شخصيات عامة سودانية تحمل شهادات علمية وهمية

Quote: كنا أربعة نشاهد واحدة من القنوات العربية في باريس، وظهرت علينا المذيعة صبوحة الوجه وهي تقول: «معنا على الأقمار الاصطناعية من القاهرة، الدكتور...» وظهر صاحبنا معلقاً، فابتسم أستاذه الذي كان إلى جواري قائلا: «هذا كان طالباً عندي في ساينس بو (معهد الدراسات السياسية) ولم يحصل حتى على درجة الماجستير، فكيف منحته القناة الفضائية درجة الدكتوراه؟ هذه هي أولى ملامح عالم طائش انفلتت فيه المعايير». قلت: هذه ظاهرة جديدة في العالم العربي، ظاهرة الدكتوراه المتعة أو العرفية، مثل الزواج العرفي، تمنح بالتكرار، إما من خلال ظهورك على التلفزة أو من خلال وجودك في منصب سياسي، أو من خلال إجادتك الكتابة. تذكرت كم من صحيفة وفضائية تصف الامين العام للجامعة العربية بـ (الدكتور عمرو موسى) رغم معرفتي بأن الأمين العام لم يحصل على درجة الدكتوراه، ولا اعتقد أنه سعيد بأن تمنحه الصحف درجة لم يحصل عليها. لب الموضوع ليس عمرو موسى، فهو رجل له عطاؤه الذي ربما يستحق عليه هذه الدرجة، لكن المشكلة الحقيقية هي ظاهرة إطلاق الألقاب دونما رادع أخلاقي من قبل عدد من المذيعين الطائشين والقنوات المنفلتة على كل من ظهر على الشاشة. لفت نظر اصدقائي ممن هم جالسون حولي، أنني كنت متحمساً في حديثي وجاداً في نبرة صوتي، فهدأ واحد منهم من روعي قائلا: «لا تأخذ الموضوع على محمل الجد، ألم تقل المذيعة إنه معها على الأقمار الاصطناعية؟!» .. «الأمر كله اصطناعي ومصطنع، فالدكتور المعلق هو دكتور فضائي وليس أرضيا، ولك أن تفسر الرموز ما شئت».. هكذا قال صاحبي. وبالفعل، أعادتني كلماته إلى صوابي، فالرموز كافية للدلالة على مخبر الأمر، فهي دكتوراه فضائية، أو دكتوراه في الهواء، فارغة ومفرّغة، لا تُغني عن الحق شيئاً، فلماذا انزعج على أمر هو في الأصل زيف قصدت به التسلية؟! *** حكى صديقي، الذي كان معنا، قصة عن واحد من راكبي الأتوبيس ـ أو ما يسميه أهلنا في مناطق أخرى من العالم العربي «الباصات» ـ أن أحد الركاب كان يبحث في جيبه عن بطاقة تجيز له ان يركب الأتوبيس بشكل دائم (أبونيه) أو (كارنيه) واختلطت في يده الأوراق، وبدلاً من ان يعطي المحصّل أو الكمساري بطاقة ركوب الأتوبيس، قدّم له وثيقة زواجه المغلفة بالبلاستك، فتأمّلها الكمساري، وبدلاً من ان يعيدها إليه بصمت، غلبته روح الدعابة والنكتة، فقال له: «لا.. دي للبيت» ضحكنا، وعلّق صاحب الحكاية: «ينطبق هذا على الدكتوراه الفضائية» وانصرف يرشف من كوبه وبقايا الابتسامة على وجهه. *** سرحت قليلا وتذكرت أيام الطفولة في قرى الصعيد، اذكر تحديداً عام التقدم إلى امتحان الشهادة الابتدائية، كان عمري احدى عشرة سنة، وكان اساس التقدم للامتحان هو ان تكون لديك أربع صور شمسية، كما هو مطلوب في مستندات الحكومة. وذهبنا مع المدرس ذات يوم للتصوير، كل منا لابس جلبابه القصير، ولما وصلنا الاستوديو، قال لنا المدرس إن الصور الحكومية لا تقبل بالجلباب، ووقفنا صفاً طويلاً، أمام الاستوديو، وكلما دخل واحد منا كان يخلع جلبابه، ليلبس قميصاً وربطة عنق وجاكيت يمنحنا إياها صاحب استوديو التصوير. جاكيت واحد وربطة عنق واحدة وقميص واحد، لبسناها جميعا، وكلنا بعد التصوير كان غارقاً في الضحك لأننا كنا نلبس القميص والجاكيت وربطة العنق دونما سروال، كانت أرجلنا عارية، وكنا نحس بالخجل كلما نظرنا إلى هذه الصور في ما بعد، فنحن الوحيدون الذين كنا نعرف بأن الجاكيت والكرافتة العمومي التي ظهرنا بها في الصور لم يكن تحتها ما يستر عورتنا، لكن بالطبع هذا لن يخطر على بال الرسميين في وزارة التربية والتعليم عندما يشاهدون صورنا على الأوراق الرسمية. لا أدري لماذا تذكرت هذه التجربة وأنا أشاهد صاحبنا من أهالي الدكتوراه الفضائية على شاشة تلك القناة. هل لأنه يبدو مكشوفاً من أسفل كما كانت صورنا أيام الصبا، أم أنني اتخيل ان كل استوديو قناة فضائية به نفس الجاكيت ونفس القميص ونفس ربطة العنق، يدخلها أي شخص مار بالطريق، يلبس «العدة» الجاهزة، ثم يكتب تحته على الشاشة «الدكتور الفلاني» المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية. واستوقفتني هنا كلمة حركات، في مصطلح الحركات الإسلامية، عندما علق صاحبي: ما بلاش «الحركات» دي. بالفعل، هي حركات مكشوفة، ونسأل الله الستر على ما تحت الجاكيت وعلى ما نراه على الشاشة. *** حكى لنا صديقنا العائد من مصر لتوه، أن الموضوع أعمق بكثير من موضوع الدكتوراه الفضائية، وأن الموضوع أيضاً يستعصي على العلاج، وذكر لنا قصة مركز الدراسات الآسيوية بجامعة الزقازيق، والذي قال عنه صاحبنا إنه أبشع بكثير من ظاهرة الفضائيات التي تمنح درجة الدكتوراه على الهواء، فقال والعهدة عليه ـ رغم انني أعرف عن الموضوع من مصادر أخرى ـ ان هذا المعهد متخصص في منح الصحافيين في مصر، وكذلك كل من تقاعد عن الخدمة في الحكومة، درجة الدكتوراه، وكل المطلوب هو ان تزور المعهد مرة أو مرتين في العام، ثم تأتي لمناقشة درجة الدكتوراه في احتفالية كبرى، تحصل بعدها على درجة دكتوراه في الدراسات الآسيوية، ولا أدري لماذا الدراسات الآسيوية بالذات؟!، هل لأنه لا يوجد رقيب على الموضوع، فليس هناك من يعرف اللغة اليابانية، أو الصينية، أو لغات إندونيسيا، أو حتى الأوردو الباكستانية، أم ماذا؟، طبعاً هذا مع الاعتذار لصديقنا محمد السيد سليم، الذي هو متخصص بالفعل في شؤون آسيا، من غير ألقاب. قلت لصاحبي إنه لو قابلت مائة دكتور في مصر، فإنك سرعان ما تكتشف أن خمسين منهم حاصلون عليها في الدراسات الآسيوية. لذلك عندما تسمع بأي دكتوراه في مصر، وتريد أن تعرف هل هي صحيحة أم لا، إسأل عن التخصص، فإن قيل لك هي في الدراسات الآسيوية، فتذكر قصة الأتوبيس... هي فقط صالحة للاستعمال المنزلي. *** «انها ظاهرة مجتمع اللافتات»، قال رابعنا الذي ظل صامتاً طول الوقت وتعلو وجهه ابتسامة ساخرة، هي تكملة لمجتمع «المفك» الذي كتبت عنه منذ اسابيع، مجتمع يحتاج الى علاج نفسي مستمر. «أتذكر الوزير الدكتور؟» سأل أحدهم، وأضاف: أتذكر كم من الألقاب كانت تسبق اسمه؟ بالفعل كان احد الوزراء في مصر يصر دائما على ان يسبق اسمه بألقاب عدة، على الأقل اربعة، منها: الأستاذ، والدكتور، والمهندس، والمعماري، أو الكيماوي، طبعا قبل ان تصبح كلمة (الكيماوي) مشكلة، وطبعا ايضا بالاضافة الى لقبي (معالي الوزير) بعد الاسم. اضاف آخر، هناك ايضا ظاهرة الدكتور السفير، او السفير الدكتور، والدكتور المهندس، إلى آخر مركبات النقص هذه. وابتسم قائلا إن أغرب ما في الأمر هو كتابة الألقاب على ابواب الشقق والمنازل، فلا تدخل عمارة في المهندسين أو الزمالك، إلا وتجد على باب كل شقة اسم ولقب صاحبها، مثل فلان الفلاني الوزير السابق، والدكتور السفير السابق، ومدير إدارة البحث الجنائي سابقاً.. الخ.. «يا أخي هذا بيتك! ما الداعي لهذه الألقاب؟!». انها امراض اجتماعية تحتاج إلى علاج عاجل وسريع. والفضائيات ودكاترة الفضائيات، هم جزء من مجتمع ينخر فيه هذا المرض العضال، فلماذا انت متحامل على الدكتور الفضائي وعلى فتيات الفضائيات؟ أليسوا من صميم مجتمعاتنا؟ لماذا تتوقع فيهم اختلافاً غير مبرر؟ هم كذّابون مثلنا، ويكفيك ان تنظر إلى الماكياج وكميات الكوليجانز التي حقنت بها الشفاه! *** في واحدة من الدول العربية الفقيرة، يود الشباب الظهور بمظهر يخفي حالة الفقر، يرشون ملابسهم بالعطور الغالية، لذلك تخصصت بعض المحلات في تسهيل هذا الزيف الاجتماعي، فتعطيك «بخة أو بختين» وانت ذاهب إلى زيارة اصدقائك نظير ثمن زهيد يوفر عليك شراء زجاجة عطر كاملة. وفي مصر يحمل كثير من الشباب جهاز الموبايل، ولا يتصل برفاقه، إنما يعطيهم «رنة واحدة» أو (مسد) Missed كما يسمونها، على أمل ان يرد عليه صاحبه ولا يكلفه ذلك شيئاً. *** في مجتمع الدكتوراه الفضائية، وجاكيت التصوير، والبخة الواحدة، و(المسد كول) Missed Call، والاستاذ الدكتور مهندس كيماوي، والدكتور السفير، في كل ذلك مؤشرات مجتمع اللافتات ومجتمع المظاهر الكاذبة التي لا تخضع الى أي معايير تفرق ما بين الفالصو Flase، والحقيقي. هذا النوع من المجتمعات لا يستطيع إعادة انتاج نفسه لأنه مجتمع مفرغ من أي خريطة جينية genetic map، مجتمع يتعيش على الكذب والمظاهر المخادعة، مظاهر تخدع اصحابها فقط، لكن في النهاية وفي موضوع الدكتور الفضائي، تعرف المذيعة وكذلك المشاهد، بأن الجاكيت في الاستوديو، وان تحت الجاكيت خواء، وان الموضوع برمته «نصب في نصب» وسواء كانت هناك أمريكا أم لم تكن، نحن لا نخدع إلا أنفسنا، لأن الجميع يعرف ان الموضوع برمته على «الاقمار الاصطناعية»، وأن شهادة صاحبنا أقرب إلى شهادة راكب الاتوبيس الذي ذكرته آنفاً، تصلح فقط للاستعمال المنزلي. فإن كان الهدف من الطب هو الصحة، ومن القانون هو العدل، فهدف العمران الاجتماعي هو الراحة، وبالنظر إلى حالة فوضى الدكتوراه العرفية، أو دكتوراه المتعة، فنحن بالتأكيد نحيا في مجتمع غير مرتاح.