عجبي ممن يؤثر العوراء على العيناء

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 11:21 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2002م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-02-2003, 08:38 PM

elhilayla
<aelhilayla
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 5551

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عجبي ممن يؤثر العوراء على العيناء


    الجزء الأول
    من رد الدكتور منصور خالد علي الطيب مصطفي
    رغم إغلاق الحزب الحاكم الباب أمام الاتهامات الموجهة له بأنه وراء الدعوة لفصل جنوب السودان عن شماله، ورغم المباريات الصحفية الناقدة التي أبانت ما في دعوة الوزير السابق الطيب مصطفي من هشاشه، إلا أن الحماسة التي طغت على مقاله الأخير (ألوان 24/1/2003) تحيك الظن بالنفس، ولا تورثها اليقين. نقبل ما جاء من قيادات الحزب الحاكم أن الكاتب لا يعبر إلا عن رأيه، ونقول أيضاً أن من حق الكاتب التعبير عن رأيه حتى وإن تَبَدع. على أن الكاتب لم يستنبط ما أتى به من رأي، أو كان بِدعاً في التعبير عنه، بل وقف على سطر شبه مستقيم مع آخرين سبقوه إلى رأيه في انفصال الجنوب عن الشمال. من أولئك من أشار إليهم مثل يوسف مصطفي التني، أول من دعا لفصل الجنوب في الصحيفة التي كان يشرف علي تحريرها (جريدة الأمة). وكان عمنا التني، الشاعر المهندس، واحداً من أقطاب مؤتمر الخريجين، لم يصرفه عن رأيه أن المؤتمر قد جعل من توحيد شقي القطر (الفقرة الخامسة من مذكرة المؤتمر) دعوى طبقت شهرتها الآفاق (cause celebre) وإلى يوسف التني نضيف رجلين، كلاهما أنطلق، كما أنطلق الكاتب، من الافتراض أن ليس بين شقي القطر أي مقوم للوحدة. أول هؤلاء هو حسن محجوب، عضو اللجنة الاستشارية للمجلس الوزاري لشئون الجنوب (1956)، والثاني أقري جادين، قائد لواء الدعوة لانفصال الجنوب في مؤتمر المائدة المستديرة(1965).
    السياسيان الشماليان (وقد نضيف إليهما الأبروفيين) كانوا على درجة كبيرة من الأمانة مع النفس منذ ذلك الوقت الباكر لأنهم لم يروا للسودان ، من وجهة نظرهم الاحـادية الانغلاقية (insular)، إلا وجهاً واحـداً هـو الوجه العربي الإسلامـي. لهـذا لـم يندفعـوا ـ كمـا اندفـع غيرهـم ـ إلـى فـرض الوطنيـة الشماليـة المصغـرة (Northern Sub-nationalism) على السودان الواسع (Sudan writ-large). وحتى في إطار الشمال نفسه لم تكن رؤية هؤلاء للهُوية العربية الإسلامية تخلط بين المقدس والدنيوي، وبين الدين والسياسة. فالتني الشاعر المُجيد، مثلاً، هو صاحب النشيد الوطني الذائع "المجد للوطن"، والذي ختمه بقوله: "الدين للآله، والمجد للوطن". من جانب آخر، كان أقري منطقياً مع نفسه لأنه لم يَرَ في الجنوب إلا وجهه الأفريقي، ودياناتـه التقليديـة، وأعرافـه المحلية رغـم كـل التناضـح (osmosis) الثقافي، والتواصل الحياتي بين الإقليمين منذ أن وحد محمد علي باشـا السودان. عن ذلك الرأي عبر في مؤتمر المائدة المستديرة (1965) بالقول: "ليس هناك سمات مشتركة بين المجموعات المختلفة، أو هيكل مشترك للمعتقدات الروحية، أو وحدة في المصالح، أو إشارات محلية تدل على وجود تلك الوحدة". المنطق الحاكم لآراء هؤلاء (وهي آراء لا نشاركهم إياها) كان سيقي السودان التوتر الدائم لوقيض له أن يتغلب. والتوتر، كما يقول علماء الميكانيكا، هي الحالة التي تصيب أي جسم يُشَد من طرفيه. التني وصحبه ممن استنجد بهم الكاتب لم يشاددوا في الأمر، لهذا بين فكره وفكرهم بون شاسع، وباختلاف الحلوم والأفكار يتفاضل الناس. أقرب إلى الكاتب الذين غلبت عليهم حُميا الاستعلاء، فلم يُهَوِدوا أو يسترخوا في سعيهم لاقتسار الوحدة وتشكيل السودان كله على رؤاهم، فنارت الحروب. ولا سبيل لهؤلاء أن يتحولوا بهذه البساطة عما أخذوا فيه بالعزيمة والعنافة بعد أن إلتوت الأمور عليهم.









                  

02-02-2003, 08:47 PM

elhilayla
<aelhilayla
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 5551

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الجزء الثاني عجبي ممن يؤثر العوراء على العيناء (Re: elhilayla)


    الجزء الثاني
    من رد الدكتور منصور خالد علي الطيب مصطفي
    موضوع الوحدة بين شقي القطر هم استغرقنى، ولهذا ظل محوراً لأكثر مـا كتبت كمؤرخ سياسي. وفي كتاب أخير صدر هذا الأسبوع باللغة الإنجليزية، وستصدر نسخته العربية الموسعة في مطلع الشهر القادم، انتخبت للكتاب عنواناً هداماً : قصة بلدين. بذلك العنوان لم أرد إستباق الأحكام، لا سيما وقد مهدت لما توصلت إليه من حكم ببينات استغرقت ألف صفحة من الكتاب. ما ابتغيناه هو تقرير حقائق عددا تؤكد أن العناصر الطاردة عن المـركز في السودان أقـوي بكثير من العناصر الجاذبة إليه. هذه العناصر ليست من صنع الطبيعة، أو هي أمر إبتلى الله به السودان في زمن "الابتلاءات" هذا. ففى هذا الزمان حتى الذي ينكب على وجهه في اخدود حفره بيده يسمي تهالكه في الحفرة التي حفرها لأخيه ابتلاءً. حرصت أيضـاً علـى التوغل في عِرق المشكل برد الأزمة الى جذورها منذ الحكم التركي والفـترة المهديـة لأن الأزمة أعمق بكثير من الحيص والبيص اللذين أدخل فيهما نظام الجبهة السودان، فالجبهـة لم تفعل أكثر من الوصول بالاستقطاب إلى أعلى درجاته. ولا مُرية في أن الذين سعوا لفرض الوحدة على كَرْه من أهل الجنوب في الماضي، تماماً كاولئك الذين أحالوا طرفي السودان إلى قطبين متضادين، هم الذين عمقوا من الأزمة. بسبب من ذلك، هم أقل أهل السودان تأهيلاً لاستنكار النتائج التي ترتبت على مساعيهم ووصلت بالأزمة إلى درجة التشبع، أو التنكر لها. ما على أولئك إلا تحمل نتائج أفعالهم، "إن يريدون إلا فِراراً".
    ابتناءً علي هذه المقدمة فأن الحكم الذي توصل إليه الكاتب (إستفتاء أهل الشـمال في إن كانوا يريدون للسودان أن يبقى موحداً أو أن يتجزأ) يكون صائباً لو كان هو وصحبه، بعد أن انتهى إليهم الأمر، قد سعوا جادين لمعالجة المشكل من جذوره. الحقائق تقول غير هذا، ففي بداهة عهدهم ذهبوا لوضع العصى في دولاب مفاوضات السلام التي كادت أن تكلل بالنجاح. مثال ذلك إجهاض ما تواطأ عليه أهل السودان جميعاً (باستثناء الجبهة) على ترك البت في الموضوعات المشتجر عليها بين أهل السودان (ومنها القوانين الدينية) إلى حين قيام مؤتمر قومي دستوري يعبر تعبيراً متكاملاً عن إرادة الأمة. ونفضل تعبير (القوانين الدينية) علي لفظ الشريعة الذي أصبح لفظاً ذا دلالات مطاطية. ذلك هو ما تراضى عليه أهل السودان (باستثناء الجبهة القومية الإسلامية) في كوكادام 1986، وفي اتفاق الميرغني – قرنق 1988، وفي اتفاق القصر أبريل 1989. لهذا، نحن فارقون بين قرار الانفصال امتثالاً لارادة شعبية يُعَبرُ عنها تعبيراً ديمقراطياً حراً، وبين الدعوة للانفصال إنطلاقاً من انطباعات ذاتية تصدر ممن ضاقوا ذراعاً بنتائج سياسات صنعوها بأنفسهم، لم يأبهوا لخواتيمها، وتركوا عواقبها مهملات.
    الهيكل المنطقي لأطروحة الكاتب قد يقود إلى النتيجة التي توصل لها، إلا أن ترويضه للمعطيات الموضوعية للوصول إلى حكم مسبق يجعل ذلك الحكم فاسداً، بل باطلاً. فالفاسد، كما يقـول الأصوليون (علماء أصول الدين)، يقع صحيحاً في جملته، ولكن تنقصه بعض الشروط ليكون صحيحاً، أما الباطل فغير صحيح من أصله. ما هي عوامل البطلان؟ توسل الكاتب للوصول إلى حكمه بأسباب لا تُحتسب إن أخضعت لتحليل عابر، ويقود التحليل الامبيريقي الدقيق لها إلى استكشاف ما فيها من افتراضات فواسد. ذلك منهج في التحليل سفاح لأنه لا ينجب إلا وليداً غير مكتمل الخلقة، ولا يقود إلا لنتائج لا بلاغ فيها ولا كفاية. وما هي الأسباب التي ارتكى عليها الكاتب؟ نحصر تلك الأسباب في خمس مقامات:
    · الجنوب ظل عائقاً أمام انطلاق الشمال
    · الجنوب تمرس في ابتزاز الشمال
    · الحقد العنصري ضد الشمال وروح التشفي والانتقام ما برحا يملآن جوانح الجنوبيين
    · الجنوب جعل السودان نهباً للتدخل الخارجي في شئونه "حتى من الصغار"
    · تمادي الحركة في التزيد في محادثات ماشاكوس
    إعاقة الجنوب لانطلاقة الشمال
    ليس صحيحاً أن الجنوب حال دون انطلاق الشمال، بل الصحيح هو أن الحرب هي التي وقفت عائقاً أمام تطور كليهما، فالحرب هي أس الداء. لهذا يقمن بنا أن نبحث عن الأسباب التي قادت إلى اندلاع تلك الحرب، ثم استشرائها. نعرف جميعاً (أو ينبغي أن نعرف) أنه منذ استقلال السودان في مطلع يناير 1956 كان مطلب جميع القوى السياسية الجنوبية هو الوحدة الاتحادية التي يتاح في ظلها لأهل الجنوب أن يديروا شئونهم بأنفسهم. ولا أريد هنا العودة للحديث المكرور عن وعد الطبقة الحاكمة لأهل الجنوب بالفيدر يشن كثمن لمساندتهم إعلان الاستقلال من داخل البرلمان، لأن في ما كتب ابيل الير حول تلك المأساة ما يغني. عوضاً عن ذلك، أحاول أن أبين، من جانب، مواقف الجنوبيين المعلنة يومذاك، ومن جانب آخر، مواقف الساسة الشماليين ذوي الرؤية البصيرة، إلى جانب مواقف الذين غهبوا عن الحق فادخلوا السودان بغَهَبهم ذلك في مفازة مجدبة مهلكة.
    · في نوفمبر 1954 كتب بنجامين لوكي إلى وزيري خارجية بريطانيا ومصر بصورة إلى رئيس الوزراء، إسماعيل الأزهري يؤكد أن مطلب الجنوب هو الفيدرالية. أردف لوكي قائلاً: " إن لم يتحقق هذا فلا سبيل للجنوب إلا أن ينسلخ عن الشمال كما انسلخت باكستان عن الهند".
    · في مايو 1955 كتب عبد الرحمن سولي (جنوبي مسلم) إلى الحاكم العام يقول أن البديل الوحيد عن الفيدرالية هو الانفصال .
    · بعد إعلان الاستقلال مباشرة خاطب ستانسلاوس بياسما، زعيم المعارضة في مجلس الشيوخ المجلس قائلاً: "قبلنا إعلان الاستقلال ولكن الجنوبيين لا يرضون وضعاً أدنى من الفيدرالية، وينتظرون ما سيأتي به الغد حول الفيدريشن".
    · عُقيب إعلان الاستقلال استقبل السـيد عبد الرحمن المهدي قيادات الحكومة القومية (الحكومة التي أنشئت بعد إعلان الاستقلال)، وكان من بينهم رئيس الوزراء إسماعيل الأزهري، ووزير الدفاع عبد الله خليل، ورئيس حزب الأمة صديق المهدي مع نخبة من زعماء الجنوب. في ذلك الاجتماع سأل السيد عبد الرحمن ستانسلاوس بياسما "ما الـذي يريد الجنوب؟" قال بياسما "الجنوب لا يريد أكثر من أن يحكم نفسه بنفسه في ظـل سودان موحد". التفت السيد الحكيم إلى رجالات السياسة والحكم من الشماليين قائلاً: "لقد عجزت التركية عن قهر الجنوب، وعجز أبوي المهدي عن السـيطرة عليه، ولم يتمكن من السيطرة على ذلك الإقليم إلا البريطانيون بالكاد. اذهبوا وأعطوهم مـا يطلبون" (مذكرات ستانلاوس، 1990).
    الكتابة، إذن، كانت واضحة على الجدران قبل إعلان الاستقلال وبعده، لم يتغاباها إلا الذين ظنوا أن الدول تبنى بالتشاطر. فمع وضوح رأي الجنوبيين (بمسلمهم وغير مسلمهم) حول ما يطمحون إليه لكيما يبقى الجنوب جزءاً لا يتجزأ من السودان، اجتمع رأي أحزاب الشمال في مايو 1958 (لجنة الدستور) على رفض الفيدرالية بدعوى أن "عيوبها تفوق محاسنها". ليتهم اكتفوا بذلك، قالوا أيضاً (مبارك زروق ومحمد احمد محجوب): "نحن لم نَعِد الجنوب بالفيدرالية، وإنما وعدنا بالنظر إليها بعين الاعتبار". ذلك عِيّ في الفعال لذنا جميعاً عنه بالصمت، أو باركناه بالسكوت. وكما يقول بشار:
    وعِيُّ الفعال كعِيِّ المقال وفي الصمت عِيّ كعِيَّ الكَلِم
    هذه الخفة في تناول كبريات الأمور دفعت الجنوبيين للخروج من اجتماعات لجنة الدستور حتى لا يُكسبوا قراراتها أية مشروعية، على الأقل بالنسبة للجنوب. وقبل خروجهم، عبر عن رأيهم الأب ساترنينو لاهوري قائلاً" "ليس لدى الجنوبيين أي نوايا سيئة نحو الشمال، وليس لديه نية في الانفصال. وأن أراد فليس هناك قوة في الأرض تحول دون ذلك. نطالب بالدخول في وحدة فيدرالية، وسيقوم الجنوب بالانفصال عن الشمال في أية لحظة يهدر فيها حقه في الوحدة الفيدرالية". منذ ذلك الوقت اصبح ساترنينو في نظر حكومات الشمال داعية للانفصال وطورد حتى اغتيل في الحدود اليوغندية. أو هل تَملى في هذه الوقائع دعاة فصل الجنوب المحدثين، القائلين أن ليس للجنوبيين غاية غير محو الهوية العربية ـ الإسلامية للسودان!

    من بين كل القوى الشمالية السودانية لم يثبت على موقفه حول ضرورة منح الجنوب حكماً ذاتياً يدير فيه شئونه بنفسه غير الحزب الشيوعي (بيان حسن الطاهر زروق باسم الجبهة المعادية للاستعمار في عام 1955)، والحزب الجمهوري (مسودة دستور فيدرالي للسودان التي طرحها محمود محمد طه في ديسمبر 1955)، ورجل متفرد كان هو الدرة اللامعة في تاج السياسة السودانية، باستشرافه لمقومات الوحدة بين الشمال والجنوب، ذلكم هو إبراهيم بدري. في موقفه ذاك الذي ظل ثابتاً عليه منذ مؤتمر جوبا ذهب بدري إلى طرح قضايا لم تفقد حتي اللحظة راهنيتها : اثر الرق على العلاقات بين الجنوب والشمال وفي تعميق المخاوف في نفوس الجنوبيين، حق الجنوب في الفيدرالية كضمان لبقائه في سودان موحد، قضايا المناطق المشابهة للجنوب (خص منها جبال النوبة والنيل الأزرق)، والتي نسميها في الأدبيات المعاصرة المناطق المهمشة. ومن المذهل أن لم يَنبرِ من الشماليين من أعضاء اللجنة الوزارية حول الجنوب (ضمت علي عبد الرحمن، وزير المعارف؛ عبد الله خليل، وزير الدفاع؛ محمد نور الدين، وزير الحكم المحلي؛ أمين السيد، وزير الصحة، بنجامين لوكي، وزير الثروة المعدنية، ستانسلاوس بياسما، وزير النقل الميكانيكي، يوسف العجب، وزير الدولة)، أو اللجنة الاستشارية الملحقة بها (إبراهيم بدري، حسن أحمد عثمان الكد، عبد الله ميرغني، محي الدين صابر، حسن محجوب، بشير محمد سعيد، محمد علي محيميد، أحمد السيد حمد) غير إبراهيم بدري ليدافع عن حق الجنوب في حكم نفسه بنفسه، بالرغم من أن الاعتراف بذلك الحق كان شرط لزوم عند إعلان الاستقلال. ومن المذهل أيضاً أن اجتماع اللجنة المشار إليها كان فـي مارس 1956، أي بعد شهرين من إعلان الاستقلال.
    ما الذي كان يدور في أذهان الحاكمين حول ذلك المطلب الذي قبلوه، فيما يبدو، مخادعة وخَتْلاً؟ عن ذلك الرأي عبر الأستاذ محمد زيادة في مقال افتتاحي لجريدة صوت السودان (15 فبراير 1956)، قال " أول المنادين بفكرة الاتحاد الفيدرالي هو المستر لوس نائب مدير الاستوائية الذي دعا لهذه الفكرة في صفوف المتعلمين الجنوبيين واتخذ منهم دعاة لها في كل انحاء المديرية الاستوائية ثم قامت لجنة جوبا السياسية على أساسها .. ثم نشأ حزب الأحرار الجنوبي أخيراً للدفاع عنها، ولهذا فأن مطالبة أبناء الجنوب بالاتحاد الفيدرالي إنما نشأت من عوامل سياسية استهدفها الاستعمار يستفيد منها في نهاية المطاف" .
    المغفور له وليام لوس، إن كان حقاً هو الذي أورث الجنوبيين فكرة الفيدريشن، قد أورث أيضاً أهل الشمال والجنوب البرلمان الوستمنستري، وحيدة الخدمة العامة، والفصل بين السلطات، والقضاء المستقل، واستقلال الجامعات، كمـا أورثـهم دسـتور ستانلي بيكر (دستور الحكم الذاتي) الذي نسب للاستعمار ولكن أصبح بقوة العلي القدير هو نفسه دستور الاستقلال، ثم قَبَره عبود ليعود مرة أخرى، بذاته وصفاته، دستوراً للسودان عندما أصبح الصبح في 21 أكتوبر 1964 وانهد السجن وانزوى السجان، كما صدح وردي. ما أقبحها مغالطة النفس، فكل تلك المؤسسات والمفاهيم (لا الفيدرالية وحدها) خلفها لنا لوس وصحبه ممن يسميهم البعض السلف الصالح، ولم تنحدر إلينا من الدولة المهدية أو مملكة المسبعات. الخيار والانتقاء بين الموروثات الاستعمارية كان هو خيار كبارنا في الشمال، وليس للجنوب يد فيه.
    الاستعمار أيضاً أورث دولة أخرى (الهند) الفيدرالية في إطار حكم مركزي متين، فنظام الحكم الاتحادي في ذلك القطر تمت صياغته على يد لجنة الهند برئاسة السير ستافورد كريبس في نوفمبر 1949. رغم هذا ذهب نهرو وصحبه إلى إعادة تنظيم الولايات مراعاة لمطالب أهلها، ودون وعد منهم لأهل تلك الولايات عند الاستقلال بأن "ينظروا لمطالبهم المشروعة بعين الاعتبار". ففي عام 1952 أعيد تنظيم ولايات الهند إرضاء لرغبات الناطقين بلغة التيلوق والذين تقاسمتهم ولايتا مدراس وحيدر أباد، فقامت ولاية اندرا براديش كولاية للناطقين بلسان التيلوق. وفي عام 1956 أعيد رسم 14 ولايـة و6 أقـاليم اتحاديـة (union territories) لتحقيق نفس الغرض. وفي عام 1960 قسمت بومباي التي ضمت الناطقين بلغة القوجرات والناطقين بالماراثي إلى ولايتي ماهارشتيا وقوجرات. إعادة التنظيم الإدارى لدولة الهند إمتثالاً لواقع سياسي، لم يُسمها نهرو مؤامرة لمحو الشخصية الهندوكية، بل اعتبرها ضرباً من المعمار الإدارى الضروري لتمتين وحدة بلاده.
    بعد اكثر من ثلاثة عقود من الزمان، عدنا أعقابنا لنعلن الحكم الفيدرالي ونباهي به أيما مباهاة وكأنه فتح القدير. لم نرده للوس أو قوم لوس، ولم نسأل النفس: لماذا رفضناه بالأمس، ولماذا نقبله اليوم؟ ترى أو لا تقتضي الرجولة أن نعترف أن المسئولية عن تلك الحرب التي ظلت رحاها تدور على قطبها أكثر من ثلاثين عاماً تعود، في المقام الأول، إلى الذين تنكروا للعهود، وتغابوا عن الوعود في الشمال، لا لذنب أتاه الجنوب إلينا. أم أن هذا ماض ينبغي أن لا نستذكر، لأن كل موقف نتخذ هو مرجع ذاته. مسئولية حكام الشمال عن استمرار الحرب حتى أكتوبر 1964 "في عضم رقبتهم" لاشأن للجنوب، ولاشأن للإمبريالية، ولا شأن للصهيونية بها. فلنملك الشجاعة ونعترف بالذنب.

                  

02-02-2003, 08:56 PM

elhilayla
<aelhilayla
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 5551

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الجزء الثالث عجبي ممن يؤثر العوراء على العيناء (Re: elhilayla)


    الجزء الثالث
    من رد الدكتور منصور خالد علي الطيب مصطفي
    وإن وقفنا عند أكتوبر 1964 فلأنها تمثل مرحلة فارقة في تاريخ السياسة السودانية. ليت الصحافة السودانية تعيد إلى الذاكرة الخطاب الرصين الذي ألقاه سر الختم الخليفة في افتتاح مؤتمر المائدة المستديرة. لم يغفل سر الختم دور الاستعمار في إشعال جذوة الصراع، ولكنه وضع ذلك الدور، كما ينبغي، في إطار تاريخي صحيح : مسئولية الحكومات الشمالية عقب الاستقلال عن تعميق الأزمة، والآثار المدمرة التي خلفتها تجارة الرق في نفوس الجنوبيين، خاصة وقد ترسبت من الرق مفاهيم استعلائية في العقل الجمعي الشمالي، لا تقود إلا للتماقت. أما بعد أكتوبر، نعرف جيداً كيف انقبضت تباشير السلام التي لاحت في مؤتمر المائدة المستديرة. فمنذ منتصف الستينيات من القرن الماضي طغى على الساحة السياسية شعار جديد هو أسلمة الدستور. ولاتثريب على الإسلاميين كتيار سياسي في أن يدعوا لما يرون فيه خير الناس، إذ ليسوا هم الإيديولوجيون الوحيدون الذين سعوا لترسيم حدود الحياة في السودان على عينهم (to their image). ونعترف أن لكـثر منهـم صبابـة بالشريعـة (أياً كان المعنى لذلك التعبير). ولكن ثمة مشكلات في الطرح الإسلاموي السياسي (وأي طرح حدى للقضايا في هذا السودان المعقد ) يجدر بأصحاب الطرح التنبه لها. من ذلك، أثر الأطروحة السياسية، في هذه الحالة، على الشق الآخر من القطر الذي لا يدين للإسلام، ويطالب بحقوقه في الوطن كاملة غير منقوصة. هذا مالم يفعلوه ولم تفعله الأحزاب الشمالية التي تداعت على مشروع الدستور الإسلامى حتى كادت تكون فتنة لا ارتجاع لها.

    إعلان الدستور الإسلامى (بعد القراءة الثانية في الجمعية التأسيسية) تبعه خروج ممثلي جبهة الجنوب، حزب سانو، مؤتمر البجة، اتحاد عام جبال النوبة، من الاجتماع حتى يخلوا الساحة لمن لا يأبهون كثيراً، في ظنهم، لتقطيع أوصال السودان في سبيل تحقيق مشروعهم الأيديولوجى. الصوت المعبر عن هؤلاء كان هو صوت ابيل ألير، الشاهد الحي. هذه المجموعة التي لا تقتصر على الجنوبيين كانت تنادي، كبديل لمشروع الدستور الإسلامى، بتبني قرارات لجنة الاثني عشر، كما طالبت بتقسيم السودان إلى أقاليم تسع، باعتبار أن الجنوب سيبقى إقليماً واحد حسب ما نادي بذلك أهله. دعا أيضاً مؤتمر البجة لانفصال إقليم البجة عن مديرية كسلا، كما دعا اتحاد جبال النوبة إلى فصل منطقة الجبال عن جنوب كردفان، كلاهما في إطار سودان موحد (الرأي العام 18 يناير 196. وكان ذلك قبل خمس وثلاثين عاماً من مفاوضات ماشاكوس التي نتمارى اليوم في الحديث في رحابها عن المناطق المهمشة، وكأنها أسطورة انشأها جون ابن دي مابيور على غير مثال قديم. منذ ذلك التاريخ، لم تعد أزمة السودان تقتصر على الجنوب. ماذا كان موقفنا من كل هؤلاء؟ عليهم وعلى من والاهم أطلقنا نعت الجماعات العنصرية. ترى إن كان وليام دينق وابل الير وفيليب عباس غبوش ومحمد احمد عواض وعبد القادر اوكير وأحمد إبراهيم دريج عنصريين، فما الذي بقى ليكون الأصل؟ الجواب سهل، ففي المفهوم السائد في العقل الجمعي الشمالي، نحن مستعربة الشمال وحدنا الأصل في السودان الذي يتضام فيه النوبة (البرابره)، والبجة، وأهل جبال النوبة، والفور، واخوتهم في الغرب، وأهل الانقسنا بهمجهم ووطاويطهم، ثم الجنوب كله، لا تسألن عمن فيه. هؤلاء جميعاً فروع، والفرع لا يعلو على الأصل تماماً كما لا تعلو العين على الحاجب. أسطورة الأصول والفروع هذه حماقة تفتح على أهلها صندوق باندورا، لأنها ستدفع آخرين للقول إن:كان لأهل السودان أصل، فاصلهم النوبُ والزنوج. ثم دعنا عن اللواذ بالأحاديث "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" ، هذا قول جاء من معصوم لا كالرجال، عَقَد لمولاه زيد بن حارثة يوم مؤته على جلة بني هاشم وجعله أميراً على كل أرض وطأها. الأحاديث والقرآن لا ينفيان ما تدركه العيان، خاصة ونحن لا نمتحن الإسلام، وإنما نخاصم سياسات صنعها البشر وأضحت صناعة فاشية استوى حالها على الكذب، والجور، والاستهانة. هذه خصائل لا تقود إلا إلى بوار. وللجاحظ في رسائله قول حكيم في أسباب البوار، قال: "الصدق يوجب الثقة، والكذب يورث التهمة. والعدل يوجب اجتماع القلوب، والجور يورث الفرقة. والاستهانة توجب التباغي، والتباغي مقدمة الشر، وسبب البوار" (رسالة الأسباب والعواقب). لنقلها بوضوح، كثر منا عنصريون حتى النخاع، وما الحديث عن تزيد الجنوبيين، أو مؤامرات العنصريين، أو تهديد هؤلاء للهوية العربية الإسلامية، إلا حجاب ساتر للاستعلاء العرقي، وذريعة لاستدامة الهيمنة السياسية والاقتصادية.

    ابتزاز الجنوب للشمال
    وقد وصلنا لهذه النقطة من المقال يصبح الحديث عن ابتزاز الجنوب للشمال، حديث لا يستند إلى ساق، فمطالب الجنوب كانت واضحة لا تَزيُد فيها ولا ابتزاز حتى اتفاق أديس أبابا، وإلى أن نقض ذلك الاتفاق الطرفان اللذان رعياه (جعفر نميري وجوزيف لاقو). ولكي لا نحمل حكومات الشمال وحدها المسئولية، ذهبنا في كتابنا إلى إبراز صور لأنماط من رحالة الجنوب السياسيين (political nomads) الذين ما انفكوا يتنقلون بين حكومات الشمال وأحزابه. كلما نَكِد الماء في بئر واحدة منها، ارتحلوا إلى غدير لم ينقطع سيله، بلا اعتبار لما ألحقته تلك الأحزاب والحكومات بأهليهم وبأهل الشمال أنفسهم من ويلات. إلغاء اتفاق أديس أبابا، كما قلنا في أكثر من مقال، هو الذي جعلنا أكثر إدراكاً لأطروحة قرنق التي تغيأ منها الوصول إلى لب المشكل : "نعم للوحدة، ولكـن لابـد من إقامـة الوحـدة علـى أسس جديـدة والعـودة، إلـى منصـة التـأسيس (drawing board) لكي نصوغ مقوماتها مجتمعين". هذا قلب للمناضد السياسية لم يألفه أهل السياسة في الشمال الذين دبوا ودرجوا يؤمنون بتراتبية رأسية في السياسة يخضع فيها الأدنى للأعلى، وترسخت في الأذهان حتى عمقت من الجرأة على الحق.

    إن كان هذا هو ما يسميه الكاتب الابتزاز والتصاعد بالمطالب فهو محق، ولكن العليمين بديناميكية السياسة يعرفون جيداً أن لكل فعل رد فعل إن لم يحسب حسابه الفاعل، فعليه وحده يقع الوزر. فمثلاً، قبيل إعلان الاستقلال الأمريكي في عام 1776 كان مطلب الولايات الثلاث عشر هو حق التمثيل في البرلمان البريطاني، واعادة النظر في طبيعة العلاقة بين الحكومة البريطانية وولاياتها المُستَعَمرة. ذلك المطلب تلكأت حكومة اللورد نورث في قبوله وعدته تمرداً على التاج مما حمل توماس بين على المجاهرة بالدعوة للاستقلال، فكانت الثورة الأمريكية التي انتهت بإعلان الاستقلال. ولو استجاب الملك الأحمق، جورج الثالث وحكومته لطلب الولايات المتواضع يومذاك لبقيت تلك الولايات حتى اليوم جزءاً من الكمنولث البريطاني كما بقيت كندا.

    وضع الحركة في السودان يختلف، إذ ظلت تتواصل مع كل القوى السياسية بكل ما يقتضيه التواصل السياسي من حكمة ودبلوماسية واستعداد للاستماع إلى وجهة النظر الأخرى. حدث هذا في لقاء البشير مع قرنق كما حدث من قبل في كوكادام، وفي اجتماع الميرغني – قرنق، وفي حوارات أسمرا، وفي المجابهة بين قرنق وصادق المهدي في أديس أبابا (1986). تلك المجابهة دامت دام تسع ساعات وكانت مثيرة. ختمها قرنق بقوله: "نحن معشر السودانيين نتصف بخاصية غريبة، فليس من السهل في أي مكان آخر في العالم أن يلتقي رئيس وزراء نظام قائداً متمرداً عليه بمثل هذا الروح من الاخاء. ومن حقنا أن نسأل أنفسنا لماذا نعرض بلادنا وأهلنا لويلات الحرب. أقول لك أخ الصادق، بعد إيضاح المواقف، أننى سأخطو خطوتين لقاء كل خطوة تخطوها للأمام" . والتاريخ شهيد على من تزيدوا على الصادق حتى لا يكون وفاق.

    التصاعد بالمواقف إتخذ بعداً جديداً عندما جاء نظام الحكم القائم باجندة دينية- سياسية، حدية في مواقفها، واستئصاليه في بنيويتها، وقاطعة في أحكامها. هذا أمر لا نبتغي الاسترسال في شرحه فقد اوفيناه حقه من الشرح في كتابنا. نتلبث فقط عند أمرين لما لهما من صلة مباشرة بأطروحة الكاتب، الأول هو تحويل الحرب الأهلية إلى حرب دينية، والثاني هو دعاوي الكاتب أنه، فيما قال، يمثل رأي شريحة كبيرة من أهل الشمال. أعجبُ وأطَم أن لا يكون لأدبيات الجهاد، وثقافه العنف التي زُوِد بها المجاهدون مكان في ذاكرة الكاتب الذي كان يشرف على برامج ساحات الفداء. يا لتلك من فجوة فاغرة في الذاكرة.

    أدبيات الجهاد لا يدركها الذين حملوا السلاح ضد النظام في جنوب السودان، لأنها تنطلق في تقديرهم، من مفاهيم ميتافيزيقية، لا مكان لها في عالم السياسة العملية، بصرف النظر عن إيمان أصحابها بها. فالسياسة علم فيزيقي، وأثر السياسات ـ مهما كانت القاعدة المعرفية التي تنطلق منها ـ يجب أن لا تغيب عن بال المبادرين بها. الجهاد، حسب الطريقة التي مورس بها والشعارات التي صحبته، كان دعوة للإبادة، أو هكذا فهمه الخصوم، وفهمه العالم. ومن المؤسي أن الجهاد كان حقاً هو ما تصوره هؤلاء، إذ كان أبعد ما يكون عن وصايا الإسلام نفسه حول الجهاد. ففي وصاة الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وقد خرج لقتال المشركين : "لا تقاتلهم حتى تدعوهم. فأن أبوا فلا تقاتلهم حتى يبدأوكم. فأن بدأوكم فلا تقتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً. ثم قولوا لهم هل إلى خير من هذا السبيل. فلئن يهدي الله على يديك رجلاً واحداً خير مما طلعت عليه الشمس وغربت". لم تكن هذه هي اللغة التي كان يبتعث بها النظام مجاهديه لقتال "المشركين" في الجنوب، بل طغى عليها خذوهم، احصروهم، اقعدوا لهم كل مرصد، "واقتلوهم حيث ثقفتموهم"، وبجرعات مكثفة. لهذا لن تفيد الكاتب في شئ الروايات التي أوردها عن عنف الحركة في الحرب ونسبها إلى الأسرى العائدين، حتى وإن صدقناها، إن لم يصحبها تحليل لثقافة العنف التي تولدت من تديين الحرب. ومن المفارق أن الكاتب لم يشر ـ ولو مرة واحدة ـ لأسرى الحركة الذين وقعوا في قبضة المجاهدين. ما كان في مقدوره أن يفعل لأن منطق ثقافة العنف هو: "اقتلوهم جميعاً لا تستحيوا منهم أحداً". ثقافة السلام التي نريد لها أن تسود تقضى بنزع ما في النفوس من حقد كامن وغِل غليظ "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين" (الحِجْر 15/47). هذا هو حال أهل الجنة لا يمسسهم فيها نَصَب، فلماذا يريد لنا البعض في هذه الحياة الدنيا عيشاً ذا منصبة.

    نذكر أيضاً أن هذه الحرب الذي ظلت رحالها تدور منذ بدايات الاستقلال كانت دوماً في الجنوب. لم يتوجه الجنوبيون بمتمرديهم إلى الشمال الجغرافي لاحتلال رقعة من أرضه. ولم يذهب هؤلاء الموسومون بالحنق، كما ذهب التأميل في سيريلانكا، أو الجيش الجمهوري الايرلندي في المملكة المتحدة، أو ايتا الباسكية في أسبانيا، إلى اغتيال المسئولين أو الاعتداء على البشر وممتلكاتهم في العواصم والأقاليم الأخرى. ولم يسجل التاريخ منذ اشتداد أوار الحرب في الستينيات اعتداءً وقع على مواطن عادي في الشمال من التجار والموظفين والعاملين هناك، وإن سجل أحداثاً للإبادة المنظمة لمثقفي الجنوب في جوبا وواو في منتصف الستينيات كما أثبت ذلك تقرير قاضي المحكمة العليا دفع الله الرضي. وان شاء الكاتب أن يعود بالقارئ إلى أحداث توريت (1955) التي يتلكأ عندها دوماً بعضنا، فيحسن به ـ كما يحسن بغيره ـ أن يعود إلى تقرير لجنة قطران ليرى فيه تحليلاً نصيفاً لأسباب تلك الأحداث. ذلك التقرير وان اختفى من مطبعة ماكوركوديل ـ كما اختفت المطبعة نفسها ـ أجلاه على الناس من جديد مركز الدراسات السودانية لمن يشاء أن يقرأ.

    حكوماتنا التي أخذتها العزة بالإثم هي التي حملت جيش السودان، على غير رضى من اغلبه، بخيله ورجله ومجنزراته وأخيراً بطائراته إلى جنوب السودان ليقول لأهله "أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم"، وما فعل هذا غير قليل من رحالة السياسة. الجنوب لم يكن أرضاً قَواء (خالية من البشر)، بل له أهل، وما اقتحمناه إلا لتقديرنا أن السودان بلد واحد. لهذا لن نصدق اليوم الذين ظلوا يقضون دوماً في أمر السودان بالأغلب، عندما يقولون أن السودان، في حقيقة أمره، بلدان. أو لا يحق لنا أن نقول، إزاء كل هذه الوقائع، إن حال الذين ضاقوا ذرعاً بحرب الجنوب بعد أن استخدموا كل الوسائل (بما فيها الدين) لقهر الجنوب فلم تُجد، كحال الثعلب الذي أنهكه الجري وراء عناقيد العنب، فلما لم يطلها قال : "ما أمر العناقيد !" .

    من اللافت للنظر أيضاً أن حروب السودان رغم كل المرارات التي صحبتها لم تنحدر إلى عداء واستعداء ذي طابع عرقي بين جموع أهل الشمال والجنوب في أقاليم السودان وعواصمه المختلفة كما وقع بين الهوتو والتوتسي في رواندا، أو يتكرر بين الهوسا واليوروبا في نيجيريا. حرى بنا، إذن، أن نعترف ونشيد بالحكمة الفطرية (village wisdom) لعامة الناس من أهلنا في الشمال والجنوب التي ألجمتهم عن الضِغن والتباغض.

    أن المعاسرة التي يجدها النظام في مفاوضاته مع الحركة تعود إلى وضع خلقه بنفسه، ولهذا فليس من الأمانة في شئ أن يستذري بعض نصرائه بأهل الشمال، أو يكتنوا بحماهم. أهل الشمال هؤلاء لم يستشاروا في سياسات النظام التي ألحقت أذى بالغاً بوحدة السودان. ولم يكن لهم مكان في خارطة طريق السلام التي رسمها يوم أن قال قائله (علي الحاج) لقرنق في عنتبي في مطلع التسعينيات، وعندما دعا قرنق لشمول محادثات السلام للقوى السياسية الأخرى : " نحن لا نتحدث إلا مع من يحمل السلاح". كما كان نصيبهم الالغاء الكامل يوم بعث مندوبه قطبي المهدي إلى نيروبي غداة وصول نائب رئيس التجمع، عبد الرحمن سعيد يصحبه نيهال دينق يطالبان بإدخال التجمع في مفاوضات الإيقاد. قال قطبي: "لو دخل التجمع من النافذة، خرجنا من الباب". وأخيراً يوم قال الفريق البشير لكبار أهل الشمال عند افتتاح ميناء بشاير "لا مكان لهؤلاء في السودان إلا بعد أن يتطهروا بمياه البحر الأحمر". فأي شمال هذا يتحدث الكاتب باسمه؟ أو ليس الأجدر بالحديث عن الشمال الرجل الذي ظل يدعو إلى إشراك قواه الفاعلة في كل مرحلة من مراحل العملية السياسية.

    الجنوب وتخريب الاقتصاد

    تخريب الجنوب للاقتصاد السوداني تعبير لا معنى له، فالحرب، كما قلنا، هي التي قادت بالضرورة إلى تخريب الاقتصاد، وعمقت من تشوهاته الهيكلية، وقادت ـ بجانب الهدر في الإنفاق ـ إلى إضاعة فرص التنمية. على أنا نقترب من هذه القضية من وجهين، الوجه الأول يتعلق بمسئولية أنظمة الحكم السابقة عن الخراب الاقتصادي، والثاني يتعلق بدور النظام الذي ينتمي إليه الكاتب في تعميق الخراب الراهن. حول الوجه الأول نقول أنه بالرغم من أن قضية تنمية الجنوب استغرقت حيزاً كبيراً في مقررات لجنة الاثني عشر، إلا أن التوصيات بشأنها بقيت حبراً على ورق حتى اتفاق أديس أبابا 1972. السبب بالقطع لم يكن هو رغبة تلك الحكومات في إفقار الجنوب والإبقاء على تخلفه، وإنما كان هو ضمور خيالها عند الإقبال على قضية التنمية في السودان بوجه عام. تلك الحكومات أبقت على نهج التنمية الاستعماري الموروث والذي كان موجها،ً بطبعه، لخدمة أهداف المستعمر باستغلال اكثر المناطق قابلية للاستثمار، وأقرب لِمواني التصـدير، وأجـدى بمعـايير فعاليـة التكلفــة (cost - effectiveness). لهذا لم تسقط فقط تنمية الجنوب، بل تنمية كل الأقاليم المهمشة من شاشة السياسة الاقتصادية الاستعمارية. فخلال الفترة من مؤتمر جوبا وحتى الاستقلال بلغ إجمالي حجم الاستثمار التنموي لكل السودان 14.6 مليون جنية سوداني، انفق منها على الجنوب 1.3 مليون. ذلك الإنفاق ذهب كله لإقليم واحد فيه (الاستوائية)، بل لمشروع واحد هو مشروع الزاندي الذي أعده المستر توتهل (مدير الزراعة وأول مدير لجامعة الخرطوم). أما في الفترة 1956 – 1960 ارتفعت مخصصات التنمية إلى 69.5 مليون جنية توجه أغلبها إلى مشروعات الري الكبرى في الشمال، مشروع المناقل، توليد الطاقة الهيدروكهربائية في سنار، مشروع الجنيد، وبدايات العمل في خزاني الرصيرص وخشم القربة. فالباحث الذي يريد أن يقضي في أمر مصيري مثل تقطيع أوصال القطر عليه أولاً أن يتثبت من الحقائق بدلاً عن إرسال القول على عواهنه. وحين يكون الحديث عن الاقتصاد فلا تعنى تعبيرات مثل "إغداق الشمال على الجنوب" شيئاً إن لم تصحبها أرقام، فالاقتصاد ـ في وجه منه ـ علم حساب. مع ذلك نقول أن الشمال "أغدق كثيراً" من ماله ورأسماله البشري، لا على الجنوب، بل على حرب الجنوب. وكما قلنا لا يتحمل المسئولية عن تلك الحرب إلا الذين انتهوا بعد ثلاثة عقود من الزمان إلى مالو كانوا قد أذعنوا له منذ البداية لكفوا الشمال والجنوب معاً عناء الحرب وتكلفتها الباهظة.

    لم تبلغ الحرب ما بلغته من كرب وهلاك ودمور ما بلغته منذ تحويلها إلي جهاد. فالنظام هو الذي جعل من القتال واجباً مقدساً يفرض على القادر وغير القادر، وعلى الراغب وغير الراغب. والنظام هو الذي حول الاقتصاد الوطني كله إلى اقتصاد حرب. والنظام هو الذي تجاوز كل قوانين الحرب بتعديه، للمرة الأولى في تاريخ الحرب الأهلية، على المنشآت المدنية. فأن دمرت الحرب الراهنة المدارس، فالتدمير لحق بمدرسة كمبوني في قرية كاودا بجبال النوبة، لا بكمبوني الخرطوم. وان طالت تلك الحرب المستشفيات، فقد كان ذلك هو نصيب مستشفى محفظة السامري في لوي، لا مستشفى سوبا. وان بلغ أغلب أهل الشمال حد الفقر، ولم يبقَ لبعضهم غير فضلات المقمات وقِرْف الحَتىِّ (الدوم) طعاماً، فليس لأن الجنوبيين قد سطوا على خزائن قارون يتوزعونها بين أنفسهم، وإنما لأن الامناء على تلك الأموال حددوا أولويات لإنفاقه يأتي الفقراء والمساكين والعاملين عليها في أسفلها. لهذا عندما يزرف الكاتب الدمع السخين على آثار الحرب على الاقتصاد، ويغفل كل الإنفاق الرسمي والأهلي الذي سخر للحرب، خاصة منذ مطلع التسعينيات، يكشف عن عَوار كبير في دعاواه. ومن الاستخفاف بمكان أن لا يجد الكاتب من كل المنشآت الكبرى التي عطلها قرنق، كما قال، غير قناة جونقلي التي ستدر على مصر 4 مليار متر مكعب من المياه (الصحيح أن هذه المياه ستقتسم مناصفة بين البلدين: مصر والسودان). جونقلي أوقفتها الحرب، وكانت ضحية لها بالتداعي. مع ذلك كان أول طلب توجه به قرنق إلى المهندس عوض الكريم محمد أحمد في لقاء كوكادام هو إرسال وفد من نقابة المهندسين لمعاينة الحفارة وصيانتها. نفس الطلب تقدم به قرنق إلى الرئيس مبارك في أول لقاء له معه في منزل السفير روبير اسكندر بأديس أبابا. على أن الحرص الذي يبديه الكاتب على مصالح مصر المائية في السودان حرص زائف، خاصة وقد صدر ممن كان ينتمي إلى أول حكومة سودانية صادرت منازل الري المصري، وطردت عامليها بالرغم مما تنص عليه اتفاقية مياه النيل (1959) حول اللجنة الفنية المشتركة.

    الحقد العنصري نحو الشمال

    لا ينكر أحد أن بين متعلمي الجنوب من لا ينظر إلى الشمالي ـ أي شمالي ـ إلا كعربي مسترق، هؤلاء هم ورثة أقري جادين، وجلهم ضحية لمتلازمة الرفـض (syndrome of denial). بيد أن في أوساطنا من يؤكد لهم كل يوم صدق توجسهم ومخاوفهم، ولا تسألن عن نوازع هذا الرفض، فكل ثقافتنا السائدة تقوم على الاستعلاء، أو ما أسماه عبد الله علي إبراهيم الخيلاء العرقية. ذلك الاستعلاء المنتفخ لا مكان له في عالم اليوم منذ أن تواضعت الإنسانية على إعلان حقوق الإنسان وما تبعته من عقود وعهود. وسرعان ما يقول قائلنا: نحن أصل هذه العهود، فمنا عمر الذي قال "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". هذه خفه لا تغنى ولا تفيد، فالذين يعانون من القمع المعنوي لا يخاصمون عمر بن الخطاب المخزومي، وإنما ينازعون محمد احمد السوداني (أمثال الكاتب) في حقوق يكتسبها المرء بحكم إنسانيته. فالمحسوس الواقعي لا يغنى عنه المجرد النظري. ذلك المحسوس تعبر عنه ممارسات فعلية هي، في جوهرها، انعكاس لصراع القوى والمصالح. وعلى أي، ذلك موضوع لن نوفيه حقه سنظلمه إن اختزلناه في بضع سطور في هذا المقال، خاصة وقد أفردنا له مكان ربما في كل فصل من فصول كتابنا العشرة. ولئن يختزل الكاتب كل القضية في قوله "لن أتردد في قبول زواج أي مسلم جنوبي من ابنتي عند موافقتها على ذلك" يكشف عن مقاتله. أصحاب هذا اللون من التفكير يلخصون كل قضية الجنوبيين في الابتعال ببنات ذوي الاحساب والذؤابة من نسل العباس بن عبد المطلب. القضية، يا شيخنا، سياسية تتعلق بالتمكين السياسي والاقتصادي، فالذين "استضعفوا في الأرض" ليسوا هم فقط أصحاب تيار سياسي بعينه. هناك أيضاً غيرهم من المستضعفين الذين يسألون الله أن يَمُن عليهم ويمكنهم في أرضهم. هؤلاء لم يكتفوا بسؤال الله، وما كان لهم إلا شحذ أسنة رماحهم في زمان ساد فيه القول "لن نتحدث إلا مع من يحمل السلاح".

    هذه النظرة "الجنسية" المنحرفة للقضية أيضاً، لا تختلف كثيراً عن رؤية المتعصبين البيض في الولايات الجنوبية بأمريكا. قال لهم مارتن لوثر كينق : "أريد أن أكون أخاً لكـم، لا بعـلاً لأخواتكـم" (I want to be your brother, not your brother - in law). ولا شك في أن الذين يخشون من التمكين السياسي يلجأون دوماً إلى استثارة أدني الغرائز في الناس. إلى استثارة العواطف ذهب كاتب إسلامى آخر كنا نحسب أنه بمنجاة من أبطولات الاستعلاء العرقي. كتب حسن مكي منذ بضع سنوات مقالاً حول جموع الوافدين إلى الخرطوم من غير المستعربة يقول إن تكاثرهم قد يذيب العنصر العربي فيها. ومضي الدكتور الأريب لوصف العاصمة التي أخذ "يجللها السواد" بسويتو، (المدينة الأفريقية المجاورة لجوهانسبرج)، أي أنها أصبحت جزيرة من السود وسط بحر من البيض. ولأهل السودان في الشمال والجنوب نظرة معتلة للألوان، فبياض أهلنا وأهل أخينا حسن لا يختلف كثيراً عن بياض "بحر أبيض"، ذلك النهر الخانع العبيط. اللون ليس هو القضية وإنما القضية هي المقاربة بين جنوب أفريقيا والسودان. ولعل غلاة دعاة الابارثايد كانوا أكثر حكمة منا عندما أدركوا ديناميكية السياسة وتنزلوا عن حصانهم الجامح وقبلوا الواقع، بعد أن تعالوا على ذلك الواقع زماناً. الواقع لا يقضي بتنكرنا في الشمال لعروبتنا الثقافية وإسلامنا، كما لا ينبغي أن لا يفرض على غير العربي وغير المسلم أن يكون عربياً ومسلماً. تنوع السودان هو مصدر قوته، بل هو آيـة من آيات الله: "ومن آياته خلـق السمـوات والأرض واختـلاف ألسنتـكم وألوانـكم" (الروم 22 /30). هذا تنوع صنعه البديع الذي أتقن كل شئ. الواقع أيضاً يقول نحن جميعاً سودانيون، منا قوم اصليون عاش أسلافهم في أرض السودان منذ أن كان هناك فضاء سوداني (النوبة، البجة، النيلويون، الفور)، ومنا قوم وفد أسلافهم إلى هذه الأرض واستقروا فيها وتوطنوا. وهكذا تكونت الأمم جميعها. هذه الحقيقة يتأبى بعضنا الإذعان لها لأنهم لم يلغوا بعد التناقض الفج داخل نفوسهم، كما يرفضون النظر إلى وجههم في المرآة، وإن نظروا فلا ينظرون إليها إلا في مرآة مقعرة. فلا غرو، إذن إن اختلت الصورة.

    بلا مناسبة شاء الكاتب أن يزج باسمنا في الفتنة التي ألهب نيرانها، وأنكرها حتى الاقربين. أسمانا ومن معنا ممن أطلق عليه أسم "الشماليين" خبراء التجميل في "الحركة العنصرية الحاقدة". العنصريون، حقاً هم الذين يزيحون عن خارطتهم الادراكية الآخر المختلف أو المغاير، ولا يقبلونه إلا كرديف مطاوع. والعنصريون هم الذين يبيحون لأنفسهم تحت بيارق الأيديولوجية السياسية، أو رايات الدين، أو أوهام التمايز الثقافي، إبادة الآخر حساً في بعض الأحيان، ومجازاً في كل حين. ندرك أن للكاتب ثأراً مع من يسميهم "الخوارج" في السودان يمضه كما أمض مقتل على قلب الشريف الرضي وأضغنه على خوارج النهروان. ذلك الضغن لم ينزعه الشريف عن نفسه، بل تمنى عليها أن تدركه بقطع كل قرن منهم حتى وإن كانوا نطفاً في أصلاب الرجال وأرحام النساء (نهج البلاغة). وما كان العفو والتراضي ليجد طريقه إلى قلب الشريف فاخر النفس وقد شهد جبال المجد تنهد أمامه، واحداً تلو الآخر:

    يا جبال المجد عزاً وعُلا وبدورَ الأرض نـوراً وسنـا

    جعل الله الـذي نَاَبكـمُ سبب الوجد طـويلاً والبُكـا

    لا أرى حزنكم يُسلى ولا رُزءَكم يُنسى وان طال المدى

                  

02-02-2003, 09:01 PM

elhilayla
<aelhilayla
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 5551

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عجبي ممن يؤثر العوراء على العيناء (Re: elhilayla)


    الجزء الرابع
    من رد الدكتور منصور خالد علي الطيب مصطفي
    كان، بحق، موتوراً ثائراً على تعدى مهووسين نقضوا العهد، وأخذوا ولي أمرهم امام العادلين من حيث لا يدري، ونازعوه في ولايته وهم ليسوا في شرف موضعه وحسن ديانته. فالعزاء بمثل عليٍ مغلوب. أما حرب السودان اللعينة فهي حرب سياسية، لا غادر فيها ولا مغدور به. هي أيضاً حرب خاضتها أحزاب الشمال وحكوماته في ارض يقطنها أناس لا يعترفون لتلك الأحزاب والحكومات بولاية، ولم يتخذوا معهم عهداً في كل الفترات التي نقضوا فيها العهود، أو تلك التي اقتسروا الولاية فيها غلاباً. القراءة المتأنية والبعيدة عن الانفعال ستقودنا، بلا ريب، إلى أن نكون أكثر موضوعية في التقويم والحكم. ولكن إن تحامس بعضنا لا يبتغي غير الثأر المنيم، فعلم الله لنفتحن باب جهنم علينا لأن الدماء ستجري في الخرطوم قبل جوبا، وفي الخرطوم البحرية قبل توريت بين أهل الشمال أنفسهم بين أصحاب الثارات. أو ليس الأوفق أن يطفئ العقلاء نار الغضب تفادياً لنيران جهنم.
    أقول، من بعد، أنا لست شمالياً بعد أن اختلق لي الكاتب هوية معينة. وبالقطع أنا لست جنوبياً. أنا سوداني فحسب. هذه الرحلة التي قطعت لأتجاوز بها كل نوازع التمييز الجهوي، والعرقي، والديني بين أبناء الوطن الواحد لما يفلح بعد في سلوكها كثيرون في الشمال والجنوب. لو فعلوا لتصالحوا مع أنفسهم وتأنسنوا. ثم إننى سوداني بالصدفة التاريخية والجغرافية، أنا إنسان في البدء والمنتهي، وليس الإنسان هو كل من مشى على قدمين. الإنسان هو المخلوق القادر على التماهي مع بني البشر بحكم إنسانيتهم، وهو الحريص على مد جسور التفاهم مع كل الثقافات ومحاياة كل الشعوب والقبائل، وهو المدرك لأن الرؤية تتسع كلما انسجم مع المغاير والمفارق. هذا مجال تضيق فيه العبارة، وكما يقول الصوفي عبد الجبار النفري: "كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة". أصحاب النظرة الأحادية للحياة، والأحكام القاطعة على الأحياء، هم وحدهم الذين لا تضيق عباراتهم، ولم لا وقد احتكروا الحقيقة كلها! الإنسانية، يا صحاب، هي التي تعمق في الوجدان معاني الحب والخير والجمال. ولا يحسبن أحد أن رجلاً عاش في شرخ شبابه يعمل في محافل ما قامت إلا لخير الإنسانية، رغم كل عثراتها، يتنكر لما تعلمه في صباه بعد أن أصبح في معترك المنايا من العمر. فالذي يستنكر الابارتايد في جنوب أفريقيا ينبغي أن لا يقبل شبيهاته في عقر داره. والذي عايش وشهد مآسي الاستعلاء العرقي الصريح فـي أمريكـا، يقمن بـه أن لا يصمت عـن العرقية الخفية غيـر المسماة (anonymous) في بلاده. لهذا نسعى، مع كل ما نحس به من ألم ومضاضة، لاستنطاق المسكوت عنه، واستبصار اللامرئي سعياً لاستنقاذ بعض أهلنا من أنفسهم. هذا "الشمالي" أيضاً لن يستكين للتزيد والابتزاز باسم العروبة والإسلام، كما لن يسمح لنفسه البتة مجاراة النفاق الذائع حول أفريقية أهل السودان أو دور السودان الرائد في أفريقيا. لن يستكين للتزيد رجل أنضجته أرحام طاهرة من سرارة ذوي الأنساب في بلاد فيها للأنساب شأن، وتلبسته الثقافة العربية وتلبسها (إن كانت العروبة ثقافة)، وورث دينه عن أهل فقه ورواية. ليس مقامي بمقام مفاخرة، ولا در دري إن تفاخرت. ولكن ماحيلتي في بلد يتظنى بعض أهلها أن فيها هامات وأعجاز. تلك جاهلية، لا يرتد إليها إلا "الذين كفروا وفي قلوبهم الحَميةَّ حميَّةَ الجاهلية" (الفتح 26/4. هذا تزيد لن ننكفئ معه، بل نقول
    إلا لا ليجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
    أما أفريقية أهل السودان، فدعاتها مدخولو القلب في الانتماء إليها، طالما ظلوا عاجزين عن احتمال "أفريقيا" التي تتساكن معهم في نفس الوطن. كثر من هؤلاء ذهب به النفاق إلى تصنيم قيادات أفريقية مثل باتريس لوممبا ونلسون مانديلا، وجومو كينياتا، ولا يصنمون إلا الأساطير والرموز. هي أساطير ورموز لأنهم افرغوا أولئك الأبطال المغاوير من كل العناصر التي كونتهم، ومن كل المواريث الثقافية التي غَذَت نضالهم، ومن كل المعاني التي عبر عنها ذلك النضال: استرداد الكرامة، نبذ الاستهجان، المساواة. الرموز الخالية من المحتوى لا تتهدد أحداً، ولهذا فلا يضير رؤوس النفاق أن تهتز عِطافها عندما يغرد الكابلي: "جومو كينياتا الذي نعرفه".
    بلا مناسبة أيضاً زج الكاتب بقصة رفض قرنق لقاء الأستاذ علي عثمان محمد طه في لاغوس واتخذ منه نموذجاً لتحقير الرجل للشمال، أسمي ذلك "الانتقام والتشفي والحقد العنصري الدفين". قرنق التقى من قيادات الشمال البشير، والصادق المهدي، ويهرع دوماً للقاء الميرغني، فلماذا، إذن، يعبر رفضه مقابلة علي عثمان "الشمالي" عن رفض عنصري دفين؟ ولماذا لم يمتد التشفي والحقد، أن كان هناك حقد أو تشفي، إلى من هو أعلى رتبة من علي عثمان في النظام ؟ جوهر القضية يتلخص في أمر هام عجز بعضنا حتى الآن على إدراكه : الظن أن قضية بتعقيد قضية السودان يمكن أن تحل عبر المناورات، أو بافتراض أن قرنق أداة طيعة في يد كينيا ويوغندا ونيجيريا، ناهيك عن أمريكا. الحديث عن ذلك الاجتماع جاء في الوقت الذي كان الرئيس الكيني السابق يمهد فيه لاجتماع بين قرنق والبشير، فبدا وكأنه محاولة لاستباق ذلك الاجتماع أو إجهاضه. ولربما ظن من سعى للاجتماع ورتب له ـ دون إخطار قرنق ـ أن الرجل لا يملك أن يرد طلباً للرئيس النيجيري حتى وان وجد نفسه في كمين. وللحقيقة ذهب الرجل برفقة زوجته إلى لاغوس في الطائرة الخاصة للرئيس السابق بابنجيدا لقضاء عطلة الكرسماس في قرية اوباسانجو مع زوجته وأبنائه. لم يبلغ بنبأ هذا الاجتماع إلا بعد أن أقلعت الطائرة من مطار نيروبي، وكان رده بسيطاً لم تتخلله المعاني التي ذهب إليها الكاتب. قال: "كيف يمكنني أن أشارك في اجتماع لم أخطر به مسبقاً، ولم اعد له نفسي، ولم أتشاور بشأنه مع رفاقي، ولم أصحب معي إليه من يعنيهم الأمر من مستشاريي". قيل له انك ستحرج الرئيس اوباسانجو بهذا الموقف، فرد قائلاً: "على الذين دبروا هذا الكمين تحمل نتائج الإحراج". بقى الرجل على موقفه إلى أن وصلت الطائرة العمودية التي أقلت وفد الخرطوم إلى منزل اوباسانجو الريفي، مما أوقع الرئيس النيجيري في حرج بالغ أمام ضيفيه. ولم يألُ اوباسانجو جهداً لإقناع قرنق للقاء ضيفه، إلا أنه استكان في النهاية عندما قال له قـرنق: "سيـدي الرئيس هـذه الحـرب كلـها تـدور حـول شـئ واحد هـو الكـرامة" (All this war is about one thing, dignity). هذا قول فهم مغزاه أوباسانجو، ولكن، فيما يبدو، لم يفهمه بعد الذين ما برحوا يتقافزون حول المشكل بالتشاطر حيناً، وبالظن الباطل أحياناً أخرى أن خصيمهم ليس أكثر من أداة في يد غيره. الحكمة تقول أن الوعل يمسك من قرونه، لا بالتحايل عليه.
    الإنسان كائن غريب الأطوار، لا يفهمه أذكى الأذكياء. فعندما طلب الصهاينة، مثلاً، من العالم البرت اينشتاين، في مَعرِض بحثهم عن يهودي مرموق ليكون أول رئيس للدولة العبرية، تأبى العالم الفيزيائي ذلك العرض قائلاً: "أنا أفهم بعض الشىء في الفيزياء، ولكني لا أفهم الإنسان أبداً". لقد استعصى فهم الإنسان على ذلك العالم العبقري لأن الإنسان يصنع الأوهام عن نفسه وعن الآخر، ثم يصدقها، ثم يستمرئ تلك الوهوم من بعد لأنها تكسبه حصانة ضد ما في وهمه من خبائث، وتعشى بصره عن رؤية الصور التي شكلتها تحيزاته الموروثة. ولربما كانت تلك الوهوم هي التي حملت الكاتب على أن يلحق بالجنوبيين أجمعين، الاقلة عصم ربي أو انتقاها، كل المشاين والمقابح. حتى ذلك الرجل الوديع نيهال دينق رماه بالحقد واتهمه بالسعي لـ "تحرير السودان من الجلابة". الكاتب، فيما يبدو، لا يعرف نيهال من آدم، ولعله التقط اسمه من مضابط الحوارات في المفاوضات. ذلك اختيار لم يحالفه التوفيق. فأن كان بين مفاوضي الحركة غلاة (مثل أي تنظيم سياسي)، فنيهال ليس واحداً منهم. وإن كان بينهم ذوو الأناة في الاستماع للرأي المغاير، والقدرة الفائقة على استيعاب مخاوف الآخر، فنيهال على رأسهم. هو كذلك، رغم أنه صاحب ثأر، اغتيل والده وذهب بلا قَوَد، فلم يلهث وراء الثار بل كظم غيظه. الإشارة لنيهال لا تتضمن تلبيساً للحق بالباطل فقط، بل تضع الكاتب في موقع حرج. أولاً الحوار الذي يدور اليوم في ماشاكوس لا يتعلق بتحرير السودان من الجلابة، ولا بهيمنة الجلابة على السودان. محور المفاوضات هو التراضي على وضع ينهي الحرب، ويحقق السلام، ويرضي مطامح كل أهله في الشمال والجنوب. والذي يتهم بالعمل على تحرير السودان من الجلابة هو رئيس الوفد الذي أقر أن يحكم الشمال وفق الشريعة، ويحكم الجنوب وفق ما يرتضيه أهله. هذا أمر أقلق الكثيرون من "الجلابة" ولكن، بلا شك فيه مراضاة لمن بهم صبابة للشريعة. أما إن شاء الكاتب أن يقرأ في بروتوكول ماشاكوس غير ما قالت به نصوصه، ويفترض أن الحركة لا تبتغي غير فرض رؤيتها على أهل السودان (بمن فيهم الجلابة) فهذا شأنه، ولكنه يوقع نفسه في ضيق شديد. فإن كان الذي ينعيه الكاتب على الحركة هو سعيها نظرياً لاعادة رسم خريطة السودان السياسية والثقافية على هواها، فأقل الناس أهلية لاطلاق هذه التهمة رجل ينتمي إلى قبيل أعاد رسم تلك الخارطة عملياً. فما الذي يبيح للنظام الذي ينتمي إليه الكاتب إعادة تشكيل السودان كله قسراً ودون استشارة أهله بهدف "إنقاذه"، ولا يبيح لكائن من كان أن ينهج هذا السبيل رغبة في تجديده؟
    وبصرف النظر عن التهالك المنطقي في مزاعمه يتبدى لنـا مـن إشارته لنيهال أن الكاتب ينظـر للجنوبيين كلـهم، كمـا ينظر غـلاة البيض العـنصريين فـي أمريكـا للسـود. يقولـون "إن التـقيت واحـداً منهم فقـد إلتقيتهـم جميعـاً
    (If you met one, you have met them all). أما قرنق فلم يبق للكاتب إلا وصفه بأنه رجل يستطيب أكـل الأطفـال المحمرين (roasted babies). قبل أكثر مـن قرنين مـن الزمـان (1729) صاغ الكاتب الإنجليزى الساخر جوناثان سويفت (مؤلف رحلات جلفر)، مقاله الغريب "إقتراح متواضع" (A Modest Proposal) يبين فيه محاسن اكل لحوم الأطفال الأيرلنديين محمرة، أو مقلية، أو مشوية. المقال كان إدانة لغلواء المتعصبين الإنجليز ضد الايرلنديين وهزوءاً بهم. ترى، أومازلنا نعيش في زمان جوناثان سويفت؟
    التدخل الخارجي
    في السنوات العشر الأخيرة أطنب بعض المعلقين في الحديث عن تدويل المشكل السوداني، وعن التوغل الإسرائيلى في شئون السودان. إلى هذه المزاعم لجأ الكاتب أيضاً ليبرر دعواه للانفصال. قال إننا "أمام خيارين، فأما أن تستمر الحرب كما استمرت لما يقرب من نصف قرن من الزمان بكل ما يعنيه ذلك من تطورات سلبية محتملة في ظل التعاطف الدولي والإقليمي الذي يجده قرنق والتدخل الإسرائيلي المكشوف للإحاطة بمصر والسودان من خلال دعم قرنق وتمكينه من تنفيذ مخططاته والمخطط الأمريكى الذي يسعى إلى إعادة رسم خريطة المنطقة وإحكام الطوق حول عنق السودان. أقول ذلك وأنا اقرأ عن مخطط أمريكي لتغيير هيكل الحكم في السودان لمصلحة سيناريو جون قرنق حول السودان الجديد.... أو أن نقدم على الخيار المتبقي لنا وهو خيار الانفصال". ولو كانت كلمة "لنا" تشير إلى أصحاب التوجه السياسي الذي يمثله الكاتب لما جادلناه، لأن كل خطط السلام الراهنة تتجه إلى إنهاء الهيمنة الراهنة التي ظل يستنهجها النظام. أما الزعم أن أهل الشمال جميعاً يشاركون الكاتب الرأي، فزعم صاعق زاعق. أهل شمال السودان، فيما نقدر، لا يتمنون من الله شيئاً غير إنهاء الهيمنة السياسية القائمة والعود بالسودان إلى نظام أكثر رحابة. نظام يستريح للتباين الفكري عوضاً عن الاحتكار الآحادى للحقيقة، ويحترم المساواة السياسية بدلاً من التراتبية الرأسية، ويقبل انطلاق الأصوات المتكافئة لا الركون للصوت الواحد الرتيب، ويعترف بالهويات الثقافية المنفتحة على الزمان والمكان، لا الانكفاء على هوية واحدة مغلقة ترتكز على ماضٍ وهمي، أو على الأقل تخيلي.
    وعلى أي، فافتراضات الكاتب حول التدخل الأجنبي في الشأن السوداني افتراضات واهية لا تدعمها حجة بينة، ولا يسندها دليل متين. ما هي هذه الافتراضات؟ أن هناك تدخلاً دولياً وإقليمياً "لمصلحة قرنق"، وان هناك دعماً إسرائيلياً "مكشوفاً" له، وأن هناك مخططاً أمريكياً لتغيير هيكل الحكم في السودان لسيناريو السودان الجديد. هذه الافتراضات تعرقل الأمر على الباحث، وتشوش أفكار المتلقي، ولو عَدَّى عنها صاحبها لكان خيرُ ُ عُقبا. مثل هذه الدعاوى لا يمكن أن تصدر من رجل يعيش مع الناس في الأرض، أو يأبه للواقع الذي يحيط به. ففي البدء نقول أن التعاطف الدولي، منذ بدايات النظام، لم يكن مقصوراً على الحركة، بل شمل مجمل المعارضة السودانية، وليس أدل على ذلك من قرارات لجنة حقوق الإنسان ضد انتهاكات تلك الحقوق، خاصة بعد ان جعلت اللجنة مراقبين ومقررين لها في الخرطوم، مازالوا يتوافدون عليها حتى اليوم. جُلَ هَم هؤلاء كان معاناة الصحافة والمحامين في الخرطوم، والنازحين إلى الخرطوم، والأكاديميين والطَلاب في جامعاتها، دعك عما لحق بالمعارضين السياسيين وناشطي حقوق الإنسان. نقول هذا حتى لا يصور البعض اهتمام العالم بالسودان بأنه اهتمام لا يهدف إلا لحماية مشروع الجنوب "العنصري".
    الذي تعنيه انتهاكات حقوق الإنسان بهذه الدرجة، لابد أن تعنيه بدرجة أكبر مآسي الحرب والجهاد والميليشيات القبلية التي استنفرت إلى ساحات الجهاد فسارت إليه بالموريات قدحاً والمغيرات صبحاً. نحن لسنا هنا بصدد صدقية الاتهامات التي وجهت للنظام، فلنا في هذا دين، وله دين. كل ما نريد قوله هو أن في تصوير الاهتمام الدولي بحرب السودان كانحياز لمصلحة فريق واحد إجحاف بالحقيقة. أما التدخل الإسرائيلي فأمره عجب، ولن يفيد كثيراً أن ننفيه، خاصة أمام تلبث بعض الجهات على تزوير الوثائق بصورة تفتقد الحد الأدنى من المهارة لإثبات تلك الفرية. ما نؤكد عليه هو أنه، إن صحت التهمة، وكان لدي مطلقيها من الأدلة ما يؤكدها، يصبح من الغريب أن يتساعى النظام منذ أغسطس 1989 لاستئلاف الحركة "العميلة"، بل إشراكها في الحكم. فعملاء إسرائيل ينبذون ويكشفون ويحاربون، بدلاً عن استدراجهم إلى سدة الحكم في الخرطوم، قلب العروبة النابض
    نجئ من بعد إلى المخططات والسيناريوهات الأمريكية، وهنا تصل المغالطة للنفس والتمركز في الذات أعلى درجاتها. الأحادية الأمريكية أصبحت اليوم حقيقية مسلمة لا ينكرها إلا جرئ على الحق. رضينا أم أبينا تلك هي الحقيقة، والسودان مثل بلاد الله الأخرى ليس بمنجاة من أن يكون لأمريكا، باستراتيجيتها الكونية لا العالمية فقط، يد في حل مشكله، بل إعادة تشكيله إن عجز أهله عن حزم أمرهم. فهو ليس أشد منعة من بريطانيا العظمى التي استنجدت بكلنتون لحل المشكل الايرلندي (اتفاقيات الجمعة الحزينة). وليس بأكثر حرصاً على ثوابته من منظمة التحرير الفلسطينية التي ارتضت لحل مشكلها المزمن الاستعانة بجورج بوش الأب وجيمس بيكر (مفاوضات مدريد) وبجورج تينيت مدير المخابرات المركزية وسيطاً لتنفيذ أجرات السلام والأمن، وهي تعلم علم اليقين أمر المساندة المكشوفة للإدارة الأمريكية لدولة إسرائيل. وليس حكامه أكثر ثورية من قيادات فيرليمو الماركسية (موزمبيق) التي لم تجد خيراً من دكتور تشستر كروكر، مساعد وزير الخارجية الأمريكي في عهد ريقان للتوسط بينها وبين معارضيها في وقت كان فيه للاتحاد السوفيتي سلطان. كما أن أغلب متصدري الأمور فيه لا يقلون حماقة عن صرب يغوسلافيا أو أهل البوسنة والهرسك. فلو أفلح هؤلاء في معالجة أزماتهم بأنفسهم في بلغراد وموستار، لما اضطروا صاغرين لقبول الحلول في دايتون، أوهايو. هذا هو الواقع البائس في عالم اليوم: ندينه، نشجبه، نمتعض منه، "نلعن دينه"، ولكنه يفرض نفسه علينا، كما فرضها على غيرنا. ولعل الكاتب يدرك هذه الحقيقة أكثر من غيره.

                  

02-02-2003, 09:04 PM

elhilayla
<aelhilayla
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 5551

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الجزء الأخير (Re: elhilayla)


    الجزء الأخير
    من رد الدكتور منصور خالد علي الطيب مصطفي
    فعندما أعلن الرئيس بوش أن العالم ينقسم إلى معسكرين : معنا أو ضدنا، اختار حكام الخرطوم أن يكونوا مع دول "المع" لا مع "دول الضد" كما يقول اخوتنا في الكويت. ألم نقل أن تزيد الكاتب لا يصدر إلا ممن لا يعيشون معنا في الكوكب الأرضي، ولا يأبهون للواقع الذي يحيط بهم. أمريكا لم تحشد قواتها، كما تفعل الآن في الخليج، لتفرض وضعاً على السودان. وأمريكا لم َتدعُ إلى الإطاحة بالنظام (كما كان يقول ويتمنى التجمع)، وإنما اعترفت به وبمكان التيار السياسي الذي يمثله في ظل نظام سياسي مفتوح يصل الحاكم فيه إلى دست الحكم عبر صندوق الانتخابات، وفي انتخابات حرة ذات شفافية تحت إشراف محايد. فأى شمال ذلك الذي يرفض هذا السيناريو؟ نلمس في حديث الكاتب تخليطاً قاد إليه الظن أن أهل الشمال جميعاً تواقون إلى الإبقاء على نهج الحكم القائم، وهيمنته المطلقة على الحيز العام. وللحكم المطلق منطقه الخاص، يكاد أهله يظنون أنهم والأمة سواء. لهذا لم يبالغ من قال أن الذي يريده الكاتب هو إنهاء الحرب في الجنوب حتى وإن كان الطريق إلى ذلك هو فصل ذلك الإقليم، لكيما يتمكن النظام تمكيناً مطلقاً أو شبه مطلق في الشمال. وإن صح هذا، نخال أن النظام، وقد خاب سعيه لإلباس السودان كله رداءً نظرياً حاكه على عينه، يريد الآن تفصيل السودان نفسه على مقاس ذلك الرداء.
    لن نغلق هذا الباب قبل تناول نقطتين اخرتين وردتا في المقال: الأولى تتعلق برئيسي دولتين جارتين، والثانية تتعلق بمصر. قال الكاتب أن الحرب اللعينة "عطلت مسيرتنا وجعلتنا محلاً للسخرية والتندر والاستخفاف حتى من الصغار مثل افورقي وموسيفيني اللذين ما كان ينبغي أن يتطاولا حتى على أضعف ولاياتنا". ولا ندري ما الذي يعينه تعبير "صغار" في وصف رجلين قادا ثورتين شعبيتين لتحرير بلديهما تكللتا بالنصر. نعرف جيداً أن للنظام مآخذه على إرتريا، ولكنا نعرف بنفس القدر أن إرتريا كانت هي وأثيوبيا أكثر الدول التصاقاً بالنظام، ودفاعاً عنه عند نشأته. وفي العلاقات بين الدول تصدق كثيراً الحكمة الذائعة : "أحبب صديقك هوناً ما عسى أن يكون عدوك يوماً ما، وابغض عدوك هوناً ما عسى أن يكون صديقك يوماً ما". لسنا هنا لنلقي على الكاتب أو غيره درساً في الدبلوماسية، وإنما نقول أن تدخل الدولتين في الشأن السوداني جاء بطلب من النظام. فموسيفيني هو أول رئيس استنجدت به حكومة السودان للقاء قرنق (اللقاء مع علي الحاج في عنتبي)، كما هو أول رئيس أفلح في ترتيب لقاء بينه وبين البشير. واسياس هو أول رئيس جمع بين البشير والميرغني في عاصمة بلاده اسمرا. وكلاهما، (كعضوين في منظمة الإيقاد) لم يتوغل في أمر السودان إلا بعد طلب الرئيس السوداني في اجتماع قمة الإيقاد بأديس أبابا في سبتمبر 1993. فلماذا هذه الغلظة في التوصيف ؟
    أما حول مصر فقد كان للكاتب رأي قادح حول موقفها من السودان، رغم قوله: "أنا من أكثر المؤيدين لوحدة شمال السودان مع مصر". كما ناشد أهل مصر "أن يعملوا على أن يختار أبناء الشمال الوحدة مع مصر بدلاً من العمل على أن يجتمع الشمال والجنوب في دولة واحدة". في مطاوي هذه العبارة رأيان، رأي يدعو مصر للعمل على وحدة شمال السودان معها، ورأي يحثها على دفع أهل الشمال للتخلي عن جنوب بلادهم. ولا يختلف الرأي الأول عما ذهب إليه قرنق صاحب الدعوة للوحدة من نمولي إلى الإسكندرية. ولا يتوقعن أحد أن ينكر ذلك الرأي، أو يستنكره رجل مثلنا صاغ مع إسماعيل فهمي واسامة الباز وإبراهيم منعم منصور مشروع التكامل بين البلدين، أول جهد ممنهج أكسب الوحدة بين البلدين بعداً وظيفياً، وخرج بها من التعبيرات الهلامية حول العلاقات الأزلية. كما أن أهل الشمال ليسوا في حاجة إلى تذكرة بأهمية مصر لهم وأهميتهم لمصر. فإن كان السودانيون ـ على المستوى السياسي ـ قد صوتوا للاستقلال في عام 1956، إلا أنهم ظلوا ـ خاصة في العقد الأخير من الزمان ـ يصوتون بأقدامهم للوحدة. مصر كانت هي الملاذ الأول لهم، بل ولأبناء الجنوب الذين ضاقت بهم بلادهم بما وسعت. ولعل الكاتب لا يعرف أن عدد الطلاب الجنوبيين في جمهورية مصر يفوق اليوم بكثير عدد الطلاب الشماليين فيها.
    أما الرأي الثاني (حث مصر على تشجيع الانفصال) فرأي غريب، حتى وان اتفق مع الأطروحة المركزية للكاتب. مصدر الغرابة فيه هو إغفاله لكل التطورات السياسية التي طرأت على الساحة السياسية في الثلاثين عاماً الأخيرة. في هذه الأعوام الثلاثين بادرت مصر بإنشاء مجموعة الاندوقو (باللغة السواحلية تعني الاخوه) التي تضم إلى جانب مصر والسودان عدداً من دول حوض النيل (ابتدع الفكرة الدكتور بطرس غالي)، وسعت للانضمام إلى منظمة الكومسيا لدول شرق وجنوب أفريقيا، وتعمل الآن لإنشاء مجموعة دول حوض النيل (Nile community). ففي عالم يتجه إلى الوحدات الكبرى، لا تعبر الدعوة إلى التشرذم إلا عن غيبوبة كاملة بما يدور في العالم، وعجبي ممن يؤثر العيناء على العوراء.
    الذي يعنينا في حديث الكاتب عن مصر بقدر أكبر، قوله أن القاهرة "لم تسهر يوماً أو تصاب بالحمى طوال الحرب المتطاولة والمدمرة التي ضربت السودان، وعطلت مسيرته، وقتلت خيرة بنيه، وإنما ظلت تفتح ذراعيها وقلبها لقرنق حتى الآن والى الغد". نقول لعله من مصلحة السودان أن تفعل مصر هذا لما بعد الغد. مرة أخرى نواجه الذاكرة المثقوبة، فمصر هي أول دولة تبنت النظام بصورة أفزعت معارضيه، ومنهم من هو ذو صلة واشجة معها. ذهب رئيسها إلى باريس للاحتفال بالذكرى المائتين للثورة الفرنسية وكانت رسالته للرئيس بوش الذي التقاه هناك أن نظام الخرطوم الجديد نظام وطني غير أيديولوجي، وهو جدير بالتأييد. تلك الإيماءة هي التي حالت دون إدانة الإدارة الأمريكية لنظام الخرطوم وفقاً للقانون الذي يطالبها بإدانة الانقلابات العسكرية ضد الأنظمة الديمقراطية المنتخبة شعبياً. اتصل الرئيس المصري أيضاً بالدول العربية ذات النفوذ والشأن لكيلا تستبق الأحداث، في وقت كانت كل الدلائل تشير فيه إلى أن نظام الحكم الجديد في السودان نظام ذو منحى أيديولوجي، وصاحب اجندة سياسية عابرة للدول والقارات. ما الذي جازى به النظام الرئيس مبارك؟ الخروق النافذة في الذاكرة المثقوبة لم تبق في الحافظة شيئاً مما حدث في أديس أبابا في يونيو 1995. لا نريد أن ننكأ الجراح، ولكن نقول أنه رغم تلك الكارثة الدهيماء رفضت مصر، وهي تلعق جراحها، إصدار مجلس الأمن لقرار يوقف طيران الخطوط الجوية السودانية، ويفرض عقوبات اقتصادية على السودان، ويحظر تصدير السلاح إليه. ما أظلم الإنسان.
    أما استقبال مصر لقرنق، وحرصها على التواصل معه فهو واحد من أهم نجاحات الدبلوماسية المصرية. ولعل الكاتب كان يريد منها أن تفعل ما فعله محمد نجيب وصلاح سالم عندما اقتصرا الحديث حول مستقبل السودان على الأحزاب الشمالية، بما في ذلك التقرير بشأن مستقبل الجنوب نفسه، والضمانات التي يجب أن توفر له لكيما يبقى السودان موحداً. ذلك خطأ دفع الشمال، كما دفعت مصر ثمنه. لا يرتابنا شك في أن الذي يغضب الكاتب في تواصل مصر مع قرنق هو أولاً اعتراف مصر به كرقم في المعادلة السودانية لا يستهين به إلا المغالطون، وثانياً تحييد مثل هذا الاعتراف للحملة التي يقودها النظام، كما قادها غيره من قبل، لإظهار الرجل كخصم مَريد للعرب والعروبة.
    مزايدات ماشاكوس
    دعاوي الكاتب في هذا المقام تؤكد كل المزاعم التي أفضينا بها في الفقرات السابقة. يقول الكاتب أن قرنق يريد "أن يحصل على حكم الجنوب بكامله مع المشاركة في حكم الشمال بنسبة 40% من مجلس الوزراء والأجهزة التشريعية والقضاء والمحكمة الدستورية والخدمة المدنية، خصوصـاً الوظـائف القـيادية والوسيطة والتمثيل الدبلوماسي... علاوة على ذلك أن تكون رئاسة الجمهورية دورية، أو في المقابل أن يمنح قرنق منصب نائب الرئيس بسلطات مماثلة لسلطة الرئيس". هذا خلط للأمور بلا حذق.
    أولاً : اتفاق ماشاكوس ليس اتفاقاً بين حليفين يستردف أحدهما الآخر، بل هو تراض بين خصمين متحاربين آثرا الجنوح للسلم ويسعيان لاستكشاف أرضيه مشتركة للتعاون فيما بينهما في فترة انتقالية محدودة تحكمها ضوابط معينة تحت إشراف دولي. فالحركة ليست حزباً متوالياً مثل تلك الأحزاب التي رضيت بما هو دون، منها ما انسلخ عن حزبه الأم، ومنها ما استنسخ منه كالنعجة دوللي. فلغة ماشاكوس هي لغـة اقتسام (sharing) السلطـة، وليست لغـة الاستيعاب (assimilation) أو المشاركـة (participation ) فيها. فان كان هناك من لا يدرك معاني الكلمات في السياسة فما عليه إلا أن يستنجد بالمعاجم، أو يسأل العارفين. وإن كان يعرف ويتجاهل فلا يلومن إلا نفسه.
    ثانياً: يتحدث بروتوكول ماشاكوس عن كيانات ثلاثة: كيان جنوبي، وكيان شمالي، وكيان اتحادي، ولكل واحد من الكيانيين الإقليميين الحق في إدارة نفسه بنفسه. فقرنق لا يستأثر بالجنوب ويريد أيضاً أن يحكم الشمال، وإنما يطالب بحق أهله في الكيان الاتحادي الذي ينتظم السودان شمالاً وجنوباً. أجدر الناس بادراك هذا المطلب هم الذين ألحفوا في الحديث في ماشاكوس عن ضرورة تأكيد وحدة السودان في الاتفاق. وعندما تتحدث الحركة عن المشاركة في المركز وتحدد نسباً لهذه المشاركة، لا تطلق الأحكام على عواهنها وإنما تخضعها لمعطيـات موضوعيـة مثـل عـدد السكـان، وضـرورة الانحيـاز القصـدى (affirmative action) للذين عانوا من ظلم تاريخي. ولعل أبلغ تعبير عن هذا الظلم ما أورده فيلب كوت جوب من أسئلة للكاتب (ألوان 23/1/2003) كم هم عدد الجنوبيين الذين أصبحوا وكلاء للوزارات أو مديرين للمؤسسات أو الهيئات الاتحادية في هذا العهد السعيد، وما سبقته من عهود. لو توفرت حسن النية لما لجأ البعض للسخرية من ذلك المطلب الموضوعي، بل ذهبوا للتدقيق في صحة المعايير التي ابتنى عليها الآخر مطالبه.
    ثالثاً: عند ما يستنكر الكاتب على الحركة مطالبتها بهذه النسب ويرى في ذلك إجحافاً بحق الشمال يغيب عن ذاكرته أمر هام: كم هم عدد الشماليين من غير أنصار الجبهة في مواقع وكلاء الوزارات، ورؤساء الهيئات العامة، ودور القضاء العالي، بل كم هي نسبة الجبهويين بالقياس إلى غير الجبهويين في المراقي العليا والوسيطة في هذه الأجهزة ؟ وهل تتفق تلك النسبة مع الحجم الحقيقي للجبهة في شمال السودان؟ الكاتب، بدعواه هذه، يفتح أمام وجهه عشاً للدبابير.
    رابعاً: الحديث عن ضرورة الإجماع في مؤسسة الرئاسة لا يمكن أن يكون المراد منه الانتقاص من الرئيس الحالي، وإلا فلتوقفت الحركة عند طرحها الأول حول تناوب مسئولية الرئاسة، ولما قبلت أن يكون هناك رئيس ونائب أول له تختاره الحركة. في هذه الحالة يصبح الإجماع ضرورياً فى القضايا الأساسية، خاصة تلك التي تمس نص الاتفاق وروحه، إن خلصت النوايا. هذه الضمانة لن يرفضها إلا من احتسب الحركة نعجة مستنسخة تضاف إلى نعاج أخرى. عبر عن هؤلاء في مفاوضات ماشاكوس من قال عن هذا الموقف التنازلي للحركة ليس هناك تمييز بين نواب الرئيس فجميع نواب الرئيس متساوون. وعندما سئل عمن هو الذي يحل محل الرئيس، إذن، أن لحق به مكروه يعطله عن العمل، أجاب: "رئيس البرلمان". هل يمكن أن يكون قائل هذا جاداً في البحث عن سلام شجعان؟ وكأن صاحب الرد كان يقرأ نصاً من الدستور الفرنسي لا الدستور الذي تحكم به بلاده، والذي تقضي المادة 42 منه بتولي النائب الأول رئاسة الدولة في حالة تغيب الرئيس جزئياً أو كلياً. هذا ما نعنيه بعدم توفر حسن النية، خاصة وبروتوكول ماشاكوس ينص على أن المواطنة وحدها، لا الدين أو العرق، هي معيار الاختيار للوظائف العامة بما في ذلك وظيفة الرئيس. ذلك موقف يعود بناء إلى 1968 عندما سأل الأب فيليب عباس غبوش الدكتور الترابي: "هل يجيز الدستور الإسلامى لغير المسلم أن يكون رئيساً؟ فرد الشيخ، بعد تلكؤ وبعد أن أصر غبوش على الإجابة بلا أو نعم: "لا يجيز". (محضر الجمعية التاسيسية، عام 1968 ص 16. فرغم المادة من 21 دستور 1995، ورغم النص على المواطنة في بروتوكول ماشاكوس مازالت عقول البعض مشدودة إلى عام 1968، بل إلى 15 ديسمبر 1955 حين ظن آباء الاستقلال أن العهود ما وضعت إلا لتخرق. ولا ريب في أن الذين يستذكرون هذا التاريخ، لن يستكينوا للغة: "وسننظر بعين الاعتبار إلى مطلب "اخواننا" الجنوبيين". الذين لم يبرحوا (مفهومياً ووجدانياً) عامي 1955 و 1968 لا يدعون مجالاً لغير الظن أنهم يحسبون أهل السودان صنفين: صنف ولد وعلى ظهره سرج، وصنف وضع الله على قدميه همازاً يحرك به الآخر متى امتطى صهوته. وإمعاناً في الجهل بطيبعة المفاوضات الدائرة، أو تجاهل روحها ونصوصها، ذهب الكاتب واضراب له للمقاربة بين مؤسسة الرئاسة في أمريكا وتلك التي تتحدث عنها ماشاكوس. أمريكا يحكمها دستور ارتضاه أهلها في حين مازال طرفا النزاع في ماشاكوس يتحاورون حول الدستور الذي يحتكمون إليه. أقرب إلى واقع حالنا الاتفاقيات التي أنهت الصراع في دولة البوسنة والهرسك والتي تقضي أن تكون قرارات المجلس الرئاسي لجمهوريتي البوسنة والهرسك وإقليم اسبرسكا بالإجماع. وإن كان السودان قد توحد في عام 1821 على يد التركي محمد علي، فقد توحد البوسنة والهرسك على يد أجداد محمد علي في عام 1462، وكان ذلك الإقليم خلال القرنين السابع والثامن عشر هو الحصن المنيع لحماية الدولة الإسلامية من الهابسبرج (النمسا).
    خامساً: من المكابرة والمغالطة بمكان القول أن قرنق "فوق كل ذلك" يريد أن تحكم العاصمة القومية بالقوانين العلمانية. فأن كانت الخرطوم تقع في الشمال، إلا أنها هي أيضاً عاصمة السودان الموحد الذي سيحكمه دستور محايد في أمر الأديان. لهذا السبب ليس في الدعوة إلى عدم إخضاعها للقوانين الدينية تزيد، وإنما هي نتيجة منطقية للاعتراف بحياد الدستور الاتحادي في قضية الأديان، هذا إن كانت بغيتنا حقاً هي الاتحاد. كما أن الزج بتعبير "علمانية" فيه تخليط لا معنى له، فالقاهرة رغم مآذنها التي تنيف على الألف، وعمان التي يحكمها ملك ينسب إلى رسول الله، والرباط التي يجلس على سدة العرش فيها ملك يلقب بأمير المؤمنين، لا تحكمها قوانين دينية، كما ليست هي عواصم علمانية. المغالطة الأكبر هي أن هذه العاصمة حتى سبتمبر 1983 لم تكن تخضع لمثل هذه القوانين، وهكذا ظلت إلى سبتمبر 1983، وما أدراك ما سبتمبر. وحتى في عام 1978 عند ما قام الدكتور الترابي بمراجعة القوانين السودانية لكيما تتوافق مع الشريعة، كان الشيخ حكيماً عندما استثنى من تحريم الشرب غير المسلمين والبعثات الأجنبية، وأوصى بالتدرج في تحريمه في أقاليم الشمال الأخرى. من حق الكاتب، بلا شك، أن يتمنى بقاء هذه القوانين، ولكن ليس من حقه القول أنه يعبر بهذا عن رأي أهل الشمال الذين كان لهم رأي آخر في هذه القوانين، وفي كل العهود التي كان يدير أمرهم فيها حكام اختاروهم بطوع إرادتهم.
    أمر مؤسف أن تختصر "الشريعة" كلها في تحريم الشرب، ولكن يتبدى لنا أن هذا هو الرمز الوحيد الذي بقى من الثوابت، وسُيعرى نزعه أهل الثوابت تعرية كاملة. هذه ليست هي مشكلة أهل الشمال، أو أهل الجنوب. من المؤسف أيضاً أن لا يدرك أهل الثوابت أن السلام وحقن الدماء غاية أسمى من كل الرموز. ففي السيرة تخلى الرسول صلي الله عليه وسلم عن صفته الرسولية ليحقن الدماء في صلح الحديبية. أملى الرسول على علي ابن أبي طالب أن يكتب في خطاب الصلح مع مشركي قريش "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى سهيل بن عمر"، فأعترض سهيل قائلاً: "اكتب باسمك اللهم، ثم اذكر اسمك واسم أبيك، فلو كنا نعلم انك رسول الله لما حاربناك". ولما استل علي سيفه ليُلجِم به سهيل، قال له الرسول "امحها يا علي". قال علي "والله لامحوتها أبداً". قال النبي: "أرني مكانها"، ثم كتب "باسمك اللهم، من محمد بـن عبد الله إلـى سهيل بن عمر". فأين هو نزع الرسول عن نفسه قميصاً ألبسه الله في سبيل حقن الدماء، من الترخص في تطبيق قوانين صاغها البشر، حتى وان ردوها إلى الله تعالي. في ذلك العهد صالح النبي مشركي قريش على وضع الحـرب عن الناس عشـر سنـوات لا تكـون فيها بين الناس عيبة مكفوفـة (عداوة وبغضاء) ولا إغلال (خيانة). وأباح فيه لمن أحب أن يدخل في عهد رسول الله دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش دخل فيه.
    هذه القوانين، على أية حال، ليست ليس صوارم. فالفقهاء الذين فزع لهم من فزع لتحليل الربا لتمويل خزان مروي اعتماداً على القاعدة التي تقول: "الضرورات تبيح المحظورات"، قادرون على أن يجدوا لهم ولنا مخرج صدق من الورطة التي أوقعوا فيها السودان. فوقف الحرب أشد ضرورة من بناء السدود، إذ ما قيمة السدود التي تقام على بحار تجري فيها الدماء.
    أطروحات الكاتب، وما أثارته من ردود فعل أمر صحي، ومن مصلحة السودان أن يشتعل النقاش حولها، طالما التزم الجدل الموضوعية، واستند على الحقائق، ونأى عن الغوغائية. النقاش الدائر يعني، أيضاً، أننا أمام أزمتين خانقتين. الأزمة الأولى هي أزمة كل شمالي لم يدرك بعد أن الذي يجمع بين أهل هذا الوطن الشاسع هو المواطنة، لا العرق، ولا الدين، ولا النسب. والاعتراف بالمواطنة لا يتم بإيراد نص في الدستور يثبتها، هي مع النص سياسة وتدبير وسلوك. المواطنة فكرة تنطلق من قاعدة معرفية ثابته، وتحكمها قواعد راسخة، وتتداعى منها نتائج. وكما عبر عنها أرسطو في السياسة، هي أداة للتمييز بين الرعايا في دولة الحاكم المستبد، والمواطنين في الدولة التي يعامل أهلها كبشر لهم حقوق وعليهم واجبات، تماماً كما على الحاكم واجبات وله حقوق. وان كان النظام الحاكم قد انتهى، بآخره، إلى تبني فكرة المواطنة (دستور 1995) فهذا أمر يحمد له. وإن أكدها في بروتوكول ماشاكوس فهذا أمر حسن. سيحمد له أيضاً ويستحسن الوعي بتبعات تبني فكرة المواطنة في السياسات والبرامج. هذه التبعات تعنى أن على الذين استأثروا بكل شيء في الماضي، أن يتنازلوا عن أشياء في الحاضر. ومالم ندرك في الشمال أن هذه التبعات هي فاتورة حان أوان سدادها، سنظل نسرى في نفق بلا نهاية، ونسبح في بركة بلا ماء. الأزمة الثانية هي أزمة النظام، أو بالحرى أزمة بعض أهله الذين اشتدت شهوتهم للسلطان، فعقدوا العزم على أن يحققوا عبر التفاوض مالم يمكن تحقيقه بالحرب. هذا محال، وروم المحال كمضغ الماء. بين المستنكرين لماشاكوس أيضاً من لا يرى في سلامها إلا رضى بالدنية في دينهم. الخيار أمام هؤلاء هو إستمرار الحرب التي قد تفضى إلى انتحار سياسي، أو التعجيل بالانفصال وهو انتحار معنوي. أو ليس بين القوم من يستذكر وصاة الرسول لمعاذ: "هل إلى خير من هذا السبيل". الإنقاذ اليوم في حاجة إلى إنقاذ، وطوق النجاة الوحيد أمامها هو ماشاكوس، وما الدعوة لفصل الجنوب إلا محاولة لتأجيل يوم الحساب.

    منصور خالد

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de