كاتب ساخر من الدويم/ الطيب عبد الرحيم خلف الله

وصلني هذا النص من الأستاذ/ الطيب عبد الرحيم خلف الله ، عبر البريد الإلكتروني ووجدت فيه بغيتي كنموذج لنوع الكتابة، لا أسميه الآن وأدعو الجميع لمناقشته. أعجبتني فكرة النص ونشرتها دون إذن صاحبها.
النص:
حكاية في جباية دمغة الغريق

في المنزل:
دق مندوب شركة تحصيل فواتير (التلفونات) باب منزل جارنا (حاج الطاهر(
- ده منزل الطاهر فضل الله؟
- نعم
- نحنا فواتير التلفونات. ثم ناوله فاتورة التلفون.
أخرج حاج الطاهر نظارة القراءة من جيب جلابيته وبدأ يقرأ في تفاصيل الفاتورة.. محادثات عالمية.. محادثات محلية.. هاتف جوال.. ضريبة.. دمغة غريق
قال حاج الطاهر في استغراب وهو يضع سبابته أمام (دمغة غريق) مخاطباً المتحصل:
كدي أقرا ليا دي شنو، دمعة شنو؟
>- دي يا حاج ما دمعة.. دمغة.. بالغين مش بالعين . دمغة غريق.. ألف جنيه بس.
- مش في ألف جنيه بس .. هي ذاتا شنو؟
- والله يا أستاذ انحنا بنتحصل القروش بس. لو عندك أي أسئلة، أمشي (شركة
التلفونات. هناك يشرحوا ليك الموضوع.
في الشركة:
- عاوز أقابل الزول المسئول عن التحصيل
- شفت الممر داك.. أمشي عديل. تاني لف شمال تاني لف يمين أول مكتب يقابلك دا هو مكتب مدير التحصيل.
تابع حاج الطاهر الوصف؛ وجد نفسه ،وجهاً لوجه أمام مكتب مدير التحصيل.
- السلام عليكم
- وعليكم السلام
>والله في الحقيقة أنا بس عندي استفسار..
قال المدير،مبتسماً:
" ها تفضل"
- الحقيقة جاتني فاتورة التلفون وفيها ألف جنيه مكتوب قدامها دمغة غريق.. أول حاجة الشيء الأنحنا عارفنو أنو الدمغة دي (طابعة) بلصقوها لمن الزول يجي يقدم طلب. والحاجة التانية غريق شنو؟ وأنا مالي ومال المسألة دي؟. محادثاتي وبدفعها ليكم.. تاني ما عندكم معاي حاجة يعني انتو لازم تاكلو أموال الناس بالباطل؟
أعتدل المدير في جلسته ثم قال:
" يا أستاذ ما (تهيج) ساكت.. أول حاجة انحنا ما قاعدين ناكل مال زول بالباطل لأنو المسألة دي أجيزت من المجلس التشريعي للولاية.. وانتو النواب ديل انتخبتوهم.. يعني هم بمثلوكم.. يعني هم موافقين نيابة عنكم.. يعني بالعربي انتو موكلنهم.. وهم اصدروا القرار دا نحنا ما علينا إلا التنفيذ.. والحاجة التانية (الحكومة) ما شغالة بالتسميات شغالة بالجوهر . بالمضمون.. الدمغة دي يلصقوها.. يدبسوها.. ما مهم، المهم تندفع.. هسع لو المسائل تسميات كان تكون في حاجة اسمها المساهمة الإلزامية؟.
- أها وهسع حكاية (دمغة الغريق) دي شنو...؟
- والله أنا ما بقدر افتيك لكن لو عاوز تعرف أكثر . لحسن حظك ، منظمة الغريق ذاتا المبنى بتاعا أهو داك.. العمارة الصفراء ديك ممكن تمشي تأخذ منهم معلومات وتعرف الحاصل شنو.
في المنظمة:
مبنى المنظمة عبارة عن (فيلا) فخمة ذات سياج معدني أنيق معلقة عليه بعض اللوحات الإعلانية التي تحض المواطن على تقديم الدعم والمساعدة للمنظمة ؛ من أجل القيام بدورها الاجتماعي فتلك لوحة كتب عليها:
(أيها المواطن الكريم تبرع بكفن غريق تكسب ثواباً) وأخرى كتب عليها:
(من كفن غريقاً فكأنما أطعم عشرين مسكيناً) وثالثة تقول: (الغرقى إخوانكم فتبرعوا لهم)،
(الغرقان في ذمة العايش).
بعد أن قام (حاج الطاهر) بقراءة كل تلك اللوحات.. ومتع ناظريه بمشاهدة السيارات البيضاء الفارهة، موديل العام نفسه. كانت السيارات تتراصَّ في مكان معد لها ومسقوف. دخل إلى المبنى الجميل وطلب من موظف الاستقبال مقابلة المدير العام للمنظمة.
في مكتب المدير:
مكتب المدير العام .. مكتب فسيح ، مكيف مركزيا، تتدلى من حيطانه ستائر إيطالية بينما غطيت أرضيته بالسجاد الإيراني . به طقم جلوس أمريكي فاخر وقاعة اجتماعات أنيقة من الخشب المصقول اللامع .. أمامها مكتب نصف دائري. يجلس عليه السيد المدير، بوجه لامع تبدو عليه آثار النعمة و(الراحات) و(التكييف طويل المدى( ، كما حدث نفسه.
- السلام عليكم
- وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته .اتفضل. مشيراً إلى أحد كراسي الجلوس الوثيرة. وجلس (حاج الطاهر) ثم قال مخاطباً السيد المدير:
- والله في الحقيقة أنا جاتني في فاتورة التلفون دمغتكم دي وقلت أجي أقابلكم أعرف الحاصل شنو؟ وما مدى (مشروعية) دفع الدمغة دي.
- والله يا أخي نحنا (بنثمن) فيك الروح الطيبة دي وتجشمكم مشاق الحضور لي دارنا المتواضعة عشان تتعرف على ما تقوم به هذه المنظمة من عمل خيري، يهم المسلمين جميعاً. في الحقيقة المنظمة دي جات نتيجة لتزايد حالات الغرق.. كل يوم والثاني . يقولوا ليك ثلاثة أصحاب مشوا البحر غرقوا. ناس مشوا رحلة ما رجعوا.. وحافلة وقعت من الكوبري الركاب ما اتلقو.. وجثة طافية في النيل.. الناس ديل كلهم، الحكومة تجيب ليهم (غطاسين) من وين ؟؟؟ ونجيب ليهم (بكاسي) تشيل جثتهم من وين؟؟ .. ونجيب ليهم ثلاجات تحفظ جثثهم لحدت ما أهلهم يتعرفوا عليهم من وين ؟؟؟ .. الإجراءات .. حمل الجثمان للمشرحة .. وضعه في الثلاجة .. تشريحه .. تصويره وعمل إعلان في الجرائد عشان أهلو يتعرفوا عليهو .. وفي حالات عدم التعرف تكفينو ودفنو .. من وين ؟؟؟ وما تنسى مرات بيكون الزول الغرقان دا ذاتو مكتول. وفي الحالة دي نحنا في المنظمة بنتابع مع (الشرطة).
الصرف دا كلو الحكومة تصرفوا من وين؟ .. في ميزانية الدولة في بند زي دا ؟؟ ما لازم
منظمات المجتمع المدني مع المواطن يساهموا في المسألة دي .
انت هسع ذاتك ما ممكن بكرة تقع بيك عربية في النيل يجبيو ليك غطاسين من
وين ؟
باختصار نحنا مسؤولين من (الغريق) من لحظة دخولو الموية إلى لحظة
دخولو القبر.
- دا كلو كلام جميل لكن أنا ذنبي شنو؟
- ذنبك شنو كيف يا أستاذ.. مش أنت زول مسلم والبغرقوا ديل كلهم أخوانك في الإسلام؟
رد حاج الطاهر في استنكار: " لا .. البغرقو ديل كلهم (مواطنين) لكن ما كلهم مسلمين، وكلامك دا ضد (الدستور) واتفاقية ...
قاطعه المدير: " لا .. لا .. انحنا الناس الما مسلمين ديل عندنا ليهم (إدارة) براها في المنظمة اسمها (إدارة الناطقين بغيره) .. بالشهادة يعني.
- لكن هسع السودان كلو يدفع (للغريق) دا ؟ مسلم على غير مسلم .. يعني لو التلفونات دي فيها مليون مشترك وانتو قاعدين تاخدو ألف جنيه من كل واحد يبقى بتجمعو ليكم مليار جنيه في الشهر.. دا غير العاوز يطلع أو يجدد جواز أو بطاقة أو رخصة قيادة أو عاوز يطلع شهادة بحث دي كمان مليارات.. انتو بتودو القروش دي وين؟ أصلو القاعدين (يغرقو) ليكم في الشهر كم؟
تنفس المدير بصبر وصاح في حاج الطاهر:
- يعني أنت بس دي (بالذات) عاوز تعرف أنها ماشة وين انت هسع (الباقين) عارفهم
بمشو وين ؟." ولما لم يرد حاج الطاهر استطرد:
"..عندك هسع دمغة (الطريح ودمغة) ودمغة (الشليق) ودمغة (الحابل) ودمغة (النابل)
..ديل كلهم عارفهم بمشو وين؟ ..أكيد تكون يا أستاذ افتكرت أنو القروش دي كتيرة .. أول
حاجة يا أستاذ لازم تعرف أنو مسألة دي مكلفة .. لنشات وغطاسين وجازولين وخلافه ..
عندك مثلاً الراجل الوقع من كبري (الإنقاذ) وانتحر الأسبوع الفات عشان ما قدر يدفع مليون جنيه رسوم ولدو الدراسية .. دا نحن بس عشان نلقى الجثمان بتاعو ؛المسألة كلفتنا ثلاثة مليون ..
- طيب لو كان اديتو المليون ما كان انتحر.
- يا استاذ أنا بكرر ليك دي ما مسؤولينها .. دي مسؤولية ديوان الزكاة .. صندوق التكافل .. الرعاية الاجتماعية .. صندوق دعم الطلاب أي حاجة تانية .. لكن مسؤوليتنا نحن ، تبدأ من لحظة موت الغريق داخل الموية وحتى ندفنو.
طرح حاج الطاهر سؤاله في استنكار شديد، هذه المرة:
- يعني القروش دي كلها.. يعني كم مليار جنيه في الشهر كلها غطاسين ولنشات وجازولين؟ .. معقول بس.
- طبعاً لا يا أستاذ.. القروش البتفضل قاعدين نوظفها.. قاعدين نعاين للمستقبل.. هسع لما يجي يوم الناس دي كلها تغلبها المعايش تكابس البحر وتنتحر والله ما تلقى إلا المنظمة دي تسترها.. نحن - يا أستاذ - مستعدين للغرق (الجماعي) اللي را ح يحصل وعاملين حسابنا.. ومش كدا وبس نحن عملنا مشروعات استثمارية نوظف فيها القروش دي عشان تنمو وتعمل. رصيد كويس نقدر نجابه بيهو أي غريق.
- زي شنو؟
- طيب تعال اتفرج على الصور دي.وفتح السيد المدير البوماً كبيراً مليئاً بالصور الملونة. شفت دي.. الشايفها دي .. المباني أم أربعين طابق دي .. دي أبراج الغريق التجارية في قلب الخرطوم وبتنفذ فيها شركة (صينية) و ح نبيعها شقق ومكاتب.. (يقلب الصفحة) والبصات السفرية السياحية الفاخرة دي .. دي مية وخمسين بص أسسنا بيهم شركة سفريات الغريق، الخرطوم - مدني - بورتسودان - دنقلا.. ثم المدير الصفحة. شايف كل صيدليات (الغريق) الفي العاصمة دي بتاعتنا .. ولسع عندنا مشروعات كتيرة.. دا كلو يا أستاذ استثمار عشان الغريق.. يعني السودان دا كلو لو غرق، انحنا ممكن بي إمكاناتنا دي نحصلو ونشيلو ندفنو.. أها بعد دا في زول يقول نحنا قاعدين نهمل الغريق؟؟ . زول يقول إنو البلد ما فيها آليات لدرء الغرق.
- طيب انتو وكت القروش دي كتيرة كدا وعملتوها عمارات وشركات واستثمارها ما تفكرو تساعدو المواطنين (الغرقانين) في (الديون) والفقر والمرض ودا ذاتو يكون شيء وقائي عشان ما يمشوا ويغرقوا ليكم.
- والله يا أستاذ حسب النظام الأساسي لمنظمة الغريق نحن بنعني بمساعدة الغريق البحري والنيلي، وحتى البغرق في (ترعة).. لكن (البري) دا ما معانا.. دا مسؤولية (الرعاية الاجتماعية).. (مواصلاً) :
- شوف يا أستاذ نحن المواطن الغرقان دا همنا الأول والأخير ولازم يلقى عناية تليق بيهو مش هنا وبس حتى لو برة السودان.. نحن الأسبوع الجاي ح نفتتح مكاتب (جهاز شؤون الغرقانين بالخارج). عشان نكون مسؤولين من البغرق برة السودان كمان.
ابتسم حاج الطاهر في سخرية وقال:
- ودي طبعاً ح تكون دمغتها بالدولار والريال والاسترليني ولا شنو يا مــــولانا؟؟؟
- أكيد.. نحنا عملنا المنظمة دي عشان نحفظ للمواطن السوداني (الغريق) حقو في أنو يغرق غرقة لائقة.. يعني مش معقول يعيش (ممرمط) و(مشلهت) ولما تنسدا الأبواب في وشو ويقوم ينتحر ويغرق كما تاني يتبهدل.
خرج حاج الطاهر من المكتب ، يجرجر رجليه وهو يتمتم:
" وانتو ما (يتغرقو) مالكم؟؟ غواصات؟؟ الله لا كسبكم "