الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-28-2024, 01:24 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-07-2005, 05:58 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية

    الحقيقة الإبداعية: تأملات في التجربة الروائية

    واسيني الأعرج



    الحَقِيقةُ الإِبْدَاعِيَة
    تأمّلاَت في التَّجْرَبة الروّائية الذّاتية



    تحْضرني الآن ملامح " زولا" وهو يستعد لكتابة رسالته الشهيرة " إني أتّهم " " J`accuse "
    التي وجّهها لرئيس الجمهورية سنة1889، في الدفاع عن الضابط دريفوس Dreyfus الذي اتّهم زوراً بتواطئه مع الألمان والتجسس لصالحهم . أتساءل في ماذا كان يفكّر وهو ينكفئ على ورقة بيضاء كان يعرف جيداً أنها يمكن أن تودي إلى المنفى وربّما الموت؟ ما هي هذه القوة الاستثنائية التي تدفع برجل مثله لأن يذهب نحو الخطر والقلق؟ أعتقد أن الذهاب نحو الحقيقة أو على الأقلّ ما نراه حقيقة هو العامل الحاسم في عملية مثل هذه . الرجال الإستثنائيون وحدهم يذهبون نحو هذه المخاطر . لأنه عندما كان زولا يصرخ بأعلى صوته، كان آخرون في موقع الارتباك، أندري جيد Andre Gide وحتى مارسيل بروست Marcel Proust وغيرهم بقوْا في أفق التساؤل قبل أن تدفعهم الأحداث المتعاقبة للانخراط في البحث عن الحقيقة مثلما فعل زولا قبلهم بسنوات .

    ماذا يفعل الكاتب في نهاية المطاف، سوى البحث المحموم عن الحقيقة . الحقيقة التي يراها بصدق، قد يخطئ ويتحمّل تبعات خطئه مثلما فعل دْرؤو لاروشيل D. LaRochelle عندما رأى في النازية جوانب حسنة، وهو الشخصية اللاّمعة وعندما اكتشف فداحة الانحراف، وضع حدّاً لحياته بنفسه، ولكنّ الخطأ يناهض الصمت . فالصمت ليس من فضّة في الظروف القاسية، ولكنه من أردأ أنواع المعادن التي يمكن أن نتخيّلها .

    الحياة تعلّمنا الكثير في صوغ هذه الحقيقة وإعطائها هوية تشبهنا وفي أحيان كثيرة تناقضنا، ومع ذلك نذهب نحوها ونتبنّاها وندافع عنها .

    عندما أسأل نفسي اليوم، بعد ربع قرن من الممارسة الروائية، ماذا فعلتُ بالكتابة وماذا فعَلتْ بي؟ المؤكد أنا فعلنا الكثير في بعضنا البعض ولم نتهادن مطلقاً، حاولت أن أجرّها لكي تقول أشواقي الكثيرة والمتضاربة، لأن تقول أفراحي الصغيرة وأحزاني، لأن تقول شططي ورفضي لكلّ ما يبتذل الإنسان ويفقده إشراقه، لتقول، مستعصية، رأيها في المؤسسات القاهرة للإبداع والخلق:الدينية، والاجتماعية والعسكرية ودفعت بي لأن أقبل بكل شروطها القاسية، العزل وقبول الوحدة، السهر طويلاً أمام تقلبات كلمة مستعصية على الفهم، الرحيل الدائم نحو مجاهل الدنيا، الشطط العائلي الكبـير، مرض القلب المرتبك أمام كل شيء، أسئلة ولديَّ باسم وريما التي لا تظهر إلاّ من خلال رمشات عيونهم لابدّ أن يكون بَابا مهبولاً " حتى يقبل بهذه الشروط المجحفة؟ (ريما تقولها أحياناً بصوت مرتفع) الإيمان بشيء من قدرية الحياة ثم عيش حالة المنـفى.

    والتنصّل مثل الجلدة عن اللحم، عن بلد يتنفس فينا بل الإصابة بمرض اسمه " مرض الوطن ":أنا مريض ببلد اسمه الجزائر Tesuis malade demon pays .

    من هنا تصبح الكتابة مجموعة من الجراحات المتواترة . وكلما حملنا قلماً، إزددنا غوراً في مجاهيلها واقترابا حارقاً منها وتريّثاً أمام مشاقها .

    عندما كتبت رواية " وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر ". كانت في رأسي أحراش القرية ووديانها التي جفت، ورعشات الخوف من مداهمات العسكر الفرنسي لبيوتات لم تكن قادرة على مقاومة الضربات القوية لأعقاب الأسلحة ولكن كذلك صورة والدي وهو يغادر صديقته بباريس، والمصنع الذي علمه العمل النقابي، ليعود إلى البلد في سنة 1957 وينخرط في الثورة ويستشهد في سنة 1959 . سؤالي هو سؤال إبْنَيّ:ألم يكن برأس والدي شيء من الخبل وهو يختار العودة نحو بلد، كل شيء فيه كان يقود إلى الموت؟ ربمّا . لكن المؤكد أنه فعل ذلك باختيار كبير وتأمُّل أكبر .

    يحدث معي اليوم أن أستعيد سؤالاً طرحته على أمّي سنة بعد استشهاد والدي " متى يعود؟" وتأتيني أجوبة الأمّ صارمة ويقينية " بعد صيف، عندما تنور شجرة اللوز هذه" . نوّرت شجرة اللوز كثيراً ولم يعد والدي . وحتى عندما كبرت، ظللت مرتشقاً بأشجار اللوز وكلّما رأيت نوارها قد أينع شعرت بأن شيئاً سعيداً يتهيّأ لي في الخفاء .

    والدي لم يعد ولكن أختي التي ظلت تنتظره بجدّ أكثر، لحقت به ولم تستطع أن تتحمّل غيابه المزمن . يمكننا أن ننتظر عزيزاً قرناً من الزمن، ونحن نحسب الأيام وكلما صارت المسافة التي تفصلنا عنه ضئيلة، ازدادت سعادتنا، لكننا عندما نفقد أمل اللقاء نخسر الحياة ونفضل أن نختصر كل شيء في نهاية مستعجلة . زليخة انسْحبت وعمرها خمسة عشر عاما فقط .

    جرح زليخة مشابه لجرح الوالد .

    كلما قرأت " الوقائع ". استحضرت وجهها . القارئ لا يعرف هذه التفاصيل وليس مجبراً على معرفتها، فالنصّ الأدبي هو نص الانزلاقات . الانزلاقات التي تجعل من الحقيقة الموضوعية، حقيقة احتمالية، أي حقيقة يتجاذبها الواقع والمتخيّل معاً وهو ما يبعدها عن التاريخ ويقربها أكثر من الذات العميقة . ومقتل النص الأدبي، ونجاحه، هنا . هنا بالضبط، إذ من السهل عليه أن ينـزلق نحو مضاهاة الواقع ليصبح مجرد صدى عاجزٍ عن أن يكون أدباً ولكن كذلك عاجز عن أن يكون تاريخاً بالمعنى الحرفي للكلمة .

    ولم تكن رواية " ما تبقى من سيرة لخضر حمروش " إلاّ استمرارية للوقائع . بحيث ظلّ موضوع الحرب موضوعاً مهيمناً ومركزياً . وهو قوة الرواية الجزائرية لأنه وفر لها مادة لا تنضب أبداً ولكن يشكل كذلك نقطة ضعفها الكبرى لأنه ربطها بآلية من التكرارية والتشابه المستمرّ. لكن السؤال المركزي في رواية ما تبقَّى من سيرة لخضر حمروش، وخارج عَطاءات الانتصارات والأشواق وحالة الزهو التي كانت الرواية تشي بها ؛ ألَمْ يورّثنا هذا الماضي الزاهي وانتصارات الثورة أمراضاً كبيرة؟ الشَهيد القائد عبان رمضان . الثورة هي التي صفّته لأنه كان من المطالبين المحمومين بضرورة الفضل بين المؤسسة المدنية الممثلة في الحكومة المؤقتة والمؤسسة العسكرية الممثلة في قيادة الأركان L’ETAT MAJOR . الذين قتلوه بطريقة بشعة، هم أنفسهم من نشروا أول تعزية في جريدة المجاهد التي كان هو مؤسسها . شيء من العبثية؟ الجنون واللا عقل؟ هذه الأسئلة تجعل من الحقيقة التي تتوخاها الكتابة مستعصية وصعبة وتجعل من طريقها، معابر مستحيلة . الحقيقة ليست مسطحة، وليست خطّـاً مستقيماً والكتابة الكبـيرة هي التي تدخل هذه التعرجات وتتجاوز ما يمكن أن تشي به الحقيقة في تمظهراتها الخارجية فقط . لم تكن رواية "ضمير الغائب " إلاّ رغبة أخرى في التمادي نحو جرح الحرب للخروج منه . كانت حقيقة أخرى على الصعيد الاجتماعي قد بدأت تفرض نفسها، لم يعد كل الجزائريين أخوة كما روجت لذلك أيديولوجية جبهة التحرير الوطني . ولم يعد الجزائريون متساوين في الحقوق والواجبات كما يلح على ذلك دستور البلاد . فقد بدأ أثرياء الحرب يكشفون عن هوياتهم المختلفة وينشئون مزيداً من خطابات الانفتاح مع الحفاظ على الخصوصية الاشتراكية الوطنية . إلى اليوم لم أفهم هذه الخصوصية . المعادلات التي كنت أفهمها بسيطة بلد نشأ على خيارات اقتصادية كانت وراءها البيروقراطية الثقيلة التي عشعشت في المؤسسات وتعيش على الرّيع النفطي، أفرغت كل القيم التي مستها من عمقها، حوّلت الاشتراكية في الخطاب إلى رأسمالية متوحشة في الممارسة . والليبرالية المفتوحة إلى قحط ثقافي وممارسة بدائية في الربح لتنتهي إلى زمر مافيا، تتقاسم اقتصاد البلد وخيراته وحولت الدين بوصفه قيمة متعالية مشتركة للخير، إلى حالة توحّش يصبح فيها المختلف عدوّاً وجبت تصفيته ومحوه . فالجزائر التي كانت تتوفّر على إمكانات ثقافية استثنائية، كُسِرتْ وهُزِمت وأُفْرغت من مادتها الروحية الكبيرة .

    العلاقة بجرح الثورة، أعطى للرواية الجزائرية توجهاً تمجيدياً، انتشائياً، انتصارياً . من تمجيد الحرب التي يقتل فيها " البطل " الروائي كل الأعداء الفرنسيين ويعود سالماً إلى قواعده إلى تمجـيد .

    الاشتراكية التي ينتصر فيها " العامل " دائماً ضد صاحب المؤسسة ويجبره على الانصياع للمطالب النقابية إلى فتوحات " الشخصية الليبرالية " العقلانية والمتفتحة إلى حكمة وتفقه " البطل المتدين، الإسلامي " في بعض الأعمال الأخيرة . ماذا بقي من وراء هذا التمجيد؟ لا شيء سوى الحقيقة العارية التي لم يستطع الأدب أن يقبض عليها في الوقت المناسب، لأنه لم يطرح الأسئلة الصعبة التي تجعل من الأدب ليست فقط إجابات جاهزة ولكن ديمومة من المساءلات التي كثيراً ما تفضي إلى بعضها البعض بدون القدرة على ترتيب أجوبة صحيحة ومقنعة . لقد ارتبك كل شيء، والكتابة وحدها قادرة على فهم حالة الارتباك هذه شرط أن لا تظل رهينة المظاهر الأولى للحقيقة الموضوعية . بطل الحرب، صار اليوم عنصراً نشيطاً في عمليات الاستيراد وداخلاً في شبكات الهيمنة على أسواق السكر، والقهوة ومختلف السلع التي تشكل الحاجيات اليومية للمواطن، والعامل النقابي لم نعد نسمع به كثيراً أو صار إدارياً يمجّد مزايا اقتصاد السوق والمسلم العاقل والرزين الذي مجدته روايات الطاهر وطار الأخيرة، الشمعة والدهاليز مثلاً، صار يتقاسم حصص البيع والشراء وينشئ خطابات الموت والقتل . المشكل في كل هذا هو أن الأدب يبقى وتبقى معه مزالقنا وأخطاؤنا الكبيرة والصّغيرة . ولهذا فالكتابة لا تنشأ في الفراغ ولكنها كذلك لا تنشأ داخل حقيقة منجزة ومغلقة . وربّما هنا مقتل كتابة الرعيل الأوّل الذي أنجز نصوصه باللغة العربية وحتى الكثير ممن كتب باللغة الفرنسية . لم تكن هناك قدرة كافية لالتقاط ما هو جوهري داخل هذه العملية، حتى ولو كان هذا الجوهري يناقض قناعاتنا المترسخة والتي توفّر لنا طمأنينة كبيرة . من هنا كان لا بدّ من قتل الأب الشرعي (بالمنطق الفرويدي) والأب غير الشرعي .أي الأب الآتي من وطنك ومن لغتك، أي من فراشك والأب المتأتي من لغة أخرى _ وهي ها هنا اللغة الفرنسية . لقد نشأنا على كتابات هذا الرعيل الأوّل الذي أخرج اللغة العربية من سجن الدين، ليدخلها سجن الخطاب الجاهز والمطلق الذي يشبه في الكثير من مواصفاته الدين ذاته بوصفه منظومة من اليقينيات . سؤالي الذي شغلني طويلاً ولمدة سنوات كثيرة، وأنا أتهـيّأ لكتابة " فاجعة الليلة السابعة بعد الألف "، هو كيفية تهديم هذه المطلقات لرؤية ما يتخـبّأ وراءها من تفاصيل وصراخات وتواريخ صغيرة، طحنها هذا الخطاب . وأنا أطالع التفاسير القرآنية الكثيرة، والنصوص التاريخية والإسلامية، اكتشفت أن هناك مزالق ارتكبت في لحظة تاريخية محددة، مازلنا نعيد إلى اليوم إنتاجها بكثير من السعادة والتلذذ المرضي الذي لا يضاهيه إلاّ فقدان الذاكرة . فعندما صرخ ابن رشد بأعلى صوته بضرورة فصل " الحكمة " عن " الشريعة "، فصل " الدولة "

    عن " الدين "، رميناه بسعادة كبيرة خارج أسوار المدينة، وجُرِّد من كل قيمة علمية وفكرية . لا يُعْقَل أن لا يوجد " نموذج " عربي واحد يصلح أن يُقتدى به؟ فاللغة عمّمَت هذه الهزيمة ونقلت هذه الدورة التاريخية التي انغلقت على ذاتها لتصبح تكرارية . حتى ما توارثناه عن ألف ليلة، عن شهرزاد على أساس أنها " نموذج الاستثناء " للتحرر، لم تكن إلاّ الوجه الآخر المنعكس في المرآة، لوجه شهريار . شهرزاد كانت شهريار في المؤنث .قالتْ ما كان يريد سماعه وإلاّ كيف نُفسر امتلاء نص ألف ليلة وليلة بالخيانات الزوجية في وقت أن وجود شهرزاد كان لغرض مناقض .هي لا يمكن أن تناقض السلطان، أي السلطة الرسمية، فأعادت إنتاج خطابه وأعطته امتدادا رمزياً بإنجابها لذكور ثلاثة . الخاسر الأكبر في ألف ليلة وليلة ليست شهرزاد ومأساتها ولكن القارئ المفترض الذي وقف مشدوهاً أمام صمت دنيا زاد أختها، رواية " الفاجعة " ليست إلاّ هذه المحاولة لتهديم حقيقة شهرزاد والاستماع إلى اجتهاد دنيا زاد التي ستقول كل المسكوت عنه بدون أدنى تردد وهي تعرف أنّ الذي ينتظرها في الأفق كبـير وخطير .

    نفس اللحظة التي منعت صوت دنيا زاد من الظهور، هي نفسها، في حالتها الاستمرارية، التي منعت شكلاً سردياً كبيراً قائماً بذاته من الاستمرار والتطور . تصوروا بنية بكاملها، اكتملت واستقلت وتمايزت في ألف ليلة وليلة تُهْمَل بشكل يشبه " الأمنيزيا " ويتمّ الالتصاق بسهولة بالشكل الغربي للرواية من باب التحديث والتطور؟ ألم يكن من الأفضل إدراج هذه الحداثة ضمن سياقات تسائل تاريخها وأشواقها وإنجازاتها من منطلق العصر الذي تعيشه ومن منطلق تاريخها الذي أنجزته وانتقدته؟ هل الحداثة سهلة إلى الحدّ الذي تصبح فيه رديفاً للنقل؟ لا أعتقد . عندما وقف الطهطاوي في رحلته الباريسية مشدوهاً أمام حضارة " الغرب "، كان يُعلن بشكل قبْلي عن انهيار كلّي في الذات العربية، لكن هذه الذات المهزومة عسكرياً واقتصاديا كانت تُشي قصصها وحكاياتها ويغيب السؤال المركزي الذي تمادى في تغييبه هيكل في رواية " زينب " وأصبحت الحداثة، على صدق النوايا، مجرد اندراج في دائرة الهيمنة . صحيح أنه لا حدود للثقافة، لأنها من حيث الجوهر، هي فعل إنساني، ولكن الصحيح كذلك هو أنّ الحداثة لا تُنجز إلا بمعرفة دقيقة للذات، الذات في حركيتها وتواصلها الإنساني وليس في ثباتها، في تساؤلاتها المستمرة وليس في اطمئناناتها .

    قد تبدو في هذا السياق كلمة تهديم مغرضة ولكنها ضرورية، لأنها تتعلّق بضرورة الانفصال عن الأبوة لا للتحليق فقط بالأجنحة الخاصة، ولكن لرؤية الحقيقة وفق مواصفات العصر التي تختلـف
    عن تلك التي صاحبت بروز الجيل السابق من الروائيين . من المفيد جداً، كما اتضح لي أثناء عملية كتابة " نوار اللوز " الانتباه لهذه التفاصيل الصغيرة التي تصنع الكتابة وتمدّد هويّة الحداثة بالنسبة لنا . العودة إلى الحكاية الشعبية لم يكن فقط من أجل استنطاق مضامينها ومعرفتها، ولكن في البحث كذلك في لغة القصّ . فاللغة ليست معطى جاهزاً ومنجزاً وما على الكاتب إلاّ الأخذ به واستعماله مثل ما يفعل الطّفل بلُعَبهِ التركيبية . مسألة أكثر تشابكاً وتعقيداً من ذلك . اللغة كائن حيّ وحاملة للمسموع والمسكوت عنه . لغة تقول ولكن في الوقت نفسه ومن خلال الكلمة ذاتها هناك معنى يتسرسب من بين الأصابع وعلينا أن نقبض عليه بقوة وأن لا نتركه ينفلت بسهولة مثلما فعل الجيل السابق الذي اعتبر اللغة مادة كاملة ومنجزة . أليست الرواية لغة، ولغة بامتياز، ولهذا وجب العمل بقوة داخل هذا الحقل المعقّد وغير المضمون . ليس القصد هنا _ مادام العمل يتعلّق بألف ليلة وليلة والسيرة الهلالية كنصوص مرجعية للفاجعة ونوار اللوز _ الارتكان إلى لغة قديمة صيغت بها هذه النصوص كما فعل الكثير من رواد هذه المدرسة للحفاظ على الهوية المهددة (؟) ولكن البحث داخل لغة العصر عن توليفات جديدة تضمن تقاطعها مع التراث وتضمن استمرارها ولْو كانت هذه الاستمرارية تتصادم بالمادة التراثية ذاتها . يجب أنّ نؤمن بمجموعة من المسلمات، وأنّ لكّل زمن لغتَه ولا يمكن نقل لغة إلى عصر غير عصرها لأن هذا سينشئ حواجز بين اللغة ومستهلكها، أي القارئ الذي يتلقّاها . الكتابة لا تعوّض اغترابا باغتراب أخر . العصر والدراسات الحديثة والتجارب الخاصة تمنح لنا فرصاً كبيراً لتغيير العلاقة باللغة بحيث تصبح تنتمي إلينا، أي إلى العصر الذي نعيشه وننتمي إليها بوصفها حاملة ليس فقط لحاضرنا ولكن لماضينا، الجانب الحاضر فيه والمغيب قصداً . لهذا العلاقة باللغة من هذا المنطق تتطلب استعدادات ثقافية كبيرة لم تكن متوفرة لدى الجيل السابق بحكم الظروف الاستعمارية والاعتماد أكثر على نزعة عصامية في الكتابة ليست دائماً إيجابية . فالبياضات التي صاحبت كتابات الرعيل الأول من الروائيين الجزائريين كان لا بد من إدراجها ضمن ورشة عامة تعطِي للجيل حقه ولا تتوقف عند حدوده حتى ولو أدى ذلك إلى قطيعة شبيهة بالقطيعة الفرويدية .

    وقد بيَّنت الخيبات المتتالية للوطن العربي، أنّ الإشكاليات التي طُرحت علينا ككتاب لم تكن جزائرية فقط ولكنها كانت عامة، سوى أنّ تمظهراتها الشكلية تختلف من مكان إلى مكان ومن قطر إلى قطر . كل شيء تحوّل إلى سؤال كبـير: إلى أين نحن متّجهون؟.

    عندما بدأت محنة التسعينات في الجزائر انطرح من جديد السؤال الذي ظل عالقاً بشكل كبـير:

    ماذا تستطيع الكتابة فعله أمام طاحونة الموت الأصولي المجاني والبدائي؟ أنستطيع الكتابة بدون السقوط في التبشير والشتيمة؟ هل نصمت حفاظاً على الروح وعلى النفس خوفاً من السقوط في الزلل؟ هل بإمكان الكتابة أن تكون حيادية في وضع يُقتل فيه الناس أمامك؟ هل كان بإمكان كتّاب جيل الأربعينيات في أوروبا أن يصمت على جرائم النازية؟ صحيح أنه لا يُنْتظر الكثير من كتابات تنشأ من داخل النّار وهي طرف فاعل، أن تكون عظيمة، ولكنها تستطيع أن تشهد على زمن الموت . حتى هذه الشهادة الإيجابية بدت لي لوحدها مقصّرة، فذهبت نحو سؤال الذاكرة الذي يبدو بعيداً:كيف يمكن لبلد كان واجهة مفتوحة على العالم أنْ يصبح فجأة بلداً منغلقاً وغير متسامح مع تاريخه؟ أي يد عبثت، لتحوّل مادة الانتصار الثقافي المتعددة، إلى حالة إعاقة ومرض مزمنين؟ لم تكن النصوص التي كتبتها عن محنة الجزائر :

    -١ سيدة المقام
    ٢ـ ذاكرة المساء
    ٣ـ حارسة الظلال
    ٤ـ مرايا الضرير.

    إلاّ محاولة للانخراط في الشهادة ضد العصر والعمل على مُخَبَّـآت الذاكرة . قول الحقيقة المباشرة، الحية، النابضة، مع احتمال الخطأ وتفادي الصمت المتواطئ . وفي الوقت نفسه التأمل طويلاً في الشروخات الكبيرة للذاكرة الوطنية التي تتخبّأ فيها ممارسات معاكسة لما كان يحدث في الجزائر . ماذا يمكن أن يقول سرفانتيس الذي بقي في الجزائر خمس سنوات، صحيح شبه سجين، ولكن البلد الذي منحه المشقة، أعطاه فرصة كتابة أعظم نص في التاريخ:دون كيشوت .

    تفصلنا عن هذا التاريخ خمسة قرون ومع ذلك، فالجزائر التي وصفها، كانت أرحم من جزائر تقتل أبناءها . جزائر يتلاقى فيها المسلم والمسيحي واليهودي في نفس الحيّ وفي نفس السوق بدون أن يحمل أحد فأسه وينـزل به على رأس من يخالفه العقيدة أو نمط الحياة . وماذا يقول أبوليوس، ابن مداوروش (قسنطينة) في القرن الثاني للميلاد والذي هزّ أركان الملحمة وبناءاتها المطلقة والثابتة في نصّه " الحمار الذهبي "؟ وماذا يقول "ابن خلدون " وهو منعزل في مغارة " افرنده " بضواحي (تيارت) ليضع اللمسات الأولى لمؤلفه الضخم " المقدمة "؟ وماذا يقول ألبيركامي الذي أخطأ كثيراً ولكنه كتب بحبّ كبـير عن الجزائر من موقعه وثقافته؟ .

    لكن الكتابة عن المحنة لها مخاطرها المباشرة :الموت أو المنفى ولها مخاطرها:الاندراج نحو السياسي على حساب أدبية النصّ، وأعتقد أني لم أنجُ من أية واحدة . إذ وجدتني فجأة في باريس بدعوة من المدرسة العليا للأساتذة ثم من السوربون . إلى اليوم ومنذ سبع سنوات وأنا أحاول أن أقنع نفسي بأنّ حالة المنفى هذه هي حالة مُؤقتة . لكن يبدو أن المؤقت الذي بدأ بفكرة التغيب ثلاثة أشهر تمددّ إلى سبع سنوات . الكتابة وحدها لا تقهر المنفى ولكنها تذكي شعلات وحرائق الوطن. بعض أصدقائي الذين انتهى بهم المقام في باريس يقولون وهم على حق فيما أعتقد :ما معنى أن أكون مواطناً في وطن لا يضمن لي الحدّ الأدنى من الحقوق، أي حقّ العيش؟ معادلة سحرية مكنـتهم من الاستقرار الحياتي والعائلي، هي نفس المعادلة التي حوّلتني إلى رحالة دائم بين ضفتين قاتلتين موحشتين وجميلتين:ضفة تدفع بك نحو مجاهيل الموت البشع ولكنها تعطيك فرصة شمّ رائحة التربة التي ضمّتْ جدك الأوّل الذي عندما غادر غرناطة، أشعل النار في مكتبته الكبيرة وقطع البحر باتجاه بلاد المغرب بعد أن عض غبناً حتى أدمى ذراعه .جدتي تقول:إن جدك الأندلسي الأوّل لم يمت معمراً، ولكنه مات مسموماً، فقد عض ذراعه وهو غاضب، وعضَّة الغُبن مسمومة ولا تُمهل صاحبها إلاّ قليلاً . وضفة تضمن لك وهج الروح والجسد والسلامة ولكنها تسلبك المعنى العميق للأشياء، إذ أن سؤال:وماذا بعد؟ لا يوصل إلاّ للجدران الموصدة.

    في الرواية الأخيرة " شرفات بحر الشمال " حاولت أن أنسى أنّ لي وطناً لأتمكن من الكتابة عن شيء آخر، غير الموت، غير الجزائر، غير الحرائق . فأنشأت قصة حب. ربّما كان الحب هو الحالة الإنسانية التي لا ينتهي نبضها أبداً . لكن هل يمكن أن نكتب عن الحب في الوطن العربي، بدون أن ينهض أمامنا تاريخنا الفردي المرتبك والمرتبط عضوياً بالتاريخ الوطني؟ لا أدري إذا كانت الرواية الأخيرة قد أجابت على ذلك ولكنها على الأقل طرحته، وهذه المرة انسحبت بدون أن تنتظر الإجابات، لأنها تعرف مسبقاً أنّ الإجابات مستعصية ونحتاج إلى زمن أخر غير هذا لنحكم على الفعل . لأنه قد يأتي من يقول بكل بساطة اليوم:

    عندما كان الناس يموتون . كنْتَ تكتب عن الحب ألم يكن من الأفيد أن تكتب عن حرائق الوطن؟
    وكأن الكتابة عن الحبّ فِعْلُ سهـل وثانوي في دائرة محكومة بالكراهية والضّغينة .
                  

05-07-2005, 06:04 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    ضغط الكتابة وسكرها

    أمير تاج السر



    ضغط الكتابة وسكرها
    شهادة



    حتى عام 1986 لم يكن للسرد أية خطوات في مسيرتى الكتابية، كانت مسيرتي شعرية بحتة بدأت بكتابة القصيدة العامية منذ كنت تلميذاً ابتدائياُ يقضي زملاؤه عصاريهم ومغربياتهم في لعب كرة القدم والبلي، وتسلق الحوائط واستفزاز المارة، ويقضي هو تلك العصاري والمغربيات في مطاردة الكلام واستفزاز الورق، وصياغة أغنيات عاطفية كانت تعني له في ذلك الوقت فتوحات لا تقل شراسة عن فتوحات (المقدوني) و(بونابرت) وصلاح الدين.. كان زملائي ينبهرون بتلك الأغنيات.. جيراني يرددونها.. ومغنو الدرجة الرابعة يطاردوني بالمدح والأستذة وصور حسناوات غاية في المكر يبحثن عن موقع في ضجة مغن أو بكاء شاعر.. تلك كانت سبعينيات البراءة.. عبرتها بقليل من الشهرة وكثير من استرخاء الأعصاب.. وكانت دماملها غزيرة لكنها لم توجد أبداً.

    في عام 1985 وعندما كنت طالباً جامعياً في مصر، حدثت انتفاضة مارس - أبريل في السودان.. وأحاط سوار الذهب بمعصم البلاد.. غنى المغنون وأشعر الشعراء وبركت ربات البيوت على يقين مزغرد، وكان لا بد أن تشارك شاعريتي المتواضعة في ذلك الكرنفال، ومن ثم خطت في أوراقي أول قصيدة للفصحى. كانت بعنوان (أغنيتي والرجل الأسمر).. ولعلها كانت نتاجاً لقراءات مرهقة، لقحت بها ذهني في ذلك الوقت إضافة إلى فداحة الفرح التى كانت تتطلب أدوات أكثر تطوراً.. تبعت تلك القصيدة قصائد وقصائد حتى استطعت في عام واحد أن أنتقل من ضلفتي المتنبى إلى رحابة عفيفي مطر، ومن حداثة عبد الصبور.. إلى حداثة أدونيس.. ثم أصبح لي غموضي الشعري الخاص الذي لم يفارقني حتى الآن.. نشرت ي تلك الفترة قصائد عديدة ي مختلف الدوريات الثقافية كان أبرزها مجلة القاهرة والمجلة و (إبداع) وكانت تلك المجلة وكان على رأسها عبد القادر القط، تنشر لنا في باب خاص اسمه (تجارب) وضعت عليه لافتة تحمل عبارة (القصائد والقصص التي تنشر في هذا الباب.. تنشر على مسؤولية أصحابها) كان ذلك أشبه بالحجر الصحي Quarantine الذي يمارس ضد كثير من الأمراض الوبائية التي يخشى انتشارها في وسط الناس وقد أدى ذلك إلى شعوري وكثير من زملائي الشعراء والقصاصين في ذلك الوقت، أننا نكتب الطاعون والكوليرا وحتى المستنقعات وليس إبداعات أرقنا فيها الكثير من الوقت والتوتر.. وألبسناها ملابس زاهية كنا نظنها ستسر القراء. وأقول بهذه المناسبة لأنني برغم توغلي في المسألة الشعرية إلا أنني لا زلت أحس بأني مجرد عضو في فرقة موسيقية كبيرة بعكس الرواية التي حققت فيها بعض التميز حتى لو كان تميزاً ليس بذي قيمة تذكر. في عام 1986 التقطني الكاتب الفذ عبد الحكيم القاسم.. الذي كان حكيماً وراعاً وفيه ملاحة ريفية برغم تفرنجه لسنوات طويلة في ألمانيا. كانت (أيام إنسانه السبعة) قد دخلت إلى قلبي من بابه الواسع، وتركت في كل غرفة من غرفه عطراً أخاذاً.. تبعتها رائعته الأخرى (طرف من خبر الآخرة).. أسمعته الكثير من قصائدي ووجدت في أذنه صمغاً يحتلب القصيدة قال لي.. تملك نفساً سردياً.. وبيئة مجنونة.. وذاكرة مشعة.. ولا بد أن دراستك للطب قد علمتك الجلد.. لماذا لا تكتب الرواية؟ كانت جملته بمثابة خبل تيلي كتفني إلى طاولة الكتابة عدة أشهر.. ثم كانت كرمكول.. روايتي الأولى التي ولدت وعبد الحكيم قاسم يدلي بغيابه في الحياة الأدبية والإنسانية.. التناقض الذي قوبلت به كرمكول والذي تراوح بين التربيت على كتفها، ومصافحتها بحرارة.. واستضافتها في منتديات النقاش.. إلى صفعها، وركلها بالأرجل ونصبت مشنقة لتعليقها، أعطاني إحساساً رائعاً بأنني كتبت نصاً إشكالياً.. خاصة حين بدأ الكثيرون يهدونني نسخاً من أعمالهم موقعة بجملة.. إلى صاحب كرمكول الرائعة. لبست ثياب الكتاب بمتعة، وجلست جلساتهم في مقهى ريش وزهرة البستان والآن حين أنظر من عمري وتجربتي هذين إلى كرمكول أحس بها مسكينة ويتيمة وتستحق العطف.

    في القاهرة أيضاً تعرفت على كثير من الكتاب والشعراء منهم جمال الغيطاني.. ومحمد مستجاب.. ومحمد سليمان.. وإبراهيم عبد المجيد.. هؤلاء احتفوا بتجربتي الكتابية كثيراً ولا زال بعضهم يدعمني. وكان شاعر العامية الراحل عمر نجم قد اقترب مني بسماره ولغته التي تأخذ من مفردات الجنوب كثيراً. حملنا سمارنا معاً في ليال قاهرية ضاجة.. أيضاً تعرفت إلى الفلسطيني محمد صديق الذي يدرس الأدب العربي في أمريكا.. هذا رجل فيه مروءة.. ذلك أنه احتفى بطبي.. ونصحني بالإقلاع عن عادة الكتابة ولم أستمع لنصيحته.

    اهتمامي بالتراث والفنتازيا، وأسطرة المكان والشخوص، بدأ ببدايتي في كرمكول.. لم يكن مقصوداً، لكنه بلا شك كان إفرازاً لامتصاصات عديدة التقطتها من البيئة.. وبقيت في الذاكرة.. لعل وضعنا الجغرافي كسودانيين، وانغراسنا وسط حضارتين.. العربية والأفريقية أعطى لأدبنا تلك السمة إضافة للطقوس التي يمارسها المحليون وتأثرنا بها في الكتابة ووظفناها كضرب من ضروب الفنتازيا، جعلنا نكتب أدباً مغايراً.. وأقصد في هذه الفقرة معظم الذين كتبوا قصة أو رواية في السودان وأشير إلى الطيب الصالح وإبراهيم إسحق، ومحمود محمد مدني وأنا شخصياً.. كنت أرى القرية مشربة بالطقوس الغريبة.. التبرك بالأضرحة.. التهام الخرافات بشراسة.. الاعتقاد في أناس بعينهم.. والجلوس لساعات طويلة في جلسات الودع، وتصديق كل ما تنطق به تلك الجلسات. من إحضار لغائب أو ترقية لموظف أو جرجرة عريس مكتمل الوجاهة لإحدى الفتيات وبالطبع ومع تقديم التعليم وانتشار الوعي الديني في السنوات الأخيرة بدأت تلك الطقوس تنقرض، وتحولت إلى فنتازيا فعلية. أيضاً اهتممت بالتاريخ، ليس التاريخ الحقيقي الذي كان.. لكنه التاريخ الذي أردته أن يكون وأنا أرسم شخوصي.. وأضرب مثلاً من رواية كرمكول.. قصة ود ضبع الذي غنم جبة الأمير محمود ود أحد أمراء المهدية.. وقادتها، بعد أن هزمه الإنجليز وأسروه في واقعة (النخيلة) قرب مدينة (عطبرة). أيضاً في رواية (سماء بلون الياقوت)، قصة الخطاب الذي أرسله عبدالله ود سعد حاكم قبيلة (الجعليين) إلى (أم الحسن بنت الطيب) واصفاً فيه ضعفه وانكساره وبلواه بعد أن تخلت عنه القبائل واتجه أبناء قبيلته إلى الغناء.. وكان وحده أعزل في مواجهة حملات الدفتردار الانتقامية لصهره إسماعيل باشا الذي أحرقه الجعليون حياً. هذان الحدثان لم يظهرا تأريخياً بنفس الهيئة، لكن الضرورة السردية والإسقاطات التي أرادها النص، اقتضت ظهورهما هكذا. في نار الزغاريد.. روايتي الأخيرة.. عملت كمفتش طبي في منطقة بعيدة في شرق السودان وذات تأريخ مغلق.. أو تاريخ لمس باستحياء.. واستطعت أن أصنع لها تأريخاً.. تقرأه كأنه حدث بالفعل.. مجيء الحاوي وبناءه للبلدة.. وإخضاعه للقبائل المتوطنة.. والتغيرات التي حدثت على مدى قرنين من الزمان.. وحتى مجيء ألبيرت بشاي حاملاً الإغاثة والغرائب والحب. وحين كتبت روايتي (صيد الحضرمية) التي لم تنشر حتى الآن.. كانت توجار بلدة مؤسسة منذ عهد وتجري فيها الأحداث بجدارة.

    في اعتقادي ككاتب لهذا النوع من الروايات التي تأخذ من التراث، والأسطورة.. وترصفها كطبقات حية معاصرة. أن ذلك يعطي النص تلك الرائحة التي تمسك بتذوق القارئ.. رائحة الدهشة والشبع.. وربما روائح أخرى يستنشقها القارئ وهو يشم السطور. ربما يختصم معي الكثيرون، لكنني أحس بتلك الرائحة دائماً وأنا أقرأ للأفارقة واللاتينيين، والسودانيين أيضاً، وبعض كتاب الشام الذين يتوغلون بكتاباتهم بعيداً في جروح الريف. لسنا بحاجة إلى كتابة تقرر لنا واقعنا الذي نحياه.. إنما حاجتنا الحقيقية إلى كتابة تأخذ من واقعنا وتعطيه.

    بالنسبة لموقفي من التراث الشعبي.. فإنني في كثير من أعمالي أقف إما راصداً لذلك التراث وإما عابثاً به ومحاولاً تغييره، وإما ممتطيه لغايات أخرى.. خاصة بما يتصل منه بالخرافة والجهل.. كما حدث في موقفي من التبرك بضريح (الحاوي) في (نار الزغاريد)، فقد جعلت السلطة ترسل برجالها إلى البلدة ليعينوا عمالاً حكوميين لملء الأزيار بالماء حتى يقضوا على شائعة الأزيار التي تملأ نفسها بنفسها. وفي صيد الحضرمية التي اشتغلت فيها على موضوع السحر.. زوجت بنت حساب العرافة من الجني (شاخور شمرس) وذلك إمعاناً في دفنها إنسانياً. أما بخصوص التأريخ الوطني للبلاد.. فكما قلت.. آخذ منه ثوباً أو عمامة، أو ابتسامة، أو تقطيبة وجهية، وأبني على ذلك هياكلي التي أريدها في النص. مثلاً لذلك من نار الزغاريد.. فقد منع الرئيس ذبح اللحم بقرار رئاسي.. هذا حدث بالفعل.. أما مرض (الاشتهاء اللحمي) الذي انتشر كوباء بين الناس بعد ذلك ومهد للانتفاضة الشعبية.. هذا لم يحدث أبداً. خلال قراءتي للكثير من النصوص العربية والأجنبية.. دائماً ما أجد قدمي الكاتب تخوضان في النص، أو يديه تبثان به.. أو صوته يصرح آمراً وناهياً.. بمعنى أن سيرة الكاتب الذاتية أو بعضاً من ومضاتها تبرق بين حين وآخر.. أنا أبعد عن نصوصي تماماً.. وأتركها تعول نفسها بنفسها دون أبوة مني.. وحين أردت أن أتورط داخل أحد نصوصي.. كتبت مرايا ساحلية.. سيرتي المبكرة التي صدرت أخيراً. في هذه السيرة تورطت غالباً كمصور.. وليس كشخصية تتبعها عدسة التصوير.. هذا النص قربني كثيراً من القراء.. ربما لتقنيته السهلة بعيداً عن فوضاي الروائية، وربما لإحساس الكثيرين أنهم يقرءون أنفسهم داخل مراياه المتعددة.

    أعود الآن قليلاً إلى الشعر لا لأقرأه أو أكتبه، ولكن لأشكره على تلك اللغة المكثفة الموحية التي منحني إياها.. فالقارئ لنصوصي يستطيع بسهولة أن يتذوق طعم الشعر.. إضافة إلى تلك النصوص الشعبية التي أكمل بها السرد أحياناً.

    طقوسي في الكتابة سهلة للغاية.. في البداية كانت ورقة وقلماً وتوتراً، وحموضة وانقطاعاً عن العالم.. الآن ثمة تكنولوجيا كمبيوترية.. وتنسيق ونسخ ولصق.. لكن لا بديل للتوتر والحموضة.

    هناك محطة لا بد من ا لتوقف عندها قليلاً.. إنها شهرة الطيب الصالح.. فارتباطنا ككتاب سودانيين بشهرة الطيب.. هو في الواقع ارتباط فيه كثير من التعسف.. وعدم التراهة القرائية.. ولم يحدث في أي قطر عربي آخر.. فبرغم التوغل العنيف الذي توغله بعضنا في دروب الإبداع. فما زال الكثيرون ينظرون إلى الأدب السوداني بعدسة ثبتت في بؤرتها.. كتابات الطيب صالح.. أنا كتبت نار الزغاريد عن بيئة شرق السودان.. رواية ملأتها نزيفاً من عروقي الشخصية.. وحشدتها بأساطير المكان غير المعروفة أبداً.. وسمعت البعض يهمس.. كأنها موسم الهجرة إلى الشمال.. في حين يكتب أصلان (مالك الحزين) ولم يقل أحد أنها (زقاق المدق).. نحن أسوة بغيرنا.. لنا أجيالنا وتطورنا.. فقط نحتاج إلى القراءة بعدسات محايدة.

    محطة أخرى تستوقفني ككاتب من جيل الثمانينات لم تؤخذ أعماله حتى الآن بالجدية المطلوبة.. إنها اضطراب النقد وهو يحوم حول أعمالنا.. وهروبه السريع دون حتى أن يلقي عليها السلام.. حتى المؤتمرات التي تعقد للرواية.. يتحدثون فيها عن الرواية الجديدة.. لا نجد فيها صوتاً جديداً.. ربما لإخلالنا المزمن بأمن الكتابة.. وربما لأننا نطبخ بتوابل حراقة تؤدي إلى عسر الهضم.. لقد طالبني أحدهم مرة بتبسيط كتابتي حتى يستطيع دارستها.. وطالبني آخر بالهبوط جيلين إلى الوراء.. لكن ثمة إشراقات أحياناً.. منها إشراقة نزيه أبو نضال الذي التهم رواية سماء بلون الياقوت غير عابئ بأشواكها الكثيرة. لا بد من سؤال عن علاقة الطب بالأدب.. لماذا يكتب الطبيب.. أو يكتب الطبيب وهو المنغرس في مهنة الركض خلف الآلام.. وإن وجد ورقة وقلماً.. إنما يكتب وصفة طبية؟
    في الواقع لا إجابة لهذا السؤال مطلقاً.. وإن كانت ثمة إجابة لكان أجابها سومرست موم.. ويوسف إدريس من قبل. أنا في كثير من الأحيان أجد في الكتابة خيانة.. لكنني أستعذب الخيانة.. أمارسها بتوتر آخاذ وحين قلت لإدوار الخراط في إحدى المرات.. أن جرثومة أصابتني.. قال لي.. لا شفاك الله.

    أخيراً هذا قليل من أعراض ضغط الكتابة وسكرها.. وصفتها من إحساس بها.. أحمله منذ خمسة وعشرين عاماً وأدخل به إلى دارتكم ضيفاً لعل ضيافته لم ترفع ضغطاً أو سكراً لأحد.
                  

05-08-2005, 08:25 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    up
                  

05-09-2005, 05:25 AM

nassar elhaj
<anassar elhaj
تاريخ التسجيل: 05-25-2003
مجموع المشاركات: 1129

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    لنقرأ سيرة الكتابة وحياتها هنا
    لك الود يا صبري
                  

05-09-2005, 08:41 AM

nada ali
<anada ali
تاريخ التسجيل: 10-01-2003
مجموع المشاركات: 5258

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    Dear Sabri El Sharif

    I am definitely going to read these two articles, thank you

    Also your brother Samaua'l is a good friend and brother of mine as well. Please send him my regards
    nada mustafa
                  

05-09-2005, 01:03 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    تشكري وانت من المهتمين بسمؤال شعرا وسؤالا من

    بدري انزلت ديوانه الاول وفي سبيل انزال ديوانه

    الثاني تجديه بعنوان ديوان هل للسمؤال محمد الحسن

    الان بمدني يحتسي القهوة يوميا ويزيدها بماء وهذا

    تلفونه 249511844971 وهذا عنواني [email protected]
                  

05-09-2005, 06:32 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    الشكر أجزله لك.. يا صبري!.
                  

05-09-2005, 09:38 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: عبد الحميد البرنس)

    موضوع البوست مهم.
    لكن عنوانه يبدو للناس أكثر تخصصا.
    تحياتي
                  

05-10-2005, 03:35 AM

nada ali
<anada ali
تاريخ التسجيل: 10-01-2003
مجموع المشاركات: 5258

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    Dear Sabri El Shareef,
    many thanks for Samaua'l's phone number, and I look forwards to talking to him on the phone. Aliya Awad al Karim posted his poetry collection 'Hal' either here or in Sudaniyat . and I saw your post as well
    Thank you also for posting your e-mail. by the way
    it is not safe to post your e-mail like that (you can use at instead of @) also I wrote it already so you might want to delete it.

    best regards
    nada
                  

05-10-2005, 04:58 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    اخي عبد الحميد

    لك السلام وانا قريب منك ورينا نصل لصوتك كيف


    فعلا قصدت المهتمين يجو بيجاي لكن مصارعة طواحين

    دون كيشوت لا تترك للناس نفس التنقل بين الرواية


    والموسيقي والشعر اما اصحابنا التشكيليين والنقاد


    فهم علي حواف الارصفة في انتظار سودان جديد /قديم

    عنواني [email protected]
                  

05-10-2005, 05:03 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    كيف حالك

    سعيد بلقياك تاني اول مرة من زمن طال 1996

    سمؤال سوف يسعد باتصالك وانا سوف انقل تحياتك

    كويس وصلتك نسخة وتشكر اختنا عاليه

    نتمني التواصل
                  

05-10-2005, 07:59 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    Quote: تحْضرني الآن ملامح " زولا" وهو يستعد لكتابة رسالته الشهيرة " إني أتّهم " " J`accuse "
    التي وجّهها لرئيس الجمهورية سنة1889، في الدفاع عن الضابط دريفوس Dreyfus الذي اتّهم زوراً بتواطئه مع الألمان والتجسس لصالحهم . أتساءل في ماذا كان يفكّر وهو ينكفئ على ورقة بيضاء كان يعرف جيداً أنها يمكن أن تودي إلى المنفى وربّما الموت؟ ما هي هذه القوة الاستثنائية التي تدفع برجل مثله لأن يذهب نحو الخطر والقلق؟ أعتقد أن الذهاب نحو الحقيقة أو على الأقلّ ما نراه حقيقة هو العامل الحاسم في عملية مثل هذه . الرجال الإستثنائيون وحدهم يذهبون نحو هذه المخاطر . لأنه عندما كان زولا يصرخ بأعلى صوته، كان آخرون في موقع الارتباك، أندري جيد Andre Gide وحتى مارسيل بروست Marcel Proust وغيرهم بقوْا في أفق التساؤل قبل أن تدفعهم الأحداث المتعاقبة للانخراط في البحث عن الحقيقة مثلما فعل زولا قبلهم بسنوات .

    (عدل بواسطة عبد الحميد البرنس on 05-10-2005, 08:03 PM)

                  

05-10-2005, 08:13 PM

Tumadir
<aTumadir
تاريخ التسجيل: 05-23-2002
مجموع المشاركات: 14699

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: عبد الحميد البرنس)

    الاخ صبرى

    فى مدة انقطاعى عنكم واتانى الظرف لاقرأ الكثير من الروايات..

    اهمها المدن المستحيلة لابكر ادم والمترجمة لليلى ابو العلا ولامير تاج السر مرايا ساحلية للمرة الثانية وذاكرة الجسد لا حلام المستغانمى..للمرة الثانية وبعض روايات للطيب صالح من اعماله الكاملة هنا وهناك....للمرة التى لا تحصى.

    الملفت للراواية انها تلفك عند قراءتها بثوب جنونهاوحزنها وفرحها ويصادقك ابطالهابالتحيز لحيرتهم..ويعتقلك ويفرج عنك حوارها الداخلى ومكامنها الواقعة بين السطور ..حتى اننى قررت عمل بوست عند عودتى "او حقيقة بعد عودة البورد بعد الارشفة" بين هجرة مصطفى سعيد وهجرة سمر "الى الشمال" وان اكتب سيناريو المدن المستحيلة للعرض "سينما او مسرح" وكثير من الافكار راودتنى..لان قراءة الرواية هى قراءة حقبة من الزمكان "الزمان والمكان" لا تقاوم... لذا ساعود لقراءتك بتأن وارجو ان يدوم هذا الخيط بعد الارشفة ليتيح لنا كثير من الشجون حول قراءة الرواية..

    لك الشكر على هذا الجهد المعتبر حتى اعود..
                  

05-11-2005, 10:28 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    تماضر

    انا من عشاق ادائك المسرحي قاتل الله الجبهة لانها حرمتك

    من مواصلة ابداعك داخل لكن مهما ليل العتمة طال لابد من

    صباح .


    ايضا انت ومريم ويحي زينتوا /ن غربتنا بمواقفكم وكتاباتكم/ن

    قرات لك مقال تداولناه واصدقائي يعبر عن صدق مشاعرك لوالدتك

    ووالدتنا التي اعطت ارض وسماء وطنا اسرة ساهمت ولا تزال في

    ايجاد الفرح في نفوس الناس تستاهل اكثر مما سطره قلمك

    ارجو ارسال ذلك المقال علي [email protected]


    موضوع الرواية العربية مهم والشعر والرواية افضل ما عندنا

    في ايدلوجيا صراع عروبة اسلام وابكر وامير تاج السر وايضا رواية


    الطواحين لعبد العزيز ساكن بركة , يا ريت لو تداخل هنا النقاد وكتابنا

    الاجلاء

    تماضر يا ريت لو تحصلت علي هذه الروايات

    حدائق الله للصافي سعيد كاتب تونسي

    امريكانلي لصنع الله ابراهيم


    عمارة يعقوبيان لعلا الاسواني



    مدهشات ان وجدتي هذه الروايات جميل واذا وصلت لي ساعيرك لهما

    ولك وللجميع السلام
                  

05-11-2005, 01:09 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    في الوقت الذي كان فيه معظم الروائيين العرب منشغلين في البحث عن صنعات فنية جديدة، ومنغمسين في تجريب أشكال تساير ما وصلت إليه الرواية عالمياً، كان الروائي العربي عبد الرحمن منيف، يضع نصب عينيه قضية الانسان العربي ومصيره في ظل الأوضاع الجديدة، التي دشنتها الطبقة المتوسطة منذ الخمسينات من القرن الماضي في اكثر من قطر عربي. ان التغيير السياسي والاجتماعي وما ادي اليه من اغتراب الانسان في ظل انظمة استبدادية، وفي ظل فقدان الحرية والعدالة الاجتماعية هو الموضوع الرئيس في روايات منيف.

    وفي معظم روايات الكاتب، يتم التغيير الاجتماعي، والتحول من اقتصاد الاكتفاء الذاتي الذي تتسم به النظم الاقطاعية الي اقتصاد السوق، فيؤدي هذا التغيير إلي نشوء انظمة سياسية استبدادية وقهرية، وإلي التوزيع غير العادل للثروة القومية، فيغترب الانسان وينفصل عن الطبيعة وعن المجتمع وعن ذاته. وعلي حين نجد ان اغتراب شخصيات منيف التي تنتمي إلي الطبقات الشعبية المسحوقة، ناجم بالأساس عن تقسيم العمل وما يتطلبه هذا التقسيم من مهارات وتخصص، وما يؤدي إليه من ضمور لامكانات الانسان، نجد ان اغتراب شخصياته من فئة الانتلجلنسيا، لا ينجم عن تقسيم العمل، وما تواجهه رغبات الانسان وغرائزة في ظل الحضارة الحديثة من قمع، بل وينجم اساساً من القمع والارهاب اللذين تمارسهما انظمة استبدادية توليتارية، ترافق عملية التغيير وتنشأ عنها، وتتضح هذه الحقيقة أكثر مما تتضح في رواية الكاتب الأولي، وفي عنوانها الرامز إلي هذا الموضوع "الاشجار واغتيال مرزوق". ان اغتيال مرزوق، المناضل الذي سعي من اجل الثورة والتغيير الاجتماعي، يتم حين تقطع اشجار قرية الطيبة وتتحول من اقتصاد زراعي قائم علي الاكتفاء الذاتي إلي اقتصاد السوق وزراعة القطن بديلاً لأشجار الطيبة. وكما ان عنوان الرواية يقوم علي التشريك الذي يحدثه واو العطف والوصل بين الاشجار وعملية الاغتيال، فان الرواية تقوم علي قصتين وعلي حبكتين تتجاوران معاً. والقصة الأولي هي قصة الانسان البدائي "الياس نخلة" الذي خسر اشجاره في عملية مقامرة، فتشرد بحثاً عن عمل وعن لقمة العيش، في حين تروي القصة الثانية تجربة الاستاذ الجامعي "عبد السلام منصور" الذي يفصل من الجامعة بسبب عدد من التقارير التي يرفعها إلي المسؤولين الجواسيس من طلبته، ليتشرد هو أيضاً بحثاً عن عمل ولينتهي به الامر إلي الجنون وإلي اطلاق الرصاص علي صورته في المرآة، في الفندق الذي يعيش فيه.وفي احدي عربات القطار المتجه نحو الحدود يلتقي البائع الجوال للملابس المستعملة "الياس نخلة" الذي يمتلك رؤية اسطورية للواقع، باستاذ التاريخ المفصول من الجامعة، عبد السلام منصور لقد يذكرنا بلقاء "زوربا" بـ "المعلم" المثقف في رواية كازنتزاكي "زوربا". وعلي حين يروي الياس مأساته بطريقة عفوية، يبدو فيها السرد اقرب إلي التقرير العفوي البسيط، بكل ما فيه من ملامح القص الشعبي، يستعيد منصور مأساته عن طريق تيار الوعي احياناً، وعن طريق الرواية الموضوعية في احيان أخري ولقاء الياس بمنصور هو بمثابة لقاء الماضي بالحاضر، والاسطوري بالواقعي. وفي السرد الاستعادي لقصة منصور تتضح العناصر الاجتماعية والسياسية والثقافية الصانعة لمأساته، فمنصور الذي يحمل في حقيبته مقدمة ابن خلدون وملحمة جلجامش وفكر كارل ماركس، وكتاب ليرمنتوف الجيل الخائب" شبيه ببطل ليرفنتوف في "بطل من هذا الزمان". (فبتشورين) الذي انقضت سنوات حياته بدون عمل والقوي الكبيرة التي يحسها مهدورة في نفسه لا تعمل، ذلك لانه في امبراطورية نيقولا الأول؛ في ذلك العهد الذي طغت فيه رجعية مجنونة، لم يبصرأي هدف، ولم ير أية امكانية للنضال، علي قول الثوري الكبير (هيرتسن).

    ان عبد السلام الذي انتمي إلي حزب اشتراكي في مصر منذ صباه، واسهم في الثورة والتغير الاجتماعي، ولكن حين قامت الثورة كان احد ضحاياها بان فصل من عمله، ومرزوقاً "الانسان الذي ذرع الوطن من الشمال إلي الجنوب من اجل ان يصبحوا حكاماً.. مرزوق الآن ميت. هل له قبر؟ هل دفنه احد" قتل مرزوق علي ايدي الامراء الجدد "لا أحد يدري كيف قتل انه وجد مقتولاً والسلام"!.

    وبفعل كل ذلك انتهي منصور إلي العدمية وانتهي إلي ترديد ابيات ليرفتوف:

    "فراح مبتذل وبليد

    ولعب اخرق بالألفاظ"

    وإذا كان الروائي يلجأ إلي الأساليب الحلمية والكابوسية في كشف اغتراب البطل، بحيث يقترب من رواية (المسخ لكافكا) فان روايته والنهايات" شهدت توجهاً نحو الاسطورة وبدا تأثير ماركيز وروايته مئة عام من العزلة واضحاً في الجوانب الفنية من الرواية.

    ان من أولي المسلمات في الاسطورة والثقافة البدائية، ان يجمع الانسان بين الطبقية والمجتمع في وحدة كونية واحدة، وتعد الوحدة الكاملة بين الانسان والحيوان والنبات والحجر والحياة والموت، وبين الفرد والجماعة فرضاً أولياً في جميع الطقوس السحرية البدائية. وفي اعمال منيف يحدث التغيير فيحطم وحدة الحياة هذه فيغترب الانسان عن الطبيعة وعن نفسه، وفي رواية "النهايات" تدمر الوحدة بين الانسان والحيوان عندما تضطر "الطيبة" بسبب من الجفاف والجدب إلي العودة إلي عصر القنص والصيد، التي تعني العودة إلي الهوة المملوءة بالدم التي كانت تفصل بين الانسان والحيوان، اذ كان الانسان قاتلاً للحيوان برغم انه يري فيه اسلافه وأقاربه. وعساف بطل الرواية يعبر عن هذا المعني بقوله: "ان الانسان في هذه الايام يمتلك روحاً شريرة لا تمتلكها الذئاب او اية حيوانات أخري" ان عسافاً يعيش حالة من الهيستيريا والانجذاب لانه يعيش تلك المفارقة التي كان يعيشها الانسان البدائي الأول، برغم انه لا يصطاد من الحيوان الا ما كان ضرورياً للبقاء والاستمرار علي قيد الحياة. الا ان مأساته هنا شبيهه بمأساة منصور، فهي لا تنفصل عن المشكلة السياسية والاجتماعية، فأصوات اهل الطيبة التي تطالب السلطة بانشاء سده يروي مزارعها ويدرأ الموت عنها، تقابل بالتسويف والمماطلة والكذب من جانب السلطة، في حين تنعم المناطق التي ينتمي إليها الحكام والعسكريون بالماءوالخضرة وتحصل علي ما تريد دون عناء.لقد اصر الضيوف القادمون من المدينة إلي الطيبة ان يصحبهم عساف- رغم احتجاجه- في رحلة للصيد، ويقود الرحلة بدافع اكرام الضيف. الا ان الطبيعة تنفجر بكل قسوتها لتدفنه برمال الطيبة التي فقدت الماء، وتدفنه هو وكلبه الذي عاش معه ومات دفاعاً عنه عندما حاولت الطيور الجارحة نهشه وهو ميت. وفي شخصية عساف تلتقي عدة شخصيات دينية من حواري المسيح كبطرس وأخيه اندراوس اللذين كانا صيادين، بل ان عسافاً يحمل الكثير من ملامح المسيح، ويستحيل موته إلي خلاص لقريته اذ تتحول مراسيم دفنه إلي تظاهرة شعبية عارمة تطالب الحكام باقامة السد، ويفلح الوفد المفاوض للحكومة. في الحصول علي وعد من الحكومة باقامته، في حين يبدأ الاهلون باخراج وتنظيف اسلحتهم وشحنها استعداداً للثورة علي السلطة ان هي لم تفِ بوعدها واستمرت في وعودها الكاذبة. في رواية "شرق المتوسط" ينتقل منيف إلي كتابة الرواية متعددة الاصوات، اذ يقوم ساردان اثنان هما رجب واخته انيسة بسرد احداث الرواية بالتناوب. والرواية التي قدم لها المؤلف بمواد من الاعلان العالمي لحقوق الانسان. اختتمها بكلمة علي الغلاف الاخير ينبه فيها الي ما يحدث في الأرض الممتدة إلي ما لا نهاية من شواطئ البحر المتوسط وحتي الصحراء البعيدة، وكأني بالكاتب يسوق نبوءة بما يحدث لانسان هذه المنطقة اليوم من احتلال وتدمير وقتل، حين يصرح بانه يريد ان تكون روايته "صرخة في جو الصمت.. في الوقت الذي تبدو في الافق غيوم سود كثيرة زاحفة لعل شيئاً يحدث قبل ان يدمر الانسان في هذه المنطقة ويصبح مشوهاً ولا يمكن انقاذه".ورجب اسماعيل بطل الرواية يسجن ويعذب لاسباب سياسية، مما يؤدي إلي موت امه وسقوط صديقته (هدي) التي تتزوج من رجل غيره وهو داخل السجن. وبعد خروجه من السجن يسافر إلي فرنسا لغرض العلاج من روماتيزم الدم الذي اصيب فيه وهو في السجن، ثم يسافر إلي جنيف لتقديم شكوي إلي منظمة الصليب الأحمر ضد جلاديه. الا ان السلطات تساومه وهو خارج البلد ليسجل لها اخبار الطلبة من بلده في فرنسا، وتزج (بحامد) زوج اخته انيسة رهينة في السجن حتي عودته، فيضطر للعودة ويعتقل ثانية، وينتهي به الامر كما انتهي مع مرزوق. لقد وجدوه علي عتبة داره وهو في حالة من الانهيار الجسماني، بحيث يفارق الحياة بعد اربعة ايام من خروجه من السجن.

    ان (نوري) قائد حملات التعذيب في السجن شبيه بـ "ايوردان" في رواية كونستانتان جيورجيو" الساعة الخامسة والعشرون" فهو يطلق علي حملات التعذيب تسمية الحفلات في الوقت الذي يطعم طيوره بيديه ويقف طويلاً ليتأملها وهو فرح بحركتها.وفي شرق المتوسط تعود فكرة "الجيل الخائب" إلي الظهور ولكن بشكل رمزي، اذ يخيب امل امرأة فرنسية برجب بعدما تطلب اليه ان يروي شبقها، فيجيئها جوابه: "انا لست رجلاً" وهو يصف الأوضاع في بلده بصورة قاتمة ومرعبة حين يقول للمرأة الفرنسية: "الانسان في بلادنا ارخص الاشياء، اعقاب السجائر أغلي منه. آه لو تنظرين في مقر سرداب من آلاف السراديب المنشورة علي شاطئ المتوسط... ماذا ترين؟ بقايا بشر ولهاثاً وانتظاراًيائساً. وماذا أيضاً؟ وجوه الجلادين الممتلئة عافية وثقة بالنفس".

    وفكرة الجيل الخائب تعاود الظهور في قصة الكاتب المجازية "حين تركنا الجسر" وبطل الرواية (زكي نداوي) يقصد منطقة خاصة باصطياد الطيور بهدف اصطياد (ملكة الطيور) ولكنه وبعد جهد يصطاد طائراً يكتشف انه "اقبح بومة تراها العين" ويقوم النداوي عبر حواره مع نفسه ومع الكلب الذي يصحبه بعملية جلد للذات كبيرة جداً. ومن الواضح ان الكاتب يكني بالجسر عن فلسطين، وان احداث الرواية كلها كناية عن هزيمة حزيران المرة عام 1967.

    في خماسية (مدن الملح) المكان أيضاً افتراضي، وكذلك الزمان، كما هو الأمر في روايات منيف الأولي، لكن من الواضح علي احداث الرواية، انها تتناول الاحداث التي جرت في الجزيرة العربية بعد اكتشاف الثروة النفطية وما ادي إليه هذا الاكتشاف من احداث تبدأ بوفود الشركات الغربية للتنقيب عن النفط، والصراع الذي نشأ بين الاهالي وبين هذه الشركات التي رأي فيها اهل المنطقة استعماراً لأرضهم وابار مياههم القليلة.والكاتب يطور ادواته الفنية في الخماسية ليصل إلي كتابة الرواية الملحمية، ويكرس استخدامه للاسطورة النابعة من ميثولوجيا شعوب المنطقة ومعتقداتها. في رواية (شرق المتوسط) يصف رجب اسماعيل نوع الرواية التي يريد كتابتها فيقول لشقيقته انيسة "أريدها ان تكون جديدة بكل شيء، ان يكتبها اكثر من واحد، وفيها أكثر من مستوي، وان تتحدث عن امور مهمة والافضل مزعجة، وأخيراً ان لا يكون لها زمن"وبرغم اننا لا نجد لاحداث رواياته زمناً تاريخياً، فان هذه الازمنة واضحة من السياق ويدركها القارئ، كما يدرك المكان، الافتراضي (الطيبة) علي ان الارض العربية كلها. كان الراحل عبد الرحمن منيف، مثال الفنان والأديب الملتزم بقضايا شعبه وامته الانسانية. لقد وضع امام عينيه وتناول في اعماله اكثر المسائل نبلاً في أيامنا هذه، ولعل احداً من الروائيين العرب لم يفلح في الكشف عن فساد الطبقة الحاكمة في الوطن العربي، وجشع هذه الطبقة وانانيتها ولا اخلاقيتها، كما افلح الروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف.

                  

05-12-2005, 11:01 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    الغيطاني يؤرخ جزءا من حياته في "نثار المحو"


    جمال الغيطاني

    لم يشأ الروائي المصري جمال الغيطاني أن يطلق على عمله الجديد "نثار المحو" رواية أو مجموعة قصصية وهو أمر درج عليه منذ سنوات تاركا لقارئه حرية تصنيف الكتاب وفقا لطريقته في استقباله وحقه في تأويله.

    لكن القارئ لهذا العمل لن يجد الكثير من المشقة ليتلمس الشخصي والخاص تحت غلالة شفافة من السرد المشحون ببعض الشجن.

    وفي نهاية "نثار المحو" التي صدرت عن دار الشروق بالقاهرة في 397 صفحة إشارة إلى أنها كتبت بين عامي 2003 و2004 حيث يدنو المؤلف من سن الستين وكأنه بوغت بالأمر فيجدها فرصة لإنعاش ذاكرته باستعادة ذكريات روائية عن أماكن أحبها وبشر قابلهم وزمن لا يعرف فلسفته.

    وعلى غلاف الكتاب وفوق عنوانه سجل المؤلف أن عمله هو الدفتر الخامس مما أطلق عليه دفاتر التدوين التي صدر منها أربعة في السنوات الماضية.

    ويبدو البطل مشغولا بفكرة الزمن وفي الصفحات الأولى زخم من الإشارات والتساؤلات عن فلسفة الزمن بتكرار كل ما يدل عليه من ألفاظ منها "الوقت. الزمن. الأيام. الشهور. السنوات. الثواني. الدقائق. اللحيظات، الفاصلة. مرور الأوقات. الشذيرات" إضافة إلى أسئلة يرددها الغيطاني منذ أكثر من ربع قرن في أحاديثه ومقالاته تتلخص في سؤال يبدو بسيطا هو "أين ذهب أمس".

    ويسجل الراوي بضمير المتكلم أنه مارس عددا من الأعمال بدءا من تصميم السجاد إلى الصحافة، "لم يكن العمل بالنسبة لي إلا وسيلة لتوفير أسباب الحياة"، ومارس المؤلف هذه الأعمال حيث يتماهى في كثير من الأحيان مع البطل الذي يفاجأ بأنه على مشارف الستين.

    ويجدها بطل الرواية فرصة لمراجعة سنوات عمره والتصالح مع فكرة تسرب الزمن إذ "يبلغني التمام فجأة".

    وإذا كان التمام في كثير من الأمور يعني الاكتمال واقتراب الغايات فإنه مع بطل "نثار المحو" يفيد التحرر والانجاز وإتمام الرسالة وبعض الطمأنينة المستمدة من التراث الفرعوني الذي لا يرى في الموت مجرد عدم، بل طورا إلى الحياة الأبدية. ومن هنا تأتي عمق دلالة العنوان الحقيقي لكتاب الموتى الفرعوني وهو "الخروج إلى النهار".


    ويقول الراوي انه "مع دنو التمام يختزل كل شيء. تتكثف الأزمنة في نثيرات تشهب بي تفوتني ولا تمكث، ذلك نثاري، ما تبقى عندي لا يعني إلا نثاري أصداء رغبة. خوف. توق. حزن. اشتياق. ظلال غير مدركة لندى تكون على خبايا الروح أفقي العميق مزدحم بأنات لم تسمع".

    وبإمكان القارئ أن يعيد ترتيب "نثار المحو" أو يقرأها من أي موضع حيث يتخذ السرد شكلا دائريا غير متصاعد باعتبار الدائرة أكثر الأشكال الهندسية اكتمالا، وهنا سيصل إلى ما يشبه اليقين بأن هذا العنوان مراوغ ومقصود بدقة ليفيد شيئا آخر، هو نثار ما احتفظت به الذاكرة لتقاوم به رعب فكرة العدم والفناء والرحيل.

    وللغيطاني عشرات الأعمال التي جرب فيها كثيرا من فنون الكتابة وأشهرها روايته الأولى "الزيني بركات" التي كتبها وهو دون


    الخامسة والعشرين وترجمت إلى أكثر من لغة وصدرت ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة بمقدمة للمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد.
                  

05-12-2005, 11:14 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    مقاربات بين الكتابة والديمقراطية

    عدنان الصائغ


    1
    حوار المسدس


    · أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين

    - القرآن الكريم -

    · اني لا أحول بين الناس وألسنتهم مالم يحولوا بيننا وبين السلطان.

    معاوية بن أبي سفيان - الأمامة والسياسة -

    · الألسن التي نتكلم بها مختلفة أما الألسن التي في أفواهنا فواحدة.

    - رسول حمزاتوف -

    · الصحفي البريطاني يتدرب منذ نعومة أظفاره على الاستماع الى طرفي أو أطراف النزاع أما الصحفي العربي فيعيش على تقاليد داحس والغبراء، فأما داحسي وأما غبراوي.

    - فالح عبد الجبار -



    ما الجدوى أن أحاورك بالكلمة .. فتحاورني بالمسدس.. فلا حواري يصل إليك، ولا مسدسك يترك لي فرصة أن أتكلم أو فرصة أن تفهم، وبالتالي فكل كلام تحت قوس المسدس يبقى كلاماً خارج قوس الحوار.

    ثمة أوطان تتحاور بالدبابات وثمة كتاب يتحاورون بالتقارير الأمنية والخناجر، لكن غالباً ما ينتهي بهم الأمر إلى الفجيعة: أوطاناً أو نصوصاً..

    فحوار الطلقة يولّد مزيداً من الطلقات والأحقاد والجهل والجثث .. وحوار التقارير الأمنية يولد مزيداً من السجون والمعتقلين .. وكل هذا يبقى خارج قوس التأريخ .. ذلك أن الأمم لا ترتقي إلا بحضارتها، وحضاراتها لا تتكون إلا برقي ثقافاتها، وثقافاتها لا تأتي إلا من عصارة فكرها، وفكرها لا يأتي إلاّ من حوارها مع الذات والآخر.

    أن العصر الذهبي الذي مر بالأمة العربية لم يكن عصراً ذهبياً لو لم تولد فيه مختلف التيارات الفكرية والدينية والسياسية، وتنشب فيه معارك المعتزلة والخوارج والشيعة والسنة والأباضية والمرتجئة والجبرية والقدرية .. والخ .. والخ.

    لم يكن عصراً ذهبياً - رغم نواعير الدم - لو لم تفتح دار الحكمة أبوابها لأرسطو وأفلاطون وأبيقراط والسفسطائيين وزرادشت .. والخ .. والخ.

    فنشأ مبدأ الحوار بين الكلمة والكلمة والفكرة والفكرة والمعتقد والمعتقد، ورغم بعض حوارات السكين التي سجلها التاريخ، لكنها تبقى – بالقياس إلى حوارنا المعاصر – عصراً ذهبياً، يستطيع فيه رجلاً مثل سعيد بن المسيب أن يقول أمام الملاً: "إذا رأيتم العالم يغشي الأمراء فاحذروا منه فأنه لص" ثم ينزل من المنبر ماشياً إلى بيته مطمئناً، هادئ البال، دون أن يفكر بأن ثمة مسدساً كاتماً للصوت في انتظاره.

    غير أن عصرنا لم يعد يتسع لسعيد بن المسيب .. ولا صدور مثقفينا تتسع للحوار، ذلك أن المسدس أسس بنيته الخاصة به حواراً وفكراً ومريدين ومصفقين ومثقفين مهزوزين يتمايلون كالقصب أمام الريح ..

    مرة صرخ الكاتب التركي الساخر عزيز نيسين قائلاً: "آه .. منا نحن المثقفين الجبناء" لم يقل ذلك إلا حين أدرك خطورة انهزام المثقف قبل خطورة انهزام السياسي .. فالمثقف يقود وعي الأمة، وهو حين يرتد أو يجبن أو ينهزم فأن ذلك معناه اهتزاز الأمة وسقوطها.. فحضارات الأمم تقوم على وعيها وفكرها وليس على سيفها ورمحها، فقد ينبو السيف وقد تكبو الخيل، فيكون ذلك خسارة معركة، ليس غير، فإذا ظل الوعي متحفزاً وناهضاً، فسرعان ما تستعيد الأمة خسائرها غير أن انكفاء الوعي قد يسبب خسارة أمة وتدهور حضارة لن تُسترد بالسيف أو المال. فالتاريخ كثيراً ما يحدثنا عن آلاف المعارك التي حدثت على ظهر البسيطة بين غالب ومغلوب وهي كلها تنصب في مضمار الصراع حول المال والنساء والأرض والسلطة، غير أن معارك الفكر حفرت نفسها على صفحات التاريخ وتغلغلت في وعي الأمم ووجدانها ، وكانت هي المسار الذي شق للإنسانية طريقاً نحو التقدم والتطور والازدهار.

    وكان فرسان الفكر كثيراً ما يسقطون مضرجين بدمائهم قرباناً لحرية الرأي والمعتقد، فيكونون كالشعل المتوهجة في الظلام ينيرون للأجيال دربها الطويل.

    أما جبناء الفكر الذين كانوا ينهزمون من أول الشوط فهم السبب وراء عصور الظلام التي مرت بها أمتهم، فهم غالباً ما ينكفئون على أعقابهم نتيجة الخوف، فيزورون التاريخ ويشوهون الحقيقة ويضللون الشعوب. وهم لا يقلون خطورة عن سماسرة الفكر وتجار الكلمة لذلك جاءت صرخة عزيز نيسين لتهز نواقيس الخطر في زمن السبات وخنوع المثقفين لرؤسائهم.

    وهذا هو ما يولده المسدس بين الثقافي والسياسي على مر العصور مسوخاً أو جبناء أو شهداء أو صامتين أو منفيين …

    * * *

    2

    المثقف والاغتيال 1



    · يمكن لدباباتكم أن تدخل أي مكان

    ولكنها لن تستطيع أن تحتل أغنيتي

    - بابلو نيرودا -

    - وهي القصيدة التي غناها "فكتور جارا" قبل أن يغتاله رصاص الفاشية ايضاً -

    · الحرية هي روح الدين.

    - الكواكبي -

    · أن أحد السمات العليا للشعر في القرن العشرين أنه وقف ضد الأنظمة.

    - شيماس هيني -



    الذي قتل لوركا لم يكن سوى شاعر فاشل أغاظه النجاح الباهر الذي حققه شاعر القيثارات الغجرية فوشى به إلى فرانكو …

    وهكذا افترق الشاعران: ذهب الأول إلى النسيان، وضاع تحت أحذية السلطة، فلم يعد يذكره أحد إلا إشارة ذميمة إلى عار المثقف الذي يرتضي لنفسه أن يتحول إلى تقرير أو ممسحة أو مسدس …

    وذهب الثاني مفتوح العينين يتطلع إلى القمر وهو يمشي هادئاً بين فرقة رجال الإعدام الذين أطلقوا عليه الرصاص فخمد جسده النحيل لكن روحه بقيت وهاجة ترتل أغانيه تحت أقمار العالم وبين أشجار الغابات، وظل صوته خالداً على شفاه الأجيال لا يستطيع إخماده كل رصاص القتلة …

    ولم يكن ينتبه جنرالاتنا لخبايا القصائد لولا ما تبرع به هؤلاء الفاشلون بكتابة التقارير التي تشرح لهم ما خفي من معاني النص وتأويلاته وتحريضاته …

    وحين أدرك المسؤولون في بلادنا أهمية هؤلاء بدأوا في تقريبهم ومنحهم الهبات والمناصب وتعيينهم عيوناً حارسة في الشارع الثقافي وآذاناً سرية تسترق السمع لخلجات روح المثقف وحواره الداخلي بالإضافة إلى تعيينهم رقباء على الأجهزة الثقافية ودوائر المطبوعات …

    والأدباء الفاشلون أنواع وليس كلهم من هذا الصنف، منهم من يؤمن بقدره الذاتي فيوصد دكانه الأدبي ويروح يفتش له عن مهنة أخرى أكثر راحة وربحاً من هذه المهنة الشاقة التي لا يجني الكاتب منها في بلادنا سوى وجع الرأس والمخاطر …

    وهذا النوع من الأدباء يمكن أن يبقى صديقاً حميماً للأدباء يتابع أخبارهم بين آونة وأخرى يبرحه الحنين فيقترب وتحبطه المشاكل أو تلهيه المشاغل فيبتعد، وهو بين هذا وذاك يبقى على الهامش دائماً متذكراً أمجاده الغابرة أو فتوحاته الوهمية، راضياً بذلك أو يحاول إقناعك برضاه، معيداً إليك صدى بيت امرئ القيس الشهير:

    لقد طوفت بالآفاق حتى

    رضيت من الغنيمة بالإياب

    لكن بمعنى مقلوب

    ولا ضرر أن تأخذه العزة بالإياب، فيصرح لمن حوله إنه لو أستمر في الكتابة لقلب دنيا الأدب، رأساً على عقب … وحين يسمع ببروز أديب من أبناء جيله لا يتردد عن الترديد بأن هذا الأديب كان تلميذاً له يصحح أخطاءه اللغوية وأنه كان يعلمه كيف يكتب …

    وأذكر مرة إنني وصديقي الشاعر عبد الرزاق الربيعي كنا في زيارة أحد الفنانين المسرحيين واكتشفنا بعد أن خرجنا من بيته أنه لم يعرض لنا سوى البومات صوره القديمة مع كبار الفنانين الذين كانوا من قبل زملاءه بل كان هو أفضل منهم في بداية الرحلة. لقد تجمدت ذاكرته تماماً على الماضي فكلما حاولنا أن نجره إلى الحاضر، إلى الحديث عن أعماله الجديدة، إلى مشاريعه المستقبلية غافلنا وحمل لنا صور الماضي .. فأدركنا إن الرجل نفدت بضاعته، وفعلاً كان ذلك حيث ظل أسيراً لماضيه لا يقدم شيئاً حتى تناساه الناس وضاع في زوايا النسيان إلى الأبد…

    وأذكر أدباءً آخرين كلما سألتهم عن أسباب توقفهم عن الكتابة أجابوك بأنهم انسحبوا عن عالم الكتابة تأففاً، أو ترفعاً، أو تأجيلاً مشروطاً بتغير الظروف، أو عدم قناعة بالوسط الثقافي وبما يكتب وينشر، والخ من العلل والأسباب التي لو لم تكن هي لأوجدوا غيرها، فما أسهل التبرير وما أشق الرحلة وهذه الادعاءات وغيرها ليس لها من جانب ضرري إلا على صاحبها وفي إطار ضيق جداً، لكن الأكثر إيذاءً وقسوة يكمن حين يتحول هذا الفشل إلى حقد أعمى يطال المبدعين ويوزع عليهم تهمه وشتائمه وعقده، فما أن يسمع الأديب الفاشل بنجاح أديب أو اشتهار كتاب أو فوز مبدع حتى يرتجف هلعاً ويروح ينفث سمومه في زوايا المقاهي وأروقة المؤسسات متبرعاً بالنقد والتشهير وكيل الشتائم وإلصاق الصفات المجانية وحياكة المؤامرات وغيرها… ربما لاعتقاده الباطني إن هذا المبدع قد أخذ فرصته، وأنتزع الأضواء عنه، بينما الحقيقة إن هذا النجاح الذي استفزه والذي حققه زميله مثلاً ما كان ليستفزه إلاّ لأنه كشف لنفسه أو للآخرين فشله وكسله، وكان يمكن لو أراد، أن يكون له ذلك حافزاً خلاقاً لتحريضه على المنافسة الإبداعية الشريفة وبذل الجهد والسعي إلى التجاوز … ولو كلن قد أبعد نفسه ووقته عن سفاسف الأمور وبذل على عمله الإبداعي ما بذل من ذلك الوقت والجهد لكان يمكن أن يقدم شيئاً يغنيه…

    ويمكن أيضاً أن يبقى هذا الأمر رغم خطورته محصوراً على نطاق الإيذاء الثقافي أو الاجتماعي في التشويه أو التهميش غير إن خطورته المميتة تكمن حين يمتد في أحيان كثيرة إلى نطاق الكيد السياسي ويتجاوزه إلى السجن والنفي والتصفية والاغتيال…

    فإذا كان سانت بوف في معرض حديثه عن شاتوبريان يذكر قائلاً: "لقد كنت أرتعش حين أرى شعراء حقيقيين ينصرفون للعمل السياسي" فما سيقوله أمام غير الحقيقيين، فهو قد يتحسر على ضياع الموهبة في دهاليز السياسة ومكاتبها وتحويلها إلى دكان صغير ناطق باسم هذا الحزب أو ذاك حيث يمكن بعدها أن يغريه الأمر ليصبح بوقاً مدوّياً، رغم عدم انطباق هذا الأمر على الكثيرين، غير أن هذه السهولة ستغري غير الحقيقيين فهم بالإضافة إلى نشوئهم بالأساس كأبواق أو أجهزة استنساخ أو آلات محركة يمكن بقليل من الرشاوي أو الضغط من قبل السلطة أن يتسع نطاق عملهم ليشمل كتابة التقارير عن الأدباء بدل القصائد والقصص وملاحقة المبدعين المعارضين في الداخل والخارج والمساهمة في تصفيتهم…

    يقول الشاعر بلند الحيدري: "لستُ مع الشاعر الذي توظفه السياسة في جهد شعري مسطح وكأنه مقال سياسي، وأنا أخاف على الشعر وقيمته من هؤلاء …"

    لكن الخوف اليوم لم يعد على الشعر فحسب بل تعداه إلى الخوف على الشعراء الحقيقيين أنفسهم من بعض كتبة الشعر …

    * * *

    المثقف والاغتيال 2


    · كلما كانت الحرية أقل كان الإنسان أقل.

    - همنغواي -

    · كنا نعرف الرقيب ونتحايل عليه، ولكن الجديد في الكتابة اليوم أننا لم نعد نعرف من يراقب من، وما هي المقاييس الجديدة في الكتابة.

    - أحلام مستغانمي -

    - في ملتقى عمان للكتاب 1998 -



    لقد عاش تولستوي حرب القوقاز فيما بين عامي 1851 و 1853 كموظف حكومي وضابط مدفعية. لكنه هل كان حقاً ضابط مدفعية ملزم بواجبه الرئيسي بالقتل أم كان روائياً عملاقاً سجل بدقة ومهارة عذابات الإنسان وفواجعه في الحروب والتي أوحت له بواحدة من أروع الروايات في تاريخ الأدب العالمي إلا وهي "الحرب والسلام" وكان يحاول في كتاباته إصلاح المجتمع عن طريق العدل والمحبة وعدم العنف والظلم ..

    لم يكن تولستوي بالطبع وحده الضابط والكاتب الذي شهد الحرب لكنه كان الأصدق والأجرأ إبداعاً في التعبير والأكثر التصاقاً بالنبض الإنساني بل وكان يتساءل مثلنا: "كيف يحدث ألا يدرك بعض الكتاب المعارضين أن الشرط الأولي والضروري الذي لا بد لأي عمل إبداعي هو مدى تفهم الفنان وحساسيته" ...

    أن الكاتب ما هو إلاّ " شاهد على ما يحدث في وطنه" كما تذهب إلى ذلك الكاتبة نادين جورديمر الحائزة على جائزة نوبل للآداب عام 1991 ، فبمقدار ما يكون الكاتب أصيلاً وواعياً ومبدعاً تكون شهادته أكثر تعبيراً ونصه أكثر قيمة وبالتالي فهو منحاز دائماً للإنسانية وللحرية في وطنه وفي كل مكان في العالم وهو لا يفتح عينيه على بعض الحقائق التي تخدم مصلحته ويغمض عينيه عن الأخرى مثلما يحدث لبعض الكتاب الذين فروا من أنظمتهم القمعية والتجأوا إلى أنظمة قمعية أخرى أقل أو أكثر، فسكتوا عما يحدث في داخلها وأوصدوا آذانهم عن سماع شكوى زملائهم في الكتابة وتأوهات الناس السرية، خوفاً على مصالحهم واستقرارهم .. أن النضال ضد القمع والدكتاتورية واحد لا يتجزأ ..

    هنا يجب التفريق من جانب الظرف التاريخي والموضوعي والحياتي بين أديب تضعه الظروف في مواقع لا يرغب فيه وبين آخر يندفع أليه راغباً ومؤمناً ومصفقاً. ومن جانب الوعي والمسؤولية بين من يكتفي بالمشاهدة السلبية (تأييد القمع) أو الحيادية، والكتابة وفق منظورهما، وبين من يكتوي بالمشهد (داخله أو خارجه) ويمارس التحريض بمستوياته النضالية المختلفة وطرقه الفنية المتعددة في الكتابة السرية لتوثيق المرحلة التي يعيشها إبداعاً، حين لا يتمكن من نشرها في وقتها خوفاً من بطش النظام به أو بأفراد عائلته، أو في تسريب نصوصه السرية داخل دوائر معينة قد تضيق أو تتسع أحياناً، أو مراوغة الرقيب في ممارسة الكتابة المبطنة التي تحتمل التأويلات المتعددة والتي يمكن للكاتب الذكي أن يمرقها من خلال مقصات الرقابة لتصل إلى قلب القارئ ووعيه وتحمل أليه ما يريد أن يقوله .. وقد فعل سارتر ذلك في مسرحيته التي قدمت على المسارح أثناء الاحتلال النازي، وقبله فعل المتنبي ذلك حين مدح كافور الاخشيدي (ظاهرياً) بينما كان يهجوه (باطنياً) في مطلع قصيدته الشهيرة:

    كفا بك داءً أن ترى الموت شافياً

    وحسب المنايا أنْ يكنَّ أمانيا

    ومثلما يفعل الآن الكثير من أدبائنا الملتصقين بهموم شعبهم وإبداعهم والذين يعيشون ويكتبون داخل مناخات الإرهاب في الأنظمة الشمولية..

    وحين نضع كل هذه الشروط القاسية التي يعيشها المبدع داخل تلك الأجواء الكابوسية علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار ازدياد فطنه الرقيب وخبثه وقسوته وتفننه في قراءة التأويل وتفسيره لذا فان كفتي ميزان المراوغة بينهما – أي بين الكاتب ورقيبه – قد تميل إلى هذا الطرف أو ذاك ..

    وأتذكر الشاعر معين بسيسو وهو يقول:

    "على سحابة

    كتبتُ يوماً تسقط الرقابة

    فصادروا السماء .."

    لقد ذكر ستورياس في حديثه عن ناظم حكمت قائلاً: "كان رجلاً يجابه بالشعر برابرة كل زمان .." هذه المجابهة المدهشة هي شد حبل بين طرفين غير متكافئين ربما على مستوى الأداة: الكاتب بجلده العاري وقلمه وقرائه، والسلطة بكل أجهزتها المعروفة وغير المعروفة. غير أنها تؤكد على فعل الكلمة وموقعها في التصدي والمجابهة وقد روى حكمت ذات يوم لصديقه بابلو نيرودا كيف وضعه رجال السلطة الفاشية داخل المرحاض لعله يضعف أو يستكين لكنه حين أحسس بعيونهم بدأ ينتصر على وهنه الجسدي بالغناء .. بدأ يغني بصوت خافت ضعيف ثم علا غناؤه واشتد شيئاً فشيئاً حتى غطى على كل شيء .. فيكتب له نيرودا: "انك بهذا قد أجبت عنا جميعاً" .. فبين الغناء والبرابرة تكمن قوة الشاعر على التحدي والإجابة على أسئلة العصر .. وهذا يتطلب حتماً مواجهة العاصفة بعيون مفتوحة، "أن المتاعب سكاكين – هكذا تقول مدام دي ستيل – أما أن نقطع بها أو نتركها تقطعنا .. ونحن وحدنا الذين نستطيع أن نستخدمها لصالحنا إذا تعلمنا كيف نمسك بها من يديها لا من نصلها.." لكننا في المقابل ونحن نقيّم تجارب من ظلوا في الداخل يمسكون بالسكاكين أن نتفحص النتاج الشامل لهذا الأديب أو ذاك ونرى هل ينصب إبداعه وعمله الثقافي في خدمة النظام الجائر أم كان محرضاً ومشاكساً أم ظل محايداً ...

    وقد يقول قائل: ولماذا وجع الرأس هذا كله ومناطحة الجبل، لماذا لا ينكفيء الأديب إلى داخل ذاته وينعزل في بيته وينقطع عن المشهد العام حين يكون المناخ الثقافي – السياسي موبوءاً وبذلك يكون بعيداً عن الأضواء التي تغري السلطة به وتعرضه إلى المشاكل وهذا الرأي على صوابه أحياناً يقودنا إلى مغزى ما ذهب أليه برخت: " لا حاجة إلى هذه الفضائل في بلد طيب .. نستطيع أن نكون جميعاً جبناء ونستريح" ، ومنه يقودنا إلى صرخة الكاتب التركي عزيز نسين: "آه منا نحن المثقفين الجبناء" ، ومنه يقودنا إلى جدوى الكتابة ذاتها ودور المثقف في أحداث عصره، ومنها إلى أهمية أن يكون الكاتب داخل الحدث أم خارجه، متفرجاً من نافذة غرفته إلى حركة الشارع مكتفياً بسلامته الخاصة، أم زاجاً بنفسه وقلمه وروحه في آتون الفعل الجماهيري، معرضاً حاله إلى ما يتعرض له الناس في حياتهم اليومية ..



    * * *

    3
    هجرة القطيع


    · قالت مصلحة الضرائب أن مصر التي يبلغ عدد سكانها 62 مليون نسمة فيها من الراقصات ما يعادل راقصة لكل خمسة آلاف مصري.

    - مجلة الرأي الآخر – لندن 15/7/1999 -

    · كان أبواه يؤديان رسالة دينية وهما مستغرقان في صنع الأطفال تحت شعار محمدي "تناسلوا إني مباهٍ بكم الأمم".

    - حسن بن عثمان -

    - من رواية "بروموسبور" -



    سُئل زكريا تامر: ما هو إحساسك بعد موت؟

    أجاب: أحس بفرح عظيم ونوع من الشماتة لأن القطيع العربي المحكوم نقص واحداً!

    هذه السخرية المرةّ التي أطلقها صاحب "النمور في اليوم العاشر" تكشف عما يدور في دواخلنا فمنذ أن فتحنا عيوننا على الدنيا وجدنا أنفسنا مربوطين إلى حبل مشنقة، وليس إلى بطون أمهاتنا كما يعبر عن ذلك محمد الماغوط، صارخاً من قاع البؤس واللامبالاة: "لا شيء يربطني بهذه الأرض، سوى الحذاء".

    مَنْ زرع في داخلنا هذا الإحساس بالهزيمة كما يُزرع العاقول والشوك والصبار، مَنْ ألقى بظلال الكوابيس على أجفاننا وهي تحلم في الليل، ومَنْ لوّن المشهد اليومي بالألوان الكابية كلما فتحنا عيوننا ونوافذنا على الصباح..

    ما الذي يجعلنا نعيش في أوطاننا تحت وطأة التهديد، يراودنا إحساسٌ دائم بأن ثمة كاتم صوت يترقبنا في المنعطفات، وثمة مخبراً قميئاً يتنصت على أحاديثنا وهمساتنا خلف الجدران، وثمة ورقة استدعاء أو حضيرة مداهمة تنتظرنا كلما عدنا إلى بيوتنا.

    لماذا لا نحسّ بالأرض إلا حين نغادرها، وبالأصدقاء إلا حين نفارقهم، وبالسنوات إلا بعد أن تتساقط أسناننا من المرارة وفقر الدم ومضغ الأوهام.

    ولماذا لمْ نذقْ حنان الوطن وطمأنينته إلا بعد أن نضع رؤوسنا المتعبة على وسادة المنفى، لكي نحلم به من جديد.. ونبكي عليه وعلينا...

    وأتذكر الشاعر الصيني المنفي وانغ وي الذي عاش تحت حكم التانغ 701-761 وهو يطل من نافذة منفاه هاتفاً:

    "أنتم يا من تأتون من وطني..

    تعرفون ولا شك عنه أشياءً شتى

    لدى رحيلكم، هل كمثرى الشتاء

    أمام نافذتي أثمرتْ..؟"

    ها أنا أنظر من النافذة إلى أشجار السرخس السويدية العالية التي تظل البحيرة الهادئة وقد كساها الثلج والظلام ملتبسين معاً، في التدرج الخفي بين الضوء والعتمة، سارحاً بعيوني في هذه السماء الخفيضة وهي تندف قطنها على الشوارع والأغصان وقرميد البيوت، آه، يا لهذه السماء الساكنة التي لم تمر في أديمها قذيفة مدفع منذ أكثر من مائتي سنة، ولم تعكر صفاءها تلك الحشرجات الحبيسة التي اكتضتْ في صدورنا هنالك وهي تتصاعد من أعماق الزنازين والبيوت الحزينة الخالية وسواتر الحروب.

    أهيم بنظراتي إلى البعيد ثم أعود فألقيها كسيرةً على طاولتي فترتد أمام نشرة صغيرة بنصف صفحة، مفتوحة الفم كجرح فاغر، كنتُ طيلة النهار اقرأها وأعيد قراءتها وكأنها رواية لا تنتهي، تلك النشرة كانت تنزف أمامي مشيرة إلى حجم استنزافنا من خلال الأرقام التي أعدتها جامعة الدول العربية عن هجرة العقول العربية إلى الغرب حين كشفت في تقريرها عن هجرة 1085 عالم ذرة وطبيعة، منها 200 عالم ذرة مصري وخروج 470 ألف من حملة شهادات الدكتوراه والماجستير والمؤهلات العلمية الأخرى، وأرجح التقرير ذلك لأسباب اقتصادية وسياسية وأوضح كذلك أن الدول الغربية حصلت نتيجة عمل بعض العقول المهاجرة ونجاحها على بلايين الدولارات، فقد حصلتْ الولايات المتحدة على أرباح صافية من الكفاءات العلمية التي هاجرتْ إليها خلال أعوام 1961 – 1972 تُقدّر بنحو 30.8 بليون دولاراً، وهو يمثل 50% من قيمة المساعدات التي تقدمها للدول النامية، أما كندا فقد حصلت على أرباح تُقّدر بعشرة بلايين دولاراً وهي تمثل 27.2% من قيمة مساعداتها للبلدان النامية، وبريطانيا على مبلغ 3.5 بليون دولاراً أي ما يعادل 56% من قيمة مساعداتها للدول النامية والمنظمات الإنسانية، وقد حذر التقرير من النتائج الكارثية لاستمرار ظاهرة هجرة العقول العربية وطالب بضرورة وضع دراسات حول أسبابها والحد من انتشارها مستقبلاً..

    وكنت أتمنى لو امتدتْ كشوفات أرقام التقرير لتغطي سنوات ما بعد 1972 وحتى الآن، لربما أصبنا بالذعر حقاً، ولربما سمعنا قهقهة حكامنا وهم يسخرون من مخاوفنا على هذا الطفح الفكري الذي تخلصوا منه أخيراً ليبقى لهم القطيع والعرش..

    وأرى من بعيد مظفر النواّب وهو يشدُّ على يدي في مقهى المودكا ببيروت مودعاً قبل سفري بأيام – أنا الجديد على المنفى أمام رجل ضيّع نصف عمره على أرصفة المنافي – كان يتحدث أمامنا، صديقي الفنان المسرحي باسم قهار وأنا، بخبرةٍ وهدوءٍ عن جالياتنا المتناثرة على قارات العالم التي رآها في رحلاته الشعرية الطويلة وكأنه يردد مقولته الشهيرة: "لا أظن أرضاً رُويتْ بالدم والشمس كأرض بلادي" وفي عينيه الغائمتين تلوح المدن والسجون والمنافي وتغيب ليبقى ظلال دمعة حبيسة بحجم وطن..

    وأسمع قاسم جبارة الذي صرخ من منفاه البعيد، قبل انتحاره:-

    "كل أعضائي هادئة باستثناء العراق…."

    ثم ألقي بنظراتي على صحيفة عراقية بعثها لي أحد الأصدقاء من منفاه وهو يقول بالحاج: ارجوا أقرأها!!

    وحين أفتحها أجد فيها برقية كتبها المشاركون في عمل دائرة الفنون الموسيقية في وزارة الأعلام إلى الرئيس صدام حسين، جاء فيها نصاً: "في عصركم الذهبي نهضت الموسيقى والفنون وتطورت آفاق العمل الموسيقي والفني واجتازت حدود الوطن ووصلت إلى أبعد رقعة في العالم، وقد كان ذلك بفعل واقع القدرة على التغيير والتطوير الذي بلغه العراق بقيادتكم الفذة وبتوجيه سيادتكم المتواصل وبالإرث الرصين حيث استطاعت الموسيقى العراقية أن تلعب دورين مهمين في مسيرتها الجديدة، فقد لعبت دورها المتميز في معركة قادسية صدام وأم المعارك الخالدة في معارك الشرف..." حين انتهيتُ من قراءتها تشبثتُ بطاولتي خوفاً نم أن أرمي نفسي من النافذة قرفاً وإحساساً بالمهانة، لكنني بدلاً من أن أفعل ذلك قمتُ ودعكتُ بين يدي نشرة جامعة الدول العربية وكورتها ثم فتحتُ النافذة ورميتها للشارع مخالفاً القوانين السويدية التي ترجو رمي الأوراق في الحاويات الخاصة بالورق في أسفل العمارة، بعد أن وجدتُ أن كل دراسة حول أسباب هجرة الأدمغة العربية ستذهب سدىً وأن كل جهوده الجامعة العربية والعالمية والكونية وغيرهما ستذهب أدراج الرياح في هذا المجال وغيره، أمام مثل هكذا برقيات وهكذا حكومات.

    لذا فبدلاً من ضياع وقتها الثمين في النفخ في قربة مثقوبة انصحها أولاً في تأشير الثقوب أو حمايتنا في الأقل حين نعري قِراب حكامنا المثقوبة، بدلاً من الوقوف مكتوفة الأيدي أمام دموعنا وانكسارنا في المطارات ونحن نودع أوطاننا واحداً واحداً وننسل في حلك الليل والقهر والحنين إلى منافينا، لنقرأ من هناك نشراتها وهي تندب رحيلنا...

    لقد أُصبتُ بالدهشة حقاً حين وطأتُ صقيع لوليو، في جنوب القطب المنجمد الشمالي، بعد أن رمتني الطائرة من بيروت إليها، وأنا أرى أمامي حجم الجالية العربية والعراقية بالتحديد، وتذكرتُ مظفر النواب، ثم حدثني البعض أن الأمر يزداد أكثر في بعض المدن الجنوبية فحين تسير في مدينة مالمو في الجنوب السويدي، مثلاً تحس كأنك تسير في أحد شوارع الوطن نتيجة اكتضاضه بالمحلات والأغاني والمطاعم العربية والوجوه السمراء المشدوهة...

    والى هناك شددتُ رحالي بعد شهور ستة من الصقيع.

    * * *

    4

    المنفى … والرأي الآخر



    · الحرية هي الشيء الوحيد الذي لا تستطيع امتلاكه إلا إذا منحته لسواك.

    - ويليام آلن وايت -

    · ليس سوى السمك الميت يمكن أن يسبح مع التيار.

    - كارين لنتز -

    - شاعرة السويدية -



    يحمل المنفى انشطاراً بين ثقافتين، في وقتٍ واحدٍ، قد يجد الكاتب المنفي نفسه منشطراً بينهما وهو يعيش اغترابه القسري أو الاختياري موزعاً آراءه وحياته ونصوصه على مساحتين تلتهم أحدهما الأخرى أو تلفضها أو تعيد إنتاجها بشكل مختلف تبعاً لقوة التأثير الذي يفرضه مناخ الثقافة المؤثرة على الثقافة الأخرى مما ينعكس ذلك بشكل جلي على نصوص الكاتب وهو يعيش عملية الشد والجذب والانصهار والافتراق، فقلما يستطيع السير بينهما بشكلٍ متوازٍ إلى مسافة طويلة، إذ سرعان ما يبدو انحيازه إلى أحد الأطراف واضحاً.

    لكننا نرى بعض المبدعين خارج دائرة الاستلاب استطاعوا أن يصهروا الثقافتين معاً أو كل الثقافات في داخلهم، ليؤسسوا اتجاههم الخاص ورؤيتهم المفتوحة للعالم بعيداً عن الخانات والأيديولوجيات، فلا انحياز إلا للقيم الإنسانية العليا وللجمال والحق والإنسان والوطن بمفهومه الروحي، وهذا يتطلب قدراً عالياً من الانفتاح والعمق معاً وهو ما ميز نصوص المبدعين الكبار على مر التأريخ ومنحها هذه القدرة على إدهاشنا وشدنا إليها والتأثير بنا رغم تباعد السنين واختلاف المناخات والجغرافيا، ويمكن أن نرى في نصوص "أوفيد" مثالاً رائعاً على الكتابة في المنفى من خلال كتابيه "فن الهوى" و"مسخ الكائنات" اللذين لم يفقدا دهشتهما الإبداعية رغم تعاقب العصور وتغيّر الحكام والأذواق والقراءات والمعارف. أوفيد الذي يصفه الكاتب الألباني المنفي أيضاً إسماعيل كاتدريه بأنه أول كاتب في التأريخ يجبر على العيش في المنفى على يد الدولة الاستبدادية.

    وقد يتيح المنفى للكاتب مساحة للتأمل في استقراء تراثه وثقافته الوطنية ومراجعة ذاته ونصوصه، ربما لم يكن يجدها أثناء انغماسه وانشغاله هناك داخل وطنه، ناهيك عن الجو الذي قد لا يوفر له قدراً من الحرية يتيح له هذا التأمل أو يشجعه على المراجعة ..

    يقول ديغول: "إذا أردت أن تعرف ما يحدث في وطنك، فأرحل عنه بعيداً" حيث يتيح البعد أحياناً رؤية صافيةً للأشياء، وبهذا يستطيع الكاتب – أن أراد – غربلة الكثير مما علق من تراب وبخور بالنصوص التراثية، ومما علق من شعارات في النصوص الحديثة، لتأخذ – بعد نفضها من كل ذلك – بعُدها الإنساني في القراءة والتأثير والرؤية والانصهار، وهذا الأمر يحتاج صفاءً ذهنياً خالياً من تشويش الإيديولوجيا والقراءات المسبقة.

    إن البعض من كتاب المنفى يعيش امتدادات ذلك التشويش، ساحباً معه إلى أقصى بقاع الأرض أمراضه المزمنة التي كان يعيشها هناك، فارضاً على نفسه وعلى الآخر قمعاً داخلياً لم يستطيع التخلص منه وهو يعيش في أكثر المناخات حرية وانفتاحاً.

    إن أحدهم يملأ صفحات الجرائد والكتب والندوات بالحديث عن الحرية أو تجربته في التشرد والنفي من أجل وطنٍ بلا قمع وكتابات بلا رقابة، لكنك ما إن تصطدم معه في أول حوار أو نقاش (وأنتما تعيشان في المنفى معاً، هاربين من القمع والتسلط والإلغاء) حتى تجد مخلفات شرطة وطنك كلها تبرز أمامك فجأة داخل ثيابه العصرية المنتقاة بعناية شديدة… بل إنك ما أن تشير إلى رأيك المختلف أو المخالف لفقرة من فقرات كتابه حتى يتحول هذا الحمل المقموع إلى أنياب لا تدري كيف أطبقت عليك بلمح البصر دون أن تتمكن من شرح وجهة نظرك أو تخليص نفسك والفرار بجلدك العاري …

    يرى أدونيس: "أن "اعتقاد الإنسان بأنه يمتلك الحقيقة هو مصدر كل قمع، فهذا الاعتقاد يعتقل العقل: عقل الذات وعقل الآخر، ذلك أن كل اعتقاد من هذا النوع هو بالضرورة إرادة سياسية وممارسة القوة المرتبطة به إنما هو الإرهاب والطغيان" ثم يرى كيف أن "المذهب السياسي – الإيديولوجي يطلب من اتباعه ما يطلبه المذهب الديني من أتباعه: الخضوع دائماً والتضحية بالذات حيناً، والقبول بتضحية الآخر غالباً" ويضيف: "الغير هنا هو العدو/العميل بلغة الإيديولوجيا السياسية، وهو الخارج/الكافر بلغة التدين اللاهوتانية" وهي – أي هذه المذهبيات – "تفرض بالضرورة أشكال القمع الخاصة بالسلطة". إن الحرية أما أن تكون كامنة في داخل الإنسان بشكل حقيقي أو لا تكون. ومن هنا يصبح الحديث عنها ضرباً من الكلام والتشدق إذا لم يتطابق ذلك مع سلوكنا اليومي على المستوى الثقافي أو الحياتي مع الآخر …

    فالسؤال الذي يصدم المثقف المقموع هو أنه حين ينال الحرية ويعيشها، كيف سيتصرف بها؟ كيف ينظر إلى الرأي الآخر؟ كيف يتعامل مع من لا يتطابق معه فكراً وحياةً ونتاجاً؟ ثم – وهذا هو الأهم – هل يستطيع أن يمنحها للآخر ؟…

    إن النقاش الحر كما يرى برتراند رسل في كتابه "الصراع بين العلم والدين": "يعزز اكتشاف حقيقة جديدة بينما يعيق القمع ذلك وإنه على المدى الطويل يزيد اكتشاف الحقيقة من الرفاه البشري بينما يعيقه العمل القائم على الإرهاب، وإن من واجب رجال العلم وجميع من يقدرون المعرفة العلمية أن يحتجوا ضد الأشكال الجديدة للاضطهاد" وهذا الاحتجاج ملقى بشكل أكثر مسؤولية على كاهل الذين هم في الخارج حين لا يكون بإمكان الذين في الداخل التعبير عن آرائهم والمجاهرة بها في ظل النظام القمعي. وهذا يتطلب قدراً من التضحية والشعور بالمسؤولية إزاء الثقافة الوطنية المعرضة للتشويه والانسحاق والتزوير، وبغير هذا العمل الواعي الفعال يصبح المنفى حالة سلبية حين يميل البعض إلى الاسترخاء ونسيان مهمته الوطنية والثقافة التي خرج من أجلها فيغدو وجوده في المنفى مجرد انتقال أو تغيير جغرافي ليس إلاّ …

    وهكذا نجد أن البعض لم يستطيع أن ينسى خوفه وجبنه وتردده وهو يتحدث أو يكتب أو يعمل – في المنفى – فما زال ذهنه قابعاً تحت الأجواء الكابوسية البوليسية التي عشاها وهو بالتالي يشكل نمطاً آخر من استلابات الماضي، حيث يعيش منغلقاً على نفسه غير قادرٍ على التفتح والتفاعل مع الحياة الجديدة.

    ومن جانب آخر يشكل التطرف الأعمى في الرفض الكلي أو القبول الكلي للثقافة الوطنية والتراث نكوصاً آخر يقترب أو يمتد بموازاة الانبهار الكلي أو الامتعاض الكلي من النتاج الغربي والحضارة الغربية برمتها، غير ان المبدع الحقيقي هو الذي يتجاوز تلك الإشكاليات ليعيد تشكيل منظوماته الثقافية وغربلتها وفق ما يخدم نصه وعصره ومتلقيه، وبالتالي لا يجد نفسه على هامش المنفى، أو على هامش الوطن … بل أنه يعيشهما معاً ثقافةً ونتاجاً وانغماراً حقيقياً قادراً على التأثر والتأثير بشكل إيجابي، وعلى التمييز والموازنة دون خوف أو عقدة أو رأي مسبق من جميع الأشياء التي تواجهه. أنه يتعامل مع الحياة والنصوص جميعها بروحية عالية من التفهم تاركاً المجال واسعاً للأخذ والرد، دون غلق الدائرة أو غلق باب الحوار سواءً مع نفسه أو مع الآخرين …

                  

05-12-2005, 11:28 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    السرد في الرواية العربية المعاصرة




    1. مدخل



    يعتبر السرد وسيلة جبارة في نسج وإعادة تكييف الأحداث الواقعية والمتخيلة وتوزيعها في ثنايا النص الروائي، وتمثيل المرجعيات الثقافية،والتعبير عن الرؤى والمواقف الرمزية0 ولم تعد الرواية رهينة التوثيق التقليدي ، فقد تشقّقت من الأساس التجربة التقليدية التي واكبت نشأة الرواية وتطورها،وذلك يعود إلى تحول جذري في منظور الروائيين للعالم الفني الذي يشكّلونه في نصوصهم،ونشوء حساسية تضع نفسها في تعارض مع القيم الفنية التي أفرزها المسار التقليدي للرواية0 أصبحت الرواية إلى جانب وظائفها التخيّليّة والتمثيلية والإيحائية (أداة بحث) بها يمكن استكشاف العالم والتاريخ والإنسان0 لم تعد نصا خاملا يحتاج إلى تنشيط دائم، لقد انطوت على قدرة خاصة حينما وضعت نفسها في خضم التوتّر الثقافي العام،فأصبح العالم بأجمعه موضوعها،بل إنها في كثير من نماذجها قد أصبحت هي موضوعا لنفسها0 ولعل أحد أكثر الموضوعات المثيرة للجدل في أوساط المتخصصين بالدراسات السردية هو: الكيفية التي تتشكّل بها المادة السردية،وطرائق تركيبها،وأساليب السرد، ثم الرؤى والمنظورات التي من خلاها تنبثق كل عناصر البناء الفني،وأخيرا الإحالات التمثيلية للنصوص على مرجعيات من خلال درجات متعددة من مستويات التأويل0 وكل ذلك على غاية من الأهمية0 فالإنسان عن طريق السرد ( التاريخي والديني والسياسي والثقافي ،وأخيراً الأدبي) يشكّل صورة عن نفسه ومجتمعه وتاريخه وقيمه وموقعه ، وعن الآخر وكل ما يتصل به0 إن السرد هو الوسيلة التي يستعين بها الجميع دون استثناء في التعبير عن أنفسهم وعن غيرهم0وكما يورد"إدوارد سعيد"فالأمم ذاتها تتشكّل من"سرديات ومرويات"(1 )0

    نرغب في هذا البحث أن نقف على جانب من ذلك،وبخاصة ما له صلة بالممارسة التي يلجأ إليها الروائي وهو يصوغ رؤيته لعالمه وتاريخه وتطلعاته ورغباته صوغا رمزيا بوساطة السرد، لنبيّن كيف أن السرد له القدرة على التورط الجريء في أشد القضايا إثارة وحساسية ،وكل ذلك يتم على خلفية من البراءة الخادعة التي توهمنا أن الموضوع هو مجرد (رواية)0

    إن التحليل الذي سنقوم به لمجموعة من النصوص الروائية الجديدة سيكشف لنا أن الرواية هي أكبر بكثير من أن تسجن نفسها في مستوى تقني ذي أبعاد محددة0 إنها أكثر الأنواع قدرة على التشظّي في أشكالها وأساليبها وموضوعاتها ودلالاتها، وفي كونها قادرة على تفجير سيل مما سكتت عنه الفنون الأخرى0 لقد تمكنت الرواية من تخطّى حبسة التقليد التي لازمت طفولتها وتجاوزت ذلك إلى نوع لا يطرح نفسه كجملة من النصوص الشفافة التي تعرض لمجموعة من الأحداث التي تشكل حكاية،إنما شغلت بذاتها والعالم الذي تقوم بتمثيله0 أصبحت الرواية أكثر ميلا للانشغال بنفسها وبدرجة لا تقل عن انشغالها بتمثيل العالم0 ويكون السرد الروائي شفافا إذا اختفى السرد وتوارى إلى أقصى حد لصالح الحكاية فتعرض الأحداث نفسها دون أن يشعر المتلقّي بوجود الوسيط السردي، أما حين يشير الراوي كثيرا إلى نفسه بوصفة منتجا للإحداث ومبتكرا للحكاية ، فأن ثمة مسافة تفصل المتلقّي عن العالم الفني الذي يصطنعه السرد فلا يقع اندماج بين المتلقّي والأحداث، ويتمزق الإيهام بواقعية الحكاية،وينشط المتلقّي في المشاركة بإنتاج ذلك العالم المتخيّل0 وفي هذا الأسلوب من السرد يتدخّل الراوي متحدِّثا عن نفسه ودوره ولا يتردد في إبداء شتى الملاحظات حول مهمته السردية ،وذلك هو السرد الكثيف0 وكان سيمور جاتمان قد اصطلح على الضرب الأول بـ( Covert) واصطلح على الثاني بـ(Overt)0 وهذا الموضوع كان أيضا مثار عناية كل من كرستيان إنجلي وجان ايرمان(2)0

    ظهر السرد الكثيف نتيجة للتشقق الذي يشهده السرد التقليدي في الرواية العربية ، والسعي إلى رفع مكانة الاهتمام بكيفيات تركيب المادة الحكائية إلى مستوى يناظر الاهتمام بماهية تلك المادة ، إن لم يتقدم عليها ، وهو ما يلاحظ في نماذج روائية جعلت من السرد الكثيف الذي يطوّق الحكاية ويتغلب عليها وسيلة أساسية من وسائل تشكيل النصوص الروائية0

    لقد اعتاد السرد التقليدي على نوع من الاحتفاء بالحكاية ، وتوقير خصوصيتها ، ومدارة تسلسلها المنطقي الذي يأخذ في الاعتبار التدرج المتتابع وصولاً إلى نهاية تنحل فيها الأزمة ، ويعاد التوازن المفقود ، ويلزمنا التأكيد هنا على أن ذلك السرد قد تولّد وتحددت وظائفه داخل منظومة خاصة من التراسل والتلقّي ،منظومة لها شروطها الثقافية التي فرضت ذائقة تتقبّل ذلك السرد وتتبّناه ، بوصفه وسيلة تعبير تمثيلية عن جملة التصورات والرؤى السائدة ، وكلما تغيّرت الشروط الثقافية استجدّت أنماط من السرد الذي لا يولي اهتماماً بالحكاية حسب ، إنما يولي اهتماماً بنفسه أيضا ، وأحيانا يتغلّب الاهتمام بالسرد على ما سواه من أشياء أخرى 0 يتمركز السرد حول ذاته ، ويصبح داخل النص الروائي موضوعا لنفسه ،فيقوم الرواة بتحليل مستويات السرد ، وطرائق تركيب الحكاية ، ومنظورات الرواة ، والعلاقة بين المادة الواقعية والمادة التخيلية، وأثر النص في المتلقّي ، والصراع الناشب بين الرواة أنفسهم للاستئثار بالاهتمام ، وانتزاع الاعتراف من المتلقّين بأهمية أدوارهم ووظائفهم 0

    كانت الرواية العربية قد أفرزت هذة التقنيات السردية 0 كنوع من التمرد الضمني على النسق التقليدي الذي مثلته تجربة "نجيب محفوظ"-وغيره من الروائيين العرب- التي حافظت في أبرز نماذجها،وبخاصة في المرحلة الواقعية،على ذلك النسق0فقد كانت رواية " نجيب محفوظ "تعنى بحكاية لاتنفصل عن السرد الذي يقوم بتشكيلها،ولاتترك مسافة فاصلة بين الأحداث والوسيلة السردية، ويتوارى الرواة،ويتعمق الوهم بواقعية الحكاية، فيجد المتلقّي نفسه جزءا منها0فيما تنزع الرواية العربية ( الجديدة) في أبرز نماذجها إلى الإفادة من تقنيات السرد الكثيف ، تلك التقنيات التي أشرنا من قبل إلى أنها تنجز وظيفة مزدوجة ، فهي من جهة تلقي الضوء على كيفية انتاج السرد نفسه بما في ذلك وضعية الراوي وموقعه ودوره، وهي من جهة أخرى تعرض تمثيلا سرديا مغايرا لما كان السرد التقليدي يقدمه عن العالم 0فعالمها مهشّم ، متكسّر، مفكّك، تسوده الفوضى ، ويفتقر إلى القيم الوعظية المو########، بل إنه عالم معاد تمثيله طبقا لرؤية رفضية واحتجاجية وهذا الأمر هو الذي يجعل ذلك العالم ممزقا وغير محكوم بنظام0والواقع فما يغيب عنه ليس النظام بإطلاق ، إنما النظام التقليدي الذي أشاعته الرواية التقليدية: رواية ديكنز، وبلزاك، وتولستوي ، قبل أن تعصف بذلك السرد عاصفة التحديث التي أعلنها جويس وبروست وفولكنر وفرجينيا وولف وغيرهم0 وتمثل تجارب : سليم البستاني ،وجورجي زيدان ،نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم،ومحمد عبدالحليم عبدالله ، ويحى حقي ، وغائب طعمه فرمان، وحنا مينه ،وعبد الكريم غلاّب- على سبيل المثال- النموذج الدال على ذلك، فيما يمكن اعتبار جبرا ابراهيم جبرا،والطيب صالح، والمسعدي، وفؤاد التكرلي، وعبد الرحمن منيف ، وصنع الله ابراهيم،وإميل حبيبي، ومؤنس الرزاز، وعبد الخالق الركابي،وبهاء طاهر،وابراهيم الكوني ،والطاهر وطار، وغادة السمان،واحلام مستغانمي،ولطفية الدليمي ،ونوال السعداوي ،وعشرات غيرهم النماذج معبرة عن حركة التجديد السردي بدرجة أو بأخرى0 إن النموذج الأول ظهر في حاضنة ثقافية مشبعة بالقيم المطلقة الصواب، والتي تستند الى نسق منسجم من العلاقات الأجتماعية مع العالم، فيما تشكّل النموذج الثاني وسط عالم شبه متحلّل، يفتقر الى القيم الكلية،وقد ضربه الشك في صميمه، وأقام علاقة نسبية مع العالم ، علاقة نقدية- رفضية توجهها في بعض الأحيان موجهات آيديولوجية لاتوقّر شيئا ،ولاتقدّس قيما،ولاتتعبّد في محراب فكرة0 إلى ذلك فالنموذج الأول هو نتاج تجربة ثقافية محدودة المشارب ولم تُثر فيها أسئلة الشك الكبرى، فيما تشعبّت وتنوعت المصادر الثقافية للنموذج الثاني، وعاشت على الحدود الملتبسة بين عصرين وثقافتين ورؤيتين؛ قصدتُ العالم الممزّق على نفسه، المنشطر ، والمتشقق بين الإرادات والقوى والتطلعات المتعارضة0 وليس من السهل أهمال أثر ذلك في صوغ ذائقة الروائي وموقفه ومنظوره وتقنيات السرد التي يستعين بها0فالرواية في نهاية المطاف ظاهرة ثقافية- أدبية متّصلة بالعالم عبرالتمثيل السردي ،ومنفصلة عنه بالتعبير الذاتي عن المؤلف كمنتج للنص وخالق للعوالم المتخيلة فيه0 بعبارة أخرى تربض الرواية على التخوم الفاصلة بين الفرد والعالم،وتتحرك ذهابا وإيابا بينهما0ولم تعد تقبل مهمة تصوير العالم ومحاكاة خريطته البشرية والتاريخية كما هو، إنما صارت مهمتها إعادة إنتاجه وترتيبه وتمثيل القيم الثقافية فيه على وفق سلسلة من أنساق البناء السردي والأسلوبي التي تنكبّت للأنساق المو########0
    إن الرصد النقدي – التحليلي لواقع الرواية العربية المعاصرة لايمكن له أن يغفل الموجهات الثقافية التي أدت إلى بروز ضروب السرد الكثيف ،وعلاقته بالتمثيل السردي الجديد، بل انه ملزم أن يأخذ باعتباره كل ذلك0 إن تحليل نصوص السرد صار بحاجة ماسة إلى رؤية نقدية تستنطق في الوقت نفسه السياقات الثقافية0 فالتراسل بين النصوص والمرجعيات يتم على وفق ضروب كثيرة ومعقدة من من التواصل والتفاعل، فليس المرجعيات وحدها التي تصوغ الخصائص النوعية للنصوص، بل تقاليد النصوص تؤثر في المرجعيات ، ويظل التفاعل مطّردا وسط منظومة اتصالية شاملة تسهّل أمر التراسل بينهما، بما يحافظ على الأبنية المتناظرة لكل من المرجعيات والنصوص، وغالبا ماتدفع المرجعيات والنصوص على حد سواء بتقاليد خاصة، هي في حقيقتها أنساق وأبنية تترتّب في أطرها العلاقات والأفكار السائدة، وخصائص النصوص وأساليبها وموضوعاتها، وهي انساق وأبنية سرعان ما تتصلّب وترتفع إلى مستوى تجريدي يهيمن على الظواهر الإجتماعية والأدبية فيحصل انفصال بين هذه النماذج التجريدية من الأنساق ودينامية الأفعال الإجتماعية والأدبية فتضيق هذه بتلك، فتقع الأزمة السردية الحقيقية في صلب النوع ، قبل أن يعاد تشكيل العلاقات على فق نسق جديد (3)0 وهذا هو الذي يفسر لنا انهيار النموذج التقليدي وظهور النموذج الجديد0 ومن بين مايلزم على النقد الروائي أن يأخذه بجدية كاملة : عدم الأطمئنان الكلي لكفاءة نموذج تحليلي سردي ثابت ، فالنماذج محكومة بتحوّل دائم، بفعل دينامية العلاقة بين النصوص والمرجعيات،وكل نموذج قار هو نموذج متأزّم في طريقه للإنهيار، لأنه لم يعد قادرا على استيعاب مظاهر التجدد الضمنية الداخلية في النسق السردي،وهو من بعد عاجز عن تفسير تحولات النوع وخصائصه 0 والمدونة السردية التي انتخبناها لتحليل هذه الظاهرة الجديدة في الرواية العربية، وكشف وظائفها، تتكون من ثلاث روايات،لكنّ هذا البحث يندرج في سياق تحليل موسع لهذه الظاهرة سبق لنا ان تتبعنا أبعاداً أخرى لها في عدد من البحوث(*)واكتفينا هنا بالوقوف على مظاهر جديدة0

    2.التداخل النصي وتشكيل المادة الحكائية0



    يمكن اعتبار رواية " النخاس(4) لـ"صلاح الدين بوجاه" إحدى النماذج المتميزة التي يتشكل بناؤها العام من التناوب المستمر بين سرد يأخذ طابع (التأليف) ويؤدي وظيفته ،وسرد يأخذ طابع ( الرواية) ويؤدي وظيفتها التخيليّة الإيهامية0 وفي كثير من الأحيان تتداخل مستويات التأليف بمستويات الرواية، فتتشكّل ( كتلة سردية) شديدة التماسك في عناصرها وبنائها0 وهذه المزاوجة التي يقوم بها الكاتب ، مرةً بوصفه مؤلفا للنص ،ومرةً بوصفه راوية للأحداث، تجري دمجا بين دورين منفصلين لهما وظائفهما:دور المؤلف كمنشئ للنص،ودوره السردي كراوية لأحداثه،و غالبا ما تغيب الحدود بين هاتين الوظيفتين داخل "النخاس"، وهو أمر يضفي – في رأينا- ميزة خاصة.فهي نص سردي يتحوّل إلى نسيج من التداخلات اللانهائية لشذرات ونبذ من نصوص كثيرة لها خصائص قائمة بذاتها، لكن إطار السرد في الرواية يفلح في إعادة إنتاجها كمكونات سردية 0ففي الإهداء الذي يتصدّر الكتاب يوجّه المؤلف ثناءً إلى الشخصية الرئيسة في الرواية" تاج الدين فرحات"، مؤكدا رغبته في إهداء الرواية إليه،واصفا إياه بأنه" ذلك الرجل الذي انبثق بين أناملي يسعى، فكاد يرعبني حضوره"0وهذا تصريح يضع المتلقّي أمام تأكيد مؤدّاه الإعلان عن المنافسة بين المؤلف وشخصية روايته 0وسنلاحظ فيما بعد كيف يتداخلان ببعضهما ! وكيف يكون " تاج الدين فرحات " قناعا لـ"صلاح الدين بوجاه!
    في نهاية الرواية تظهر خاتمة بعنوان " أطراف الكتاب " يقوم فيها المؤلف بدور الراوية،فيقول مشيرا بوضوح قضية الاندماج بين الدورين اللذين أشرنا إليهما " تمّ الفصل الأخير من رواية " النخّاس" لتاج الدين فرحات الكاتب المتلصّص ، الذي تخلّى عن جائزة داورت زمنا،وغنجت وتثنّت دون وقوع". ومن الواضح أن رواية " النخّاس " هنا تُنسب إلى "تاج الدين فرحات " وليس إلى "صلاح الدين بوجاه "0 ومن أجل تعميق الوهم القائم على المفارقة ترد قائمة روايات "صلاح الدين بوجاه" التي نشرها قبل "النخاس" ومخطوطاته منسوبة إلى " تاج الدين فرحات"0و هذا يحدث تبادلا وتداخلا في الأدوار بين المؤلف الحقيقي للنص والشخصية الأساسية فيه 0أن هذا المظهر الفني يجعل العالم التخيّلي المنبثق من تضاعيف السرد يتأرجح بالنسبة للمتلقّي بين مستويين متناوبين: واقعي ووهمي0 وهي لعبة سردية تحرّر الرواية من القيد التخيّلي الصرف وتكسر الوهم به ، حينما تدفع الواقع إلى أفق التخيّل مرة،وتقوم في مرة ثانية بإضفاء بعد واقعي على المكونات التخيلية0 والمناقلة للمادة السردية بين المؤلف والشخصية تحرر بناء النص وأبعاده الدلالية من القيود المو######## للنوع الروائي ، فبها تستبدل نمطا حرّاً من العلاقات السردية تمكّن الشخصية من الحديث عن مؤلفها، والمؤلف من الحديث المباشر عن شخصية روايته دون التباس أو خوف من الانزلاق إلى ما هو بعيد عن عالم الرواية نفسها.

    تكشف هذه الرواية بلا مواربة كيف يتقنّع "صلاح الدين بوجاه" بشخصية "تاج الدين فرحات "،وكيف يتمرأى" تاج الدين" في مرايا "صلاح الدين"0فكل منهما يتوارى خلف الآخر،وتقنّع به،ويجد صورته في مرآته0 وليس التداخل بين المؤلف والراوية في الأدوار والوظائف هو المظهر الوحيد المميز في رواية " النخّاس" ، إنما التداخل بين النصوص بأنواعها ومصادرها ولغاتها المتعدِّدة، فبعض تلك النصوص توجّه انتباه المتلقّي إلى خصائص فنية ، كما هو الأمر في النص الذي يتصدّر الرواية ،وهو منتزع من " الفهرست"لـ"ابن النديم"0وتتأكد أهميته وتأثيره في الرواية حينما يحاول "تاج الدين" تصنيف مخطوطات ترد الإشارة إليها داخل الرواية،فيصطلح عليها" فهارس" مثل: " الفهرس الأول "و " الفهرس الكشّاف"0وما يشاع حول نسبة الثاني إليه، وسرقة الأول من " لورا"0 وبعض تلك النصوص يؤدي وظيفة تعميق قدرة التخيّل وإشباع والوهم عند المتلقّي ، كما هو الأمر بالنسبة لنص مقتبس من كتاب " الإشارات والتنبيهات " لـ "ابن سينا"،وهو نص يتردّد في مفتتح الكتاب وفي خاتمته0 على أن هذه النصوص المعرفية التي تخترق الرواية وتمارس ضغطا على المتلقّي بهدف كسر الوهم الذي يخلقه السرد تهون بازاء نصوص كثيرة أخرى تتخلّل الرواية ، وتعمّق أحاسيس " تاج الدين فرحات" الذي يُدرج في سياق لغته لغاتٍٍ أخرى :الأشعار بالمحكية التونسية والقصائد الفرنسية لرامبو وبودلير وزولا، ومقاطع من الأشعار الإيطالية،ومقاطع سردية لجمال الغيطاني، فضلا عن قصائد عربية مقتبسة من التراث الأدبي ، وكل هذا يأتي جنبا إلى جنب مع نصوص لغوية لابن منظور وابن سينا وغيرهم, وهو كثير جدا(5)0وفي غالب الأحيان لا تعكّر هذه النصوص سياق السرد،ولاتقطّع تسلسل الأحداث ، إنما تُدمج في الإطار العام للنص ، بهدف إغناء الحالة لنفسية للشخصيات ؛فـ"تاج الدين فرحات " الذي يؤدي دور كاتب روائي يوظف تلك النصوص في مواقع تضفي بعداً نفسياً عميقا على الشخصيات ،كما انه يستعين بها للكشف عن تطلّعاته وأحلامه ورغباته،وهي تضيء في بعض الأحيان جانبا من توتراته النفسية0 ومن ذلك محاولته التماهي مع شخصية الشاعر الفرنسي " رامبو" ومحاولة محاكاته ، على اعتبار أنه مثل سلفه رحّالة وكاتب0 ومعروف أن "رامبو" توغّل بعيدا في مجاهل أفريقيا ،وعاد بساق واحدة محمولا على أكتاف العبيد0 فأشعار"رامبو" تضيء وجه المماثلة بين الاثنين،وهذا الضرب من توظيف النصوص يمكن الاصطلاح عليه بـ" التناص الصريح"0 وإلى جواره نوع يمكن الاصطلاح عليه بـ "التناص الخفي" ويمثله بغزارة كبيرة اتصال أسلوب السرد ، ولغة النص بنسق التأليف السردي العربي في ابرز أنواعه كالمقامات والخرافات والسير والأخبار وأدب الرحلات وكتب الفهارس وغير ذلك0

    يصف "تاج الدين فرحات " نفسه بأنه " نخّاس "0والإعلان عن هذه الصفة يستأثر بالاهتمام طوال صفحات الرواية 0وعلى هامش ما يقتبس عن "لسان العرب" يضع " تاج الدين" تعريفا لـ"النخاسة" في هذا العصر،وهي:" الرغبة في ولوج حياة الآخرين والتلصّص عليهم وكشف بواطنهم"0 أما "النخّاس"،فهو: الإنسان المتلوّن الذي يزدوج فيه الظاهر والباطن،والجهر والسر،والخفاء والعلن0 وبعبارته هو:"الرحّالة صاحب السفر الذي لا يستقر على حال، يركب البحر ،ويداور العناصر، ويراوغ الظلمة،ويغوي عرائس البحر،ويهادن القراصنة... حتى ينشب مخالب خياله في الناس والأشياء جميعا"(6)0ومن الواضح أن هذا التعريف مشتق من الدور الذي يقوم به" تاج الدين"كونه محكوما برغبة الاكتشاف والبحث والقلق وعدم الاستقرار والفضول. فالمحفّز السردي في النص هو تداخل الرغبة الذاتية بولع الاكتشاف0 فـ"تاج الدين " يقع منذ البداية ضحية إغواء الجائزة الإيطالية،ويتضاعف حلمه بالحصول عليها،فيغادر بلاده مبحراً على ظهر السفينة" الكابو-بلا ّ" ناحية إيطاليا راغباً في نيل الجائزة، لكنّ فضوله المدمّر في اكتشاف الآخرين وهتك أسرارهم ، والتعرّف سرّا إلى أخص خصوصياتهم ، يفضي به إلى نهاية مختلفة تماما لكل ما كان يرغب فيه0 فلا ينال مبتغاه ، وهو الجائزة/ الحلم 0 وتتعرّض السفينة لعطب يؤدي بها إلى فقدان اتجاه الرحلة ، فتظلّ " تدور حول نفسها، تكاد لا تبرح مكانها...كأنما عُلّقت بين سماء وأرض، تدور حول نفسها مثل لبوه جريحة أهلكت السباع جراءها،وهدم السيل بيتها،ولسع البرد وجهها"(7)0

    تبدو النهاية المأساوية للشخصيات ،وكأنها متصلة بالوباء الذي حمله معه "تاج الدين" إلى السفينة:وباء التلصّص،وكشف الأسرار،وهتك الحُجب، والتوغل بعيداً في عالم الرغبات الممنوعة والمقموعة0وبدل أن تأخذ الأحداث والمصائر الاتجاه الذي ينبغي أن تكون عليه يُحدث وجود" تاج الدين" في المركب الإيطالي خللا في توازن الأشياء، فيؤول كل شيء إلى غير ما كان ينتظر أن يكون: القبطان "غابريلّو كافنيالي" السيد المطاع والمغامر الأفّاق يُلقي بنفسه في اليم وتهرب الشخصيات الأخرى أو تتوارى مختفية في أماكن مجهولة. السفينة التي وُصفت دائما بأنها" المدينة العائمة العجيبة" تتعرّض لعطب مدمّر،وتفقد اتجاهها،ويتعذّر عليها مواصلة الإبحار في مياه المتوسط، بل يتأكد ضياعها ،ويُستباح كل شيء فيها. وحده "تاج الدين" الذي كان يراود جائزة،ويمنّي نفسه بالحصول عليها، يفلت من هذا المصير المهلك، فتُنسج حوله أسطورة اختفاء متميزة0إذ يشاع انه " رُفع من الكابوبلاّ في غروب اليوم الثالث،وان جماعة من أصحاب السّبل قد شاهدوه أسفل جبل المقطّم ، يحمل محفظة مخطوطاته على ظهره يكاد ينوء بحملها" (0لكن شائعة أخرى تؤكد انه لم يُرفع إنما شُبّه للآخرين ذلك. وهكذا فكأن الرغبة المقترنة بحب الاكتشاف لا تؤدّي فقط إلى الحؤول دون أن يحقق " تاج الدين " مبتغاه،إنما تقود إلى تغيير مصائر كل الشخصيات التي التقاها على ظهر المركب0 فاختلال التوازن الذي طرأ على نظام الأحداث، بسبب ظهور "تاج الدين" يظل مستمرا،ولا يعاد التوازن أبدا 0فالنهايات المأساوية للشخصيات والسفينة تعبير عن بقاء ذلك الاختلال قائما بسب الحافز السردي الذي أشرنا إليه،والذي نؤكده مرة أخرى: الرغبة المرضيّة في التلصّص على الآخرين واكتشافهم والتوغل في معرفة خفاياهم0 على أن البعد الدلالي لهذا المحفّز لا يكتسب قيمته الدلالية إلا من خلال التفاعل مع عنصرين فنيين آخرين ، هما :الشخصيات والمكان. والحق ان الشخصيات التي تظهر في الرحلة البحرية، لاينقصها التوتّر والإضطراب،سواء أكان القبطان "غابريلّو كافينالي" الذي جاء من خلفيّة هي مزيج من المقامرة والشعوذة وممارسة السحر،أم ابنته "لورا" المتهتّكة، أم جرجس القبطي وعمله في تهريب الآثار ،أم عبدون الجزائري تاجر العطور،أم الأمير أبو عبدالله القرطبي، أم القوادة شريفة الزواغي،أم لولا الراقصة،وغيرها. وهي جميعا شخصيات لها انتماءات ثقافية وعرقية مختلفة، لكن تجمعها الرغبة المتأجّجة في إحياء حفلات الليل الماجنة0 وهنا يدخل المكان الذي يحتضن الشخصيات وأفعالها،والمكان هو السفينة " الكابو-بلاّ"، إنه مكان مضطرب يعجّ بالدسائس والمغامرات الغامضة والعلاقات الخطيرة، ويعجّ بالاضطرب لأن أمواج البحر تتقاذفه في رحلة قلقة تقع في نهاية الخريف ومقدم الشتاء حيث اصطخاب الموج وسط الظلمة ، والريح التي تعصف بكل شيء0ومن الواضح أن السرد يحقق تناغما فريداً بين الإضطراب والقلق اللذين يلازمان الشخصيات والسفينة في بحر هائج0فالمكان هو الملاذ هنا0 إنه يشحن الشخصيات بقلق مضاعف إلى درجة تصبح فيها رهينة البحر بكل عنفوانه0 وبخاصة بعد أن تحيط جموع القرش والدلفين والحيتان السفينة في رقصة مجنونة،فـ"ترتطم بالمركب في كرّ وفرّ، تقبل لتُدبر من جديد قبل أن تدور حول ذاتها وترسل صراخها الحاد في الفضاء المتخثّر، أما طيور النوء فأسراب شرسة تلمّ بالحفل ثم تفلت في مثل مروق اللولب، فتكاد تعصف برؤوس المتراصّين لصق السياج المعدني البارد"(9)0ولعلّ تفاعل عناصر السرد هذه جميعها من أحداث وشخصيات وخلفيّات مكانية وزمانية قد عُبّر عنها بلغة مكثّفة،مختزلة، قصيرة الجمل، تتميز بالاحكام أكثر من الأوصاف،ويشيع فيها أسلوب العطف الذي يراكم جزئيات من الوقائع بعضها فوق بعض ليتشكّل منها متن الرواية،فكأن التعبير اللغوي هو نفسه كان صدى لذلك العالم المضطرب. وهذه الإشارة تُلزمنا القول: إن اللغة المكثّفة القطعيّة التي تتجنّب صيغ الإطناب والإسترسال ،وبها تستبدل الإيجاز ، وأحيانا المباشرة، باعتمادها على معرفة الأشياء وتقريرها، أكثر من الإيحاء بها، جعلت الرواية حقلاً لممارسة شتّى أنواع التجريب، سواء أكان تجريبا أسلوبيا كما يمثله الانتقاء اللغوي للألفاظ الكتابية المتحدّرة من ذخيرة أساليب النثر العربي القديم أم تجريبا شكليا كما يتجلّى من خلال توظيف طرائق تاليف الفهارس وكتب الرحلات والسرود التاريخية والجغرافية التي برزت في الكتابة النثرية العربية خلال العصر الوسيط0ودمج كل ذلك بأساليب الرواية الحديثة وأبنيتها، أتاح الخروج على نسق السرد التقليدي الشائع في الرواية ،وعدم الانصياع للبناء المتتابع الذي يعتبر أحد أكثر الابنية انتشارا في الكتابة الروائية العربية،وقد حل بدل ذلك سياق سردي مغاير اتصف بكثرة تقنيات الإسترجاع والإستحضار،وحالات القطع، والعودة الى الوراء، وإدراج حكايات ثانوية في سياق الحدث الرئيس، وأحيانا ادراج فقرات كاملة لاتسهم في عملية تنمية الحدث، إنما تغني الحالة النفسية للشخصيات0ومن الصعب فنيا تجاهل أهمية كل هذا أو إنكاره.

    لا يخضع بناء الرواية لنسق متسلسل باستثناء الإطار العام للحدث ،وهو الذي يصوّر الأيام الثلاثة التي تستغرقها الرحلة في البحر، قبل انفراط عقد الوقائع المكوّنة للحدث، وضلال المركب، واختفاء الشخصيات 0فتداخل الوقائع فيما بينهما ،وفّر إمكانية لإضاءة خلفيّات الشخصيات وتواريخها الذاتية ، وكشف عن منظوراها السر دية ، وحدّد زوايا نظرها ومواقعها وعلاقتها بالنسبة للعناصر الأخرى في النص 0 ولعبت مستويات السرد المتعددة دوراً بالغ الأهمية في تنظيم البناء العام للرواية 0 وعلى العموم ، هنالك ثلاثة مستويات متراكبة ، تنبثق من ثلاث رؤى تحتكر السيطرة على العالم الفني في هذا النص ، وتتدخّل في تشكيله : المستوى الأول يتصل براو خارجي عليم ،وضليع في معرفته الشاملة بكل شيء ، تُنظّم رؤيته الموضوعية غير المباشرة كل العناصر السردية ، بما فيها الشخصيات والأفعال والخلفيات الزمنية والمكانية 0 ومن عمق هذا المستوى الأول تظهر رؤية الكاتب " تاج الدين " التي تمثل المستوى الثاني ، وهي رؤية ذاتية مباشرة تمثّل درجة مشاركة هذهِِ الشخصية بالأحداث ، وتعبر عن رؤيتها لعالمها ولعوالم الشخصيات الأخرى ، وتحدد الموقف الفكري لـ" تاج الدين" وترسم تاريخه الشخصي ، وتصوغ أحكامه وأفعاله بوصفه نخّاساً بالمعنى الذي يظهر في النص 0 ومن وسط هذين المستوين السردين تتفتح رؤى سردية أخرى تتصل بشخصيات ثانوية وتضيء عالم هذهِ الشخصيات أو عوالم الشخصيات الأخرى ، كما يظهر ذلك فيما ترويه " لولا " البربرية عن نفسها وأسرتها وعن نشأة "غابريلو " وتربيته الذاتية ، وفيما يرويه "جرجس " القبطي عن الأمير أبى عبد الله ، وفيما يرويه كل من " عبدون "الجزائري و " جرجس " عن " لورا "وهي تغوي الآخرين ، وتدعوهم إلى رحلة زوارق شراعية ليلية في البحـر 0 والمستوى الأخير بكل تنوعانه يخدم الإشارات والأفعال الصغيرة التي تغذّي الحدث بدلالته العامة 0 على أن هذهِ المستويات السردية الثلاثة المقترنة بالرؤى التي ذكرناها ، والتي تتدخّل في كل التفاصيل ، سواء أكانت حصلت في الماضي أم حصلت في وقت الرحلة البحرية ، هي التي عمّقت البعد الدلالي للنص ، ودفعت بذلك البعد من مستواه الظاهري المباشر إلى دلالته الرمزية غير المباشرة .

    يتشكّل البعد الدلالي للرواية من جملة من العناصر، في مقدمتها: تفاعل الشخصيات والأحداث في فضاء محدد، ثم الحدث و هو الرحلة غير المكتملة لكاتب يطمح في نيل جائزة أدبية، والنظام الدلالي يقبع تحت هذا السطح، ويحتاج إلى تعويم يتصل بقضية مهمة ، قصدتُ قضية "الأنا"و"الآخر" 0وهي إحدى الإشكاليات الأكثر تعقيداً وإثارة في عصرنا 0وما أن نزيح جانبا المظهر المباشر والخدّاع الذي يغلّف ظاهر الحدث إلا وتتكشّف القضية كاملة، وهي لبّ النظام الدلالي للنص0 وقد جاء تمثيلها سرديا بالتصريح مرة وبالتلميح مرات.فالرحلة القلقة للمركب في بحر هائج متنازع حول انتمائه الثقافي، وعلى ظهره خليط من الشخصيات المتحدّرة من أصول ثقافية وعرقية ودينية مختلفة،وتمارس مهنا متعددة،وتشتبك في صراعات متعددة المستويات ، لايمكن بالنسبة لنا اعتبارها إلا رحلة رمزية ضمن بنية ثقافية مُشبعة بكثير من المعاني المتّصلة بقضية الأنا/ الآخر. وقبل أن نمضي في بحث هذا الموضوع يحسن بنا أن نورد هذه الفقرة الدالة التي تصوّر موقف " تاج الدين فرحات" ممّا يراه،وهي إلى ذلك تكشف جانبا من رؤيته لعصره وبلده ،وتفجّر القضية التي أشرنا إليها:" كان قد جاب البلاد طولا وعرضا،فعرف الطرق الكبرى والدروب المتربة الخفيّة ، رأى الناس والأشجار والعشب والمطر والوهم،وفهم أن هذه البقعة من الأرض تغيّر ثوبها وتولد نيرانها في مهد رمادها القديم. نهاية هذه الألف الثانية عجيبة ،فالمصانع قليل دخانها،وباهت لونها، والأزمات جمّة هائلة،لكنّ الأمر قد بلغ الأوج ،أو يكاد، فالعيون أكثر ثباتا وقد وتّرها التحدي ! أفريقيا هنالك في الجنوب ، وأوربا قريبة مُولّدة طاغية،والتاريخ والحضارة، بخيرهما وشرّهما حاضران ، مادة أولى طيّعة أو صلبة، حسب الفصول والأوقات، مادة أولى للحضارة والأمل والإخفاق والموت والحياة داخل حقل صغير، حقل من الوهم والخير والشر اسمه تونس (10)0 ولمثل هذه الإشارة مرادفات كثيرة ترد على لسان " تاج الدين" أو تُفهم في سياق السرد على أنها تمثّل وجهة نظره 0فانتماؤه الثقافي مزيج اشتركت فيه أطراف عدّة،ووعيه الذاتي ،وهويته متعددة الأبعاد وقد تشكّلت من مصادر ومرجعيات كثيرة،وخصوصيته الثقافية المتكوّنة من كل تلك العناصر لا توظّف من أجل تخطّي التعارضات بينه والقبطان " غابريلو كافينالي" لأن " تاج الدين " يريد أن يكون المحور المركزي لكل شيء0 وهذه الإشارة تؤكد أن الشبكة الدلالية للنص يتنازعها قطبان رمزيان :الأول "تاج الدين" التونسي العربي الأفريقي،والثاني "غ.كافينالي" الإيطالي الأوربي الغربي 0 وهذان القطبان الدلاليان يجذبان الشخصيات الأخرى حولهما تبعا لهوية كل منهما الثقافية 0وعملية الاستقطاب هذه لها أهمية بالغة لأنها تحد نوع الانتماء الثقافي ودرجته،ولها نتيجة أبلغ من ذلك ،لأنها تكشف مأزق الشخصيات ذات الانتماء المزدوج التي تظهر مشوّهة الهوية، إلى درجة لم تستقرّ بعد أسماؤها الشخصية على شكل محدد0 لقد ضربها التهجين في الصميم ،ولم تفلح في تشكيل وضعية خاصة بها،وعاشت وهم النقص الدائم ،ولم تدرك بعد أن الوهم الحقيقي هو وهم الهوية الكاملة.

    يظهر "تاج الدين" بوصفه قطبا دلاليا يمثل "الأنا" بالمعنى الثقافي،ويظهر "غ.كافينالي" باعتباره يمثل"الآخر"0 وبينهما تتردد انتماءات الآخرين،ومن اصطراعهما المعلن أو الضمني يتولّد المعنى الرمزي العام للنص. ولكن ما الكيفية التي يظهر بها كل منهما؟ وما دلالة ذلك؟ وما أهميته؟

    تنبثق شخصية"تاج الدين" وهي مكتملة ،فكل تجاربها تبلورت قبل بدء الحدث، حدث الرحلة،ويمكن وصف هذه الشخصية بأنها منقّاة،ومنتخبة ومصاغة على درجة عالية من الخصوصية والتميّز، إذ يشار إلى أنها مثقفة ولها تطلّعات،و"تاج الدين" روائي ،وباحث عن الحقيقة،ومحكوم برغبة جوانيّة لهتك الأسرار،وفضح ما تنطوي عليه من خبايا،تلقّى تربية ذاتية في مكان محدد(= القيروان ،وهي في الوقت نفسه مسقط رأس المؤلف ) واكتسب تجاربه الذهنية المتنوعة في هذا المكان، وباستثناء الفضول والتلصّص فان المتلقّي يتقّبل "تاج الدين" بوصفه شخصية إيجابية،ولعل المقطع الآتي يوضح كيف نُسج هذا الجانب من الشخصية" كان إحساسه بالكتب إحساسا عنيفا ، حيث يخترق أريجها الحاد أنفه فيملأ ذهنه حيرة وشوقا ورغبة في النفاذ، لذلك لبث حبّ المعرفة بالنسبة إليه مروقا شبقا من المتاح إلى الممكن . ثم أضحت الكتابة بعد ذلك بديلا مباشراً لنهم التقبّل"(11) 0أما شخصية "غابريلو" فتركّب لها منذ البدء صورة مشوّهة، ففضلا عن خلفياته التشرّدية كونه نشأ في ظروف الحرب العالمية إثر مقتل أبيه في انفجار،فان حياته الباريسية تٌقدَّم على أنها سلسلة من الأعمال الشائنة0 فقد التحق بمعهد " خاص يؤمّه البحارة والأفّاكون للحصول على وثائق مشبوهة" وتلقّى بعد ذلك" فنون العرافة والسحر الأسود،والدموي الأحمر، والأبيض الترابي، ومتعدد الألوان الشيطاني! وقد أمضى شطراً من حياته في كوخ قديم في أقاصي جبال البيرني الإسبانية ، فامتزجت لديه المعتقدات الشرقية بالتراث الشاماني الغلوازي 0 أضحى من أعلام العرّافين والمشعوذين المراودين في أحياء باريس القديمة" وتنسب إليه وصفة "عجائن الفتنة" وهو خليط من المخدّر الممزوج بالدم البشري، فكان بعد تجربة طويلة من التمرّس بالاحتيال والشعوذة" يجيد الانقضاض على فريسته نظير أحد طيور"الساف المروّضة"0 وبعد سنين من هذه الأعمال البشعة وأمثالها يلتحق بمدرسة بحرية تمنح " وثائق مشبوهة" ،وبطرق غامضة ومشبوهة يقود مركبا مالطيا،وذلك قبل أن يتفاجأ به بحارة" الكابو-بلاّ" هاتفا وسطهم" أنا القائد... صاحب الأمر والنهي منذ هذه اللحظة"0 ولا يلبث أن يكون مركبه ملاذا للمجرمين والمهربين ،والمكان المفضّل لمداهمة رجال الشرطة(12)0وينتهي به الأمر منتحرا في خضّم البحر المتوسط بعد أن تغلّب عليه "تاج الدين" في لعبة شطرنج،اللعبة الرمزية العريقة للقوة0

    هاتان الصورتان الخاصتان بالشخصيتين الرئيستين في رواية " النخّاس"، يصار كثيرا إلى التخفيف من درجة التعارض بينهما، لكن الصراع الداخلي المحتدم في كل منهما يقود إلى مواجهة دائمة تؤدي إلى منازلة رمزية تمثّل ذروه ذلك الصراع0 وقد كان كل منهما " يتوجّس خيفة من الآخر". ورسمُ صورة تفضيلية لـ"تاج الدين" وصورة مشوّهة لـ" غابريلو" يرجع إلى الآثار العميقة للثقافة السائدة التي تتخلّل آليات التمثيل السردي،فتختزل"الأنا"و"الآخر" إلى أنماط ثابتة تقوم إما على إقصاء صفات معينة أو الاستحواذ على أخرى0 هذا فضلا عن شُحن الغلواء التي تتسرب لتحيط بـ"غابريلو" وتنتج له صورة لاشك أنها اكراهية0 فالرؤية السردية تتدخّل في إسقاط السمات المستكرهة عليه ، وتضعه خصما " شريرا" للشخصية الإيجابية المضادة0 وفيما تتشكّل شخصية"تاج الدين" بوساطة رؤية سردية موضوعية يقوم بها راوٍ عليم، أو رؤية ذاتية خاصة به باعتباره راوية وبطلا وبؤرة للحدث في العالم المتخيّل الذي يكوّنه السرد فان شخصية "غابريلو" تتشكّل على العكس من جملة من الرؤى التي تصدر عن شخصيات لا تربطها علاقة سوية به ، مثل الراقصة" لولا"وهي شخصية ثانوية ، على خلاف معه ، وتُقدِّم روايتَها عنه وهي في أحضان "تاج الدين" الذي لاذ بها " ينشد رائحة شعرها وأذنيها وطعم ريقها ومرارة إبطيها الفائحين عطرا ودفئا لطيفا رائقا"(14)0 وطبقا لأهمية التراتب في الرؤية السردية التي تحددها درجة حضور الراوي فإن " تاج الدين" بُنِيَ من رؤية كلية وشاملة، فيما بُنِيَ "غابريلو" من رؤية سردية جزئية وثانوية، وفيما مُنِح الأول هيمنة مطلقة في سياق السرد، اُختزِل الثاني إلى نمط جاهز لكي يؤدّي فقط وظيفة التعارض الدلالي0 وفي الوقت الذي أُضفيت فيه سمات عقلية وروحية وفكرية وثقافية على" تاج الدين" انفرد خصمه بالشعوذة والفسوق والشُبهة وسوء السيرة،وفيما كُثِّف حضور الأول، تقلّص حضور الثاني0 وفي كل هذا يستجيب التمثيل السردي لموجِّهات ثقافية خارجية تُنظّم آلية عمل السرد0 والجدير ذكره في هذا المقام أن "إدوارد سعيد" كان قد أكد على أن الروائيين منبثقون إلى حدٍ من تاريخ مجتمعاتهم ، وهم يشكّلون ذلك التاريخ ويتشكّلون به،ويتصلون بتجاربهم الاجتماعية بدرجات متفاوتة ، وأن الثقافة وكل أشكال التعبير الجمالي تشتق من التجربة التاريخية لتلك المجتمعات (14)0 لم تتنكّب الرواية العربية عن هذه المهمة ، ففي كثير من نماذجها مثّلتْ سرديا العلاقة بين الأنا والآخر0

    تتصل بكل من "تاج الدين "و " غابريلو " شخصيات أخرى , ولكن النسق الدلالي للنص ، يُسقط بعض المعاني الخاصة على الوظائف والأدوار التي تؤديها تلك الشخصيات 0 وبين فئة الشخصيات التي تغذّي القطب الدلالي الذي تمثله شخصية " تاج الدين " وتلك التي تغدّي القطب الدلالي الذي يمثله " غابريلو " ثمة شخصيات " وسيطة " ، مهجنّة . تعيش أزمة متوترة من الانتماء تجاه هذا القطب أو ذاك ، وأقصد تحديداً ، شخصية " جرجس القبطي " الذي يتذبذب حضوره ووضعه إلى درجة لا يستقر فيه حتى البناء الصرفي لاسمه الشخصي : جرجس ، جرجير , غرغير ، قرقير , وشخصية " لولا" البربرية التي لا دور لها إلا إطفاء الشهوات : ليلى ، ليليا ، ليليان ، لؤلؤة ، لولا . وربط هاتين الشخصيتين بخلفيات عرقية ودينية ، فضلاٍ عن العلاقات الغامضة والمثيرة بشخصيات تنتمي إلى " الآخر " ، كما في حالة " لولا " وعلاقتها بـ" غابريلو " و "جرجس " وعلاقته بمهرب الآثار اليوناني العجوز ، توحي بأن الثقافة السائدة مازالت تمارس تأثيرا جارفا في سطوته فيما يخص تقويم الانتماءات الثقافية للأقليات وسـط فضاء ثقافة العموم0 فهذه الشخصيات متصلة بعلاقات سرية ومشبوهة بـ" الآخر " وهي من جهة ثانية "دونية " ، لم تستكمل أوصافها وأدوارها ، وتعيش هواجس التردّد والخوف ، ولم تُدرج بعد ضمن وضعية ثابتة ، بما في ذلك حق التسمية الشخصية ، إذ تُعرف بخلفياتها وانتماءاتها الذاتية ، ومازالت تعيش مأزق عدم الاستقرار وفي مقدمة ذلك هوية الاسم .

    تؤدي هذه التعارضات الدلالية إلى نهاية يدفع الجميع ثمنها،ألا وهي ضياع السفينة" الكابو-بلا" في بحر هائج شرس 0 فالتعلّق بوهم الانتماء الخالص،والصفاء المطلق ،والخصوصية الضيقة لا يقود إلى الحوار والتفاعل، إنما إلى السجال وثم التناقض0 ومن المؤكد أن المؤلف قد صنع للشخصيات في روايته عالما يمور بالقلق والحركة والاختيارات الصعبة،ورمى بها فيه،ولهذا فالسفينة لن تصل إلى أي شاطئ ، فادّعاء التناقض والتعلّق به سيؤدي لا محالة إلى تقويض كل شئ0 ويظهر أن "تاج الدين" نفسه ،مع وعيه الجزئي بهذه القضية، قد أسهم في تعميقها ،فهو لم ينجح في تفريغ شُحن الغلواء ، وكان يقرّ بثنائية تقوم على التفاضل "أفريقيا هنالك في الجنوب"و"أوربا قريبة مولّدة وطاغية" 0والى أفريقيا النائية يُنسب التاريخ ، وإلى أوربا القريبة تنسب الحضارة ، وكأن " تونس " تنتمي إلى عالم وتتطلّع إلى آخر 0وبمعنى من المعاني فالتاريخ انتماء إلى الماضي،والحضارة انتماء إلى الحاضر.وبينهما تتأسس منطقة شاسعة لا يوجد فيها سوى الحيرة ، الحيرة التي تقود إلى الهلاك 0فإشكالية الانتماء الثقافي أعقد من تُحلّ برمز،لكن السرد ينجح تماما في تمثيلها0 وفي نهاية المطاف لا يصل أحد من ركّاب السفينة إلى مقصده ، فالتوتّر في قضية الانتماء يقود إلى نتيجة واحدة هي دائما الفناء0 وهذا الالتباس مع الآخر الذي تدفعه موجهات ثقافية ،كما اقتربنا إليه في رواية " النخّاس" له نظائر كثيرة في الرواية العربية منذ " علم الدين"لـ" علي مبارك" و"حديث عيسى بن هشام"لـ"المويلحي"و" عصفور من الشرق"لـ"توفيق الحكيم" و"قنديل أم هاشم"لـ"يحى حقي" وصولا إلى" الحي اللاتيني"لـ"سهيل إدريس"و"موسم الهجرة إلى الشمال"لـ" الطيب صالح"و"بالأمس حلمت بك" لـ"بهاء طاهر ،وغير ذلك كثير جدا0 ولكن الأمر الذي نريد أن نتوسّع فيه هنا هو كيف يقوم التمثيل السردي ذي الكثافة العالية بإنتاج الذات في صراعها مع نفسها ومع الآخر ضمن تاريخ ثقافي واحد؟وكيف تنشطر الذات بين تصورين ورؤيتين في إطار ثقافة واحدة؟ذلك ما نحاول الاقتراب إليه في الفقرة الآتية0


                  

05-12-2005, 11:30 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    السرد في الرواية العربية المعاصرة




    3. التمثيل السردي وتنازع الرواة



    تقدم رواية " امرأة القارورة "(15) لـ" سليم مطر كامل " خطة شديدة التعقيد والتنوع للسرد الكثيف، وقوام تلك الخطة هو التدافع الشديد بين الرواة من أجل الاستئثار بالسرد للإفصاح عن جملة من المواقف الفكرية فيما يخص الماضي والحاضر على حد سواء 0 وفيما ينبغي أن تنبثق حكاية " امرأة القارورة" من خلال السرد بيسر وسلاسة ، فإنها تشتبك مع الرواة في نوع من التنازع ، فالرواة منهمكون في وصف وضعياتهم الشخصية ومنظوراتهم وعلاقاتهم بامرأة القارورة وحكايتها ، الأمر الذي جعلهم يقدّمون ذواتهم وانطباعاتهم ورؤاهم بصورة استثنائية ، وبمقدار ما يمنح كل ذلك هذه الرواية خاصية فنية مهمة ، فانه يؤجّل ظهور الحكاية في نوع من التشويق الذي يسهم السرد في تنظيمه والتلاعب به ، قبل أن يعلن عن تفاصيلها تدريجياً من خلال علاقة الرواة بها في سياق ثقافي مختلف 0 وهو أسلوب في البناء السردي يتيح مجالا واسعا لأن تتجلّى الحكاية من خضم سلسلة الرؤى التي تتمركز حول نقطة ما ، فتكون نتيجتها تشكيل الحكاية التي هي رواية مجموعة من الشخصيات تتضافر عناصرها الفنية معا من أجل بلورة حكاية يمكن إدراجها ضمن نسيج متعدد المرجعيات بمكوناته التاريخية والأسطورية والسحرية، وهذا سهّل التراسل الشفاف بين المستويات الرمزية والواقعية للنص إلى درجة تحرّرت فيها الشخصيات من قيود الحركة التقليدية ، بما جعل التاريخ نفسه مادة سردية تمّ إلى تشكيلها حسب مقتضيات الأحداث . وهي إلى ذلك حكاية تخترق سكون الزمن ، فتعاصر سيل الأحداث المتدفّق الذي ينبع منذ ما يقارب خمـسة آلاف سنة هو عُمر امرأة القارورة 0 فالزمان بوصفه إطاراً للحدث ، يتقدّم ويتراجع ويتلوّى ويتكسّر في تساوق مع الاتجاهات المتشعّبة التي تأخذها الوقائع والأفعال المشكّلة لمادة الحدث السردية.

    إن تداخل مستويات السرد يؤدي إلى حركتين متعارضتين : حركة أولى تريد اختزال السرد الذي يحتكره الرواة لصالح الإعلان عن وضعياتهم الفكرية والنفسية ، والإفصاح عن حكاية امرأة القارورة دون إبطاء 0 وحركة ثانية مضادة تتواطأ مع الرغبات الدفينة للرواة ، وهي تُرجئ إظهار الحكاية ، فيستغل الرواة الفرصة للإعلان عن أنفسهم وحكاياتهم 0 وسنجد أن هذه اللعبة السردية ، إنما هي لعبة بلاغية متكاملة غايتها الإبلاغ عن الحكاية بطرق غير مألوفة0 والواقع ، فان حكاية امرأة القارورة باعتبارها اللّب المكوّن للرواية تتنازعها ثلاثة مستويات سردية ، تتصل بثلاثة رواة : يؤدي الأول وظيفة التقديم والاستهلال دون أن تربطه سردياً رابطة مباشرة بالحكاية ، ويؤدي الثاني وظيفة تنظيم الحكاية والمشاركة فيها من خلال علاقته المباشرة بامرأة القارورة " هاجر " و بـ " آدم " . وهذا الراوي يهيمن برؤاه ومواقفه وسلطاته المطلقة على النص ، ويؤدي الثالث ، وهو ضمير غائب ، دور الوسيط الذي من خلال سرده ينبثق صوت " هاجر" وهو صوت لا يكتسب استقلاله الشخصي ، إنما يقترن دائماً بذلك الراوي الوسيط الذي يتقنّع بضمير الغائب في نمط من السرد الموضوعي غير المباشر على نقيض السرد الذاتي المباشر الذي يتصل بالراويين الأول والثاني .

    تبدو ، أول وهلة ، علاقة الراوي الأول بحكاية امرأة القارورة علاقة واهية ، وهي كذلك من ناحية سردية ، اذا أُخذت بالاعتبار درجة الصلة بين ذلك الراوي والحكاية ، فالعلاقة السردية المباشرة ضعيفة ، ولايحصل تماسٌ يبنهما إلاّ بشكل عابر ، يُراد منه الايحاء بطبيعة تلك الحكاية ، بيد أنّ تلك العلاقة تبدو على غاية من الأهمية اذا نُظر اليها من زاوية أخرى ، وهي تنزيل الحكاية في موقعها السردي ، وضبط حدودها ، والتوطئة لها ، ووصف الخلفية التي تعطيها قيمة في سياق السرد 0 وما أن ينتهي الراوي الأول من وظائفه هذه إلاّ يتوارى ، ولكن ذلك يحدث ّ بعد ان يروي هو حكايته الخاصة به ؛ حكاية التمزّق بين الإكراه للالتحاق بحرب لا يؤمن بها إنما يُدفع اليها مُكرها ، ومحاولاته السبع للفرار منها ، في إصرار عجيب لا يعرف الضعف والتهاون ، وبين الشوق الدفين الذي يتملّكه منذ صباه لـ" أوروبا " 0 ورفض الحالة الأولى (الحرب) والاستغراق في الثانية (أوربا) أمران مرتبطان في ذهنه , ارتباط نتيجة بسبب ، يقول: "طيلة سبعة أعوام لم أكن أدرك من الوجود غير أهوال الحرب ، وذلك الشوق الدفين للهروب نحو حلم تملّكني منذ صباي " أوربا ". مامضى يوم إلاّ وكنت ارسم من عذابات الحرب لوحة لأوربا , كإلهٍ تعس يصنع من أطيان كوارثه مخلوقاً سامياً قادراً على منح اللذة لخالقه . من شبقي المكبوت نحتُّ جسد أوربا ، ومن تجارب حبّي الفاشلة صنعت قلبها ، ومن حاجتي إلى الراحة والأمان رسمت ملامحها الخضراء ، ومن توقي الى العدالة ، والانعتاق خيّطت لها ثوباً أبيض فضفاضاً يرفرف كأجنحة فراشة ويضمني بين ثناياه كما تضمني أم في عباءتها السوداء . أوربا صارت مخلّصي المنتظر وأرضي الموعودة . حتى عذاباتها كنت أراها أكثر استساغة من أمثالها في بلادي "(16) 0 مايلاحظ هنا أن التمثيل السردي ينتج عالمين متناقضين: عالم الشرق حيث ينتمي الراوي،وعالم الغرب حيث يتمنّى ، والرؤية السردية لهذا الرواي لاتعرف الحياد 0 إنها تركّب صورة مكروهة وممقوته للمكان الذي انبثق منه ( الشرق) ، وتركّب صورة احتفائية ورغبوية واستيهامية للمكان الذي ينشده( الغرب) ، إنها ثنائية الخفض والإعلاء، التبخيس والتبجيل، الكامنة في وعينا المعاصر وفي ثقافتنا0 وسوف تطّرد هذه الرؤية نفسها عند الراوي الثاني ، كما سنرى . على أن الموضوع الذي هو مدار عنايتنا هنا هو علاقة الرواي بالحكاية ، فقبل أن تتشكّل أطرافها يعلن الراوي عن عدم وجود علاقة له بها 0إن المصادفة وحدها هي التي جعلته يعرفها ، ولذا فان مسؤوليته عنها تتصل بالمساعدة في نشرها فقط 0 والدفع باتجاه فصم العلاقة بين الراوي الذي يتقّنع بقناع المؤلف والحكاية ، إنما هو لعبة سردية شائعة في الرواية العالمية والعربية ، تمثلها غالباً الصيغة المتداولة الآتية : إن المؤلف عثر على حكاية مجهولة ، وإن دوره سينتهي بنشرها وهو لايتحمّل أية مسؤولية عمّا ورد فيها 0 وهذه الصيغة بذاتها هي أكثر المداخل شيوعاً الى السرد الكثيف (أشهر وأقرب الأمثلة رواية "اسم الوردة" لـ"أُمبيرتو إيكو") ، اذ انها تبرمج الاطار العام لبناء النص السردي على نحو يحتّم ظهور ذلك السرد ، بتشعباته وتفاصيله الكثيرة 0 وقد أخذت بها هذه الرواية تماماً ، وبالغت في ذلك ، فخصّص فصل كامل ، هو ( فصل ابتدائي ) ليس فقط للبرهنة على عدم وجود صلة بين الراوي الأول والحكاية ، إنما لعرض الحكاية الشخصية لذلك الراوي ، فالمبالغة في نفي هذا النوع من العلاقة إنما هي مبالغة في تأكيدها ، يقول الراوي : " قبل الولوج في عالم هذهِ الحكاية الغرائبية مع ( امرأة القارورة ) العجيبة يهمني أن أعلمكم منذ الآن اني لست مسؤولاً عنها ، ولم أشارك في أي من أحداثها ، وخيالي بريء منها . في الحقيقة اني أُجبرت على نشرها من باب الواجب لاأكثر ، منذ أن عثرت على هذهِ الحكاية بطريق المصادفة قبل أسابيع ، وانا متردد في احراقها أو رميها في البحيرة (= بحيرة جنيف) ، وقد فشلت جميع جهودي لاكتشاف شخصية كاتبها الحقيقي ، إني انشرها ولم أحاول أن أغيّر في سطورها أية كلمة، تركت المخطوطة كما سلمتني إياها سيدة الحانة "(17)0 وسوف يستثمر الراوي هذهِ الفرصة للبحث في الظروف التي جعلت الحكاية تصل إليه 0 وذلك مجرّد مسوّغ يُستغل كغطاء لعرض حكايته الشخصية التي تستأثر بالأهمية الاستثنائية 0 فالرواي ، مستعينا بالسرد الكثيف كوسيط تمثيلي ، يتبطنّ شخصية المؤلف للإعلان عن مواقف آيديولوجية وثقافية ، والتصريح بآراء مزدوجة الإنتماء تتصل بالعالم الرمزي للنص من جانب وبالمحضن التاريخي له من جانب آخر، وكما رأينا في تركيب صورة تعارضية للشرق والغرب من قبل في رواية " النخّاس" ،فإن الصورة ذاتها ترتسم في "امرأة القارورة" لكنها مقلوبة الدلالة0 فالراوي يمضي في وصف حالة الإستياء والتبرّم التي دُفع اليها، وهي حالة المشاركة في حرب لاتعنيه. وهذه الحالة بذاتها ستكون محفّزا حيويا بالنسبة له للبحث عن نوع من الحرية التي يحلم بها، ولهذا تتعاقب محاولات فراره من الحرب سعيا لإشباع تلك الحاجة التي بمقدار ما هي رغبة ، فانها موقف من العالم الذي يعيش فيه، وهجاء له، فالشرق طارد والغرب جاذب0 وفي اصرار يناظر اصرار بطل رواية " الفراشة" يفلح الراوي في الوصول الى " جنيف" ليجد أن حكاية امرأة القارورة في انتظاره ، حكاية الشرق السرية المعمّدة بالألم ، وبتسهيل نشرها يختفي 0 لكن القضية الأكثر أهمية في سياق السرد هي أنه توارى بسبب نجاحه في رهان لايمكن أن يفشل فيه أمثاله، لقد انتزع مكانا رفيعا لحكايته الشخصية، ولايمكن لأحد أن يمر عليه ، دون ان تلفت أنظاره تلك الحكاية لأنها البوابة التي من خلالها يدلف إلى الحكاية الأم 0

    بعد أن يتوارى الراوي الأول الذي يعتبر المدشّن الرئيس للحكاية والمُمهد لها يظهر آخر يلتصق بظاهرها قبل أن يتماهى معها ، ويصبح جزءا منها 0وإلى هذا الراوي تُعزى كل السمات الفنية للعالم التخيّلي-السردي الذي يحتضن حكاية امرأة القارورة ، ومع أنه يماثل الراوي الأول في اختيار الغرب مكانا للحياة استنادا إلى جملة أسباب دفعته إلى ذلك ،وانه يعيش بوصفه فردا باحثا عن اللذة في مختلف أشكالها إلاّ أن درجة حضوره في السرد تفوق درجة حضور الأول، ورؤيته أكثر وضوحا ، وحياته أكثر تنوعا،وهو بلغة إيروتيكية – فنطازية مشبعة بالإيحاءات الرمزية يقوم بتشكيل العالم التخيّلي للنص، ويموضع امرأة القارورة فيه سواء في جذورها وامتداداتها التاريخية الرافدينية أو في حاضرها الآن 0 فتتدرّج علاقته بالحكاية من كونه في البداية مجرد راو إلى أن يستأثر بمكانته بوصفه شخصية لها موقعها ودورها في الحكاية0 مع ملاحظة التكتّم على الاسم ، وينتهي الأمر به ليكون مشاركا للشخصيتين الأساسيتين " هاجر "و"آدم"في حياتهما ومصيرهما. وكما كنا قد رأينا ذلك في حالة الراوي الأول ، فان هذا الراوي ، وبإصرار أكثر حدة وبطريقة أفضل ، ينجح في إيجاد درجة عالية من التناغم بين حكايته وحكاية" آدم" و" حكاية" هاجر"0 وعلى هذا فان حضوره في النص يظل قائما لملازمته الشخصيتين المذكورتين،وخلال ذلك يمارس ضروبا من الأفعال ، ويتفّوه بسلسلة لانهائية من الأقوال التي تكشف منظوره الشبقي الذي يجعله منغمسا في عالم اللذة إلى أقصى درجة ممكنة 0إنه باحث دائم عن المتعة ، يتصيّدها ويقتفي آثارها حيثما تكون ،ولا يتردد في التصريح بأنها جوهر وجوده ومدخله إلى الحياة والعالم ، وقد اختار الغرب ليتمكن من الاقتراب إليها 0إنه يتجدد بمقدار استغراقه الجذري في المتعة الجسدية، يقول" ليس في حياتي غير الرسم والحب، وفي كلتا الحالتين المرأة هي الغاية والموضوع. كنت صياداً والليل هو نهري ، كنت لا أتعب ولا أملّ، وفي صبر الصيادين تكمن قوتي. أرمي صنّارتي في نهر الليل مرات ومرات دون كلل حتى الفجر، مرة تخرج لي علبة صدئة ،ومرة ضفدعة ، ومرة غصن شجرة ، ومرة سمكة فاطسة ، حتى تصيد تلك البُنيّة الهائجة التي تظلّ تَلْبُط بين يدي لأشويها وتشويني على نيران شهواتنا حتى الصباح"0 ويكتسب هذا المنظور أهمية خاصة لأنه سيعيد إنتاج كل الأشياء طبقا لمقتضياته ، وفي مقدمة ذلك " هاجر" امرأة القارورة ، فمهما تعدّدت أوجه تأويلها ،وتنوعت أبعادها الرمزية ، فهي آلهة للذة الجسدية، والراوي لا يراها إلا باعتبارها وريثة تجربة في اللذة يزيد عمرها على خمسة آلاف عام ، لذة بلاد الرافدين الجارفة والعريقة 0 وحتى "آدم" المتقشّف جسدياً ، ينتهي بتوجيه مزدوج من اليقظة التي توقدها امرأة القارورة في كيانه ، ومنظور الراوي الذي يلح على البعد الايروتيكي للحياة ، إلى شخصية مخالفة لمعايير التزهّد الجنسي الذي كان عليه من قبل .

    وهكذا فان منظور الراوي الذي ينظّم مسارات السرد ، ويُسقط عليها شلالات من الإيحاءات الجنسية ، ويفلح في إضفاء شبكة دلالية معقّدة ترشح باللذة في تضاعيف النص 0 بانتهاء الاعتصام الجنسي لـ" آدم " فان ينابيع اللذة تتفجر في كل مكان 0 على أن كل هذا لا يلغي بعد شخصية الراوي من ناحية الخلفيات والتكّون ، لكنه يقصيه إلى الوراء ، ويدفع إلى الأمام بشبقيّته ؛ فالنهم بالجسد وتفاصيله يستأثر بالعناية الأساسية 0 وبما أن حكاية امرأة القارورة تتجلّى عبر منظوره ، وتتدفّق من خلال رؤيته، فإن ذلك الراوي يُشغل أولا بنفسه قبل أن تمر من خلاله تلك الحكاية ، وفي كل مرة يعيد ترتيب وضعيته بما يجعل حضوره باهرا ومشعاً وأخّاذا ، فيعلن عن نفسه في مطالع الفصول الأربعة التي يتكّون منها النص ، مستخدماً صيغة المخاطبة مع مروي له يُدغم بالمتلقي / القارئ 0
    إن الأمر الذي يستثير الملاحظة ، هو: فضول الراوي في الإعلان المتواصل عن نفسه 0 فهو يؤكد ، أنه البوابة الوحيدة التي من خلالها يمكن المرور إلى حكاية امرأة القارورة 0 ومن هذهِ الناحية فان سرده يتضمن كثافة هائلة تجعله حاضراً بطريقة لافتة للنظر في كل ثنايا النص 0 ومن الجدير بالذكر هنا أن سعيه في ألاّ يكون مجرد وسيط تعبر عليه الحكاية ، جعله في الصفحتين الأخيرتين يندمج تماماً في عالم الحكاية ، فاستبدل بصيغة الإفراد التي كان يستعملها طوال الرواية، صيغة الجمع ، وبوساطة ضمير الجمع للمتكلمين ختم الرواية في مشهد معبّر عن نجاحه في أن يكون عنصراً من الصعب الاستغناء عنه إلى جانب " هاجر "و " آدم " في حكاية امرأة القارورة0 والجنين الذي تحمله في الأصل " مارلين " ، لا ينفلت من رحمها ، إنما -كما يقول الراوي- " ينبجس من دوامتنا ويطفو مع قارورته فوق الماء ويزحف على الشاطئ باتجاه حقول وبساتين وينابيع نيران أزلية " .وبإزالة الحجب السردية الكثيفة التي تلفّ حكاية امرأة القارورة ، قصدتُ بذلك مستويات السرد التي تمثلها منظورات الراوي الأول والثاني ، تتجلّى الحكاية الباهرة المشعّة: حكاية التحولات المستمرة ، والعلاقات الغريبة، وتحديداً حكاية " هاجر " رمز الترحال والهجرة الأبدية ، والأسطورة الأنثوية العائمة فوق التواريخ والأوطان ، والحلم الذي يسعى كل الذكور إلى نيله0 ومع أن السرد يبدأ يُفصح عن الحكاية ، وتخفّ كثافته ، وتشتدّ شفافيته ، إلاّ أن صوت "هاجر " مازال يمر خلل وسيط سردي ثالث ، إنه يتدخل ويعيد صياغة ما ينبغي أن يكون صوت " هاجر " المباشر ، ويستبدل الضمائر ، ويغيّر الصيغ ، ويلخّص حيناً ، ويسترسل حيناً آخر ، ويحفر وينقّب ويعلّل ويصف ويؤوّل لكنه لا يحجب ولا يستبعد أحدا،وهو في الوقت الذي لا يختفي فيه تماما،فانه يتوارى ويتقشّف في الإعلان عن نفسه بطريقة ملفتة للنظر0 إنه ضمير ماكر لعوب، يجيد لعبته الذكورية ، فيعيد إنتاج حكاية امرأة القارورة طبقا لتصوراته الثقافية والجنسية كذكر خاضعا لفكرة التنميط الثقافي لذكورته ومسقطا التنميط ذاته عليها كأنثى، دون أن يأخذه الفضول في الإعلان عن نواياه الحقيقية 0 وستقترن الحكاية بهذا المستوى من السرد إلى النهاية ، لأنها عبارة عن التشكيل الخطابي الذي يكوّنه صوتان متداخلان: صوت " هاجر " وصوت ذلك الضمير الغائب المجهول الذي من خلاله يمر إلينا صوتها.فكل أنثى بحاجة إلى وسيط ضمن ثقافة مشبعة بقيم الذكورة! ! !0

    تندرج حكاية امرأة القارورة في نظام دائم التحوّل ، وبذرة التحوّل التي توجّه كل شيء ، وتكون سبباً له ، هي " هاجر " المتحوّلة من كائن فانٍ ، إلى كائن خالد ، ثم إلى كائن فانٍ مرة أخرى 0 وهذا التحوّل المركزي ستمتد آثاره إلى فضاء الأحداث والشخصيات وإلى السرد نفسه، وعلى هذا فان نظام العلاقات المتحوّل هو أشدّ ما يثير الاهتمام في النص ،إذ ليس ثمة وضعيات ثابتة ، بل هنالك صيرورة دائمة ، وهو الذي يغلّب البحث في العلاقات على البحث في الوضعيات 0 والحقيقة فانه بسبب نظام التحولات الذي يهيمن في رواية " امرأة القارورة " ينتهي كل شيء إلى غير ما بدأ به ، حتى الوضعيات الابتدائية التي يمهّد لها السرد ، سرعان ما تلتحق بنظام التحولات الشامل في النص 0 فالرواة و " آدم " ومن ثم الأفعال والفضاءات ، تستجيب لمبدأ التحوّل في شخصية " هاجر " التي كانت سلسلة متواصلة الحلقات من التحوّل المستمر ؛ من كونها امرأة عاشت في " أور "بعد الطوفان ، إلى حبها الجارف للشاب " تموزي" ثم زواجها منه ، والإغراء بالخلود لتكون حبيبة وعشيقة دائمة ، وانتهاءً بفك طلسم الخلود عنها بعد خمسة آلاف سنة 0 وخلال ذلك تتجلى من خلال أصنام " أنانا ـ عشتار " ، فتثير الغيرة في نفس " كيجال" آلهة العالم السفلي ،وبمقتل" تموزي" يغتصبها ملك غريب ، يتضح إنه ابنها ، واعتباراً من هذه المرحلة تصبح "هاجر " أمّا وعشيقة مستباحة لمائة وخمسين من الأبناء والأحفاد الذين يتوالون عليها في نهمٍ شبقي هو ومزيج من العشق والاغتصاب 0 وحين تنتهي إلى الحفيد الأخير " آدم " تتدخّل جملة ظروف تفضي إلى إزالة الخلود عنها،والعيش بوصفها امرأة معرّضة للفناء شأنها في ذلك شأن جميع البشر 0 وفيما يقوم بتخليدها شيخ بسيماء نبي ، يقوم شبيه له ـ ربما نفسه ـ بتخلصها من الخلود 0 وبين هاتين اللحظتين يفترع عذريتها المتجددة رجال تناسلوا منها : طغاة، ورسل ، وأدعياء ، وسحرة ، وملوك ، وأنبياء ، ومطاردون ، وضحايا 0 في مقدمتهم " تموزي " ، وبينهم إبراهيم وموسى وفرعون وخاتمهم " آدم " 0وكل هذا يحُدث تحولاً في جملة العناصر الفنية المكوّنة للنص ، فالشخصيات تغيّر انتماءاتها فتهجر بلادها وتلجأ إلى بلاد أخرى ، وذلك يؤدي إلى تغيير كامل في الفضاءات السردية ، وتغيير كامل في نسق الأفكار التي ترددها الشخصيات بحسب الفضاءات التي تظهر فيها . إن السرد ذاته يتحوّل من كونه سرداً مغرقاً في كثافتهِ إلى سرد أقل كثافة ، ثم أخيراً إلى سرد هو مزيج من الكثافة والشفافية . وفي التفاته معبّرة عن نظام التحول الدائم يقفل النص سرديا بمشهد هو ذروة التحولات ، وبه ينفتح أفق آخر للتحولات الدلالية 0 ففيما يرجّح أن " هاجر " قد اقتيدت أسيرة ورهينة إلى البلاد التي ولدت فيها، يُحدث فناؤها تحولاً في مصائر الشخصيات الأخرى : الراوي ، و" آدم "، و" مارلين " 0 فالسائل الذي عبّأه الشـيخ من سيناء في القارورة وحلّ محل " هاجر" مُزج بالنبيذ الأحمر ، وبالارتواء منه فاض الخلود على تلك الشخصيات 0 وفيما كانوا فانين و" هاجر " خالدة ، أصبحوا خالدين وهي فانية ، وفيما أفلحوا في تحقيق حلم الحرية الدائم كُبّلتْ هي بقيود البلاد التي ظهرت فيها . فتقاطعت المصائر في نوع من التحوّل الدائـم 0
    ينتهي النص حينما يكف السرد عن تجهيز المتلقي بمصائر أخرى للشخصيات ،وتنتهي الرواية ككتاب ، لكن التفكير في أمر صوغ الأحداث وتحولاتها الدائمة لاينتهي ، فكل نص يفجّر مشكلة لدى المتلقّي 0 وقد يكون النص الروائي نفسه اطاراً مناسبا للحديث عن تقنيات السرد وطرائق تركيب المادة التخيلية ، كما سيتكشّف لنا ذلك في الفقرة الآتية0

    4. التلقّي السردي وتشكيل العالم التخيّلي للنص0



    لا يكتفي "محمد برّادة " بتقديم المادة التخيلية ـ الحكائية لروايته " لعبة النسيان "( 1 إنما يهتم اهتماماً كبيراً بكيفية عرض تلك المادة ، بحيث يجعلها قضية مثيرة تستأثر بتحليل مفصّل ، ومتعدد المستويات 0 وإذا أردنا الدقة في الوصف فإن تلك الحكاية تذوب وسط النزاعات المتزايدة بين الرواة ، فكل يزاحم الآخر في انتزاع موقع ، يسمح له بإبداء رأي أو وجهة نظر فيها أو حولها 0 بعضهم يعلن عن رغباته وتطلّعاته تلك بكثير من الصراحة والتأكيد ، وبعضهم يمارس دوره في نوع من السرية دون الانهماك في الإعلان عن النفس ، وهم يتبادلون الأدوار ؛ مرة يكونون جزءاً من الحكاية بوصفهم شخصيات تنهض بمهمة المشاركة في وضع الأحداث ، ومرة يكونون رواة يشغلون بتقديم شخصيات أخرى ، ومرة ثالثة يكونون مجرد مادة للتحليل السردي الذي يشترك فيه " راوي الرواة " مع "المؤلف". وهذهِ الأدوار بما تحدثه من تغيير متواصل في المواقع والوظائف ، تجعل المادة الحكائية متمزقة لا يعاد تشكيلها إلا في ذهن المتلقّي0

    تتمرأى الحكاية في " لعبة النسيان " على خلفية شديدة التعقيد من التداخلات السردية التي تعنى بالرواة ومواقعهم في الحكاية ، ومع أننا سوف نستخدم مصطلح "حكاية " للإشارة إلى المادة المترشّحة عن شبكة التداخلات السردية المذكورة ، إلا أننا نتحرّز كثيراً ، فواقع الحال ، إن " الحكاية " في هذه الرواية لا تكاد تتركب أجزاؤها ، إلا وتتناثر،ثم تتحلّل في خضم الروايات المختلفة والمتداخلة للشخصيات والرواة على حدٍ سواء ، إلى درجة تصبح "الحكاية " مجرد ومضات من وقائع تتصل بحياة أُسرة من الأسر المغربية تغطّي مساحة زمنية تقارب نصف قرن من الزمان ، وتلك الحياة الأسرية تتشظّى إلى مشاهد لا رابط بينها ، لكنها تؤدي وظيفة كشف لحظات معينة من تاريخ الشخصيات ، بحيث تكون غايتها- إن كان لها غاية في سياق النص- تصوير النمو المتدرّج، لكن المتفكّك في الوقت نفسه لمصائر مجموعة من الشخصيات المكوّنة لأسرة "لاله الغالية ": أخوها " سيد الطيب " ثم أولادها " الطايع "و " الهادي " و " نجية " وجيل الأحفاد مثل " فتاح" و " عزيز " و " إدريس " و " نادية " 0 على أن الشخصيات التي تتصدّر الاهتمام هي : " الهادي "و " الطايع " وعلاقتهما بالأم " لاله الغالية " والخال " سيد الطيب " 0 ولا تتضافر الشخصيات فيما بينها ، داخل النص من أجل بلورة " حكاية" بالمعنى الشائع ، إنما تُلقى الأضواء على وقائع منتخبة من حياتها وتكوينها 0 فتلك الحياة إنما هي مادة يتلاعب بها الرواة بحسب علاقتهم بها ، ويقدمونها على وفق منظوراتهم لأهمية الأجزاء المكونة لها .

    لا يُعنى النص بالشخصيات وأفعالها ـ وهو ما يفترض أن يكون لب الحكاية كما هو معروف-إنما يحتفي بالكيفية التي يتم فيها عرض الشخصيات وأفعالها . ومن أجل ذلك يتضمن النص شخصية جديدة في الرواية العربية، هي شخصية"راوي الرواة" ، ولها وظيفة سردية تختلف عن وظائف الشخصيات الأخرى 0 إن وظيفتها هي القيام بتركيب المادة السردية داخل النص وتوزيعها على الرواة ، والتدخّل فيها ، ثم ترتيبها حسب المنظور الذي يحدد أهمية كل جزء من أجزائها . ولهذا فأن " أفعال " هذه الشخصية لا تندرج في الحكاية إنما تندرج في " متن " النص ، لان أفعالها " فنية " تضاف إلى مرحلة ما بعد إنجاز أفعال الشخصيات ، فهي التي تقوم بترتيب تلك الأفعال ، ومن هنا أشرنا إلى جدتها ،لأنها المسؤولة عن البناء السردي للنص 0 والحقيقة فان ملاحظاتها تشكّل بحد ذاتها أهم دراسة عن البناء السردي لرواية " لعبة النسيان" ولهذا فان اهتمامنا سيتركّز على شخصية " راوي الرواة " باعتبارها الوسيط بين " المؤلف " من جهة وشخصيات الرواية من جهة أخرى 0
    يؤكد " راوي الرواة " إن " المؤلف " أودع لديه مادة سردية هي مزيج مما عرف وتخيّل- يذكّر ذلك بما وقفنا عليه قبل قليل بخصوص مخطوط إمرأة القارورة- ، وقال له: " أريد أن تنظّم سرد هذهِ المادة الخام في تشخيص يستوعب الكلمات واللغات التي نسجت حكيها داخل مخيلتي، غير أنني وجدت أن جميع ما كتبته لا يرتقي إلى قوة الرجع المشع الغامر للحواس والنفس ، التجئ إليك, لأنني وأنا أعيد سرد ما عشته , وشاهدته , وتخيلته ،وحلمت به ، تبدو لي الأشياء والذكريات مختلفة مشوشة الصورة ، باهتة بالمقارنة مع ما اعتقد أنني عشته وعانيته " ( 19) 0 وبإيداع هذه المادة الخام لدى "راوي الرواة" يكون المؤلف قد وضعه في "مأزق" كما يقول- لاحظنا أن الراوي في "امرأة القارورة" يسارع إلى نشر المخطوط الذي عثر عليه، لكنه يحجم هنا ويتردد- فالمؤلف يؤكد أن المادة التي تركها لدى " راوي الرواة " تفتقر إلى " قوة الرجع المشع الغامر للحواس والنفس" ، وهي " باهتة مع ما اعتقد أنني عشته وعانيته " وبذلك فهو ينتظر من " راوي الرواة " أن يبثّ فيها الإحساس والتأثير ، أو ما يسميه " جيل دولوز" بـ" المؤثرات الانفعالية " (20) التي يرى أنها جوهر كل فن0

    واضح أن وظيفة "راوي الرواة " ستكون وظيفة سردية ذات طبيعة فنية ، تتصل من جانب بمفهوم الأدب السردي ،ومن جانب آخر ببناء المادة التي آلت إليه .وهو منذ البداية يتنّبه إلى ضرورة معالجة المادة التي تركها المؤلف ، مهما كانت خلفياتها ومرجعياتها ، معالجة فنية ، تأخذ بالاعتبار مناحي التأثير والإحساس التي ينبغي أن تتصف بها كل مادة أدبية 0 كان المؤلف قد ألقى بالمادة إليه ، أما هو فيقول " إنني حسمت الموضوع ـ دائماً يجب أن يكون هناك من يحسم ـ بأن المسافة القائمة دوماً بين المعيش والمتخيّل ، والمكتوب والمحكي ،تؤكد أن الأحداث والحياة بصفة عامة، تجري على أكثر من مستوى، متداخلة متشابكة.. مفهوم ؟ وإذن ، سيكون جهداً ضائعاً أن نعمد إلى إيهام القارئ بواقعية ما نحكيه . سأعطي الأولوية لرصد أصداء ما نحكيه في نفوسنا ، نحن الرواة ، من خلال ما تبقى من مخيلة الكاتب وذاكرته"(21) 0وما أن يلمس بأن المؤلف سوف يحتج على التدخّل الكبير الذي سيقوم به ، إلا ويقول " تحمّل وقاحتي ، أيها الكاتب ، إذا كنت استعمل طحينك لأعجن خبزة أدلل بها على نباهتي ؛ فأنا أريد أن اقنع القارئ بشطارتي وحسن اختياري في توجيه دفة السرد " (22) ويخلص إلى النتيجة المهمة الآتية مخاطباً المؤلف : " من حقي أن أتدخّل ، وألا اكتفي بتنسيق الخيوط والأسلاك من وراء ستار ؛ قد يزعجك ذلك لكنني أرجوك أن تعتبره تكملة للعبة تضعك أمام عناصر لم تتخيلها أو آثرت السكوت عنها" (23). إنه يبحث عن دور مساو لدور المؤلف نفسه ، بل ويقترح عليه أشياء جديدة ؛ منها مثلاً تسمية بعض فصول الرواية 0 ومادمنا قد وقفنا على العلاقة بين" راوي الرواة" و " المؤلف " فلابد أن نمضي إلى النهاية هادفين إلى فحص الطبيعة المتوترة بينهما ،بسبب اختلاف التصورات حول عناصر السرد ، وطرائق معالجتها0 فما أن يحتدم الخلاف بينهما إلا ويعلن " راوي الرواة " بأن العلاقة بينه و المؤلف قد ساءت إلى حد القطيعة وينبغي "التخلي عن التعاون والتنسيق ولولا وسطاء الخير ، لكان الذي يتحدّث إليكم مباشرة الآن ، هو المؤلف ، مواجهاً معضلات السرد والترتيب وتوزيع الكلام ، والحقيقة إنني لم اقبل استئناف مهمتي إلا بعد موافقته على أن احكي للقارئ بعضاً من خلافاتنا " ( 24) . وتدور تلك الخلافات حول طبيعة التصوّر الذي ينبغي أن يقدّم في الرواية لمفهوم الزمن ، ففيما يريد " راوي الرواة " أن يقدم تصورا فنياً للزمن يوافق النسيج السردي ـ التخيّلي للنص ، يريد المؤلف تقديم مفهوم تاريخي لذلك الزمن ، وحول هذا الموضوع يدور مضمون الخلاف ،ويتجاوزه إلى البحث في كثير من الظواهر الاجتماعية خارج النص حيث التعليق على أحداث ووقائع تاريخية 0

    يسوّغ " راوي الرواة " تدخلاته الكثيرة استناداً إلى أهمية دوره ، ذلك انه يعرف الرواة الآخرين ، ويعرف ما يتفوهون به ، ويستطيع مناقشتهم فيه ، وهو يقوم بتفسير الأفعال وبيان طبيعتها وأسبابها ، ويقارن الأوضاع والحالات ، ويكمل الأجزاء الناقصة ،ويملأ الفراغات التي تركها المؤلف ، ويزيل الغموض والالتباس ، ويدمج أقوال المؤلف بأقوال الشخصيات بأقوال الرواة ، ونظرا إلى انه المسؤول عن اللعبة السردية فانه يعتبر نفسه عنصر توازن يتكئ عليه المؤلف، ويعتمد عليه في صوغ المادة صوغاً مناسباً 0 ولا يتردد في التأكيد على أنه قد يستخدم من قبل المؤلف ليمارس دور الرقيب ، وهو دور يلقيه عليه المؤلف تهرباً من المواجهة ، فالمؤلف يريد تمويه الحقائق من خلاله ، وهو يتوجس من كل ذلك لكنه يفتخر بأن معرفته أكبر من معرفة الرواة الآخرين ، لأنه مطّلع على الخلفيّات والتفاصيل ، وله حق التدخّل ، وزحزحة كل ما حكاه الآخرون ، ويرى أن له رتبة كبيرة وصفة سامية ، فهو المتحكّم بعناصر البنية السردية ، وله حق تغيير الوضعيات ، وتضخيم الأدوار , وإذا اقتضى الأمر ، ووجد نفسه مهملاً ، فانه قادر على إفشاء أسرار المؤلف وتشويه الصور التي أرادها لشخصياته 0 إنه يهدد باستمرار بفضح ما سكت عنه المؤلف والرواة ، ويريد أن يُعترف له بدور رئيس لا ينافسه فيه أحد ،لأنه صاحب اللمسة الأخيرة على النص الذي وضعه المؤلف بين يديه , وله أن يحتجّ ويرفض ويمتنع ويختلف مع المؤلف، وله أن يقدّم تأملاته وتحليلاته لكل الروايات التي تقدم بها الرواة الآخرون 0 إنه بالنتيجة عليم بكل شيء ، فضولي ، له قدرة على تعقّب الأخطاء ، وتتّبع النواقص ، ودوره يرتّب عليه مسؤولية الإحاطة بكل شيء ، والإلمام بالتفاصيل جميعها فهو " سيد "الرواة ، تعبر أصواتهم ورؤاهم وتصوراتهم وأفكارهم وانطباعاتهم إلى المتلقّي من خلاله ، لأنه الوسيط بين المستويين الواقعي والتخيلي للنص 0

    تمارس شخصية "الهادي " أدوارا عدة ، بعضها يكشفه النص ، وبعضها يفضحه " راوي الرواة " ، ويلزمنا التريث عند هذه الشخصية كونها الشخصية الرئيسة في الرواية . ومع أن شخصيات أخرى تحتل موقعاً مهماً في العالم التخيلي للرواية كـ" الطائع " و " سيد الطيب " و " لاله الغالية " و " نجية " لكن شخصية "الهادي" تعد ذات موقع استثنائي لأن منظورها بما فيه من تصورات وتحليلات وانطباعات وتأويلات يهيمن على العالم التخيلي للنص، وتكاد تنحسر المنظورات الأخرى بازائه 0 ويمكن حصر أدوار هذه الشخصية بما يأتي : فمن ناحية أولى يعتبر " الهادي" قناع " المؤلف: في النص، فثمة تواطؤ بينهما بحيث يحتجب الثاني خلف الأول وينطقه ، وهذا التواطؤ يفضحه " راوي الرواة " حينما يستشعر " أن بين الهادي والكاتب أشياء كثيرة " 0 ومن ذلك التكوين الذهني لـ" الهادي " ، والأيديولوجيا التي يتبناها،وإسقاط نمط من التحليل على الظواهر التي يعاصرها 0 إن" راوي الرواة" يترصّد هذا التماهي بين هاتين الشخصيتين ، غير أن الأمر الذي لابد أن يأخذ حقه من الاهتمام ، هو: إن " الهادي " يظهر بمظهر مقارب لمظهر المؤلف ، إنه يستدعي الأحداث ، كما حصل في قضية موت الأم ، ويصف طفولته حيث التكّون الأول " اكتب ويتلعثم القلم بين أصابعي . زادي من الكلمات لا يفي ، كنت بدأت بقراءة قصص كامل الكيلاني ، ولعبة اختزان اللغة الجميلة " المعبرة " تستهويني ؛ والتركيب بين الكلمات والعلامات أخذ طريقه .. فأنا احمل ما التقطته الذاكرة أثناء القراءة الجماعية لصفحات من ألف ليلة وليلة " (25) ، ويواصل في تضاعيف النص الكشف عن تكوّنه الثقافي ، فهو بحسب تعبير الطايع " صنبور الأسئلة والهواجس والتخمينات " وهو " مفتون بالجسد واللذة " وقد وضع " الدين بين قوسين " , وهو الذي يقدم نقداً قاسياً للأوضاع الاجتماعية وما آلت إليه الأمور في نهاية الرواية ، وهو الذي يعمق المصائر المتقاطعة للشخصيات ، وبخاصة شخصيته هو، وشخصية " الطائع" . هو إذ ينتهي إلى الشك المطلق ، وينادي بأيديولوجيا يسارية ـ علمانية من خلال صحيفته التي تبشر بذلك، و"الطائع " الذي إثر سلسلة انكسارات ينتهي إلى الاستغراق في حلم " بناء مجتمع إسلامي تبعث فيه حضارتنا التليدة الأصيلة "(26) . ومن ناحية ثانية فإن " الهادي" يعتبر أهم الرواة بعد " راوي الرواة " وكثير من أجزاء النص تروى على لسانه في نوع من السرد المباشر الذي يتضمن استقصاءات كثيرة حول أوضاعه وأوضاع الشخصيات الأخرى 0 ويلاحظ على سردهِ أنه مملوء بالتحليل والاستنطاق والوصف ، وكل هذا جعله يسهم في تركيب صورة خاصة للشخصيات الأخرى ، ويشترك بفاعلية في بناء العالم التخيّلي للنص . ومن هذا الجانب فإن كونه قناعاً لـ" المؤلف " جعله يتمتع بحرية كبيرة في إضفاء رؤية تاريخية ـ نقدية على كل ما يراه ، وينهض سرده على نوع من التعارض مع سرد آخر ، ففيما تُعزى " الإضاءات "إلى غيره من الرواة مثل : نساء الدار ، والخالة كنزة ، وراوي الرواة ، الذين يقدمون إضاءاتهم ، فان كل ما يرويه ـ باستثناءات قليلة ـ يأتي تحت عنوان " تعتيم " . فالتعارض الدلالي بين " الإضاءة " و " التعتيم " لا يفهم إلا على اعتبار الغايات والمقاصد الكامنة وراء تلك الروايات 0 ويلاحظ أن تركيز الروايات الأخرى ينصب على الأبعاد الخارجية للشخصيات ، فيما اهتمام " الهادي " يتجه إلى الأبعاد الداخلية لها . وأخيراً ـ وهي الناحية الثالثة ـ فإن " الهادي " يعتبر أحد المراكز المهمة في الرواية لأنه شخصية تتفاعل ـ تأثيرا وتأثراً ـ مع الشخصيات الأخرى ، فدورها يجتذب إليه الشخصيات ، فتندرج في علاقات متنوعة وكثيرة مع الآخرين ، وكل ذلك أضفى على هذهِ الشخصية أهمية بارزة . وما يلاحظ أن هذا التنوع في الوظائف قد اسهم في إقصاء الحكاية إلى الوراء ، ذلك أن الانشغال بالعلاقات السردية ، وكيفيات تركيب الصور للآخرين وللذات ، والانهماك بالتعبير عن أفكار خاصة ، وانتخاب وقائع لها صلة مباشرة بشخصية " الهادي" بما يجعل تلك الوقائع تؤدي وظيفة تخدم فيها تلك الشخصية , فضلاً عن منظومة الأحكام والتصورات التي تشمل عالم الرواية بأجمعه 0

    إن جميع ما ورد ذكره كان يؤدي إلى نتيجة ذات وجهين : الوجه الأول وضع شخصية " الهادي " بوصفه قناعاً للمؤلف وراوية وشخصية رئيسة تحت مجهر مكبر يثير اهتمام الآخرين به ، والوجه الثاني يتم فيه استبعاد الشخصيات الأخرى ، والتقليل من أهميتها كفواعل في البينة السردية ، وسلبها حق الإعلان عن نفسها بدرجة مساوية لدرجة الاهتمام بشخصية "الهادي"، وهذا التغييب النسبي سيؤدي لا محالة إلى إضعاف الحكاية والتقليل من أهمية مكوناتها ، ذلك أن ثمة طبقتين كثيفتين من السرد تحيطان بها ، وهما على التوالي : طبقة خاصة بـ" راوي الرواة " وطبقة خاصة بـ" الهادي " . فإذا تم اختراق هاتين الطبقتين ، تظهر إلى العيان الملامح العامة لـ" الحكاية " . إننا نعيد التأكيد على أنها مجرد ملامح أذابتها الأغطية السردية الكثيفة المحيطة بها ، وجعلتها تتناثر بوصفها شذرات ونبذا على السنة بعض الشخصيات ، لأن العناية اتجهت إلى المستويات السردية وليس إلى الأفعال والوقائع والأحداث المترشحة عنها . وإذا تأملنا ما ترسب عن كل ذلك وجدناه : استذكارات تقود الشخصيات إلى مراحل زمنية سابقة ، أو استحضارات تقوم بها الشخصيات الآن من أجل جلب ذكرى ماضية إلى زمنها الحالي . وخلال ذلك تتركب مجموعة غير متجانسة من الوقائع القصيرة غير المتضافر من أجل إدراجها في سياق أكبر لتصبح حكاية محورية تتمركز حولها الشخصيات ، من ذلك ما يرويه " سي إبراهيم " بالمحكية المغربية ـ وهو مقطع بالغ الجودة والدلالة (27) ـ عن نفسه وعمله ، أو " إضاءات " النسوة ، أو حتى ما يقدمه " راوي الرواة " عن زواج " عزيز" من خلال نمط من السرد السينمائي ( = التصويري ) الذي يقدم مشاهد متنقلة بحواراتها وشخصياتها وأفعالها ، في ضرب من التمثيل السردي الهادف إلى كشف تعدد الاهتمامات وتباينها في مجتمع الرواية ، وهو مشهد يتوّج الرحلة الصعبة والمعقّدة للشخصيات التي قُدّمت من قبل متناثرة ، بما يبّين التمزق العميق في نسيج ذلك المجتمع الذي وإن كان يوجد في فضاء واحد ، إلا أن انتماءاته الثقافية والطبقية تحول دون وحدته 0 فالتنوع هنا لا يمارس على أنه سبيل للاختلاف ، إنما يفضي إلى التقاطع والتمزق والتعارض . وفي لفته ختامية ، يحاول " الهادي " وهو يصف اعتقال " فتاح " ابن أخيه " الطايع" - لأنه اتهم بممارسة سياسة محظورة توافق إلى حد ما منظور " الهادي " الفكري ولكنها لا تنطبق مع أفعاله - أن يفضح كل تلك التناقضات ، مستعيناً بلهجة نقدية ساخطة ، وكأنه يريد تأكيد دوره ، فـ" فتاح " استمرار لحاضر " الهادي " من ناحية فكرية ، وقطعية لحاضر " الطايع " من ناحية دينية ، وبذلك ينغلق النص على هذه الإشارة الموحية 0

    5. الخاتمة



    كشف لنا البحث أن الرواية العربية المعاصرة ،وبخاصة تلك التجارب التي خرجت على النسق التقليدي ، قد استفادت من تقنيات السرد الحديثة،وفي مقدمتها: السرد الكثيف الذي لا يكتفي بإنتاج الحكاية، إنما يُشغل بكيفيات تشكيلها وعرضها0 الأمر الذي يطرح في داخل النصوص مشكلة الرواة ومواقعهم ورؤاهم 0 ولهذه القضية أهمية استثنائية في مجال الدراسات السردية،لأن الرواية العربية انتقلت من التمثيل السردي التقليدي الشفاف حيث ينصبّ التركيز على الحكاية بوصفها لُب ّالنص إلى التمثيل السردي الكثيف الذي يُدرج الحكاية بوصفها مجرد عنصر فني في سياق شبكة متداخلة ومتضافرة من العناصر، وبذلك يتيح مجالا كافيا لبيان الكيفية التي ينتج السردُ بها العالم المتخيّل،ويمكِّن المتلقّي من معرفة طرائق تناوب الرواة في عرض مواقفهم،ودورهم في تركيب الأحداث والشخصيات والخلفيات الزمانية- المكانية0 وهذا يجعل من الرواية نوعا سرديا متصلا ، على أشد ما يكون الاتصال بالعالم والتاريخ والبشر وكل المرجعيات الثقافية الأساسية في عصرها 0فالرواية في نهاية المطاف ظاهرة أدبية –ثقافية0

    v v v




    الهوامش



    1. إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب ( بيروت ، دار الآداب، 1997)ص58

    2. جيرار جنيت وآخرون، نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير، ترجمة ناجي مصطفى( الدار
    البيضاء، منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي، 1989) ص89و100

    3.عبدالله إبراهيم، التلقّي والسياقات الثقافية (بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة،2000)ص14

    4.صلاح الدين بوجاه، النخّاس ( تونس ، دار الجنوب للنشر، د.ت)

    5. م.ن ولمتابعة هذه الظاهرة ، نحيل على الصفحات الآتية: 142،141،139،134،106 ،101،
    98، 97،73،65،58،43،21وغيرها.

    6.م.ن.ص7

    7.م.ن.ص143

    8.م.ن.ص148

    9.م.ن.ص46

    10.م.ن.ص19-20

    11.م.ن.ص32

    12. تتركّب صورة " غابريلو كافينالي" من خلال رؤية "لولا" في الصفحات 34-37

    13.م.ن.ص34

    14. الثقافة والإمبريالية ص66

    15.سليم مطر كامل، امرأة القارورة ( لندن، دار رياض الريس للكتب والنشر،د.ت)

    16.م.ن.ص 8-9

    17.م.ن.ص7

    18. محمد برادة، لعبة النسيان( الرباط ، دار الأمان،1987)

    19.م.ن.ص54-55

    20. جيل دولوز وفيليكس غيتاري، ما هي الفلسفة،ترجمة مطاع صفدي ( بيروت ، مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي،1997)ص184

    21.لعبة النسيان ص55

    22.م.ن.ص55

    23.م.ن.ص57

    24.م.ن.ص130

    25.م.ن.ص14

    26.م.ن.ص79

    27.م.ن.ص57-64

    (*) من البحوث التي نشرناها في هذا الموضوع:
    1.الرواية العربية والسرد الكثيف: تجربة مؤنس الرزاز أنموذجا، مجلة علامات في النقد،جدة،ع27/1998

    2. التمثيل السردي في روايات الكوني، مجلة علامات في النقد،جدة،ع32/1999

    3. الوجوه والمرايا: تبادل الأدوار السردية في رواية" البحث عن وليد مسعود"لـ"جبرا إبراهيم جبرا" مجلة الحياة الثقافية، تونس،ع108/1999

    4.موسم الهجرة إلى الشمال: السرد،الهوية، العنف،مجلة الجسرة الثقافية،الدوحة،ع3/1999

    5. السرد الكثيف في الرواية العربية:تجربة أمين معلوف أنموذجا، مجلة البحرين الثقافية، المنامة، ع24/2000.
                  

05-12-2005, 11:32 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    الرواية العربية في القرن التاسع عشر




    -بحث في البنية السردية والدلالية-




    1.مدخل



    تكشف خارطة السرد العربي الحديث في القرن التاسع عشر عن غنى خاص في مجال التأليف الروائي،وبغضّ النظر عن الأحكام النقدية الشائعة في حقّه،وكثير منها أسقطت قيما لاحقة على حقبة التشكّل الأولى للنوع الروائي،فإنَّ تلك المدوّنة السردية شديدة التنوّع والثراء،ولعلّها الوثيقة الرمزية الأكثر تعبيرا عن الانتماء المزدوج لأسلوبين ورؤيتين ونسقين ثقافيين؛فهي تتصل بالمدوّنات والمرويات السردية في كلّ ذلك،وتنفصل في الوقت نفسه عنها؛تتصل بها لأنّها ورثت مكوّناتها العامة،واستوحت عوالمها التخيّلية،وموضوعاتها،وصيغها التعبيرية،وتنفصل عنها لأنّها انشقّت بوضوح عن القوالب الأسلوبية والأبنية السردية المقفلة والثنائية الضدّية للقيم الشائعة في الموروث السردي،وبدأت ببطء تشكّل خصوصياتها في كلّ ذلك،وليس خافيا أن ذلك استغرق زمنا طويلا.ولا يعتبر اتصال الرواية في أول أمرها بالمرويات السردية انتقاصا لها،ولا يعدّ انفصالها ميزة لها،فالحراك البنيوي والأسلوبي في الآداب القومية يؤدّي باستمرار إلى تحوّلات أجناسية وأسلوبية ودلالية،فيعاد تقويم الآداب في ضوء هذه التحوّلات الكبرى،ويتّضح لكلّ باحث يستغرقه حال الثقافة العربية في القرن التاسع عشر أنّه كان القرن الذي شهد بداية هذه التحوّلات التي تفاعلت،فيما بينها،فأفضت إلى تغيير كبير في الأدب بأنواعه ووظائفه،والثقافة بشكل عام،فيما بعد. ويسعى هذا البحث إلى إبراز الخصائص السردية والدلالية للنصوص الريادية التي صاغت الملامح الأساسية للرواية العربية في نشأتها الأولى.

    2. الخوري و" ويْ.إذن لست بإفرنجي":انتزاع الريادة السردية



    في سياق تحليل المدوّنة السردية الروائية في القرن التاسع عشر،لايمكن تخطّي الدور الريادي الذي قام به "خليل الخوري"(1836-1907)صاحب جريدة" حديقة الأخبار" ومؤسسها،الذي وصفه "مارون عبود" بأنّه" أوّل رواد التجديد"(1)،فقد تبنّى نشر الروايات المؤلّفة والمعرّبة منذ بداية صدور جريدته في عام 1858،ولعلّ أول رواية مؤلّفة نُشرت فيها هي رواية" البرّاق بن روحان" التي لم يرد ذكر لمؤلّفها،وبدأت في الظهور اعتبارا من العدد 40 في السنة الأولى لصدور الجريدة،ثم انصرف اهتمام " الخوري" إلى نشر الروايات المعرّبة بداية برواية " المركيز دي فونتاج" التي بدأ نشرها في العدد 52 من السنة الأولى 1858 ثم أعقبتها رواية " الجرجسين" بداية من يوم السبت الموافق 28 آذار/مارس 1859.وكلا الروايتين من تعريب " سليم نوفل".وتابعت الجريدة نشر روايات أخرى منها على سبيل المثال" فصل في بادن "ورواية" بولينه موليان ".وإبّان المدة التي كانت تنشر فيها الرواية الأخيرة بدأ " الخوري" ينشر روايته " وَيْ.إذن لستُ بإفرنجي" التي ظهر فصلها الأول في العدد 93 الصادر يوم الخميس 13 تشرين الأول/ أكتوبر 1859وقدّمها " الخوري" قائلا:" إذا كنتَ أيها القارئ مللتَ مطالعة القصص المترجمة،وكنتَ من ذوي الحذاقة،فبادر إلى مطالعة هذا التأليف الجديد المسمّى:ويْ.إذن لست بإفرنجي" ووضع للرواية مقدمتين سمّى الأولى مقدّمة المقدّمـة،والثانيـة المقدّمـة(2).وإثر انتهاء النشر بمدة وجيزة صـدرت الرواية كاملة بكـتاب في 162صفحة،وذلك في عام 1860 .

    يكشف التقديم المذكور حقيقة ينبغي أن تؤخذ بالاعتبار بصورة كاملة،وهي أنَّ " الخوري" قرّر أمرين متلازمين،الأول كثرة المعرّبات الروائية من اللغات الأخرى،إلى درجة أشعرته بالملل،كما يلمس من مخاطبته القارئ،وتلك حقيقة يكشف عنها اهتمام" حديقة الأخبار" بالمعرّبات،ونرجّح أنّه كان يقصد تلك المعرّبات دون سواها،إذ لم يكن التعريب قد شاع آنذاك في تلك الفترة المبكّرة، بحيث يصبح ظاهرة عامة تستحق هذه الإشارة،ولا تكشف فهارس المعرّبات إلا عن نص معرّب واحد قبل ذلك،هو" مطالع شموس السير في وقائع كارلوس الثاني عشر" لـ" فولتير" وهو تعريب لنص ذي صبغة تاريخية أكثر منها سردية-تخيلية،وعن هذا الأمر يتأدّى الثاني،وهو ضرورة العناية بالمؤلّفات،ويتقدّم " الخوري" نفسه لذلك في روايته،فكأنّه بذلك يريد لفت الانتباه إلى أهمية التأليف الروائي وضرورته.وإذا أُخذ الأمر بظاهره فيمكن تأويل كلام " الخوري" على أنّه ضرب من الشعور بالحاجة إلى التأليف أكثر منه للتعريب،والإشارة إلى هذه الحاجة تظهر وعيا أوليا بضرورة الكتابة الروائية،مع أهمية التأكيد على أنَّ المعرّبات التي ظهرت في "حديقة الأخبار"خلال السنة الأولى من صدورها،كانت تخضع لشروط التأليف السردي الموروث،ولا تراعى فيها الدقة والأمانة.

    لم ينقطع" الخوري"كثيرا عن أساليب التعبير المو########،كما حدث لمعاصره " فرنسيس مرّاش"،لكنهما يشتركان في تكريس النصّ لغايات اعتبارية،وهو أمر لازم السرد القديم،وتكشف لغته في بداية الأمر نوعا من الامتثال للأسلوب التقليدي،لكن ذلك لم يثبت إلى النهاية،على أنّه - شأن جميع الروائيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر،والشطر الأعظم من النصف الأول من القرن العشرين - ظل معنيا بالتعليق المحايث على الأحداث،والتفسير المصاحب لها،كما نجد ذلك عند "سليم البستاني" و"جو رجي زيدان" و"هيكل" وغيرهم؛إذ تظهر تعليقات الكاتب على الأحداث كجزء من النصّ،كما هو شائع في ذلك الزمان،فالرّاوي الذي هو قناع المؤلّف،في تلك المرحلة،يوجّه الأحداث على نحو مباشر من خلال تدخّلات ظاهرة،كقوله،على سبيل المثال،في الفصل السابع:" لاشك أنّك،أيها المطالع العزيز،قد نظرت بالعيان كلّما(كذا) شخّصناه لك من الصفات والسمات حيثما قد أطلنا بك المقام في هذه المدينة التي قد سلبت منّا قيمة الزمن،كان يجب ألاّ نصرفها لو سلكنا على مبادئ التوفير.لقد جاء الوقت الذي صار ينبغي به أن نرحل قبل أن تمنعنا نبال الأمطار،ومعامع الأنوا(كذا)،لأننا قد قطعنا بها رأس الخريف وذنبه فهاجمتنا أقدام الشتا(كذا) بجيوش الغيوم التي راحت تكسي بنات السما(كذا) بنسيج قطنها المندوف المتراكم في ساحة الفضا(كذا) مبتهجا بعلايم الأمان حيثما لا تقدر أن تتوصل إليه يد الشجار الطويلة فتخطفه إلى بطون السفن الإنجليزية…لكن قبل أن تشغلنا أهبة السفر يجب أن تفتكر إلى أي مكان نوجّه خطواتنا،فأظنك ترغب المسير إلى دمشق،لكن هذه المدينة لا يوجد بها شيء نحدّق به( كذا) بأبصارنا إليه لأنّ يد التفرنج لم تدن منها بعد،فلم تزل على أصل فطرتها العربية"(3).

    هذه السلسلة المتواصلة من الصيغ البلاغية التقليدية انتشرت في تضاعيف النصّ،وقد بدا التعسّف واضحا في التسجيع،مع ميل لا يخفى نحو التبسيط اللغوي الذي يقترب إلى العامية أحيانا،وتلك الصيغ ترد ضمن خطاب موجّه إلى المتلقّي،يستخدم كوسيلة سردّية لتغير مسار الأحداث والأمكنة،لكن المؤلّف يستثمر الموقف ليعلن عن أفكاره الشخصية،ومنها التأكيد على عدم تفرنج دمشق.وفي ظلّ سياق ثقافي مازال في بداية تطوّره ليس من الممكن تصوّر انقطاع كامل عن الموروث الأسلوبي من جهة،ولا التخلي عن القيمة الاعتبارية للنصوص المكتوبة.فقد جاءت الرواية العربية الأولى بصورة كتاب أخلاقي اجتماعي وضعه مؤلّفه بأسلوب قصصي ينتقد فيه بدقة الأخلاق والعادات(4).

    تعنى رواية " الخوري" باللقاء الأول مع الغرب،ذلك اللقاء الذي عرفته بلاد الشام قبل غيرها،فوجد طريقة إلى الأدب الروائي،ولم يكن المؤلّف يكتب دون أن يلحظ ما يترتب عليه من مهمة اجتماعية وأخلاقية،وذلك ما دعاه شأن غيره من الكتّاب إلى الاهتمام بالبعد الاعتباري لروايته،التي كانت تتراوح بين نوع من المغامرة الارتحالية في أماكن متعددة،والأحداث المباشرة التي يراد بها التعبير عن جانب من عصر المؤلّف.والملاحظة التي تفرض حضورها هنا خاصة باللغة والأسلوب وطريقة السرد؛فقد كان " الخوري" انتقائيا في ألفاظه،وذلك حال دون السلاسة التعبيرية التي ظلّت تلمس بوضوح إلى عقود بعد " الخوري"،ولكنّه هيّأ للتخلّص من الصيغ الجامدة في النثر المتصنّع،وإن لم يفلح كثيرا في ذلك،وجاء أسلوبه أقرب إلى محاكاة الأساليب الشائعة في المرويات السردية،لكنّها أكثر عناية في اهتمامه بالصورة الفنية.ومرجع ذلك الاختلاف الذي يظهر بين الأداء الشفوي في تلك المرويات والكتابي في رواية " الخوري"،وأخيرا وضعت رواية" وي.إذن لست بإفرنجي"السُنن الأولى للسرد الذي تتداخل فيه،في وقت واحد،مسارات السرد الحكائي وتعليقات المؤلف،ثم العناية البالغة بالحركة والتنقل وقلة الاهتمام بالبعد الواقعي للشخصيات،وعدم مراعاة الترتيب الزمني للوقائع بدقة،وخضوع العلاقات بين الوقائع للصدفة وليس للعلة،بما يكشف سيادة العلاقات السردية على حساب العلاقات المنطقية بين الأحداث،وهذه السُنن اللغوية والسردية المستعارة بمجملها من المرويات السردية ستلازم الرواية العربية في طور نشأتها الأول.

    3. "المرّاش" و"غابة الحق":دمج التعارضات الأسلوبية وتمثيل العوالم المتعارضة



    في الفترة التي كان "الخوري" قد نشر روايته،كان " فرنسيس مرّاش الحلبي"(1835-1874)يعدّ نفسه لكتابة رواية من نوع مختلف،يصار التركيز فيها على القيمة الذهنية والرمزية للسرد،وبلغة لا تمتثل للموروث السائد إنما تحاول الاحتجاج عليه في التركيب والغاية،وتلك الرواية هي"غابة الحق" التي صدرت في عام 1865،وكان " مرّاش" قد أصدر قبل ذلك في عام 1861 كتابا يستعين بالسرد وسيلة له،وهو" درّ الصدف في غرائب الصدف" ثم أصدر بعد" غابة الحق" بعامين كتابه"رحلة باريس" وفي هذا نريد التأكيد منذ البداية إلى أنّه ظل يتحرّك في مجال السرد الذي انصرف كليا إليه،كما سنجد ذلك في روايته" غابة الحق" التي كتب معظم فصولها أثناء إقامته في باريس.وقد اتفق معظم الدارسين الذين اهتموا بـ" مرّاش" على أنّه حاول التوفيق بين الوظيفة الفكرية للأدب والغايات الجمالية التي يوفرها السرد الأدبي،كما عبّر " لويس شيخو" عن ذلك بقوله:" إنّه جمع في روايته بين" الفلسفة والأدب" و" أودعها الآراء السياسية والاجتماعية على صورة مبتكرة "(5)،
    هذه الطريقة في الصوغ الأدبي هي التي جعلت " الفيكونت دي طرّازي" يقول عن الرواية: بأنّها" كتاب أخلاقي وضعه على أسلوب القصة،وضمّنه انتقادا دقيقا للأخلاق والعادات"(6)،فيما وصفه "الزيّات" لذلك بأنه" أقدم دعاة التحديث،وأول رسل التجديد"(7).وما جانب "مارون عبود" الصواب حينما أكد في عام 1949،وبعد مرور 75 سنة على وفاة "مرّاش"،بأنّه كان على قصر عمره" زعيما أدبيا ترك دويّا" وأنَّ روايته" غابة الحق" التي طبعت ستّ مرات حتى عام 1990،قد كتبت على غرار" رؤيا يوحنا" كونها تبدأ بالحلم وتنتهي به،إنما هي طراز خاص،فالخيال فيها" يبلغ مداه الأبعد،وقد استولى فيه المؤلّف على الأمد.العرض والسياق جيدان،والقصّ يمشي على رسله،أما الأبطال فلا سمات لهم،ولم يستعر المؤلف لشخوصه الأجساد التي تنبثق منها أعمالهم وآراؤهم وأفكارهم بل ناب هو عنهم جميعا،واكتفى بأسمائهم،ثم راح يقول بلسانهم ما يقول.وقد يُعذر على ذلك لأنّهم رموز لا أشخاص،ولكنه في كل حال مسؤول عنهم لأنّه خلقهم.أما العبارة فخيالية سهلة،ولكنه ينقصها شيء لتخرج ناتئة بارزة،إنّها كتلك الرسوم التي لم تفز بحظها الكامل من الألوان والخطوط،والإنشاء على ما فيه من خيال وصور قلّما نحسّ فيه تلك الحركة،ولا ذلك الزخم"(.

    يتضمن رأي "عبود" جملة من الأوصاف والأحكام التي تصلح منطلقا لتحليل رواية" غابة الحق" ويمكن القول بأنّه أنصف الرواية حينما أبان مزاياها وعيوبها معا.وليس لنا الآن أن ننتقص من رأي "عبود"،فمن الصعب الحصول على أفضل منه في النقد العربي خلال الحقبة التي صدر فيها،تلك الحقبة التي شاعت فيها الانطباعات والأحكام،إلى ذلك فقد التفت إلى جملة من القضايا المهمة التي لم تكن مثارة آنذاك بصورة ملحّة،ومنها قضية الأسلوب السردي في الرواية، وقضية البناء،وقضية الخيال.فوجد تلازما بين العرض والسياق،ويفهم من ذلك أنّه كان يقصد بذلك الطريقة التي بنيت فيها الأحداث والشخصيات والخلفية الزمانية- المكانية لهما،وما يترشّح عن ذلك من سياق دلالي،سيؤكد "عبود" أنّه سياق رمزي.وبحسب المصلح السردي الحديث يمكن القول: إنَّ "عبود" كان يقصد شيئا قريبا مما نعرفه الآن بالبنية السردية والدلالية للنصّ،مع ضرورة التأكيد بأنَّ هذه المصطلحات ودلالاتها ووظائفها لم تكن مثارة في النقد الروائي العربي في حياة "مارون عبود".وترد إشارته حول القصّ/ السرد الذي رآه سلسا مرسلا،وهي إشارة معبرة عما يتّصف به النص،ومن هذه الناحية فأنّه أنصف نصّا ظهر قبل أكثر من ثمانين سنة من الوقت الذي كتب فيه "عبود" رأيه.

    وبعد كل هذا تظهر مجموعة من الطعون على الرواية،وفي مقدمة ذلك غياب التشخيص،وهذه الملاحظة على درجة بالغة من الأهمية فـ"مارون عبود" يتفهّم سبب ذلك كون الأشخاص في الرواية يحيلون على رموز،والمؤلّف انتقاهم لدلالتها الرمزية،وليس لمماثلتها نماذج واقعية،أو محاكية للشخصيات المستعارة من الواقع،ولا تغيب هذه الملاحظة عن كل قارئ للرواية،فـ" غابة الحق" نصٌّ يتشكّل سرديا من منظومة متكاملة من الرموز،وهذا يفسر ملاحظة " عبود" في أنّ "مرّاش" كان يُنطق شخصياته بأفكاره هو،فالأفكار مصمّمة كجزء من الوظيفة الإصلاحية والانتقادية للنصّ،ولم يكن هذا أمرا غريبا عن فنّ الرواية بصورة عامة،فقد كانت الشخصيات حوامل دلالية لأفكار الروائيين إلى درجة تزاح فيها الشخصيات جانبا في كثير من المواقف،فيخاطب المؤلّفون القراء كأنهم جزء من البنية السردية للنصّ الروائي،وهذا يكشف عدم استقلالية الشخصية داخل النسيج الفني للعمل الأدبي،وسيمرّ زمن طويل قبل أن يتحقق ذلك.

    الروائي ملزم بمراعاة السُّنن الثقافية للتلقّي في عصره،فهي التي تتحكّم في نوع الأدب الذي يجري قبوله،وكانت تلك الحقبة مشبعة بالسمات الأسلوبية التي أوجدتها المرويات السردية،فجاءت الرواية لتعبر عن استجابة مباشرة لتلك الشروط التي تفترض في الآداب السردية،بغض النظر عن نوعها مغزى قيميا.بدأت الرواية العربية كرواية إصلاح؛لأنَّ ذائقة التلقّي كانت تفترض في المادة الحكائية أن تحمل رسالة أخلاقية،واستجابت الرواية لهذا الشرط،وبمرور الوقت بدأ ذلك المغزى الأخلاقي يتراجع،وتوارى شيئا فشيئا صوت المؤلّف الفردي ورؤيته وموقفة الفكري،وبدأت النصوص تعبر ضمنا عن القيم الثقافية،انتقلت الرواية من المستوى الفردي إلى المستوى الحواري.

    وجدير بالذكر أنَّ "باختين" كان استقصى هذه الظاهرة،واعتبر أنَّ روايات "دستويفسكي"،التي بدأت بالظهور خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر،وفي فترة قريبة من ظهور روايات "الخوري" و"مرّاش" و"سليم البستاني"،من أوائل الروايات التي بدأت تعرف تعدّدا في الأصوات،إذ وقع انفصال بين رأي المؤلف ورأي الشخصية،ففي تلك الروايات"يظهر البطل الذي بنى صوته بطريقة تشبه بناء صوت المؤلف نفسه في رواية من نمط اعتيادي.إنَّ كلمة يتلفّظ بها البطل حول نفسه هو بالذات،وحول العالم تكون هي الأخرى كاملة الأهمية تماما مثل كلمة المؤلّف الاعتيادية.إنّها لا تخضع للصورة الموضوعية الخاصة بالبطل بوصفها سمة من سماته،كذلك هي لا تصلح أن تكون بوقا لصوت المؤلّف.هذه الكلمة تتمتع باستقلالية استثنائية داخل بنية العمل الأدبي،إنَّ أصداءها تتردّد جنبا إلى جنب مع كلمة المؤلّف وتقترن بها اقترانا فريدا من نوعه،كما تقترن مع الأصوات الكبيرة القيمة الخاصة بالأبطال الآخرين"(9).

    ظلت الرواية العربية،إلى النصف الأول من القرن العشرين تعتبر الشخصيات أقنعة رمزية للكتّاب،ومع أنَّ الرواية الحديثة بعد ذلك حاولت أن تدمج بين الرؤى الفكرية الخاصة بالمؤلّفين مع تلك الخاصة بالشخصيات،حينما جعلت البحث وظيفة من وظائفها،كما تجلّى الأمر في روايات" أُمبرتو إيكو" لكن ذلك لم يتضح أثره في الرواية إلاَّ وقت متأخر.كانت الشخصيات في السرد القديم تقوم بوظيفة القناع الذي يستتر خلفه الكتّاب.وأخيرا تأتي الملاحظة الخاصة بالأسلوب اللغوي،وهي ملاحظة تكشف استبداد المعيار اللغوي الموروث الذي تمرد عليه "مرّاش"،ولم يتمكّن "عبود" من تقديره،فمن الصحيح بالنسبة لـ" عبود " أنَّ " مرّاش " كان ذا عبارة خيالية سهلة،لكنّها منقوصة في مكان ما، إنّها كالرسم الشاحب في خطوطه وألوانه، تغيب عن الأسلوب الحركة والزخم،ويقارن "عبود" بين أسلوب "مرّاش" وأسلوب كاتبين معاصرين له، فيقول " ليس للمرّاش شقشقة تعبير أديب إسحاق، ولا هديره،ولا صحة تعبير الشدياق،ولا ظرفه،ولا تهكمه،لكنه أسمى خيالا منهما،وقد ذكرت هذين الاسمين لأنهما كانا سيدي الحقبة التي وجد فيها المرّاش"(10).

    يحتاج التأكيد الأخير منا إلى وقفة قصيرة،فـ"مارون عبود" فيما يخص هذه القضية الدقيقة لجأ،لأنّه لم يجد نظيرا لأسلوب "مرّاش"،إلى المقارنة،وقادته المقارنة إلى ما نعتبره في ضوء التطوّرات الأسلوبية التي وقعت في العربية خلال القرن التاسع عشر ميزة خاصة للمرّاش وليس نقصا،فأسلوبه خلو من السمات التي ميّزت معاصرين له،هما الشدياق وأديب إسحاق،إنّه أكثر بُعدا عن التصنّع،أكثر سلاسة،أكثر هدوءا،لا تفاصح فيه ولا شقشقة،وبعبارة"عبود" إنّه مفارق للحركة اللفظية الطنّانة،والزخم الذي يدفع به التوتّر اللفظي،وكل ذلك يغيب عن أسلوب "مرّاش" لأنَّ المرجعيات التي صاغت أسلوبه،وأثرت فيه مرجعيات فلسفية ودينية وعلمية،وبحسب "مارون عبود":"هو متأثّر بالعلم والفلسفة أكثر من جميع كتّاب عصره،نزّاع إلى إصلاح المجتمع يدعو إلى الأخذ بالحضارة الحديثة،أما ثقافته فمتأثرة بالدين،ولغته تكاد تكون لغة الكنيسة المستعربة حـديثا"(11).

    لم يتفرّد "مارون عبود" باستخلاص هذه الظاهرة،فقد كانت مثار انتباه مجموعة من الدارسين،بل إنَّ هذا الحكم استقاه "عبود" من "الحمصي" الذي أكّد منذ فترة طويلة على أنَّ المرّاش" كاتب مبادئ وتفكير،وذو خيال مبدع،عبارته رقيقة،سهلة،ركيكة أحيانا،ليس لها نصاعة أديب إسحاق ولا هديره،ولا جزالة الشدياق وظرفه وتهكمه،غزير الأفكار،خطابي اللهجة في كل من شعره ونثره،ولعله أسبق كتّاب عصره للمطالبة بإنشاء دنيا جديدة يسودها السلام،ويرف عليها الوئام في كتابه"غابة الحق" "(12).ووصف "شيخو" أسلوبه بأنه يتميّز بـ" الترفّع عن الأساليب المبتذلة فيطلب في نثره ونظمه المعاني المبتكرة والتصوّرات الفلسفية،فلا يبالي بانسجام الكلام وسلاسته،فتجد لذلك في أقواله شيئا من التعقّد والخشونة مع الإغضاء عن قواعد اللغة"(13).وفسّر رشيد عطا الله الأمر قائلا" أدى به حرصه على حفظ استقلاله الفكري إلى نبذ قوانين الإنشاء ظهريا وكسر قيود اللغة نفسها"(14).
    لو نظرنا إلى أسلوب "مرّاش" في ضوء الاتجاهين السائدين في عصره،الأسلوب الذي ورث التصنّع وبالغ في تقليده،والآخر المرسل الذي ورث أسلوب المرويات السردية،فأننا سنجد أن أسلوبه يختلف عنهما معا،فمن ناحية أولى هو يختلف عن الأسلوب الأول؛لأنّه يتجنب التصنّع البلاغي القائم على تعقيد لا مسوّغ له يحول دون التعبير الدقيق عن المقاصد،ولا يوحي بها إيحاء فنيا شفافا،ويتجنّب التكرار الإيقاعي في الجمل الذي يعبر عنه السجع،ويبتعد عن الإسهاب الذي تفرضه مقتضيات التصنّع والتسجيع،فجملته مصقولة،واضحة،دقيقة،مباشرة،تتابع فيها الجمل في نوع من التلازم الهادف إلى التعبير عن فكرة،وليس إدّعاء مهارة،ومع أنَّ الأفكار تتلوّى أحيانا بسبب أنّها تعالج موضوعات جديدة،وقضايا غامضة بطبيعتها،لكنّه لا يلجأ إلى تقليد الأساليب المتصنّعة،ولا يستعين بالغريب؛فأسلوبه مسترسل قريب إلى الأسلوب الثاني،لكنه- وهذه هي الناحية الثانية- أبعد ما يكون عن سهولته المتأتية من سهولة الأفكار فيه،وبساطته التي تنحدر من الصيغ الجاهزة،فأسلوب "مرّاش" في" غابة الحق"يتميز بالفخامة التي لا يقصد منها التعقيد،والوضوح الذي لا يهدف منه إلى التبسيط.
    وينبغي الإقرار أنَّ هذه السمة الأسلوبية على وجه التحديد لم تكن،في حدود علمنا،واضحة في غير "غابة الحق"،لقد كان الأسلوب التقليدي يحتضر ببطء،لكنه ينتفض أحيانا ليقاوم مقاومة شرسة على يد "اليازجي" و"عبدالله فكري"- على سبيل المثال- أما الأسلوب الحديث الذي يعدّ استمرارا لأسلوب المرويات السردية فأنّه يتشكّل شيئا فشيئا بعد أن راحت الكتابة الصحافية تمتص صيغه الجاهزة،وتعيد صوغه ليلائم مقتضيات التعبير السليم،وهكذا فأنَّ أسلوب "مرّاش" قد أدى وظيفتين معا،من جهة:عجّل بأفول الأسلوب الأول،ومن جهة أخرى:أضفى على الأسلوب الثاني عمقا ورونقا فكريا بعد أن كان أسير المرويات الشعبية التي هي تمثيل لمخيال يبتعد تماما عن أي صياغة تركيبية غامضة لا في الأفكار ولا التعبير.ليس من الخطأ القول إنَّ أسلوب"مرّاش"كان خاصا،ومبكّرا في قدرته الاستكشافية على تدشين الأسلوب الأدبي الذي شاع في العربية بعد ذلك بنصف قرن. فقد وصف باحث متخصص في أدبه ذلك الأسلوب بأنّه:ثورة في عالم الأدب في زمانه...فهو بسيط غير متكلف، فلا يتحرّز عن استخدام المفردات العامية أحيانا، فهو من هذه الناحية يوصف بأنّه فلكلوري، وهو أسلوب رومانسي كونه مملوءاً بالاستعارات الجميلة القائمة على مبدأ التشخيص، ومن هذه الناحية يمكن اعتبار المرّاش السلف المؤثّر في أدب جبران خليل جبران، هذا فضلا عن شيوع الروح العلمي في ذلك الأسلوب بسبب دراسة المرّاش للطب (15).وهو أسلوب تشبّع بالمؤثّر الأدبي الرومانسي" في استخدامه الرموز والرؤى والنثر التوراتي،إلاَّ أنّه مزج هذا الدخيل بتعابير قرآنية،وأبيات من الشعر القديم"(16).

    تعتبر" غابة الحق" من التجارب الروائية المبكرة التي تستند فيها الأحداث والشخصيات إلى رؤية كلية خاصة بالمؤلف تهدف إلى تمثيل فكرة التغيير الاجتماعي،ومن هذه الناحية فقد سبقت كثيرا من الروايات التي كانت تعرض أحداثها بمعزل عن الخلفيات الفكرية إن لم نقل إنّها بلا خلفيات فكرية،إنما مجرد سلسلة من الأحداث المشوّقة،فيما تنخرط " غابة الحق" في معمعة مشكلات التحديث والعدالة والاستبداد والصراع بين مفاهيم الحرية والعبودية؛فحدث الرواية مصمّم لكشف الصراع المستحكم بين مملكة التمدّن وشعارها الحرية ودولة العبودية وشعارها التوحش،والشخصيات تتوزع لتمثيل هذا الصراع الذي كان شاغلا فكريا أساسيا عند "مرّاش".فهي"رواية رمزية موضوعها الاجتماع الإنساني وما يعرض له من ألوان السلم والحرب والعدل والحرية والعبودية والتمدن والتوحش"(17).

    إنَّ التدقيق في هذه الثنائية التقليدية التي تستمد أصولها من الفكرة المو######## عن العالم المنشطر بين قوى خيّرة وأخرى شرّيرة يكشف أنَّ " مرّاش" مازال ينظر إلى التاريخ تلك النظرة النمطية القائمة الثنائيات الضدّية بين الفكر والواقع.ولكنه لا يقف عند حدود تمثيل ذلك التنازع الثابت الذي صورته المرويات السردية،إنما،وربما يحدث هذا لأول مرة،يقيم حوارا بين الثنائيتين تنتهي لصالح مملكة التمدّن،بعد أن يتدخّل الفيلسوف فيكشف أنَّ الحوار وليس الحرب هو الوسيلة المناسبة لنقض التضادّ بينهما.ولعل هذه القضية على غاية من الأهمية في سياق تلك الحقبة التي كان الآداب تعبر فيها عن نوع من الصراع الدائم بين هاتين الفكرتين.

    وتتضمن" غابة الحق" أكثر من مستوى سردي،فإطارها العام ينتظم من خلال حلم الراوي الذي يستعين بالسرد الذاتي لتقديم عالم تعرض أحداثه وشخصياته بأسلوب يمزج بين المشاهد المسرحية والصيغ الحوارية الطويلة التي تذكر أحيانا بالمحاورات السقراطية لأفلاطون التي لا تتغير فيها المشاهد، ولكن تتنامى فيها الأفكار عبر الحوارات التي تسعى لتوليد تصوّرات مختلفة عن الأحداث. وقد وصف"روجر ألن" تلك الشخصيات بإنّها"ترمز لصفات مجرّدة أكثر من كونها عوامل تغيير حيوية"(1.

    يقوم الحلم بتأطير الحدث،ويتوارى الراوي-الحالم،لينبثق عالم " غابة الحق" من مشاهد طويلة وشاملة تكشف نوع الصراع بين الأفكار الدالة على تصوّرات سياسية واجتماعية معينة،وهنا تتسرّب أفكار "مرّاش" في سياق حوار الشخصيات التي ترمز إلى أفكار أكثر مما تحيل إلى عناصر سردية بذاتها.ويمكن اعتبار هذه المستوى من الأحداث هو المستوى الثاني،ولا نعدم في تضاعيفه ظهور مستوى ثالث يعبر عن تجارب اعتبارية للشخصيات،ومثال ذلك تجارب العبدين ياقوت ومرجان التي تُعرض برؤى سردية ذاتية لتبيّن نوع التحوّل الذي طرأ على علاقات الشخصيات فنقلها من علاقات الاستعباد إلى عالم الحرية.وهذا التركيب السردي المختلف عن نظائره في تلك الحقبة يضفي على" غابة الحق" قيمة فنية خاصة،فالقصدية في التركيب تخدم الرؤية الخاصة بالمؤلّف الذي جعل من أحداث الرواية بالمستويات السردية التي أشرنا إليها تقوم بتمثيل فكرته عن الحرية والعبودية،وعن التمدن والتوحش،وأخيرا،وهذا هو المهم فيما نرى،الدخول في حوار يقود إلى ذوبان أطراف الثنائية،وتنتهي الرواية دون احتمال لانبثاق فكرة شريرة مرة أخرى،فقد نجح السرد في إعادة ترتيب العلاقات بما يؤدي إلى فكرة واحدة.

    تتجلّى القيمة الفنية لرواية " غابة الحق" ليس من دلالتها الإصلاحية،إنما من أنّها نهضت بمهام ثلاث:الأولى:التخلّص من أسر الأسلوب المصنّع،وتخطيه إلى أسلوب دقيق ينضح بالأفكار والمعاني،ويعبر عنها،والثانية:في أنها ركّبت جملة من العناصر السردية تركيبا مختلفا عن المرويات السردية الشائعة التي تقوم على المصادفة والتشويق،وغياب الأسباب،وأخيرا:قامت بما نعتبره أمرا على غاية من الأهمية،ألا وهو التمثيل السردي لقضية اجتماعية معقّدة،وهي:التعارض بين مفهومي الحرية والعبودية،والوصول إلى حل لهذه القضية المعقدة.


                  

05-12-2005, 11:35 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    4.سليم البستاني:إعادة تركيب الموروث السردي



    في الوقت الذي عرفت فيه رواية "غابة الحق "وشاعت،كان "سليم البستاني"(1846-1884) يتأهب للقيام بتأليف أول سلسلة متكاملة من الروايات في تاريخ الأدب العربي،تلك السلسلة القائمة على الحركة والمغامرة التي بدأها بروايته " الهيام في جنان الشام" و ظهرت ابتداء من العدد الأول من مجلة " الجنان" الذي صدر في بيروت خلال شهر كانون الثاني/ يناير من عام 1870،وقد ختم الرواية بالفقرة الآتية المعبّرة عن الفهم الشائع للرواية في أول أمرها،كما يراها "البستاني":" إنني أرجو مطالعي هذه الرواية أن يعاملوني بالعفو والصفح،إذ انني مع تراكم الأشغال،لم أقدر أن أتفرّغ حقّ التفرّغ لكتابتها،فكنت أقدّمها للطبع مسودة بدون تنقيح ولا تبييض.وقد اعتنيت بجمعها من صفات الفضلاء والرذلاء والعقلاء والجهلاء،ولم أترجمها عن أعجمي،ولا نقلتها عن عربي.والمأمول أنَّ الزمان يمنّ علي بزمان يمكنني من أن أقدّم لقراء(الجنان) 1871 رواية حبيّة تاريخية،موضوعها (زنوبيا) ملكة تدمر،وكان الفراغ من كتابتها في مدينة بيروت،في اليوم التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول 1870 للميلاد حساباً غربياً"(19).

    تصلح هذه الخاتمة مفتاحاً للحديث عن أمور وردت فيها،وأخرى تثار ضمناً كجزء من السياق اللازم لمنح هذه الخاتمة أهميتها،ويحسن أن نبدأ بما تثيره دون أن تصرّح به،وفي مقدمة ذلك التلازم بين الكتابة الصحافية والكتابة الروائية،ولم يقتصر ذلك على "سليم البستاني" وحده،أو التأليف الروائي العربي في منتصف القرن التاسع عشر وما بعده،كما نلاحظ ذلك عند "خليل الخوري" الذي دشّن ذلك التقليد حينما نشر روايته " ويّ. إذن لست بإفرنجي" في جريدته الأدبية الخاصة"حديقة الأخبار"كما أشرنا من قبل،إنما كان الأمر تقليداً شاع في القرن التاسع عشر.ففي الفترة ذاتها التي كان ينشر فيها " الخوري" و " البستاني" رواياتهما متسلسلة في"حديقة الأخبار"ثم " الجنان"،كان "دستويفسكي" (1821–1881) ينشر رواياته الكبرى في الصحف والمجلات الروسية،وكان يتعرض لمضايقات قضائية لأنّه لا يستطيع في بعض الأحيان تسليم فصول تلك الروايات إلى المطابع قبل الموعد المحدّد للصدور الدوري لتلك المطبوعات؛الأمر الذي يفقد مصداقية وعودها للقراء،أو يحول دون تغطية صفحاتها.وكثير من فصول أشهر رواياته كتبت بسرعة تحت تهديد الدعاوى القضائية،أو الإلحاح المباشر من أصحاب المجلات من أجل إكمال السلسلة المتفق عليها حسب العقود بين المؤلف والمجلة.وهو أمر لا يرد ذكره مع " الخوري" و"البستاني"؛لأنّهما كانا ينشران في صحف ومجلات تعود إليهما.

    ومعروف أيضا أنَّ "ديكنز"(1812-1870)كان أيضاً في إنجلترا يواظب في تلك الفترة،أو قبلها بسنوات قليلة على نشر رواياته في الصحف والمجلات البريطانية،ولا يقتصر الأمر على روسيا وإنجلترا،إنما شمل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها،إلى درجة لا يمكن فيها الفصل بين تلازم النشأة المشتركة للصحافة –وبخاصة الأدبية –والرواية،وكان ذلك شائعاً طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الأدب العربي،فقد احتضنت"حديقة الأخبار"و" الجنان" و" البشير" و"حديقة الأدب" و"المقتطف"و"الهلال"و" المشرق"و" المنار" وغيرها – وكلها صدرت قبل مجيء القرن العشرين - الكتابة الروائية على نحو ما كان جارياً في العالم آنذاك،وذلك قبل مدة طويلة من الانفصال النسبي بين الصحيفة أو المجلة والرواية،حينما بدأ في وقت متأخر نشر الروايات بكتب مستقلة.

    ذهب باحث تخصّص في دراسة مجلة " الجنان" إلى أنّها"المجلة العربية الأولى في العالم العربي التي اهتمت بالروايات المصنّفة منها والمترجمة والقصص التاريخية والأقاصيص والملح"(20).على أنَّ الأمر المثير أنَّ النشر المتسلسل لروايات تقوم على المغامرة والحركة المطعّمة بالغرام كان يجذب المتلقّين ويشدّهم لمتابعة تلك الدوريات،وذلك ما دفع بعض الأدباء،بسبب الإقبال المتزايد من القراء على تلك الروايات،إلى التفكير بإصدار دوريات خاصة بالرواية،وهي كثيرة،وقد أحدثت حركة غير مسبوقة في تنشيط عملية التأليف والتعريب الروائي،ونُشرت فيها مئات الروايات بين مؤلفة ومعرّبة،وهي دون غيرها التي لعبت دوراً حاسماً في تطوّر هذا الفن وإشاعته ونشره والتعريف به.ومن المؤكد أنَّ "سليم البستاني" كان من النخبة الرائدة في هذا المجال،ففي غضون أقل من عقد ونصف من السنين،وفي سن الثانية والعشرين بدأ بإنجاز ما أصبح فيما بعد أول سلسلة متكاملة من الروايات العربية القائمة على المغامرة والحركة.

    وتشير الخاتمة بوضوح إلى أنّه كتب الحلقات نصف الشهرية لرواية " الهيام في جنان الشام" خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 1870،فاكتملت الرواية في نهاية تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه،وهذا يؤكد أنّه كان يواصل الكتابة والنشر دون الأخذ بالاعتبار للاتجاهات المحتملة لأحداث الرواية،فهو يكيّفها لحاجة المجلّة وتتابع النشر،وترد إشارات في تضاعيف الرواية إلى أنَّ بعض أحداثها وقعت في العام السابق 1869.وما أن وافته المنية في عام 1884 إلاَّ وخلّف،في الأقل،تسع روايات جميعها نشرت في" الجنان" بين الأعوام 1870 و 1884.وهي على التوالي فضلاً عن "الهيام في جنان الشام" و"زنوبيا" التي أشار إليها في الخاتمة المذكورة:" بدور"و" أسماء"و" الهيام في فتوح الشام" و" بنت العصر"و" فاتنة" و"سلمى"و" سامية"هذا فضلاً عن مجموعة من المسرحيات مثل " قيس وليلى" و" الإسكندر" و" يوسف واصطاك".وكان مجيداً للإنجليزية والفرنسية والتركية.

    إنَّ تفصيل ما أثارته ضمنياً خاتمة الرواية ينقلنا الآن إلى ما صرّحت به،وفي مقدمة ذلك الركاكة الأسلوبية للنصّ طبقاً لمعايير البلاغة التقليدية،ثم حرّية المؤلّف في اقتحام السياق السردي للرواية،واستبعاد الراوي،ومخاطبة القارئ مباشرة،والكشف عن الظروف الخارجية التي احتضنت نشأة النصّ،واستغلال ذلك للإعلان عن رواية جديدة ذات حبكة "حبية- تاريخية".وقد لجأ "سليم البستاني" في هذه الرواية إلى إحدى أشهر الحيل السردية في الرواية،وهي الإدعاء بواقعية الأحداث،ومطابقة الوقائع الخطابية للوقائع الحقيقية،وهو ما يصطلح عليه بـ" السرد الكثيف" إذا يخترق الراوي السرد،وينطق باسم المؤلّف مباشرة،وهي تقنية إيهام سردية كانت شائعة في الرواية طوال القرن التاسع عشر،لكنها تكشف حقّ المؤلّف في التعبير المباشر عن أفكاره في ذلك الوقت.قال "البستاني":بأنّه أجّل وضع خاتمة للرواية بانتظار أن" يمنّ عليّ الزمان بخبر صحيح عن نهاية الحبيب والحبيبة،وكنتُ أخشى أن يبلغني خبر موتهما،أو موت أحدهما؛لأنّه معلوم أن خبر عدم توفيقهما،هو ما يكدر المطالع ويكدّرني"(21).

    وسنجد أمرا مماثلا عند "جورجي زيدان" فيما بعد.والواقع أنَّ دمج الظروف المحيطة بالتأليف مع أحداث النصّ،تمّ في هذه الرواية على نحو يبدو بريئا،فلم يرد منه المؤلَّف خدعة حقيقية للإيهام بين الراوي والمؤلّف،إنما القصد منه-فيما نرجّح-كشف ملابسات التأليف الأدبي،وربما فهم طبيعة التمثيل السردي في بداية أمره،وربما بهدف التشويق،وهو فهم أولي لم يرتق بعد إلى الوعي بأهمية التمثيل السردي كما انتهى إليه الأمر في الرواية العربية في الفترة اللاحقة.وهذا الأمر كان شائعاً آنذاك،ويكشف عن غياب الحدود الفاصلة بين العالمين الواقعي الخاصّ بالمؤلّف والتخيّلي الخاصّ بالراوي،فكان الاجتراء على الأخير قائماً،وكلّ هذا مختلف عن الصيغ التي يلجأ إليها السرد الكثيف لتمرير الخدع السردية التي منها إيهام المطابقة بين العالمين المذكورين وبين المؤلف والراوي وغير ذلك.
    كل ذلك سيقربنا إلى الموضوعين الأكثر أهمية في هذه الخاتمة،وهما براءة التأليف الخاصّة بالرواية ومضمون العالم التخيّلي فيها.فـ" البستاني" يؤكد أنها من تأليفه،فلا هي ترجمة عن"أعجمي" ولا اقتباس عن " عربي"والحقيقة فإنَّ هذا التأكيد الذي يحرص المؤلّف على تثبيته،يفضح نمط التأليف والتعريب والاقتباس الذي كان شائعاً في تلك الحقبة،فقد كان التعريب لا يراعي الدقة ولا الأمانة،وغالباً ما تؤخذ الهياكل العامة للنصوص الروائية ثم تغير الوقائع الجزئية والتفصيلية حسبما يرتئي المعرّبون،فتغير أسماء الشخصيات والأمكنة والأزمنة والأحداث،وتكيّف الموضوعات حسب الحاجة،ونادراً ما يشار إلى كل ذلك،فتغير النصوص ولا يذكر أسماء كتابها،وبها تستبدل أسماء المعرّبين أو المؤلّفين،وهو أمر يشمل التعريب والاقتباس على حد سواء،وبهذا كانت تطمس الخصائص البنائية والأسلوبية والدلالية للنصوص الأصلية،ويحلّ محلّ ذلك ما يراه المؤلّفون أو المعرّبون مناسباً،وتحذف العنوانات الأصلية،أو تغير جزئياً،ويُستبعد المؤلّفون الأصليون،وتتداخل النصوص ومرجعياتها،وتستغل لإقحام أحداث جديدة،وأشعار لا علاقة لها بالمتون الأصلية،وهذا أمر مارسه عدد لا يحصى من الكتّاب في تلك السنوات المبكرة من التأليف والتعريب،ونجد أمثلته عند الكتّاب في بلاد الشام ومصر.وظل شائعاً إلى العقود الأولى من القرن العشرين.ولا يكاد معرّب يستثنى من ذلك بداية من " الطهطاوي" وصولاً إلى "حافظ إبراهيم" و"الزيات" فضلا عن أعداد كبيرة من كتاب الروايات، وكان "البستاني" يريد تبرئة نفسه من هذه التهمة التي لم تكن مستكرهة آنذاك،وقد شاعت في العقود اللاحقة.

    وأخيراً تجيء إشارته التي تخصّ مضمون العالم التخيلي في روايته،وهي إشارة على غاية من الأهمية،ولا تقتصر على هذه الرواية،إنما على رواياته الأخرى،بل ومجمل التأليف الروائي في ذلك الزمن.فالعالم التخيّلي منمّط ومنشطر على نفسه،إنّه مبني على نماذج تجريدية متعارضة طرفها الأول تم تشكيله من عالم " الفضلاء" و" العقلاء" وطرفها الثاني تم استعارته من عالم " الرذلاء" و "الجهلاء"وهكذا فقد بثّ التناقض الأخلاقي بين النموذجين،وسيكون هذا التناقض هو الحافز لحركة الأحداث،والناظم لخصائص الشخصيات،وهو الخلفيّة التي تُعرض عليها نوازع الخير والشر في صراع مرير قاسٍ وطويل،عماده التضحية والمغامرة والوفاء والإخلاص والصدق من جانب،والخداع و التضليل والكيد والكذب والأنانية من الجانب الآخر.

    وبناء على الفرضية الأخلاقية التي تطرح كمسلّمة لا شك فيها،فإنَّ كلّ عناصر البناء الفني في النصّ تكون رهينة الأفق الأخلاقي للمعنى،وتتحرّك في مسار ثابت ينتهي دائماً بانتصار الخير،وهزيمة الشرّ،وعلى الرغم من أنّ الحبكة النصّية تطرح إمكانات متعدّدة للتشويق والإطناب وتعويق لحظة الظفر النهائية،فإنَّ النتيجة هي فوز الأحباب والعشاق والأخيار من الفضلاء والعقلاء،وخسارة المعارضين من الأدنياء الذين هم وحدهم الرذلاء والجهلاء في عالم يحتاج إليهم كعلامة سوداء،ليظهر الخير الأبيض.وخلف كل حركة وموقف ثمة تضادّ دلالي وبنيوي،للإيهام بأنَّ عالم الحكاية هو عالم الحياة،فالأخيرة تحتاج دائماً إلى العبرة والموعظة،ذلك ما كان يشغل الفكر القديم،ويشكّل صلب فرضياته الفكرية والأدبية والدينية والأخلاقية،وقد تجلّى في المرويات السردية العربية التي جهزت الرواية العربية في أول نشأتها بنظام دلالي مقنّن وكامل ومتلازم العناصر.هذا الأمر يُدعم لدى "البستاني" والروائيين اللاحقين بإشارات لا تغفل عن الوظيفة الأخلاقية للرواية،فهو يحدد في رواية" أسماء"وظيفة الرواية في عصره بالصورة الآتية:" المقصود من روايات كهذه الروايات إصلاح الهيئة الاجتماعية ببسط المبادئ الصحيحة"(22).

    وذلك أمر يرد أيضا في رواية "بدور" التي يؤكد فيها أنّه ينبغي للروايات أن تكون"موافقة لمشرب الشبان،مع المحافظة على الآداب،ومجانبة كل ما يهيج الأميال الفاسدة"(23)ويطّرد في معظم رواياته،فالوظيفة الأخلاقية للرواية حاضرة في ذهنه،والمقصود من كتابتها ونشرها،هو" غرس الآداب في القرّاء"(24).والهدف منها " تمكين الأهالي من الحصول على فكاهات جامعة بين أسباب الملاهي والنفع"(25).وفي ضوء كل هذا تفهم إشارة "روجر ألن"،التي ذهب فيها إلى أنَّ " البستاني" في رواياته قد بدأ" الخطـوة الأساسية لتهيئة قـرّاء لذلك النوع الأدبي،وذلك بالـربط بين عناصر الترفيه وعناصـر ولإرشـاد في عمـل واحد"(26).

    يعرف " البستاني" أنَّ تلك الوظيفة وذلك الهدف لا يتحققان إلاَّ بحدث مداره حكاية حب يحتضنها سياق ثقافي عام؛فالحقائق التي يتقصّد الروائي إرسالها إلى المتلقّي لا تُقبل إن لم ترفق بحكاية مشوّقة،ولهذا يحرص على التأكيد بأنَّ كثيرا من القرّاء لا يحبون الحقائق المفيدة،بل يكتفون بالوقوف على خبر العاشق والمعشوقة،و"هذا خطأ مبين؛لأننا لا نقدر أن نفهم حقيقة مركز العاشق ولا مركز المعشوقة،ولا الحوادث الجارية،ما لم نقف على تواريخ أزمانهم وعلى عاداتهم وحروبهم،هذا وكم من فائدة تاريخية يحصل الإنسان عليها بواسطة روايات،فيكون قاصدا الوقوف على خبر المتحابّين،فيعثر بحقيقة تاريخية أو نتيجة حكمية أو إصلاح أو تنكيت يلزمه أكثر من غيره،فالضجر من الكلام عـن هذه الأمور في بلاد ظروفها كظروف بلادنا خطأ عظـيم"(27).ويتكرّر الأمر ذاته في روايات أخرى.وكان " البستاني" شأنه شأن معظم الروائيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يوقف مسار الأحداث،ويتدخّل لإبداء أفكاره الخاصّة،فيما له صلة بوظيفة التمثيل السردي في النصوص،وهذه ظاهرة كانت شائعة منذ " خليل الخوري"و" مرّاش"،وظلت إلى " زيدان" و" هيكل" وما بعد ذلك.

    يُختزل العالم التخيّلي في روايات "سليم البستاني"،بأحداثه وشخصياته ونظامه الدلالي إلى نماذج أخلاقية متنازعة شديدة الشبه بعالم المرويات الخرافية والسيرية المو########،وتتجلّى الفكرة المهيمنة من خلال الصراع بين النماذج الُمجسّدة للفضائل والرذائل،ففي رواياته التسع التي ذكرناها تقوم الحبكة السردية على تعارض نوايا ورغبات وإرادات ورؤى وتطلّعات،وتتركّب الأحداث لتبرهن على أنَّ المصالحة بين عالمي الخير والشر أمر مستحيل،ولا بد من هزيمة الأشرار ليستقيم شأن العالم الفني التخيّلي.والشخصيات الخيّرة والشريرّة تواجه قدرها المحتّم،فهي مدرجة كوسائل لإثبات نظرة أخلاقية للعالم،وموتها في هذه الرواية وانبعاث أشباهها في الرواية الأخرى،وظهور هذه واختفاء تلك،هو أمر مقدّر كتعاقب الليل والنهار.فالنهاية هي ليست ختام فكرة فلسفية،إنما إقفال لحادثة في سلسلة من الحوادث الرتيبة المتتالية التي لا تمايز جذرياً فيما بينها،إنما تنويعات ضئيلة جداً في درجة اختلاف الوقائع وليس النسق البنائي والدلالي فيها.فثمة تصميم ثابت يفضي دائماً إلى نتائج معروفة؛لأنَّ نظام القيم الموزع في النصوص يتكرر فيها جميعاً بوتيرة واحدة فلا يجوز الاعتراض عليه،فالخيّر فاضل ومتسامح ولا يحقَّ له إلحاق الأذى بالآخرين،والشرّير مخادع ومضلّل وطامع،ولا يحق له أن يقوم بعمل خيّر.ولا بد للمتلقّي أن ينحاز إلى نماذج الخير،ليشارك في صوغ عالم عادل مُطهّر من دنس الأشرار.
    ويسود التشكيل الثنائي تلك النماذج،ففي الرواية الأولى" الهيام في جنان الشام" يتأسّس التعارض بين" وردة "و" سليمان"رمزي الخير،و" البدو"و" الأوباش"رمزي الشر،وهو الأمر الذي يتواتر ظهوره كنسق مغلق في بقية الروايات.فـ" أسماء" و" كريم البغدادي" في رواية " أسماء" يقابلهما ويعارضهما "بديع"و" بديعة". و"ريمة"و"ماجد " في رواية" بنت العصر"يقابلهما ويعارضهما"جميلة"و" أنيس"،وهكذا الأمر بالنسبة لـ" فؤاد" و" فاتنة" و"سلمى"و" راغب" و" سامية"و" فؤاد" في الروايات الثلاث الأخريات،فهم جميعاً يواجهون على التوالي"مراد" و "صابر" و"المأمور العثماني"و" صالح"و"واصف"و" فائز".وحتى في الروايات التي تستثمر الموضوعات التاريخية فإن الثنائية الضدّية هي النسق المهيمن،فـ" زنوبيا"و" جوليا" في مواجهة" الإمبراطور أورليانوس" والقادة الرومان. وفي روايتي " بدور"و" الهيام في فتوح الشام" تظهر" بدور"و"عبد الرحمن الداخل" في الرواية الأولى،و" سلمى"و" سالم" في الثانية،بمواجهة" الخليفة السفاح" و"القرصان"و" جوليان"و" أوغسطا "على التوالي.على أنّه في الرواية الأخيرة يدعم نسق التضادّ الصراع الأكبر بين " المسلمين"من جهة و" الرومان"من جهة أخرى في أثناء عملية فتح بلاد الشام.إلى ذلك فإنَّ نماذج الخير و نماذج الشر تتقوّى بشخصيات تساعدها في إنجاز أفعالها.ولا تخلو رواية من هذه الشخصيات الثانوية التي تسهّل للأبطال أعمالهم وتحقق لهم رغباته،وتستخدم ضدّ خصومهم،وهو أمر شديد الشبه بما ظهر في السير الشعبية والمرويات الخرافية.

    حينما ندقّق النظر في البناء الفني لروايات " البستاني" التأسيسية،وروايات معاصريه طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر،نجد أنّه بناء قائم على هذا النسق المغلق من الأحداث المعبرة عن أفكار ثابتة وجاهزة،على أنَّ " البستاني" ومجايليه،كانوا يستثمرون ذلك النسق لبث بعض الأفكار الإصلاحية،والحال فنقدهم كان خاصاً بالسلوك،ولم يصل إلى الأفكار المولّدة لتلك الأنساق المغلقة،وكما يقول " ميشيل جحا ":فالهدف الذي كان يتوخّاه " البستاني" من نشر رواياته هو"الموعظة،وأخذ العبرة والإصلاح الاجتماعي الذي كان يسعى إلى تحقيقه" ورواياته" تجمع بين التسلية والترفيه والترويح عن النفس والفائدة والغاية منها تربوية وتعليمية وتثقيفية"(2.

    سيمرّ وقت طويل قبل أن تنهار تلك الأنساق المغلقة،وتتحرّر الرواية العربية من هيمنة الفكر القديم.ومما اهتم به أولئك الكتّاب،وعلى رأسهم " البستاني" ثم "جورجي زيدان" فيما بعد،هو نقد السلوك والعادات، والدعوة للأخذ بالتمدّن الغربي في مظاهره الخارجية التي كانت قد انتشرت في ربوع بلاد الشام ومصر وبلاد عربية أخرى.ولذلك فإنَّ " طرّازي " في تقويمه للبعد الإصلاحي المبثوث في روايات " البستاني"،يذهب إلى أنَّ قلمه كان " أعظم ترجمان للتمدن الغربي في ديار الشرق"(29).

    وهذه الملاحظة،بذاتها،لم تفت "محمد يوسف نجم" الذي خلص إلى تقويم تلك التجربة الروائية الرائدة بقوله:"هي أول نتاج ضخم في أدبنا،وعلى الرغم من الإطار الرومنطيقي الصريح الذي يلفّها وما يفرضه من المبالغات والصدف والبعد عن الواقع وفتور الشخصيات وبُعدها عن الطبيعة الإنسانية،وجفاف العرض وضعف الأسلوب،لا نستطيع إلاَّ أن نسجّل لصاحبها فضل السبق في هذا الفن،وتنبيه أذهان الكتّاب إليه،ولفت نظر عامّة القراء إلى ما يحويه من لذة وفائدة. وعيب "البستاني" الأول أنه كتب ليعظ ويُصلح،لا ليحقّق مُثلاً فنية،نصبها أمام عينيه.وهذا العيب تخفّفه معرفتنا لروح الأدب في هذه الفترة،فقد كان الأدباء..ينتجون الأدب على اختلاف ألوانه لتحقيق غاية اجتماعية هي الإصلاح والتهذيب"(30).

    وفي سياق لا يتقاطع مع هذا الرأي،قال باحث آخر" من الحق أن نقرّر أنَّ السمات الفنية لم تكتمل لدى البستاني،إذ نفتقد الروابط والتحليل والاستبطان،ونلتقي بالسطحية والتفكّك والتناثر والعظة وعدم رسم الشخصيات،والمباشرة،والتاريخ ،والجغرافيا،والاجتماع...الخ، فكأن مهمته الصحفية قابعة في عمله هذا،كما نلتقي بالسجع والإطالة والمصادفات والتضخيم والتهويل،مما يجعل عمله بداية تمهيدية لا عملا فنيا قصصيا ناجحا"(31).

    5."علي مبارك":"علم الدين" وتعطّل الميثاق السردي



    في هذا الجو المشبع بالأهداف الاعتبارية،لايمكن للنصوص الأدبية أن تنأى عن الانخراط في وظائف متّصلة بالسياق الثقافي العام للعصر الذي ظهرت فيه،فهي،كما يذهب "آيزر"،تشكّل رد فعل للمواقف المعاصرة لها،وتلفت الانتباه إلى المشكلات التي تحدّدها معايير عصرها،على الرغم من أنَّ تلك المعايير لا تقدم حلولا لها(32) وقد استشعر نخبة من الكتّاب بأنَّ السرد يصلح وسيلة لتمثيل الأهداف الاعتبارية،نجد ذلك واضحا في المقدّمة التي وضعها "علي مبارك"(1823-1893) لكتابه" علم الدين "وجاء فيها:" وقد رأيت النفوس كثيرا ما تميل إلى السِّيَر والقصص وملح الكلام،بخلاف الفنون البحتة والعلوم المحضة؛فقد تعرض عنها في كثير من الأحيان؛لاسيما عند السآمة والملال من كثرة الاشتغال وفي أوقات عدم خلو البال.فحداني هذا أيام نظارتي ديوان المعارف إلى عمل كتاب أضمّه كثيرا من الفوائد في أسلوب حكاية لطيفة،ينشط الناظر في مطالعتها،ويرغب فيها رغبته في ما كان من هذا القبيل،فيجد في طريقه تلك الفوائد ينالها عفوا لا عناء،وحرصا على تعميم الفائدة وبث المنفعة،فشرعت في جمع هذا الكتاب،مستمدا من عناية الله...فجاء كتابا جامعا،اشتمل على جمل شتّى من غرر الفوائد المتفرقة في كثير من الكتب العربية والإفرنجية،في العلوم الشرعية والفنون الصناعية وأسرار الخليقة،وغرائب المخلوقات وعجائب البر والبحر،وما تقلّب نوع الإنسان فيه من الأطوار والأدوار في الزمان الغابر وما هو عليه في الوقت الحاضر..على نمط يسمو من السآمة،ولا يميل إلى الملالة،مفرغا في قالب سياحة شيخ عالم مصري،وسِم بعلم الدين مع رجل إنكليزي،كلاهما هيان بن بيان،نظمهما سمط الحديث لتأتي المقارنة بين الأحوال المشرقية والأوروبوية"(33).

    هذه المقدمة تشير إلى جنس كتاب" علم الدين" الذي ظهر في عام 1882 فالمؤلّف يشير بوضوح إلى أنَّ هدفه فيه:الفوائد المتفرّقة في كثير من الكتب العربية والإفرنجية،في العلوم الشرعية والفنون الصناعية وأسرار الخليقة.والإطار السردي المتقطّع والرتيب إنما جاء بهدف تجنّب السآمة والملال من كثرة الاشتغال وفي أوقات عدم خلو البال.ويكاد الكتاب يكون موسوعة تتضمن المعارف السائدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بداية من المعلومات الجغرافية والتاريخية والعلمية والدينية في العالمين الشرقي والغربي،وصولا إلى استخدام البخار في تسيير القطارات،وتكاليف بناء السكك الحديد وأطوالها في العالم،وحديث مفصّل عن مواسم الأعياد،والخانات والفنادق،والبريد،والملاحة،والبراكين،والمسرح،والقهوة،والحشيش،واللؤلؤ، والحشرات،والحيوانات،والجيولوجيا،وعشرات الموضوعات الأخرى،ومنها علوم اللغة العربية، وتاريخ العرب،وقضايا فقهية ودينية،وشرح العادات الاجتماعية والأخلاقية وغيرها.وتختنق الحركة السردية وسط هذه الاستطرادات اللانهائية التي تقتحم الحديث وتتشعّب،ثم فجأة ينتهي الكتاب،والشخصيات قد وصلت باريس في طريقها إلى بلاد الإنجليز دون أن تنجز الغرض الذي يمكن اعتباره( الميثاق السردي) المحرّك للأحداث ألا وهو الاتفاق بين علم الدين ورجل إنجليزي ويقوم بموجبه علم الدين بتدقيق معجم" لسان العرب"بهدف نشره لصالح الإنجليزي،فينطلقان من مصر إلى بريطانيا لتحقيق الهدف،يرافقهما برهان الدين،ابن علم الدين،ثم يلتحق بهم فيما بعد يعقوب.

    ينتهي الكتاب دون أن يتحقق مضمون التعاقد على مستوى الفكرة وعلى مستوى السرد. والحقّ فمضمون الكتاب،والطريقة الاستطرادية،والهدف المعلن في المقدمة وفي تضاعيف الكتاب يتعارض مع الميثاق المذكور،فالمؤلف يريد أن يجعل منه سمط الحديث للمقارنة بين الأحوال المشرقية والغربية.ولكن هذا لايعني غياب المكونات السردية في كتاب" علم الدين" على العكس تماما فقد كانت الحركة السردية الابتدائية موفّقة،فالمؤلف ابتدع شخصيتين خياليتين" كلاهما هيان بن بيان"،وهو في هذا يحذو حذو " الحريري" و"اليازجي"،وقد أشارا في مقاماتهما إلى فكرة اختلاق الشخصيات،ثم ابتدع فكرة التعاقد،وأخيرا أطلقهما في رحلة داخل فضاءين ثقافيين مختلفين:العالم الشرقي والعالم الغربي.لكن الرغبة العارمة لأن يكون الكتاب موسوعة إخبارية وتاريخية جعل الحركة السردية تتضاءل،وتتوقف أحيانا،وظلّ الأمر يتفاقم؛أدى في النهاية إلى توقف الكتابة في منتصف الطريق دون أن تتحقق نتائج تلك الحركة،ولا يُعرف الآن فيما إذا كان " علي مبارك" قد توقّف عن الكتابة والشخصيات تتجوّل في باريس،أم أنّه أنهى الكتاب،واقتصر الأمر على نشر الأجزاء الأربعة الأولى فقط منه.وإذا أخذنا المقدّمة في الاعتبار كدليل على الهدف من الكتاب،فإنَّ مضمون الكتاب ورسالته تحققا،لأنَّ المؤلّف أورد كلّ ما وعد به في المقدمة،سوى المضي في تحقيق الميثاق السردي إلى نهايته،ولما كنّا نرى أنَّ هنالك تعارضا بين طبيعة الميثاق ومضمون الكتاب،وأنَّ المؤلّف كان اصطنع ذلك الميثاق لترتيب مادة الكتاب المستعارة من عشرات الكتب العربية والأجنبية،فقد انتفت أهمية ذلك الميثاق الذي لم ترد أية إشارة إليه إلاَّ لحظة توثيقه في القاهرة ثم نُسي نهائيا،فحلّ محلّه الهدف الذي شدّد عليه "مبارك" في المقدمة.ومن المؤكد أنَّ كتابا يهدف إلى تحقيق الرسالة التي أرادها المؤلّف لن ينتهي على الإطلاق،فلابد من وقفه عند نقطة ما فجأة دون إبداء أي سبب.وقع تعارض لا يخفى بين مسوغات السرد ورسالة الكتاب.ولم يكن ممكنا،في نهاية الأمر إلاَّ وقف الاثنين معا.

    لم يستطع "علي مبارك" التوفيق بين الحركة السردية التخيّلية التي تمثّلها علاقة الشخصيات المتخيّلة في النصّ،والرسالة التي يلحّ على إيرادها في الكتاب،كما نجح فيما بعد "جورجي زيدان" في التوفيق بين الحركة السردية المتخيّلة والمادة التاريخيّة،و"محمد المويلحي" في الانسجام بين تجوال الشخصيات،ووصف المظاهر المستحدثة بعد عصر الباشا " أحمد المنيكلي"،ولم يكن ذلك بدعة في عصر " علي مبارك"،فقد كان "جورجي زيدان" يورد قوائم بمصادر بعض رواياته التاريخية،وكثير من المسرحيات آنذاك كانت تقوم على أخبار وردت في الكتب الأدبية والتاريخية،ومنها مسرحيات "مارون النقّاش" و" إبراهيم الأحدب"،ولكن الأمر مع " علي مبارك" جاء ليعطّل الأحداث،ويقدّم فصولا إخبارية معرّبة بتصرّف عن كتب أجنبية حول كشوفات علمية وجغرافية،أو نصوصا من المعاجم وكتب التاريخ والدين،فصولا تعليمية مبسّطة يضعها الإنجليزي أمام "علم الدين"،ليبيّن له تقدّم الحضارة الغربية،وفصولا تعليمية يقدمها "علم الدين" للإنجليزي ليبين له الماضي العريق لثقافته العربية– الإسلامية.

    تشكّل فكرة الارتحال إطار مناسبا لبعث حركة سردية شائقة،وهذه الفكرة راسخة في الموروث السردي العربي،ظهرت في مرويات الإسراء والمعراج،وفي السير الشعبية،وفي معظم الحكايات الخرافية التي تضمنها كتاب" ألف ليلة وليلة" و تكرّست بصورة نهائية في المقامات عند الهمذاني والحريري وابن الصيقل الجزري والسرقسطي واليازجي وعشرات غيرهم،وفي "رسالة الغفران" و"رسالة التوابع والزوابع"،وفي كتب الرحلات إلى درجة يبدو السرد القديم قرين حركة ارتحال وعودة.ويبدو أن " علي مبارك" قد وجد هذا الإطار مناسبا له،كما سيجد ذلك "المويلحي" فيما بعد،لكن الاستمرار في نمط من الكتابة جعل التناقض يتفاقم بين الأمرين.

    ينطلق الإنجليزي و"علم الدين" وابنه من القاهرة باتجاه بريطانيا،ويصلون الإسكندرية بالقطار،فتكون الرحلة مناسبة لعرض مفصّل حول نشأة السكك الحديد في العالم،ثم ينطلقون بحرا إلى مرسيليا،وتكون مناسبة لمزيد من التفصيل في كل ما يصادفون،ثم تنطلق المجموعة صوب باريس محطتها الأخيرة في الكتاب،وهناك تقدّم تفصيلات كثيرة حول العالم،ولكنّ كلّ ذلك لا يخلو من الفصول السردية منها جولات" إبراهيم" و"يعقوب"،بل إن حكاية "يعقوب" الطويلة التي تتوازى مع حركة المجموعة تعتبر إحدى أهم العناصر السردية في الكتاب،فالراوي الذي يطلق على نفسه صفة "ناقل الحديث"يتلاعب بحكاية "يعقوب" فيقوم بتقطيعها وتوزيعها على كثير من الفصول،فيضفي على الكتاب روح الحركة والخيال.ومصطلح "ناقل الحديث" مستعار من السير الشعبية.

    ليس من المناسب الآن محاكمة هذا الكتاب طبقا للتصوّرات الخاصة بالدراسات السردية المعاصرة،لكن من المفيد القول:إنَّ رسالة الكتاب الصارمة قد حالت دون انفتاح السرد على وظيفته الطبيعية،فقد ظهرت الشخصيات المنمّطة الجاهزة ثقافيا وعقائديا وسلوكيا،فلا تطوّر في الأفعال السردية،إنما استخدمت الشخصيات وسائل لتلخيص مئات الصفحات المبثوثة في الكتب المختلفة،فالشخصيات لا تنطق بشئ خاص إنما تورد معلومات مستعارة من كتب يشار إليها علنا في المتن أحيانا،ويتم تجهيلها أحيانا أخرى،وكثير منها تقارير إخبارية كانت تنشرها الصحف والدوريات والكتب التعريفية التي بذل "علي مبارك" جهدا كبيرا في تعريبها وتلخيصها،فأصبحت شاهدا تاريخيا الآن على لحظة الدهشة الأولى بالعالم الغربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

    إذا ادرج كتاب"علم الدين " في سياق المرحلة التي نتحدّث عنها الآن،فيبدو وكأنّه لحظة توقّف بين " البستاني" الذي توفي بعد ذلك بقليل و" جورجي زيدان" الذي بدأ بعد عقد يستأنف مسار " البستاني"،فـ" علم الدين" كما كرّر " علي مبارك" كثيرا،إنما هو كتاب يتوسّل بالحكاية أسلوبا له،لكنّه لم يوفّق في ذلك،فقد تقهقر الفعل السردي لصالح المادة التوثيقية الثقيلة والتعريفية،ولكنّ الكتاب من ناحية أخرى كشف سياقين مختلفين حول فكرة التمدّن؛السياق الغربي القائم على العلوم التجريبية،والسياق الشرقي المنهمك بالعلوم الشرعية،ومن هذه الناحية كان كتاب"علم الدين "وسيطا مهما،يضمر رسالة تدفع ضمنا بفكرة المقارنة بين عالمين مسوقين بفكرتين مختلفتين عن نفسيهما ووجودهما.ويخيّل لنا أنَّ هذا هو السبب الذي من أجله وصف " لويس شيخو" الكتاب بأنّه جاء على" طرز رواية أدبية عمرانية" وأنَّ علي مبارك " أودعها كثيرا من المعارف والفنون، كالتاريخ، والجغرافية،والهندسة،والطبيعيات،وغير ذلك،مما قرّب إلى قرائه فهمه بمعرض شهي"(34).ووافقه في ذلك "رشيد عطا لله"،وأضاف:بأنه" أودعها الفرائد الجمّة"(35).

    وكان "عبد المحسن طه بدر" قد صاغ ملاحظاته حول الكتاب،فقال:بأن"علي مبارك لا يهتم بهذه الرحلة إلاَّ باعتبارها وسيلة تتيح له الفرصة لتقديم معلوماته ،وكثيرا ما ينسى هذه الصلة ليتحدّث في فصول خالصة عن العلم وحده، كما أنَّ الشخصيات لاوجود لها إلاَّ باعتبارها أداة لعرض معلوماته،ومن مظاهر عدم الاهتمام بالعناصر الروائية اختفاء العنصر الغرامي والتشويق،وهي ظواهر تتصل بها الرواية التعليمية بصورة خاصة،كما يسود الأسلوب العلمي الجاف جو الكتاب كله"(36).وبالإجمال فإنَّ الغرض من الكتاب" تقديم معلومات إرشادية"(37).

    6."جورجي زيدان":التمثيل السردي للتاريخ



    بدأ "جورجي زيدان"( 1861-1914) سرديا من حيث انتهى "سليم البستاني"،وشأن سلفه الذي أنجز في مدة وجيزة مجموعة كبيرة من الروايات،فإنّه،هو الآخر،وفي غضون ثلاثة وعشرين عاماً، أنجز ثلاثاً وعشرين رواية،بدأها بـ" المملوك الشارد"في عام 1891،وختمها بـ" شجرة الدر" في عام وفاته.وقد احتذى البستاني في إنتاجه الروائي،سواء تعلق الأمر بالأبنية السردية والدلالية للنصوص الروائية،أو في الظروف المرافقة لعملية الكتابة والنشر،فكما كان الأول يحث جهده للوفاء بحاجة مجلة " الجنان" الدائمة والمتجدّدة كل نصف شهر،فإن الثاني كان يمخض قدراته كل شهر لإشباع حاجة مجلة " الهلال" إلى درجة لم يكن يعرف من رواياته التي يكتبها إلاَّ خطوطها العامة،وبهذا الصدد يقول:"من الغريب ما يتفق لنا من هذا القبيل أننا ننشر الفصل من الرواية ونحن على غير بيّنة من الفصل الثاني،أي أننا نضع حوادث كل فصل أو بضعة فصول في حينها،ويبقى سائر القصة في علم الغيب.فلو سئلنا أن نقص ما بقي منها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً،إلاَّ إذا سئلنا عن غرض الرواية بوجه الإجمال (أي عن هيكلها)فلا نظن القارئ أكثر تشوقاً إلى مطالعة الرواية منا إلى كتابتها؛فإننا نفرغ من كتابة الفصل ونحن تشوّقا إلى كتابة ما يليه تطلّعاً إلى ما سيكون بعده،فنحن والقارئ في ذلك سواء" (3،ويشرح " زيدان" السبب:" إن ما ننشره من رواياتنا في الهلال إنما هو ابن يومه فلا نكتب الرواية عند كل هلال إلاَّ ما نحتاج إلى نشره في ذلك الهلال،ولانفعل ذلك إلاَّ اضطرارا لما تحتاج إليه الروايات التاريخية من المراجعة والتنقيب لتمحيص الحوادث التاريخية،وتطبيقها على الحوادث الغرامية حتى لا يظهر فيه تكّلف أو ضعف"(39).وكما كنا قد بيّنا ذلك،فالأمر كان شائعاً في الرواية العربية آنذاك.

    كانت تاريخيات "زيدان" قد بدأت بالظهور في الحقبة التي ازدهر الاهتمام فيها بتأليف الروايات التاريخية وتعريبها،وروايات المغامرات والحب.وإذا كان "البستاني" يعتبر أنموذجاً للتأليف من بين عدد كبير دونه أهمية وتأثيراً،فإن عدداً وافرا من الروايات التاريخية الأجنبية كانت قد بدأت بالظهور معرّبة إبان تلك الفترة، من ذلك أنَّ تعريبين متتاليين لرواية" الكونت دي مونت كريستو" لـ" إسكندر دوماس"،ظهر الأول،الذي قام به "سليم صعب" في عام 1866، في بيروت والثاني في القاهرة قام به "بشارة شديد" في سنة 1871،وبعد عشر سنوات فقط،عرّب "قيصر زينية" رواية دوماس الأخرى " الكونت دي مونغوميري"وصدرت في القاهرة مسلسلة في جريدة "الأهرام" خلال عام 1881 ثم رواية " الفرسان الثلاثة" في أربعة أجزاء بتعريب " نجيب حداد"،ظهر في القاهرة عام 1888 هذا فضلاً روايات أخرى كثيرة لـ"فولتير" و"فينلون" و"شاتوبريان" و"سكوت" وغيرهم.

    هذا الأمر كان مثار اهتمام "زيدان" ومتابعته،،فقد أورد رصداً لظاهرة الإقبال على التعريب الروائي في كتابه" تاريخ آداب اللغة العربية" ومما قال فيه إنَّ معاصريه" قد أكثروا من نقل الكتب عن الفرنساوية والإنكليزية والإيطالية،وهي تسمى في اصطلاح أهل هذا الزمان "روايات"والروايات المنقولة إلى العربية في هذه النهضة لا تعدّ ولا تحصى،وأكثرها يراد به التسلية،ويندر أن يراد بها الفائدة الاجتماعية أو التاريخية أو غيرها".وما أن ينتهي من رصد ذلك إلاَّ وينتقل إلى وصف الكيفية التي تلقى بها القرّاء العرب تلك الروايات،دون أن ينسى الفارق بينها والمرويات السردية العربية "رحّب قرّاء العربية العقلاء بهذه الروايات لتقوم مقام القصص التي كانت شائعة بين العامة لذلك العهد مما ألّفه العرب في الأجيال الإسلامية الوسطى،نعني قصة علي الزيبق وسيف بن ذي يزن والملك الظاهر.فضلاً عن القصص القديمة كعنترة وألف ليلة،فوجدوا الروايات المنقولة عن الإفرنجية أقرب إلى المعقول مما يلائم روح العصر"(40).

    والحق فقد اكتسحت المعربات التاريخية المحاكاتية عالم السرد العربي الحديث في الحقبة التي كان "زيدان" منهمكا في تاريخياته،وبخاصة روايات "دوماس الأب" التي توصف عادة بأنها " نهر خارق من السرد" يركز فيها على تاريخ فرنسا،هادفا من ذلك إلى جذب القراء الذين كانوا يجهلون أشياء كثيرة عن تاريخ بلادهم بعد أن تربّعت بوصفها إحدى الدول الأوربية الكبرى. لكن" زيدان" الذي شغف بهذه السرود التاريخية التي تهدف هي الأخيرة إلى تأسيس وعي بالماضي،كان يريد من وظيفة هذه السرود أن تحقق الهدف نفسه كما تقرّر في تاريخيات" دوماس " وسكوت" ولكن بأسلوب مختلف.

    وسط تفاعل النصوص المؤلّفة والمعرّبة التي شاعت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر،وبخاصة الاقتباس غير المقيّد الذي ازدهر آنذاك،ظهرت على التوالي تاريخيات "زيدان" لتقدّم أول سلسلة،شبه متكاملة،تقوم على تمثيل سردي تاريخي للأحداث العربية– الإسلامية منذ العصر الجاهلي إلى الانقلاب العثماني في نهاية العقد الأول من القرن العشرين،وعلى الرغم من أن العمر لم يسعف "زيدان" بإكمال السلسلة،فظلت بعض العصور دون تغطية،إلاَّ أنّه كان يعلن باستمرار أنّه في سبيله لإعادة تفريغ التاريخ العربي –الإسلامي من مظانه الكبرى والمعقّدة وتقديمه مبسطاً ومتتالياً.

    ومن أجل شدّ الانتباه كان يختلق قصة حبّ،أو ينتزع من ذلك التاريخ حكاية ليجعلها الوسيلة التي بها يستكشف الوقائع التاريخية.ولهذا كان يشير دائماً وبإلحاح،وفي معظم رواياته،إلى أنه ينتقل إلى مرحلة،بعد أن فرغ من تقديم أخرى،بحيث يبدو التصميم و القصدية واضحين،وما الحكاية إلاَّ وسيلة لإثارة الاهتمام،وكان يذكر المصادر الأصلية التي يستعير منها الأخبار التاريخية منها.وبعد أن أتم سبع روايات تاريخية وجد أنّه من اللازم عليه تقديم تفسير لطبيعة الكتابة التاريخية –السردية لديه،وبذلك فقد استنبط القانون العام الذي سار عليه،والذي سيسير عليه إلى النهاية،وقد جاء ذلك عام 1902 في المقدمة المهمّة التي وضعها كمدخل لرواية" الحجاج بن يوسف الثقفي" وبيّن فيها تصوّره لمجموعة من القضايا،وفي مقدمتها،وظيفة الرواية التاريخية عنده،ووظيفتها عند الكتّاب الأوربيين،ووظيفة الحكاية الفنية داخل النصّ،وأخيراً كشف النقطة الأساسية في كل مشروعه الروائي،وهي اعتبار رواياته مرجعاً شأنها شأن كتب التاريخ،قال:"رأينا بالاختبار أنَّ نشر التاريخ على أسلوب الرواية أفضل وسيلة لترغيب الناس في مطالعته،والاستزادة منه،وخصوصا لأننا نتوخّى جهدنا في أن يكون التاريخ حاكماً على الرواية لا هي عليه كما فعل بعض كتبة الإفرنج.وفيهم مَن جعل غرضه الأول تأليف الرواية،وإنما جاء بالحقائق التاريخية لإلباس الرواية ثوب الحقيقة،فجرّه ذلك إلى التساهل في سرد الحوادث التاريخية بما يضلّ القرّاء.وأما نحن فالعمدة في روايتنا على التاريخ،وإنما نأتي بحوادث الرواية تشويقا للمطالعين.فتبقى الحوادث التاريخية على حالها،ندمج فيها قصة غرامية،تشوق المطالع إلى استتمام قراءتها،فيصح الاعتماد على ما يجيء في هذه الروايات من حوادث التاريخ مثل الاعتماد على أي كتاب من كتب التاريخ من حيث الزمان والمكان والأشخاص،إلاَّ ما تقتضيه القصة من التوسع في الوصف مما لا تأثير له على الحقيقة"(41).

    كان " جورج لوكاش" قد قرّر بأنَّ الرواية التاريخية نشأت في مطلع القرن التاسع عشر،ثم أبدى ملاحظة مهمّة،ذهب فيها إلى أنّه يمكن العثور على روايات ذات موضوعات تاريخية في القرنين السابع عشر والثامن عشر أيضا،ويستطيع المرء إذا ما أحس ميلا في نفسه إلى ذلك،أن يعتبر الأعمال القروسطية المعدّة عن التاريخ الكلاسيكي أو الأساطير" أسلافا " أو مقدمات للرواية التاريخية،وهي في الحقيقة،تعود إلى ماض أبعد حتى تبلغ الصين أو الهنـد(42).وطبقا لـ" لوكاش"،الذي قدّم دراسة معمّقة عن الرواية التاريخية،تكون هذه الرواية،بمعناها الحقيقي،حديثة عهد في الآداب الغربية،وهي رواية لا يراد بها أداء وظيفة التاريخ،إنما استثمار المناخ التاريخي،وتوظيفه كخلفية للوقائع،كما كان " فرح أنطون" قد حدّد تلك الوظيفة في وقت مبكّر،حينما قال:" إنَّ الروايات التاريخية لا يقصد بها سرد وقائع التاريخ وأرقامه،فإنَّ طالب هذه الوقائع والأرقام يلتمسها في كتب التاريخ حيث تكون قريبة المنال ليجردها عمّا ليس منها،لا في الروايات المطوّلة التي تشتبك وقائعها الخيالية بها،ولا يصبر طالب التاريخ على مطالعتها،وإنما المقصود من الروايات الخيالية...تكميل التاريخ في جوانبه الناقصة"(43).وهذا ردّ ضمني على ما ذهب إليه "زيدان" في جعل التاريخ حاكماً على الرواية لا هي عليه كما فعل بعض الروائيين الغربيين.

    من الواضح أنَّ الفوارق الدقيقة بين التاريخ كخطاب موضوعي،والسرد كفنّ لتشكيل الأحداث كانت ملتبسة في ذهن "زيدان"،وكان إحساسه بها باهتاً،فلم يكن يظن أنّه بوساطة السرد سينزلق ترتيب الأحداث ودلالتها إلى سياق غير سياقها،وإعادة تشكيلها سردياً لن يحافظ بأي شكل من الأشكال على أبعادها الموضوعية أو شبه الموضوعية،ولهذا فإنَّ جوهر عمل "زيدان" الملتبس هذا سينتهي به إلى الانقسام على نفسه،فهو في الوقت الذي يريد أن يجعل" التاريخ حاكماً على الرواية لا هي عليه كما فعل بعض كتبة الإفرنج" فإنّه لم يأل جهداً في بث المواعظ الاعتبارية المتعدّدة الأبعاد والأغراض في تضاعيف رواياته،وبذلك كان يستخلص عبرة،فالتاريخ غادر ميدانه كسلسلة وقائع،وأعيد تركيبه ليكون مصدر عبرة وعظة،في حين يريده هو أن يكون مرجعاً.وبعيداً عن الأغراض المباشرة لاستخدام التاريخ كخلفية للحكايات عند " زيدان" - وبعضها خاص بعملية إشباع حاجات التلقّي المتزايدة لهذا الضرب من التأليف الروائي آنذاك - فإننا نظن أنّه كان يريد تأسيس وعي ميسّر بالتاريخ،وثمة بون شاسع بين كتابة التاريخ والوعي به؛فالكتابة ممارسة تعليمية،والوعي مجاهدة تفكيرية.

    حدّد " زيدان" الوظيفة الخاصة بالرواية التاريخية كما فهمها وكتبها،وبدا أقلّ تشدّدا مما صرّح به من قبل،فقال:" لا نريد بالرواية التاريخية أن تكون حجّة ثقة يرجع إليها في تحقيق الحوادث وتمحيص الحقائق،ولكننا نريد أن تمثل التاريخ تمثيلا إجماليا بما يتخلّله من أحوال الهيئة الاجتماعية(=المجتمع) على أسلوب لا يستطيعه التاريخ المجرد إذا صبر الناس على مطالعته..فإذا جرّدت روايتنا من عبارات الحب ونحوه كانت تاريخا مدقّقا يصح الاعتماد عليه،والوثوق به،والرجوع إليه،وإن كنا لا نطلب الثقة بها إلى هذا الحدّ،وإنما نعرف لها مزية هي تشويق العامّة لمطالعة التواريخ باطلاعهم على بعضها على سبيل الفكاهة"(44).وذهب أكثر من ذلك إلى تفصيل وظيفة الرواية التاريخية بشكل عام،فقال:"بالروايات التاريخية نهيّئ الناس لمطالعة التواريخ وإن يكن في تأليف الرواية من المشقّة أضعاف ما في تأليف التاريخ مع ظهور فضل مؤلّف التاريخ أكثر من ظهور فضل مؤلّف الرواية،ولكن غرضنا الفائدة العامة وأقرب الطرق إليها من حيث التاريخ الطريقة القصصية التي نحن سائرون فيها.زد على ذلك أنَّ لهذه الطريقة في نشر التاريخ مزية لا تتأتى لنا في التواريخ المحضة،نعني بها تمثيل الوقائع التاريخية تمثيلا يشخص تلك الوقائع تشخيصا يقرب من الحقيقة،تتأثر منه النفس فيبقى أثره في الحافظة فضلا عمّا يتخلّل ذلك من بسط عادات الناس وأخلاقهم وآدابهم مما لا يتأتى بغير أسلوب الرواية إلاَّ تكلفا"(45).

    وعلى الرغم من هذا التفصيل الذي كان القصد منه بيان الكيفية التي وظفت فيها المادة التاريخية،فقد وجّه "زيدان" نقداً إلى الروايات التاريخية الأجنبية التي كانت الحكاية فيها حاكمة على التاريخ،وهذا نقد مبطّن لـ"والتر سكوت "و" إسكندر دوماس" كونهما غلّبا المكوّن الحكائي في رواياتهما على المكون التاريخي.ومع أنَّ " زيدان" كان حذراً مما اعتبره خطأ لديهما،الأمر الذي جعله يشطر رواياته إلى شطرين متوازيين:عرض أحداث تاريخية وعرض أحداث تخيّلية،فإنه،حينما لا يستطيع العثور على شخصيات تاريخية حقيقية يمكن ربطها بعلاقة حب رومانسية،كان يبتدع تلك الشخصيات من مخيلته؛فشخصيات رواياته تتحدّر عن مصدرين:الذاكرة التاريخية والمخيلة الإبداعية،ومثال النوع الأول شخصيات رواية " العباسة"ورواية " أبي مسلم الخراساني" وبعض شخصيات" عذراء قريش" ومثال النوع الثاني شخصيات رواية" الانقلاب العثماني"و" أسير المتمهدي" و" جهاد المحبين".

    اهتدى "زيدان"،فيما يخص المحتوى الدلالي للعالم الفني في تاريخياته،بالموروث السردي القديم الذي جهّزه بالنسق الدلالي العام،كما كان قد جهز " البستاني" من قبله عبر الحبكات العاطفية القائمة على المغامرة.وبالإجمال،وكما مرّ بنا كثيرا من قبل،فالروايات العربية إلى العقود الأولى من القرن العشرين كانت تنهل نسيجها الدلالي من المرويات السردية التي تقوم على الاستقطاب الثنائي المتضادّ بين الفضائل المطلقة والرذائل المطلقة،ولم يُخرق هذا النسق على الرغم من تغير الموضوعات بين تاريخية واجتماعية ودينية وأخلاقية،فثمة امتثال لذلك النسق،وقد ظلّ "زيدان " يفكر داخل هذا الإطار،فهو يضع شخصياته في منازعة أخلاقية أولية قوامها مناصرة الخير ومعاداة الشر،ويفصّل شخصياته على أساس الطبائع الثابتة،ولا يدخل تغييرا يذكر عليها إلى النهاية،إذ تظهر وتختفي وهي حاملة لطبائعها القارّة،فكأنَّ الخير والشر ليسا مفهومين زمنيين وثقافيين واجتماعيين منظورين،إنما هما طبعان وغريزتان ونزعتان لهما ثبات مطلق.وهو لا يسمح بالتحوّل من هذا إلى ذاك،إلاَّ نادراً جداً،فشخصياته نماذج مقفلة في مسارين لا تخرج عنهما؛لأنَّ التداخل والتحوّل سيفسد ثبات النسق الأخلاقي،وهذا يفضي إلى انهيار سلم القيم في العالم الفني الذي رسخه الفكر القديم على ركائز ثنائية متعارضة.

    هذا الانقسام الدلالي والحكائي،أي الانقسام الخاص بالقيم والآخر الخاص بالمناوبة بين المادة التاريخية والتخيلية،أضفى نسقية ثابتة على رواياته،وكان مثار نقد واضح تقدّم به نخبة من الدارسين،منهم " المازني" الذي قال:" إنَّ الحكاية عند جورجي زيدان مشوّشة مضطربة؛لأنّه لم يتولّها برويّة،ولم يتعهّدها بنظر وتدبّر..وهو لا يحلّل أخلاق أبطاله،ولا يشرح لك شخصياتهم..ولم يعن بتمييزهم،كما لم يعن بالقصة(= الحكاية) ولم يعن باللغة"(46) و"شوقي ضيف" الذي رأى أنَّ رواياته ليست روايات بالمعنى الدقيق" إنما هي تاريخ قصصي تدمج فيه حكاية غرامية، وهو تاريخ يحافظ فيه الكاتب على الأحداث دون أي تعديل، ودون أي تحليل للمواقف والعواطف الإنسـانية"(47)،ثم "سهيل إدريس" الذي فصّل الأمر بوضوح أكثر،مبينا مظاهر الضعف المتوطّن فيها،لأنَّ" تحليل نفسيات الأبطال يكاد يكون معدوما،فهو يبدأ بإعطاء صفات الشخصيات التي تقوم بالأدوار الرئيسية،وهي صفات عامة لا يراعي فيها الشعور البشري المتقلّب، وإنما يحتفظون بأخلاقهم وعاداتهم إلى النهاية، ثم أنّه يحرص على وصف جميع أبطاله، وكشف الستار عن شخصياتهم وصفاتهم بحيث أنَّ حسّ المفاجأة لدى القارئ يصاب بضربة فيتنبّأ بكل شيء ويزهد بالقراءة. ثم أنَّ تعليقات المؤلف وعظاته ودروسه تبدو نابية في سياق السرد، من غير أن تشرح شيئا"(4.وهذه الملاحظات الانتقادية التي انصرفت إلى المظهر السردي لروايات " زيدان" لم تحجب التقريظ الواضح للمظهر الأسلوبي فيها،فقد وصفه "رشيد يوسف عطا الله"،وهو من معاصريه:بأنّه" كان يرسل لفظه مسوقا للمعنى المطلوب،دون تكلّف أو صنعة"(49) فيما أكد "مارون عبود" :بأنه" كان يرسل عبارته على السليقة بلا تكلّف ولا تصنّع"(50).

    كل هذا سيفضي بنا إلى أنَّ كلّ روايات "زيدان" إنما هي تنويع ضعيف ومحدود لحبكة واحدة،وتغير نوع الأحداث وزمانها ومكانها وشخصياتها،لا يقود إلى تغيير في نظام العلاقات السردية فيما بينهما،هنالك نسق تكراري دائري مغلق في البناء والدلالة،أضفى على عناصر البناء الفني (الشخصية+الحدث+الزمان+المكان )سمات يصعب استبدالها وتغييرها.فالشخصيات تظهر حاملة لأفكار وملامح وأفعال لا تعرف التغيّر،وهي تُصوّر منذ البدء على أنّها أنموذج فكري وأخلاقي،وليس إنسانياً.وكلّ الأحداث إنما تُنضّد لدعم خصائص النموذج لتجعله في تضادّ مع أنموذج مناقض،وكما لاحظنا ذلك من قبل في روايات " البستاني"،فإنَّ روايات " زيدان" تنهج الأسلوب ذاته.فـ" سلمى"و" سليم" في رواية" جهاد المحبين" لكونهما خيرين وطيبين ومحبين،فإنّهما يوضعان بالضدّ من " وردة "و" الخدم" لأنَّ الأخيرين يسعيان لإفساد علاقتهما الخيرة.و" العباسة"و" جعفر البرمكي"ممثلا الخير،هما ضدّ" زبيدة "و" الفضل بن ربيع" لأنّهما شريران يحولان دون زواجهما.والأمر نفسه يتكرر بين " شيرين "و" رامز " من جهة،و"صادق"و"الأب"من جهة ثانية في رواية" الانقلاب العثماني"،وبين" فدوى"و" شفيق"من جهة،و" عزيز"من جهة أخرى في رواية " أسير المتمهدي".وبين كل من " أسماء بنت مريم"و"محمد بن أبي بكر "و" أبو مسلم الخراساني"و" جلنار"من جهة،في روايتي " عذراء قريش"و" أبو مسلم الخراساني"و" الأمويون"و" دهقان مرو" و" ابن الكرماني"من جهة أخرى.ويقاس ذلك الأمر في" غادة كربلاء"و" فتاة القيروان "و" شارل وعبد الرحمن "و" الأمين والمأمون ".ومجمل أعمال " زيدان" الروائية.

    مرّ زمن طويل قبل أن يخفت وهج التاريخيات في الكتابة الروائية،فقد أورثها "زيدان" لـ"محمد فريد أبي حديد" ثم "علي الجارم" فـ"محمد سعيد العريان" و"إميل حبشي الأشقر" وغيرهم،وستستأثر باهتمام " نجيب محفوظ" في مطلع حياته الأدبية قبل أن ينعطف إلى موضوعات أخرى.ولكن سلسلة "زيدان" التي لاقت صدى طيّبا لدى المتلقّي،وظلّت لمدة طويلة تستأثر بالاهتمام،امتصّت بصورة شبه كاملة الموضوع التاريخي،فانتهت الرواية التاريخية في الأدب العربي بتلك السلسلة،والمحاولات التي جاءت بعد ذلك ظلّت،إلى حدّ بعيد،تدور في الأفق البنيوي والدلالي لها،وقد ظهرت تلبية لحاجة أخلاقية وثقافية تريد نوعا من معرفة الماضي،وبتوفّر البدائل انحسرت الظاهرة نفسها؛لأنّها غيرت ترتيب المكونات،فبدل أن تتحرّر من قيد المادة الوثائقية،فتجعلها مرجعية للتفسير والفهم،جعلتها الهدف الأول،وذلك أمر لا يستقيم مع التمثيل السردي بدلالته الفنية.وفي الوقت الذي كانت تتوالى فيه روايات "زيدان " ظهر كتاب"حديث عيسى بن هشام" لـ" المويلحي" الذي نقض بقوة ظاهرة كل عناصر الثبات التي كانت شائعة من قبله في النصوص الروائية:الثبات الدلالي والبنيوي.


                  

05-12-2005, 11:37 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    ."المويلحي":التحوّل السردي ونقض الثبات التقليدي



    تبيّن لنا كيف قامت النصوص الروائية بتمثيل سردي شفّاف للمرجعيات الثقافية في القرن التاسع عشر،تمثيل جرّد تلك المرجعيّات من أبعادها المحتملة،وعرضها باعتبارها أنماطا أخلاقية متعارضة تقوم الشخصيات بالتعبير عنها،فالشخصية بؤرة رمزية لموقف خيّر أو شرّير،ومن وسط اصطراع الأنظمة القيمية تبلور الشخصيات حضورها،وتبيّن لنا أيضا،وبخاصة عند " الخوري" و "البستاني" و" زيدان" غياب قانون الاحتمال في العلاقات السردية،وفي الأحداث،وفي أفعال الشخصيات،ذلك القانون الذي يجعل إمكانية وقوع الأحداث محتملة،والحقّ فمعظم الروايات العربية في القرن التاسع عشر محكومة بقانون آخر هو قانون الصدفة والدهشة القائمة على الحركة والمغامرة،وحتى التعليقات والحواشي والتدخّلات التي يقوم بها المؤلّفون لم تكن قادرة على الحدّ من الإيقاع السريع والمتراكم للأحداث التي تريد أن تضع الخصوم في مواجهة مباشرة،لتكشف تعارض القيم،وهذا القانون بكامله بما فيه الإيقاع السريع مستعار من المرويات السردية،وفي مقدمتها سير الفرسان والحكايات الخرافية،وعلى العموم فالآداب القديمة،بسبب آليات التعبير الشفوي التي ظلّت مؤثّرة فيها حتى بعد تدوينها وانتقالها إلى المرحلة الكتابية،تتميّز بكل ذلك،فهي تختزل الأحداث وسلوك الشخصيات إلى أنماط جاهزة،فيما الآداب الحديثة،تقوم على الضدّ من ذلك بتمثيل سردي كثيف،يتضمن التنوّع والتفصيل الكاملين للمرجعيات الثقافية،والأحداث الخاضعة للاحتمال،والشخصيات تحرّرت من النسق التعارضي التقليدي،واشتبكت في علاقات أخرى نابعة من إمكانات محتملة الوقوع.

    يعتبر كتاب" حديث عيسى بن هشام" لـ"محمد المويلحي"(1858-1930) الوثيقة السردية الأكثر أهمية التي عبرّت،في خاتمة القرن التاسع عشر،عن هذا التحوّل،فالكتاب بشخصياته ونظامه القيمي والدلالي بدأ بحالة معينة،ثم انتهي بحالة مختلفة تماما،تغيّرت القيم،والشخصيات،والمنظورات السردية،حتى اللغة والأسلوب.إنّه كتاب التحوّلات التي فرضت وجودها في كلّ شيء.ومن اللازم أن نتتبّع الكيفية التي تجلّت فيها التحوّلات الدلالية والفنية في هذا الكتاب الذي يقيم اتصالا واضحا بـ"مقامات الهمذاني"،إنّه نوع من المحاكاة في التسمية لتلك المجموعة من النصوص التأسيسية،فـ" مقامات الهمذاني" كانت منفتحة ومتحرّرة بدرجة ما من قيود الصنعة البلاغية الصارمة التي تعاظم أمرها فيما بعد،اعتبارا من " الحريري"،وليس مستبعدا أن يكون " المويلحي" على وعي بكل ذلك،فحاول أن يتخطّى الموروث المتصنّع،ويعود إلى الأصل التأسيسي الذي انبثق عنه النوع،ويستثمر في الوقت نفسه الوظيفة الانتقادية لمقامات البديع التي فضحت بشكل لا غبار عليه البنية الاجتماعية في القرن الرابع الهجري.

    ولم يكن "المويلحي" الوحيد الذي قبل دور التابع لسلف عظيم،فتاريخ المقامات،نهض على نوع واضح بالإقرار لمديونية أدبية للسابقين،فقد أقرّ " الـحريري"بأنه يتلو تلو " البـديع"،وإنّه" لن يكون ضالعا شأن ذلك الضليع"(51).وبعده أعلن " ابن الصيقل الجزري" بأنّه يحذو حذو "الحريري"،الذي هو" أوحد زمانه،وأرشد أوانه " وقَبِلَ أن يكون الفرس الثاني في السباق فيما "الحريري" هو الأول(52).ثم " اليازجي" الذي شدّد على رغبته المحاكاتية في تقليد رواد المقامات بتطفله على" مقام أهل الأدب من أيمة العرب،بتلفيق أحاديث تقتصر على شبه مقاماتهم من اللقب"وهو" ضرب من الفضول،بعد انتشار ما أبرزه أولئك الفحول(53).ومن وسط هذا التقليد العريق انبثق أمر المحاكاة المويلحية،كما يبدو أول وهلة،والحق فلا نجد،إذا تمعّنا جيدا في التاريخ الأدبي للمقامات،سوى نزر يسير من كتّاب المقامات يحاكون حرفيا من سبقهم،فتاريخ المقامات العربية هو في حقيقته تاريخ تمرّد على شكل المقامة أكثر منه تاريخ امتثال له،ومن هذه الناحية يمكن اعتبار "المويلحي" من أواخر السلسلة المتمرّدة على الشكل التقليدي للمقامة،فالإقرار بالإفادة من شكل أدبي لا يحول دون الخروج عليه،والشكل الذي استقام صرحه على يدي " البديع" في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي،سرعان ما عرف طوال القرون العشرة اللاحقة نخبة من المتمرّدين أضعاف ما عرف من الممتثلين.

    لقد خرج على الشكل التقليدي عدد كبير من المقاميّين،مثل:ابن ناقيا،ثم الزمخشري،وابن الجوزي،والشاب الظريف،وظهير الدين الكازروني،ثم ابن الوردي،والقوّاس،والسيوطي،والخفاجي، والكريدي،والشيرازي،والسويدي،والورغي،والشدياق،والأنصاري،ومحمد فريد وجدي،ولا نجد بين هؤلاء من امتثل للبنية السردية التقليدية للمقامة امتثالا تاما،باستثناء حفنة لا تزيد على أصابع اليد الواحدة،في مقدمتهم الحريري الذي قلّد الهمذاني،والسرقسطي الأندلسي وابن الصيقل الجزري اللذان قلّدا الحريري،ثم اليازجي الذي قلّد هؤلاء،وبخاصة الحريري.وإلى هذا الخروج المتواصل نعزو تفكّك نوع المقامة وانهياره(54).ولم ينج "المويلحي" من كل ذلك،ولهذا ليس من المنتظر أن يحاكي "الهمذاني" محاكاة كاملة،إنما رغب في أن ينتمي إلى نسق من التعبير السردي الشائع الذي استعمل منذ البداية وسيلة بارعة ومقنّعة للنقد الاجتماعي،وقيمة كتاب " المويلحي" تتحدّد من أمرين،أولهما:التحرّر من الشكل الضيق والقصير لشكل المقامة،والثاني:تعميق الوظيفة الانتقادية،وإشهارها،لكنه حافظ على الشكل العام للبنية السردية للمقامة،تلك البنية القائمة على تلازم الراوي والبطل،وتناوب السرد بينهما،وقيام الحدث على فعلهما،وبخاصة فعل البطل أكثر من الراوي.اهتدى " المويلحي" بشكل صار مع التاريخ مرنا ومنفتحا،فأفاد منه،وطوّره إلى درجة كان الخروج عليه طبقا للآراء النقدية الراغبة بذلك،لا تقل أهمية عن تلك الآراء القائلة بمحاكاته.

    تتصدّر كتاب " المويلحي" سلسلة من الإعاقات السردية التي تحول دون تحرّر الحكاية وانطلاقها،ومن الواضح أنَّ " المويلحي" تقصّد وضع تلك الإعاقات وترتيبها لكي يتجنّب سوء الفهم الذي ينتظره من وراء الكتاب المملوء سخرية من كل شئ،ففضلا عن العنوان الذي يحيل على جهد "الهمذاني" فيدرأ بذلك خطر الوهم المنتظر من الناقدين له،وردت إشارة في الصفحة الأولى وتحت العنوان تؤكّد بأنَّ النبي كان" يمزح ولا يقول إلاَّ حقّا " وهذه الإشارة يراد منها تبرئة الكتاب من المقاصد المختبئة في غلالة المزاح،فما يحتويه هو الحقّ،وإن جاء ذلك بوسيلة التخيّل الأدبي.

    يبدو أنَّ ذلك لم يكن كافيا بالنسبة لـ" المويلحي"،فقدّمه بإهداء يحاكي به إهداءات القدماء التذللية التي تتضمنها مقدمات كتبهم،وكأنه يربط كتابه بمن يهديه لهم:والده المويلحي الكبير،وجمال الدين الأفغاني،ومحمد عبدة، واللغوي الشنقيطي،والشاعر البارودي،وهم نخبة العصر في زمنه من أدباء وعلماء دين ولغة وشعراء،ثم ثبّت صورة من رسالة موجّهة إليه من "جمال الدين الأفغاني"،يشيد فيها به،ويأمل منه أن يتحوّل من إرهاصاته الأولى إلى تعبير معجز" ليس بعد الإرهاص إلاَّ الإعجاز " وقد حرص على إدراجها لتضفي عليه قيمة،وتوجّه قراءته توجيها معينا،ثم خاتمة للشيخ "سالم بو حاجب" صاحب الإفتاء في المملكة التونسية،وصف فيها " المويلحي": بأنّه"جهبذ نحرير،ذو قلم تخرّ له سحرة البيان ساجدين" على أنَّ كلّ هذا لم يحل دون أن يضع "المويلحي" للكتاب مقدّمة تهدف إلى توضيح ما قد يُساء فهمه،فقد أشار إلى أنَّ الكتاب،وإن وضع على نسق التخييل،فإنّه" حقيقة متبرّجة في ثوب خيال لا أنه خيال مسبوك في قالب حقيقة" وكشف أخيرا المغزى الاعتباري فقال:إنّه في هذا الكتاب حاول شرح" أخلاق أهل العصر وأطوارهم" ووصف" ما عليه الناس من مختلف طبقاتهم من النقائص التي يتعيّن اجتنابها،والفضائل التي يجب التزامها"(55).

    وعلى الرغم من كل هذا فقد وجد بعض منتقديه أنّه كان " يسير في طريق لا تحمد مغبة المضي فيه بإنشاء كتاب يجري مجرى أدب العوام "(56)وتبدأ بعد كل سلسلة الإعاقات السردية هذه" العبرة"من الكتاب،وهو يصطلح عليها عبرة مع أنها ليس سوى إطار سردي عام تنبثق من خلاله شخصية الباشا،لكنّها تصلُح لأن تضع الشخصية الرئيسة في مواجهة جملة من القيم المختلفة.والكتاب بأجمعه يقوم على نسق المفارقة بين عصرين وثقافتين ونمطين متعارضين من أنماط الحياة،ولذلك فهو وثيقة رمزية بالغة الدلالة في نقد السلوك،ومساءلة القيم الاجتماعية،وفي الوقت الذي يسعى فيه الراوي إلى تثبيت وضعية الباشا في عالم جديد لا يوافقه في منظومة القيم،يصدر الباشا عن منظومة أخلاقية صارمة في نقد الآخرين.

    يتنزّل كتاب " المويلحي" في اللحظة الفاصلة بين عصرين وثقافتين،في بداية الكتاب لا يستطيع الباشا الانفصال عن عصره وقيمه،ولا يتقبّل العصر الذي بُعث فيه وقيمه،هذا من جهة،ومن جهة أخرى لا يستطيع المجتمع تفهّم قيم الباشا المندثرة،وسلوكه الاستعراضي كونه من أتباع " محمد علي" و" إبراهيم باشا "،وكونه ناظرا للجهادية،ولا يقبل أن يتخلّى عن قيمه أو أن يهذبها،ولكن ينتهي الكتاب،وقد أصبح الباشا في حال مختلفة تماما عمّا كان عليه.ولهذا فالكتاب يقوم بتمثيل الاصطراع العميق والمعقّد بين أنساق قيمية متعارضة،لكنّها سرعان ما تخضع لقانون التحوّل. وليس" حديث عيسى بن هشام "وحده النصّ السردي الفاصل بين نسقين مختلفين من القيم،فالأعمال الأدبية السردية الكبرى هي التي تتنزّل أحداثها ومقاصدها الرمزية في اللحظة الفاصلة بين العصور،ويمكن التمثيل على ذلك بأثر أدبي مشهور،هو كتاب" دون كيخوته" لـ"ثربانتس".يعيش "دون كيخوته" الشخصية الرئيسة في كتاب " ثربانتس"،مثلما يعيش الباشا في كتاب " المويلحي" في الحد الفاصل بين عصرين لكلّ منهما نسقه الثقافي،وما يحدث انقساماً عميقاً في وعي كل منهما هو وقوفهما في النقطة الفاصلة بين ثقافتين:الأولى:تنتمي إلى عصر في طريقه للأفول،والثانية: إلى عصر لم تتبيّن بعد معالمه الواضحة،فـ" دون كيخوته" يستعيد قيم الفروسية في عصر طوّر قيما مختلفة،والباشا يستحضر قيم ما قبل منتصف القرن التاسع عشر،في نهاية ذلك القرن،وهذا التباين ينعكس واضحاً في سلوكهما وأفعالهما واختياراتهما وعلاقاتهما بالآخرين.

    بتأثير من قراءة روايات الفرسان،ينتدب " دون كيخوته" نفسه لإعادة الاعتبار لقيم الفروسية وثقافة عصرها إلى درجة يخيّل له فيها أنه يذوب في شخصية الفارس " أماديس الغالي" وبالنظر إلى أنّه يعيش حقيقة في عصر لا يوقّر قيم الفروسية وثقافتها،فإنَّ كلّ المعاني المتّصلة بأفعاله تنقلب لتعطي دلالات مضادّة لما يتصوّرها هو؛ذلك أنَّ النسق الثقافي الجديد يحول دون منح المعنى القديم دلالته الحقيقية،إنما يضفي عليه فائضاً من دلالاته هو،وهكذا تظهر كل أفعال " دون كيخوته" ساخرة ومتناقضة وتنطوي على مفارقة لا يمكن السكوت عليها.والحقيقة فإنّها تنجز من قبل صاحبها بحسن نية وطبقاً لشروط النسق الثقافي الذي تشبّع به،لكنّ مقتضيات النسق الثقافي الجديد تجري اختزالاً وإكراهاً،فتعيد إنتاج تلك الأفعال داخل سياق مختلف،فتُسقط عليها دلالات تظهرها بوصفها أفعالاً شاذّة وغريبة،وكان "دون كيخوته" يريد أن يصير فارساً في عصر لم يعد قادراً على احتمال فكرة الفارس أصلا،وعلى هذا فإنَّ كل مقاصده تقود إلى عكس ما يريده منها.في نهاية المطاف يكتشف خطأه،يتوصل إلى أنّه خُدع لأن محاولته الفردية في بعث نسق ثقافي محتضر كانت مغامرة مضللة،ويتمنى لو كان قد دخل مدخلاً آخر يتّصل بإنارة العقل.وليس هذا حكم قيمة بصدد أفعال "دون كيخوته"،إنما أمر يراد منه الإشارة إلى أنَّ الأفعال لا تكتسب دلالاتها إلاَّ إذا أُنزلت ضمن السياقات الثقافية الحاضنة لها.فهي المفسّر الذي يغذّيها بالمقاصد المناسبة،لأنَّ تلك المقاصد تترتب ضمن فضاءات تلك السياقات وليس خارجها.

    ويخيّل لنا بأنَّ القيمة الاستثنائية لكتاب " المويلحي" تنبثق من كونه أكثر النصوص قوة في تمثيل هذه الفكرة في نهاية القرن التاسع عشر،حيث تدور أحداثه.فالشخصية الرئيسة فيه تبحث عن اتصال متكامل بعالم منسجم مع نفسه،لكن العالم المذكور انتقل إلى الأخذ بجملة مغايرة من القيم،وفي ضوء هذه المفارقة يعاد تفسير أفعال الشخصية الرئيسة تفسيرا ساخرا،لأنّها تصدر عن رؤية صارمة ومنسجمة مع نفسها،لكنّها تفسّر في ضوء نظام متحلّل من القيم،وهذا التناقض،بصورته المعروضة لم يكن مثارا لدى " البستاني" و" زيدان " من قبل،ولكن في العمق من هذا التماثل بين "دون كيخوته " والباشا " أحمد المنيكلي " يقع أيضا اختلاف لا يقل أهمية،وهو أن توّقف " دون كيخوته" عن دوره جاء في أول الأمر بناء عن ميثاق مشتق من عالم الفروسية،أن يوقف تمثيل دور الفارس إذا خسر رهان إحدى المنازلات،وبعد ذلك فجأة،وفي الأيام الأخيرة ينقطع عن ذلك العالم،فيما يتنامى هذا الموقف لدى الباشا شيئا فشيئا،من رفض كامل،إلى دهشة،فتعجب،فعزوف،فترقّب،ومشاركة،ثم انخراط.يبدو التغيّر سريعا جدا في حالة " دون كيخوته"،فيما يتنامى التغيير لدى الباشا طوال كتاب" حديث عيسى بن هشام".

    يكاد الراوي والباشا في" حديث عيسى بن هشام" يتطابقان في منظورهما،في أول الأمر،ولا تكاد المدة الزمنية الفاصلة بينهما،وهي قرابة نصف قرن تُحدث تمايزا بينهما،مما يمكن معه القول بأنَّ منظور الراوي يحيل على منظور " المويلحي" نفسه،فبعد أن يُحبس الباشا،يتركه الراوي بانتظار المحاكمة،وهو يفكّر قلقا ومضطربا بما أصاب الرجل"من ضربات الدهر المتتالية،وهو غريق في دهشته وحيرته،لا يدرك مضّي الزمن،ولا يدري ما الحال،ولا يعلم بتغيير الأمور،وما أحدثه الدهر بعد عهده،وزوال دولته من تبدّل الأحكام وانقلاب الدول"(57).فالراوي هنا يشفق على الحال التي أصبح فيها الباشا بسبب جهله بتغير الزمن،ولكن سرعان ما يتوصل إلى أنَّ إبقاء الجهل خير من إظهار المعرفة؛فذلك الجهل قد يساعد الباشا في موقفه،فلا يرتّب عليه ذنبا لم يتقصّد ارتكابه،ولهذا يواصل الراوي:" وكنت هممت أن أكاشفه بشرح الأحوال،وتفصيل الأمور عند أول مصاحبتي له لولا ما دَهمنا به القضاء المحتوم فأوقعنا فيما ألمّ بنا،ثم فكّرت بعد ذلك فكان من حسن التدبير،وسداد الرأي عندي أن يبقى الرجل جاهلا بالأمر حتى ينتهي من خطبه،ويكون جهله بتغيير الأحوال قائما بعذره في التخلّص من محاكمته.ثم عقدت العزيمة على أني لا أفارق صحبته بعد ذلك حتى أُريَه ما لم يرَ وأُسمعه ما لم يسمع،وأشرح له ما خفي علي،وغمض من تاريخ العصر الحاضر؛لأطَّلع على ما يكون من رأيه فيه عند مقابلته بالعصر الماضي،ولأَعلم أي العهدين أجلّ قدرا،وأعظم نفعا،وما الفضل الذي كون لأحدهما على الآخر"(5.

    من الواضح أنَّ الراوي يعيد توظيف جهل الباشا من أجل معرفته هو أولا،ومعرفة الباشا ثانيا،فالمناسبة بحد ذاتها تصلُح لكشف الاختلاف بين العصرين،فهو لا يريد من جهة إلحاق الضرر بالباشا بسبب جهله،وصدمة انبعاثه من القبر،ولهذا يحاول أن يجعل من جهله دليلا على براءته،وهو يريد من جهة ثانية أن يكتشف الباشا بنفسه اختلاف العصرين،وهو من جهة ثالثة يريد أن يتعرّف أي العصرين أجلّ قدرا وأعظم نفعا،ويبدو لنا أنَّ هذه الموازنة القلقة بين ثلاثة مسارات للسرد ترتبط برغبات الراوي هي المحفّز للحركة السردية في كتاب " المويلحي".وينبغي مواصلة الربط بين منظور الراوي ومنظور الباشا،فهما منظوران متقاربان،يلتقيان في أكثر من نقطه،لكنهما لا يتماهيان ببعضهما،فالسرد يمايز بين كل المنظورات التي تتخلّل الكتاب،وكل هذا لا يخفي سمة الفضول التي أشرنا إليها في منظور الراوي.يقول الباشا معبرا عن تذمّر واضح من تغير الأحوال" اللهمَّ عفوك وصفحك،هل قامت القيامة،وحان الحشر فانطوت المراتب،وانحلّت الرياسات،وتساوى العزيز بالذليل،والكبير بالصغير،والعظيم بالحقير،والعبد بالمولى،ولم يبق لقرشيٍّ على حبشيٍّ فضل،ولا لأمير منّا على مصريّ أمر؟ذلك ما لا يكون ولا تحتمله الظنون"(59).

    وليس هذا هو الموقف الوحيد الذي يبدي فيه الباشا موقفه،فالكتاب يحتشد بسلسلة متواصلة من العلامات الخاصة بهذا الأمر،وما يعزّز ذلك،ويكشف اندماج الباشا في عالمه القديم،وإخلاصه للأسرة الخديوية -التي رفعت شأنه،فصاحَب كبراءها- قوله بعد أن يبلغه الراوي بحبس الأمير أحمد سيف الدين سليل الأسرة،ومحاكمته طبقا للقوانين المدنية في البلد:" كيف لا تخرّ الجبال الشمّ إذا استنزلوا منها الأرَاويّ العٌصْم(= الوعول)؟وكيف لا تنشقّ القبور،وينفخ في الصور،وقد انحطّ المقام وسفل القدْر،وحقّت كلمة ربك على مصر:" فجعلنا عاليها سافلها" ؟ ومادام حفيد محمد علي في السجن على ما تروِي يخضع لحكم القانون،ويتوسّل بتلك الوسائل،وتتشفّع أمهُ بتلك الشفاعات،فما عليّ من عار فيما تدعوني إليه،فاذهب بي حيث تريد،وليتهم كانوا يقبلون مني أن أكون فداءً لابن سادتي،وأولياء نعمتي، فتضاف عقوبته إلى عقوبتي"(60).لايمكن،في مطلع الكتاب،تصوّر إمكانية فصل الباشا عن عصره،وتنجح خطة الراوي شيئا فشيئا في إخراجه منه،وذلك هو المغزى الحقيقي لكتاب " المويلحي" بأجمعه.

    يمرّ الباشا بثلاثة أطوار أساسية في حياته الجديدة:طور أول:يرفض فيه القيم المستحدثة بكاملها،ويقع ضحية هذا الرفض،وطور ثان:ينقطع فيه مع الراوي للتأمل فيه بأحوال العصر الذي بعث فيه،وأخيرا، طور ثالث:يندفع برغبة ظاهرة للاندراج بذلك العصر،بعد أن يستوعب الصدمة الأولى.تمرّ الأطوار المذكورة عبر حلقة متكاملة من التحوّلات،فبعد الموقف الأولي الذي يكشف التعارض التام بين منظومتي القيم،يبدأ الباشا شيئا فشيئا الامتثال للأمر الجديد،وهو ليس امتثالا كاملا إنما هو نوع من الصمت المعبّر عن عجز يختلف عمّا بيناه في الطور الأول الذي كان يحتج فيه على كل تصرف يصدر عن الآخرين،ويعبر الراوي عن الموقف الجديد،حينما يتجاهل المحامي وجودهما وينصرف في ادعاء ظاهر إلى بعض الطقوس الدينية التي يهدف منها الإيقاع بهما،فلا يحتجّ الباشا على ذلك،ويتقبّل الموقف بصمت" فقمنا للانصراف،وسرت مع صاحبي وأنا غريق في الأفكار،أتدبّر وأعتبر وأعجب مما رأيت من سكون الباشا وسكوته وحسن احتماله وصبره بعد أن كان شديد الحدّة،سريع الغضب،يرى القتل واجبا لأدنى هفوة وأقل سبب،فأصبح بفضل وقوعه في هذه الخطوب المتتالية،والرزايا المتتابعة لين العريكة،واسع الصدر،موطّأ الكنف،كثير الاحتمال حتى أنّه لم يأنف،ولم يتأفف من كل ما رأيناه في يومنا هذا،بل كانت حالته حالة الفيلسوف الحكيم الذي يجعل دأبه البحث،والتأمل في أخلاق الناس أثناء التعامل معهم،وازددت يقينا بأنه لاشيء أسرع في تهذيب النفوس وتربيتها على التخلّق بالأخلاق الفاضلة مثل ممارسة الخطوب،ومصارعة النوائب"(61).

    يكشف هذا الطور عن تحوّل عميق في موقف الباشا،وبخاصة حينما يدفع به الراوي باتجاه جملة من التجارب التي تعيد صوغ وعيه بالعصر الذي بُعث فيه،والراوي يعلّق على ذلك التحوّل، بعد أن يكتشف زيف الأثرياء وخداعهم وتعلّقهم بالمظاهر الاستعراضية حينما يزوران قصر حفيد الباشا،وقد حكم الدائنون بحجزه" وقضينا مدّة في مثل هذا الحديث،وأنا متهلّل مستبشر بما أراه ينمو ويثمر في نفس الباشا من التعلّق بالمباحث العقلية،والتعمّق في معرفة الأخلاق النفسانية حتى صار من دَيدَنه أن يستنبط من كل حادثة يشاهدها ما يرتقي به إلى عالم الفضيلة والحكمة،وازددت يقينا بأنَّ الرجل المرتفع القدر لا يزال غِرَّاً بالأمور غافلا عن حقائق الأشياء،فإذا وقع في أشراك الخطوب استنارت بصيرته،واستضاءت قريحته،وعـلم بطلان ما كـان فيـه بحقيـقة ما وصـل إليـه"(62).هذه المواقف،ثم العزلة،بعد أن يبلّ الباشا من مرضه،ويعودان من الإسكندرية،تمكّنه من إعادة تغيير شاملة بموقفه،فتجربة المرض التي تعقب بعثه المشوب بالغموض،وحالة عدم التوافق مع العالم،ثم الاعتكاف بعيدا في عزلة بصحبة الراوي،كل ذلك يتفاعل بصورة إيجابية في تغيير موقفه،فقد كانت العزلة انقطاعا عن الهموم التي أثارتها عملية بعث الباشا.كانت الأمور متوازنة،فجاء البعث ليخلّ بمعادلة التوازن،وجاء الاعتزال لاستيعاب كل ذلك،يقول الراوي:"اعتزلتُ بالباشا مدة من الدهر،نستملح العزلة،ونستعذب عليها الصبر،ونعيش فيها عيش الحكماء،من حسن الرضا بحسن الاكتفاء،ونستروح راحة البعد عن هذا العالم وأذاه،وإغماض الجفون على قذاه،مؤتنسين كل الائتناس بالوحشة من الناس،بعد الذي شهدنا من أعمالهم ورأينا،وسمعنا من أقوالهم ووَعينا،وقاسينا من عشرتهم ما قاسينا"(63) وتتمخض جملة التجارب والتأملات عن موقف مغاير تماما، يثير عجب الراوي.
    يرافق الراوي الباشا إلى كثير من" المحافل المشهودة " لرجال الدين وكبار القوم من الأمراء(=حُذف هذا الفصلان من الكتاب لحساسيتهما،بداية من الطبعة الرابعة،وتخلو منهما،ومن بعض المقاطع القصيرة المحذوفة،الطبعات الحديثة من الكتاب) ويلحظ التغيّر الذي اعتراه،فما أن يقترح الراوي عليه الانفراد والاعتزال ثانية،حتى يكون جوابه حاسما"ما بالك تقطع علي الطريق في البحث والتحقيق،ومالك تحرمني أن نقتصر على ما في الكتب والأوراق لمعرفة الآداب والأخلاق،فنترك النظر للخبر،واللمس لَّلبس،والممارسة للمقايسة..على أنّه قد زال عنّي في هذه المدة ما كان يعترضني من الغضب والحدّة،وانقلب العسر من أمري يسرا،وغدا التقطيب بحمد الله بشْرا،وصرت لا أقابل عيوب الخلق بغير الحلم والرفق،وتعلّمت أن أتحلَّم ولا أتألّم،وأتبصّر ولا أتحسّر،وأتدبّر ولا أتضجّر.فأنا اليوم أتفكّه بمخالطتهم،وأتروّح بمباسطتهم،فلم يبق لك من عذر وجيه،ترتضيه بعد ذلك وترتجيه"(64).

    وأخيرا ينفلت الباشا من عصمة الضوابط المو######## التي كانت تقيّده فيدفع الراوي نفسه لخوض غمار الحياة الجديدة،وكما يقول الراوي،فقد" تمكّن من الباشا حبّ الاستكشاف والاستطلاع لدرس الأخلاق وسبر الطباع،وتبدّلت الوحشة عنده بالائتناس في مخالطة الناس،فصار يلحّ عليّ ويلجّ في الطلب أن أذهب به في هذا السبيل كلّ مذهب،وأنا أداوره وأحاوله وأماطله وأطاوله،وهو لا ينفكّ يستنجزني ويستقضيني،وإذا استعفيته لا يعفيني"(65).

    مسار التحولات الواضح في شخصية الباشا ومنظوره وقيمه يكشف الظاهرة التي غابت عن النصوص الروائية التي سبقته،وكانت تمتثل لنظام صارم من الحدود والثبات،فيما يقدّم كتاب "المويلحي" رحلة تحوّل،لا تقف بالباشا عند حدود بلده،بل تنقله إلى الغرب،ولكن ضمن هدف يختلف عمّا ظهر في كتاب" علم الدين "لـ" علي مبارك".فقبل بداية الرحلة الثانية،يتبلور مغزى كبير،وهو أنَّ كثيرا من أوجه الخراب والفساد جاءت بسبب التقليد الأعمى والمحاكاة السلبية للغربيين،فالصديق المرافق للباشا والراوي،يقول،في فصل دال بعنوان" المدنية الغربية ":إنَّ سبب الفساد والخلل" هو دخول المدنيّة الغربية بغتة في البلاد الشرقية،وتقليد الشرقيين للغربيين في جميع أحوال معايشتهم كالعميان لا يستنيرون ببحث ولا يأخذون بقياس،ولا يتبصّرون بحسن نظر،ولا يلتفتون إلى ما هناك من تنافر الطباع،وتباين الأذواق،واختلاف الأقاليم والعادات،ولم ينتقوا منها الصحيح من الزائف،والحسن من القبيح بل أخذوها قضية مسلّمة،وظنّوا أنَّ فيها السعادة والهناء،وتوهّموا أن يكون لهم بها القوّة والغلبة،وتركوا لذلك جميع ما كان لديهم من الأصول القويمة،والعادات السليمة،والآداب الطاهرة…واكتفوا بهذا الطلاء الزائل من المدنية الغربية،واستسلموا لحكم الأجانب يرونه أمرا مقضيّا،وقضاء مرضيا،وخرّبنا بيوتنا بأيدينا،وصرنا في الشرق كأننا من أهل الغرب،وغن بيننا وبينهم في المعايش لبُعد المشرق من المغرب"(66).

    نجح " المويلحي" منذ البداية في تشكيل عالم تخيّلي يحتمل الإمكان،ومع أنَّ ظهور الباشا من قبره اعتبر عند معظم الدارسين فوق كل احتمال ،لكن المتلقّي سرعان ما يتقبل ذلك؛لأنّه يعرف بأنَّ ذلك متصل بهدف أكبر وهو وضع الأنظمة القيمية في تصادم،وبمرور الأحداث،واندماج الباشا في العالم الجديد،تغيب أهمية البعث،فلا يسأل أحد لماذا لم يعد الباشا إلى قبره في نهاية المطاف؟ وبخاصة أن إشارة" عيسى بن هشام" الافتتاحية بأن الحادثة ترد بصورة حلم.هذا العالم التخيّلي الذي يؤلف قوام النص،يتنازعه قطبان:عالم جديد واقعي بمستحدثاته في العلاقات والسلوك والأنظمة واللغة،وعالم قديم ذهني خاص بالباشا مملوء بالأوامر والنواهي والصرامة والتضحية والمثل الكبرى.والكتاب يقوم بتمثيل للكيفية التي تنتصر فيها قيم العالم الأول،على الرغم من سوء كثير منها،وتنهزم قيم العالم الثاني،وفي هذا فالباشا أكثر اتصالا بعصره من " دون كيخوته " الذي انبثق وعيه بالخطأ في اللحظات الأخيرة من حياته،فيما مضى الباشا يتفاعل بالتدريج،فلم يكن التغيير لديه مفاجئا.

    يُبعث الباشا في عالم مغاير لعالمه القديم،اختلاف في التقاليد،والوظائف،والأدوار،ومعالم المدينة،والعلاقات الاجتماعية،وأمام كل هذا يجد نفسه غريبا في بلده بصورة كاملة،لكن الراوي يقود الباشا في تجارب حياتية كثيرة يتخطّى فيها غربته ودهشته،ولنقف فقط على التباين بين نمطين من التعارضات في كل ذلك،ففي عصر الباشا،لا يسمح التجوال ليلا إلاَّ بكلمة مرور،ولا تُركب إلاَّ الجياد،وكان القوّاس هو المسؤول عن الأمن،وعلوم الأزهر هي السائدة،ويحصل صاحب الشأن على أوراق الالتزام عند انتهاء التعليم،وعند الخصومة فمرجع الأمر بيت القاضي،والجميع يخضعون للقانون الهمايوني،والفتاوى وأمور الناس الشرعية تجد لها حلا في كتب " ابن عابدين" وغيرها،والغرباء يسكنون الخانات،وبالمقابل،وفي العصر الذي بعث فيه الباشا أصبح التجوّل حرّا في أي وقت،وبالجياد المطهّمة استبدلت الحمير،والبوليس هو الذي يسهر على توفير الأمن،وحلّت علوم الإفرنج محل علوم الأزهر،والشهادة الدراسية محل أوراق الالتزام،والمحاكم الأهلية هي المرجع لفضّ المنازعات بين الناس،والقانون الإمبراطوري الفرنسي هو المعمول به،وبكتب الفقه استبدلت كتب "دللوز" و"جارو" و"بودري" و" فوستين هيلي " وبالخانات استبدلت " الأوتيلات".وهذا مثل على حالة التغيّر التي يلاحظها الباشا،إلى ذلك فهو،في كثير من الأحيان،يجد نفسه لا يفهم دلالة الألفاظ المستحدثة التي لم تكن شائعة في عصره، وأمثلتها كثيرة تتناثر في معظم صفحات الكتاب، ودلالتها غامضة بالنسبة له،مثل:الكرافات،مونشير،الأوتوموبيل،البرنس،الكارت،نوته،الأوتيل ، اللوكانده،الميكرسكوب،الفونغراف،بوفيه،الكلوب،البوسته،اكسبريس،المانفيستو،البليار،البورصة، البنك...الخ،وكل هذا المفردات دالة على نمط حياتي مختلف عمّا كان عليه الباشا في حياته،ولهذا بدل أن يغلق أذنيه دونها،كان يزداد رغبة في التعرّف إليها.وتترافق تحوّلات الوعي في الكتاب بتحوّلات السرد الذي يتحرّر مع مرور الوقت من الطابع المحاكاتي الأولى للمقامة،فينفتح السرد على مشاهد كبيرة مفعمة بالحيوية،وبخاصة حالات الإخفاق التي يتعرّض لها الباشا في مركز الشرطة،والنيابة،والمحاكم،وهو يدخل متاهة الحياة الحديثة،ثم المتابعة الشائقة لشخصيات مثل العمدة والخليع والتاجر،ومع أنَّ السمة الوعظية لا تغيب عن الكتاب لكن عرض التناقضات بذاتها،والحوارات المعمّقة حولها،وتأثيرها في مصائر الشخصيات،كل ذلك يضفي سمة خاصة على الكتاب.

    استأثر"حديث عيسى بن هشام " باهتمام عدد كبير من الباحثين،وكثير منهم شغلوا بالقضية التي ظلت مهيمنة منذ البداية إلى الآن،وهي جنس الكتاب ولم يلتفت بدرجة كافية إلى أمر التحولات القيمية والدلالية والسردية في الكتاب،فقد ذهب " هاملتون جيب" إلى أنَّ شهرة "حديث عيسى بن هشام" لا تعزى إلى حكايته أو مغزاه إنما إلى" أسلوبه البارع واقتداره على الوصف" وأضاف أنَّ المويلحي"جمع فيه بين أحسن ما في أسلوب المقامة من خواص وبين أسلوب حديث يتسم بالسلاسة والفكاهة" وأضاف" لقد واتر ببراعة بين النثر المسجوع في الأقسام السردية. .ومقاطع حوارية صيغت بأسلوب سهل حديث،لم يتنكّر في بعض أجزائه للغة الـدارجة"(67).وفسّر "العقاد" تقّيد " المويلحي" السجع،إلى أنّه وضع الكتاب" نسق المقامات،واختار له اسم راويته كأسماء رواتها،فالتزم فيه ما كانوا يلتزمونه في مقاماتهم من الأسجاع والأوضاع"(6.فيما ذهب "علي الراعي" إلى أنَّ " الباحث المدقّق يرى في هذا الكتاب صراعا ملحوظا بين فنّ المقامة وفنّ الرواية؛فالمقامة تغلب على الكتاب في أوائل الفصول ثم لا يلبث ما في الفصل من قصة أن يتغلّب على المقامة، فيصبح الدفع باتجاه الرواية أوضح"(69).

    أما "شوقي ضيف" فيرى بأنه" وسّع جنبات المقامة القديمة…وخرج بها إلى حوار واسع،تأثر فيها بطريقة الغربيين في قصصهم،فالحوادث تتطوّر والشخصيات تُصوّر بنزعاتها النفسية في المواقف المختلفة"(70) وقال "راميتش"بأن " الناظر في حديث عيسى بن هشام يلاحظ أن المويلحي لا يلجأ إلى تنميق الأسلوب والعناية به إلاَّ إذا كان الحديث على لسنا عيسى بن هشام أو الباشا.أما غيرهما من أشخاص الكتاب فيجري الحديث على ألسنتهم سهلا لا أثر فيه للتنميق والتجميل"(71).كان تأثيره كتاب المويلحي واضحا في الأدب العربي فيما بعد،كما ظهر ذلك في كتاب " ليالي سطيح" لـ" حافظ إبراهيم"،وقد نشره في القاهرة إبان تلك الفترة،وهدف فيه على غرار " المويلحي" إلى النقد،وكتاب " محمد لطفي جمعة " " ليالي الروح الحائر" الذي صدر بالقاهرة 1912 واستفاد فيه من قالب المقامة،وهدف إلى النقد أيضا،وبذلك يمكن القول بأن كتاب " المويلحي" أسهم في بذر الحراك الناقد للتحرر من قيد التصوّر التقليدي المغلق لبناء الشخصيات والأحداث الذي كان شائعا من قبل.

    8.خاتمة



    تكشف المدوّنة السردية العربية في القرن التاسع عشر عن الإرهاصات الأولى لتشكّل النوع الروائي،ومع منتصف القرن كشف النوع عن نفسه عبر ولادة عسيرة كانت ثمرة مخاض أفول المرويات السردية،وراحت الهوية السردية للنوع الروائي تظهر بالتدريج مع كل مرحلة جديدة، ونص جديد،ويرتبط ظهور النوع الجديد باللحظة الرمزية التي انفصلت بها العوالم التخيلية وأساليب السرد عمّا كان شائعا في الموروث السردي من قبل،واتخذت منحى مختلفا،ومع أن التقارب بينهما مازال ملحوظا،لكن الاختلاف النوعي بدأ يعلن عن نفسه،مع رواية " وي.إذن لست بإفرنجي" ثم كشف عن نفسه بصورة أكثر وضوحا في رواية " غابة الحق" وراح يتبلور بصورة ملفتة للنظر مع" البستاني" و" زيدان" وبلغ درجة كبيرة من الوضوح في " حديث عيسى بن هشام".

    يهمنا كثيرا أن نؤكد على أن التمايز بين العوالم التخيلية،والأساليب السردية التي قامت بتشكيلها،يتضمن اختلافا بين ما كان عليه في المرويات السردية،وما أصبح عليه في النصوص الروائية،على أن ذلك لا يوهمنا بقطيعة بينهما؛فالسمات المشتركة كانت كالنسغ الصاعد تجري في أوصال المرويات والنصوص.وراحت قضية إمكانية وقوع الأحداث،واحتمالية الأفعال تتدرج بصورة مواكبة لكل ذلك،ولم تعد المغامرة المجرّدة الخالية من المنطق السردي الذي يدفع بها وينظّمها مقبولا،ولكن ما زلنا بعيدين عن السرد الذي يكسو الوقائع والأحداث بغطاء سميع يبعدها عن روح الحركة السريعة والمفاجئة،وينقلها إلى تريب سردي محكوم بمنطق التحول الداخلي الذي تفرضه رؤى الشخصيات وأفكارها،ولم يتحقّق ذلك في نهاية المطاف إلا في" حديث عيسى بن هشام " على أن اللغة الروائية أعلنت عن نفسها،وتخفّفت النصوص من روح التجريد والتكرار،وصارت المرجعيات الأصلية للرواية،وهي المرويات السردية تتوارى مع الزمن،فذاب التناقض الثنائي الثابت في المرويات،وبه استبدل التحول الذي تتكافأ فيه مكونات البنية السردية والدلالية للنصوص،كما تجلّى على يد " المويلحي" فالمدونة السردية العربية الحديثة هي ثمرة التشّقق المؤلم للعوالم التقليدية التي أعلن عن انهيارها النسقي التدريجي في القرن التاسع عشر.

    v v v



    المصادر والمراجع



    1.مارون عبود،المؤلفات الكاملة،بيروت،دار مارون عبود،مج2 ص113.

    2.تنظر أعداد جريدة حديقة الأخبار في مكتبة الجامعة الأمريكية بيروت مصورة على ميكرو فيلم،وقد تم الاطلاع
    عليها ومراجعتها مباشرة.

    3.خليل الخوري،وي.إذن لست بإفرنجي،حديقة الأخبار،العدد 102الخميس الموافق 15كانون الأول / ديسمبر
    1859.

    4.أنظر كتاب"خليل الخوري:فقيد الشعر والصحافة والسياسة"جمع إدارة حديقة الأخبار،بيروت، مطبعة
    حديقة الأخبار،1910ص 29.

    5.لويس شيخو،الآداب العربية في القرن التاسع عشر،بيروت،مطبعة الآباء اليسوعيين،1926ج2 ص 45 وانظر
    سامي الكيالي،الأدب العربي المعاصر في سوريا:1850-1950،القاهرة،دار المعارف،1959 ص42-43.

    6.الفيكونت فيليب دي طرّازي،تاريخ الصحافة العربية،بيروت،المطبعة الأدبية،1913،ج1ص 104.

    7.أحمد حسن الزيّات،تاريخ الأدب العربي، بيروت،دار الثقافة،1978 ،ص 511 .

    8.فرنسيس فتح الله مراش،غابة الحق،بيروت،دار الحمراء،1990،ينظر مقدمة مارون عبود ص10

    9.م.ب.باختين،قضايا الفن الإبداعي عند دوستويفسكي،ترجمة جميل نصيف،بغداد،دار الشؤون الثقافية،1986،ص11

    10.مارون عبود،مقدمة غابة الحق، ص10

    11. م.ن.ص 11

    12.أورده سامي الكيالي،الأدب العربي المعاصر في سوريا،ص 45

    13.الآداب العربية في القرن التاسع عشر،ج2ص46

    14.رشيد يوسف عطالله،تاريخ الآداب العربية،تحقيق علي نجيب عطوي، بيروت،مؤسسة عز الدين،1985
    ،ج2 ص 326

    15.حيدر حاج إسماعيل،فرنسيس المرّاش،لندن،دار رياض الريس،1989،ص16-17

    16.نازك سابايارد،الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة،بيروت،مؤسسة نوفل،1979
    ،ص 128-129

    17. فرنسيس المرّاش. ص10

    18.روجر ألن،نشأة الرواية.أنظر تاريخ كيمبردج للأدب العربي،جده، النادي الأدبي الثقافي، 2002 ،ص267

    19.سليم البستاني،الهيام في جنان الشام،الجنان،مجلد عام 1870

    20.سليم البستاني،افتتاحيات مجلة الجنان البيروتية 1870-1884 إعداد وتحقيق يوسف قزما الخوري،
    بيروت،دار الحمراء،1990،ج1ص35

    21.سليم البستاني،الهيام في جنان الشام،مجلد عام 1870 ص 703

    22.سليم البستاني،أسماء، مجلة الجنان،مجلد عام 1873

    23.سليم البستاني،بدور،مجلة الجنان،مجلد 1872

    24.البستاني، أسماء،الجنان،ج 4لسنة 1873 ص32

    25.البستاني،مجلة الجنان،ج 6لسنة 1875ص442

    26. نشأة الرواية، ص267

    27.البستاني،الهيام في فتوح الشام،الجنان،ج 5لسنة 1874ص101

    28.ميشال حجا،سليم البستاني،دار رياض الريس للكتب والنشر،1989،ص46

    29.فيليب دي طرازي،تاريخ الصحافة العربية،بيروت،المطبعة العربية،1913،ج 2ص 69

    30.محمد يوسف نجم،القصة في الأدب العربي الحديث،بيروت،دار الثقافة،ص 76

    31.يوسف حسن نوفل،بيئات الأدب العربي،الرياض،دار المريخ،1984،ص 232

    32.فولفجانج إيسّر،فعل القراءة،ترجمة عبد الوهاب علوب،القاهرة،المجلس الأعلى للثقافة،2000ص9

    33.على مبارك،الأعمال الكاملة،تحقيق محمد عمارة،بيروت،المؤسسة العربية ،1979،ج1 ص320-321

    34.لويس شيخو،تاريخ الآداب العربية 1800-1925،بيروت،دار المشرق،1991ج3 ص223

    35.تاريخ الآداب العربية،ج2 ص394

    36.عبد المحسن طه بدر،تطور الرواية العربية في مصر،القاهرة،دار المعارف 1968،ص66

    37. نشأة الرواية،ص270

    38.عبد الفتاح عبادة،جرجي زيدان ،ص 133 أورده محمد يوسف نجم،القصة في الأدب العربي الحديث،ص
    179–180

    39.جورجي زيدان،عذراء قريش في عالم الغيب،الهلال،فبراير 1899 ص 277

    40.جورجي زيدان،تاريخ آداب اللغة العربية،القاهرة، 1914، ج4 ص 230

    41.جورجي زيدان،الحجاج بن يوسف الثقفي،القاهرة،دار الهلال،1950،انظر المقدمة

    42.جورج لوكاش،الرواية التاريخية،ترجمة صالح جواد الكاظم،بغداد،دار الشؤون الثقافية،1986،ص11

    43.فرح أنطون،فتح العرب لبيت المقدس،القاهرة، 1919،ص 152

    44.جورجي زيدان،الهلال،مايو 1899 ص 429 ورد النص كاملا في ملحق كتاب"الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث" قاسم عبدة قاسم واحمد إبراهيم الهواري،القاهرة،دار المعارف،1979،ص158-159

    45.م.ن.ص 158

    46.نقلا عن الهواري،نقد الرواية في الأدب العربي الحديث في مصر،دار المعارف 1983ص 65

    47.شوقي ضيف،الأدب العربي المعاصر في مصر،القاهرة،دار المعارف، 198 ص211

    48.سهيل إدريس،محاضرات عن القصة في لبنان،معهد الدراسات العربية العالية،1957 ص18

    49.رشيد يوسف عطالله تاريخ الآداب العربية،ج2 ص394

    50.مارون عبود،المؤلفات الكاملة ج 1ص 453

    51.أبو القاسم بن علي الحريري،مقامات الحريري،بيروت،دار صادر، 1965 ص11

    52.ابن الصيقل الجزري،المقامات الزينية،تحقيق عباس مصطفى الصالحي،بيروت،دار المسيرة،1980ص76

    53.ناصيف اليازجي،مجمع البحرين،بيروت،دار صادر،1966،ص10

    54.عبدالله إبراهيم،السردية العربية،بيروت،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،2000ص 208-213

    55.محمد المويلحي،حديث عيسى بن هشام،القاهرة،مكتبة الثقافة الدينية،ص6

    56.علي الراعي،دراسات في الرواية المصرية،القاهرة،الهيئة المصرية للكتاب،1979،ص10

    57.حديث عيسى بن هشام ،ص23

    58.م.ن.ص23.

    59.م.ن.ص24

    60.م.ن.ص53

    61.م.ن.ص106-107

    62.م.ن.ص135

    63.م.ن.ص169

    64.م.ن.ص 210

    65.م.ن.ص242

    66.م.ن.ص 372-373

    67. هاملتون جيب،دراسات في الأدب العربي،ص86و87

    68.عباس محمود العقّاد،مراجعات في الآداب والفنون،بيروت،دار الكتاب العربي،1966 ص 158

    69.دراسات في الرواية المصرية،القاهرة،1979 ص19

    70.شوقي ضيف،الأدب العربي المعاصر في مصر،القاهرة،دار المعارف، 1988ص 241

    71.يوسف راميتش،أسرة المويلحي وأثرها في الأدب العربي الحديث،القاهرة،دار المعارف،1980 ص391.





                  

05-14-2005, 07:29 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    uppppup
                  

05-15-2005, 07:12 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    upa
                  

05-19-2005, 03:35 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    up
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de