|
قلوب من ذهب....الاهداء الى نزار غانم
|
قلوب من ذهب
كان يسير متعثراً على الساحل تحت وطأة الأحزان التي ينوء بها كاهله يحمل كاميرا كانون، آخر ما تبقى معه من هدايا الأمير الطيب.. لقد كانت تجربة قاسية أجهضت كل السعادة التي كان ينعم بها في كنف الأمير مع زوجته زاهية وأبناءه الثلاثة.. أجتر ذكرياته المرة منذ ثلاثة أعوام عندما بدأت أزمة الخليج تطل بوجهها القبيح.. كان صالح يعمل في مزرعة الأمير منذ طفولته البعيدة. تعلق به الأمير وجعله كإبنه، رنت كلمات الأمير الحزين لفراق صالح في إذنه " يا صلح أنت كابني تماماً، لقد أصبحت جزء من عائلتي، أبقى معي، سأكفلك أنت وأسرتك، كما أن زوجتك تنتظر مولوداً جديداً في أي لحظة.. لا مكنك الرحيل الآن".
آنذاك تمسك صالح بالسفر.. كان يشعر أن هناك ألف حبل يشده جنوباً وليته تأخر قليلاً.. أدرك زوجته المخاض في مدينة حرض*، وماتت في المستشفى بتعسر الولادة ثم قذفت مولودها الميت إلى العالم.. اكتست كل الدنيا باللون الرمادي أمام عيني صالح اللتين غمرهما الدمع الغزير.. "زاهية!! زوجته الوفية التي سافر مخصوصاً إلى قريته قبل عشر أعوام وتزوجها وعاد بها" ، كل الأحزان تجمعت وتكثفت في نفسه، فهو لم ينلها بالساهل في غمرة المشاكل التي تكتنف قريته وجعلته يتركها صغيراً.. دفنها في مقابر المدينة وانحدر مع أبناءه إلى الحديدة.. عند الساحل بني كوخه الصغير من الأحجار وقطع الكرتون، ظلت هذه الذكريات المريرة تطوف بخاطر صالح وهو يسير بحذاء الساحل حيث كانت الأمواج تصطخب خيل له أنه لمح جناح طائر يصارع الأمواج مشارفاً على الغرق.. أيقظ ذلك الصراع المرير من أجل الحياة النزعة الإنسانية في قلبه الذهبي ونفسه الطيبه، ترك الكاميرا جانباً واندفع يصارع الأمواج وأمسك بالطائر المبتل وعاد يحمله في حنو بالغ إلى الساحل.. كانت أنثى صقر جميلة وزاهية الألوان تعاني من جروح طفيفة في إحدى جناحيها، نظر صالح إلى الطائر البديع وومضت في ذهنه فكرة "لماذا لا يوظف هذا الطائر الجميل والكاميرا في التصوير بدلاً من أن يبيع الكاميرا في سوق الحراج بثمن بخس".؟!
صالح يحب فن التصوير كعادة أصحاب القلوب الذهبية المسكونة بالحب والجمال.. عاد إلى الكوخ يحمل الطائر الجريح، فرح الأطفال فرحاً شديداً بوجود الطائر بينهم.. خرج صالح إلى مكتب الإسكان فقد منحه المحافظ أرضية في حارة المغتربين واليوم سيستلم أوراق الملكية من المكتب.
* * * * *
عند الغروب جاء صالح إلى الكوخ منهكاً وجلس بين أولاده يحمل المستندات، يبدو أن السعادة تعهدتهم أخيراً، فقط ينقصه المبلغ اللازم للبناء والتسوير.. استلقى في إعياء وأغمض عينيه واستسلم للنوم العميق تاركاً أولاده يأكلون وجبة العشاء الذي أحضره لهم ويطعمون أنثى الصقر.. عندما بزغ القمر ليلاً، استحال البحر الساكن إلى مرأة من لجين، عكست الأنوار الساحرة وألقت بظلالها داخل الكوخ السعيد، طارت أنثى الصقر حول الأطفال النائمين وايقظتهم واحداً تلو الآخر بنقرات خفيفة من منقارها، استيقظ الأطفال في دهشة، نظرت إليهم في حنان وأخذت تحكي لهم، صعق الأطفال من الدهشة.. كانت نفس حكايات أمهم زاهية التي تحكيها في الماضي، قصص سيف بن ذي يزن، النبي سليمان وبلقيس ملكة سبأ.
رددت في نفسها " المساكين !! لا يعرفون بأني أمهم زاهية" .
- أنا أمكم زاهية، لقد عدت لأجلكم.
صاح الأولاد مبهورين.
- أمنا زاهية !!
- اطلقوا سراحي الآن .. سأسافر إلى الأمير.
قام الولد الأكبر بإطلاق القيد من رجلها، طارت وحطت عند رأس زوجها النائم، ومسحت بمنقارها ذقنه النابت في حنو بالغ ثم خرجت من الباب وطارت في الفضاء الرحيب، دارت دورتين حول الساحل وعلى ضوء القمر الساحر شاهدها الأطفال تنساب شمالاً وعادوا ليناموا سعداء.
* * * * *
استيقظ صالح مبكراً، تلفت حوله إلى حيث كان الطائر لم يجده عند طرف الخيط، أوقظ أولاده بغلظه وقد اكتسى وجهه بالغضب كان ينوي الذهاب إلى الكورنيش ليبدأ التصوير وجمع المال اللازم للبناء والتسوير، نهض الأطفال ينظرون إلى أبيهم الغاضب في ذعر ممزوج بالذنب، زعق فيهم.
- أين ذهب الطائر ؟
- لقد أطلقناها يا أبي.
- لماذا أطلقتوها يا ملاعين ؟!!
- لأنها قالت ستعود.
- من التي ستعود ؟!
زاهية يا أبي.
- ز..اهـ..ية !! أمكم.
خنقته العبارات وانفجر باكياً، فحلق الأطفال ينظرون إليه في آسى.
- نعم يا أبي .. إنها قالت ستعود.
- أمكم ماتت يا أولادي .. الله يرحمها.
- لم تمت يا أبي .. لقد حكت لنا كل القصص الجميلة التي نحبها.
انهار صالح وأخذ يبكي بحرقة وقد تشنج جسده، ألتصق الأطفال بأبيهم وقد أكتست عيونهم البريئة بالذهول.
- لماذا تبكي يا أبي ؟!
- لا أدري !! .
- لا تبكي يا أبي .. ستعود ؟!
- من التي ستعود ؟!
- زاهية يا أبي.
تنهد صالح بحرقة وضم أولاده بشدة إلى قلبه المصنوع من الذهب، ذلك المعدن النفيس الذي لا يصدأ أبداً، ثم سكنت أنفاسه أخيراً.
هوامش: - حرض: مدينة على الحدود بين اليمن والسعودية.
|
|
|
|
|
|
|
|
|