حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-29-2024, 00:09 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-24-2006, 03:13 AM

فيصل عباس
<aفيصل عباس
تاريخ التسجيل: 03-08-2004
مجموع المشاركات: 1345

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد

    ايها الاعزاء واخص المهتمين بالامر
    وصلتني بالبريد هذه الدراسه النقيديه في اعمال حميد
    من صديق عزيز (ابوبكر عبد القادر)له التحيه
    وددت ان اشرككم في قراءتها
    علما بانني لم اعلم كاتبها,,,






    ومن هنا يبداء
    كامل تقديري لكاتبها ولكم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    حميد ثروة الشعر وثورته

    أو محاولة لفك طلاسم حميد



    " كل أمة تزهو بشعرائها وتزدهي بهم ؛ لأنهم لسانها الناطق وضميرها الحي المعذب ، فالشاعر إنسان مرهف العاطفة ، متقد الإحساس ، واسع المخيلة إحساسه بالأشياء يختلف عن الآخرين فما لا يثير الإنسان العادي يولد لدى الشاعر آلاف المعاني ، لذا فالشاعر هو إنسان خارق للعادة. كما أن الشاعر إنسان مرهوب الجانب تخشاه الملوك وتخطب وده السلطات ويحبه الجمهور ، فما قد يفعله الشاعر ببيانه ولسانه ما لا تقوى عليه السلطات بكل إمكاناتها وقدرتها وكم من ممالك هدمتها ألسن الشعراء وكم من بيوت هدتها أبيات الشعراء ، وكم صدح الشاعر بما عجزت عنه الجماهير وكم تحركت من أجلهم ، والشاعر إنسان معذب على الدوام لأنه يحمل هم الأمة كلها ويحمل وزر كلمته وحده ، فكم شاعر قطعت كلمته عنقه وكم شاعر غنى لوطنه فنفاه هذا الوطن عنه ، وكم شاعر صدح للمجتمع فعاداه المجتمع لأنه واجهه بعيبه".

    أن أكتب عن حميد هذا لا يعني أن اقرع طبول الحرب ضده وأثير السخط عليه ، وأيضا لا أريد أن أنفخ أبواق الدعاية له وأكيل له المدح بما يستحقه وما لا يستحقه ؛ ذلك لأنني لا أحمل له أي تحيز مسبق فأنا لم ألتقِ به قط إلا من خلال أبياته ، ولم أناقشه أبدا إلا بواسطة مفرداته . كما إن أعماله - التي سوف أناقشها في هذه الدراسة - وصلتني بطريقة أبعد ما تكون عن الطريقة الشخصية.

    حميد من الشعراء الرافضين لواقع المجتمع الساعين لتغيير هذا الواقع ، وهو من جيل الشعراء القلة الذين ابتعدوا عن الغناء لذاتهم وغنوا لأوطانهم ومبادئهم أمثال أحمد مطر وأمل دنقل ، إلا أنه يختلف عنهم في الكتابة بالعامية دون الفصحى وعدم طباعة أيٍ من أعماله في كتاب يحمل اسمه وسنتناول هذا الأمر بشيء من التفصيل فيما بعد إن شاء الله.

    عندما أردت الكتابة عن حميد كنت بين خيارين هل أتناول قصائده واحدة إثر الأخرى كـ( ست الدار ، الضوء وجهجهة التساب ، السرة بت عوض الكريم ، كرويات ، سكة السفر الحزين ، ...الخ ) ؟ أم أتناول السمات العامة لكل أعماله ؟ ولأن لكل خيار إغراءاته التي لا تقاوم صعب علي الاختيار وأخيرا أستقر رأيي على تناول السمات العامة لقصائده مع عودة لبعض القصائد بشيء من التفصيل

    وقد نهجت في الكتابة عن حميد منهجاً قد لا يكون هو أفضل الطرق في تناول القصائد حيث تناولت في حميد عدة ملامح كالملامح الدينية ، والملامح الرمزية ، والمرأة في شعر حميد ، والملامح الاشتراكية ، وملامح متفردة في شعر حميد ، وموافقات حميد لشعراء سابقين ، والحكمة في شعر حميد ... الخ ولست ازعم بهذا إن هذه هي افضل الطرق للتناول بل أنها قد تكون طريقة تفقد النص بعضا من مميزاته ولكن كان القصد من هذا هو معرفة بعض الجوانب التي سلطنا عليها الضوء آملين أن نوفيها حقها دون أن نفقدها ولو قليلا من معناها العميق فإن أصبنا فالحمد لله وإن جانبنا الصواب فعسى أن يكون خطأنا بمثابة تحذير لمن يتناول حميد بالدراسة لكي لا يقع في ما وقعنا فيه من أخطاء ، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.



    الملامح الدينية في شعر حميد :

    إن حميد في شعره يتحدث إلى مجموعة من الأفراد إذن لابد له من أن يستصحب معه أعرافهم وتقاليدهم ولا يجب أن يهمل المعتقد الديني كعامل مهم ومؤثر في حياة الأفراد ، فرؤية حميد للدين إذا تأملناها وجدناها رؤية عميقة من حيث التناول والفهم ، ولم يذكرها لمجرد إقبال الناس عليه أو خوفا من أن ينعت باللادينية وحميد أخذ أجزاء كثيرة في شعره من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وسيرة وأقوال صحابة وإذا أردنا أن نتصفح بعض هذه النواحي في شعره نجدها كثيرة فخذ مثلا في قصيدة "الضو وجهجهة التساب" المعروفة باسم (البحر) إذ يقول حميد :

    والضو شطب جهة اليمين من حجا إلى أن آمنين

    وبيَّن بي دمو البسملة

    وبي خط خلاويهو المكعوج والحرف واضح تخين

    بي دم وطين

    الضو كتب فوق باب أمير المؤمنين

    " ما ضر بيت أبي لهبْ

    لو ظلَّ بين المؤمنينْ

    لـو جاء فينا ما ذهبْ

    يا مسلمين بغير دينْ"

    ومضى اسمو بين قوسين (غضبْ)

    والمية أوووو كاللظي

    رمت الدهاليز والأوض بس فضل الباب العظة



    إننا إذا نظرنا إلى سيرة المصطفى (ص) لا يخفى علينا التشبيه الشديد لهذه الأبيات وحادثة المقاطعة بين قريش وآل عبد المطلب التي كتبت في الصحيفة وعلقت في داخل الكعبة وكانت كلها ظلما وجور فأكلتها الأرضة كلها ولم تترك إلا كلمة " بسمك اللهم" ، فإذا نظرت إلى هذه الأبيات مرة أخرى أليست هي نفسها أن يسقط البيت كله إلا الباب الذي سجل فيه الضو ما يريد كأن البيت هو صحيفة قريش بكل دهاليزه وغرفه أما الباب فهو كلمة الحق الوحيدة بما سجله فيه الضو مثل كلمة "بسمك اللهم".

    والأبيات نفسها تحمل رمزية شديدة فالضو لم يشطب الفعل رفضاً للدين ، إنما شطب التظاهر والتفاخر بالمظاهر الدينية فهو عندما شطب (حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً... أدخلوها بسلام آمنين) لم يشطب الدين إذ أنه (بيَّن بي دمو البسملة) لكي تكون بداية ما يريد أن يكتب فهو يجعل الضو ذو خلفية دينية تعرف الدين جيداً (بي خط خلاويهو المكعوج )ويوضح لماذا فعل ذلك بـ(يا مسلمين بغير دين) واستخدام كلمة مؤمنين له دلالة عميقة إذ أن بيت لبي لهب لا يضر إذا ما كان بين المؤمنين الحقيقيين ولكنه بين مسلمين اسماً فقوله تعالى يفرق بين الإيمان والإسلام : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان إلى قلوبكم ) فالفرق بين الإيمان والإسلام هو الفرق بين الدين والتظاهر بالدين .

    وهو عندما يتحدث عن المنادين بالدين لغرض أو مدعيي التدين يقول ليفضح ممارستهم التي يتسترون بالدين لفعلها:



    فِقرا تغش الله وتخش بيتو وتسرقو ورا العشا



    أنظر كم من الملامح الدينية في هذه الكلمات على قلتها "يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون" فالدين الذي لم ينهى هؤلاء عن الغش والسرقة بعد صلاة العشاء ليس ديناً حقيقياً كما يقول وضاح عثمان عبد الجليل :

    يا مؤمنين .... لو كان دا دين ..

    تبت أيادي المسلمين

    تبت أيادي الما بيكفر

    ويطرش هتاريش اليمين



    إذ أن الدين في نظر هؤلاء هو ممارسة الشعائر فقط دون اعتناقها اعتناقاً فعلياً ، وحميد يرفض أن يكون الدين عباءة يلبسها اللابسون لغرض في نفوسهم ونفوسهم لم تتشبع بأهداف الدين النبيلة فالله ليس حكراً على أحد بل هو سميعٌ لكل من دعاه قريبٌ لمن يلوذ به والدين غنى عن ترف المظاهر فخذ قول حميد في قصيدته كرويات مخاطباً أحد الذين يخادعون باسم الدين:

    يا متلبك في الأدران ... الحجـر الأسـود مـاهو البروة

    وماها الكعبة مكاوي تجيها ... حين ينكرفس توب التقوى

    ومافي خرط للجنة تودي وما في خطط ممهـورة برشوة

    والمشروع الديني الخـالص ... ما محتاج لدراسة جدوى

    ويات من قال "يا رب" من قلـبو ما رد الخالق دايما "أيوة"

    أقوى ولف بشكيرك فوق الراس النشف غيرك لا تستهوى



    فهذه هي الطريقة الظاهرية للدين إذ يكون الحجر الأسود عبارة عن صابونة ، والتقوى إنما هي ثوب قابل للاتساخ والكي بعد أن "يتكرفس" ، فالدين ليس ثوبا يتسخ فيخلعه الإنسان في الكعبة المشرفة ليغسله بالحجر الأسود ، أما الكعبة في وجهة نظر هؤلاء إنما هي مكوة تزيل "الكرفسة " في هذا الثوب ، أما مشروع الدين فهو واجب من الله لا يحتاج لدراسات الجدوى من قبل الحكام ليتبينوا الربح والخسارة فيه ، والله لا يستمع إلى بعض العبيد ويتجاهل البعض الآخر (ويات من قال "يارب" من قلبو ما رد الخالق دايما "أيوة" ؟) لأن الله تعالى يقول :"وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي .." والرسول (ص) يقول :" أدعو الله وأنتم موقنون بالإجابة " وحميد في نظرته للدين لا يعمد إلى النظرة الضيقة أو ينظر إلى الشعائر التي هي عبارة عن مظهر دون جوهر ، بل يعمد إلى الجوهر وينفذ إليه كنفاذ الضوء من الزجاج دون أن يكسره أو يخدشه ، ففي قول حميد في قصيدة الضو وجهجهة التساب انه لا يريد أن يصلي ويقرأ القرآن كالغناء ... بل يريد أن يستحضر جلال الموقف ولوازمه من طهارة القلب والجسد ، وطهارة القلب بحسن المقصد وطهارة الجسد حسية بالنظافة التي تعذرت لأن مكان قضاءها قد ذهب مع طوفان البحر ثم يستحضر الحمامة التي بعثها نبي الله نوح لتعرف هل يبست الأرض أم لا فيخاطبها قائلاً:

    صلاية قرآن غير غنا

    صل ياحمام قدامي أنا

    غرقان لي في أنجاس لي هنا

    ما شال مراحيضنا البحر

    طفَّح زفارات كم سنة

    بي إيش أتوضأ وأغتسل ؟

    بي إيش يا ربنا ؟؟



    ففي مرارة التساؤل تلمح الحوجة ولكن إذا علمت أن الضو في هذا التساؤل كان وهو في لجنة الفيضان لعلمت أن السؤال ليس لحوجة المياه فالمياه موجودة ولكنها ليست صالحة كما أن إدعاء الدين وشعائره موجودة ولكن هل هي صالحة ونقية أم أنها كالمياه التي غرق فيها حتى رأسه ولم يجد رغم ذلك الماء الذي يجعله طاهراً للوضوء؟

    أما في قصيدة الحرية فتلمح قول الرسول صلى الله عليه وسلم :" كلكم لآدم وأدم من تراب " في قول حميد الذي قدم السلام الذي هو المرادف للإسلام ، كما ذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم :" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمرؤ ما نوى " فطريقه بياض النية كما قال ، والأروع أن الخطاب في القصيدة ليس موجها لفرد معين أو جماعة معينة بل لكل ابن آدم:

    إنساني شعوب تتسالم ...... نتسـالم بي حنية

    على نخب الود نتنادم ...... لا جنس ولا لونية

    لا عرق لا آهـنتقادم ....... سكتنا بياض النية

    مش كلنـا مـن آدم ؟ ..مش آدم أبو البشرية؟

    السجـن إذن يترايم ........نبنيه قـلاع ثورية

    مد كفك يا بني آدم .........حرية سـلام حرية



    بالرغم من روعة التناول في هذه الأبيات ورغم أن حميد اتجه فيها إلى لزوم ما لا يلزم حيث قيَّد نفسه بقافيتين إحداهما في صدر البيت والثانية في عجزه إلا أن السمة الواضحة هي ربطه في الصياغة الأبيات للسبب الديني ومن ثم يعقبه الهدف الذي من أجله صاغ القصيدة :

    مش كلنا من آدم ؟ ..... مش آدم أبو البشرية

    السجن إذن يترايم ....... نبنيه قـلاع ثورية

    مد كفك يا بني آدم ........حرية سـلام حرية



    وتظهر كذلك اللمحة الدينية واضحة في شعر حميد في قصيدة من القصائد التي لم تلق شهرة واسعة كالسرة وست الدار والجابرية رغم أنها ممتلئة بالكثير من المعاني الجميلة وهي قصيدة "البحث عن ذاكرة لوطن مفقود" وفيها يقتبس حميد من الآيات القرآنية التي نزلت في استشهاد الصحابي الجليل مصعب بن عمير خير فتيان مكة في الجاهلية والإسلام وتحض على الثبات على المبدأ حيث يباشر حميد صياغة معنى بهذه الآية حيث يصوغ عليه كلمات تطابق المعني حينما يقول :

    فينا من روَّح فدايتك ..

    وفينا من لا زال …

    وفينا

    ما في من بدل لرايتك



    أليست هي نفس الآية :" ومن المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ".

    كما إنني ألمح في قول حميد في قصيدة "مصابيح السماء الثامن" حينما أراد حميد حث الجمهور إلا أن يتمثل قصة السيدة أسماء بنت أبي بكر عندما جاءها ابنها عبد الله بن الزبير حينما حاصره الحجاج في مكة فذهب إلى أمه يستشيرها فقالت له :" بئس العبد أنت إن كنت تدافع عن الباطل فقد أهلكت نفسك وأصحابك ، وإن كنت تدافع عن الحق فامضي لما مضى له اخوتك " فقال:" يا أماهـإنما أخشى التمثيل بجثتي فقالت قولتها المشهورة :" إن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها ". فتمثل حميد قولها في قصيدته حيث يقول :

    "ما ضر من بعد الغرق

    جوف الضحية إذا إنشرق ؟"



    ثم يحض نفسه على مواصلة ما بدأه قائلاً:

    يا سيفي هوبي على الكتل



    وحميد يقسم الناس إلى فئتين لا غير ... فئة تأخذ الدين وسيلة للوصول إلى رغباتها وغاياتها دون أي إيمان حقيقي بهذا الذي تنادي به ، بل هو درع تستتر به من الناس وهذه الفئة محسوبة على الدين تضره ضرراً بالغاً أكثر من الذين يجاهرون بعدائهم للدين ، والفئة الثانية فئة مخدوعة بوهم الاعتماد على الغير في رفعة حالهم وليس للدن مكانة عندهم فهو يقول على لسان ست الدار:

    واتذكرت كلامك لي

    اتذكرت كلامك لي ..

    إنو في ناس لاعبين بالدين ...

    وناس لا عبابا الأمريكان



    وهو بهذا لا يبتدع بدعة جديدة في النظرة العامة التي كانت سائدة عن الدين والرأسمالية ، رغم أنه هنا يقف بصورة غير واضحة مع الدين فهو ينزه الدين ويجعل الخطأ في الذين يطبقونه فيقول (ناس لاعبين بالدين) وليس الدين هو الذي يلعب بالناس ، بينما ذكر أن الرأسمالية هي التي تلعب بالناس.

    وفي قصيدة السرة بت عوض الكريم يقول :

    من بعد ما انبلج الفرج من ضيقا ...

    خدعوها بي حيلة كتاب

    رفعوهو فوق سن الحراب



    وهي إشارة واضحة لما حدث في الفتنة الكبرى بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وخدعة عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري في رفع المصحف على أسنة الرماح عندما كاد جيش علي أن ينتصر وما أعقبها من انقسام بين صفوف ابن أبي طالب ووجود الخوارج الذين خرجوا عليه لا تخفى على أحد ، وحيلة رفع المصاحف على أسنة الرماح هي الحق الذي أريد به باطلا لذا نجد أن حميد يرمز إلى خديعة الشعب بنفس طريقة الحق الذي أريد به باطلا.

    والجانب المسيحي في الدين نجد أن حميد لا يتجاهله بحكم انتماءه للدين الإسلامي إذ يقول حميد:

    اشتكيتك لي القمر

    لما أنسام السحر

    الرياحين والزهر

    شهدوا لي عليك يا إخية

    جاء القمر سواك برية

    وباعتزاز في إبرة حية

    صاح في جمعنا يا برية

    من يكن من غير خطية

    .........

    وقم رميتك بالتحية



    فهو يأخذ قول السيد المسيح عليه السلام حينما قال :" من كان منكم بغير خطيئة فيرمها بحجر" ، فهو في هذه القصيدة يشكوها بشكوى واضحة بشهودها وحكمها ، فالحكم هو القمر والشهود أنسام السحر والرياحين والزهر ورغم الشهود فإن القمر يبرئها من التهمة المنسوبة إليها آخذاً قول السيد المسيح :" من كان منكم بلا خطيئة فيرمها بحجر" فيتجرأ هو ويرمها ولكن ... بالتحية

    وحميد يورد ذكر الكثير من الأنبياء في قصائده ، وتجد إشارات جمة لقصص الأنبياء بما يتوافق وحال القصيدة التي ذكرها حميد وهو بهذا يلقي في أذن المتلقي ألوانا شتي من الخلفية الدينية ففي قصيدة البحث عن ذاكرة لوطن مفقود يقول:

    (يوسف) الفي الجب يمرق

    ضاربا ريقة اليلقي قوت

    روقي أكنك ..

    واللا كنك ..

    تاوقي في البحر الخرافي ..

    (يونسك) في ياتو حوت

    سمَّ ينده جوفو حافي ..

    وهطينا علي الأثافي ….

    وهبي نارك لا تموت

    يا حمامة غار (محمد)..

    يا خيوط العنكبوت



    ففي أبيات قليلة كهذه نجده يذكر سيدنا يوسف عليه السلام وقصة إلقاءه في البئر ، ويذكر سيدنا يونس عليه السلام وهو في جوف الحوت ، وكذلك يعرج على قصة الهجرة لرسولنا الكريم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه في الغار مع الحمامة والعنكبوت ، والقاسم المشترك لكل هذه القصص التي حدثت للأنبياء نجد الانقطاع التام عن العالم فالبئر والحوت والغار هم من أكثر المناطق خفاءً وعزلة في الأرض ، وإذا ما ذكر أحد هؤلاء الأنبياء عليهم السلام ففور السماع تتبادر إلى الذهن القصة بكامل حذافيرها

    ثم وفي نفس القصيدة يأتي حميد لذكر قصص بعضا من الصحابة الإجلاء ومنهم من ذكره بالاسم أبو ذر أو بالقصة كمصعب بن عمير أو قصة سارية وعمر بن الخطاب فيقول:



    فينا من روَّح فدايتك .

    وفينا من لا زال …

    وفينا

    ما في من بدل لرايتك

    وانتي في ذات السكوت !!!

    التراب يتشهي حنك .

    السحاب عابر يفوت

    واللا يكمد للعيون

    بالغبار غمة وسوافي

    وأنتي يا آخر المرافئ

    يا أم وجوداً صار خرافي

    في صحاريك داخ غفاريك ..

    من برد زمنو الرعافي

    دون كواريك .

    مات واتاريك

    غبتي بي كل المرافئ

    يا لساريك .. لاك موافي

    لا كمان قادرين نسيبك

    نمشي في الزمن المجافي

    ما عهدناك عاد تخافي



    أما ما لا يريده حميد فهو جعل الدين وسيلة من الوسائل لكسب الدنيا وإلا هجر الدين سوى كان الدين الإسلامي أو المسيحي أو غيره ، فحميد في نظرته للأديان لا يفرق بينها بل يعلم أنها جميعها أديان الله وهو في نظرته للممارسات غير الصحيحة باسم الدين نجد غضبه للإسلام نفس غضبه للمسيحية وفي نقده للدينين بمنظور واحد فحين يقول :

    إلا يا . آخ … ما لقينا

    الجوامع مستباحة ..

    والمصلين صر جنب

    الكنائس جالبا دينا !!

    والمدينة تبيع عوينا !!!

    لي النخاسية الغرب

    لي اللحاسية وعقب

    تشتري آفات الرعب



    فحتى في نقد حميد للممارسات باسم الدين نجده لا ينسى تنزيه الدين من النقائص ، فالجوامع وقع عليها فعل الاستباحة من المصلين الذين لم يراعوا حقوق الدين فهم كلهم عليهم الجنابة (صر جنب) ، أما الكنائس فهي تعرض دينها للبيع وربما تكون هذه إشارة لممارسة قديمة هي بيع صكوك الغفران ، كما في استفظاعه لهذه الممارسات يقرن بها بيع الأبناء لتشتري بها أشياء هي من باب الآفات المرعبة .

    وحميد أيضاً يقول في قصيدة السرة بت عوض الكريم في نفس الغرض منزها الدين جاعلا هذا الظلم من الذين يتحدثون باسمه فيقول:



    ظلم الحُكم ياهو الظلم كان من جوامع كان كنيس

    يبرا السما ...يبرا محمد سيدي يبرا المسيح



    فحميد يقرن البراءة من هذا الظلم لله ولرسله فقوله يبرأ السماء يقصد بها تنزيه الله تعالى من الظلم ، وحينما يقول يبرأ محمد سيدي يبرأ المسيح فهو في حقيقة الأمر ينزه الرسل والأديان من الظلم حتى وإن جاء من مكان ممارسة هذه الأديان وعلى يد من يتبعونه وباسم هؤلاء الرسل عليهم السلام ، وليس ذلك فقط فخذ قوله عندما افترض أن الدين فقد جوهره عند الناس وصار التعامل بالقشور ففي هذه الحالة يكون الحال:

    تختا الدراويش الضريح .

    يسكن خلاوينا الجنون

    يهجر جوامعنا الإله

    يا نورا آه ..

    تطرح غيوم الشوق تئن ..

    تشرق

    تموت

    خيل .. كلمة الحق التناهد في الشفاه

    يعقر بسيمة الصح

    مع لوبي الجروف

    تغرز ضريعات الحروف

    ينشف مراح الأمسيات ..

    تتمطق الأرضة المروق والأغنيات

    اللّي الشروق .

    والأرض

    والحب والمطر

    تتضهب تتوه ..



    فأي ضياع اكثر من ذلك إذا فقد الدين القدرة على غسل دواخل الناس؟

    ونجد أن حميد ينزه الدين من أغراض كثيرة وأخطاء ارتكبت باسمه فهو يرى أن الدين برئ من هذه الوجهة بل ويدافع عن الذين لديهم الجرأة لمواجهة الأخطاء فهم في الغالب أناس شرفاء ولكن دفعهم للخطأ ومجابهته جعلت الناس أو أصحاب الأغراض تثير ضدهم الزوابع وتتهمهم في أنفسهم لينشغلوا بالدفاع عنها دون الدفاع عن الحق فحميد عندما جعل الضو يبكي في قصيدة البحر لم يكن البكاء الذي يصدر عن الرجل بكل عنفوانه هو بكاء الألم أو بكاء الحاجة بل هو بكاء القهر إذ يقول حميد :

    الضو بكى

    بكى ما بكى

    بكاهو حس الطائرات

    بكاهو قدرتو تنتهي

    بكاهو يرجى المعجزات

    بكاهو يقنع بالرحيل

    بكاهو ما كان الشدر .. ما الطير وما كان النخيل

    بكاهو كيف سد شبر.. من موية يصبح مستحيل

    بكاهو يلغط في البحر ... والغيرو يشرب سلسبيل

    بكاهو البينضم في الغلط ... يا قالو ملحد يا عميل



    فالضو رجل لا تهمه الثروات المادية فالشجر الذي يموت في الفيضان والسعية التي غرقت والنخل الذي هاجر عنه كلها أشياء لا تجعل الضو يبكي بل يبكيه ضياع بلاده والفرقة التي تحدث بين الشعب والحكام فعامة الشعب تعاني الأمرين (يلغط في البحر) والحكام في ترفهم ولذاتهم (والغيرو يشرب سلسبيل) وأيضا يبكيه أن الذي يتحدث عن الغلط تكال له التهم الجاهزة فهو إما أن يجرد من الدين أو يجرد من الوطنية فهو إما ملحد أو عميل ، وإذا تساءلنا عن علاقة حديثه هنا بالدين وكيف نفى عن هذه التهمة نجده يقول في الأبيات التي بعدها مباشرة على لسان الضو :

    بكاهو آه .... ما هو الإله

    يا دكة السلطة ودخانا وشملتا



    فالإله ليس هو الذي أراد هذا فهذه ليست شريعته بل الذي أبكاه هو السلطة وما يتبعها من لذات حسية فالدكة كلمة لها معنيان ، الأول بمعنى المصطبة التي يجلس عليها الناس للسمر ، والثاني هي ما تستخدمه النساء في الزينة والتجمل للرجال والدخان إما أن يكون المقصود به دخان الطلح الذي تستخدمه النساء في الزينة أو يكون المقصود به دخان المشعوذين ودخان التبغ ، أما الشملة فمعناها ما تلتف به النساء للتعرض للدخان وهي تستر الجسد من أعلاه إلى أدناه فإما أن تكون هي المقصودة أو يكون المقصود بها ما يستر السلطة من مال وجاه وجبروت .

    وبعد أن يصف حميد كل هذا يعود فيقول :

    يا مسمي محنتنا امتحان ...

    مرات قدر ... حيناً غضب

    ناكر جبيهتنا وصلاةً صلتا

    يوم يمحق الصاح الختا

    وين تمشي من غضب الغلابة

    اللابكتلك نازلتها ولا شكتلك علتا ؟

    لملم خرافاتك عليك

    ما حرقت نظريتي ليك

    بس روحنا حقرتك سلتا

    وبنجيبها ضربتنا وتصيب في حزتا

    وفي حزتك يا بيتنا كب

    ويا بيت أمير المؤمنين إت إتنكب ... إت إتنكب



    وأجمل ما في هذه الأبيات أن تترك بلا تعليق سوى ما يفهمه القاري بفطنته.



    الملامح الرمزية في شعر حميد :

    شعر حميد مليء بالإيحاءات الرمزية ، منها ما هو الواضح البيَّن حتى يكاد يفقد معنى الرمز ومنها ما يحتاج إلى إعمال الفكر قليلا ومنها ما هو يكاد يكون طلسماً.

    من يقرأ حميد بتأني يستطيع أن يرى عدة رموز تستوقفه ، فمثلا لابد أن يلاحظ تكرار الرقم ستة في العديد من القصائد والمناسبات فمثلا في قصيدة ست الدار يقول:

    ستة خرفن وتيس ما كفن



    وفي نفس القصيدة يقول :

    هي يا الزين زغرد ...

    بت أم زين جابتلها بت

    ستة أولاد حتان البت



    أما في قصيدة الجابرية فيقول :

    إلا في ستة من الجابرية قالوا ..

    تعبكم خارم بارم

    يذهب حاكم خلف الحاكم

    والجابرية بلد في حالها

    أو :

    ستة سنين قابض فوق جمرو

    أو :

    إلا الستة الصارو جماعة



    فماذا يقصد حميد بالرقم ستة ؟

    كنا في جلسة مناقشة نحن مجموعة من الأصدقاء ودار جدل حول هذه النقطة فقال بعضهم إنها ليست إلا رقم عادي جاءت به أوزان القصيدة وزعم البعض أنه يقصد أيام الأسبوع ويقصد بالتيس الجمعة ولكن هذا الرأي ليس صحيحاً لأن حميد يقول :

    ستة خرفن في فد يوم إنصفن



    فالرمز الذي يقصده حميد بالرقم ستة هو الأحزاب ( الاتحادي الديمقراطي – الأمة – البعث – الشيوعي – الناصري – الوحدة الجنوبي)أما التيس فيقصد به الحركة الإسلامية أو الجبهة الإسلامية القومية آنذاك ، بالإضافة إلى أن اللحية التي هي أحد صفات الإسلاميين ، وحميد يجعلها وجه الشبه بين الإسلاميين والتيس ، وكان الرئيس جعفر نميري قد انقلب على جميع الأحزاب لذا أشار حميد إلى أن :

    ستة خرفن وتيس ما كفن



    ثم عاد نميري فاستعان بالإسلاميين وصفى وحَجَر على بقية الأحزاب وطاردها ومنع نشاطها لذا قال حميد :

    ستة خرفن في فد يوم إنصفن



    ولم يأتي لذكر التيس ، ثم نجد نفس الرمز يتكرر في نفس القصيدة عندما تقول ست الدار مخاطبة زوجها الزين :



    هيي يا الزين زغرد

    بت أم زين جابتلها بت

    ستة أولاد حتان البت



    نجد أن ميلاد الأحزاب السودانية الستة أقدم من ميلاد الحركة الإسلامية أو الجبهة الإسلامية القومية أو جبهة الميثاق ، وهنا حميد يسخر سخرية مبطنة داخل الكلام حيث أنه من المعروف في البيئة السودانية عدم الاهتمام بميلاد الفتاة حيث يرغب الناس في ميلاد الأولاد ، وعند الفرح تزغرد النساء وليس الرجال لذا ينعكس الحال في واقع القصيدة إذ لابد أن يزغرد الزين لأن بت أم زين " وهي السودان " جابتلها "بت" فحميد في عداءه للحركة الإسلامية يجعلها تيسا وسط الخراف ، أو فتاة وسط الأولاد واختياره لوصفها بالفتاة إذ أن وجهة نظره أن التراخي من سمات الحركة حيث يقول في الجابرية واصفا إمام الحلة في الصلاة :

    صوتو مرخرخ لامن يقرا

    يقرا ويقطع ... زي البِطرا

    عند الركعة ركوعو متختخ

    عند السجدة سجودو ممخمخ

    شيخ الحلة بقول في أمرو

    زول غرقان في الدين من عمرو

    ستة سنين قابض فوق جمرو

    وما فكاه طريق الله



    فتراخيه حتى في قرأته في الصلاة فالصوت مرخرخ وهذا ليس ناتجاً عن ضعف الحبال الصوتية أو ليس التراخي في الصوت فقط ، بل إنه عند الركوع ركوعه متختخ وكذلك عند السجود اشد حالات التراخي حيث أنه ممخمخ وحميد لا يقرن هذا التراخي بالرجل لذاته بل لكل الذين انضموا له فليونة هذا الرجل يعقبها تساؤل يدور في أذهان العامة لذا يجيب عليه شيخ الحلة – وهنا إشارة خفية في كلمة شيخ الحلة – بأن هذا الرجل غرقان في الدين منذ أن كان عمره ستة سنوات وهذا أيضاً رمز . وحميد لا يقر هذا ، فالدين ليس تراخي ولا ينتج عنه تراخي فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وحميد يبين حجته في الأبيات التي تلي هذه المذكورة

    وفي قصيدة الجابرية يقول حميد :

    إلا في ستة من الجابرية ...

    قالوا تعبكم خارم بارم

    يذهب حاكم خلف الحاكم

    والجابرية تظل في حالها

    حلة حياتها تسر الظالم

    لا جلكوز لا تقرا رسالة

    ولا راح يطلع منها عالم

    يشير حميد هنا إلى أن من وقف في وجه الخداع والظلم في الجابرية التي هي السودان المصغر هم فقط ستة أفراد وأخفى حميد السابع في بناء القصيدة إلا انه ذكره بشكل عرضي "تسر الظالم " وعندما تولى شيخ البلة دائرة الجابرية في الديمقراطية نجد أن الستة كانوا هم موضع المعارضة الفعالة التي لا تبالي برضاء شيخ البلة الذي مثل الحزب الحاكم فقال :

    إلا الستة الصاروا جماعة

    قالوا دا زول تربايته مياعة

    ما بشبهنا رفعة وضاعة

    وقصة دينو ودقنو بضاعة

    ونحن آمالنا تباعة

    وإما مباعة

    وفي الحالتين آمالنا مضاعة



    ثم يستمر حميد في تحديد سمات هؤلاء الستة الذين لا يمثلون ذواتهم فقط إنما يمثلون القوة الفاعلة في المجتمع لذا كان لابد أن يُبعدوا من المجتمع حتى لا يكونوا نواة التفجير فيه فيقول حميد ممثلاً اعتقال الستة :

    ومن يوم داك ما شفنا الستة



    كما أن حميد عندما يريد أن يصف شيخ البلة على لسان شيخ الحلة الذي يعتبر من حزبه – لاحظ السخرية في توارد كلمة شيخ – فيقول :

    شيخ الحلة بقول في أمره …

    زول غرقان في الدين من عمره…

    ستة سنين قابض فوق جمره

    ومافكاه طريق الله



    ولكن الستة يرفضون هذا التبرير غير المقنع لنعومة هذا الشيخ ...وهكذا.

    كما أن حميد يستخدم لفظ الاثنين كرمز للدلالة على حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي فيقول في قصيدة تلغرافات على لسان ست الدار :

    التومات طيبات ونصاح

    إلا غُباش باللحيل آ الزين



    أو :

    التومات أول البارح جني يرطنن

    قالن أنحنا الخواجات



    وفي قصيدة الضوء وجهجهة التساب المعروفة باسم البحر لا يأتي ذكر التومات صراحة بل ضمنياً في كلمة (فرخينو) أي فرخيه وفرخا القمري رقم مزدوج ككلمة التومات التي ذكرها حميد بقوله:

    عش قمري بي فرخينو ...

    كان من حظ ورل



    أو :

    عصرت على طرف الطريق

    عقدت سفنجتها بي دلق

    كان كل فردة جارها من بلد

    وينشافن الاتنين خضر

    والليل ستر... الليل ستر



    فهو يقصد بالتومات حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي كما ذكرنا وإشارته إلى (غباش باللحيل) كناية على عدم أي تجديد في خطط الحزبين منذ أمد بعيد وسيطرة وجوه محددة على مقاليد وآراء الحزبين وهو عندما يقول :

    التومات أول البارح جني يرطنن

    قالن أنحنا الخواجات



    فهو يشير إلى تقليد بعض زعامات الحزبين إلى الأجانب أو ميلهم إلى الدعم الخارجي والمعارضات الخارجية ثم عندما يقول :

    العضمين الروكة أنزرعن



    يشير إشارة واضحة إلى التجديد في الحزبين بانضمام جيل من الشباب الذين نظروا إلى موروث الحزب من زاوية أن الأفراد يمضوا ويبقى الحزب ، أو بصيغة أخرى أن الولاء ليس لفرد بعينه أو مصلحة بعينها إنما الولاء للحزب والمصلحة مصلحة الحزب ، لهذا فهذه هي الزراعة التي لحقت بالحزبين أو العضمين الروكة

    ثم نجد إشارة عددية أخرى تتكرر في قصيدة ست الدار مرتين حيث يقول على لسان ست الدار بت أحمد :

    كانوا حداشر وخواجية



    ثم يقول في نفس القصيدة على لسان الزين ود حامد:

    شرقت شمس اليوم التاني

    كنا حداشر ونوباوية

    متهمننا بالتخريب والتحريض والشيوعية



    وتناقشنا في معنى هذا الرمز العددي فقال جزء من الأصدقاء إنه يقصد انشقاق الأحزاب على بعضها البعض كما يقول أحمد مطر :



    أكثر الأشياء في بلدتنا

    الفقر والأحزاب وحالات الطلاق

    عندنا عشرة أحزاب

    ونصف الحزب في كل زقاق

    كلها يسعى إلى نبذ الشقاق

    كلها ينشق في الساعة شقين

    وعلى الشقين شقان من أجل تحقيق الوفاق



    ولكن هذا التفسير ينقصه معنى الإشارة إلى التأنيث في (خواجية ونوباوية) فهي لا تستقيم مع هذا التفسير لذا فقد قال أحدهم إنه يقصد قوله تعالى :"إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين " فست الدار تقصد بالحداشر أخوة يوسف والتأنيث لها أما الزين فهو يعقوب عليه السلام إلا أن المعنى أيضاً لا يستقيم فست الدار لا تحلم وليس هناك نبوءة تتحقق وما وصلنا له أن حميد يقصد عدد شهور السنة الاثني عشر ويؤنث الشهر الذي حدث فيه الانقلاب ، فجعفر نميري عندما قام بالانقلاب استعان بالرموز الوطنية في الحزب الشيوعي لذا كان شهر الانقلاب نوباوية أما عندما انقلب على الشيوعيين صار خواجية إشارة إلى استعانته بأجانب .

    إذا تركنا الترميز العددي جانباً نجد أن حميد يملأ شعره بترميز آخر يكاد يخلب اللب فهو يقول في نورا :

    مرة شافت في رؤاها

    طيرة تآكل في جناها

    حيطة تتمطى وتفلع

    في قفا الزول البناها



    حلم نورا في هذه القصيدة هو واقع حال الشيوعيين مع ثورة مايو فالشيوعيون هم من أتى بمايو ووضعوا نميري في سدة الحكم على أن يحكموا هم بتوجيه النميري لكل الخطوات التي يرغبون فيها إلا أن النميري انقلب على الشيوعيين قتلا ومطاردة وتشريداً فكان كأنه "حيطة تتمطى وتفلع في قفا الزول البناها"

    كذلك اتجه حميد إلى الترميز برمز واضح في اسم راشد إذ يقول في ست الدار :

    شهر اتنين المدرسة تأجز

    شهر اتنين حا نطهر رشد

    وراشد حالف ما يطهر

    إلا أبوه وعمتو تحضر

    وإلا يجيبوا الغنايين

    شان الشول بت سرنا ترقص

    قلنا نجيب المداحين

    طنطن راشد "ياخ أنا جايي من الحج"

    وعارف راشد لما يطنطن....

    كل الدنيا الفوقي تطنطن

    غايتو بشر بس ربي يهون

    ربي يهون



    راشد هو الاسم الكودي لعبد الخالق محجوب والمقصود به هنا الحزب الشيوعي ككل ، فالتطهير داخل الحزب كان من سمات الحزب الشيوعي الأولى والميل للدنيا بشكل عام "الغنايين" وليس إلى الآخرة "المداحين" كما أن الحزب الشيوعي كان من اكثر الأحزاب نشاطاً في إشعال الثورات والإضرابات العمالية أو المظاهرات الطلابية لذلك " وعارف راشد لما يطنطن ... كل الدنيا الفوقي تطنطن... غايتو بشر بس ربي يهون " فراشد ليس فرداً عادياً لكي ما يكون غضبه غضباً عادياً .

    ويتجه حميد اتجاهاً أخراً في الرمزية في قصيدة الضو وجهجهة التساب حين يرمز لكل الأحزاب السياسية بالكلاب ثم يختار لكل حزب صفة يلحقه بها فهو يقول :

    يا الدنيا كيف متقلبنة

    تصحا العصافير الوديعة

    مع الصباح متخلقنة

    شر الكلاب متمسكنة

    وين جرتا وهوهيوا وين

    الليلة غاب

    كلب الجناين زيو زي كل الكلاب

    كلب الغلابة المستغلين العبيد

    الليلة ريس سيد مهاب

    كلب أب زهانة تهينو هانة

    ومن المهانة تقولو (تك)

    فماذا يريد حميد أن يقول ؟ وعلاما يرمز بكل هذه الكلاب ؟ وما المقصد من هذه الرمزية ؟

    أولاً وقبل كل شيء حميد لا يقصد الإهانة بكلمة (كلب) بل يقصد التبعية غير المشروطة كتبعية الكلب لصاحبه هو يقصد بالعصافير الوديع طلاب المدارس والجامعات الذين كانوا يخرجون في الصباح الباكر إلى المدارس ولكنهم أخذوا يخرجون إلى المظاهرات التي كانت الشرارة للانتفاضة فهذه العصافير الوديعة تستيقظ منذ الصباح في أشد حالات الغضب (متخلقنة) ثم يعرج حميد ليستعرض باقي تشكيل الشارع السياسي أو الشارع السوداني فهو يرمز بكلمة شر الكلاب ويقصد بهم الشرطة أو رجال الأمن ففي حالة مسكنة لا يستطيعون شيئاً مما يجعل حميد يتساءل ساخراً ( وين جرتا وهوهيوا ؟ وين؟) فهذه العنترة قد غابت عنها وصارت لا حول لها ولا قوة بل أنها صارت تخشى على نفسها ثم يتساءل عن كلب الجناين الذي صار مثله كمثل بقية الكلاب لا تمييز له عن غيره ، وحميد يقصد بكلب الجناين اتباع حزبي الأمة و الاتحادي الديمقراطي الذين هم أحزاب لها جنائنها المعروفة في العاصمة المثلثة وبيوت عريقة ، وهم يعتبرون أنفسهم مميزون إلا أن هذه الأحزاب في انتفاضة السادس من أبريل صارت مثلها مثل البقية لا امتيازات لها ، أما عن كلب الغلابة المستغَلين العبيد وهو يقصد به أتباع الحزب الشيوعي السوداني ففي رؤية حميد أن الحزب الشيوعي هو ناصر الفقراء والمستضعفين في الأرض (يا عمال العالم وشعوبه المضطهدة ... اتحدوا) فهذا الكلب اليوم ريس سيد مهاب تخشاه جميع الكلاب أي أن الحزب الشيوعي في تلك الأيام تخشاه جميع الأحزاب وهذا رأي لا يخلو من وجاهة وقد يقصد حميد بكلب الغلابة الجماهير عموماً ولكن هذا رأي ضعيف.

    ثم يسخر حميد تلك السخرية المبطنة بالرمز في كلمة كلب ود أبزهانة ويقصد بهم أفراد جهاز الأمن وأتباع الرئيس جعفر نميري فهذه الكلاب صارت لا حول لها ولا قوة إلى درجة الإهانة البالغة التي تستطيع فيها أن تقول لهذا الكلب (تك) التي تقال للماعز(كلب ود أبزهانة تهينو هانة... ومن المهانة تقولو تك) ، وهذه السخرية التي تثير في داخلك آلاف الخيالات كذلك الضحك من حال هذا الكلب إنما هذا هو حال انقلابات الفرح فالدنيا لا تبق على حالٍ واحدة فهي تدور على كل أهلها .

    ومما يدل على أن حميد قصد نميري بكلب ود أب زهانة قوله في قصيدة ست الدار على لسان ست الدار :

    زولك دا يحير ....

    وكت الجد كان أدى ينقنق

    وكت الفارغة يشيل ويبعزق



    فهذه هي الرعونة الحقة -وهنا كلمة (كان) بمعنى (إذا)- وهذه إشارة لسياسة الصرف غير الرشيدة في عهد الرئيس النميري.



    الملامح الاشتراكية في شعر حميد:

    فئة غير قليلة من قراء حميد يقطعون بشيوعيته بحيث لا يقبلون غير ذلك ، بل أن كل قارئ لأشعار حميد يوصف بالشيوعية وحتى من يقرأ أي شعر بطريقة حميد أو يكتبه يوصف بأنه شيوعي ، فهل هناك مؤشرات في شعر حميد تنفي أو تقطع بشيوعيته؟

    قطعاً أن لكل شاعر مهما صغر أو عظم بصمته التي تلمحها من خلال أبياته ومفرداته وهذه البصمة تكون مزيجاً من ثقافته ومعتقداته وبيئته ، فإذا كان هناك بصيص من ضوء في شعر حميد يبيِّن شيوعيته لا نجده إلا في مدلول كلمة العمال أو ذكر اتجاه اليسار ، ولا أنسى تلك القصيدة التي وصلتني مكتوبة باليد من صديق على لسان حميد يقول فيها :

    شيوعيين وحتى الموت شيوعيين

    وقبل أن أقطع ببصمة حميد فيها أو لا ، ذكر صديق آخر أن القصيدة لشاعر سماه هو ولا أذكره الآن ورغم وضوح بصمة حميد في هذه القصيدة إلا أنني أحب أن أتجول في القصائد التي أقطع أنها لحميد دون شك ، ففي قصيدة ست الدار يقول على لسان الزين :

    زيت العامل يا هو البطلع مو المكنات الأمريكية

    إيد العامل يا ها العاد تنتج مو المكنات الأمريكية

    ودرن الأيدي العمالية ....

    أنضف من لسنات الفجرة

    ودين الدقن الشيطانية

    وانضف من كرفتة البنك الدولي

    وكل وجوه الرأسمالية وانضف من ......



    فالعمال هم طبقة البروتارية أما الطبقة البرجوازية فهي العدو التقليدي لها ، وفي الفكر الشيوعي نجد أن هذه الطبقة والدين هم العدوين الرئيسيين للإنسان وحميد لا يربط بين الدين والطبقة الرأسمالية في هذا الموضع فقط بل يقول :



    باسم الدين والأمريكان أي عوج مبدئ ومختوم

    صوتنا هناك وهنا مكتوم ... مكتوم ... مكتوم

    وما في فرق في الوقت الراهن بين واشنطن والخرطوم



    وهو أيضاً يقول في نفس القصيدة مصنفاً الأفراد إلى صنفين :

    وإتذكرت كلامك لي

    اتذكرت كلامك لي ..

    إنو في ناس لاعبين بالدين ...

    وناس لا عبابا الأمريكان



    فهي نفس العدوين التقليديين للشيوعية (الدين – والرأسمالية)

    أما في قصيدة السرة بت عوض الكريم فيقول :

    عدلت نعال مقلوبة في الجيهة اليمين ...حدرت شمال



    فالسرة التي عدلت "نعال" - وهذه الكلمة لها مدلول خفي غير ما هو ظاهر- كانت هذه النعال في اتجاه اليمين أما السرة نفسها فقد اتجهت في اتجاه الشمال وهذه الاتجاهات ليست صدفة ، فالأحزاب الدينية هي الأحزاب اليمينية أما الأحزاب الاشتراكية أو التقدمية فهي الأحزاب اليسارية وحميد يريد أن يجعل السرة المرأة الرمز في قصيدته ذات ميول يسارية أما في قصيدة كرويات فيقول :

    بين الميضنة والإرصاد اتجرحت غيمة

    الغيمة الطيبة وحاملة حلال

    من ألق البسمة الفي الأطفال

    اتسرحت فيها شظايا الواقع

    بين تقريبك وسرقة زادك

    مدت أيدك تالا القبلة رشاشها يصيبك

    تسبي نديهتك ... تفقد جيهتك

    تنزف تنسف دانات دعت الهوس الديني

    تجيني قوافل أورادك



    ورغم أن حميد يري هذا الجانب في الرأسمالية كعدو تقليدي للاشتراكية إلا أن معارضته للدين ليست قوية – وفي الملامح الدينية توضيحاً أكثر – فالشعراء الذين في عداء مع الدين نجد عداءهم واضحاً وصارخاً بل أن حتى من يمجد مناضلاً يتخذ طريقاً يجعل الناس في شك من مقصده فخذ أمل دنقل مثلاً حين يقول :

    المجد للشيطان معبود الرياح

    من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم"

    من علم الإنسان تمزيق العدم

    وظل روحاً أبدية الألم



    فإبليس – لعنه الله – هو من قال "لا" للسجود لآدم كما أمر الله تعالى والذين قالوا "نعم" وانساقوا لأمر السجود هم الملائكة ، وتمزيق العدم هو الهبوط من جنة الله تعالى إلى الأرض ، فالشيطان هو الذي جعل الحياة في الأرض بالعصيان لأمر الله لذلك يستحق المجد رغم أن الله جعله ملعونا إلى الأبد وطرده من الرحمة ووعده بالنار في الآخرة إلى الأبد فهو أبدي الألم . ورغم أن أمل دنقل يقصد المناضل اسبارتاكوس إلا أن اختياره للصياغة بهذه الطريقة يدخل الشك في قلوب الكثيرين ويبذر بذورا هو والمتلقي في غنى عنها.

    أما بالنسبة لوصف الذات الإلهية في الشعر عموما نجد أن الألفاظ المختارة تكون مختارة بعناية شديدة وحميد لم يشذ عن هذه القاعدة أما في لغة الطقوس الأفريقية فأنظر إلى تناول الشاعر إلى صفات الله ووصفه الذي اختاره ليبدأ به قصيدته:

    لألف دورة ودورة

    جنون الرب في غيابة الحضور

    لعشية ... لطائر غريب

    لألف دورة ودورة يريدها

    تلفه غيوبها ...يري ولا يري



    والمتصفح لكل الأدب الحديث والقديم من النادر أن يجد قصائد بها هذا النوع الواضح من عدم التأدب ، وفي نفس الكتاب نجد :

    اعترت الدين قشعريرة

    استيقظ الضمير من ثباته

    رقص الدين على مزمار رأس المال



    إذن فربط حميد رأس المال والدين ليس جديداً في الشعر وبالذات الحديث منه وهناك حادثة استلهمها حميد وتناولها ليجعلها وقود لثورته الشعرية تشابهها حادثة أخرى تناولها الشاعر صلاح أحمد إبراهيم فالحادثة التي تناولها صلاح أحمد إبراهيم حدثت عندما حاول بعض مزارعي مشروع "جودة" التأكد من أن ما يُعطونه من أثمان القطن صحيح فكان أن زجت السلطة بمائتين منهم في مكان ضيق بحيث لم يصبح عليهم الصبح إلا وهم موتى فصرخ الشاعر صلاح أحمد إبراهيم في قصيدة منها :

    لو لأنهم حزمة جرجير يعد كي يباع

    لخدم الإفرنج في المدينة الكبيرة

    ما سلخت بشرتهم أشعة الظهيرة

    وبان فيها الاصفرار والذبول

    بل وضعوا بحذر في الظل في حصيرة

    وبللت شفاههم رشاشة صغيرة

    وقبَّلت خدودهم رطوبة الأنداء

    والبهجة النضيرة

    لو أنهم فراخ تصنع من أوراكها الحساء

    لنزلاء الفندق الكبير

    لوضعوا في قفصٍ لا يمنع الهواء

    وقُدِم الحَب لهم والماء

    لو أنهم ...

    لكنهم رعاع

    من الرزيقات

    من الحسينات

    من المساليت

    نعم رعاع

    من الحثالات التي في القاع

    من الذين إنغرست في قلوبهم براثن الإقطاع

    وسملت عيونهم مرارة الخداع

    وفي المساء.....

    بينما كان الحكام في القصف وفي السكر

    وفي برود بين غانيات البيض ينعمون بالسمر

    كانت هناك عشرون دستة من البشر

    تموت بالإرهاق

    تموت بالاختناق



    أما حميد فتناول في قصيدة ست الدار فصل مائتين عامل من عمال السكة حديد عن العمل وحبس مجموعات منهم واصفاً بداية المهزلة :

    جانا وفد في المصنع زائر

    وكان الوفد دا أمريكاني

    لفة وجانا اليوم التاني

    جانا مدير المصنع ثائر

    وشو حمار العمدة العاير

    قال المصنع فيهو خسائر

    يبقى يخفضوا متين عامل

    متين عامل متين عامل

    ما يهموش الهم المصنع

    تف قرارو وفات في حالو

    مسئولين ونقابيين ..

    ما في العارض ولة أحتجَّا

    مافي الناقش ولة اترجَّا



    بالرغم من حادثة صلاح أحمد إبراهيم أشد إيلاماً في النفس من حادثة حميد إلا أننا نجد أن تناول حميد لها كان بثورية اشد من تناول صلاح الذي تناولها ببرود لا يتناسب مع الموقف أو لعله برود الحزن ، أما في إبراز الجوانب الإنسانية نجد أن حميد أيضاً تفوق على صلاح أحمد إبراهيم حين يقول حميد:

    متين عامل يبقوا هوامل ؟

    متين بيت ....؟

    متين أسرة بلا راس خيط

    متين أسرة ملوها جراح

    مليون أسرة حا تولد صاح



    فحميد يرى أن فصل العامل ليس ضياعاً له هو إنما هو ضياع لأسرة بكاملها فقرار العامل بالفصل يجر بلواه على كل الأسرة إلا أنه يري أن هذه الابتلاءات تولد جيل قوي الشكيمة يستطيع أن يقف متحديا لكل المصائب التي تمر به ، وحميد أشد إحساسا بواقع العمال من غيره فالعمال في قصائد حميد تلمحهم بوضوح شديد ، سوى في ست الدار أو الجابرية أو البحث عن ذاكرة لوطن مفقود أو عم عبد الرحيم الذي يمثل راس الذروة في العمالية أو المزارعين.. الخ.

    ولعل من أبرز السمات التي تقطع بانتماء حميد للجهات اليسارية قوله في تلغرافات ست الدار :

    والبوليس صاقع شيوعية شيوعية

    وفاكر نفسه بنبذ فينا

    أيا بوليس امك مسكينة

    البوليس عمدني شيوعي

    والتحقيق طلعني مدان

    التحقيق طبعا تحقيقهم

    أو تحقيق الأمريكان



    فالبوليس الذي أخذ يناديهم (شيوعية .. شيوعية) متعمدا نطق هذه الصفة عليهم في كلمة مرة فهو يعتقد أنه بذلك يسيء إليهم ، إلا أن حميد يسخر منه سخرية مبطنة داخل الحديث فيرد عليه رد العليم بالأمور الذي لا يري في الشيوعية أي تقليل من الشأن ( أيا بوليس أمك مسكينة) وهو يختار الأم لأنها هي التي تنشي الطفل وتلقنه الصحيح من الخطأ وتسقيه المبادئ لذلك فهو يربط أن أمه مسكينة لأنها لم تستطيع أن تميز بين الجماعات مما جعل أبنها يرى أن كلمة شيوعية تقلل من قدرهم.

    ونجد أيضاً في قصيدة السرة بت عوض الكريم أن لحميد ملامح يسارية واضحة في ذكر أعضاء الحزب الشيوعي ، والحديث عنهم ليس بالرمز بل صراحة ويسير بهم في درب الوطنية على خطى الشهيد عبد الفضيل الماظ ومن ثم يستحث الرجال أو الشعب ليسير في نفس الطريق فالحرية (شمس المشارق ) لها ميس ، ينهج نهج التحريض على لسان المرأة التي هي المحرك الأول لأفعال الرجال فهو يقول :

    فوق سكة الماظ الصعب ..

    هاشم .. حلالي قدل عريس

    هيلة آرجال عسكرن

    شمس المشارق ليها ميس

    هية آرجال هتفت نفيسة

    وحرَّقت توبا الوحيد

    عقدت شديد ... قرقابا

    حافي ودون قميص

    جرت الكرارق زي برق

    ختفت من السحارة..

    لي هاشم حريرة وقرمصيص



    فحميد هنا يتحدث بصورة واضحة لا لبس فيها عن انقلاب هاشم العطا وسقوطه فهاشم الذي قدل عريس هو هاشم العطا ، وحيث أنه بعد فشل الانقلاب والقبض على أعضائه ومحاكمتهم بالإعدام لا يرى أن تلك إلا صورة من صور النضال بل وجوهره فهم عرسان تتوجهم المرأة المحرضة (بالحريرة والقرمصيص) وهو لا يرى غير ذلك حتى وإن كانت تلك قاصمة الظهر للشيوعيين في السودان أما نفيسة التي جرت الكرارق زي برق فهي عضو الحزب الشيوعي الظاهر (نفيسة احمد إبراهيم) ، وحميد لم يكتف بهؤلاء فقط من أعضاء الحزب الشيوعي ، بل تعداه إلى بعض الأعضاء الذين لهم لمسات واضحة في نشاط الحزب الشيوعي فالسرة بيت عوض الكريم عندما نال البلد استقلاله خنقتها العبرات وليس ذلك إلا لأنها تذكرت بعضا من الرجال الذين جاهدوا لنيل الاستقلال فيقول حميد واصفا حالتها وذكراها:

    دمَّاعا رقرق في العيون ...

    عن ساعة المحجوب نضم

    وإنشر في زروق بزم



    فالمرأة التي لم تبك عند مقتل ابنها الوحيد وتماسكت بقوة ولم يهز ثباتها إلا عندما بكى الرجال من حولها نجدها تبكي أو تتهيأ للبكاء عندما يتحدث المحجوب أو تتذكر مصيبتها في زروق (وهو عبد الخالق زروق عضو الحزب الشيوعي البارز) ، فالولاء الذي يصوره حميد هنا عند المرأة السرة بت عوض الكريم هو الولاء الذي يفوق قرابة الدم





    حميد والحركة الإسلامية :

    يختلف حميد مع الأحزاب اليمينية ولكن اختلافه مع الحركة الإسلامية اختلافا شديدا في الأصول والفروع ، وهو يهاجم الحركة الإسلامية كتنظيم بضراوة لم يهاجم بها أي من الأحزاب والتنظيمات الأخرى ، فحميد ذو ميول وانتماءات يسارية يكون من الطبيعي والمنطقي أن يوجه جل عداءه للأحزاب اليمينية وليس للأحزاب الوسطية ، والحركة الإسلامية في شعر حميد أوضح من أن يبحث عنها القارئ فهو إما أن يذكرها بالاسم أو بالصفة أو باللحية أو بالشعار ففي قصيدة الجابرية يلمح للحركة بأحد شعاراتها فيقول :

    هتف الشيخ وهتفنا وراه ...

    لا ولاء لغير الله

    غاغاغا

    لا تبديل لشرع الله

    جا جا جا جا جا



    فهذا الشعار ( لا ولاء لغير الله ولا تبديل لشرع الله) كان الشعار المعروف للحركة الإسلامية أو الجبهة الإسلامية القومية أبان الانتخابات في الديمقراطية الثالثة ، وهو لا يسخر من الشعار في حد ذاته ، بل إنه يسخر من الذين يرددونه دون أن يعرفوا معناه ، فيظهره في شكل حروف لا معنى لها ، والحركة الإسلامية كتوجه ليس لحميد معها عداء ، ولكن كتنظيم وممارسات لا يخفي حميد هذا التضاد بينه وبينها ، وهو يصور كل الأشكال التقصيرية التي يراها في الحياة على أساس أن تنظيم الحركة الإسلامية هو المسئول عنها أو هو من وراءها وفي هذا شططا لا مبرر له ، وهو يرى أن الدين ليس فيهم أصيلا بل هو عباءة يلبسونها لغرض ما في أنفسهم ، وهذا الغرض أما الكسب المادي أو كسب السلطة وليس للنزاهة أو التدين ، وهو يرى أنهم غير أهل لأي شيء فهو يعترض على هذه الممارسات بعبارات بسيطة ولكنها فعالة فخذ مثلا في قوله :

    في يات كتاب ...؟

    يات حديث يا فاجر الله بيسألك



    وإذا لم يجيء بالحديث مباشرا هكذا فهو يبين لك نوعين من الحياة أو يصور لك واقع حياة في منتهى الكمال والروعة ثم يأتي فيشوه هذا الواقع ويعطيك من الإشارات ما تؤمن به أنت أن من وراءه ينتمون إلى الاتجاه الإسلامي أو الحركة الإسلامية فخذ حديثه عن الضو في بلدته وأهلها قبل أن يترك بلدته وينزح :

    الدندهوبات زي بعض ...

    شكل العديدي ورصها

    نفس العناقريب نفسها

    عفشك دا حق غيرك تشك ...

    يدخل في بالك ألف شك

    ما الحالة أصلا من بعض

    قبل انقلابات التساب

    الدنيا كلها حلتك

    تنضم مع الفي آخر البلد

    من غير تفوتها محلتك

    تحكيلو قصة تقصها

    إن نفسو فيها تحسها

    إن ما ها فيها تحسها

    حتى الأحاسيس نفسها

    ما الحالة كلها من بعض



    ثم يغير حميد أو يشوه لك هذه الصورة حتى يوصلها إلى الموت والفناء وعندما تأسف لغياب هذه الصورة وتتساءل عن الذي غير هذه الصورة تجد الجواب أوضح من أن تبحث عنه.

    وهو هنا يرمز للحركة الإسلامية باللحية التي اشتهرت بها دون الأحزاب الأخرى رغم أن كثير من أتباع بعض الأحزاب يلتحون وحتى من اتباع الحزب الشيوعي نفسه تجد الملتحين إلا أن حميد صار لا يقصد باللحية إلا أتباع الحركة الإسلامية فقط وهو يواصل في سرد الواقع فيقول :

    تحكيلو قصة تقصها

    إن نفسو فيها تحسها

    إن ما ها فيها تحسها

    حتى الأحاسيس نفسها

    ما الحالة كلها من بعض

    إلا المساخيت الدقون ...

    ختوها بين أهلك قرض

    بالدين وبالطين بالنسب ...

    بالميكرفونات بالخطب

    بالبنطلونات بالرتب ...

    فرق تسد

    تاخد قناديلك تفوت ...

    وإنكتلو في حزمة قصب

    ويوما التصد تلقى البيوت

    في ازيارها باني العنكبوت

    والحزمة شاهد في الترب

    حرسك يظمبر منها

    فرسك يكد

    لا أسيادها تسأل منها

    لا زول يرد



    فهؤلاء المساخيط أصحاب اللحى قد أشعلوا نار الفتنة بين الناس (ختوها بين أهلك قرض) وكان وقود هذه الفتنة أي شيء يساعد على إشعالها وليس الدين فقط فهم لا يتورعون في ركوب أي مركب من أجل الوصول إلى هدفهم (بالدين وبالطين بالنسب ... بالميكرفونات بالخطب بالبنطلونات بالرتب ) فوسيلتهم المناسبة هي التي توصلهم إلى الهدف سوى أكانت هذه الوسيلة هي الدين أم الثروة أم عراقة الجاه أو المظاهر أو الأحاديث أو التقليد والتسمي بالحضارة أو بقوة السلطة أو الجيش وهم في صراعهم هذا إنما يتقاتلون من أجل توافه الحياة وليس لبها لأنك تأخذ لب الحياة (القناديل ) وهم يتعاركون في التوافه (وإنكتلو في حزمة قصب) وليس هذا فقط بل وعندما ترجع إليهم تجدهم قد ماتوا وتركوا ما يتعاركون فيه وصار لهم كشاهد القبر .

    وهو يقول لك في أسلوبه الرشيق العبارة التي تنفذ إلى الصميم ففي البلاء الذي أصابه لم يقف أيا منهم كما يوصي الدين أن المسلمين كالبنيان المرصوص أو كالجسد الواحد أو أن المسلمين تتكافأ دماءهم ، لذا تجده يوضح بسخرية نظرتهم للدين عندما يقول :

    ورتني ملتي ملتي

    والموية بدلت الوجوه

    يا بادي من بيتك تتوه

    تضهب ضهب

    لو بابو مافي أو العتب ...

    احسبلو من قوز الرماد

    أو بيت أمير المؤمنين

    اللسة حيطو تسوي رب .. رب.. دررردرب





    أي كأن الدين عبارة عن قناع من الألوان التي تذهبها المياه أو كأنه مساحيق للتجميل إذا مرت عليها المياه بدلت أصل الوجه وأظهرته على حقيقته ، والملة (بفتح الميم وتشديد وفتح اللام) وهنا يقصد بها البلاء والابتلاء الذي نزل به الفيضان عليهم أظهرت له الملة (بكسر الميم وتشديد وفتح اللام) وهي الدين حدث لها الفحص والتحميص ، فهذا البلاء الذي كشف إدعاء التدين وأصاب الناس بما يشبه الذهول جعل الإنسان يتوه عن بيته لذا يجب على حميد أن يوجه كل ضال ويهديه إلى بيته بأبرز شيئين في البلدة هما (قوز الرماد وبيت أمير المؤمنين) كالملة والملة ، وحميد في كلمة أمير المؤمنين يقصد مبايعة النميري كأمير للمؤمنين بعد إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية يف 23 سبتمبر 1983م .

    وينفي حميد عن اتباع الحركة الإسلامية الدين كاعتقاد يؤثر على نواحي الحياة فهم خفاف الذمم رغم ثقل التقييم وهم متسخي الضمائر رغم نظافة الجلابيب أما أقوالهم عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فإنما هو إدعاء فقط أو (صلبطة) دون إيمان وحميد يقول أن الزمن مهما طال فمصيره إلى زوال وإلى كشف الحقيقة :

    ضر يا جلاليب الرهاف

    ذمما خفاف

    ضر يا ضرر ضر يادقين

    منصلبطين عرق النبي ؟

    بالنار بتلعبوا يا عوين ؟

    لي الحول قريب درب السلامة ...

    تخوجوا بي درب الحرب ؟

    غنى قلب ولا الحرب بقرة حلب

    والأرض طين ؟

    ما كان عمل ... ما كان دا دين

    يا أرزقية تخمجو دم

    والدم مو موية ومانا طين



    فهم في رأيه أسوأ الناس ؛ لأن إدعاء أنهم يفعلون ما يأمر به الدين يجعل الناس تقف ضد الدين لأجلهم ، فهذا لعب بالنار فالدين سلام وأمن وليس حرب وقتال أما هم المتسلقين على غيرهم – أرزقية – فليس هذا الذي يفعلونه يمت إلى الدين بصلة وليس هو عمل يفخر به ، وهم يلعبون بدماء الناس (تخمجوا دم ) ولكن حميد يستنكر عليهم هذا في أن هذا الدم ليس رخيصا ليتلاعبوا به ، فهو ليس مياه وليس الإنسان طينا رخيصا لأن هذا الطين نفخ الله فيه من الروح ما جعله يسمو عن الطين كقيمة وإن كان منه كتكوين .

    وفي قصيدة الجابرية يشير للحركة الإسلامية بالخمار فهو عندما يصف شيخ البلة يصفه وصفا دقيقا بعد أن تم انتخابه في دائرة الجابرية ثم أختفي عنها وعاد في الانتخابات التالية فحميد هنا يقول ليبين انتماءه إلى الحركة الإسلامية ورفاهية عيشه :

    أول يوم شفناه ...

    يوم ما شفنا اللاندكروزر اللونا مخطط

    والبنوت الراسها مربط

    ولوري مكوش أقمشة سكر

    حتى الفوفو ... عتل تؤجر



    فرفاهية العيش بدأت بالعربة اللاندكروزر المميزة وبالأتباع من المريدين الذين يحيطون به ولكل منهم هدفه فالتموين موجود من الأقمشة حتى السكر تأتي به اللواري بل حتى مسحوق الفول السوداني (الفوفو) بل حتى الأجر في الآخرة إذا أنزلت أو رفعت (عتل تؤجر) رغم أن كلمة تؤجر تؤخذ بمعنى الأجر والأجرة وكلاهما حافز للعمل.

    كما أن حميد لا يبخل على عدوه التقليدي بأن يجرده من كل المعاني الطيبة ابتداء من الوطنية وحتى أصغر الأشياء ، بل أنه يرى أن كل من لا يحمل هذه الأشياء الطيبة أي قدر فهو منهم ففي قصيدة السرة بت عوض الكريم التي يصورها على أنها امرأة كبيرة خبرت الحياة وعركتها الحياة وصارت في المكان الذي تعطي فيه النصيحة فإن نصيحتها تكون بعصارة تجربتها فهي ترفض المساعدة كفرد بإباء وشمم ، فالبلد كمجموع هو الأولى بالمساعدة والمروءة ليست إلا له فكرامتك يجب أن تحفظها لتحفظك الكرامة فالموت هو ما تنتهي إليه كل الأشياء المادية ولكن الموت الحقيقي هو أن تكون حيا كميت والحياة الحقيقية هي وسط المتعبين والكادحين أو المساكين حتى ولو بدت كالجحيم أما الحياة وسط المرفهين – الفقر بكسر الفاء - فليست هذه حياة أما إذا لم تستطيع أن تفعل أي من هذا فتابع أصحاب اللحى وكن منهم :

    مديت يميني اساعدا

    مدت يسارا تباعدا

    قالت لي : آبوي وفِّر ضراعك للبلد

    وادخر مروتك آولد لي يوم بحين

    أحفض كرامتك تحفضك

    الموت ولا العيش المهين

    الموت نفاد الما نفد

    الموت حياة الميتين

    أختوها جنة مع الفِقَر

    وأدخل جحيم المتعبين

    وإن ما قدرت على دا آبوي...

    ربيلك دقين

    وصنت ... ربيلك دقين

    وضحكت ... حمدنا الله الحنون

    جِيدن خلقنا بلا دقون

    وضحكنا زييين

    ساقت حديثا على الخراب

    الشوفتو ما دايرالا عين



    فالسرة كامرأة تري أن الله إذا خلقها دون لحية فهذه نعمة كبيرة لها لأنها ترى اللحية إشارة معينة لأشياء أخرى غير التدين .

    وفي قصيدة الضو وجهجهة التساب يسمى حميد الحركة الإسلامية بالكلمة التي درج الشعب أو الناس على أن ينادوا بها المنتمين للتنظيم الإسلامي فحميد يقول :

    السبحي والكوز مو ألتا

    تشبه أمير المؤمنين ...

    باكر يقولوا سرقتها

    فنننن يفنها في البحر



    فالسبحة والكوز ليست ملكا لها ولا تشبه ست نور إنما تشبه أمير المؤمنين فإذا أخذتها سوف تتهم بالسرقة ، لذا لا يجد الضو غير أن يقذف بها إلى البحر لتغرقا فيه غير آسف عليهما ، هذا ما يبدو من صياغة الأبيات أما إذا أخذنا ما وراء الأسطر فحميد يقصد بالسبحة التظاهر بالدين والإدعاء بالتدين أما الكوز فهم ما درج منافسي وأعداء الحركة الإسلامية على مناداة أتباع الحركة به ، أما كلمة تشبه أمير المؤمنين فهي سخريته من الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري الذي أعلن الشريعة ، وحميد يرى أن هذا إنما هو تشبه مظهري وساذج ، كما أنه يقول باكر يقولوا سرقتها فهذا كان إشارة للاتهامات الجاهزة التي كانت توزع شمالا ويمينا دون تمحيص لذلك فهو يتخلص منها بأن يقذفها إلى البحر وقذفها إلى البحر إخفاء لها كأن حميد يريد أن يقذف بما رمز له حقيقة في البحر .

    وحميد في نفس قصيدة الضو وجهجهة التساب يجعل الحسن الصبي الصغير يسامر والده الضو ويحكي له ببراءة الطفولة ما رأى ، وهو يصور الأحداث كأنك تشاهدها وينقل لك بلسان الطفل الشيء الذي تعلم أنت أن وراءه ما وراءه ، وهو من خلال ما يقصه على والده لا يريد أن يصل لشيء سوى أن يخبر والده بما حدث في غيابه ، كما أن وصفه كطفل وصفا مجردا ليس عليه عاطفة فيصف الرجال بالكثرة على حسب عادة الأطفال ويلفت انتباهه الدقن الكبير ، ويصف والدته باسمها فقط دون أي صفة ، وهذا التجرد يجعل المتلقي ينتبه للصفات المجردة أكثر من أي شيء ويصف كيف أن أمة بكت دون أن يتأثر لها على غير عادة الأطفال عند بكاء أمهاتهم ولكن الحسن كان يصور الأحداث ويختزنها ليبثها لوالده مما شغله عن الاهتمام بوالدته وبكاءها :

    في مرة جونا رجال كبار ... كبار

    غمتولي في إيدي قروش كتار ... كتار

    أمون شالتا فنتا

    الراجل أب دقناً كبير ...

    سبالها دنقر لقطا

    وأنا قم بكيت

    أمونة فكت صرتا ...

    وأدتني صندوق بسكويت

    وأنا قم سكت أمونة شوووو قامت بكت



    فبكاء أمونة لعلمها بما وراء الأشياء ، وسكوته كطفل إنما لجهله بما يريد منه الراجل أب دقنا كبير ، هذا الرجل الخير الذي غمت له في يده كمية كبيرة من القروش لم تتركها أمونة له بل قذفت بها إلى الأرض ، واستعاضت عنها بصندوق بسكويت كانت تدخره في ثوبها ، أما ذلك الرجل فقد (سبالها) لعنها ولعن معها أشياء كثيرة وانحنى ليجمع ما تناثر من هذه الأموال .

    كما نجد في نفس القصيدة وبنفس براءة الأطفال وكثرة تساؤلاتهم التي أستخدمها حميد ليوصل ما يريد قوله على لسان الحسن وهو يدير الحوار مع الضو ، فالحسن يتساءل عن كل شيء ويفترض له الحلول المباشرة والسهلة التي لا يستطيع الكبار أن يتوصلوا لها وهو بأسئلته هذه يثقل ضمير الضو ويمتحن قدرته على الإقناع ، كما يضع صبر أمونة على المحك فلا أمونة ولا الضو استطاعا أن يقنعاه بل قهراه على أن ينام دون أن يجيبا أسئلته التي تؤرقه وهي في الحقيقة إذا تغاضينا عن السؤال نجد أنه واقع وأفكار حميد وتساؤلاته للجميع فخذ في قصيدة الضو وجهجهة التساب نجد الحوار يدور كالآتي بين الحسن والضو وضع في انتباهك أنك الضو :

    صح يابا في الجامع في تمساح إنبطح؟

    أي آلحسن

    يابا التماسيح مسلمين ؟؟

    لا مجرمين

    لابسين دقون شايلين سبح

    ما تضربوهم بالسلاح وتكتلوهم تاح ترح

    والضو سرح ... والضو سرح

    وأمونة من البعييد حلقا إنجرح

    نوم يا قشر ...

    نوم قبال أجيك



    فهذا الطفل على صغر سنه – من وجهة نظر حميد – يري أن ضرب التماسيح الذين يلبسون اللحى والسبح وقتلهم بالسلاح هو الأمر الصحيح الذي لا يريد من يصححه ففي التساؤل عن التمساح الذي رقد واستقر في الجامع معنى غير ما يبدو عليه ، وعندما يجيب الأب بصحة الخبر يكون التساؤل عن إسلام هذا التمساح الذي أتخذ بيت الله مقرا فعندما تأتيه الإجابة من أبيه بالنفي يكون قد وصل بعقله الصغير إلى لب القضية ؛ فطالما أنه غير مسلم ويتخذ من المسلمين صفاتهم فيجب طرده أو قتله ولو حتى بقوة السلاح ، ولكن لا يستطيع أبوه أن يستطرد مع في الحديث ويخبره بتعقد الأمر وأنه ليس بهذه البساطة لذا تصيح أمه بأكثر ما تستطيع – حلقا أتجرح – تطلب منه أن ينام (نوم آقشر).

    وإذا رجعنا إلى قصيدة السرة بت عوض الكريم نجد قوله :

    وما جاتا راحة طلقتا إلا التعمر طلقتا

    بي بناديقاً حقتا بي ها الشوارع وبقتا

    تنسد منك دقتا ودم خلقتا ومر شرقتا

    ونار شنقتا يا دقن ... دينك سِرقتا؟



    نجد أن حميد هنا يتساءل تساؤلا استنكاريا فهل دينك هو السرقة ؟ والسؤال يخرج عن معناه الحقيقي لتقرير واقع أن الدين يتخذه هذا الرجل كغطاء لفعل ما يريد ومنها السرقة وهو يصفه بأوضح ما فيه فلا يقول له إلا ( يا دقن ) كأنما ليس هذا الرجل إلا لحية فقط وهنا إطلاق الصفة وأراد الموصوف .

    وحميد يربط الظلم ربطا بينا بالحركة الإسلامية أو باللحية أو الدقن ويجعلها المرادف الطبيعي للظلم ، ولأن بيئة حميد بيئة زراعية أو ريفية نجده يختار أسوأ ما في البيئة الزراعية من المزروعات التي تنمو دون رعاية بل وتكون وبالا على الزرع والمزارع على حد السواء ولا يسلم منها أحد :

    ساعة مروق الإنجليز..

    قلنا الظلم راح وانقضى

    تاريهو كمتر قام دقون

    حلفا وعُشر ... معيوقا نال

    دمسييس ... ضريسا حسكنيت

    شوك جمال



    فمع ثمانية أصناف من النباتات الشوكية أو الطفيلية يدمج حميد اللحى فحين تكون الدقون مرادف أو مصاحب للـ(الحلفا والعشر والمعيوقة والنال والدمسيس والضريسة والحسكنيت وشوك الجمال ) فماذا تبقى لها وحميد يجردها من الإسلام ثم لا ينسى أن يبين إسلامه هو ، فبعد ذلك كله تحمد السرة بت عوض الكريم الله وتصفه بصفة الربوبية للعالمين وتقر له بالحمد على نعمه الكثير التي منها النظر والسمع ونعمة الإنجاب ، وكذلك تحمده على تفتح بصيرتها فقلبها ليس أعمى ولم تغير في دينها بالممارسة أو الاعتقاد وهو بذلك يوحي للغير أن غيرها قد غير دينه 123

    وحميد يستنكر على لسان السرة بت عوض الكريم أن يكون هناك من لم يدرك حتى الآن بل تستنكر أن يكون بعضهم متذبذب الإدراك أو بين بين فخذ قولها :

    معقول في ناساً ما وعت ؟

    لي الليلة بالم بين بين ؟

    وكيف انتو نوحنا من الدعت

    ...مؤمنا من جُحر الدقون

    الكاكي يلدغ مرتين ؟

    والتالتة قرصة أبو الحصين



    فحميد في عداءه الشديد للحركة وللعسكرية ، فيجعل للحى جحورا كأنها أفاعي فهي تلدغ كما تلدغ الأفاعي فالكاكي هو اللباس العسكري ويقصد به حميد الحكومات العسكرية فكلمة يلدغ مرتين يقصد حكومة الفريق إبراهيم عبود وحكومة المشير جعفر محمد نميري أما الحكومة العسكرية الثالثة فيقصد بها ثورة الإنقاذ الوطني أو حكومة الفريق عمر حسن أحمد البشير .

    وحميد لا يرى في معركته مع الحركة الإسلامية أي حدود أو قوانين يجب الالتزام بها فهو ينسب لهم كلما يريد أن ينسبه سوى أكان صحيحا أم لم يكن .





    الحكمة في شعر حميد :

    شعر حميد به ذلك النوع البسيط من الحكم التي تجعلك تفكر كثيراً في معناه وهو السهل الممتنع الذي تشعر كأنك أنت الذي قلته ولكن في نفس اللحظة تحس أن المعنى كان غائباً عليك ، وروعة حكم حميد أنها مستمدة من الحياة العادية للإنسان ، وفي بعض الأحيان يعمد للحكايات الخرافية ليستمد منها حكمه إلا أنه لا يوغل كثيرا في هذه الناحية ومن الحكم التي نطقها حميد ببساطته المتناهية وضرب مثلا هو أمام ناظرنا منذ القدم خذ قوله :

    بما إنو المطر نازل ...

    طبيعي إنو البحر ما راقْ

    كما إنو العُكار من طين...

    كمان من طين بجي الروَّاقْ



    برغم أن تعكير المياه ناتج عن كمية الطين الذائبة فيه ، إلا أن الروَّاقْ كذلك من الطين ، فالطين هو الذي يعكر المياه ... وكذلك هو الذي يصفيها ، وأرى أن محاولة تفسير مفهوم هذه الأبيات لن ينتج عنه إلا إفساد المعنى بالتفسير .

    نجد في قصيدة السرة بت عوض الكريم وصية غاية في الأهمية تخاطب بها السرة حميد على عادة النساء المتقدمات في السن أو الحبوبات في توصية الأبناء وأبناء الأبناء بعصارة تجاربهم في شكل كلمات قليلة حيث تقول له عندما مدَّ لها يده ليرفعها مساعداً بعد أن أبعدت يده بيدها تقول له لتساعده في الحياة:

    أحفض كرامتك تحفضك ...

    الموت ولا العيش المهين

    الموت نفاد الما نفد...

    الموت حياة الميتين



    فالسرة ترى أن كرامة الإنسان تحفظه إذا حفظها وحميد أخذ هذا المعني من مثل دارج حيث المقولة (لسانك حصانك إن هنتو هانك وإن صنتو صانك).

    وفي قصيدة الضو وجهجهة التساب رغم أن الحديث أو القصيدة تدور عن واقع المعاناة والكوارث إلا أن الوضع يكون مناسبا لبث الحكمة التي يرغب حميد في بذرها في النفوس ، فليس الوضع وضع من يستكين للمصائب بل يتخذ من هذا الوضع وقود لدفع الناس إلى الثورة على الوضع الحاصل فيتحدث حميد وهو يؤهل المتلقي ويحضره ليقول له :

    حقاً تحرسو ولا بيجي ...

    حقك تقاوي وتقلعو



    فالحق لا يمنح لأنه يؤخذ أخذا فمهما انتظرت أن يمنحك أحدا حقا لك فأنت ضعيف لن تناله ، وإن نلته يكون تفضلا عليك وليس لأنه حق لك ، فالحق تبحث عنه وتقاتل من أجله لتأخذه وأنت متيقن أنه حق تملكه ، وفي هذه النقطة يتطابق حميد مع المقولة القديمة ( ما ضاع حق ووراءه مطالب).

    والأجمل من هذا أن حميد لا يبشرك بأنك إذا طالبت بما تراه حقا فإنك سوف تأخذه بسهولة ، بل هو يبشرك بقوة الصراع من أجل هذا الحق ورغم ذلك عليك أن تتمسك به ، فعليك بعد أن تؤمن بهذا أن تتأهل لهذا الصراع ولا تدخله ضعيفا وغير واثق ولا تتوقع أن تفوز فيه من أول مرة لأن دأب أي شيء ألا يتم بسهولة وفي صراعك من أجل الحق لا تتورع في أن تجابه الكل سواء قريبا(أمسك شباطين الصراع) أو بعيدا ( الما بتحصلو فلعو) فالقريب واضح الصراع أما البعيد فيجب أن ترميه بالحجارة (وهنا ألمح مقولة عمرو بن أم كلثوم في وصف شجاعة قومه "نطاعن ما تراخى الناس عنا * ونضرب بالسيف إذا غشينا " وهو في نفس المعنى تقريبا) وهو يسد عليك باب الاعتذار فالله سبحانه وتعالى سوف يكون في عونك ولا تخشى أن يقطع عليك باب الرزق أو يقفله ، فربك الكريم يتعهدك بالحفظ ، وقد أخذ حميد هذه الأبيات من مقولة الشاعر بادي والله ما شقالو حنكا ضيعو ... والله ما سوالو طفلا ما سقاهو ورضعو) فحميد بعد أن يمهد الطريق بأن يتحدث عن الظلم الواقع عليك ، وأن من ظلمك لا يخاف الله ولا الحساب ولا يستحي ولا يكتفي يحضك على أخذ حقك كاملا فيقول :

    أمسك شباطين الصراع ..

    الما بتحصلو فلعو

    ثبت لي بالك لا يلين ...

    أنقح ترابك وأزرعو

    عقبان أبو الإنسان حنين ...

    ما شق حنكاً ضيعو



    فالله برحمته الواسعة لن يضيعك فالحق هو أحد أسماء الله تعالى والمطالبة بالحق ليست وقفا على فرد واحد بل يجب أن يتكاتف الكل من أجلها ، فالوحدة ومضاء العزيمة هما خير رصيد للمطالبة بالحق ، وهنا نلمح تلك القصة القديمة عن الرجل الطاعن في السن والذي طلب من أبناءه أن يحضر كل واحد منهم عصاتين ، وعندما أحضروها له طلب من كل واحد منهم أن يمسك بعصاه واحدة من العصاتين ويكسرها إلى اثنين ، وبالفعل نجح جميع الأبناء في ذلك بمنتهى السهولة ، ثم طلب منهم أن يجمعوا كل العصي المتبقية ثم حزمها في حزمة واحدة وطلب منهم أن يكسروها إلى اثنين ففشلوا جميعا في ذلك فقال لهم الأب إنما أنتم كمثل هذه العصي إن ذهب كل واحد بمفرده سهل كسره ولكن إن اجتمعتم صعب كسركم على كل من يحاول.

    وحميد اخذ لب الحكاية وصاغها بطريقته الخاصة بعد أن مهد لها فالعزيمة الثابتة ومن ثم الاتحاد أو الاجتماع على ما تريد:

    ما شال عزيمتنا الهوا ..

    والبندق المربوط سوا

    ما في أي ريح بتفرزعو



    ويجب نبذ الصغائر التي تقف في الطريق ولا تستهين بها أو بنفسك فأنا نصف المجتمع وأنت النصف الآخر ، الصغائر التي يستهين بها الفرد تلد العظائم فمستعظم النار من مستصغر الشرر

    أنت وأنا ...

    نار السعف كان ولعت بيناتنا ما تستهونا

    الجو شرارة تولعو



    وحميد يرى أن أقصر الطرق هي المواجهة بل وربما يتعداها إلى المجابهة والمبادرة بالشيء الذي لابد أن يقع سواء أكان طيبا أم سيئا فالذي يتقدمك بالمحنة أتبعه أما الذي يمد إصبعه مبادئ بالشر فيجب أن تضع إصبعك على عينه ولا تخشى شيء

    الزول بحن ... حن يا ولد ... حناً يقدمك أتبعو

    وتش عينو دجال الضلال ...قبال يمدلك أصبعو



    وقد سبق حميد إلى هذا الموضع عنترة العبسي حين قال يخاطب عبلة:

    أثني علي بما علمـت فإنني سمح مخالطتي إذا أنا لم اظلم

    فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل مـر مـذاقته كطـعم العلـقم

    وإذا صحوت فما أقصر عن ندى وكما علمت شمائلي تكرمي



    فعنترة الذي يرى نفسه إذا كنت ترغب في معاشرته سمح في المخالطة ، أما إذا كنت تريد أن تظلمه فهو يظلمك ظلما أشد وأنكى مما تريد أن تظلمه له ، فالشاعران اتفقا في المعنى من حيث أن تكون مكملا لمن يبتدئ لك بشيء سواء أكان بالخير أم الشر ، إلا أن عنترة يتحدث عن نفسه في سبيل الفخر أمام المحبوبة أما حميد فهو يتحدث إلى غيره كوصايا ومبادئ ثابتة ليست للنفس فقط بل وللغير وليس فخرا كما أن عنترة أحتاج إلى الكثير من الكلمات كي يوصل الفكرة التي يريد أن يقولها بينما نجد أن حميد نقل الفكرة بأقل العبارات وأبسط الجمل ، ولكن عنترة كان أسبق إلى المعنى من حميد.

    وحميد رجل يتحدث من بيئته الطبيعة ويسخرها لخدمة أهدافه التي يؤمن بها، فهو يحرض على الاجتماع والثورة ، ففي اجتماع الضعاف قوة ترهب الأقوياء ، فكل ضعيف إذا جمع ضعفه إلى غيره من الضعفاء لم يتراكم الضعف بل انقلب الضعف إلى قوة فخذ قوله :

    هبن يا طيور من جم …

    رخمتين فوق صقر كتلنو



    ألا تري أن حديثه في هذه الناحية ليس فيه أي تكلف بل أنك تكاد تقسم أنه نظر إلى المقولة المتداولة التي تقول مرفعينين كتلو أسد) وإن فعل فقد أبدلها بحيث صارت في القالب الشعري والموسيقي أفضل مما في الحكمة السابقة وألطف في النفس وقعا من سابقتها.

    وفي استصحابه للبيئة نلمح كذلك قوله في قصيدة السرة بت عوض الكريم تلك المرأة صاحبة التجارب توصى ببساطة ومن بيئتها فتقول :

    الشوك بمرق الشوك ..

    شوكاً فينا شين

    مراقو رب العِزة شعبا ما بيلين



    فعند دخول الشوكة في القدم يكون استخراجها صعبا لدقة جسمها وصعوبة الإمساك بها لذلك يكون استخراجها بالأظافر شاقا وقد درج الناس على استخراج الشوكة بالإبرة من الجسم حيث تظل تسحب بطرف الإبرة الحاد جسم الشوكة الذي يستجيب في العادة وتخرج الشوكة في النهاية ، وفي الوقت الذي لا تجد فيه الإبرة تأخذ شوكة اغلظ من رفيقتها وتظل تسحب بطرفها المدبب جسم الشوكة وأيضا تخرج الشوكة في النهاية ، وهذه الحكمة من الواقع الحياتي المعاش في الأرياف أو البادية إلا أنه نجد كذلك مطابقة لهذه الأبيات في الأمثال التي بغرب السودان حيث أننا نجد في غرب السودان مقولة قديمة تقول أبنقدح بعرفي محل بعضي إخيو) فالسلاحف تعرف تماما كيف تأذي بعضها البعض وأي جنس من الأجناس يعرف مقتل الجنس الآخر لذلك يأتي حميد بهذه الحكمة (فالشوك يمرق الشوك) ويقفز مباشرة إلى هدفه (شوكا فينا شين) فمن الذي يستطيع استخراج هذا الشوك؟! (مراقو رب العزة ... شعبا ما بيلين) فهل عرفت ما هو الشوك المقصود هنا ؟ إن لم تعرفه فانظر إلى البيت الذي بعده ( الجاية حيكومتنا لكن الزمن دبوية ...الخ)

    كما نجد في الحكمة في شعر حميد بعض الجوانب المضيئة الأخرى فهو لا يحب الجدل بقدر حبه للعمل إلا أنه يعلم أنه الطريق إلى المعرفة لذا يؤمن بالجدل والمجادلة في حدود ويدافع عنها لهدف فيقول لما الجدل يبقى الدجل والأيدلوجيا هي البواليس كتال كتل ليه البلاد ما تستباح يوماتي كل ما الليل دخل؟!) إلا أنه يقف موقفا معاديا للجدال عندما يشغل الناس عن بقية الأهداف في الحياة فالقوت أهم من الأحديث بكل متطلباتها والأحلام الكبيرة التي تظل تشغل الإنسان عن تحقيق أحلامه الممكنة فهو يقف ضدها ، لننظر إلى قوله:

    فالناس بدل عن نقتا

    التنلقى فكة ريقتا

    وبدل القصور الفي الخيال التبقى

    ماهلة كريقتا



    أليس من الممكن أن نقول ببساطة أنه ينادي في القالب الحكيم بـ(القناعة أو فن الممكن)؟.





    موافقات حميد لشعراء سابقين :

    نجد حميد يوافق عدداً من الشعراء في عدة معاني حتى إنها لتتطابق تطابق الأثر والحافر فخذ مثلاً قول حميد :

    عِرِيق الحب نبض قابض

    متل قبض الحروف في اسمي



    نجد أن هذا المعنى برغم غرابته وأنه يمس شيئاً في النفس إلا أن هناك من سبق حميد في هذا المعنى وتفوق فيه عليه فخذ قول مجنون ليلى حينما يقول :



    ولقد ثبتت في القلب منك محبة كما ثبتت في الراحتين الأصابعُ



    فمجنون ليلى ذهب إلى معنى أشد غوراً من حميد واقرب وقعاً في النفس وأفصح في المعنى وأكثر ملاحة وأبعد تعلقاً وغرابة أما حميد ففي هذا المعنى كان أكثر ألفة منه وأرق لحناً في كلماته ولا غرابة لأن حميد يستخدم المفردة العامية التي هي أقرب إلى النفس من الفصحى بالنسبة للمتلقي العامي الذي يعنى حميد بمخاطبته كما أن حميد تفوق على مجنون ليلي في أنه جعل عرق الحب هو الجزئيات الصغيرة التي تكونه كما تكون الحروف الاسم فالأصابع إذا بترت عن اليد تعجز اليد عن العمل ولكنها تظل يدا رغم ذلك بينما أن الحروف إذا بترت عن الاسم فقد الاسم والحروف معناهم ولكن ثبات الأصابع في اليدين أقوى من ثبات الحروف في الاسم .

    وفي قصيدة السرة بت عوض الكريم يقول حميد على لسان السرة :



    أحفض كرامتك تحفضك ...

    الموت ولا العيش المهين

    الموت نفاد الما نفد ...

    الموت حياة الميتين



    ففي هذه الأبيات التي تذخر بالكرامة والأنفة وعزة النفس وتحوي نفحة من الحكمة نجد أن في معلقة لبيد يقول :

    آذنتنا بينها أسماءُ رُبَّ ثاويٍ يمل منه الثواء



    أو كما يقول الآخر :

    وقد مات أقوام فما فقدوا وعاش أقوام وهم في الناس أموات

    أو :

    وقد مات أقوام فما ماتت فضائلهم وعاش أقوام وهم في الناس أمواتُ



    ويوافق حميد أحد الشعراء السابقين في المعنى ويختلف معه في الصياغة حيث يقول حميد :

    بكَّاك بكيتي .. سكت برايا

    كنت حافي علي إبر .

    بتَّ حابي علي شظايا



    فحميد يري أن حاله صار من سيئ إلى أسوأ فقد كان حافي الأرجل يمشي على رؤوس الإبر وتغير حاله إلى الأسوأ حيث صار يحبو على شظايا الزجاج ونجد في الشعر القديم القائل :

    والمستجير بعمرٍ عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنارِ



    وكذلك يتوافق حميد مع عمرو بن أبي ريشة حيث يقول حميد :

    هبن يا طيور من جم

    رخمتين فوق صقر كتلنو



    ويقول أبي ريشة في عقابه الهرم :

    وبغاث الطير تدفعه بالمخـ لب الغض والجناح القصير



    فكلا الشاعرين يتحدث عن تكالب الضعاف على القوي إلا أن أبي ريشة ينظر لهذه الحالة على أنها من عاديات الدهر حيث أذلت هذا الطائر القوي وجعلت الأقل منه يتعدى عليه ويهزمه جاعلا من هذا الموقف صورة مأسوية لعزيز ذل أما حميد فهو يخاطب الضعاف ليبرهن لهم أن قوة الضعفاء تكمن في اتحادهم فالقوة الحقيقة لهم في اجتماعهم وحجته التي صاغها هي أن رخمتين تقتلا صقراً ورغم أن الشاعرين يختلفان في المقصد إلا أن الزاوية التي تناول كل منها هذه الصورة لا ينكر أحد روعتها ولا يستطيع أحد أن يقول بتفوق أحد على الثاني .

    أما ما أتفق فيه حميد مع أبي ريشه قول حميد :

    ما كان مهابات الصقور

    (نخت) تحت رخة رخم



    فهذه الأبيات وقول أبي ريشة :

    وبغاث الطير تدفعه بالمخـ لب الغض والجناح القصير



    لهي في نفس المعنى ونفس الغرض وفي هذا توافق الشاعران كما يتوافق الأثر والحافر دون زيادة أو نقصان.

    ولعل أيضاً من الموافقات العجيبة للشعراء السابقين قول حميد :

    بأنو الحال مغّير زين ..

    مغيرّ كان قِصِرْ الزمن كان طالْ



    فدوام الأشياء على حالاتها من المستحيل فلا شيء يبقى دوما بحالته فالتغير من سنن الحياة التي لا بد منها وخذ القول :

    لكل شيء إذا ما تم نقصـانُ فلا يغر بطيب العيش إنسانُ

    هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمانُ



    وإذا فاضلنا بين الاثنين نجد أن الثاني قد تناول المعنى في صورة أبهى من الأول وأوضح وأبان أكثر منه إلا أن عبارات الأول أقل من الثاني وأرق حاشية منه ورغم أن المعنى واحد في الحالين إلا أن الثاني ابرع من الأول على حسب ما أرى في رأيي الشخصي.

    وحميد لعله نظر إلى المعنى في قول الشاعر :

    كقابض كفيه على الماء وخانته فروج الأصابع

    حينما قال في قصيدة البحث عن ذاكرة لوطن مفقود :

    وممتنعة زي قبض المياه



    ولعل حميد لم يقرأ أو يمر به هذا البيت ولعله توارد خواطر أو كما قيل "أن المعنى ملقى في قارعة الطريق لكل من ينظر ".

    وحميد في قصيدة آهـيا غبش يستطرد إلى أن يقول :



    لا بتكبر راسي فورة ..

    لا بتصغرني الهزائم



    أي أنه واقف على مبدأه دون أي تغيير فهو نفسه هو إن أقبلت عليه الدنيا أو أدبرت لأن تقلبات الدنيا دائمة فإذا أسعدت اليوم أتعست غدا ولعل حميد في حديثه هذا نظر إلى قول زهير بن أبي سلمى أو وافقه دون علم به إذ يقول زهير في مدح صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم):

    ليسوا مفاريحا إذا نالت رماحهم قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا



    فهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم لا يفرحهم انتصارهم على غيرهم لأنهم يعلمون أن النصر من عند الله يهبه لمن يشاء وهو نصر لله ولدينه وليس لهم أما إذا ما انتصر عليهم غيرهم فهنا ليس هناك أي جزع كما أن النصر من عند الله فهم يتقبلون الأمر إذا لم يكن كذلك فثباتهم على مبدأ الإيمان لا يزيده النصر ولا تنقصه الهزيمة ، وكذلك يري حميد أن رأسه لا يكبر بالفورة ولا يصغر إذا ما هزم لأن المبدأ هو الثبات على المواقف بغض النظر عن النتائج لأن المبدأ ثابت بالقناعة بينما النصر والهزيمة لها أسباب أخرى .

    وحميد يوافق أيضاً أحد شعراء العرب القدامى حيث يقول حميد في نفس القصيدة آهـيا غبش:

    إنتي جاهنا ..

    والتقا الطلقت وشينا ..

    فرقت غُمَّة جباهنا

    فرَّجت في الحارة ضيقنا



    فنورا لدى حميد هي الجاه والعز وهي الذخر الذي يدخره للدهر وهي الفرج الذي ينتظرونه ويفرد جباههم وهي فرج الضيق فنورا كمثال لكل هذا كمثال الكريم الذي يفرد وجهه ليس عن سعة العيش ولكن لأن هذا طبعه في مقابلة ضيوفه وقد قال الشاعر العربي القديم في كرم الضيافة :

    أُضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب

    وما الإكـرام للضيـف أن يكثر القرى لكن وجه الكريم خصيب



    فكما أن الإكرام ليس بكثرة القرى فكذلك نورا لدى حميد ليست مخزونا من العيش فقد طلقت وجوههم ليس لأنها تلقي عليهم الطرف والنكات بل مثل قول الآخر (وجه الكريم خصيب).

    وكذلك خذ قول حميد :

    وتحاحيهن …

    غناكن نيي ..

    غنا الوهمي

    ويهتفوا زي كلاب الحي ..

    علي الأغراب



    فكلاب الحي أشد ما تكون نبحا على الأغراب عنها والأغراب في المنظر وهو بهذا لم يأتي جديد فخذ قول عمرو بن أم كلثوم حينما أراد أن يبين أنه طال عليه الأمد في الحرب ولبس لامتها فقد وصف دخوله إلى حي قومه بأن الكلاب أنكرته ونبحت فيه وفرت من أمامه :

    وقد هرت كلاب الحي منا وشذبنا قتادة من يلينا



    وكذلك يوافق حميد الشاعر أحمد مطر موافقة غاية في الخفاء فحميد يقول مخاطبا أصحاب القرار :

    يا أرزقية تخمجو دم

    والدم مو موية ومانا طين



    فحميد يستنكر عليهم هذا في أن هذا الدم ليس رخيصا ليتلاعبوا به ، فهو ليس مياه وليس الإنسان طينا رخيصا لأن هذا الطين نفخ الله فيه من الروح ما جعله يسمو عن الطين كقيمة وإن كان منه كتكوين أما أحمد مطر فيقول :

    أنا ضد أحزاب الشقاء لأنني أسمى من الصلصـال والنيران

    أنا ضد إذعان القطيع وضد من باعوا القطيع بأبخس الأثمان



    فإنكار علة أن الإنسان من طين أتفق عليها الشاعران وأحمد مطر تفوق على حميد من حيث نفاذه إلى لب الموضوع بصورة أوضح إلا أن حميد أوغل في المعنى مع قلة الألفاظ التي استخدمها ولا أنكر إجادتهما الاثنان للوصول إلى غايتهم أن الإنسان في رفعة عن الصلصال أو الطين .





    ملامح متفردة لدى حميد:

    إن جميع قصائد حميد تخلو من الغزل الحسي والتحدث بمفاتن المرأة فحميد لا يتحدث عن جمال الخدود ولا صفاء العيون ولا شموخ النهود ولا استواء القد وصغر الخصر .. الخ بل نجد أن حميد يتحدث عن جمال من نوع آخر لا تجده عند غيره من الشعراء بهذه الكثرة فالفضيلة عند حميد ليست فضيلة المراقبة اللصيقة للمرأة لأن حميد على قناعة من أن هذه ليست فضيلة بل هي حراسة ولنفهم هذا الحديث فلنقارن بين موقفين لامرأتين إحداهن حبيبة المنخل اليشكري والثانية السرة بت عوض الكريم فالمنخل يقول على لسان حبيبته :

    ألا لا تـلجـن دارنـا إن أبانـا رجـل غـائر

    قلـت إنـي طـالب غرة وسـيفي صـارم باتـر

    قالت حولي أخـوة سبعة قلت فإني غالـب قاهـر

    قالت فإن البحر من دوننا قلـت فإني سابـح ماهر

    قالت فإن القصر من بيننا قلت فإني فوقه ظـاهر

    قالـت فإن الله مـن فوقنا قلت فربي راحـم غافر

    قالت لقـد أعييتنا حجـة فأت إذا ما هجع السامر

    وأسقط علينا كسقوط الندى ليلـة لا ناهٍ ولا زاجـر

    فهذه المرأة التي وضعت في قصر عالي تحيط به المياه من كل جانب وقام على حراستها أكثر الناس حفاظا عليها وهم سبعة أخوة ثم أشرف عليهم والدهم لكي يحافظوا على عفة هذه المرأة إلا أن كل ذلك لم يمنعها من فعل ما تريد ، فهذه العفة ليست عفة نابعة عن أصالة وقناعة بها بل هي عفة الحراسة التي ما أن تنتفي عنها الرقابة حتى تنحرف ، بل أنها في بعض الأحيان حتى في وجود الرقابة لا يمنعها ذلك مما تريد شيئاً ولكن خذ العفة الأصيلة التي تنبع عن القناعة بالعفة دون وجود الرقابة على المرأة فهي التي تراقب نفسها وتحرسها فالعفة عند محمد الحسن سالم حميد في قصيدة السرة بت عوض الكريم المرأة التي يجعلها محور حياته ومحور القصيدة وهي امرأة يتناول حميد حياتها كلها ومن ضمن ذلك رقابتها لنفسها فانظر إلى العفة حين يقول :

    تسعين سنة

    ومن فتنك ....أستغفر الله العظيم

    جوك الرجال

    يا السرة بت عوض الكريم

    من وين ووين

    لا الكلو طين أغراك ..

    لا السمح الوسيم

    السرة صديت المشايخ والعمد

    مرسالا ليك ضيعت بي ألف البشارة عليهو ..

    كيف قلبك صمد يا بت قصاد المغريات ؟ ...

    الجان يجب والهام يهيم

    والبشروك بالجنة من فقر البلد ...

    أسقوك بالغفلة المحايات ... مانفع

    رتباً كبار قلتيلا "لا"

    شعراء ومغنين ختا فيك دوداي غناهو وما شفع ..

    الجان يجن والهم يهيم

    والإنجليزي أسلم في شان هواك..

    ساعة طلعتي تجيبي عود السيسبان

    اتصيدك آلسرة بت عوض الكريم

    مرقنو كرعين الحصان

    والجاك ناط كتفتي باليل في اللمين

    مع الصبح طلب عفو وسترة

    وعفيتي وسترتي يا السرة القوية

    بقتلو توبة سوية من هتك العرض



    فالسرة امرأة فاتنة ليست قبيحة حتى تكون عفتها ناتجة عن انصراف الرجال عنها ، فهي رغم تقدمها في السن (من فتنك ....أستغفر الله العظيم) وهي ليست في بيئة محصورة حتى تكون عفتها نابعة من محافظة الرجال الذين يمتون لها بدرجة من درجات القرابة والمعرفة (جوك الرجال يا السرة بت عوض الكريم من وين ووين) ورغم كثرة الطالبين إلا أنها تظل كما هي صامدة في وجه المغريات (لا الكلو طين أغراك ... لا السمح الوسيم) فليس المال ولا الوسامة هي ما ترغب فيه ، وكذلك هي لا تريد السلطة (السرة صديت المشايخ والعمد مرسالا ليك ضيعت بي ألف البشارة عليهو .. كيف قلبك صمد يا بت قصاد المغريات ؟) فالمشايخ والعمد لم ينجحوا في إغراء هذه المرأة برغم البشارات التي توعدوها بها وكذلك (والبشروك بالجنة من فقرا البلد ...أسقوك بالغفلة المحايات ... ما نفع) أي ولا حتى المكانة الدينة التي تنالها بقربها من فقرا البلد الذين جعلوا صكوك الغفران ثمنا لها حيث بشروها بالجنة وكذلك ضربها لحالات الدجل حيث لا تعتقد في المحايات التي شربتها بالخداع من فقرا البلد أما عن السلطة الحكومية فـ(رتباً كبار قلتيلا "لا") إذن لا يبق إلا جانب المكانة الفنية أو الرغبة في الشهرة لكن (شعراء ومغنين ختا فيك دوداي غناهو وما شفع ..) إذن كل هذه المطامع لم تنال من عفتها فلتكن كصاحبة المنخل بالحب والهيام إلا أن السرة تظل كما هي (الجان يجن والهم يهيم) أما إذا قلنا أن السرة لا ترغب في رجال بلدها فيجيب حميد (والإنجليزي أسلم في شان هواك...ساعة طلعتي تجيبي عود السيسبان ... اتصيدك آلسرة بت عوض الكريم ... مرقنو كرعين الحصان) فإسلام الإنجليزي لم يفت من عضدها وتصيده لها عندما تكون وحدها لم يجعلها تخضع بل تدافع عن نفسها ضد هذا المعتدي الذي أنجته حوافر الخيل إذن لم تفلح كل هذه الطرق فالسرة امرأة والمرأة ترغب في أن تكون تلك المحبوبة التي يتكبد عاشقها من أجلها المخاطر ويلقي بنفسه في التهلكة من أجلها أو يفقد زمام نفسه أمامها فليس هناك إلا أن يقتحم خلوتها من يريدها حيث الليل يستر كل شيء ولا يعلم أحد بما يحدث إلا (والجاك ناط كتفتي بالليل في اللمين... مع الصبح طلب عفو وسترة ....وعفيتي وسترتي يا السرة القوية.... بقتلو توبة سوية من هتك العرض) والسرة سترت لأنها لا ترغب في أن تنال شهرة أنها مرغوبة بل لأنها ترغب في الستر لها ولغيرها الذي أقلع عن هذه العادة وقوة السرة تنبع من الفضيلة الحقة التي لا تخضع للمغريات أو للرقابة.

    وليس هذا موقفا واحدا جاء بالمصادفة ، فالعفة لدى حميد أصيلة وأصالتها عن قناعة فالسرة كانت مثال أما المثال الآخر فهو في ضرب مثل العفة تأتي نصيرة ضاربة مثلا آخر فنصيرة المرأة ذات الغنى والجاه والأسرة ورغم ذلك عندما ضربتها عاديات الدهر لم تنحرف عن الطريق بل فضلت الموت على الانحراف وذل الحاجة ، أي أن حميد لا يري أن العفة مقصورة على طبقة دون طبقة أخرى فنصيرة في المجاعة أخذت تستبدل الذهب بالدقيق الجيد ولما لم تجد تنازلت وطالبت بأن يكون حتى غير جيد ولما لم تجد أخذت تستجدى هذا الدقيق وليس ذلك لأنها جائعة بل لأن أطفالها هم الجياع ولما لم تجد ولاح لها شبح الرذيلة أقدمت نصيرة على ما تقدم عليه المرأة الحرة حيث المنية ولا الدنية فحميد يصور القصة كالآتي:

    طبق الدهب

    بي مد دقيق

    دهب الجبال ..

    صافي البريق

    بي مد دقيق

    لو كان مريق



    هذا عن مبدأ المبادلة أو الشراء وهو موقف الصنو أو الشبيه أو المساوي لك في القيمة ، ولما لم تجد هذا الموقف تنازلت عن كبرياءها ومالت إلى السؤال رغم أنفتها :

    يا اخواتي ستات البيوت

    أدني قوت قبال أموت

    دور والمعاي ما فكو قوت



    ولما لم تجدي مسألتها ولم يقدم لها أحد أي مساعدة وغلقت أمامها الدروب ولاح لها الطريق الذي ترفض المسير فيه كل حرة :

    كشحت علي كوشة الجبل

    وجات راجعة بي نفس الطريق

    قفلت على روحها الجبل

    كانت نصيرة بتفتكر

    جوف الجبال

    أولابا من جرس الرجال

    ساعة يصيب الحال خلل



    فنصيرة التي تفضل الموت بأفظع الطرق بالجوع والعطش والحبس على أن تعيش في كنف الرذيلة .

    كذلك نجد لحميد ملمح متفرد آخر لا يضاهيه فيه شاعر آخر ممن قرأت لهم ففي قصيدة الضو وجهجهة التساب (أو قصيدة البحر) نجد حميد يؤيدا الرأي الذي ينادي بالاعتماد على النفس حتى في أبان الكوارث إذ أنه في كارثة السيول والفيضانات التي حدثت في عام 1988م وكانت الإغاثة تأتي إلى السودان من السعودية أو من أمريكا في شكل القمح أو الأرز والدقيق والبطاطين والخيام التي كانت تلقيها الطائرات أو يتولى توزيعها بعض الأفراد وكان الناس يتسابقون ليأخذ كل فرد ما يستطيعه من هذه الإغاثة ويرفض حميد هذا المبدأ حيث ينادي مخاطبا الأطفال في أغنية من الأغاني المتوارثة التي غناها معظم الشعب في طفولته وهنا من الممكن أن نقول أن حميد يتجه بخطابه إلى الأطفال الذين هم أمل الغد أو مناط التغيير في المدى الطويل للبلد وكذلك من الممكن القول أن حميد يخاطب في المتلقي أجمل سنوات عمره حيث الطفولة وذكرياتها الجميلة التي حين يسمعها الإنسان يسمعك بكل أحاسيسه ويكون متقبلا لكل ما تقوله له دون أن يعترض ، لذا يقول حميد:

    يا طالع الشجـرة ... جيب لي معاك خيمة

    تستر من المطرة ... إن كـبت الغيـمـة

    جيبلك معاك قمحات ... قمحاتنا في الشيمة

    وغنم الحلب رايحـات ... ضلمـنا ضليمة

    يا طالع الشجـرة ... جيبلك معـاك خيمة

    خيمة السعودية .. دفـو مـا بتدفيكا

    لبن اليهـودية ... بلــدك ينسيـكا

    قمحاً من أمريكا ... خازوق ركب فيكا

    غير خير بواديكا ... مافـي اليكفيـكا

    يا طالع الشجرة ... من خيمتـك التوبة

    جيبلك فروع خضرا .. أو جافة يا دوبا

    في الحرة في المطرة في عز برد طوبة

    نمرق من الوكرة ... وتبقـالنا راكـوبة

    يا طالع الشجرة ... قبِّل على الحلة

    قول ليها يوم بكرة ... كربتنا تنحلا

    ننزل نضويكي ... ضرعاتنا مادِلة

    قادرين نسويكي ... وعقابن على الله



    ومن يتأمل هذه الأبيات يلمح الكثير من الرؤى التي يتفرد بها حميد دون سواه وببعد نظر غريب فالوطنية لا تعوز حميد وهو يصوِّر الحوجة الماسة من عدم وجود القمح وضياع غنم الحلب إلا أن حميد لا يجعل الحاجة هي أساس العطاء والقبول فالخيمة التي تأتي من بلاد غير بلادك ليس بها دفء أما الألبان التي تأتي من اليهود تنسيك بلادك والقمح الذي هو أساس الغذاء إذا جاء من بلد آخر غير بلدك فهو (خازوق ركب فيكا) ومن المدهش أن هذا الحديث يصير شعار حكومة الإنقاذ بعد ثلاث سنوات حيث يخرج شعار (نأكل مما نزرع) الذي نادى به حميد قائلا (غير خير بواديكا ما في اليكفيكا).

    نجد أن نظرة حميد للإنسان السوداني وما يجب أن يكون عليه نظرة غاية في السمو والرفعة ففي قصيدة السرة بت عوض الكريم حين يصفها يقول :

    السرة بت عوض الكريم ..

    مرة من صميم ضهر الغلابة

    الما بتنكس راسها غير ...

    ساعة الصلاة ... أو

    ترمي تيراب في التراب ... أو

    تستشف وجه الأديم



    فحميد يرى أن الغلابة التي تعبر عنهم السرة أو هي منهم أناس يشمخون بانوفهم ولا ينكس أحدهم رأسه إلا للصلاة التي هي الخضوع الكامل للرب دون أي تحفظ ثم لا ينكس رأسه إلا ليرمي تيراب في التراب فإيمان حميد بالعمل لا يضاهيه شيء والعامل والزارع لابد أن ينكس رأسه أثناء العمل من دون أن يكون لتنكيس رأسه أي معني غير مستحب كما أن حميد يرى أنه تنكيس الرأس من قبل العامل لاستشفاف وجه الأديم ليس لها عيب فالإنسان الذي يقصده حميد إنسان عزيز النفس ، كما أن هناك معنى هام في خلال هذه الأبيات يريد أن يثبِّت معني هام أن الإنسان لا يجب أن يحني رأسه إلا للخالق (ساعة الصلاة) والعمل (ترمي تيراب في التراب) والعلم (تستشف وجه الأديم).

    ولحميد نبرة ساخرة تلمسها في جل قصائده فخذ قوله على لسان أحد المشردين (الشماسة) الذي يخاطب عيوشة وهو يحكي لها واقعة اعتقاله من قبل البوليس بتهمة التشرد :

    ودونا لي ضابط

    كالعادة وإنكفرن

    قال أنا وين أوديهن

    والعندي ما قادر

    بالمويه أكفيهن

    والعسكر أدونا

    سوطين وفكونا



    وتصوير هذا الواقع المرير بالنسبة للضابط أو المشرد ليس آخر المطاف بل تأتي سخرية حميد المريرة حينما يحتج هذا المشرد على اعتقاله واحتجاجه يأتي على صورة ساخرة يوجهها على الذين القوا القبض عليه ذاكرا لهم أن هناك من هم أحق بالقبض عليه منهم قائلاً:

    ما يقبضوا الضبان

    ما يقبضوا الباعوض

    الما بدور فتيش

    اشمعنا إحنا وليش

    إحنا الحرامية

    ولَّة البدسوا العيش

    الزول يدور يكفر

    يرجع يقول معليش



    فعلى حسب مفهوم هذا المشرد أن اللص الحقيقي هو الذي يسعى في غلاء الأشياء وأنه هو الذي يستحق القبض عليه والحبس والجلد وإذا كان هذا الذي يجب السعي وراءه خفيا فهناك ما ليس خفيا كالذباب والناموس (الما بدور فتيش) وتقلب الموازين هكذا يكاد يجعل الإنسان يكفر إلا أنه يرجع ويعرف أن هذه أشياء لا يأمر بها الدين إنما هي مبادرات من الأفراد وخطا من التطبيق لذا فإن الإنسان يرجع يقول معليش وأجمل ما في سخرية حميد هذه أنه يأتي بها على لسان هذا المشرد الذي لم يقرأ ويدرس وليس له أي شهادات .

    *****************



    المرأة في شعر حميد :

    لحميد نظرة للمرأة بحيث لا يتجاوزها في أي موقف من مواقفه الشعرية ويعطيها أنصع صورة في حياتها العملية ولا ينساها في نضاله ضد الظلم ومواقفه ضد الحكومات وهو حين يجعل للمرأة دورها الفاعل لا يعطيها هذا الدور من فراغ فالمرأة ليست مغيبة في الحياة حتى يغيبها في أشعاره بل وحين يعطيها موقف الريادة لسبب آخر غير التغييب إذ أن المرأة إذا كانت طبيعتها الخنوع وإذا كانت حياتها واهتماماتها لا تتجاوز بيتها فإن حميد يجعلها تتخطى هذه الحدود ليبرهن أنه إذا تكلمت المرأة فهذا يعنى أحد شيئين ، أما أنها فقدت إيمانها بأن يفعل الرجال شيئاً تؤمن هي به أو أنها مربية الأجيال وهي التي تأخذ المواقف الحاسمة وعندما نتصفح بعض مواقفه نجد بعض المواقف التي تستحق تناولها بشيء من التفصيل.

    ففي قصيدة الضو وجهجهة التساب نجد أن أمونة زوجة الضو تزخر بالأسئلة التي تؤرقها فتؤرق بها الضو فأمونة تقوم بالواجب من حيث تحية زوجها وتهنئته بسلامة الوصول إلا أنها لا تلبث أن توجه الحديث إلى قريتها أو بلدها الذي ترك نهبا للضياع وترك لأراذل الحيوانات والدواب والحشرات ، وأمونة لا تقصد المعني الحرفي لكل هذه المسميات التي سمتها بل تتخذها رمزا لأشياء أخرى تقصدها في المعنى فتقول له بكل ما تزخر به نفسها:

    يا الضو سلامتك جيت متين؟



    ثم تلجأ للعتاب المر الذي تشعر بتقصير الرجال فيه ومن حقها أن تذكرهم به أو تحاسبهم عليه فالبلدة بلدتها والمصاب ينالها من النصيب الأكبر :

    سبتوها وحَّدا للدعت

    سبتوها وحَّدا يا الخزين؟

    سبتوها وحَّدا للبعوض؟ ... للطير ودباي البحر ؟

    لون الضبابين ؟الكلاب؟ الجندب ؟ الفار ؟ السعر؟

    يا الضو بلدنا وودعت ؟

    راحت شتول دوب فدعت ؟

    فاتت بيوت ما ضاقت الزين والعديل ما اتمتعت؟

    ضاعت سعايات إنسعت ؟

    يا الضو تليسو بالقصاد ؟

    وآخر المطاف شملة كنيشي إتوسعت ؟

    حلتنا غرقت من طرف؟

    حلتنا غرقت في شبر؟

    غرقنا يا الضو صح سرف؟

    العلمتنا العوم تقوم تغرق

    هي ما تقدر تعوم ؟

    يا للأسف

    كم جمعت أمونة في هذه الأسئلة من مصائب ؟ وكيف إذا علمت أنها تتحدث عن واقع لم تعايش آخره حيث أنها نزحت قبل زوجها الذي أنتظر كل تلك الأيام ثم لحق بها وبأولادها وهنا لا يريد أن يرد عليها إلا بجملة واحدة:

    عزَّ المصاب ...



    فترد عليه ثم تغلبها نفسها وإحساسها بالغبن الواقع عليها من المجتمع ومن القدر فتقول :

    البركة يا الضو في الرقاب



    وتعود لها نفس فورة الغضب فتسخط مرة أخرى قائلة :

    إلا الرقاب إنجهجهت

    ما جاتا راحة من كُتُر ما إنجيهت

    ما دام معلقة في التراب

    صنت شويتين نهنهت

    خايفاك يهقلك السراب ...

    يا الضو يهقلنا السراب

    يا الضو يهقلنا السراب

    والضو صنم ما جاب جواب ...

    لي ذاتو مستني الجواب



    فأمونة هنا لا تتحدث عن نفسها أبدا بل تجعل همها الأوحد هذه البلدة فأمونة الخائفة تريد أن تطمئن وليس لها بل تطمئن على زوجها فهي تقرن الضياع به ومن ثم بها فتقول: (خايفاك يهقلك السراب ... يا الضو يهقلنا السراب) وأمونة عندما تبكي بلدها لا تبكي الذكريات التي به بل انها تبكي مستقبل هذا البلد (راحت شتول دوب فدعت ؟) وتبكي ثروة هذا البلد التي صارت نهبا للبحر – والمعاني هنا مجازية – فتقول (فاتت بيوت ما ضاقت الزين والعديل ما اتمتعت؟ باعت سعايات إنسعت ؟) وهذه التساؤلات التي تدمي أمونة تجعلها لا تنتبه لزوجها إلا بعد أن تفرغ ما في نفسها ومن ثم تدرك خطأها فتقول كأنها تعزي نفسها وزوجها (البركة يا الضو في الرقاب ) إلا أن واقع الحال المرير يطغي عليها مرة أخر فتفقد قدرة التحكم في نفسها لتعود لنفس التساؤلات بل أنها تصل إلى نتيجة (إلا الرقاب الرقاب إنجهجهت ما جاتا راحة من كُتُر ما إنجيهتما دام معلقة في التراب صنت شويتين نهنهت خايفاك يهقلك السراب ... يا الضو يهقلنا السراب).

    ونجد أن واقع الغضب الذي تذخر به نفس أمونة بسبب ؛ إذ أن اغترابها من بلدتها يثير أعصابها ، وبعدها عن زوجها يوترها ، ثم تأتي ثالثة الأثافي في عدم تقدير مكانتها عندما نزحت إلى العاصمة حيث أنها كانت سيدة دارها في بلدتها إلا أنها فقدت هذه المكانة وصارت عبئا على الناس ينظرون لها نظرة الأدنى مكانة والأقل شأنا ثم كان تقيدها بالمدرسة التي اتخذتها هي وأسرتها من أطفال وكبار ونساء ورجال بعكس قريتها التي تبعد الرجل عن المرأة والأطفال عن الكبار حفظا لمكانتهم فأتخذوها ملجأ للسكن والمعيشة مجتمعين بلا تفريق ولا تميز فلا تجد أمونة نفسها إلا وتربط كل شيء بالمدرسة سخرية من نفسها ومن واقعها فأنظر إلى الحوار :

    أمونة وين ؟؟؟ مع العوين ... في المدرسة

    أُمك منصحي حالا زين؟؟ في المدرسة

    خالتي الزلال ؟؟ في المدرسة

    جدك حسين ؟؟ في المدرسة

    السُكنة كيف ؟؟؟ في المدرسة



    ثم أنظر إلى تسلسل الحوار عندما أراد الضو أن يسألها عن واقع تكسبهم وتوفير قوتهم فسألها فانفعلت في زوجها ردا على أسئلته الصعبة التي يريد أن يطمئن بها:

    العيشي كيف ؟؟

    تسعل سُعال ...

    يا الضو تقول تام لك سني

    تسعل تقول ماك من هني

    شن السعالات ينفعو

    ما حال غلابة علي غلابة أتفرزعو

    فتحولن الغبش القلوب قبل البيوت

    قسمو القليلي مع بعض ...

    كم طمنونا وشدعوا



    فهنا أمونة لا تأتي بشيء ليس موجودا لتطمئن زوجها بل أنها تقرر واقع تكافل الشعب السوداني في المصائب وكيف يشعر الإنسان بأخيه إلا أن أمونة تقرر أن هذا الإحساس كان من الغلابة فقط (الغبش) الذين لا يملكون إلا القليل وهذا القليل عامر بمحبة هؤلاء الغلابة الذين فتحوا لهم القلوب قبل البيوت وشدوا من أزرهم لكن أمونة رغم اعترافها بهذا إلا أنها ترفضه من واقع العزة التي تحركها للرجوع إلى بلدتها التي تحتاجها فتقول :

    لكن دوام الحال محال

    وعلى العموم ..

    ما مر يوم ما جاب هموم

    هملي ونقاراً تسمعو

    واحدين يقولولك خلاص ...

    واحدين مصرين يرجعو



    فالناس في مجتمع أمونة ينقسمون إلى قسمين فقط قسم رضي بالواقع واستكان له وقسم رفض هذا الواقع وقرر الرجوع ، ولكن إلى أي قسم تقف أمونة ؟ إذا أردنا أن نعرف ذلك لا بد أن نقرأ ما وراء الكلمات عندما تتحدث عن البلدة فهي لا تتحدث عن الرجوع إليها كمنطقة فقط بل كأفراد وناس وهي تطلب الأمان لها ليس من عاديات الدهر بل من أبناءها العاقين أصحاب الأعناق الضخمة التي تسميها الفقر – بكسر الفاء – فهم أساس بلاء البلد وليس البحر فهي تقول :

    إنجيت بلدنا مطمنة ...

    بس كيف يا خيي نأمنا

    قبل البحر من ها الفِقر ...

    فِقراً ضعفنا مسمنا

    الفي العروق دا مو دمهم ...

    دمك يا خيي ودمي نا



    فأمونة تري كل أسباب البلاء في هذه الفقر وتري أن سمان لضعف البقية وهي تقصد الضعف بشقيه سوي ضعف الجسد أو ضعف مواجهتهم فهم مصاصي دماء لا أكثر وبعد أن تقرر أمونة ذلك ترجع إلى واقع مصيبتها الفردية بعادة الناس برفع يديها والدعاء على من ترى أنهم سبب بلائها الذي وقع عليها فالهجرة من بلدها ونزوحها إلى العاصمة ليس سببه البحر فأنظر إلى حديثها :

    النار تقيد في الكان سبب

    يا الضو بيوتنا يوقعو؟

    ونهجر بلدنا نزح هنا؟

    الله يجازي الكان سبب ...

    يا الضو بيتنا يوقعو؟

    ونهجر بلدنا نزح هنا؟

    كان سلطة تنسلط عليها ...

    كان لجانا تلجنا



    فالسلطة أو اللجنة - وهما وجهان لعملة واحدة - هي سبب النزوح لأنها لم تقوي على مواجهة البحر بل انشغلت بملذاتها وكل واحد استفاد من كونه في الجنة (باسم الرصيف الما رصيف كم بيت وصالون أتبنى) ثم تغلب على أمونة ضعفها وحنانها على زوجها الذي يصوره حميد ابلغ تصوير في بساطة الفعل العفوي الذي قامت به وهي التي طول الطريق لم تشتكي رقة حالها (فالسفنجة) مربوطة (بدلقان) والتوب محروق ورغم أن ذلك يسوؤها إلا أنها تنسى هذا وتمسح بحنان الزوجه وجه زوجها فأنظر إلى قوله :

    وبي توب وكت نزحت حِرق

    قشت وشيها من الأسى ...

    ومسحت وشي الضو العرق

    عصرت على طرف الطريق ...

    عقدت سفنجتها بي دلق



    هذه الأمونة كامرأة بكل هذه التناقضات يأخذها حميد كحالة ولكن أين تفوقها هنا وتميزها ؟ يميز حميد أمونة في حديثها الذي لا يستطيع الرجال أن يتحدثوا به فخذ مثلا :

    بحراً بلا الخازوق زحف

    نبنيلو قيف ما يطلعو

    صدفتنا تبقى آخر الصدف ...

    نمسك زمنا نطوعو

    يختونا يمشو يودعو ...

    فِقراً علينا اتربعو

    ديل لا بيخافو من الحساب ..

    لا بيختشو لا بيشبعو

    حقاً تحرسو ولا بيجي ...

    حقك تقاوي وتقلعو

    أمسك شباطين الصراع ...

    الما بتحصلو فلعو



    فالمرأة هنا تحدد الذين يجب أن يذهبوا هم أولئك الذين صاروا من علية القوم (اتربعوا) ومميزاتهم أنهم لا يخافون ولا يستحون ولا يشبعون ثم تقرر حكمتها الخالدة ( حقا تحرسو ... فلعو).



    ثم أنظر إلى قولها في وصف سكوت بنت السرف وقارنها بالأولاد الذين يسبحون في البحر لا يعبئون بالمشاكل التي فعلها (الفرج – بكسر الفاء – والبشتنة) وأنظر إلى صراحة ووضوح أمونة في مواجهتا للجنة التي تريد أن تجتمع وتحدد أسباب الدمار وكيفية معالجته وما يتبع ذلك من منصرفات وأمور تعلمها ويعلمها أفراد اللجنة فتواجههم المرأة المميزة في شعر حميد بأن ذلك ليس عقلانية فالأمر أوضح من إيجاد لجان لبحث الحالة فتقول بصراحة جارحة الأمر الذي لا يستطيع رجال اللجنة أن يقولوه فالأمر في وجهة نظرها مسئولية الحكومة مسئولية تامة:

    صنت بنيتاً جنفي هيل بت السرف

    جم كوم ولاداً يقطعو

    فوق الفرج والبشتنة

    الحالة ما دارت بحت ... الحالة ظاهرة وبينة

    السلطة عن غرق البلاد مسؤولة هي ...

    وفوق عينها حقنا تدفعو

    وبلدك حمايتها ممكنة ...

    أصلو إحنا لازمنا امتداد قبال بيوتنا يوقعو

    كنا بنقولها وتلكنا ... حيكومة دايري تلجنا

    تدينا مشروع نزرعو ...

    كان وقفوا الحرب الحرام الـ الله ذاتو هو لاعنا

    كان البلاد إنطامنت ... كان ألف خزان أتبنى

    يكفينا زلة ومسكنة



    أما قمة صراحتها ووضوحها أو فلنقل لا مبالاتها في تقرير واقع الحياة التي صار عليها الناس فهي تقول :

    كانت زمان السرقة دس ... الليلة عينك معلنة

    وفرجاً قبيل بنشوفا عيب ... عينك عيان ومقننة

    وباسم الرصيف والما رصيف ... كم بيت وصالون إنبنى

    كانت شعاراتن وعود ... صارت مجرد علقنة

    وبين الدقون والدلقنة

    كل التقول موساك تقوم تلقاهو رب الفرعنة

    والجاي أعتى من اللي فات ...

    الجاي أعتى من اللي فات



    فلا تطمئنوا لأن القادم ألعن من الفائت لأن ما زال داخلكم الخوف وخطأ الاختيار الذي يجعلكم تخلطون ما بين موسى وفرعون يجعل المستقبل مظلما أمامكم فلا تطمئنوا.

    وللنظر إلى امرأة أخرى غير أمونة ولزوايا أخرى غير هذه الزاوية ففي تلغرافات ست الدار يرسل الضو رسالة لست الدار بت أحمد – زوجته - فتبعث له بالرد قائله:

    المبعوت المنك وصلت

    رح فكيت الطلب الفوقنا

    باقي الدين يا الزين خلصتو

    قدر البفضل مصروف راشد والتومات

    والجايات من جاي لي جاي



    أنظر إلى حياء المرأة هنا حيث أنها لم تذكر المبلغ الذي بعثه لها زوجها كما أنها لم تشكك في ذمة الذي أعطاها له بعدم ذكر المبلغ وهي لم تكلف زوجها فوق طاقته ، ثم أنظر إلى ترتيبها لأولويات حياتها حيث أنها وفرت طلبات منزلها وظروفها الحياتية أولا ثم سددت الديون التي عليها أما ما تبقى مما بعثه الزين فهو للأطفال الصغار . إنها الأثرة على النفس فهذه المرأة التي تسدد دينها قبل مصاريف أبناءها هي امرأة لا تدخل حقوق الناس عليها وهذه المرأة التي يبعث لها زوجها بمصاريف بيتها فلا تأتي على ذكر نفسها في توزيعها لهذه المصاريف هي امرأة نادرة وموقفها هذا ليس صدفة فانظر إلى قولها:

    إن متوظف ياكا الزين

    إن متوقف ياكا الزين



    فهذه المرأة التي تنظر في زوجها إلى الإنسان أو الرجل دون أن تغير من نظرتها ظروفه المادية لهي امرأة مطمع لكل رجل ويبحث عنها كل إنسان فست الدار تطمئن الزين ود حامد أن تقلبات الدنيا لا تؤثر فيها فيجب ألا يحمل همها بتاتاً فحين تقول له :

    ليه ليه يا الزين بتوصي عليا

    ليه ليه يا الزين بتوصي عليا

    وعارف ست الدار بت أحمد

    أم راشد .... مرتك

    مرتاً دغري وغلباوية

    لا تشفق من تالانا

    ولا نبقالك مشغولية

    زيك واحد ... واحد زيك

    مضغوطين وما ناسين المسئولية



    فست الدار عندما ترفض أن يهتم بها زوجها ليست تخرج عن ملة النساء اللائى يتقن إلى أن يهتم بهن رجالهن ولكنها ترفض هذا الاهتمام من زوجها الذي يشغله عن متطلبات الحياة وهي ترفض أن تكون العبء الذي يقصم ظهر الزوج ولهذا ترفضه ست الدار وعندما يخبرها الزين ود حامد أنه على أمل أن يستلم عملا في بحر أسبوعين (في دورين موعود بي شغلة ... لمت لمت ما لمت أنا جاييكم وما ندمان ) فهي تقول له :

    شورتك عندك ... عندك شورتك

    تجي مندلي ا########## تراها قبالك

    ومن جاي لي جاي بندبر حالك



    وهي المرأة التي لا تملي قراراتها على الرجل بل إنها تقف معه سندا في جميع قراراته دون تدخل وكذلك دون إهمال في أشيائه كما يريد الرجل أن تكون المرأة عون له وليس سيدا له ، وست الدار أنثى حقيقية تري في زوجها كل حياتها بلا مواربة وترى أنه أجمل ما في حياتها وهي حينما تخاطبه تنتقي أجمل الكلمات وأكثرها عفة وألفة لتوجهها له فتقول :

    زيني الزين أب حالا زين



    وهي تغازله الغزل العفيف إذ أنه في حالة سيئة من حيث المادة والسكن حينما تقول له :

    كيف حالك والخرطوم ؟

    والعزابة الكحيانين ...

    عل سيد البيت ما زكاكم؟

    تقعوا تقوموا براكم؟

    قلبي معاكم ...

    ربي يخدر عوض ضرعاتكم ...

    بالي هناك والشوق الشوق

    خلى شجير الجوف محروق ....

    راجي مطيرة الزين ود حامد



    وحالته سيئة من حيث العمل حيث يرسل ليخبرها بالمشاكل التي تعترض سير عمله ولا يستطيع لها حلا :

    جانا مدير المصنع زائر

    وشو حمار العمدة العاير

    قال المصنع فيهو خسائر

    يبقى يخفضوا متين عامل ... الخ



    وسوء الحال في الغربة والحبس الذي يمنع عنه كل شي لأنه واجه الإدارة التي أعلى منه وخاطبها فيما يراه أنه حق له ولغيره من العمال الذين لا يجدون ما يتحدث باسمهم ويأخذ حقوقهم لهم كاملة فتم حبسه وتوجيه التهم إليه سوى بحق أو دون حق :

    شرقت شمس اليوم التاني

    كنا حداشر ونوباوية

    متهمننا بالتخريب ..

    والتحريض ..

    والشيوعية

    فكيف يكون حاله زين بعد كل هذه الأحوال ثم توضح له أن هذه المصائب والأحزان لا تفت من عضدها بل أنها لو كانت حاضرة هذه المحنة لوقفت بجانبه فتقول :

    مبسوطابك يا المبسوط

    وفرحنابك يا أحزان

    فرح النار بي لوح الزان

    ياريت لو كنت معاكم

    كنت بقيت النوباوية



    فأي امرأة تلك التي تفرح بالأحزان التي تأتيها من زوجها وتتمنى أن تكون معه في مصائبه جميعا فهل هي قوة المرأة المثلى ؟ أي هل يرسم حميد المرأة المثالية وما يجب أن تكون عليه أم هو تصوير واقع النساء وما هن عليه في ذهن حميد ؟ أم يريد حميد أن يعكس مثال المرأة ليحتذي به؟ أم يتحدث حميد عن المرأة وإيمانه بها هكذا ؟ أم تلك نماذج وصور نسائية مرت بحميد في حياته الشخصية فأراد أن يخلدها في أشعاره؟

    وإذا تركنا ست الدار جانبا وتناولنا السرة بت عوض الكريم في القصيدة التي تحمل اسمها - والتي همس لي بعض الأصدقاء أن هذه المرأة هي في الحقيقة جدة محمد الحسن سالم حميد أو أن حميد يريد أن يتحدث بهذا الاسم عن جدته - المهم أنها المرأة النموذج فهي امرأة الفضيلة والكرم ولها قوة الرجال وجمال النساء ولها سطوة على من تتحدث معه أو يتحدث معها والكل يريد أن يتقرب منها وأفضل وصف لها ما يقوله حميد بنفسه واصفا لها :

    دي السرة بت عوض الكريم

    مرة ما بتلاوز ..لا بتخاف

    .... زي الضفاف

    الما بتخاف ضنب التماسيح والكلاب

    قومة البحر ... ولة الجفاف

    مرة من قديم ... مرة بت قبائل

    قالولا "لا"

    واختاروا في الحق الجحيم

    من رفقة الفسل الخلا

    كانت نعم تدي النعيم

    مرة من صميم ضهر الغلابة

    الما بتنكس راسها

    غير ساعة الصلاة...

    أو ترمي تيراب في التراب

    أو تستشف وجه الأديم



    فأنظر إلى هذه المرأة التي لا تحني رأسها إلا لثلاثة أشياء كما ذكرنا في الملامح المتفردة هي العلم والعمل والعبادة أما أشياء النساء الأخرى :

    ما فيها من عادة الحريم غير...

    السماحة القدمت

    قدم الدهب

    حافضنو في حُق قديم

    في أقصى كيم



    فهي جميلة جمال ليس كجمال النساء الذي يزوي مع الأيام بل هي كالذهب المحفوظ في المكان الأمين لا يقل قدره أبدا و يصدأ فهذا ما يربطها بالنساء ، وليس معنى هذا أنها مسترجلة الطباع تكاد تكون رجلا بل هي امرأة حقيقية أما ما أخذته من الرجال فهو :

    ما فيها من طبع الرجال

    غير الأيادي الخشنة

    زي قولة النصيحة

    وكتين يكرب في الصميم

    ساعة يكون الحكم ضيم



    فهي امرأة العمل أي أنها امرأة منتجة وليست امرأة عالة وهو يجعلها عزيزة النفس بعملها هذا لأنها لا تحتاج إلى أحد فالسرة امرأة عادية ورغم ذلك لا تتكرر وهي عزيزة في نفسها لا توردها موردا غير عزيز ولكنها عند الفزع تفعل الأعاجيب وتضع نفسها في خدمة الجميع وهي عفيفة اللسان إلا إذا غضبت وهي امرأة تعرف قيمة الوق جيد ... فخذ قوله:

    السرة بت عوض الكريم

    الله ... أيا مرة من قديم

    سلطان وعن ساعة الفزع مملوك نشيط

    عادية زي قولة سلام ..

    حلوة لسان ... لكن إذا تغضب سليط

    مرة ما بتفرط في الزمن ...

    وفيها الزمن لحظاتو أبن



    أو أنظر للمرأة الممتلئة وطنية بفرحتها الطاغية بخروج الإنجليز من البلد حينما عبرت بفرحتها هذه أبلغ تعبير رغم عسرها المالي فقال:

    ساعة مروق الإنجليز ..

    ضبحت غنيماية اللبن

    كشحت ورا طرف القبب

    عيشا المجودا للطيور ...

    والسرة هي المرأة الوفية التي لا يرتبط وفاؤها بحضور زوجها أمامها فهي الوفية له حتى بعد أن غيبه الموت وضمته الأرض فالسرة رفضت الرجال من بعده دون تمييز وقنعت منه بالذكرى والابن الوحيد وعندما طغت فرحتها بخروج المستعمر من بلدها كان أول إنسان تذكرته هو زوجها :

    ومن زمزميتا والدموع ..

    رشت قبر هاشم ...عقب قبر الحسن

    والباقي لي كل القبور

    وفي توبا صرت هين من القبرين

    بعد ما إنبركت ..

    بركة عشق ... بركة شكر ... بركة وفا

    غيبة الشمس جبرت خطاها على الرجوع

    والقلب من شوق ما اكتفى

    لسع في غيمة من الدموع ...

    تبراها لي طرف الفريق

    شيلة نفس تطلع مطر ..

    ختة نفس تطفي الحريق

    آ السرة يا دوب إندمل ...

    بين الضلوع جرحا غريق

    فاتو إنجليز فوق دمها ... وعمت إنجليز

    مبورك وحمديل السلامة يذكرك...

    ليلة الحسن سارلك عريس

    أم من ضراوتو يذكرك ...

    كتل المنيحيس التعيس ؟



    أما نورا عند حميد فهي نوع خاص من النساء ذات الفطرة السوية وحب الإيثار وهي منبع العطاء لكل من حولها ثم هي كالنساء تتحمل كل ظروف الحياة بلا تذمر أما ما يميزها فهل صبرها لدى المصيبة وليس لها جزع النساء فهذه هي المرأة لدى حميد بالنقاء والصبر والأمل الذي يشع منها لكل من حولها فخذ قوله في قصيدة نورا والحلم المدردح مستوقفا بعض النساء ليسألهم ليس ليعرف بل ليعرفن هن معني المرأة في نظر الرجل :

    هي أقيفن ..

    نورا فيكن؟

    نورا.. نقَّاحة الجروفْ..

    نورا .. حلَّابة اللِّبيني

    للصغيرين والضيوفْ

    نورا ساعة الحَرْ يولِّع ..

    تنقلب نسمة وتطوف

    تَدِّي للجيعان لقيمة

    تَدِّي للعطشان جغيمة

    والمخلي الحال مصنقر

    في تَقَاة الليل تدنقر

    تَدِّي لي باكر بسيمة

    تكسي للماشين عَرَايا

    وفوقا يتقطع هديمه



    فسؤاله للنساء عندما استوقفهن ليس للبحث الحقيقي عن هذه النورا بل لإيمانه بها وهو لم يذكر التقاطيع الجسدية لنورا بل ذكر صفاتاً تبيع النساء بعضا من عمرهن لتكون فيهن ، فنورا العاملة سوى في المزارع أو المراعي هي المرأة الحلم لدى حميد وهي الحنان المتدفق للأطفال دون تمييز وهي الكرم الدافق لكل الضيوف وهي النسمة في الحر وهي اللقمة للجائع وهي المياه للظمآن وهي في سواد الليل تبصر الفجر وهي الحلم للغد وهي الأثرة حيث أنها تعطي ما هي في أمس الحاجة إليه وقد أخذ حميد المقطع (تكسي في الماشين عرايا وفوقها يتقطع هديما) من لغز أو غلوطية سودانية قديمة عن الإبرة (تكسي الناس وهي عريانة) لكن حميد صاغها في قالب جميل وجيد بكل معنى الكلمة.

    إنهن لم يعرفنها فيجب أن يعرفها لهن ولكن قبل ذلك يخبرهن أن من لم يعرف نورا لم يعرف شيئا وخذ قوله:

    ما عرفتن … نورا انتن .. ؟؟؟

    قولن إنتن شن عرفتن ؟؟؟



    إذا سلمن بأنهن لم يعرفنها عليه أن يعطيهن بعض أوصافها ودرجة القرابة له ولهن ومنبتها ...الخ قائلاً:

    نورا بت ا##########

    أخيتي ..

    نورا أخت كل الغلابة

    نورا حاحاية الشقاوة ..

    نورا هداية الضهابة

    الأراضي الياما أدت ..

    نورا … بقت من ترابه

    وماشي في الأعماق سحابه

    مشتهنها .. والله جابه

    الله جابه … الله جابه

    للجنوب طبلاً يهدهد ..

    ليل مشاعر ناس تعابه

    وللشمال طنبور يسكت ..

    دمعة للميتين كآبة



    فنورا ليست حكرا على جهة وليست تتبع لمحل بل هي من نبع هذه الأرض (بقت من ترابا) ثم أنظر إلى أفعالها فهي تهدهد ليل مشاعر ناس تعابه وهي تسكت دمعة الميتين كآبة لذلك كانت هي المشتهى الذي نظل نحلم به .

    ولنورا صفاتا أخرى تنفرد بها دون النساء فهي :

    ونورا وأدت فوق شقاها

    وصدت الأيام … تحش

    تبني لي عصفورة عش

    في السواقي تشوف عزاها

    لما شوقها يسوي .. أُشْ !!!

    تملا … تزرعْ

    ترعي … تقرع

    للنهار في الليل تُخشْ

    عرفت الشقا والشقاوة

    إلاّ …

    ما عرفت تغش !!!



    فنورا الإنسان الذي يئد مشاعره وينسي حاله السيئ ليهتم بأحوال غيره ويسعى لتغيير واقعة المرير الذي لا يرضى عنه وهذه النورا هي العامل والزارع والراعي وكل إنسان بسيط حيث يبدأ كفاحه منذ الصباح الباكر حتى دخول الليل ثم يأتي حميد بإحدى صفات نورا المتفردة حيث الصدق مع النفس إلى درجة أن تقبل الشقاء مع الصدق ولا تقبل بالنعيم مع عدم الصدق

    شايلة طولت البال من الله ..

    ومن أراضينا الإثارة

    وماشي تكدح طول نهاره

    وترجي لما الليل يفلل ..

    تسرق المي عشان خداره

    عشان صغاره ..

    ولما ترجع لي دياره

    تنزف أحلام الفقارى

    من عيونات الحيارى



    هذه الصفات التي تتحلى بها نورا حميد يرغب بها كل إنسان أما عندما تكون هناك صفة غير مرغوبة نجد أن حميد يعالجها بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة فنورا تسرق المياه حتى لا يموت الزرع من العطش ولكنها رغم نبل غايتها ليست سعيدة بهذه المياه لأنها عندما ترجع إلى ديارها من المزارع تنزف أحلام الفقاري من عوينات الحيارى ونورا الإنسان أو المرأة الحلم لدى حميد هي امرأة عاملة وهي تسعى لتغيير واقع الحال ونفض غباره :

    لي غيار الحال تقش

    فوقو لي الآمال ترش

    نورا …

    تقعد

    صاحي تحلم ..

    بي بيوت بي نور ودش

    وبالمحبة تشق دروبه ..

    ولي قلوب الكل تخش

    نورا …

    تحلم بي وجود

    ما مشت بينو القيود

    أفضل أفضل بي كتير ..

    من وطن من غير حدود



    حلم نورا ليس حلما عسير المنال ولا يحتاج إلى شقاء وكدح وأموال فهي تحلم بالمحبة التي تعم جميع الناس دون تمييز وهو وطن حر والحرية في فهم نورا – وحميد بالتالي – أفضل وطن مهما كبر وتعاظم هذا الوطن.

    هذه شذرات من رؤية حميد للمرأة رغم أننا لم نتناول جميع النماذج النسائية في شعر حميد والملاحظ هنا أن حميد يكاد يخلو تماما من الغزل والتشبب بالنساء والفتاة المدللة والمرفهة المنعمة بل تلك التي تمتلئ بالحياة وتمتلئ بها الحياة وتملأها غبارها فخذ ختاما قوله لنورا :

    جنس يا نورا ابن آدم

    حلمو في عالم مسالم

    لا الليالي الماها ليا ..

    لا الشماتات العليا

    لا البنوك المخملية

    لا تفاهات الحضارة ..

    لا عفاريت المدينة ..

    لا العمارات السوامق ..

    فوق ضهر ناساً فقاري

    لا الهتاف الفاوة ضاريي

    غطي بالي من الفوارق ..

    لا الألوف الطمطمية

    لا البرندات الوسيمة .

    ولا الأسامي الأجنبية

    بتمحي من عيني ملامحك ..

    وإنتي جاية المغربية

    جايي دايخي المغربية ..

    وشك المقبول مكندك ..

    ساموسونايتك زمزمية

    كونشبر ..

    مرزبة

    مقطع

    ريشة فانوساً مدردح

    قلت بيهن لي زمانك .

    يا زمان الحاجة عندك

    يا زمان الآفة حدك .

    لا تطأ الوردة الصبية



    حميد والكتابة بالعامية :

    يكتب حميد باللغة العامية في جميع كتاباته ويجعلها سمة من السمات المميزة لشعره ويستخدم ألفاظ البيئة المحيطة به ويتقعر في مفردات العامية ويستخدم حتى ما هجر الناس استخدامه في بعض الأحيان ، والكتابة بالعامية هي السهل الممتنع حيث أن اللفظ يأخذ طابعاً أليفا لدى المتلقي ، ويصنع تواصلاً خفياً غير ما تصنعه أحرف اللغة عموما لكن اللغة العامية أو الدارجة ليست سهلة التراكيب فما تستخدمه في الحديث غير ما تستخدمه في الشعر ، فبعض الكلمات إذا ما وضعت جوار بعضها البعض فقدت الجرس الموسيقي وأصبحت أبعد ما تكون عن الشعر ورغم صعوبة الكتابة بالعامية إلا أن حميد يميل إليها ويكتب بها بكثرة وذلك لعدة أسباب منها:

    1 السودان من الأقطار التي ترتفع بها نسبة الأمية وصعوبة إدراك المعاني التي تستخدم لغة الفصحى أو على الأقل يوجد هذا في الفئات الشعبية التي يوجه لها حميد معظم شعره فالفئات التي يوجه لها حميد أشعاره ليست ذات ثقافة عربية فصيحة ليكتب لها حميد بالفصحى فمن الأسلم له أن يكتب لها باللغة العامية التي تستخدمها في الحديث وفي أسلوب حياتها اليومي.

    2 الشعب السوداني مزيج من القبائل التي منها ما تستخدم العربية كلغة أم ومنها ما لا يستخدمها كلغة أم وله لغة أخرى غير العربية ، وهذه القبائل سوى العربية والزنجية لا تميل إلى الفصحى في الحديث العادي ولهذا يستخدم حميد اللغة الأقرب إلى وجدان هؤلاء الذين يريد أن يرسل لهم رسالته فإذا ما كتب لهم بالفصحى بني بينهم وبين اللغة جدار من عدم التواصل مما ينعكس عليه لذا فهذه القبائل تلجأ إلى العربية في الحديث دون التقيد بالقواعد والكلام الفصيح وتستخدم اللغة العامية فالأعراق المختلفة للشعب أجبرته أو سهلت عليه الكتابة بالعامية.

    3 سعة الألفاظ المحلية واحتمالها لمعاني عدة مما يسهل استخدامها في المواقف الوعرة إضافة لسهولة إدراكها للمتلقي ففي الألفاظ المحلية سعة غريبة لا تجدها في الفصحى أو تفقد النص مرونته وليس هذا لتقصير الفصحى أو تفوق المحلية عليها كلهجة لكن لأن المتلقي العادي لا يشعر بنفس المرونة في التعبير كالتي يشعرها بالمحلية التي يعتبرها مفرداته ولسانه مما يعطيه الإيحاء بالانتماء للمتحدث .

    4 اللغة العامية مليئة بإيحاءات الأصوات التي قل أن تجدها في الفصحى وحميد له باع طويل في استخدام ألفاظ الأصوات ففي قصيدة عم عبد الرحيم نجد صوت حث الحمار على الحركة وفي الضو وجهجهة التساب تجد صوت زمجرة الكلاب أو في نفس القصيدة صوت الرياح بين جريد التمر أو صوت المياه عندما دكت بيت أمير المؤمنين



    لم يطبع حميد أيا من قصائده – على الكتب أو الورق رغم أن بعض الأفراد وبمبادرات شخصية منهم حاولوا أن يطبعوا أعمال حميد لكن يظل حتى الآن ليس هناك ديوان مطبوع بالطريقة الرسمية لحميد – وهذا الأمر كان له أسبابه المقنعة التي نذكر منها :

    6 صعوبة الكتابة للأشعار العامية فلا يمكن كتابة القصيدة دون تشكيلها تشكيلا تاما ، وإذا تمت الكتابة للعمل دون التشكيل تأخذ الكلمات معاني أخرى غير ما يقصد حميد .

    7 محلية اللغة العامية حيث لا يساعد هذا على انتشار العمل خارج السودان بالرغم من أن المقولة الذائعة تقول "أن المحلية هي الطريق إلى العالمية" إلا أن الأمر هنا يختلف حيث أن العامية في الأحاديث العادية يمكن ترجمتها إلى اللغات العالمية أو حتى إلى الفصحى ولكن ترجمة الشعر يؤدي إلى الخلل الذي لا يستقيم معه المعنى المقصود وبالتالي الترجمة نفسها تفقد معناها.

    8 موقف حميد الواضح والمناهض للحكومات والتي هي القناة الرسمية للطباعة ، وحميد لا يخطب ود أي حكومة بل يجاهرها بالعداء ولا يغض الطرف عنها أبدا الأمر الذي أدى إلى انتشار أعمال حميد أسرع أقوى من جميع الشعراء الذين طبعوا أعمالهم في كتب ونشروها فأشعار حميد تنتقل يد بيد وربما ذلك لأن كل ممنوع مرغوب أو لأن حميد يتحدث بلسان من لا يستطيع ويجاهر بما لا يجاهرون به .

    9 يعتمد حميد على النقل السماعي حيث أنه يطبع أعماله على أشرطة الكاسيت التي تنتقل بأسرع وأسهل من الكتابة الأمر الذي يجعلها مرغوبة أكثر ، ورغم أن هذا السبب أدي إلى انتشار أشعار حميد إلا أنه من اكثر الأسباب التي أدت إلى اختلاف روايات حميد .

                  

العنوان الكاتب Date
حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد فيصل عباس04-24-06, 03:13 AM
  Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد احمد العربي04-24-06, 03:22 AM
    Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد فيصل عباس04-24-06, 01:37 PM
  Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد ابو يسرا04-24-06, 03:30 AM
    Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد فيصل عباس04-24-06, 01:50 PM
  Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد banadieha04-24-06, 03:42 AM
    Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد Mohamed Abdelgaleel04-24-06, 04:00 AM
      Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد عبدالكريم الامين احمد04-24-06, 02:29 PM
    Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد فيصل عباس04-26-06, 02:27 AM
  Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد Masoud04-24-06, 02:33 PM
    Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد ابو يسرا04-25-06, 04:38 AM
  Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد Tabaldina04-26-06, 04:54 AM
    Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد عبدالغني كرم الله بشير04-26-06, 06:09 AM
      Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد ابو يسرا04-27-06, 02:23 AM
  Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد Aisha Hommaida04-27-06, 05:27 AM
    Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد مدثر ابراهيم سعيد04-27-06, 09:02 AM
      Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد محمد سنى دفع الله04-28-06, 03:25 PM
        Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد ابو يسرا04-30-06, 04:07 AM
          Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد Elkhawad04-30-06, 05:50 AM
  Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد معتصم الطاهر04-30-06, 06:10 AM
  Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد حمزاوي05-01-06, 00:46 AM
  Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد فيصل عباس05-02-06, 02:45 AM
    Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد ابو يسرا05-02-06, 05:09 AM
      Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد فيصل عباس05-04-06, 11:43 AM
        Re: حميد ثروه الشعر وثورته....او محاوله لفك طلاسم حميد ابو يسرا05-06-06, 02:19 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de