|
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. (Re: حبيب نورة)
|
بعد أن تقلبت شاحنته ثلاثة مرات على الأقل في ذلك الطريق الوعر، استغرق ود اللحو وقتاً كبيراً ليتعافَ من الإصابة الخطرة التي حدثت لظهره. لو لم يكن شاباً فتياً وقتها، لما استطاع القيام مرة أخرى من رقدته تلك، مكث في بيته عدة أشهر كانت ثقيلة على قلبه، لأنها ابعدته عن مهنته الوحيدة التي كان يجيدها، فقد كان ود اللحو سائقاً ماهراً، في زمنٍ كان فيه السفر من مدينةٍ لأخرى، يعتبر ضرباً من ضروبِ الإنتحار والمجازفة. كانوا يقضون ما يقارب الأربعين يوماً في رحلة واحدة، قد تطول أحياناً تبعاً لأوضاع الطرق وأحوال الطقس. كانوا يمخرون في تلك الرحلة الشاقة عباب رمال الصحراء، في نهاراتٍ لا تعرف شموسها النوم، ويشقّون أكباد الليالي، وهم يرهنون عيونهم لنجيمات قد تضلّ طريقها هي الأخرى، فيكابدون الأمرين في سبيل الوصول إلى مبتغاهم . أصبحت آلام ظهر ود اللحو شيئاً لا يطاق، بعد برء جرحه البليغ، ولكنه لم يكن يمتلك خياراً آخراً، فانتوى معاودة العمل، وسط مخاوفه من تجدّد الإصابة . كانت تنتظره ثمة أقدار لا يدري كنهها، ولكنه أصر على استئناف عمله مهما يكن. فعندما تشاهده في تلك الأيام الخوالي وهو قابضاً على عجلة القيادة بإحكام، والعربة المثقلة بالبشر والبضائع تترنّح في الطرقات كمن أفرط في الشراب، ستعرف كم كان مولعاً بالسفر، يغني كحداء الظاعنين الأوائل في حله وترحاله . فلم تكن مكابدة أهوال الأسفار في تلك الأيام، سوى متعةً يصعب الإحساس بحلاوتها على غيره، في الواقع لم تكن السيارات متوفرةً أصلاً. أحياناً تمحو رمال الصحراء معالم الطرق التي كان يسلكها ويحتار دليله، وأحيانا تغرورق عيون السماء، وتسحّ المطر هميلاً من علياءها، فتنهل منها الطرق والوديان حتي ترتوي وتسيل، فيمكثون أياماً وأسابيعاً حتي تجف الوديان، ومن ثم يواصلون المسير في صعوبةٍ بالغة، وأحياناً يعترضون طريقهم رجالٌ ملثمون يركبون الجمال ويحملون بنادقاً كثيفة الطلقات، مخيفةً، يسلبونهم بضاعتهم، فيرضون من الغنيمةِ بالإياب، إن تركوهم أحياءًا. وبعد كل ذلك الضنك، كان ود اللحو يجد في السفر متعة لا تشوبها شائبة، فيمضي فيه بعزمٍ لا تثنيه عنه نائبة ولا رهبة ولا أخطار . لم يبالِ بأوجاع ظهره وآلامه، وزأرت عربته اللوري العتيقة بهيبةٍ في وعثاء الطرق، تحصب سكينة الليالي، وتذرو في وجوهها التراب، تصوخ إطاراتها كثيراً، وثياب الغبار الكثيف تنسج خيوط عناكبها في مداخل البصر، والسراب المخادع باسطٌ ذراعيه بالرمال، ينبح من بعيد. فيتوهمون أنهم دنوا من مشارف بركةٍ ماءِ منها يستقون وينهلون، ولكنهم لن يبلغوها مطلقاً، فيشتد بأس الحر، وتبلغ القلوب الحناجر، ولكنهم قومٌ جُبِلوا على الشدة، وفي الواقع كانت هكذا تمضي حياتهم، وكما يقولون أن الرحيل عز العرب ومبعث فخرهم. ومع ذلك مثلما في الأسفار سبع فوائد، هنالك تصدٍّ مماثل في القوة، ممعن في عبثيته، يتدخل بسفورٍ وتآمر ويسلبهم تلك المتعة وفوائدها. كان السائقين في ذلك الوقت الغابر يعتبرون من نجومِ تلك المجتمعات، لأن السيارات لم تكن كثيرة، ف ي بلدته لم يكن هنالك سوى أربع سيارات صغيرة يملكها تجار موسرين، بالإضافةِ للشاحنة التي كان يقودها بنفسه. كانوا يعرفون شاحنته من صوتها المميز حتى قبل أن يشاهدوها تقترب، وكذك كان ود اللحو سائقاً ماهراً لا تستطيع كثبان الرمال الكثيفة، ولا أوحال الوديان المنتشرة في تلك الأصقاع أن تعيقه من العبور، إلا بالكاد. وكان الركاب، و مساعدي السائقين يتباهون بطريقة قيادة السائقين الذين يعملون تحت إمرتهم، ويروون الكثير من القصص التي تظهر تلك المهارة، وكثيراً ما يبالغون في الوصف كالعادة. أينما يوجد المسافرون توجد الحكايات.
نواصل...
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-23-14, 05:08 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-23-14, 05:09 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-23-14, 05:12 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-23-14, 05:14 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-23-14, 05:16 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-23-14, 05:17 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-23-14, 05:19 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-23-14, 05:21 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-23-14, 05:22 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-23-14, 05:23 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | عبدالحفيظ ابوسن | 11-23-14, 05:45 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-23-14, 05:55 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | خالد عبد الله محمود | 11-23-14, 06:21 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | علي عبدالوهاب عثمان | 11-23-14, 07:19 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-23-14, 05:30 PM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-23-14, 05:26 PM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | مهند الجيلي بادي | 11-23-14, 09:24 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-23-14, 05:33 PM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | سيف اليزل سعد عمر | 11-23-14, 06:10 PM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | علي دفع الله | 11-23-14, 07:30 PM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | عبدالبديع عثمان | 11-23-14, 08:01 PM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | عبيد الطيب | 11-24-14, 05:49 AM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-26-14, 09:43 PM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-26-14, 09:36 PM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-26-14, 09:31 PM |
Re: صندوق الزوادة .. حكايات السواقين. | حبيب نورة | 11-26-14, 09:29 PM |
|
|
|