|
Re: التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها (Re: Yaho_Zato)
|
التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها
إن الدعوة للتسامح الديني التي تعتمد على التفهم لأصل الأديان وجوهرها، هي عنصر مهم جدا في تركيبة السلام البشري الذي تسعى اليوم الجهات المستنيرة من الشعوب والمنظمات لإرساء دعاماته.. ونحن اليوم في حاجة حقيقية لأن نقيم أنفسنا بأنفسنا، أفرادا وجماعات، وننظر فيم إذا كنا حقا ندرك الغاية التي يريدها لنا ديننا، أيا كان، وإذا كنا حقا نسعى لها بالوسائل الصحاح.. فيجب علينا أن ندرك أن الدين وسيلة وليس غاية، وأن الغاية هي السعادة، سعادة كل فرد منا.. وهذه السعادة لا تتأتى إلا بهزيمة الخوف، خوف الإنسان من أخيه الإنسان، وخوف الإنسان من البيئة التي يعيش فيها، واستبدال هذا الخوف بالحب، إذ لا يهزم الخوف إلا الحب.. ولابد لنا أن نوظف وسيلة الدين لخدمة هذه الغاية، بالتسامي على الضيق العقائدي بالآخر، ومحاولة رؤية الوفاق الجوهري الذي يتفوق على مرحلة العقيدة..
وهناك أمر لا بد من التنبه له، وهو أن التسامح الديني يشمل كل الأديان، ويجب أن يكون كذلك وإلا لفقد قيمته، فعندما يتسامح المسلم مثلا مع اليهودي والمسيحي بحكم أنهما كتابيان مثله، هذا لا يغنيه عن أن يكون على نفس القدر من التسامح مع أصحاب ديانات أخرى قد يعتقد هو أنها وثنية مثلا (كحال نظرة الكثير من المسلمين للهندوس والبوذيين، وكحال نظرة الكتابيين الأفارقة إلى أهلهم من أصحاب المعتقدات المحلية) أو أنها باطلة بحكم عقيدته لأنها ظهرت بعدها (مثل نظرة الكتابيين إلى البهائية والسيخية).. فالتسامح الديني إن لم يكن شاملا فهو لن يعدو كونه تحزب مجموعة من الأديان في نظرتها للأديان الأخرى، ومثل هذا التحزب لا يحل المشكلة بأي حال من الأحوال ولا يحقق التعايش السلمي الذي نرجوه ونحتاجه على هذه الأرض.. ومن باب اولى، فإن التسامح بين أهل الدين الواحد هو أمر لا محيص عنه..
ولعل تاريخ الأديان يظهر لنا نوعا من سياسات العنف والإقصاء والضيق بالآخر حتى بين أصحاب الدين الواحد، بل من الممكن أن نقول أن تاريخ علاقة بعض الطوائف الدينية التي تتفرع من دين واحد مع بعضها البعض لا تختلف كثيرا عن علاقتها مع أهل الأديان الأخرى من ناحية العداء والحذر المتواصل.. مثل هذه الحقائق التاريخية طرحت سؤالا قديما، ما زال قائما حتى اليوم، وهو "هل العنف وإقصاء الآخر هما أمران من طبيعة الفكر الديني بشكل عام؟".. وهو سؤال على أهل الأديان النظر فيه، وتحليل عوامله، للخروج منه بالدروس والعبر المفيدة للمستقبل.. في تاريخ البشرية، كان العنف أداة فعالة في التغيير، سواءا كان سياسيا، أو اقتصاديا، أو دينيا، كما كان استعماله ضرورة بقاء في كثير من الأحيان، وقد استخدمته الأديان في تاريخها بلا شك.. واليوم، ونحن ننظر لتاريخنا، لا بد أولا أن لا نحاكم ماضينا بقيم العصر الحاضر، فتلك ستكون محاكمة غير منصفة، لأن قيم العصر الحاضر لم تكن ماثلة ولم تكن حتى قادرة على المثول في العصور الماضية، لأنها عبارة عن تراكم تجارب البشرية عبر السنين، فتلك القيم لم تولد بين يوم وليلة على هذه الأرض، وإنما نبتت ونمت عبر القرون.. لقد كان العنف فارضا نفسه كضرورة بقاء، كما ذكرنا، فإذا أردنا أن ننسب تاريخ العنف إلى الأديان وحدها في ماضينا، فميزاننا سيكون مختلا بلا شك، والأديان لم تكن لتغير سمات المجتمعات بين يوم وليلة، كما ان ممارسة الشعوب لأديانها، كما ذكرنا، في كثير من الأحيان لا تكون حجة على تلك الأديان، لأن ممارسة الشعوب، ببساطة، لا تتحلى دوما بوصايا أديانها.. ولكن من الجانب الآخر، فإن شرائع الكثير من الأديان تحمل بين طياتها نصوصا أو تعاليما تبيح استخدام العنف، في ظروف معينة.. المطلوب من أهل الأديان اليوم أن يعيدوا دراسة تلك التشاريع، ويعيدوا النظر في الظروف الزمانية والمكانية التي حكمت بوجودها، ليعيدوا قراءة تلك التشاريع بعيون حاضرهم، لا عيون ماضيهم.. وهذا ليس مطلب فيه اعتداء على قدسية التشاريع أو طلب من الأديان للتنازل عن رؤياتها، لا، وإنما هو طلب لاستنباط التشاريع وفهم النصوص بصورة تناسب العصر، وتصاقب الغاية الأساسية التي من أجلها قامت الأديان، فالأديان لم تقم لتحبس الفكر الإنساني في حقبة زمانية معينة، هي حقبة ظهور تلك الأديان، وإنما قامت لتمده بالآلية التي بها يستطيع أن يسير على هدى في طريق تطوره نحو الأفضل والأسمى.. هذا ما فعله الأستاذ محمود في قضية التشريع الإسلامي، إذ أنه أبان الجانب المشرق من ذلك التشريع الذي يصاقب حاجة العصر وقامته.. إن حل مشاكل مجتمعات اليوم بنفس تشاريع مجتمعات الأمس هو أمر لا يقبله العقل في أدنى تصوراته، فما بالك بالأديان؟ وهي الساعية للسمو بالعقل إلى القمم الشواهق!.. إن إحالة قصورنا في حل مشاكلنا المعاصرة إلى تشاريعنا الدينية هو آخر ما يرجوه منا الفكر الديني السليم.. المطلب بتطوير تشاريع الأديان هو مطلب للإرتقاء بتلك التشاريع إلى مستوى جوهر تلك الأديان.. المطلب بتطوير تشاريع الأديان هو مطلب تلك الأديان نفسها.. أهل الأديان، أيا كانت، مدعوون للنظر في هذه النقطة، ضمن إطار النظر في قضية تنزيل واقع جديد من التسامح الديني على هذه الأرض..
دائما ما تلاقي الأديان الجديدة الرفض والمكيدة من جانب أهل الأديان السابقة لها.. ودائما ما تبني هذه الأديان الجديدة، رغم ذلك، رصيدها من الأتباع على حساب تلك الأديان القديمة.. والأمثلة على هذا الأمر أكثر من أن تذكر كلها، وعلى سبيل المثال نذكر العلاقة التاريخية بين اليهودية والمسيحية في القرون الأولى لظهور الرسالة المسيحية، ونذكر أيضا علاقة مشركي بلاد العرب بالإسلام عند بدايات ظهوره، وكذلك علاقة الديانتين اليهودية والمسيحية بالإسلام، وعلاقة الهندوسية بالبوذية.. ولا يفوتنا أن نذكر هنا مثالين مهمين جدا، والمثال الأول يخص علاقة المسلمين بأهل الديانة البهائية، فقد لقي البهائيون، والذين خرجوا من بيئة مسلمة، صنوفا غريبة من العنف والإقصاء على يد المسلمين، وهذا العنف وهذا الإقصاء لم يفلحا رغم ذلك في رد البهائيين عن دينهم الذي اعتنقوه برضاهم وتركوا من أجله عقيدة الإسلام("العالم البهائي").. والمثال الثاني عن علاقة المسلمين والهندوس، على حد سواء، بأهل الديانة السيخية، فقد قامت الديانة السيخية على أنقاض عدم الرضا عن الهندوسية والإسلام في منطقة الهند والسند، ورغم أن الديانة الجديدة قد استمدت أصولها بشكل واضح من الديانتين إلا أن ذلك لم يكن شفيعا لها عند أي من الديانتين، فلاقى أصحابها من الجانبين ما لقيوا أيضا من الرفض والمكيدة(“Sikhism..”)..
إن ظهور وانتشار الأديان الجديدة يأتي في الغالب من شعور الناس بعدم الرضا عن الأوضاع الفردية والمجتمعية القديمة، والذي يتولد منه عدم الرضا عن الأديان القديمة، كلازمة من لوازم القديم، وعنصر من عناصره، وهذا الشعور بعدم الرضا يأتي من عدم رؤية النتائج المتوقعة جراء اتباع تلك الأديان القديمة، فصاحب الديانة يعتنقها ويتوقع أن تصلح له أمور نفسه وأمور معاشه في مجتمعه، فإذا بقيت نفسه مضطربة وخائفة كما هي، وبقي المجتمع فاسدا وظالما كما هو، فإن الشعور بعدم الرضا عن الدين المعتنق يظهر تلقائيا، ولعل مشكلة البشر أنهم دوما ينسبون الفشل إلى سبب خارجي قبل أن ينسبوه إلى أنفسهم، فعندما يرى المسلم، مثلا، أن اعتناقه للإسلام لم يصلح له أمره فهو قليلا ما يفكر بأن الخطأ ربما يكون كامنا في سوء تحليه بوصايا دينه، وفهمه له، وهذا ينطبق على بقية الأديان أيضا..
يروى عن مؤسس الديانة السيخية، شري قورو ناناك (1469-1538)، أنه كان يقول (ليس هناك هندوسي.. ليس هناك مسلم)، بمعنى أن أهل هذه الأديان لا يطبقون حقيقة وصايا أديانهم حتى ينسبوا لها(“Sikhism..”)، ولبهاء الله، مؤسس الديانة البهائية، رأي مشابه لهذا الرأي بخصوص أهل الأديان أيضا، ففي دعوته يرى أن حال الناس سيكون أفضل كثيرا لو اتبعوا وصايا أديانهم، على تنوعها، بصدق("العالم البهائي").. والأستاذ محمود قد تحدث كثيرا أيضا عن أن المسلمين اليوم "ليسوا على شيء" بسبب تعلقهم بقشور دينهم وتركهم لجوهره، أي بسبب تعلقهم بالطقوس دون الإهتمام بانعكاسات تلك الطقوس على أخلاقهم وسلوكهم، كما كان قد تحدث أيضا في بعض كتاباته عن أن أهل الأديان الأخرى بحاجة إلى الإلتفات إلى تقصيرهم في التحلي بوصايا أديانهم.. هذه النقطة تحتاج إلى الكثير من التأمل في اعتقادنا..
كلمة أخيرة
إن الدعوة للتسامح الديني اليوم هي دعوة تستدعيها الضرورة، فنحن اليوم نرى أن وسائل الدمار أصبحت أكثر شراسة وضراوة، فقد تطورت أسلحة الدمار الشامل حتى وصلت إلى مستويات القنابل التي تستطيع مسح الحياة تماما في مناطق شاسعة بإشارة يد.. وقد وضعتنا تطورات واقع الأحداث هذه أمام خيارين لا ثالث لهما لمستقبلنا، إما السلام الشامل، وإما الحرب السعور التي لن تتوقف نارها إلا بهلاك الحياة على هذا الكوكب.. فالحياة إذا على هذا الكوكب أصبحت مستحيلة بدون السلام، والسلام مستحيل بدون تسامح متبادل تجاه معتقدات وثقافات بعضنا البعض..
ورغم ذلك أيضا فإن الدعوة للتسامح الديني هي أيضا دعوة تبشر الأحداث بقرب انتصارها، لأن البشرية الآن ترى بشكل أوضح كل يوم أهمية هذه الدعوة وضرورة الإنضواء تحت لوائها لما تقدم من الأسباب..
إذا عملنا جميعا، كل من موقعه، على التحلي بوصايا أصول أدياننا، في سلوكنا الخاص والعام، وإذا عملنا جميعا، كل من موقعه، على إبانة الجانب المشرق والمبشر من تشاريعنا الدينية، والذي يتفق مع العرف الإنساني المعاصر وينفتح على روح التسامح والتعايش السلمي بين أهل الدين الواحد، وبينهم وبين أهل الأديان الأخرى.. إذا استطعنا أن نخطو خطوات جادة في هذا الإتجاه، فإن السلام لا بد آت، وحينها ستذهب الأحقاد من النفوس، وتنجلي الحروب والمجاعات، وتتضافر جهود البشرية في السعي وراء خيرها ورخاءها جمعاء.. وحينها تشرق الأرض بنور ربها، ويتحقق موعود جميع الأديان بالخير والرخاء لشعوب الأرض..
ولقد عاش الأستاذ محمود محمد طه تفاصيل حياته، بحركاتها وسكناتها، داعيا لتلك القيمة، التي توجد عند قمة التسامح الديني، والتي توجد عند نقطة التقاء الأديان جميعها، وتلك هي النقطة التي يدخل منها الإنسان عهد إنسانيته.. فحق على البشرية أن تذكر، في كل مرة تذكر فيها هذا الأمر، سيرته الناصعة، وكدحه الجليل في هذا المضمار.. إن أمثال الأستاذ محمود في تاريخ البشرية هم من سيكونون محل احتفالها في المستقبل.. ففي كل مرة ستنظر فيها الإنسانية لتاريخها ذاكرة ما لاقته في طريقها الطويل نحو الحرية، ستكون ذكرى أمثال الأستاذ محمود، من الذين مهدوا لها الطريق، وأضاؤوه، دوما حاضرة.. وستكون نتيجة كدحهم ماثلة، عيانا بيانا أمام الناس، حتى ولكأنهم هم بذواتهم حاضرين في كل لحظة، وكل زمن..
قصي همرور يناير 2005
*ملحوظة: الترجمات التي قمنا بها في هذه الورقة هي ترجمات شخص غير ضليع في الترجمة، لذا نرجو المعذرة، وننصح بعدم تبني المصطلحات أو العناوين المترجمة هنا من دون مراجعة مصادر متخصصة..
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها | Yaho_Zato | 01-18-05, 07:51 PM |
Re: التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها | Yaho_Zato | 01-18-05, 07:54 PM |
Re: التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها | Yaho_Zato | 01-18-05, 07:56 PM |
Re: التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها | Yaho_Zato | 01-18-05, 07:58 PM |
Re: التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها | Yaho_Zato | 01-18-05, 08:01 PM |
Re: التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها | Yaho_Zato | 01-18-05, 08:02 PM |
Re: التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها | Omer Abdalla | 01-18-05, 10:55 PM |
Re: التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها | عبدالله عثمان | 01-19-05, 05:16 AM |
Re: التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها | Tumadir | 01-19-05, 06:54 AM |
Re: التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها | Yaho_Zato | 01-19-05, 09:33 AM |
Re: التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها | Yaho_Zato | 01-20-05, 02:42 PM |
Re: التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها | Yaho_Zato | 01-29-05, 07:42 AM |
|
|
|