى مستر طيب".
    في ضحى عطلة الأحد دلفت بخمول إلى داخل الفندق واخترت طاولة منزوية بمطعم "كوخ البحر" وطلبت من(اماندي) تلك النادلة الاسبانية الحسناء أن تسعفني بقدح من القهوة السوداء وتجهز لي إفطاراً سريعاً مكوناً من قدح ساخن من حساء سمكة القوبيون وشريحة من لحم التونا على خبز متبل بالكافيار الأحمر، وقبل أن تنصرف من أمامي سألتها بعفوية "أماندي أين مستر طيب؟" فأجابت بتلقائية "موجود بالداخل، ولقد رأيته هذا الصباح في غرفة الاستقبال، واعتقد بأنه سوف يأتي إلى هنا كدأبه عند الظهيرة ليجلس تحت مظلته في قبالة حوض السباحة". وواصلت حديثي معها " أيعمل معكم هو في هذا الفندق؟" اندهشت الفتاة وتلفظت بصوت متحشرج "يعمل معنا!! أخالك تمزح يا سيدي فالمستر طيب هو مالك هذا الصرح المنيف " تسمرت النظرات في احداقي وانزلق ملحق صحيفة الجارديان الأسبوعي من بين أصابعي المرتعشة واعترتني قشعريرة عارمة سرحت بعدها بأفكاري فوق تخوم داكنة مشرئبة قطعت تواصل وثباتها في خيالي "اماندي" وهي تضع الأشياء على المائدة المستطيلة وبادرتها(ترى من أي أصل وجنس هذا المستر طيب؟" قالت بوجل وتوجس "لا علم لي سيدي من أين هو ولكنه متزوجاً من امرأة تايلاندية مهذبة وله منها صبية يافعة تدرس إيقاعات الرقص الشرقي في أكاديمية الفنون والموسيقى بمانشستر".
    تمددت على كرسي من القماش الأخضر المقلم بجوار مظلة مستر طيب على أمل لقياه عندما يهل بالحضور، وكنت قد صممت ووطدت العزم على دك حصون غموضه وهتك حجاب صدوده وتمزيق ستور تهربه مني وانزوائه عني مهما شق بى الأمر وكلفني، وشرعت أرتب في ذهني نقاط ارتكاز استهل بها طرحي السريع لتساؤلاتي واستفساراتي المتزاحمة رغم إدراكي ويقيني بأنه سوف لن يستأنس بحط رحاله في مضاربي طويلاً، وانغمست من جديد أغوص بومضاتي داخل مياه الحوض الرقراقة انتقل من خلال انسيابها وتهاديها من اتون إلى اتون.
    استدرت خلسة فإذا به هناك قابعاً يحتل مقعده الوثير مرتدياً زي العوم وعلى عينيه نظارة سوداء وأمامه على المنضدة قارورة مياه معدنية وعلبة تبغ وقداحة فضية اللون. اندفعت نحوه محيياً، فأطلت بسمة خاطفة كست ملامح وجهه المتبرم دفعتني دون طلب استئذان منه الى جذب المقعد المجاور له والجلوس عليه، وطفقت قبل أن أدع له مجالاً للتملص في سل السهام من جعبة فضولي المكتظة وإرسالها في سياق متلاحق "اعذرني سيدي إن كنت قد اقتحمت خلوتك ولكنني كثيراً ما وددت أن أتعرف بشخصك ليس طلباً في تحقيق غرض بعينه وإنما بدافع ..." فقاطعني بصوت أجش قائلاً: "بدافع الفضول أليس كذلك؟" واستطرد بعد أن أشعل سيجارته دون أن يقدم لي لفافة أخرى "لقد لاحظت وطالما انتابني شعور خفي وخالجني إحساس جارف بأنك ما برحت تتعمد الدوران في فلكي ومداري، إما بملاحقتي من على البعد أو بندب بصيص لمحاتك في اقتفاء أثري" وأجبته وقد غطت مسامات وجهي مسحة استحياء باهتة "نعم لقد صدق حدسك ولا أنكرك القول بأنك كنت ولا زلت مثاراً لنزوات فضولي المتأججة، لا سيما وأن تقاطيع ملامحك وسمرة بشرتك ولفظة اسمك تجعلني أجزم بأننا أبناء ربع وعشيرة واحدة، فهل أرحتني وأفضيت لي من أية بقعة أتيت؟" رمقني بطيب خاطر ومال إلى الأمام ونبس بهدوء "أنا من تايلاند أو هكذا يقول جواز سفري، وأنت لأي بلد تنتمي؟" ولكي لا ينقطع تواصل الحوار بيننا قلت بعجلة لاهثة "أنا من السودان" لوى مستر "طيب" عنقه إلى أعلى وخلع نظارته باسترخاء ثم زفر تنهيدة طويلة وهمهم وهو يستقيم واقفاً "وأنا كذلك يا صديقي العزيز".
    يا إلهي، ليته انتظر برهة ريثما أمطرة بوابل من أسئلتي المنتقاة ولكن هيهات فقد قفل عائداً لباحة الفندق وتركني في حيرة من أمري، استرجع جملته الأخيرة بتعجب وانشداه، هل ما قاله هو عين الحقيقة أم أنه قصد نوعاً من المداعبة والمزاح؟ ولماذا لم ينطقها باللغة العربية أو بالدارجة السودانية لو كان جاداً بحق فيما قال؟ واندفعت خارجاً من الفندق لا ألوي على شيئ وهمت على وجهي بين الطرق والممرات، جلست القرفصاء أخيراً أمام مشتل أزهار اللوتس المجاور لبركة النورس في منعرج حديقة هايدبارك، وهناك أطلقت العنان والسراح لأطياف رؤاي المتبعثرة وأفكاري المتزاحمة .
    انقضت بضعة أيام قبل أن تتيسر لي فرصة لقياه مرة أخرى، ولو أن صورته ما بارحت مخيلتي قط منذ ذاك النهار، الذي زلزل فيه بجملته تلك دعامات كياني، رأيته بصالة التلفاز يجلس وحيداً، لم أعبأ باسترخائته على الأريكة المكتزة ولا باندماجه التام في تصفح الهيرالدتربيون وبادرته بصوت أبح أجبره على الالتفات نحوي "أحقاً أنت من السودان؟ فأجابني بنبرة قاطعة بعد أن اعتدل في جلسته "سبق لي وأن أخبرتك بذلك، فأنا لا ألفظ شيئاً مبهماً، ولست ممن يعاقرون قول الكذب والافتراء" دندنت بصوت خافت "ألا تتكلم العربية؟" وبشبه ابتسامة عارضة انطبعت على شفتيه أجابني بكلمة عربية وإن غلبت عليها اللكنة الأجنبية "شوية". وتابعت تداولي معه بإصرار "يبدو أنك قد بارحت السودان واغتربت منذ أمد بعيد حتى أنك قد نسيت مخارج لغتك الأم". نحنح حنجرته ثم أضاف "صحيح ما ذكرت فقد تركت السودان بمفردي وأنا طفل صغير لم يتجاوز عمري الثمانية أعوام" استحوذتني الدهشة فوق ما ينبغي وجلجلت "كيف ذلك، أكاد لا أفهم شيئاً مما تحكي" ضحك ضحكة ذات مغزى وهو يرسل كلماته "تلك قصة طويلة يا صديقي، ولنترك أوان سردها لفرصة أخرى بعد عودتي في نهاية الأسبوع المقبل من جولة عمل ببلدان أمريكا اللاتينية".
    ذهبت مبكراً لمقابلته بعد يوم واحد من عودته، فاستقبلني بلطف وترحاب وأخذني إلى مكتبه الخاص بطابق "الميزانين" وجلسنا هناك على انفراد، وبعد أن احتسينا عصير الفواكه الطازجة المخلوطة بالايسكريم المثلج ورشفنا أقداح الكوبيتشينو الإيطالية المذاق تململت في جلستي، فقد عيل صبري ونفد، والتفت نحوه خادشاً حياء الصمت المطبق "معذرة يا عزيزي فقد سبق ان وعدتني قبل سفرك بأن تقص على مسمعي حكاية رحيلك عن السودان، وكلي آذان صاغية الآن لسماع روايتك ، فبربك ابدأ ولا تختصر، بل اسهب وأورد كافة التفاصيل فأنا شغوف بمعرفتها وتواق لاستيعاب أدق اخبارها". رماني بنظرة حزينة وتلعثم برهة ثم نطق "لقد أرجعتني بإلحاحك هذا إلى متاهات غائرة وأوان غابر وزمن سحيق، وربما لا أنجح في ترتيب الأحداث وضبط تواليها ووضعها في قالبها الصحيح، ولكن ما أذكره جيداً أنها قد بدأت والحرب العالمية الثانية تضع أوزارها وتلفظ أنفاسها الأخيرة حينما ركبنا القطار أنا ووالدتي التي لا أعرف الساعة إن كانت لا تزال تنعم بنبض الحياة الدافئ أم أن غياهب الموت الكريه قد احتوتها في رحابها الأبدي، أخذنا القطار إلى بورتسودان لزيارة خال لي أو جد أو شئ من هذا القبيل، حيث أقمنا معه بمنزله الخشبي المجاور لمرسى السفن، وكنت قد اعتدت على المكوث معظم الوقت فوق رصيف المربط استمتع برؤية تلك البوارج الضخمة، واقلد صغير بوقها الذي تطلقه عند اقترابها من الميناء أو لدى مغادرتها، وفي صباح يوم غائم وأنا قابع أمام المرسى أتابع العمال وهم يحملون البضائع وجوالات القطن وأكياس الصمغ العربي ويضعونها بنظام في جوف السفينة، إذا بالبروق تبرق ولفحات الزمهرير القارس تلفح الأبدان، ثم ترعد الرعود وتبكي السماء وتمطر مدراراً، فركضت ركضاً إلى بطن المركب لأتخذه ملاذاً أتقي به غضب الطبيعة الكاسرالى حين، واندفعت إلى داخل سرداب منزوٍ لاستجمع أنفاسي، وتكومت في ركن أتجفف من البلل وأستشعر شيئاً من الدفء، فإذا بباب السرداب الحديدي وتحت وطأة تأثير تحركات الأمواج تحت السفينة يرتطم بعنف وينغلق من تلقاء نفسه، وهرعت إليه لفتحه من الداخل ولكن هيهات، فدققت عليه بكفي الصغيرة دقاً متواصلاً وصرخت مستغيثاً ورفعت صوت النحيب والعويل عسى أن يكون هناك من يسمعني، وطفت أبحث في داخل السرداب عن اي منفذ آخر للخروج ولم أجد سوى نوافذ صغيرة للغاية مستديرة الشكل مغطاة بزجاج بلوري سميك تطل على مياه البحر يمكن من خلالها مشاهده الاسماك الملونة والرخويات وهي تسبح في هدوء ودعة، خارت قواي وأصابني الوهن والهلع ورائحة الحبوب واللحوم والتوابل التي تكتظ بها الغرفة ما انفكت تملأ خياشيمي، فالسرداق كان بمثابة مخزن للمأكولات والمواد الغذائية المحفوظة داخل الثلاجات الكبيرة وفوق رفوف الخزانات الواسعة".
    سكت مستر "طيب" عن الحديث وتناول غليونه المذهب من فوق الطاولة وملأ فوهته بتبغ "الكوندور" الفاخر وحدجني قائلاً "أحياناً حينما انسجم في الحديث وأحسه منساباً من لساني دون تدقيق واختيار، أفضل لحظتها أن أجتر بضعة أنفاس من الغليون، أرجو ألا تضايقك رائحته أو تسبب لك نوعاً من الاختناق" أجبته متمنياً لو يواصل بقية سرده بلا انقطاع "على النقيض يا عزيزي فاستنشاق رائحة التبغ تنعشني وتقلل من تزمتي وانقباضي رغماً عن هجري ومجافاتي مؤخراً للتدخين، ولكن قل لي ماذا طرأ عليك بعد أن اعتراك الكلل وأنت رهين الحبس داخل تلك الغرفة المنزوية؟"
    رشف ما تبقى من قدح قهوته، ووضع غليونه جانباً وهمس "كنت قد فقدت الوعي آنذاك وانكببت صريعاً على الأرض في إغماءة كانت فيما يبدو طويلة الأمد، أفقت منها على بحارة السفينة وهم ملتفون حولي وطبيب السفينه معهم منغمساً يغرز أنماطاً متنوعة من الإبر في ذراعي وفخذي، سقوني حليباً ساخناً ورشوني بماء الكولونيا وأنا أطالع في وجوههم فأجدها غريبة الملامح وتميل سحنات بشرتهم إلى الاصفرار، أخذوني من ثم إلى الطابق العلوي للسفينة، وحينما جلت بنظراتي من سطحها صعقت اذ لم أشاهد سوى السماء والماء، لا يابسة ولا شاطئ ولا معمار، لحظتها تأكدت تماماً بأنني قد أبحرت إلى عالم جديد آخر لا اعرف له سقفاً ولا قراراً".
    رن جرس الهاتف فالتقطه مستر طيب وبدأ يتحدث لثوان بتلك اللغة العجيبة ثم التفت نحوي قائلاً "إنها زوجتي، وقد استغربت عدم وجودي في مثل هذا الوقت بردهة الفندق، فأخبرتها بأنني برفقة صديق عزيز، صديق أتى من حيث أتيت، ولكن دعنا الآن ولنواصل الحديث فأنت في لهف لسماع ما تبقى وسأخبرك بما قاله لي ربان السفينة في تلك اللحظة حيث أنني كنت في حيرة من أمري وأنا واقف قبالتهم مشدوهاً أتابع النظر من أعلى السفينة إلى سطح الماء، لا أفهم ما كانوا يرددون وليس بينهم من يتحدث العربية إذ كل لغات الدنيا الأخرى سواها كانت بالنسبة لي آنئذ بمثابة لغز محير، أخبرني القبطان "مونغ" بأن سفينتهم "ذا جلوب" كانت قادمة من ميناء مرسيليا ومتجه إلى مملكة سيام أي تايلاند حالياً، وبعد أن رست بميناء بورتسودان لنقل بعض البضائع واصلت إبحارها وما أن قطعت بعض الأميال حتى فوجأ بحارتها عندئذ بوجودي داخلها فاقداً للوعي والإدراك. كانت السفينة قد تخطت مياه السودان الإقليمية ولا مناص للعودة بها بأية حال إلى مربط الميناء مرة ثانية، فأصدر القبطان والذي كان قد شعر في قرارة نفسه بميل عاطفي تجاهي واستمالة حنان نحوي لم يعرف لهما مبرراً، أوامره القاضية بأن يتم إخفائي في مكان آمن عند دخول الباخرة لأي من الموانئ الآتية في خط سيرها، وعند وصولها إلى بانكوك تمكن الكابتن "مونغ" بما لديه من حنكة ودراية وصلات متشعبة مع المسئولين من ترتيب أمر تسللي إلى داخل المدينة، وهناك أخذني إلى داره لأبدأ الانصهار في خضم مياه جديدة في بقعة كل ما فيها بديع وعجيب لأهيم في ربوعها كما غريب الوجه واليد واللسان".
    استطرد مستر طيب بعد أن صمت هنيهة ليبتلع ريقه "شملني الوالد "مونغ" برعاية فياضة وأغرقني في ود طافح وغمرني بمودة خالصة لا مثيل لها، كما عكفت زوجته الحنونة "سانتا" على تعليمي اللغتين السيامية والانجليزية واهتمت بغذائي وملبسي تماماً كاهتمامها بصغيرتها "سالي" التي كانت تصغرني بعدة أعوام، وعندما شب عودي قليلاً ونضجت وصرت أحسن التخاطب وأجيد فن الأخذ والرد ألحقني القبطان "مونغ" والذي كان قد ترك عمله وسئم شق عباب أعالي البحار وامتهن اشغال التجارة وامتلاك الفنادق في عمل إداري في خان صغير له بضواحي العاصمة، ما برح بعد فترة وجيزة أن كلفنى بمهام شئون إدارة أكبر فندق يخصه بقلب المدينة الصاخبة وبعد أن توفيت زوجته وقبل أن يفارق هو الحياة بأشهر قليلة زوجني ابنته "سالي" ومن ثم آلت إلينا بعد مماته طائل ثروته التى نجحنا في استثمارها وأسسنا شركة فنادق عالمية تضم أعضاء من جنسيات مختلفة تربعت أنا على رأس مجلس إدارتها وبعد أن رزقنا ابنتنا الجميلة "سارة" قررنا النزوح إلى لندن واتخاذها مقراً لإدارة أعمالنا".
    استدار مستر طيب وشب واقفاً واتجه نحو النافذة وهو يتمتم "هذه يا صديقي وبقدر كبير من الإيجاز فحوى قصتي، وأتمنى أن أكون قد أفلحت في نقل فقراتها كاملة إليك، ولتعلم يا عزيزي بأنها المرة الأولى التي أركن فيها على نبش سيره ماض لي يوجعني ويؤلمني كثيراً، ماض أبعاده كالحة وباهتة في ذاكرتي، لا ترتادني فيه سوى صورة وجه أمي وهي تجلس قبالتي ورأسها مغطاة بقطعة من القماش تستر بها جدائل شعرها المجعد وسبيبات بيضاء تتسلق حاجبيها، ولحاظ حول خفيفة تبدو في بريق عينيها، وأسنان متباعدات داخل فم شفته السفلى كبديه اللون، وعلى جانب كل خد من خديها السمراوين ترقد آثار مندملة لجروح ثلاث قديمة تمتد من عند الوجنة إلى ما فوق الفك" وقاطعته ملتقطاً زمام الحديث "ما اسم أمك؟" أجابني مدندناً اسمها "السرة"، وقد آليت على نفسي أن أسمي ابنتي باسمها إلا أن زوجتي قد فضلت مناداتها لسهولة الإيقاع باسم "سارة"، أما والدي الذي استجمع صورته لماماً بمخيلتي كان ينادى "بالحاج الطيب" قلت: "وماذا عن أخوتك؟" قال بعنت: "كنت الوحيد في ذاك الأوان ولا أدري ما جد من ثم".
    بسطت أرجلي على مداها واتكأت براحة على مقعدي وسألت "ألم تحاول ومنذ رحيلك الاتصال بأهلك في السودان أو معرفة شيء من أخبارهم وما عسى ان يكون قد اعتراهم وألم بهم بعد غيابك؟" تعجب مستر "طيب" فيما يبدو من سؤالي ورد بنبرة استغراب بينة "وكيف سيتسنى لي ذلك وأنا قد اندسست في بقعة تأكل الضباع فيها السحالي ويستنشق الطفل لحظة ميلاده رائحة الروث المتخثر وترتدي الفتاة ليلة عرسها ثوباً من فراء القطط، تلك ربوعاً يا صديقي، قل أن يعرف الشخص فيها أين تقع حدود بلاده، ويندر أن يدري ما هي سمات دولته ومن هو حاكمها، أو ماذا يعني حكم القضاة فيها، بالطبع يا عزيزي لم اتصل لأني ما وجدت سبيلاً لذلك وبتوالي الأعوام كنت قد انسلخت تماماً عن أي شأن يربطني بالسودان، فلم تعد تشدني ذكراه أو أخباره أو حتى رؤية شخوصه إلى أن بزقت أنت في دنياي لتأجج مجدداً بعض الحنين في أوصالي" وسارعت بالسؤال "هل أنت من الخرطوم أم من امدرمان أم من مدني أم من شندي أم من مدينة أخرى؟" أجاب على الفور "أعتقد أنها امدرمان، فقد رن جرساً في أذني عندما أتيت على ذكر اسمها" ولم أترك الساعة تنطوي قبل أن أحدد مكانه هناك "امدرمان تضم عدة أحياء سكنية كبيرة كبانت والموردة وودنوباوي وأبوروف وودأرو وخلافها أيجوز أن تكون قد ترعرعت في واحدة مما أوردت" نكس بصره قليلاً لاسترجاع خبايا سنين طويلة مضت "لا أذكر على وجه التحديد، ولكن يخيل لي بأن منزلنا كان مجاوراً لمبنى كنيسة ضخمة تقرع أحياناً بداخلها الأجراس" قلت وقد التمعت عيناي "إذاً فهي المسالمة بالتأكيد" وطأطأ مستر طيب رأسه موافقاً "نعم اعتقد بأنها تسمى المسالمة" راودني لحظتها وميض شعور بأنني قد أوشكت على تطويقه وملامسة منبت جذوره، وشرعت أتلو على مسمعه أسماء بعض الأسر المعروفة في ذاك الحي، وفجأة لاحظت أنه قد تجهم وانقبض حينما نطقت اسم أسره بعينها، وللفأل الحسن فقد كانت تربطني بهذه الأسرة المعينة صلات ود وأواصر تآخ وطيدة وحميمة.
    تتابعت جلساتنا من بعد ذلك كثيراً، وتطرقنا في نهج الحوار المتصل بيننا إلى مواضيع متقلبة وشتى كانت تستغرق منا الساعات الطوال، تحدثنا عن معترك الفلسفة الحياتية كما تناولها "أرسطاليطس" وعن مذاهب الفن السيريالي وخطوطه التشكيلية، عن مقالات "أوسكار وايلد" الأدبية وأشعار "لورد بايرون" وهو يعاني الأمرين من وطأة المنفى، وتفاصيل السير والتراجم الاغريقية عند "بلوتارك"، وأنغام البلوز في مناجاة "ميخالي جاكسون"، وروعة الأداء في أغاني "جوان بايز" و "بوب ديلون"، ونجاحات "يوثاتن" في حل مستعصيات المحكات الدولية، إلا أنني كنت ألاحظ وبشئ من الحس الضافي في دخيلتي بأن زوجته كانت تنكمش وتتوارى وتتجنب ما استطاعت مشاركتنا الجلوس والخوض معنا في اللغو وزفر الكلمات، بل أن شعوري الذي قلما يخيب أنبأني بأنها لم تكن سعيدة ولا هانئة باقتحامي الجرئ لصومعتهما المغلقة ولا أسلى يوماً تعليقها العابر لي وهي تضع أمامي قطعة الجاتوه في غرفة الاستقبال بجناحهم المفتخر حيث لبيت دعوة للاحتفال معهما بعيد زواجهما "أنت واهم دون شك لو ساورتك ذرة اعتقاد بأنك سوف تنجح يوماً في نقل زوجي العزيز من سدانته لنا إلى زمرتكم تلك، وثق جيداً بأن المنبت سيظل دائماً أقوى تأثيراً وأعتى وقعاً من الانتماء، والانصهار الروحي في بوتقة حنان دافق تفوق وتتعدى وشائج القربى وصلات الأرحام، فدعه يا عزيزي يسترسل في مشواره الذي هيأته له الظروف بطواعية ورضى، فقد يرتبط تغيير المسار بمصاير وخيمة العواقب".
    حل علينا بلندن في تلك الأيام مسئول سوداني رفيع كان يحتل منصباً حكومياً مرموقاً بالدولة، تربطني به صداقة وطيدة جذورها ضاربة في القدم وممتدة منذ مهد الطفولة واليفاعة والصبا، وشاءت الأقدار كذلك أن يكون هذا المسئول من صميم نفس العائلة التي حينما ذكرت اسمها لمستر "طيب". ضمن سردي لأسماء أبرز من كانوا يقطنون حي "المسالمة"، شعرت بأنني قد عزفت على وتر حساس في عمق ذاكرته. واغتنمت الفرصة عندما اجتمعنا تلبية لإحدى الدعوات التي أقيمت على شرف وصوله إلى لندن وسألته بغتة في سياق الحديث إن كان ملماً بأطراف قصة قديمة بطلها طفل صغير من حيهم كان قد اختفى فجأة ولم يعثر له على أثر، فرمقني صديقي بنظرة فاحصة وقال بهمس خافت كعادته: "اذكر بالكاد واقعة مماثلة حدثت لقريب لي كان مع والدته في زيارة لبورتسودان وقد قيل أن عصابة الشفتة قد اختطفته وأخذته معها إلى ديارها بالهضاب الحبشية" ولكي ينجلي لي الأمر كلية ويصبح واضحاً بلا لبس أو غموض سألته ثانية: "أتذكر اسم والد الطفل ووالدته؟" أجاب على الفور "بلى فوالدته هي عمة لنا تدعى "السرة" أصيبت بداء السرطان العضال فور فقدها لابنها الوحيد وتوفيت بعد مرور اشهر قليلة من ضياعه، أما والده "الحاج الطيب" فقد انطمس بصره وخبا وافترسه الحزن والأسى المبرح إلى أن مات في حادث سير عندما دهسته سيارة وهو يعبر الطريق دون انتباه، ولكن ما جدوى كل هذا النبش الذي لا طائل من ورائه والذي أصبح مضمونه في طي النسيان؟" طفرت بسمة عريضة على شفتي وارتفعت نبرات صوتي مؤكدة "أنه موجود هنا بلندن وليس بتلال الحبشة كما تظن وقد التقيته مرات عديدة وسأرتب لك موعداً معه مساء الغد إن توفرت لديك الرغبة والخلوة والزمن".
    اتصلت بمستر "طيب" وضربت معه موعداً عند إطلالة المساء بعد أن أخبرته بأن لدي مفاجأة عظيمة ستنال من استحسانه ورضائه الكثير وتركته في لهفة وترقب دون إبداء المزيد من الإفصاح والتنوير، وعند الميقات المحدد وصلنا سوياً وألفيناه في انتظارنا وقد هيأ لنا جلسة في الحديقة الخلفية للفندق تحت تعريشة الزيزفون المطلة على ماء الغدير، فرحب بنا أجزل الترحيب وأحلاه، غير أن نظراته ما انزاحت لحظة عن وجه رفيقي القادم بصحبتي، حيث أدرك مستر "طيب" بفطرته بأن محور المفاجأة يكمن دون شك في حضور هذا الشخص الغريب، ولذا تعمدت عندئذ وأنا أشرع في مراسم التعريف والتقديم أن أضغط بحدة في نطق اسم عائلته مما جعل مستر "طيب" يعود ثانية للتجهم والانقباض الذي لمسته فيه آنذاك، كما ومست سحنة وجهه نفس خيوط الكآبة المبهمة والتعابير الواهية، وبدأنا الحوار فافضى صديقي لمستر طيب علمه بكامل تفاصيل قصته المثيرة بالقدر الذي سمعه من ادلائي، وأخبره كذلك بأنهما أقارب من فخيذة تربطهما صلة الرحم والدم علاوة على أنهما كانا في مقتبل أيام حياتهما الأولى ندين وصاحبين قلما يفترقا، وإن اختفائه الذي حدث في ذاك الأوان وما أشيع بأن عصابة من الأحباش قد اختطفته كان له وقع الصاعقة ودويها على الجميع ولا سيما على العمة "السرة" والحاج "الطيب"، وهنا رفع مستر طيب رأسه من تلك الطأطأة الموحشة واتسعت حدقتا عينيه وأخرج صوتاً متحشرجاً "وماذا عن أخبارهما، أرجو أن لا يكون قد أصابهما مكروهاً بسببي؟" سكت صديقي وتلجم وأدار وجهه بأسى ورأيت لحظتها دموعاً غزيرة تنسكب بلا انقطاع من عيني مستر طيب ولواعج حرقة تعتصره ولوعة دفينة من الحزن والألم تنطبع على تقاطيعه وقال بتلعثم: "لقد ماتا أليس كذلك؟" هز صديقي رأسه مجيباً ثم أردف قائلاً "بلى ومن بعد رحيلك بأمد قصير". وواصل مستر طيب وهو يختنج "وبالطبع لم تكن لديهما قدرة ولا رغبة من بعد فراقي في الإنجاب ثانية".

    كثرت لقاءاتهما وتمادت لتصبح ذات براح يومي طويل، وقد استطاع صديقي طيلة فترة بقائه بلندن أن يقتلع مستر طيب من براثن وحدته وانزوائه ويفر به خارج نطاق السياج الشائك المضروب من قبل زوجته حول تحركه وانفتاحه، بل إنه قد عبر به المدى الشاسع وجعله يندمج وينصهر مع صفوة سودانية مختارة في دعوات وجلسات خاصة ومتنوعة حركت في دواخله نزعات الحنين إلى تراب موطنه وجعلته يفكر جدياً في كيفية اختراق حاجز الوصول إليه، وفي مرة ووسط مثار أهازيج الطرب والغناء الصادح في حفل أقيم على شرف وداع صديقي بعد انتهاء مهمة عمله بلندن، اختلى بنا مستر "طيب" جانباً وأبدى رغبة أكيدة في الدخول فى استثمارات فندقية بالسودان وقد وجدت الفكرة تجاوباً وقبولاً منقطع النظير من جانب صديقي ووعد بأنه وبمجرد وصوله للسودان سوف لن يألو جهداً في إرسال الدعوة له ولفريق من مجلس إدارة شركاته لزيارة السودان، الأمر الذي أزجى تباشيراً من السعادة والبهجة الفياضة في دخيلة مستر طيب وجعلته يقف بشموخ ويفرك أصابع يده اليمنى مفرقعاً ومطرقعاً كعادة أهل السودان، عندما تطالهم أحاسيس البهجة ويعمهم الشعور بالفرحة والحبور وتجذبهم إيقاعات الغناء والطرب.
    ظل مستر "طيب" في توقع وترقب مستمر لوصول تلك الدعوات إليه فقد كانت دوماً هاجسه وشغله الشاغل كلما التقينا أو تهاتفنا، كان لا ينفك يتحدث بانفعال عن مدى غبطة أعضاء مجلس إدارته عندما علموا بأنهم سيشرعون في تشييد فندق متعدد النجوم عند ملتقى النيلين الأزرق والأبيض في الخرطوم حيث تنجلي هناك روعة المنظر الطبيعي الخلاب لأمواجهما وهي تتعانق وتختلط دون أن تمتزج ببعضها البعض ثم تغدو متراقصة في انسيابها إلى أن يبتلعها نهر النيل العظيم وتسري رويداً رويداً في خضم جوفه العميق، كان يتحدث كذلك بأسى مفرط وألم حاد عن فقدانه لوالديه وكم كان بوده أن يلقاهما هناك ويحتضنهما مرات ومرات، يحكي لهما بمرارة عن معاناته وعن اللواعج التي اكتنفته وعن فداحة شعوره الدائم بالوحدة والضياع، تمنى كذلك من سويداء فؤاده لو كان له أخوة من رحم أمه يستمد منهم وبهم بقاء النسل والسلالة، يحيطونه بعواطفهم وحنانهم ويغدق عليهم من بسط رزقه ووافر حظه مما يجعلهم يشمخون بانتمائه ويعتزون بقرابته إليهم.
    وفجأة وفي صباح يوم رمادي كثيف الضباب طلب مستر "طيب" مقابلتي على عجل وابدى في سياق حديثه على غير عهده ومنواله تبرماً وانزعاجاً وهو يتطرق لقرب وصول أعضاء مجلس إدارته إلى لندن واستعدادهم للتوجه منها كما هو مأمول إلى الخرطوم، وإن تلك الدعوات المرتقب وصولها لا زالت في طي الغيب ولا أثر لها من قريب أو بعيد واستطرد قائلاً بلهجة متكدرة "سأشعر لا محالة بالحرج والخزي إن هم قدموا إلى هنا قبل استلام هذه الدعوات، ولكي أتفادى كل ذلك التوجس والعنت وأظل أمامهم كعهدهم بي سيداً لقولي وكلمتي فقد قررت السفر فوراً إلى الخرطوم لأسوي الأمر هناك بنفسي وأعود وفي جعبتي تفويضات الدخول" حاولت جهدي أن أثنيه عن رأيه وأقنعه بالانتظار بضعة أيام، إلا أنه كان قد قطع البت تماماً في أمره ولم يكن هناك مفراً سوى أن أصف له بدقة وتفصيل كيفية الوصول إلى بيت صديقي والذي كان لا يبعد سوى بضعة أمتار من مطار الخرطوم.
    كانت الطائرة التي أقلت مستر "طيب" للسودان تحمل على متنها عند وصولها إلى لندن خطاباً من صديقي يعتذر فيه برقة عن تأخره في إرسال الدعوات ويوضح الأسباب التي أدت إلى تأنيه وتمهله الطويل وصاغ فيما صاغ من كلمات "أرجو أن تنقل تحياتي لمستر "طيب" وأن تخبره بفيض السرور الدافق الذي اجتاح الأهل والأقارب عندما علموا بأنه لا يزال على قيد الحياة وأنه يعيش الآن في لندن برفقة أسرته الكريمة ويهنأ في رغد وأنس ورفاهية، وأنهم في شوق شديد لرؤيته بينهم عما قريب، كما وأرجو كذلك أن تبين له بأن تأخري في بعث الدعوات له ولزملائه لم ينجم بسبب تماطل مني أو عدم اهتمام أو لا مبالاة ولكن لأسباب ملحة يلعب فيها توتر الوضع الأمني الحالي بالبلاد دوراً أساسياً، فنحن في هذه الأيام نجابه تحركات مضادة ونتوقع من جرائها حدوث بعض الاضطرابات وتفاقم حالات من الفوضى وعدم الاستقرار، فضلت كثيراً أن يكونوا هم في منأى ومعزل عن هذا الشغب وخارج نطاق اشتعال أواره ولكن وبمجرد استتباب الأمور ورجوع الحالة الأمنية إلى انتظامها وهدوئها سأبعث له فوراً بتأشيرات دخول استثنائية له ولرفاقه مع أمنياتي له بدوام التوفيق والسعادة.
    هبطت طائرة مستر "طيب" في مطار الخرطوم عند تباشير الصباح الباكر من يوم 2 يوليو 1976 حيث وجد سبيله ممهداً للوصول الى منزل صديقي الذي لم يكن ساعتها موجوداً بالمنزل، فاستلقى مكدوداً من شدة ما أصابه من تعب وإعياء وإرهاق من طول الرحلة وعنائها في سرير كان مطروحاً في الهواء الطلق تحت أشجار النيم الوارفة الظلال وأخذ يستنشق أريج العشب المبتل بالماء ورائحة أزهار الليمون الفائحة ويحدق بتراخ في كتل الطخا والسحاب المتكدسة في كبد السماء وينصت مستأنساً لشقشقة العصافير وتغريدها وهي تستبشر بزوغ صبح أغر إلى أن جثم عليه الكرى بثقله وراح في غفوة لم يستيقظ أبداً من سباتها، غفوة طاح خلالها إلى غياهب الموت والردى إذ داهمت منزل صديقي في تلك الهنيهات جماعة معارضة مسلحة ذبحته ذبح الشاة وتركته جثة هامدة بلا حراك ولم ينقضي على وصوله للبلاد سوى سويعات قليلة بعد رحلة غربة امتدت ويلاتها أجيالاً ولا زالت للتو كلمات زوجته ترن في مسمعي وهي تخاطبني بمرارة وجرأة قائلة "أنت واهم دون شك لو ساورتك ذرة اعتقاد بأنك سوف تنجح يوماً في نقل زوجي العزيز من سدانته لنا إلى زمرتكم تلك، وثق جيداً بأن المنبت سيظل دائماً أقوى تأثيراً وأعتى وقعاً من الانتماء، والانصهار الروحي في بوتقة حنان دافق تفوق وتتعدى وشائج القربى وصلات الأرحام، فدعه يا عزيزي يسترسل في مشواره الذي هيأته له الظروف بطواعية ورضى، فقد يرتبط تغيير المسار بمصاير وخيمة العواقب" وليتني قد انسقت مع رجائها وتركته في دعته مسترسلاً في مشواره بكامل الرضى والطواعية والامتنان.


    ملاحظة : تلك القصة الحقيقية بقلم عبد الله ود البيه .
    من هو عبد الله ود البيه ؟
    لنا حوله حديث لاحقا !!!
                  

08-05-2006, 03:38 PM

sari_alail
<asari_alail
تاريخ التسجيل: 10-19-2002
مجموع المشاركات: 1507

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مستر "طيب" ذاك الذي سقته الى حتفه ـ قصة حقيقية (Re: بدر الدين الأمير)

    الأستاذ بدر الدين الأمير ....
    الموضوع قراته قبل كم سنة كدا في سودانايل .................
    طيب النقطة التانية : عبد الله ود البيه ؟؟؟؟
    ياخ انا الزول دا قابلتو قبل كدا في مدينة العين - الامارات .... وكان لي شرف التعرف به ....

    معاك حفارين كبار يا مان ....
                  

08-05-2006, 07:31 PM

فرح
<aفرح
تاريخ التسجيل: 03-20-2004
مجموع المشاركات: 3033

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مستر "طيب" ذاك الذي سقته الى حتفه ـ قصة حقيقية (Re: sari_alail)
                  

08-05-2006, 08:41 PM

رأفت ميلاد
<aرأفت ميلاد
تاريخ التسجيل: 04-03-2006
مجموع المشاركات: 7655

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مستر "طيب" ذاك الذي سقته الى حتفه ـ قصة حقيقية (Re: فرح)

    الأخ بدر الدين الأمير
    تحياتى
    لقد قادنى هنا إبننا (فرح) كتر خيره قصه مؤثرة جدآ وصياغة سلسة وجميلة
    و أصدقك القول فى جفاف الحياة ومتاعبها فقدت الصبر للقراءة وفقدت طعم الإبداع
    ولكن هذه القصة أخزتنى معها بنهم طالما فقدته الى أيام مثل أيام (مستر طيب)
    وجعلتنى أعيش معه لحظة بلحظة . وتلك النهاية لها مغزى مفجع نعيشه فى اليوم ألف مرة .
    وماذا أقول بعد سوى شكرآ.
    شكرآ لك
    وشكرآ لفرح
    وشكرآ لزمن مضى
    رأفت ميلاد
                  

08-06-2006, 04:02 PM

بدر الدين الأمير
<aبدر الدين الأمير
تاريخ التسجيل: 09-28-2005
مجموع المشاركات: 22958

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مستر "طيب" ذاك الذي سقته الى حتفه ـ قصة حقيقية (Re: فرح)


    فرح انا فرحان بوجودك هنا

    وودلبيه يجسد عندى مقولة عرب الجزيرة (لاحكت لابقت)

    شكرا معززا بتقديرك
                  

08-06-2006, 03:57 PM

بدر الدين الأمير
<aبدر الدين الأمير
تاريخ التسجيل: 09-28-2005
مجموع المشاركات: 22958

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مستر "طيب" ذاك الذي سقته الى حتفه ـ قصة حقيقية (Re: sari_alail)

    شكرا سارينا

    وسوف امنحك الكثير المثير عن هذا الحفار

    صبرك يافردة
                  

08-06-2006, 04:32 PM

بدر الدين الأمير
<aبدر الدين الأمير
تاريخ التسجيل: 09-28-2005
مجموع المشاركات: 22958

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مستر "طيب" ذاك الذي سقته الى حتفه ـ قصة حقيقية (Re: بدر الدين الأمير)

    رأفت

    سوف اجزل القول عن من هو عبدالله ودالبيه واعود لاحقا للتفاصيل او التحليل

    ودالبيه رجل توفرت له الكل الظروف والاحداث والشخوص والنشأة والتكوين والتعليم

    والحياة العملية والرفقة ليكون فقط حكواتى من الطراظ الاميز - ولم يخيب ودالبيه

    تلك العناصر المكونه له أو المكونه لمن هو ودالبيه - وكل من نادم ودالبيه يكتشف

    حقيقة واحدة وهى أن فى ود البيه شىء منك - غلط - صاح - جميل - قبيح - شاطر - بليد- جبان

    شجاع كريم - بخيل - يجمع بين نعومة المدنية ومفردات القروى القح تفخر به -و تستحى منه -

    وقبل ذلك وبعده - رفيق صبا كمال سينا والهادى الضلالى - زميل دراسة دكتور الحبر يوسف

    نورالدائم وكابتن شيخ الدين - ذلك فى مرحلة الثانوى - فى الجامعة وفى اورباالشرقية - دكتور

    عوض دكام - فى العمل وفى مايو مامون عوض ابوزيد وشلته- وفى البدايات والطفولة - هاشم العطا

    ذلك هو ودالبيه أم هى ام درمان -
                  

08-06-2006, 06:21 PM

رأفت ميلاد
<aرأفت ميلاد
تاريخ التسجيل: 04-03-2006
مجموع المشاركات: 7655

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مستر "طيب" ذاك الذي سقته الى حتفه ـ قصة حقيقية (Re: بدر الدين الأمير)

    Quote: رفيق صبا كمال سينا والهادى الضلالى - زميل دراسة دكتور الحبر يوسف نورالدائم وكابتن شيخ الدين - ذلك فى مرحلة الثانوى - فى الجامعة وفى اورباالشرقية - دكتورعوض دكام - فى العمل وفى مايو مامون عوض ابوزيد وشلته- وفى البدايات والطفولة - هاشم العطا
    لا حوله... ومابعرف سيد سراج وأمين النقر وأحمد عبيد والدحيش؟
    واصل....
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de