تقديمات وملامح من كتاب: النظرية الروحية للبيئة والتنمية...

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 04:18 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2015م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-15-2015, 05:57 PM

مصطفى الجيلي
<aمصطفى الجيلي
تاريخ التسجيل: 12-09-2013
مجموع المشاركات: 581

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مهرجان تكريم الفنان يوسف الموصلي - واشنطو� (Re: مصطفى الجيلي)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    مدخل


    "من أنا؟؟ ما مهمتي في هذه الحياة؟؟ وفيما بعد هذه الحياة؟؟ لماذا ولدت بشرا؟؟ وذكرا؟؟ ولماذا في هذا الوقت من الزمان؟؟ ولماذا في السودان؟؟ ثم لماذا بلدي جاف؟؟ وفقير؟؟ وغير متطور؟؟ ولماذا يعاني قومي من الاستغلال بواسطة الآخرين؟؟ يواجهون ويلات الحروب؟؟ وضنك المجاعات؟؟ وأزمات الجفاف؟؟

    أسئلة لا حصر لها تملأ عقلي وقلبي.. في اليقظة وفي المنام.. في الأفكار كما في المشاعر.. في الوعي وفي اللاوعي.. الصراع مع هذه الأفكار ازداد ضراوة بعد تعرفي على الأستاذ محمود محمد طه والاطلاع على بعض كتبه.. كطلاب في داخليات جامعة الخرطوم، ومع صديقي القريب إلى نفسي محمد مجذوب فضيل وأصدقاء آخرين، كنا نقضي الساعات الطوال بالليل ونحن نناقش أفكارا في الأصول الجوهرية عن الوجود حولنا وفينا..

    وعلى الرغم من أنني التزمت أفكار الأستاذ محمود فقط في 1983، إلا أن تأثري بأفكاره قد بدأ قبل 1978 .. ولربما، كان هذا الصراع الفكري في لا شعوري وفي وعيي، قد وجد مكانه في دواخلي، في وقت أسبق من ذلك بكثير..

    في مسيرتهم العسكرية الطويلة في 1896، كانت جيوش المهدية المتجهة من أمدرمان إلى مصر تتوقف عند القرى والمدن، على طول مجرى نهر النيل، لتتمون بالأكل والشرب والراحة.. في تلك الرحلة، "مصطفى" القادم من منطقة الخوجلاب، أعجب بالفتاة التي رأى في المحمية، إلى الشمال قليلا من مدينة شندي، فتزوجها، وأنجب منها خمسة أبناء، أصغرهم هو "عمر" والدي..

    تعلم والدي القراءة والكتابة وبعض القرآن في الخلوة، ودرس سنتين في المدرسة الأولية، ثم تركها ليعمل في الزراعة بالمحمية.. قلة الدخل والموارد التي كانت تدفع بالكثير من سكان قرى شمال السودان ليهاجروا إلى بلاد أخرى، دفعت والدي ليسافر إلى مدينة كسلا في شرق السودان، لاحقا بأخيه الأكبر.. وفي واحدة من زياراته لأهله بالمحمية، تزوج بـ"عائشة"، التي هي أم أبنائه، أربع بنات، وأربعة أولاد، بينهم شخصي.. عمل والدي في صناعة العناقريب، والتي أصبح له فيها ما يشبه الورشة الصغيرة، وفي أخريات الأيام، صار العمل فيها أقرب للتجارة منه إلى صناعتها.. كذلك كان في بعض المواسم، حسب توقعات الأمطار، يشارك في أعمال زراعية مع آخرين، كما كان، في بعض الأحيان أيضا يشارك في تجارة الذرة..

    كل حياتنا تقريبا كانت خليطا بين التقليدي والحديث: معتقداتنا وعاداتنا، الإنتاج والإستهلاك، الطموحات والاحتياجات.. وبرغم مواقف والدي التقليدية في كثير من ملامحها، فقد كان يريدنا بشدة أن نحصل على تعليم عالٍ لنكون في صفوة المجتمع.. وهو يفخر بأن في أولاده المهندس المعماري والطبيب والأستاذ الجامعي.. وعلى الرغم من أن أختي الصغرى الآن تدرس في الجامعة فإن والدي يعتقد أن التعليم للبنت أفضل ما فيه أن يعدها لحياة الزوجية وتربية الأطفال.. كذلك بالرغم من سيطرة الروح المرحة والطبيعة الودودة على شخصيته، فهو جاد في أن ننتظم في أداء الصلوات ايضا.. رغم أننا نسكن في بيت أنيق قريب من مركز المدينة، فإن أمي تصر على رعاية أغنامها التي تحبها كثيرا، والتي تتسكع في الحي طوال اليوم..

    ما وجدناه هو أن كل واحد فينا تتقمصه هذه الشخصية الازدواجية بين التقليدي والحديث.. الازدواجية تأخذ مكانا بارزا في المناهج والمقررات المدرسية والدراسة بالجامعات.. المدرسة والجامعة تجر إلى اتجاه، والدين والثقافة تنازع لاتجاه آخر.. في الجغرافيا، مثلا، ندرس آصل النماذج الغربية في تخطيط الموارد وفي تركيب المدن ويعرف الجميع أنها، على التحقيق، يصعب انطباقها على واقعنا السوداني.. المسكن لأسرة مزارع في الغرب مثلا يتوسط المزرعة للحصول على أكبر كفاءة عملية، وأفضل خدمة، في حين أنه في الثقافة السودانية ليس مقبولا أن يعيش المزارع وسط الخلاء بين الشجر، وإنما الأنسب والأصلح له ولغيره أن يعيش وسط أهله وذويه .. في الجامعة، ندرس باللغة الإنجليزية، بينما نتكلم ونحيا باللغة العربية.. وعلى اي حال، حينما تخرجت كان ذلك، بكل تناقضاته، يؤهلني للعديد من وظائف التخطيط، ومن وظائف الإدارة..

    حينما تعينت مساعد تدريس بقسم الجغرافيا كلية التربية، كان د. عبدالحميد بخيت هو رئيسي المباشر، والذي أعتقد أنه أكاديمي قدير ويكتب كما يفكر، وليس للمكسب السريع، كما يفعل الكثير من المستشارين والخبراء في هذا المجال.. احترمت آراءه، ولكن لم أنفذ مقترحه لأن أدرس في ألمانيا حيث درس هو.. الذهاب خارج السودان كان هو تخطيطي، في ذلك الوقت، ولكن الذهاب تحديدا للولايات المتحدة كان حلمي.. لقد كان العيش في ثقافة مختلفة أكثر أهمية عندي من عمل البحث أو الدراسة العليا، ولذلك تقدمت لعدد من الجامعات الأمريكية، والتي كانت جامعة كلارك إحداها..

    كان هناك عدد من المنظمات والأفراد الغربيين يعملون في السودان في موضوع الجفاف والتصحر، وكمواطن يعرف البلد واللغة، فقد رافقت عدداً من الغربيين كمساعد بحث .. لقد طفت مع مجموعة باحثين ألمان، مع مستشار لمنظمة التنمية التابعة للأمم المتحدة، وعملت مع مشروع لليونسكو، كما تجولت في رحلات قسم الجغرافيا مع طلاب كمساعد تدريس.. "على الرغم من صغر سنه"، يحدثني د. ابراهيم "هذا "الخواجة " قد كتب مقالات جيدة عن الجفاف"؛ فيما بعد ذلك" الخواجة " أصبح "دوقلاس جونسون" المشرف على بحثي للدكتوراة.. والمشرف أيضا على دراستي طيلة خمس السنوات التي قضيتها بجامعة كلارك، وقد كنت ألجأ إليه كلما واجهتني مشكلة..

    ظاهريا وفوق السطح، استطعت التأقلم على الحياة الأمريكية خلال أسابيع قليلة، ولكن في حقيقة الأمر، أصبحت أكثر التصاقا بواقعي التقليدي، وقيمي التي تركتها خلفي.. وفي الحقيقة، كانت أول أيامي في أمريكا هي تلك التي جعلتني ألتزم الفكرة الجمهورية "فكرة الأستاذ محمود محمد طه".. رسائلي الأولي لأهلي كانت تحوي تعابير مثل : "عالم الخواجات متطور: المباني، الشوارع، المؤسسات، وكل شيء.. ولديهم حل لكل معضلة".. ثم تدريجيا فيما بعد، خطاباتي بدأت تتضمن ملاحظات مثل" :الحياة عندهم قاسية، والناس ليسوا مسرتخين كما في السودان... الحياة يبدو كأنما تدور حول المال والجنس ويبدو كأنما الأغنياء، الشباب والبيض هم الأكثر حظا"..

    فيما يخص دراستي، وجهت بحثي لدراسة وإيجاد الحلول لظاهرة الصراع بين القديم والجديد، التقليدي والحديث، أو الديني والعلماني والتي تبرز في أي قضية أو مسألة في الحياة السودانية.. وإذا أخذنا في الاعتبار المستويات المتعددة، والتعقيد، والأبعاد الكثيرة لهذا الموضوع وباعتبار الإثباتات المطلوب توفرها حسب النهج التجريبي في البحث، فقد كنت متشككا فيما أذا كنت سأحصل على نتائج ذات فائدة.. ولكن، وطالما أنني ابتعثت لانجاز هذا العمل، فقد حاولت المنهج الإنساني في البحث مع الاستعانة بوسائل التحليل الكمي للخلوص بنتائج أفضل عن استخدامات الموارد ذات الصبغة المزدوجة.. ولأن قضية الجفاف ومكافحته أصلا قضية وطنية في أطروحات السياسة، وفي الإعلام وفي مهام التخطيط، وكافة مؤسسات العمل، فقد أصبحت هي موضوع بحثي..

    لم أجد في النظريات المتنوعة الكثيرة عن اتخاذ القرار الاقتصادي ولا فيما كتب عن الجفاف والتصحر، التي درستها، أي مادة يسهل انطباقها ويتواءم ما تقدمه مع الوضع السوداني الذي أعرفه.. ولما كان تصوري أن الأفكار الدينية يصعب التعبير عنها بأسلوب العلوم المادية الغربية، فقد قصرت اعتمادي في الدراسة على الدراسات والبحوث الأكاديمية كمرجعية رئيسية، إن لم تكن حصرية، وخلاصتي كانت أقرب إلى أن المخططين عليهم أن يجدوا حلولا عملية تناسب الأوضاع المحلية، ولا يربطوا عملهم بمعطيات النظريات، ونماذج التنمية الغربية.. ثم كان أن وصلت لنهاية رسالتي، وأصبحت في طور المراجعات النهائية قبل المناقشة، حينما بدأت تتملكني حالة متزايدة من التقويم السلبي لما قمت به، انطلاقا من تجربتي كسوداني عايش التجربة السودانية، وما أؤمن به في دخيلة نفسي..

    "شهادة الدكتوراة عبارة عن رخصة تمارس بها عملك كأكاديمي"، هكذا نصحني بعض ذوي الخبرة " كتابة الرسالة ليست أكثر من تدريب؛ أخلص منها وابدأ حياتك".. لكن باضطراد أصبح عندي شعور متزايد بصعوبة قبول ذلك، وبدأ شعوري بالاغتراب تجاه عملي يتضخم.. لقد كنت اناقش هذا مع أحد افراد اللجنة المشرفة على عملي وهو الأكاديمي المعروف في مجال الفكر الماركسي في الجغرافيا "ريتشارد بيت" حينما اقترح علي: "لماذا لا تعبر بصدق ووضوح عما في دخيلة نفسك في فصل منفصل تسميه: "طرح بديل، مثلا".. وقال "رغم أنني لا أتفق مع معتقدك هذا، ولكن هذا لن يمنعني من أن أساعدك في هذا إن احتجت".. وفعلا شجعني وساعدني على ذلك.. فيما بعد، هذا الفصل أصبح هو المركز لعملي، وشكل المنظور الأساسي للرسالة، وتم تغيير بقية الفصول لتتواءم مع طرحه وجعله خلاصة ونتاجاً للبحث..

    وأخيرا أصبح عملي يعبر عن أفكاري الحقيقية التي لم أكن أظن أنني يمكن أن أعبر عنها بلغة أكاديمية، وسوف يكون هدفي في المستقبل هو أن أقدم مزيدا من الشرح، والمزيد من التوسيع بالأمثلة وبالتطبيق العملي، للنظرية الروحية تجاه البيئة والتنمية.. سأعمل أيضا على نشر هذه النظرة بتدريسها وبالكتابة عنها، وذلك طبعا بالإضافة، لممارستها.. دور أساسي في هذا العمل لعبته زوجتي "نجاة" وهي أيضا أخت جمهورية تشاركني الوعي الروحي - المادي للوجود.

    أنا مدين بالشكر والعرفان لكل من ذكرتهم بالإسم في هذه المقدمة.. الشكر ايضا للأستاذتين "جودي ايميل" و"باربرا توماس" لارشاداتهما الأكاديمية.. والشكر لجامعة الخرطوم التي دفعت تكاليف دراستي لخمس السنوات، كما أشكر جامعة كلارك التي قدمت لي أعاشة للسنة الأخيرة كي أكمل عملي.. شكري يمتد لكل المزارعين والمخططين الذين ساعدوني ببذل المعلومات.. وأخيرا أشكر أصدقائي المهتمين ممن قرأوا الفصل الأخير وعلقوا تعليقات معينة عليه.. مصطفى عمر مصطفى الجيلي..".. انتهى..

    القصة أعلاه عبارة عن ترجمة لاقتباس منقول من مقدمة لرسالة دكتوراة، تحت عنوان "تمهيد".. الرسالة قدمت في جامعة كلارك بولاية ماساجوستس الأمريكية عام (1988) تحت عنوان: "إدارة البيئة: التقليدي مقابل الحديث" وكان محورها عرض النظرية الروحية أخذا عن فهم مؤلفات الأستاذ محمود محمد طه في البيئة والتنمية.. وكما أن لكل عمل قصة دفعت بإخراجه، فإن دافع وقصة هذا الكتاب مرتبطة، ارتباطا مباشرا ووثيقا، بقصة ودافع رسالة الدكتوراة للكاتب، المترجمة أعلاه، والمقدمة قبل ستة وعشرين عاما، في جامعة كلارك الأمريكية..

    منذ إكمالي لعمل الدكتوراة عام 1988، وحتى هذه اللحظة، في 2014، فإنني، وكما رجوت في مقدمة رسالتي المنقولة أعلاه، حاولت وسعي أن أدرِّس، وأن أمارس، وأعيش، هذا النهج ما أمكنني ذلك، وأعتقد أنني قد نجحت، في تحقيق بعض الأشياء قريباً مما أردت، كما أخفقت في أن أنجز كثيرا مما كنت قد خططت له.. بداية، لم تكن السنوات التي تلت تنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود محمد طه، فترة نشاط، ودعوة خارجية، عند تلاميذ الأستاذ محمود.. على العكس، فقد اقتصر النشاط فيها على فهم وتصرف كل فرد، كل في محيطه الخاص.. غير أنها قد كانت فرصة طيبة لي، للتعرف على، والتمازج مع، تلاميذ الأستاذ محمود كأفراد وكأسر، وعلى الجوانب الروحية والعاطفية والوجدانية في مجتمع الفكرة، وتشربت الكثير من الأدبيات غير المنشورة في الكتب، مثل كلمات وألحان الإنشاد العرفاني، وزيارات الأولياء وما تعنيه، والاطلاع على الكثير من الرؤى النبوية، ثم تذوق العمق التمازجي، ووشائج الألفة والمحبة، التي تربط بين الجمهوريين كأفراد وكأسر..

    ثانيا، لعشر السنوات الأولى، بعد ان رجعت إلى السودان، من 1988 وحتى 1998، كنت أدرس في كلية التربية جامعة الخرطوم.. وكانت أي مادة أدرسها، سواء أردت أو لم أرد، تأتي، إلى حد ما، مشحونة، وموجهة، في اتجاه الفهم الروحي للبيئة.. وكان التدريس عندي دائما ينحو بالطلاب للحوار في ذلك الإتجاه، وحوله، وانصبغ جل ما أدرسه، بتلك الصبغة.. أما ما صعب علي العمل به، فقد كان الارتباط بالمناهج المقررة، والمفصلة، على المفاهيم التقليدية في المقررات، ثم الاضطرار لاستخدام المصادر والكتب، التي لا تجعل الخلفية التدريسية مساعدة لحرية فكرية، والتي كانت ستدعم تقديم الفهم الروحي للبيئة..

    محاولاتي في الكتابة والنشر، في هذا الإتجاه، أيضا لم يحالفها كبير نجاح.. حيث إن الجوانب الدينية لا تجد الترحيب والقبول لدى الأكاديميين ولدى الناشرين، وأصلا المعضلة قائمة، تلك التي تجعل أي كتابة ذات صبعة دينية، صعبه التقديم في الدوائر الأكاديمية.. وكسر حاجز هذه الصعوبة نفسها، بين الفهم الروحي للوجود والفهم المادي له، وابتداع نهج علمي وتطبيقي واضح المعالم، هي إحدى الدوافع الأساسية لإخراج هذا الكتاب..

    مما استطعت نشره، وهو على صلة بالاتجاه الروحي، ورقتين.. أحداهما ورقة مطولة بعنوان "إسلامية المعرفة: فكر أم عاطفة؟؟"، نشرت في مجلة القاهرة للفكر والفن المعاصر، في يوليو 1996، تشرح الأسس البنيوية لنظرية المعرفة الروحية، كما هي مأخوذة عن مؤلفات الأستاذ محمود محمد طه وتربطها بنظريات المعرفة في الفلسفة والفيزياء وعلم الأديان.. وتشرح الورقة احتياج البشرية لنهج جديد يجمع بين التقدم التكنولوجي المادي والقيم الأخلاقية والروحية التي يفتقدها.. وثانيتهما ورقة بعنوان "الدراسات البيئية: إلى أين؟" نشرت في 1989 في مجلة النيل الجغرافية، تستعرض، باقتضاب، المدارس الفكرية والنظريات عن الإنسان والبيئة، وتبين الحيرة والتناقض في تلك النظريات، مما يجعلها غير داعمة لاتجاهات التخطيط والتنمية، المنبثقة عن الظروف المحلية.. الورقتان يمكن اعتبارهما مثل النواتين لما يطرحه هذا الكتاب.. فعلى حين شكل مقال "الدراسات البيئية: إلى أين؟" نواة الفصل الأول، وضع مقال "إسلامية المعرفة: فكر أم عاطفة؟" نواة الفصل الثاني.. ويمكن القول أن الكتاب هو تمديد وتوسيع لما جاء مركزا ومجملا فيهما..

    من المواد الدراسية التي كنت أدرسها سنويا، وبانتظام، لعشر السنوات (1988- 1998) بدون انقطاع، في قسم الجغرافيا، بكلية التربية، جامعة الخرطوم، قد كانت مادة باسم "ملامح التنمية الإقتصادية في السودان".. تلك المادة، كان الطلاب هم من يقومون بتجميع بياناتها الخام ميدانيا، من الوزارات والمصالح الحكومية كل سنة، ويقومون برصدها وتحليلها، لتقديمها للطلاب في شكل سمنارات، فتكون مجالا للنقاش والمراجعة المستمرة.. وكان من ثمار تدريس تلك المادة، وتراكم معلوماتها لعشر السنوات، أن تمت صياغة نتائجها في كتاب بنفس العنوان .. وقد تمت إجازته من قبل محكمين، وأعطي رقماً للنشر من قسم الكتب والمنشورات، ولكن، حتى هذه اللحظة، لم يتم طبعه بسبب أن أولويات السياسة تقدم طباعة كتب تتعلق بآيدولوجية الدولة، مثل حرب الجهاد في الجنوب أو كتب تروج لعناصر الدولة الإسلامية.. فظل الكتاب ينتظر دوره بمطبعة جامعة الخرطوم حتى كتابة هذه السطور، وفي كل مرة يؤخر موقعه على قائمة الانتظار بمطبعة جامعة الخرطوم منذ 1995، لقرابة العشرين عاما.. ولكنه، ومنذ التسعينيات، سرعان ما فقدت مادته دقتها الإحصائية والتوثيقية، ونفدت حرارته، وانتهى المطاف بذاك الجهد الجماعي المتحمس ليكون بلا فائدة.. إلا أن بعض العزاء جاء من حقيقة أنه ظل، كمسودة، يستخدم في التدريس بواسطة بعض الأساتذة، وبعض الطلاب..

    أما العزاء الأكبر فهو أن تلك التجربة، على مرارتها وتعويقها لحماس العطاء، قد كان لها أيضا أثرٌ كبيرٌ في إخراج وتحليل مادة هذا الكتاب، إذ شكل ذلك الكتاب الموئود حافزا، وخبرة، لعمل وثيق الصلة به، حيث يقدم هذا الكتاب في نهايته تصورا لخطة تنمية متكاملة للسودان..

    بعدها، مررت بفترة فقدت فيها الرغبة في الكتابة الأكاديمية، وخرجت من السودان لأعمل في التدريس بجامعة تعز اليمنية في 1998.. ثم هاجرت للولايات المتحدة، وعملت في الإشراف على الطلاب بالسفارة القطرية في واشنطن دي سي لفترة خمس سنوات.. ثم عملت بالتدريس بمعهد الدفاع للغات التابع لوزارة الدفاع الأمريكية بمدينة مونتري بكاليفورنيا.. ومجيء فكرة أن يخرج هذا العمل الآن، بعد ستة وعشرين عاما من إجازته الأولي في رسالة الدكتوراة عام 1988، يرجع لدافعين أساسيين.. وهذان الدافعان، طبعا بعد حافز التعرض للفضل الإلهي بالمساهمة في المشروع الكوكبي لبعث النظرية الروحية للبيئة والتنمية..

    الدافع الأول هو ما قامت به الأستاذة جميلة الحاج التي كانت تعمل بجامعة هولندية، حيث كانت مهتمة بأن تخرج مادة رسالتي للدكتوراة في كتاب باللغة الإنجليزية.. ولكن حال دون تحقيق ذلك عاملان.. الأول أن مادة الرسالة تحتاج لتجديد وإعادة ترتيب بما استجد من مادة البحث، ولم يكن ذلك ميسورا.. والثاني أن الرسالة لم تكن محفوظة إلكترونيا، ويتوجب أعادة طباعتها.. ورغم أنه مرت سنوات طويلة قبل أن تختمر وتتجسد فكرة نشره مرة أخرى، ورغم أن النشر سيكون باللغة العربية هذه المرة، ولكن كان لجهود الأستاذة جميلة وطباعتها فصولاً من الرسالة أثرا مقدرا في خروج هذا العمل الآن..

    أما الدافع الثاني، فهو ما ورد في كتاب الأستاذ عبدالله الفكي البشير "صاحب الفهم الجديد للإسلام.. محمود محمد طه والمثقفون.. قراءة في المواقف، وتزوير التاريخ"، حيث أشعرني بمسئولية مباشرة تجاه الآخرين، وهو أن أخرج هذا العمل، الذي يرتبط إخراجه، بنشر تطبيق فكرة الأستاذ محمود الروحية على البيئة والتنمية.. فالكتاب يجيء كتلبية للجزء الذي يصف فيه مواقف المثقفين بأنها دون المستوى المطلوب من المسئولية، ومن الحياد العلمي، في الرجوع لمؤلفات الأستاذ محمود..

    وقد طالعني، أن ذلك التقصير، يطال كل القريبين من أفكار الأستاذ محمود، حيث لم تبرز أعمال كثيرة تشير للإمكانيات العلمية والعملية، في قدرة فهم مؤلفات الأستاذ محمود على أعادة صياغة المعارف والعلوم.. وهذه القاعدة تشمل تخصصات العلوم الإنسانية والتطبيقية على السواء، حيث أن فهم وتطبيق فكرة أن البيئة التي نعيش فيها روحية في حقيقتها ومادية فقط في ظاهرها، يمكن أن تنبني عليها ثورة في كل فروع المعرفة..

    وقبل ختم هذا التقديم، تجدر الإشارة إلى أن النظرة الروحية لشمولها يمكن أن تعتبر معرفة بالحياة، وتنعكس على أي نشاط، فتفتح آفاقا جديدة، وترشح امكانيات مغايرة، لفهم، وإعادة فهم، وإعادة ترتيب للمدارس الفكرية في أي مجال.. كنت قد تابعت في 1986، مؤتمرا موسعا عن قضايا البيئة والتنمية، دُعي إليه مشاهير الأكاديميين في التخصصات الإنسانية، استضافه قسم الجغرافيا بجامعة كلارك الأمريكية، والتي تعتبر الجامعة الأولى في ترتيب الجامعات الأمريكية في تخصص الجغرافيا وبالتحديد في دراسات البيئة والتنمية والخرائط.. كنت حينما أحضر جلسات المؤتمر، يشدني أن النظر للمدارس الفكرية من منطلق الفكرة الروحية، يمكِّن من إعادة ترتيبها، ووضع كل نظرية في موضعها، من الجسم المعرفي.. وبالتالي ينتفي التناقض، وتصبح النظريات كلا موحدا، على اختلاف الطرح.. لقد كانت تلك التجربة، من عوامل توجيه دراستي، تلك الوجهة الروحية، وبالتالي من دوافع خروج هذا الكتاب..
                  

العنوان الكاتب Date
تقديمات وملامح من كتاب: النظرية الروحية للبيئة والتنمية... مصطفى الجيلي03-13-15, 06:59 PM
  Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � محمد الأمين موسى03-13-15, 07:42 PM
    Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي03-13-15, 09:56 PM
      Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي03-14-15, 00:04 AM
        Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي03-14-15, 00:05 AM
          Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي03-14-15, 00:07 AM
            Re: مهرجان تكريم الفنان يوسف الموصلي - واشنطون USA- 2/28/2015 (فيديوهات) محمد الأمين موسى03-14-15, 01:56 PM
              Re: مهرجان تكريم الفنان يوسف الموصلي - واشنطو� مصطفى الجيلي03-14-15, 10:56 PM
                Re: مهرجان تكريم الفنان يوسف الموصلي - واشنطو� مصطفى الجيلي03-14-15, 11:01 PM
                  Re: مهرجان تكريم الفنان يوسف الموصلي - واشنطو� مصطفى الجيلي03-15-15, 04:31 AM
                    Re: مهرجان تكريم الفنان يوسف الموصلي - واشنطو� مصطفى الجيلي03-15-15, 05:57 PM
                      Re: مهرجان تكريم الفنان يوسف الموصلي - واشنطو� صلاح أبو زيد03-16-15, 04:05 AM
                        Re: مهرجان تكريم الفنان يوسف الموصلي - واشنطو� مصطفى الجيلي03-16-15, 03:46 PM
      Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � محمد الأمين موسى03-16-15, 09:57 AM
        Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي03-16-15, 03:54 PM
          Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � Abureesh03-16-15, 04:11 PM
            Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � درديري كباشي03-16-15, 04:50 PM
              Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي03-17-15, 06:44 PM
            Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي03-16-15, 04:53 PM
              Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي03-17-15, 03:58 PM
                Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي03-19-15, 03:56 AM
                  Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي03-21-15, 09:05 AM
                    Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي03-22-15, 06:05 PM
                      Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي03-26-15, 07:46 PM
                        Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي03-29-15, 02:47 AM
                          Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي03-30-15, 04:19 PM
                            Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي03-31-15, 11:02 PM
                              Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي04-02-15, 05:20 PM
                                Re: تقديمات وملامح من كتابي: النظرية الروحية � مصطفى الجيلي04-04-15, 04:22 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de