العودة الى سنار... دراسة تطبيقية على مستوي المضامين

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 09:51 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-19-2006, 07:27 AM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
العودة الى سنار... دراسة تطبيقية على مستوي المضامين

    الى الاخوان عبدالله كارلوس وسيف جبريل..

    رجعت في هذا البحث الى النسخة المنشورة سنة 1973
    حيث ان هناك اختلافات في القصيدة..
    هذه النسخة بها اخطاء طباعية. لان المصححة عطب الدسيكت المحفوطة فيه..
    ارحب بالتصويبات..


    دكتورة\ نجاة محمود احمد الامين

    في عودته تلك ولعلها عودة عبر الزمان. وهي عودة عبر رحلة بحرية، فهل أراد الشاعر أن ينفي إحساس الزمان والمكان الذي يحسه الإنسان في السفر البحري؟ حيث الزرقة على مدى البصر. ولكن يرجع هذا العائد وهو يعلم أنه سيجد أهله في انتظاره ولكن من هم أهله؟!
    إن أهله هم حراس اللغة ـ المملكة الزرقاء، حيث الخيل التي تحجل في دائرة الضوء، وترقص حيث يصل رنين أجراسها المعلقة بأعناق هذه الخيل. وهذه الخيول مكسوة بالحرير والإشارة واضحة إلى إسماعيل صاحب الربابة شاعر السلطنة الزرقاء حيث امرأة تفتح أبواب النهر لتدعو القائمين على أمر حفظ اللغة. وهم أصحاب المملكة الزرقاء وهؤلاء الحراس يمثلان مجموعتين: واحدة تلبس جلد الفهد (ولبس جلود الحيوانات الوحشية عادة إفريقية تدل على القوة والعظمة). والبعض
    الآخر يسطع في قمصان الماء، وهذا قد يأول إلى تأويلين واحد يرمز إلى ابن العربي، والثاني إلى الابتلال، ولقد شرح الشاعر هذا في شروحاته على الديوان، وأرجعها إلى درعيات أبي العلاء المعري. وعلى كلٍ ان هذه الرموز مجتمعة ترمز إلى ثنائية الثقافة السودانية الزنجية العربية.
    الليلة يستقبلني أهلي:
    خيلٌ تحجل في دائرة النار،
    وترقص في الأجراس وفي الديباج
    امرأة تفتح باب النهر تدعو
    من عتمات الجبل الصامت والأحراج
    حرّاس اللغة ـ المملكة الزرقاء
    ذلك يخطر في جلد الفهد،
    وهذا يسطع في قمصان الماء
    ثم يخبرنا أن أهله حتماً سيكونون في استقباله. حيث أرواح جدوده تخرج من فضة أحلام النهر، ومن ليل الأسماء. إن أرواح الجدود في الثقافة الإفريقية لا تذهب، ولكنها تبقى محلقة في سماء الأحياء وتأتي في الأطفال لتمنحهم الهدايا والرشد.* وهي لأنها أرواح هجينة بين الزنجية والعربية، فهي تتشكل وتتلون بين هاتين الثقافتين. فهي تارة تتحول إلى هواء يملأ رئة مداح (رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم)، وتارة أخرى تتحول إلى قوة لتضرب على الطبول عبر سواعد ضاربيها. والمداح هو أحد ظواهر الثقافة العربية، والطبال أحد ظواهر الثقافة الإفريقية التي اشتهرت بالطبول. وفي هذا المقطع تتبدى ثنائية الغابة والصحراء، الغابة متمثلة في كل ما هو زنجي، والصحراء متمثلة في كل ما هو عربي.
    الليلة يستقبلني أهلي:
    أرواح جدودي تخرج من
    فضة أحلام النهر، ومن
    ليل الأسماء
    تتقمص أجساد الأطفال
    تنفخ في رئة المداح
    وتضرب بالساعد
    عبر ذراع الطبال
    ومرة أخرى يعيد الشاعر عبارته الافتتاحية "الليلة يستقبلني أهلي". ولكن في هذه المرة قد قدموا له الهدايا، وهي عبارة عن مسبحة من أسنان الموتى، وإبريقاً جمجمة، ومصلاة من جلد الجاموس. وهذه الأشياء هي رموز تلمع بين الغابة والصحراء. يعج هذا المقطع بثنائيات متضادة. فأولاً مسبحة والمسبحة هي عبارة عن حبات خرز منضدودة بها ثلاثة وثلاثون حبة يسبح بها المسلم لله سبحانه وتعالى، أي ترمز إلى الثقافة العربية الإسلامية، ولكن هذه المسبحة مكونة من أسنان بشرية للموتى، وهذه عادة إفريقية إذ كان الفارس عندما يقتل أحد أعداء القبيلة يحتفظ بأسنانه كتذكار. وبهذا كون أن هذه المسبحة مكونة من أسنان الموتى فهما يرمزان إلى الثقافة العربية الزنجية. كما أعطوه أيضاً إبريقاً جمجمة. هذا الإبريق يمثل الثقافة العربية، حيث يحفظ فيه المسلم الماء للوضوء، ولكن هذا الإبريق ليس من حديد أو فخار، إنما هو عبارة عن جمجمة وأيضاً يحتفظ المقاتل الإفريقي برأس أعدائه ولكن هنا يستخدم كإبريق. وكذلك ترمز هذه الثنائيات الإبريق، الجمجمة، المسبحة، أسنان الموتى إلى الثقافتين العربية الإفريقية. وأهدوه مصلاة والمصلاة تفرش ليصلي عليها المسلم، وهي عادة تكون من خرقة قماش، أو نسيج ولكن هذه المصلاة من جلد الجاموس، وجلد الجاموس يرمز إلى الثقافة الإفريقية
    فالثنائية المصلاة، وجلد الجاموس تظهر لامعة بين النخل والأبنوس. النخلة ترمز للثقافة العربية والأبنوس يرمز للثقافة الإفريقية والشاعر في إطلاقهما هنا أطلق الجزء (الأبنوس والنخلة) وأراد الكل (الغابة والصحراء). وهي كذلك أيضاً لغة تطلع مثل الرمح وتبقى معلقة لتذكرنا بالجرح الذي خلفه فقدنا للغتنا الأولى.
    الليلة يستقبلني أهلي:
    أهدوني مسبحةً من أسنان الموتى
    إبريقاً جمجمة
    مصلاة من جلد الجاموس
    رمزاً يلمع بين النخلة والأبنوس
    لغة تطلع مثل الرمح
    من جسد الأرض
    وعبر سماء الجرح
    الليلة يستقبلني أهلي:
    وكانت الغابة والصحراء
    امرأة عاريةٌ تنام
    على سرير البرق في انتظار
    ثورها الإلهي الذي يزور في الظلام
    وكان أفق الوجه والقناع شكلاً واحداً
    يزهر في سلطنة البراءة
    وحمأ البداءة
    مرة أخرى يقول الشاعر اليوم يستقبلني أهلي، وهنا يرجع الشاعر إلى الماضي
    ليخبرنا عن الغابة والصحراء، وبدايات التكوين التي لا بدايات قبلها، حيث تلك المرأة العارية التي تنام على سرير البروق لعلها كناية عن الرغبة الجنسية، وهذه المرأة كانت في انتظار ذلك الثور المقدس* الذي لا يأتي للإخصاب إلا ليلاً في العتمة. لذلك هي لم تعرف أهو ذلك الثور الذي أتى أم رجل آخر لأن الوجه والقناع كانا شكلاً واحداً لا يمكن التمييز بينهما. ليحدث الإخصاب ويكون مملكة البراءة وهي ترمز إلى سنار وهي مملكة البدايات الأولى للسودان. ولعل الشاعر هنا يرمز إلى أن المرأة الزنجية هي الأصل والذي تغشاها هو ذلك العربي الذي لم تتبين ملامحه بسبب العتمة. وهي كانت في انتظار أن يحدث الإخصاب بهذه الصورة الطقسية** ولكن لأن الظلام كان حالكاً لم تميز القناع الرامز إلى الثقافة الإفريقية أو الوجه السافر الرامز إلى الثقافة العربية وبذلك حدث الإخصاب ليكون الغابة والصحراء.
    ومن ثم نجد في هذه المقاطع يستخدم الشاعر ضمير المفرد المتكلم وهو ضمير توحدي يدل على صوت الشاعر الذي يمثل صوت الجماعة التي ينتمي إليها. وفي هذه المقاطع نلاحظ الغنائية العالية ولكن أيضاً هناك حركة درامية تتجلى في الثنائيات الضدية، التي تجعل الموضوع يقوم على طرفي نقيض الغابة بكل ما فيها من زخم ثقافي في طرف، وفي الطرف الآخر الصحراء بكل زخمها الثقافي واستطاع الشاعر بواسطة "المنلوج" أن يخبرنا من هم أهله هؤلاء. أهله الذين تنازعهم ثقافتان. فهو قد وصف لنا أهله هؤلاء فهم يلبسون الجلود وقمصان الماء وتتقمصهم أرواح الجدود الهجينة لتتشكل في محورين هما الغابة والصحراء. الرمزان اللذان يشكلان وهما في حالة اندماج ثقافتنا وهويتنا في السودان. فمن نحن بغير هذه الثنائيات المتشابهة أو المتضادة؟ ونلاحظ على الرغم من ثقة الشاعر بنفسه، إلا أنه حائر ضائع بين التأكيد والتثبيت لماهيته وهويته. باحثٌ عن أهله القانعين بما يرون دون تساؤلات ولم يسعوا لتفسير تلك التناقضات، على العكس من الشاعر. الذي ذهب يبحث عن الحقيقة فاخترق حاجز الزمن، وتخطاه "فالشاعر يتخطى الزمن الفيزيائي، الذي تنمو فيه الأشياء وتموت، فإن هذا الزمن خارج على طاعة الشاعر، ويحل الشاعر نفسه محل الزمن فيصبح زمنه وهو المعرفة، وهو الوحي وكل شيء ينبع منه وعبر هذا الزمن الخاص يسيطر الشاعر على ثلاثية الماضي / الحاضر / المستقبل في صيرورة دائبة واتحاد كامل وانتظار ما لا يجيء".
    وعلى الرغم من أن هذا الزمن لا يزال في حكم المجهول وبعيد الحدوث، ليست هناك فروق دقيقة بين ما حدث وما لم يحدث في هذا العالم الساحري. ولكن الشاعر ليس محظوظاً مثل البسطامي* فهو لا يملك ذلك الهاتف فلذلك تخبط في رحلته للبحث عن الحقيقة. فهو برهة يتوقف في سنار وينظر إلى هذه التناقضات والثنائيات المتضادة، وتحيره أكثر على فرحته للعودة. إلا إنه لا يحس بالسعادة التي عرف تماماً أنها لن تأت إلا بعد أن يحدث له الكشف، الذي يجعله ينظر إلى هذا الكل المتناقض ويجد التفسير المقنع له. ولكن بدون الحقيقة، هو عبارة عن صوت ضائع، يبحث عن الكيفية التي تم بها هذا التكوين؟ ولماذا هذه الثنائيات والتساؤلات التي تعذبه وتقلق أمنه وسعادته؟! ولذلك نجده يقف هكذا بين المتحير والمتأكد بين الشاعر الذي يبحث عن هويته وأهله الذين يعرفون من هم، تعبيراً عن الذات وتعبيراً عن الآخر والأنا متداخلة بين الخاص والعام.
    ومن ثم فإن الماضي والحاضر يلتقيان ويتحدان، وقد استطاع الشاعر أن يحطم وحدة الزمن، للتعبير عن الحدث الماضي، والحدث المعاصر. فغدا الماضي الغريب زمانياً مألوفاً وكذلك الحال في وحدة المكان وخلق الجزء من الكل (رمز يلمع بين النخلة والأبنوس) ونرى كذلك أن في لحظة انعدام الرؤية أو المعرفة، تحول شكل القناع والوجه إلى شيء موحد لا ينفصل ولا ينفك. ولعل الشاعر هنا يعني هذا
    الهجين الخلاصي، الذي يسمى السوداني، فإن القناع الأسمر هذا، يكون الثقافة العربية الإفريقية (وكان أفق الوجه والقناع شكلاً واحداً). وهذا ذات الهجين الذي كون السلطنة الزرقاء. التي توقف عندها الشاعر في خياله وفي رحلته إلى الماضي، وإلى البدايات التي ما قبلها بدايات وإلى مرحلة التكوين التي ما قبلها تكوين ويزهر سلطنة البراءة ومن البداءة.
    وفي نشيد المدينة يصل الشاعر إلى محطته الأولى، وهي سنار حيث يخاطبها بلغة غنائية عالية وبأبيات مقفيات وموزونة. واصفها بأنها مدينة الأحلام، التي تعبر بها الفصول والمواسم حيث تبدو للوهلة الأولى، وكأنها مدينة أسطورية تهتز بنار الأرض وتلفظ لهيباً، وكأنها طائر أخضر الريش، وبها كل ما يشتهيه من (ثمر أحمر في صيفي، مرايا جسد ونجوم في سمائي).
    سأعود اليوم يا سنار، حيث الحلم ينمو تحت ماء الليل أشجاراً
    تعرَّي في خريفي وشتائي
    ثم تهتز بنار الأرض، ترفض لهيباً أخضر الريش لكي
    تنضج في ليل دمائي
    ثمراً أحمر في صيفي، مرايا جسدٍ أحلامه تصعد في
    الصمت نجوماً في سمائي
    "سأعود اليوم يا سنار" بتقريرية وتأكيد يؤكد لنا الشاعر أنه سيعود اليوم إلى سنار وهذه العودة هي عودة حالمة وادعة ومحبة "وتنم عودة المجد إلى سنار في هدوء ووداعة باكتشاف الذات وقدرتها الباهرة الباقية عبر التاريخ".
    وهناك في سنار، حيث الرمز يكون رفيعاً كالخيط الذي يأتي في لمعان أسود بين الذرى والسفح. ولا يكون هذا الرمز واضحاً إلا إذا كانت هناك خلفية
    مناقضة له في اللون، لتوضح هذا الخيط الأسود، كذلك الزنجي العربي. و الثمر الناضج والأصل القديم العريق. ثم يخاطبها بصورة مباشرة، مستخدماً فيها "أنت" أداة المخاطب المفرد الحاضر، وأنت كذلك جذوري وأصلي الذي يشبه الذهب، الذهب المجمر في صخرتي الزرقاء كناية على السلطنة الزرقاء. وكذلك بك النار التي
    طهرتني, لعل الشاعر يعني بها الحقيقة التي أعطته القدرة على أن يجرأ على الحب العظيم وينظر إلى الحقيقة بحيدة وموضوعية.
    سأعود اليوم، يا سنار، حيث الرمز خيطٌ،
    من بريق أسود، بين الذرى والسفح،
    والغابة والصحراء، والثمر الناضج والجذر القديم.
    لغتي أنت.
    وعرق الذهب المبرق في صخرتي الزرقاء،
    والنار التي فيها تجاسرت على الحب العظيم
    وينتقل الشاعر هنا إلى المواجهة مع أهله حيث يطلب من الحراس أن يفتحوا له أبواب المدينة، ويعيد الشاعر هذا الطلب عدة مرات برجاء ومسكنة ومحبة، وهنا يبدو حوار درامي حيث تتداخل الأنا المزهوة بالانتماء والأنت المشبعة بالمعرفة. حيث يسأله الحراس هل أنت من البدو؟ فيرد لا. هل أنت من الزنج؟ فيرد لا.
    ولكن يخبرهم أنا منكم ضائعاً رجع إليكم يغني بلسان ويصلي بلسان. ولعله هنا يرمز للغة الأولى اللغة الزنجية التي يتغنى به، ويعبر عما يجيش في دواخله بها، ولكن عندما يصلي يصلي باللغة العربية التي هي اللغة الجديدة المكتسبة، التي بمرور الزمن حلت محل لغته الأولى، التي ما زالت رنتها في داخله تخلق له هذه الثنائية. فأنا يا أهلي عدت من رحلة في بحار بعيدة وهي ممتدة لا تعرف الموانئ، ولعله يعني سفراً لا نهاية له في البحث عن الحقيقة. وكنت في رحلاتي هذه كافراً وناكراً لهويتي جاهلاً بها. وفي غيبوبتي تلك أتحدث بلسان
    مستعار ليس متأصلاً فيّ، وحتى رؤيتي للأشياء ليست رؤى أصيلة نابعة عن معرفة سابقة. فأنا في بحثي الدائب عن هذه الحقيقة المتمثلة في ساحرة البحر الغريبة، ولعل هذا يرمز إلى الخرافة في حياتنا وكأن عندما يجدها سيجد الإجابات التي يبحث عنها وهو في رحلته هذه مسلم قياده للريح تأخذه أنى شاءت، مسافرٌ عبر الأهوال، متحملٌ العناء، والنصب، والأهوال، في سعيه الحثيث للحقيقة ومعرفة الأسرار التي تغلف حياته، ولا تفسير لها. وأنا في بحثي أحلم بأرض خلقت خصيصاً للغرباء والغربة قد تكون غربة عن المعرفة، تذوب الأرض وتختفي في النهار، وتولد من جديد في المساء. وهنا عكس لظاهرة النهار والليل، من المعروف أن الليل هو الذي يخفي والنهار يكشف ولكن الشاعر يريدنا أن نحس بأسطورية رحلته هذه. أي لا مستقبل، ولا حاضر، ولا ماضي. لعل الشاعر يرمز هنا إلى بلد فيها المستحيل. إذن هي مدينة الخرافة والأساطير واللامعقول. إنه يبحث في هذا المكان العبثي عن الحقيقة وعن هويته. وعلى ما يبدو فإن مسألة الهوية هذه مسألة مستعصية لا يمكن أن تحل إلا في عالم تختل فيه الحقائق وقوانينها فليس هناك أفضل من عوالم الأسطورة في ذلك.
    أنا منكم. تائه عاد يغني بلسانٍ
    ويصلي بلسان
    من بحار نائيات
    لم تنر في صمتها الأخضر أحلام المواني
    كافراً تهت سنيناً وسنينا
    مستعيراً لي لساناً وعيوناً
    باحثاً بين قصور الماء عن ساحرة الماء الغريبة
    مذعناً للريح في تجويف جمجمة البحر الرهيبة
    حالماً فيه بأرض جعلت للغرباء
    ـ تتلاشى تحت ضوء الشمس كي تولد من نار المساء ـ
    ببنات البحر ضاجعن إله البحر في الرغو ..
    (إلى آخره مما يغني الشعراء!)
    ثم ينتقل ليخبرهم عن الصعوبات والأهوال التي ركبها فتبدو رحلته مثل رحلة "السندباد"* مليئة بالمخاطر والأهوال في عوالم غريبة وعجائبية، رأى فيها الغرائب ومطراً أسودَ، وسماءً من نحاس وغماماً أحمراً، وشجراً أبيضاً. وكذلك سمع عن غرائب، وأشياء لا يصدقها العقل ولا تستوي والمنطق، الذي عرفه قبل رحلته الغريبة في البحث عن الحقيقة، فهو قد سمع ضحكات الهيكل العظمى في صفحة الماء "ضحكات الهيكل العظمى، واللحم المذاب وشهد في رحلة الأهوال هذه من الغرائب ما حيره وأخافه وشهد كيف تنقض الأفاعي المرعدة حينما تقذف الأمواج جثة خضراء في رمل تلظى من الظلام. فهذه الأشياء التي سمعها وشاهدها ورآها لا تستوي مع عالم الشهادة فهو يتساءل يا صاحبي ماذا ترى؟ هل رأيت أرض ديك الجن أم قيس وهي الجزيرة العربية أم أرض أوديب ولير أم متاهات عطيل؟ كل هذه الأسماء ترمز إلى الثقافة الغربية أم رأيت أرض سنغور؟ وهنا يرمز إلى الثقافة الإفريقية.
    ثم لما كوكب الرعب أضاء
    ارتميت
    ورأيت ما رأيت:
    مطراً أسود ينثوه سماءٌ من نحاس وغمامٌ أحمر
    شجراً أبيض ـ تفاحاً وتوتاً ـ يثمر
    حيث لا أرض ولا سقيا سوى ما رقرق الحامض من رغو الغمام.
    وسمعت ما سمعت:
    ضحكات الهيكل العظميِّ؛ واللحم المذاب
    فوق فسفور العباب
    يتلوى وهو يهتز بغصات الكلام.
    وشاهدت ما شهدت:
    كيف تنقض الأفاعي المرعدة
    حينما تقذف أمواج الدخان المزبدة
    جثة خضراء في رمل تلظى في الظلام.
    صاحبي قل! ما ترى بين شعاب الأرخبيل
    أرض "ديك الجن" أم "قيس" القتيل؟
    أرض "أوديب" و"لير" أم متاهات "عطيل"؟
    أرض "سنغور" عليها من نحاس البحر صهدٌ لا يسيل؟
    فكل الأسرار التي يراها هي أسرار مغلقة، لا إجابات لها، وهذه الغرائب تفرض تساؤلات قد تبدو مثل أسئلة الأطفال، المليئة بالتشوق إلى المعرفة، والتي دائماً ما تنتهي بأسئلة جديدة، وبذلك يكون طلب المعرفة غير متناهي. وعندما عجز الشاعر عن معرفة كنه الحقائق في هذا العالم الغريب الذي يغيبه. أجهش بالبكاء، وتمنى لو أن له طائراً يحمله إلى بلاده، تلك حيث أنه يعرف وعورة الدرب، وصعوبة الرحلة، وأنه سيواجه الأهوال وهناك حيث تلك اللغة المألوفة والحقائق المعروفة. وفوق هذا وذاك هذا الحب الساطع والطمأنينة. ولكن عندما اتسعت الرقعة وكثرت الأهوال، وكذلك الأشياء الشاذة غير المألوفة قال الشاعر: خفت ودخلني الشك، وسألت هل يا ترى ستكتب لي العودة بعد أن أعرف الحقيقة والإجابات على هذه الأسرار المغلقة؟ هل أرجع وأنا أحمل هذا الحلم (الحقيقة) في أطراف ذاكرتي الأولى تلك الذاكرة التي ما قبلها ذاكرة. حاملاً أحلام قبيلتي لأعيش بين موتاي لعله يعني تأريخه وأحاديث وأساطير الطفولة، وهنا لعله يبين أنه بعد أن تحدث له المعرفة، وتنتفي تجربته الأولى، وهي في مقام الغربة عن المعرفة، فهو هل يا ترى تتحول غربته من غربة مكانية إلى غربة معرفية.
    أم بخار البحر قد هيأ في البحر لنا
    مدناً طيفية؟ رؤيا جمالٍ مستحيل؟
    أم صباحاً أم أصيل؟
    أم كهوف القاع ترتج ظلالاً ورسوماً
    حينما حرّك وحش البحر فخذيه: أيصحو
    من نعاس صدفي؟ أم يمجّ النار والماء الحميما؟
    وبكيت ما بكيت:
    من يا ترى يمنحني
    طائراً يحملني
    لمغاني وطني
    عبر شمس الملح والريح العقيم
    لغة تسطع بالحب القديم.
    ثم لما امتلأ البحر بأسماك السماء
    واستفاق الجرس النائم في إشراقة الماء
    سألت:
    هل يا ترى أرجع. يوما
    لابساً صحوي حلما
    حاملاً حلمي هماًّ
    في دجى الذاكرة الأولى وأحلام القبيلة
    بين موتاي وأشكال أساطير الطفولة
    أنا منكم. جرحكم جرحي
    وقوسي قوسكم.
    وثني مجد الأرض وصوفي ضريرٌ
    مجد الرؤيا ونيران الإله
    فافتحوا،
    حراس سنار،
    افتحوا باب الدم الأول
    كي تستقبل اللغة الأولى دماه
    حيث بللور الحضور
    لهب أزرق
    في عين
    المياه
    حيث آلاف الطيور
    نبعت من جسد النار.
    وغنت
    في سماوات الجباه
    فهو هنا يصرخ فيهم قائلاً: إني أنتمي لكم وجرحي جرحكم، وقوسي هو قوسكم. ولعله يعني أنه تضمه معهم وحدة الآمال والآلام. فأنا يا حراس سنار ترشح في داخلي هذه الأشياء التي لا أعرف تفسيراً لها، فأنا في داخلي وثني مجد الأرض، والرمز هنا للثقافة الإفريقية التي يقسم فيها الناس على الأرض ومع أنني هذا الوثني، ولكنني أيضاً هذا الصوفي الضرير الذي يمجد الرؤيا ونيران الإله
    وهنا يرمز إلى الثقافة العربية الإسلامية. ويقول إنني مزيج من هاتين الثقافتين فافتحوا الباب.
    ثم يدخل إلى المدينة وهو مرهق ومتعب وحافٍ "حافياً مستخفياً في لغة مهترئة". من رحلة الأهوال تلك. في اللحظة ينام وهذه النومة هي نومة الرجوع، من غير المألوف إلى المألوف. ومن غير المعروف إلى المعروف، وتصبح سنار هي المكان الشعري الذي تتوحد فيه الذات مع عناصر الطبيعة وكائنات الكون، وتتولد فيها علاقات الألفة.
    ودخلت
    حافياً، مستخفياً في لغة مهترئة
    من بقايا عشب البحر، ومن طعم مسامير السفين الصدئة
    ونمت
    مثلما ينام في الحصى المبلول طفل الماء
    والطير في أعشاشه
    والسمك الصغير في أنهاره
    وفي غصونها الثمار
    والنجوم في مشيمة
    السماء
    وعندما يحضر الليل، يشاهد الشاعر الرعود والبروق وأيضاً هذه الغرائب، ويتحول عالمه إلى رؤى خيالية مليئة بـ"الفنتازيا" والخروج عن المألوف فتتحول روحه إلى طائر أبيض، يلف ويدور حول سماء مدينته الغريبة. ثم كذلك يجد نفسه يقترب من عوالم غير مألوفة محشودة بالغرائب، ومنها السمندل ذلك الطائر الخرافي، يطير في قميصه المصنوع من الشرر، وهناك في الليل حيث تنضج الخمرة
    قبل أن تستخرج من الكروم وكذلك قبل أن تختم في آنية الفخار وفي هذا مبالغة حيث تتحرر الأشياء من ربقة الزمان وتبدو خرافية وغير متتالية على حسب الزمان.
    تعوم روحي
    طائراً أبيض
    فوق مائها
    ويطبق الليل الذي
    يفتح
    في الجمجمة البيضاء
    خرافة تعود،
    وهلةً ووهلة،
    إلى نطفتها الأشياء
    فيها؛ وينضج اللهيب
    في عظام شمسها
    الفائرة الزرقاء
    ويعبر السمندلُ الأحلامَ
    في قميصه
    المصنوع من شرار
    في الليل، حيث البدايات التي ما قبلها بدايات في بدء الخليقة. وكذلك ان الليل يكشف لنا عن الصورة الأولى، حيث ينمو فيه الصمت ثم يرجع هذا النشيد القديم وهذا النشيد قبل أن يحمل اسماً أو يُعطى اسماً، أي منذ البدايات الأولى في لحظة التكوين حيث تظهر الكينونة الأولى قبل أن يشملها التغير، هناك في ذلك الزمن الموغل في البعد قبل أن يأخذ هذا الشكل الجديد، وقبل أن تتملكه الحيرة.
    في الليل تطفو الصورة الأولى
    وتنمو في مياه الصمت
    حيث يرجع النشيد
    لشكله القديم
    قبل أن يسمِّي أو يسمَّى،
    في تجلي الذات، قبل أن يكون غير ما يكون
    قبل أن تجوِّف الحروف
    شكله الجديد
    هل هي دعوة إلى السفر؟ والسفر هنا هو الرحيل من أجل المعرفة أو هي دعوة إلى المكوث والاستقرار في مقام واحد؟ إذ أن الأصل في الشجرة البقاء في مكان واحد ومستقر. فهل يا ترى هذه دعوة إلى الترحال؟ أم دعوة إلى الاستقرار؟ وفي هذا المقطع تتجلى عبقرية الشاعر في نفي المكان والزمان، حيث تتبدى في هذا المقطع أيضاً هذه الكونيات التي اشتهر بها الشاعر.
    رائحة البحر التي تحملها الرياح
    في آخر الليل؛ طيور أفرخت
    في الشفق البنفسجي بين آخر النجوم والصباح
    أنصت هنيهةً!
    تسمع في الحلم حفيف الريش حين يضرب الجناح
    عبر سماوات الغياب
    هل دعوة إلى السفر؟
    أم عودة إلى الشجر؟
    أم صوت بشري غامض يزحف مثل العنكب الصغير فوق خشبات الباب
    يبعثه من آخر الضمير مرة عواء آخر الذئاب
    في طرف الصحراء؛ مرة رنين معدن في الصمت؛
    أو خشخشة الشجر، يلتفّ حول جسد القمر.
    ومرة تبعثه صوت الأجراس حين ترقص الأسماء في دوائر النجوم في النهر
    وهل هذه الأصوات صوت باب يدخلني إلى عالم الأحلام وهذا الحلم كان في آخر الليل وقبل الصبح وهو موعد رؤية كما قال ابن عربي "النوم الذي لا يعطي بشري لا يعول عليه". حيث ذلك الملاك الساهر في حراسة مملكة البراءة. ليأخذه في رحلة استكشاف الذات، ليرى تأريخه، ولكنه عاجز أن يرى وحده ولذلك يحتاج لهذا الوسيط ليكون عينيه ولينقله إلى عالم الأحلام والرؤى حيث "تجاوز حدودها وتختلط في نفس الوقت وتعيد تنظيم ذاتها، وإن ما فيها من الأمور المطلقة والمتضادة كمياً (بإيجاز، الاستقطابات الزائفة) تتضاءل وتفقد كل دلالتها، ويتوحد النظام بعدم النظام، والاستمرار بعدم الاستمرار، والمحتوم بغير المحتوم، ويصبح هذا التوحد إرضاءنا الأعظم".
    "فالشاعر هنا يتخطى الزمن الفيزيائي، الذي تنمو فيه الأشياء وتموت، فإن هذا الزمن خارج على طاعة الشاعر، ويحل الشاعر نفسه محل الزمن فيصبح زمنه هو المعرفة وهو الوحي والنبي كل شيء ينبع منه وعبر هذا الزمن الخاص يسيطر الشاعر على ثالوث الماضي / الحاضر / المستقبل في صيرورة دائبة واتحاد كامل وانتظار ما لا يجيء". والجدير بالذكر أن هذا الزمن لا يزال مجهولاً بعيد الحدوث فعليه ليس هناك فروق حقيقية بين ما حدث وما لم يحدث في هذا العالم الحلمي.
    ويأتي المكان فهو مكان داخلي تخترقه حركة الخيال رأسياً وبالصعود إلى برج التحول، وثم بالهبوط إلى الأعماق، وهذه الحركة الرأسية تتخطى في حركة أفقية
    مصاحبة عناصر كونية. من ثم إن رحلته مع الملك هذه "بمثابة رحلة الإسراء والمعراج. ولكن تختلف حيث قارب الشاعر بين حركة العالي المعراج ـ الذي بدأ به قبل الإسراء، في حركة عكسية لتلاقي حركة الصعود والهبوط، وهي تخلق هذا الحلم الشعري". فبهذا المعراج دخل الشاعر في زمن آخر وهو الماضي، حيث تجول فيه، بحفظ المكان وهو السودان ليعرج به الملاك في رحلة الاستكشاف ليرى ذاته وهويته، وكانت حاجته عالية لهذا الوسيط. حيث يرى من خلاله أصله التليد القيم مثل الذهب وهو هنا يتحول إلى نطفة في مرحلة التكوين، ليحتمي ويرى صور القبيلة الأولى، تلك الصور البعيدة التي أخفيت بسبب تراكم الزمن، وفي ثورة الذاكرة الأولى في ذلك الزمن حيث صفاء الذهن والنقاء حيث البدايات التي ما قبلها بدايات.
    أم صوت باب حلمٍ يفتحه
    في آخر الليل وقبل الصبح
    المَلَكْ الساهر في مملكة البراءة
    وحمأ البداءه
    تحت سماء الجرح
    يمدّ لي يديه
    يقودني عبر رؤى عينيه
    عبر مرايا ليلك الحميمة
    للذهب الكامن في صخورك القديمة
    فأحتمي كالنطفة الأولى
    بالصور الأولى التي تضيء
    في الذاكرة الأولى
    وفي سكون ذهنك النقيّ
    حلم أبصر؟ أهذا حلم؟ أهذا وهم؟ أم هذه حقائق تتضح فيها الرؤى والخيال وحقيقة الأشياء. في منتصف الصحراء تزيح الرمل، لنرى ذلك النقش الأسود، ثم أرى مَلَكاً غامضاً ولكنه واضح يعني واضح وغامض في ذات الوقت، وهذا في عالم الشهادة مستحيل. ويرى ذلك الرمز البارز في رمال الصحراء، حيث بعد الرؤية، يسمع صوت تلك المرأة التي تفتح باباً في جبل صامت، وتأتي بقناديل العاج (كناية للثقافة الزنجية) في درجات المعبد والمذبح تنام ثم ينام الحراس أيضاً. وهناك يحدث الإخصاب وميلاد وهذا الميلاد حين يتم يتم بين الحرحر والأجراس كناية للشيخ إسماعيل صاحب الربابة أحد شيوخ سنار وهذا الجسد ينضج بين ذراعي شيخ هذا الشيخ يعرف خمر اللَّه والناس وكذلك نرى استحالة جمع هذين الخمرين إلا أن في منطق الأحلام لا يوجد مستحيل "لأن الحلم كثيراً ما يكون صورة جلية عن النفس، وهو طريق يؤدي إلى أغوارها المجهولة وبه ندرك سر تخطي ذواتنا وتمثل وجودنا نقطة صغيرة في بحر بعيد لا نهاية له". ولكن أيضاً كثيراً ما لا تستقيم فيه الأشياء والواقع ويرى اللغة الأولى في هذه التماثيل ويذهب هناك بعيداً عند الحدود الأولى للذاكرة إلى البدايات التي ما قبلها بدايات. ثم يتساءل أهذا صوتي يا ترى؟ يبدأ في التكوين من النطفة الأولى إلى طفل لكي يولد في عتبات اللغة الزرقاء وهنا يرمز إلى السلطنة الزرقاء. وهنا يتمكن الجوال من معرفة كنه الحقيقة وهويته فهو تنقل عبر الأزمان ورأى مروي وتحققت له برؤيتها معرفة أشياء كان لا يعرف تفسير لها في هويته ثم أخذه الملك ليرى سنار وبذلك يكون تجاوز مروي ليرى سنار وفجأة حدث له الكشف وانتفت الأضداد في داخله حيث حدث اندماج كامل وتوحد بين الأضداد وتم له الكشف بمعرفة أصول هذه الثنائيات المتضادة وهما مروي الرامزة إلى الأصل الزنجي وسنار الرامزة إلى الأصل العربي الإسلامي ومعاً يكونان الثقافة السودانية بثنائياتها المتضادة والتي هي مصدر ثراء وليست عيباً في هذه الثقافة. وعند حدوث الكشف انتفى الزمان والمكان وعرف من هو
    وما هي هويته وبعدها تحول جسده إلى هذا الوطن الممتد، بكل تناقضاته وأوصافه "تمرح الأفيال، تسترخي التماسيح، والطيور تهب مثل غمامه" لاحظ انتفاء العالم الأسطوري وتحوله إلى واقع، حيث يحدث التوحد تبدأ الأشياء الحاضرة، وكأنها صوت الشاعر وصوت موتاه في الماضي، وبذلك يحدث التوحد بين الحاضر والماضي، وفجأة بعد أن لم يكن له ماض وبالتالي لا حاضر يدرك الجوال أنه له الآن ماض تليد ناصع وحاضر مزهر فهل يا ترى هذا حلم؟ فتحقيق ذاته وهويته مقرون بتلك المعرفة العميقة لذاته. "أنا ماذا أكون بغير هذا الصوت" برحلة المعراج والإسراء هذه تم له الكشف الكامل وعرف من هو حيث وجد كل الإجابات التي يرومها لتساؤلات جعلته في مقام الغربة لزمن طويل، ولكنه الآن وصل إلى مقام المعرفة وعرف ذاته وصفاته.
    وتجيء أشباح مقنعة لترقص حرة، زمناً
    على جسدي الذي يمتد أحراشاً، سهوباً: تمرح الأفيال،
    تسترخي التماسيح، الطيور تهب مثل غمامةٍ؛ والنحل مروحة
    يغني وهو يعسل في تجاويف الجبال، وتستدير مدينة زرقاء
    في جسدي، ويبدأ صوتها، صوتي، يجسد صوت موتاي الطليق
    حلم؟ رؤىً وهمية؟ حقٌّ؟
    أنا ماذا أكون بغير هذا الصوت، هذا الرمز،
    يخلقني وأخلقه على وجه المدينة تحت شمس الليل
    والحب العميق
    وحينما يجنح آخر النجوم للأفول
    ويرجع الموتى إلى المخابئ القديمة
    كيما ينامون وراء حائط النهار
    أنام في انتظار
    آلهة الشمس وقد أترع قلبي الحب والقبول.
    وحينما يأتي الصباح ويرجع هؤلاء الموتى الذين يجوبون الآفاق إلى أماكنهم القديمة ليناموا في النهار ففي هذه الليلة أنام وأنا أنتظر شروق الشمس بفارغ الصبر فقلبي مليء بالقبول والحب أي أن هذا الكشف أزال عنه الهم والقلق والآن هو يقبل هذا التكوين العربي الزنجي ويتصالح معه، وهذا يحسسه بالفخر بنفسه ويوقف التمزق القديم، فهو الآن في دار المعرفة.
    وعندما يطل الصبح وهذا أول صبح بعد أن تحققت المعرفة وانتفت الغربة فامتلأ الشاعر بالقبول وتشبع به، حيث تطل الشمس في أفق القبول وهي بمثابة اللغة وتصبح مصباح المعرفة وكأنها البللور في الليالي المقمرة، وكذلك هي شيء من إيحاء ورمز مستحيل.
    مرحى! تطل الشمس هذا الصبح من أفق القبول
    لغة على جسد المياه،
    ووهج مصباحٍ من البللور في ليل الجذور،
    وبعض إيماءٍ ورمزٍ مستحيل
    ففي الصباح يخاطب الشاعر سنار بلغة جميلة يبثها حبه وقبوله، ويرى أنها هي مرحلة التكوين لهذا الإنسان الخلاصي فهو يحب أيامه فيها، ويقدرها بما فيها من غث وثمين وكذلك يحب فيها رعبه الذي تمتلئ به شرايينه ولكن من الفرح العميق لأنه يعلن قبوله لكل كينونته في سنار سواء إن كانت وحل أم لهب فيخاطب سنار قائلاً: أنا أحب صحراءك وأحنو عليها وأحس بالعطف على الرمال والجفاف وفي ذات الوقت أحنو على موسم النماء والأمطار وهنا قد تكون هناك مقابلة بين الغابة والصحراء حيث الجفاف والرمال هي الصحراء والمطر والنماء هي الغابة والمقابلات
    الضدية هنا تعني القبول التام لها.
    ثم يدعو الشاعر شمس الحقيقة والقبول أن تملأ قلبه بالمعرفة وأن تنظف وتنقي دواخله من كل ما لحق بها من غبار عدم المعرفة وكذلك يدعوها قائلاً: نظفي ونقي لغتي وغنائي ووحدي بينهما حتى أصير هذا الكل الواحد.
    اليوم يا سنار أقبل فيك أيامي بما فيها من العشب الطفيلي
    الذي يهتز تحت غصون أشجار البريق.
    اليوم أقبل فيك أيامي بما فيها من الرعب المخمَّر في شراييني
    وما فيها من الفرح العميق.
    اليوم أقبل فيك كل الوحل واللهب المقدس في دمائك، في دمائي.
    أحنو على الرمل اليبيس كما حنوتُ على مواسمك الغنية بالتدفق والنماء.
    وأقول: يا شمس القبول توهجي في القلب
    صفِّيني، وصفِّي من غبار داكنٍ
    لغتي، غنائي
    وسنار تسافر في النقاء والصحو وهي مثل الجرح الأزرق لكنها عبارة عن رموز للجبل وللاله ولطائر ولفهد ولحصان وأيضاً لرمح ولكتاب وهنا يحدث تجانس بين الأضداد الرامزة للثقافة الزنجية والثقافة العربية ولكنهما معاً يكونان هذه الثقافة القوية التي تحمل أنقى ما في الاثنين.
    سنار تسفر
    في نقاء الصحو
    جرحاً أزرقاً
    جبلاً .. إلهاً .. طائراً
    حصاناً .. فهداً
    أبيضاً
    رمحاً
    كتاب
    حيث رجعت الطيور البحرية من الفجر بعد السفر والغياب والبحر الآن يحلم وحد أحلامه الخضراء التي لا تنتهي فالبحر في دواخلنا هو شيء أخضر ويمثل حلماً كبيراً ولكن هذا البحر دائماً في انتظار ظهور اليابسة وكأن السفر هنا يمثل السفر من أجل المعرفة واليابسة هي الوصول إلى تلك المعرفة.
    رجعت طيور البحر فجراً من مسافات الغياب.
    البحر يحلم وحده أحلامه الخضراء في فوضى العباب.
    البحر؟ إن البحر فينا خضرة،
    حلم، هيولي،
    في انتظار طلوعها الأبدي في لغة التراب.
    ثم يتحول صوت الشاعر هنا إلى صوت هادئ واثق ويختفي الشاعر ويصعد حيث يراقب من مكان علوي مدينته ويرى الأشجار والقوارب فوق النهر والمزارعين في الوادي والأعراس والمآتم في ضفاف النهر والأطفال يمرحون في الساحات وهناك تحت الأشجار تكون الأرواح في وقت الظهيرة حيث يبدأ الحديث برنة اللغة القديمة تلك اللغة المفقودة. والتي لم يبق منها إلا رنتها والشمس تسبح في نقاء حضورها، وعلى غصون الأشجار عائلة الطيور ولمعة شعرية للريح والأشياء تبحر في قداستها، وتموج وتتحرك في هدوء وسكينة ودعة فلا يوجد ما يعكر هذا الصفاء فكل شيء في مكانه المناسب والتناغم يتمثل في معزوفة الأرض العظيمة، فبعد حدوث الكشف رجعت الحياة وصارت مألوفة ومتناغمة لا نشاز ولعل الشاعر يرمز إلى ان معرفتنا لتأريخنا وأصولنا واعتزازنا بها وبأصلنا الهجين سيخلق هذه الدعة والسكون والمحبة فلا حروب ولا شقاق
    حيث يحل السلام والأمن.
    وبالنظر إلى كل الأناشيد نرى الأسى والحزن والحيرة تملأ النشيد الأول والثاني والثالث والرابع ولكن النشيد الخامس مليء بالفرحة والأمل وكأن الأناشيد السابقة التي كان يصف فيها الشاعر آلامه والأهوال التي عبر بها عن الأسى واليأس في بحثه عن الحقيقة وعذاباته كلها انطفأت وتحولت إلى دعة وأمل وحب بعد أن عرف الحقيقة أي أن معرفته للحقيقة أطلقته حراً ونقلته من مقام الحزن والرعب والألم والشقاء إلى مقام الفرح والأمن والسعادة.
    ونخلص إلى أن غالبية النقاد في السودان كانوا قد أعدوا هذه القصيدة هي خطاب الهوية السودانية حيث أبرز الشاعر هذه الثنائيات المتضادة في مكون السوداني (مسبحة من أسنان الموتى ـ إبريق جمجمة ـ تمثال من العاج ـ زهرة الثالوث ... الخ الخ) وهذه الثنائيات المتضادة لا تعني أن هناك صراعاً بين الهوية الزنجية والعربية ولكنهما معاً يكونان ثراء لهذه الثقافة. فالجدلية دائماً تؤدي إلى شيء جديد ومتطور.
                  

العنوان الكاتب Date
العودة الى سنار... دراسة تطبيقية على مستوي المضامين bayan05-19-06, 07:27 AM
  Re: العودة الى سنار... دراسة تطبيقية على مستوي المضامين bayan05-19-06, 07:31 AM
    Re: العودة الى سنار... دراسة تطبيقية على مستوي المضامين عشة بت فاطنة05-20-06, 06:15 AM
      Re: العودة الى سنار... دراسة تطبيقية على مستوي المضامين bayan05-25-06, 00:59 AM
        Re: العودة الى سنار... دراسة تطبيقية على مستوي المضامين wedzayneb05-25-06, 05:11 AM
          Re: العودة الى سنار... دراسة تطبيقية على مستوي المضامين خضر عطا المنان05-25-06, 07:01 AM
            Re: العودة الى سنار... دراسة تطبيقية على مستوي المضامين wedzayneb05-25-06, 08:06 AM
              Re: العودة الى سنار... دراسة تطبيقية على مستوي المضامين Saifeldin Gibreel05-25-06, 08:37 AM
              Re: العودة الى سنار... دراسة تطبيقية على مستوي المضامين bayan05-25-06, 08:40 AM
            Re: العودة الى سنار... دراسة تطبيقية على مستوي المضامين bayan05-25-06, 09:19 AM
              Re: العودة الى سنار... دراسة تطبيقية على مستوي المضامين wedzayneb05-25-06, 08:47 PM
                Re: العودة الى سنار... دراسة تطبيقية على مستوي المضامين bayan06-25-06, 09:22 AM
                  Re: العودة الى سنار... دراسة تطبيقية على مستوي المضامين الزاكى عبد الحميد06-26-06, 11:16 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de