هاهو يرحل ويذهب إلى الغيبة الكُبرى .عندما كان قريباً من الرحيل ، استيقظت الأقلام لتحاسبه على قضية السلطة والمثقف. لم يكن يستطيع أن يتحدث أو يكتب ، ولماماً كان يحيط بما يحدث ، كان يريد أن يزور موطنه وبجواز سفر سوداني ، فقد عُرض عليه جواز السفر المغربي ، وانتظر طويلاً وبعد جهد .. صدر الجواز الدبلوماسي . وكان في حاجة ليرى وطنه ، ولتلك الأمنية قدرة لتتحقق ,, وانطوت سجادة العُمر ، وينهض الآن الشاعر الضخم في موضع الندى ، من فراش الرحيل ، يُدغدغ صوته الأسماع : سوف أترككم سادتي ، لأنني قد شبِعتُ من الوعود ، وأنا لا أحب الشكوى . الطيبون وحدهم لا يطيقون الحياة ، بعد أن عَظُمتْ المآسي . يقول أحباء الشاعر : إن الجنة الموعودة من رب كريم تنتظر.. كتبنا منذ زمان عندما كان يستشفي : (1) مولده.. حين اصطدام النيزك بفوهة بُركانٍ في الأرض، عندما اهتزت في علا الأفلاك نجمة من شجن. فهمدتْ أرواح كائنات الأرض حين صرخ بالشعر صرخته الأولى . تدرب في أقبية الطفولة وعرف وهج اللغة ونيرانٌ تحُف بالجالسين توقِد الفِكَر . ثم أزهرت أشواكه ، ونبتت من الإبط برعماً ، وتقـوّى الزغب أجنحةَ نَسرٍ تقافز إلى أن طار من أعشاش الطفولة إلى الفضاء السحيق . (2) لن تجد في ملف البيت الأول أو عش النسور بعضاً من أثر . لا تقرأ التاريخ ، أو المولد والنشأة ، لكن .. أنظر الأجنحة التي ضربت الريح وسلكت دروب الشهب وأنوار السماء . هناك في مسبح الكون أكبر من قضية تنتظرْ . وهنالك على ضفاف الينابيع أغنية عطشى تنتظر الرُبان ليُقْلِع . فخرج أسى التاريخ وخرجت أحماض الزمن ، من باطن النفس وأصبح سيدنا شاعراً وباحثاً ومُترجماً. (3) إفريقيا عرفناها مولد الإنسانية ...من شعره . فقد سبق الذين نحتوا الأرض وفتشوا طبقاتها ابتغاء المعرفة ، وتغنى الشاعر قبلهم للأم الأولى . ها هو سيدنا قد حمل الشُعلة وأضاء العتمة وعبر الدروب الشائكة إلى السفر ، ملتحفاً جلد النَّمر وعصاه قصيدة ،أطول من مقام القداسة في بطون الجبال .عرف الشاعر" الحجر الفيروزي الكريم " ، وزيت مصباح العقائد . تحسس خميرة الأرض ، وثعابين الآكام ، وذئاب الشجر المُلتف بالسحر موطناً لأشباح الماضي وأبطال يراهم ناهضين إلى المستقبل . مسح المدائن حافياً يلاحق جينة تفرق دمها بين القبائل و سَمِع نبضها في الشِعر . تغنى للوطنية أعذب السهل الممتنع من الشِعر، فقبض على وجدان العامة قبل الخاصة . ركب قارباً مجدولاً من حبال المحبة ، ونزل به البحر حتى ذاب في الأفق .تدلّتْ من السماء قصيدة تصرخ :
يا أخي في الشرق ، في كل سكنْ يا أخي في الأرض ، في كل وطنْ أنا أدعوك .. فهل تعرفني ؟ يا أخاً أعرفه .. رغم المحنْ إنني مزّقت أكفان الدّجى إنني هدمت جدرانَ الوهنْ لم أعُد مقبرة تحكي البلى لم أعد ساقية تبكي الدمنْ لم أعد عبد قيودي لم أعد عبد ماض هَرِم عبد وثنْ أنا حي خالدٌ رغم الردى أنا حرٌ رغم قضبان الزمنْ
(4)
" لا برق يخطف عينيكَ ولا مطر"
وكما كتبت عن " أبوالطيب المتنبي " ، نكتُب عنكَ .نهضتَ أنتَ بماضينا ، وانقشعت شمسك عن كل السحائب واعتليت القمم إلى العُلا. مددتَ أشرعتك ومَخرتْ سفائنك بحر القصيد منذ كلمة البدء الأولى ، وفي مسيرها الطويل أغنياتٍ حزينة ، وفرحةٍ كتُوم . الروح تمشي على صراط واهنٍ مُرتخي ، تعبر المراحل والسنين ،والعمر قبضةٌ من تجربة تلظّت بنيران الحياة وصخبها . تدعُونا سيرتك المكتوبة في قصائدك ، أن نتوقف برهة ونهبط من قاطرة الحياة المتعجلة ،لنتعرف على عوالمك الخفيّة ، وأشجانك الحفيّة ، وبساتينك النضيرة .فهاجَرنا لدواخل النصوص لنعرف محبتك للإنسانية وقُبلتك في مواضع الجبين. نعُمت سيدي خالداً فينا ، تُضيء حياتنا بوهجك النابض. فالبيت الشعري الواحد أيقونة تَعدلُ كتاباً . يسافر القصيد سفر مجرى الدم في الشرايين ، ناراً للوعي موقدة . فلتدُم بإذن مولاك في نعيم الصحة والعافية ، تمشي في فُسحة وجداننا أنّا يكون لك التجوال. تملأ الرئة بأكسيد الحياة ، مثلما نتنفس رياحينك التي سدت الآفاق .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة