الرسالة الثانية من الإسلام

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-18-2024, 02:53 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2014م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-22-2014, 05:59 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الرسالة الثانية من الإسلام

    محمود محمد طه
    الطبعة الأولى - يناير 1967
    الإهـــداء

    إلي الإنسانية !
    بشرى .. وتحية .
    بشرى بأن الله ادخر لها من كمال حياة
    الفكر، وحياة الشعور، ما لا عين رأت ،
    ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
    وتحية للرجل وهو يمتخض ، اليوم ، في
    أحشائها ، وقد اشتد بها الطلـق ، وتنفس
    صبح الميلاد .
                  

01-22-2014, 06:00 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)


    بسم الله الرحمن الرحيم
    (( لا إكراه في الدين ، قد تبين الرشد من الغي .. فمن يكفر بالطاغوت ، ويؤمن بالله ، فقد استمسك بالعروة الوثقى ، لا انفصام لها.. والله سميع عليم .. ))
    (( ومن يسلم وجهه إلى الله ، وهو محسن ، فقد استمسك بالعروة الوثقى .. وإلى الله عاقبة الأمور .. )) ..
    صدق الله العظيم ..

    مقدمة الطبعة الرابعة

    هذه مقدمة الطبعة الرابعة من كتاب (( الرسالة الثانية من الإسلام )) .. وهو كتاب قد صدرت طبعته الأولى في يناير من عام 1967 ، الموافق لشهر الله المكرم رمضان من عام 1386.. ولقد لاقى رواجا عظيما ، ونجـد أن رواجه يزداد كلما تقادم عليه العهـد ، ذلك أن الناس قـد أخذوا يتفهمونه ، ويتقبلونـه ، ويقبلون عليه .. وهـذا الكتاب هـو ، بالنسبة للدعوة الجمهـورية ، الكتاب الأم .. ومع ذلك ، فانه موجز ، أشد الإيجاز ، ويتطلب شرحاً ، وتفصيلا ، وتبيينا ، ليس إليه اليوم من سبيل .. وسيطيب لذلك الوقت عما قريب إن شاء الله .. وما أريد في هذه المقدمة إلى شئ من تفصيل يتناول مواضيع الكتاب المختلفة ، وإنما أريد بها إلى تقرير أمر يهمني تقريره ، بادئ ذي بدء ، وذلك أن الإسلام رسالتان: رسالة أولى قامت على فروع القرآن ، ورسالة ثانية تقوم على أصوله .. ولقد وقع التفصيل على الرسالة الأولى .. ولا تزال الرسالة الثانية تنتظر التفصيل .. وسيتفق لها ذلك حين يجئ رجلها ، وحين تجئ أمتها ، وذلك مجئ ليس منه بـد .. (( كان على ربك حتماً مقضياً )) ..

    العروة الوثقى

    العروة هي المقبض .. أو هي اليد التي يحمل بها الإناء .. أو هي العقدة في طرف الحبل التي بها يستوثق القابض على الحبل من قبضة الحبل .. فالعروة الوثقى هي مقبض الحبل الوثيق .. والحبل هو الـدين .. قال تعالى : (( واعتصموا بحبل الله جميعا ، ولا تفـرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخواناً .. وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها .. كذلك يبين الله لكم آياته ، لعلكم تهتدون )) .. فالحبل هنا هو الإسلام ، وهو القرآن ، وذلك معنى واحد .. وقد قال المعصوم ، في حديث يرويه علي بن أبي طالب : (( ألا إنها ستكون فتنة !! فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله !! فيه نبأ ما كان قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم .. هو الفصل ، ليس بالهزل .. من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله .. وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو السراط المستقيم .. هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه .. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد .. من قال به صدق ، ومـن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعى إليه هدى إلى سراط مستقيم )) .. هذا قول المعصوم .. وهذا الحبل إنما تنزل من الله في إطلاقه إلى أرض الناس.. فأوله عندنا ، وآخره عنده تعالى ، في إطلاقه.. وهذه الصورة محكية ، أجمل حكاية ، في قوله تعالى ، من مطلع سورة الزخرف : (( حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم )) وهذا الحبل هو أيضا المسمى بالهدى في قوله تعالى ، مخاطبا إبليس ، وحواء، وآدم: (( قلنا اهبطوا منها جميعا ، فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خـوف عليهم ولا هـم يحزنون )) .. فان هذا الهدى قد تنزل من الله في إطلاقه إلى المهبط الذي هبطه إبليس ، وحواء ، وآدم ، وهو الأرض .. ومن ههنا كانت صورة الهدى ، وصورة الحبل عبارة عن أمر واحد ، ذلك الأمر هو القرآن .. والعروة الوثقى التي قلنا عنها أنها مقبض الحبل الوثيق إنما هي طرف الحبل الذي لامس الأرض - أرض الناس -.. وهذا ما يحكيه ظاهر القرآن الذي تعطينا إياه اللغة العربية .. وقد عبر تعالى عنه بقوله : (( إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون )) .. عبارة لعلكم تعقلون هي التنزل لأرض الناس ، وهذه هي الشريعة .. ولقد تنزل هذا الحبل الوثيق من الإطلاق ، وقد عبر تعالى عن نقطة متنزله من الإطلاق بقوله تعالى (( وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم )) وقـد أشار إلى نقطة متنزله من الإطـلاق بقـوله تعالى : (( حـم )) أشار هنا إشارة فقط ، وهي إشارة في غاية الرفعة .. وعبر هناك عبارة ، وهي عبارة في غاية البلاغة .. وبين العبارة والإشارة اختلاف مقدار.. والمعبر عنه ، والمشار إليه ، أمر واحد ، هو الذات .. وإنما جاء اختلاف المقدار لضرورة التنزل إلى الافهام .
    فالعروة الوثقى هي الشريعة .. والحبل الوثيق هو الدين .. وبين الشريعة والدين اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع .. فالشريعة هي القدر من الدين الذي يخاطب الناس - عامة الناس - على قدر عقولهم .. ولقد صدرنا هذه المقدمة بآيتين ، أولاهما: (( لا إكراه في الدين ، قد تبين الرشد من الغي . فمن يكفر بالطاغوت ، ويؤمن بالله ، فقد استمسك بالعروة الوثقى ، لا انفصام لها .. والله سميع عليم..)).. العروة الوثقى هنا الشريعة ، وهي (( لا انفصام لها )) من الدين لمن (( يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله )).. فإنها له موسلة ، وموصلة .. هذا شرط عدم انفصامها عن الدين - الكفر بالطاغوت ، والإيمان بالله .. وهذا يعني أنها منفصمة عن الدين لمن يستمسكون بها بغير كفر بالطاغوت ، وبغير إيمان بالله ، وهو ما عليه حال المسلمين اليوم .. هذه أولى الآيتين ..
    وأخراهما (( ومن يسلم وجهه إلى الله ، وهو محسن ، فقد استمسك بالعروة الوثقى .. وإلى الله عاقبة الأمور..)).. وهذه الآية في معنى تلك ، ولكنها تذهب أكثر منها في توضيح توسيل الشريعة .. جاء في هذه بقوله : (( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن )) في مقابلة (( فمـن يكفر بالطاغـوت ، ويؤمـن بالله )) في تلك.. وجاء بالفاصلة : (( وإلى الله عاقبة الأمور )) ، ليدل على الرجعى بالصعود على الحبل المتنزل من الإطلاق ، حيث كان الإنسان ، قبـل أن يزل ، ويطـرد بسبب الزلة ، ويبـعد ، (( قلنا: اهبطوا منها جميعا ، فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ، ولا هم يحزنون )).. وورد في نفس هذا المعنى ، قوله تعالى : (( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، فلهم أجر غير ممنون )).. فالأجر (( غير الممنون )) يعني غير المقطوع .. وهو ، من ثم ، (( العروة الوثقى ، لا انفصام لها )) ..
                  

01-22-2014, 06:02 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    السنة هي الرسالة الثانية

    السنة شريعة وزيادة .. فإذا كانت العروة الوثقى هي الشريعة ، فإن السنة أرفع منها .. وإذا كان حبل الإسلام متنزلا من الإطلاق إلى أرض الناس ، حيث الشريعة - حيث مخاطبة الناس على قدر عقولهم - فإن السنة تقع فوق مستوى عامة الناس .. فالسنة هي شريعة النبي الخاصة به .. هي مخاطبته هو على قدر عقله .. وفرق كبير بين عقله ، وبين عقول عامة الناس .. وهذا نفسه هو الفرق بين السنة والشريعة .. وما الرسالة الثانية إلا بعث هذه السنة لتكون شريعة عامة الناس ، وإنما كان ذلك ممكنا ، بفضل الله ، ثم بفضل تطور المجتمع البشري خلال ما يقرب من أربعة عشر قرنا من الزمان .. وحين بشر المعصوم ببعث الإسلام إنما بشـر به في معنى بعـث السنة ، وليـس في معنى بعث الشريعة .. قال : (( بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا كما بـدأ .. فطـوبى للغرباء !! قالـوا : من الغرباء يا رسول الله ؟ قال : الذين يحيون سنتي بعد اندثارها )) .. ويجب أن يكون واضحاً أنه لا يعني إحياء الشريعة ، وإنما يعني إحياء السنة .. والسنة ، كما قلنا ، شريعة ، وزيادة .. السنة طـريقة.. والطـريقة شريعة موكدة ..

    السنة ليست خاصة بالنبي

    كثيرا ما نسمع الفقهاء يقولون : إن هذا العمل خاص بالنبي .. وهذا خطأ شنيع ، وقد كان له سود العواقب في تثبيط الناس .. والله تعالى يقول ، على لسان نبيه: (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ، يحببكم الله )).. ومن ههنا انفتحت الشريعة على السنة ، وأصبح مطلوبا من السالك أن يترقى من الشريعة إلى الطريقة .. (( السنة )) .. بيد أن هذا الترقي لم يكن فرضا مفروضا على عامة الناس ، وإنما كان أمرا مندوبا إليه .. وما منعه ألا يكون فرضا إلا حكم الوقت .. فقد كانت الفترة الأولى من الدعوة خاصة بأمة المؤمنين .. وكان عمل النبي ، في خاصة نفسه ، عملا في مستوى المسلمين .. فلم يكن في الأمة المسلمة غيره .. والإسلام مرتبة مترقية على الإيمان ، وقد ورد تفصيل هذا في متن الكتاب ، فليراجع في موضعه .. والذي يهمنا هنا أن نقرر أن وقتنا الحاضر وقت تتهيأ فيه الأرض لظهور أمة المسلمين .. وهذه الأمة هي أمة الرسالة الثانية .. وشريعتها هي سنة النبي ، لا شريعة الأمة الماضيـة ، بكل تفاصيلها ، وذلك بفضل الله ، كما أسلفنا القول ، ثم بفضل تطور المجتمع البشري خلال هـذه المدة الطويلة ، مما جعله مستعدا لتفهم التشريع المتطور من الشريعة إلى السنة .. فكأن أرض الناس قد ارتفعت خلال هذه المدة .. وكأن طرفاً من الحبل قد انطوى من البعد إلى القرب .. وأصبحت بذلك العروة الوثقى الجـديـدة أقـرب إلى الإطـلاق من العـروة الوثـقى القـديمة .. وذلك لقرب أرض الناس – أعنـي مستوى فهمهم - من الإطلاق ، إذا ما قورن بمستوى الفهم القديم ..
    والأمة المسلمة هي التي سماها النبي الكريم بالاخوان ، حين سمى الأمة المؤمنة بالأصحاب ، وفي ذلك ورد حديثه المشهور الذي قال فيه : (( واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد !! قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال : بل أنتم أصحابي .. واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد !! قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال : بل أنتم أصحابي .. واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد !! قالوا : من إخوانك ؟ قال : قوم يجيئون في آخر الزمان ، للعامل منهم أجر سبعين منكم !! قالوا : منا أم منهم ؟ قال: بل منكم !! قالوا : لماذا ؟ قال : لأنكم تجدون على الخير أعوانا ، ولا يجدون على الخير أعوانا ..)) .. وعن الأخوان قال ، في موضع آخـر: (( الأنبياء أبناء أم واحدة )) يعني هم أخوان لأنهم جميعا يرضعون من ثدي واحد ، هو ثدي (( لا إله إلا الله )).. وفي ذلك إشارة إلى أن أمة المسلمين يكون الناس فيها ، لكمال معرفتهم بالله ، كأنهم أنبياء .. وليسوا بأنبياء ..
    ومما يدحض القول بأن السنة خاصة بالنبي قول الله تعالى : (( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رءوف رحيم )).. وروح هذه الآية في عبارة : (( من أنفسكم )).. يشير إلى أن ما اتصف به النبي من كمالات هو لكم ، إذا اتبعتم طريقه ، لأنه من عنصركم ، وليس من عنصر غريب عليكم .. والاختلاف بينكم وبينه اختلاف مقدار ، لا اختلاف نوع .. وقول من يقول بأن هذا العمل خاصية من خاصيات النبي يخطئ الحكمة في إرسال الرسل إلى البشر من البشر لا من الملائكة .. فإذا كانت الأرض اليوم ، بكل هذه الطاقة المادية الهائلة ، والتقدم البشري الرفيع في وسائل الدنيا ، ثم بكل هذه الحيرة المطبقة على عقول الناس ، وقلوبهم ، إنما تتهيأ لظهور أمة المسلمين عليها ، فقد أصبح واجباً على ورثة الإسلام - على ورثة القرآن - أن يدعوا إلى الرسالة الثانية ، تبشيرا بالعهد الجديد الذي أصبحت البشرية تشعر بالحاجة الملحة إليه ، ولكنها تخطئ طريقه ، وإنما طريقه في المصحف ، ولكن المصحف لا ينطق ، وإنما ينطق عنه الرجال .. قال تعالى في ذلك : (( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون )).. ومما تنطق به صدور الذين أوتوا العلم أن طريق العهد الجديد - طريق المسلمين على الأرض - ترسم خط سيره آيات الأصول - الآيات المكية - تلك التي كانت في العهد الأول منسوخة بآيات الفروع - الآيات المدنية - وإنما نسخت آيات الأصول يومئذ لحكم الوقت .. فقد كان الوقت وقت أمة المؤمنين .. وآيات الأصـول تخاطب أمة المسلمين ، وهي أمة لم تكن يومئذ .. وإنما نسخت آيات الأصول في معنى أنها أرجئت ، وعلق العمل بها فيما يخص التشريع ، إلى أن يحين حينها ، ويجئ وقتها ، وهو الوقت الذي نعيش نحن اليوم في تباليج فجره الصادق .. وإنما من ههنا وظفنا أنفسنا للتبشير بالرسالة الثانية ..
                  

01-22-2014, 06:04 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    الرسالة الثانية من الإسلام

    الإسلام دين واحد .. وهو دين الله الذي لا يرضى غيـره .. قال تعالى فيه: (( أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السموات ، والأرض ، طوعا وكرها ، وإليه يرجعون ؟؟ )) وهو ، بهذا المعنى إنما هو الاستسلام الراضي بالله رباً .. وبالإسلام جاء جميع الأنبياء من لدن آدم وإلى محمد .. قال تعالى في ذلك : (( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، والذي أوحينا إليك ، وما وصينا به إبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه .. كبر على المشركين ما تدعوهم إليه .. الله يجتبي إليه من يشاء ، ويهدي إليه من ينيب ..)) .. (( شرع لكم من الدين )) هنا لا تعنـي الشرائع وإنما تعنـي (( لا إله إلا الله )) .. ذلك بأن شرائع الأمم ليست واحدة ، وإنما هي مختلفة اختلاف مقدار ، وذلك لاختلاف مستوياتها.. وإنما (( لا إله إلا الله )) هي الثابتة ، وإن كان ثباتها في مبناها فقط ، وليس في معناها .. وإنما يختلف معناها باختلاف مستويات الرسل .. وهو اختلاف مقدار أيضا .. قال المعصوم في ثبات مبنى (( لا إله إلا الله )) .. (( خير ما جئت به أنا والنبيون من قبلي (( لا إله إلا الله ..)) واختلاف شرائع الأنبياء الناتج عن اختلاف مستويات أممهم لا يحتاج إلى طويل نظر .. ويكفي أن نذكر باختلاف شريعة التزويج بين آدم ومحمد .. فقد كان تزويج الأخ من أخته شريعة إسلامية لدى آدم .. وعندما جاء محمد أصبح الحلال في هذه الشريعة حراماً .. أكثر من ذلك أصبح التحريم ينسحب على دوائر أبعد من دائرة الأخت .. قال تعالى في ذلك: (( حرمت عليكم أمهاتكم ، وبناتكم ، وأخواتكـم ، وعماتكم ، وخالاتكـم ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، وأخواتكم من الرضاعة ، وأمهات نسائكم ، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ، فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم .. وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم .. وأن تجمعوا بين الأختين ، إلا ما قد سلف .. إن الله كان غفورا رحيما )) فإذا كان هذا الاختلاف الشاسع بين الشريعتين سببه اختلاف مستويات الأمم ، وهو من غير أدنى ريب كذلك ، فإنه من الخطأ الشنيع أن يظن إنسان أن الشريعة الإسلامية في القرن السابع تصلح ، بكل تفاصيلها ، للتطبيق في القرن العشرين ، ذلك بأن اختلاف مستوى مجتمع القرن السابع ، عن مستوى مجتمع القرن العشرين ، أمر لا يقبل المقارنة ، ولا يحتاج العارف ليفصل فيه تفصيلا ، وإنما هو يتحدث عن نفسه .. فيصبح الأمر عندنا أمام إحدى خصلتين : إما أن يكون الإسلام ، كما جاء به المعصوم بين دفتي المصحف ، قادرا على استيعاب طاقات مجتمع القرن العشرين فيتولى توجيهه في مضمار التشريع ، وفي مضمار الأخلاق ، وإما أن تكون قدرته قد نفدت ، وتوقفت عند حد تنظيم مجتمع القرن السابع ، والمجتمعات التي تلته مما هي مثله ، فيكون على بشرية القرن العشرين أن تخرج عنه ، وأن تلتمس حل مشاكلها في فلسفات أخريات ، وهذا ما لا يقول به مسلم .. ومع ذلك فان المسلمين غير واعين بضرورة تطوير الشريعة .. وهم يظنون أن مشاكل القرن العشرين يمكن أن يستوعبها ، وينهض بحلها ، نفس التشريع الذي استوعب ، ونهض بحل مشاكل القرن السابع ، وذلك جهل مفضوح ..
    المسلمون يقولون إن الشريعة الإسلامية شريعة كاملة .. وهذا صحيح .. ولكن كمالها إنما هو في مقدرتها على التطور ، وعلى استيعاب طاقات الحياة الفردية ، والاجتماعية ، وعلى توجيه تلك الحياة في مدارج الرقي المستمر ، بالغة ما بلغت تلك الحياة الاجتماعية ، والفردية من النشاط ، والحيوية ، والتجديـد .. هم يقولون ، عندما يسمعوننا نتحدث عن تطوير الشريعة ، يقولون : الشريعة الإسلامية كاملة ، فهي ليست في حاجة إلى التطوير ، فإنما يتطور الناقص .. وهذا قول بعكس الحق تماما ، فإنه إنما يتطور الكامل .. فالكمل من العارفين مثلهم الأعلى أن يتخلقوا بما وصف الله تعالى به نفسه حين قال عز من قائل: (( كل يوم هو في شأن )).. فهم يجددون حياة فكرهم ، وحياة شعورهم ، كل يوم .. واليوم عندهم هو يوم الله .. وليس هو هنا أربعاً وعشرين ساعة ، وإنما هـو وحـدة (( زمنية )) التجلي ، وتلك (( زمنية )) أصغر من الدقيقة ، بل أصغر من الثانية ، بل أصغر من الثالثة .. إنها (( زمنية )) قد تنقسم فيها الثانية إلى بليون جزء ، حتى أنها لتكاد أن تخرج عن الزمن ، في المفهوم الذي يتصوره العقل للزمن .. فهم قد ينطلقون ، أو قد يحاولون أن ينطلقوا ، مع الله في إبداء مظاهره لخلقه ، يجددون حياة فكرهم ، وحياة شعورهم بهذه الصورة المستمرة .. هذا هو الكمال .. وليس الكمال التزام صورة واحدة .. فالعشبة الضئيلة التي تنبت في سفح الجبل ، فتخضر ، وتورق ، وتزهر ، وتثمر ، ثم تلقي ببذرتها في تربتها ، ثم تصير غثاء تذروه الرياح ، أكمل من الجبل الذي يقف فوقها عاليا متشامخا ، يتحدى هوج العواصف .. ذلك بأن تلك العشبة الضئيلة قد دخلت في مرحلة متقدمة من مراحل التطور - مرحلة الحياة والموت - مما لم يتشرف الجبل بدخولها ، وإنما هو يطمع فيها ، ويطمح إليها ..
    وبالمثل ، فإن كمال الشريعة الإسلامية إنما هو في كونها جسما حيا ، ناميا ، متطورا ، يواكب تطور الحياة الحية ، النامية ، المتطورة ، ويوجه خطاها ، ويرسم خط سيرها في منازل القرب من الله ، منزلة ، منزلة .. ولن تنفك الحياة سائرة إلى الله في طريق رجعاها ، فما من ذلك بد .. (( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه )).. وإنما تتم الملاقاة بفضل الله ، ثم بفضل إرشاد الشريعة الإسلامية في مستوياتها الثلاث : الشريعة ، والطريقة ، والحقيقة .. وتطور الشريعة ، كما أسلفنا القول ، إنما هو انتقال من نص إلى نص .. من نص كان هو صاحب الوقت في القرن السابع فأحكم إلى نص اعتبر يومئذ أكبر من الوقت فنسخ .. قال تعالى : (( ما ننسخ من آية ، أو ننسئها نأت بخير منها ، أو مثلها .. ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ؟ )) .. قوله : (( ما ننسخ من آية )) يعني : ما نلغي ، ونرفع من حكم آية .. قوله : (( أو ننسئها )) يعني نؤجل من فعل حكمها.. (( نأت بخير منها )) يعني أقرب لفهم الناس ، وأدخل في حكم وقتهم من المنسأة .. (( أو مثلها )) يعني نعيدها ، هي نفسها ، إلى الحكم حين يحين وقتها .. فكأن الآيات التي نسخت إنما نسخت لحكم الوقت ، فهي مرجأة إلى أن يحين حينها .. فإذا حان حينها فقد أصبحت هي صاحبة الوقت ، ويكون لها الحكم ، وتصبح ، بذلك هي الآية المحكمة ، وتصير الآية التي كانت محكمة ، في القرن السابع ، منسوخة الآن .. هذا هو معنى حكم الوقت .. للقرن السابع آيات الفروع ، وللقرن العشرين آيات الأصول .. وهذه هي الحكمة وراء النسخ .. فليس النسخ ، إذن ، إلغاء تاما ، وإنما هو إرجاء يتحين الحين ، ويتوقت الوقت .. ونحن في تطويرنا هذا إنما ننظر إلى الحكمة من وراء النص .. فإذا خدمت آية الفرع التي كانت ناسخة في القرن السابع لآية الأصل غرضها حتى استنفدته ، وأصبحت غير كافية للوقت الجديد - القرن العشرين - فقد حان الحين لنسخها هي ، وبعث آية الأصل ، التي كانت منسوخة في القرن السابع لتكون هي صاحبة الحكم في القرن العشرين ، وعليها يقوم التشريع الجديد .. هذا هو معنى تطوير التشريع .. فإنما هو انتقال من نص خدم غرضه .. خدمه حتى استنفده إلى نص كان مدخرا يومئذ إلى أن يحين حينه .. فالتطوير ، إذن ، ليس قفزاً عبر الفضاء ، ولا هو قول بالرأي الفج ، وإنما هو انتقال من نص إلى نص ..
                  

01-22-2014, 06:07 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    من المأذون؟

    ولكن رسول الله قد التحق بالرفيق الأعلى وترك ما هو منسوخ منسوخا ، وما هو محكم محكما .. فهل هناك أحد مأذون له في أن يغير هذا التغيير الأساسي ، الجوهري ، فيبعث ما كان منسوخا ، وينسخ ما كان محكما ؟؟ هذا سؤال يقوم ببال القارئ لما سلف من القول .. والحق أن كثيراً ممن يعترضون على دعوتنا إلى الرسالة الثانية من الإسلام لا يعترضون على محتوى هذه الدعوة ، بل إنهم قد لا يعيرون محتوى الدعوة كبير اعتبار .. وإنما هم يعترضون على الشكل .. هم يعترضون على أن تكون هناك رسالة ، تقتضي رسولا ، يقتضي نبـوة ، وقد ختمت النبـوة ، بصريح نص ، لا مرية فيه .. وإنه لحق أن النبـوة قد ختمت ، ولكنه ليس حـقا أن الرسالة قد ختمت : (( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ، ولكن رسول الله ، وخاتم النبيين .. وكان الله بكل شئ عليما )).. ومعلوم أن كل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا .. ولكن النبوة ما هي ؟؟ النبـوة هي أن يكون الرجل منبأ عن الله ، ومنبئاً عن الله .. أي متلقياً المعارف عن الله بواسطة الوحي ، وملقيا المعارف عن الله إلى الناس ، على وفق ما تلقى ، وبحسب ما يطيق الناس .. فبمرتبة التلقي عن الله يكون الرجل نبياً ، وبوظيفة الإلقاء إلى الناس يكون رسولا .. هذا هو مألوف ما عليه علم الناس .. ولكن هناك شيئا قد جد في الأمر كله ، ذلك هو معرفة الحكمة وراء ختم النبوة بمعناها المألوف .. لماذا ختمت النبوة ؟؟
    أول ما تجب الإشارة إليه هو أن النبـوة لم تختم حتى استقر ، في الأرض ، كل ما أرادت السماء أن توحيه ، إلى أهل الأرض ، من الأمر .. وقد ظل هذا الأمر يتنزل على أقساط ، بحسب حكم الوقت ، من لدن آدم وإلى محمد .. ذلك الأمر هو القرآن .. واستقراره في الأرض هو السبب في ختم النبوة .. وأما الحكمة في ختم النبوة فهي أن يتلقى الناس من الله من غير واسطة الملك ، جبريل - أن يتلقوا عن الله كفاحا - ذلك أمر يبدو غريبا ، للوهلة الأولى ، ولكنه الحق الذي تعطيه بدائه العقول ، ذلك بأن القرآن هو كلام الله ، ونحن كلما نقرؤه إنما يكلمنا الله كفاحا ، ولكنا لا نعقل عنه .. السبب ؟ أننا عنـه مشغـولون .. قال تعالى في ذلك: (( كلا‍‍!! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا!! إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون )).. وإنما جاء القرآن بمنهاج شريعته ، ومنهاج طريقته ، وبأدبه في كليهما ، ليرفع ذلك الريـن ، حتى نستطيع أن نعقل عن الله ما يحدثنا في القرآن ، فإذا وقع هذا الفهم لرجل فقد أصبح مأذوناً له في الحديث عن أسرار القـرآن ، بالقدر الذي وعى عن الله ..

    من رسول الرسالة الثانية ؟؟

    هو رجل آتاه الله الفهم عنه من القرآن ، وأذن له في الكلام ..

    كيف نعرفه ؟؟

    حسنا !! قالوا أن المسيح قد قال يوما لتلاميذه : (( احذروا الأنبياء الكذبة !! )) قالوا: (( كيف نعرفهم ؟؟ )).. قال : (( بثمارهم تعرفونهم )) ..
                  

01-22-2014, 06:09 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)


    بســــم الله الرحمـن الرحيـم


    مقدمـة الطبعـة الثالثة

    هذه مقدمة الطبعة الثالثة من كتاب (( الرسالة الثانية من الإسلام )) وكانت الطبعة الأولى منه قد صدرت في يناير من عام 1967، الموافق لشهر رمضان المكرم من عام 1386.. ثم صدرت الطبعة الثانية منه في إبريل من عام 1968، يوافق المحرم من عام 1388.. وعند صدور هذه الطبعة صرفتنا صوارف العمل عن تصديرها بمقدمة خاصة بها ..
    هذا الكتاب - الرسالة الثانية من الإسلام - كتاب جديد من جميع الوجوه .. وهـو ، إلى جدته ، غريب كل الغرابة ، ولا غرو ، ذلك بأنه بشارة بعـودة الإسلام من جديـد ، وأي الناس ، من علماء الناس ، لا ينتظر الغرابة في عـودة الإسلام من جديد ؟ ألم يقل المعصوم: (( بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريـبا كما بـدأ ، فطـوبى للغـرباء ! قالـوا من الغـرباء يا رسول الله ؟ قال الذين يحيـون سنتي بعـد اندثارها )) ؟..
    فالغرابة في أصل عودة الإسلام ، ولكن هذا كثيرا ما يغيب عن الذين يتصدون للكتابة عن الإسـلام ، ولقد تعرض لهذا الكتاب بعضهم فتورطوا في معارضة ما لم يحسنوا فهمه ، ولم يطيقوا الصبر عليه ، فجاءت معارضتهم مثلا من سوء الفهم ، وسوء التخريج ، وسوء القصد أيضا ، ولسنا بحاجة لأن نرد على هؤلاء ، فإن سوء صنيعهم يكفينا إياهم ، ولكننا نحب أن ننبه من عسى يحتاج إلى تنبيهنا من القراء إلى أن هذا الكتاب حق ، وأن الإطلاع عليه يقتضي الصبر ، والأناة ، ودقة النظر ، فإذا ظفر القارئ بأولئك فإنه سيتفتح ذهنه على فهم جديد ، للقـرآن وللإسـلام ، وسيحمد عاقبة صبره ، وطول أناته ، إن شاء الله ..

    السنة والشريعة

    ولقد ذكر النبي في حديثه الغرباء ، وقال إنهم هم الذين يحيون سنته بعد اندثارها .. وهم ، بالدعـوة إلي هذا الإحياء ، يصبحون غرباء بين أهليهم ، وذلك لما يصحب هذه الدعوة من خروج عن مألوف ما عليه الناس .. هم غرباء الحق بين قوم يغدو الحق بينهم غريبا لطول ما ألفـوا الباطـل فظنـوه حقا ، ولطول ما غفلوا عن الحق ..
    إن مما ألف الناس أن سنة النبي هي قوله ، وإقراره ، وعمله .. والحق أن هذا خطأ ، فان قول النبي ، وإقراره ، ليسا سنة ، وإنما هما شريعة .. وأما عمله في خاصة نفسه فهو سنة .. نعم هناك من قوله قول يلحق بالسنة ، وذلك هو القول الذي ينم عن حال قلبه من المعرفة بالله .. أما أقواله التي أراد بها إلى تعليم الأمة في أمر دينها فهي شريعة ، والفرق بين الشريعة ، والسنة ، هو الفرق بين الرسالة ، والنبـوة ، أو هـو الفـرق بين مستـوى الأمـة ، مـن أعلاها إلى أدناها ، ومستـوى النبي .. وذلك فـرق شاسع وبعيد ..
    السنة هي عمل النبي في خاصة نفسه ، والشريعة هي تنزل النبي ، من مستوى عمله في خاصة نفسه إلى مستوى أمته ، ليعلمهم فيما يطيقون ، وليكلفهم فيما يستطيعون .. فالسنة هي نبوته ، والشريعة هي رسالته .. وإنما في مضمار رسالته هـذه قال : (( نحـن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قـدر عقـولهم ))

    الإسلام والإيمان

    والناس ، اليوم ، لا يملكون القدرة على التمييز الدقيق بين الإسلام والإيمان ، فهم يعتقدون أن الإيمان أكبر من الإسلام ، وقد ورطهم في هذا الخطأ عجزهم عن الشعور بحالة الوقت ، ذلك بأن الوقت الذي كان فيه هذا الفهم صحيحا قد انقضى ، وأقبل وقت تطور فيـه فهـم الدين ، وانتـقل من مستوى الإيمان ، إلى مستوى الإسلام .. الأمر فحواه كالآتي :
    الإسلام فكر يرتقي السالك فيه على درجات سلم سباعي ، أولها الإسلام ، وثانيها الإيمان ، وثالثها الإحسان ، ورابعها علم اليقين ، وخامسها علم عين اليقين ، وسادسها علم حق اليقين ، وسابعها الإسلام من جـديد .. ولكنه في هذه الدرجة يختلف عنه في الدرجة الأولية ، اختلاف مقدار ، فهو في الدرجة الأولية انقياد الظاهر فقط ، وهو في الدرجة النهائية انقياد الظاهر والباطن معا .. وهو في الدرجة الأولية قول باللسان ، وعمل بالجوارح ، ولكنه في الدرجة النهائية انقياد ، واستسلام ، ورضا بالله في السر والعلانية .. وهو في الدرجة الأولية دون الإيمان ، ولكنه في الدرجة النهائية أكبر من الإيمان .. وهذا ما لا يقوى العلماء الذين نعرفهم على تمييزه .. ولقد لبس على علماء الدين هذا الأمر حديث جبريل المعروف ، الذي رواه عمر بن الخطاب ، قال : (( بينا كنا جلوسا عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يعرفه منا أحد ، ولا يرى عليه أثر السفر ، فجلس إلى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع يديه على فخذيه ، ثم قال : يا محمد أخبرني عن الإسلام .. قال الإسلام أن تشهد ألا اله إلا الله ، وان محمدا رسول الله ، وأن تقيم الصلاة ، وأن تؤتي الزكاة ، وأن تصوم الشهر ، وأن تحج البيت ، إذا استطعت إليه سبيلا .. قال صـدقت . فعجبنا له ، يسأله ويصدقه !! ثم قال فأخبرني عن الإيمان .. قال الإيمان أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والقدر ، خيره وشره ، واليوم الآخر .. قال صدقت .. ثم قال فأخبرني عن الإحسان .. فقال الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .. قال صدقت .. ثم قال: أخبرني متى الساعة ؟؟ فقال ما المسئول عنها بأعلم من السائل !! قال فأخبرني عن علاماتها .. قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة ، العراة ، رعاء الشاة يتطاولون في البنيان .. قال صدقـت .. ثم انصرف ، فلبثنا مليا .. ثم قال رسول الله ، صلى الله عليـه وسلم ، يا عمر ، أتدري من السائل ؟ قلت الله ، ورسوله ، أعلم.. قال هذا جبريل ، أتاكم يعلمكم دينكم !! )).. هذا الحديث لبس على علماء الدين الأمر فظنوا أن مراقي ديننا إنما هي الإسلام ، والإيمان ، والإحسان .. ولما كان واردا في القرآن قول الله تعالى عن الأعراب (( قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ، ولكن قولوا : أسلمنا.. ولما يدخل الإيمان في قلوبكم. )) فقد أصـبح واضحـا أن الإيمـان أعلى درجـة من الإسـلام.. وما علموا أن الأمر يحتاج إلى نظـر..

    جلية الأمر

    وجلية الأمر أن الإسلام ، كما هو وارد في القرآن ، قد جاء على مرحلتين : مرحلة العقيدة ، ومرحلة الحقيقة أو سمها مرحلة العلم .. وكل مرحلة من هاتين المرحلتين تقع على ثلاث درجات ..
    فأما مرحلة العقيدة فدرجاتها الثلاث هي : الإسلام ، والإيمان ، والإحسان .. وأما مرحلة العلم فدرجاتها الثلاث هي : علم اليقين ، وعلم عين اليقين ، وعلم حق اليقين .. ثم تجئ ، بعد ذلك ، الدرجة السابعة من درجات سلم الترقي السباعي ، وتلك هي درجة الإسلام ، وبها تتم الدائرة .. وتجئ النهاية ، تشبه البداية ، ولا تشبهها .. فهي في البداية الإسلام ، وهي في النهاية الإسلام . ولكن شتان بين الإسلام الذي هو البداية ، وبين الإسلام الذي هو النهاية .. وقد سبقت إلى ذلك الإشارة ..
    ومرحلة العقيدة هي مرحلة الأمة المؤمنة .. وهي أمة الرسالة الأولى ..
    ومرحلة العلم هي مرحلة الأمة المسلمة .. وهي أمة الرسالة الثانية .. وهذه الأمة لم تجئ بعد، وإنما جاء طلائعها ، فرادى ، على مدى تاريخ المجتمع البشري الطويل . وأولئك هم الأنبياء ، وفي مقدمتهم سيدهم ، وخاتمهم ، النبي ، الأمي ، محمد بن عبد الله ، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .. وهو قد بشر بمجئ هذه الأمة المسلمة ، كما جاء برسالتها ، مجملة في القرآن ، مفصلة في السنة ، وقد أسلفنا الإشارة إلى معنى السنة .. وحين تجئ هذه الأمة المسلمة فإنها لا تبدأ إلا بما بدأت به الأمة المؤمنة ، وهي مرحلة العقيدة ، ولكنها لا تقف في الدرجة الثالثة من درجات السلم التي وقف جبريل في أسئلته عندها ، وإنما تتـعداها في التطـور إلى ختـام الدرجات ، فتـكون بذلك صاحبة عقيـدة ، وصاحبة علم ، في آن معا ، فهي مؤمنة ، ومسلمة ، في حين أن الأمة الأولى مؤمنة ، وليست مسلمة ، بهذا المعنى النهائي للإسلام ..
    ويجب أن يكون واضحا فان جبريل إنما وقف ، في أسئلته ، عند نهاية درجات العقيدة لأنه إنما جاء ليبين للأمة المؤمنة دينها ، ولم يجئ ليبين للأمة المسلمة ، التي لما تأت بعد ..
    إن محمدا رسول الرسالة الأولى ، وهو رسول الرسالة الثانية .. وهو قد فصل الرسالة الأولى تفصيلا ، وأجمل الرسالة الثانية إجمالا ، ولا يقتضي تفصيلها إلا فهما جـديدا للقـرآن ، وهو ما يقوم عليه هذا الكتاب الذي بيـن يـدي القـراء ..
    إن هذا الكتاب يهدي الطريق ، ولكنه لا يمكن من نفسه إلا الذين يقبلون عليه بأذهان مفتوحة ..
    عند الله نلتمس التسديد ، ونجح المراد .. انه نعم المولى ..
                  

01-22-2014, 06:11 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)


    بسم الله الرحمن الرحيم

    (( اليوم أكملت لكــم دينكــم
    وأتممت عليكم نعمتي ورضيت
    لكم الإســـلام دينا ))

    نحمدك اللهم ، ونستهديك ، ونستعينك ،
    ولا نحصي ثناء عليك ، أنت
    كما أثنيت على نفسك :

    توطئة البحث

    عندما استعلن النور الإلهي بمحمد الأمي من جبال مكة في القرن السابع الميلادي ، أشرقت شمس مدنية جديدة ، بها ارتفعت القيمة البشرية إلى قمة لم يسبق لها ضريب في تاريخ البشرية .
    ولقد قامت تلك المدنية الإنسانية الجديدة على أنقاض المدنية المادية الرومانية في الغرب ، وعلى أنقاض المدنية المادية الفارسية في الشرق ، ولقد بلغت هذه المدنية الإنسانية الجديدة أوجها ، من الناحية النظرية على الأقل ، غداة أنزل الله تعالى على نبيه الآية التي صدرنا بها هذا السفر ، وهي قـوله تعالى (( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا . )) وذلك في نهاية الثلث الأول من القرن السابع ، ثم ان النبي لم يلبث أن التحق بربه ، فانثلمت بذلك قمة هرم هذه المدنية الإنسانية الجديدة ، ومن أبلغ ما بلغنا في ذلك عبارة أحد الأصحاب حين قال ، (( ما كدنا ننفض أيدينا من تراب قبر رسول الله حتى أنكرنا قلوبنا )) وظهر صدق هذه العبارة عمليا في أخريات خلافة عثمان ، مما انتهى إلى ما يعرف في التاريخ الإسلامي بالفتنة الكبرى .
    وهذه المدنية الإنسانية الجديدة ، التي جاء بها الله على لسان محمد ، والتي عاش محمد في أوجـها ، والتي انحسرت قمة موجتها بهذه السرعة المذهلة لدى موت محمد ، كما جاء في عبارة أحد أصحابه ، ما زالت قمتها تطمئن ، وقاعدتها تتسع ، حتى عادت مدنية مادية تشبه ، من بعض الوجوه ، المدنية الرومانية ، والمدنية الفارسية ، اللتين أسلفنا القول بأن مدنية الإسلام قامت على أنقاضهما .
    يقولون ان التاريخ يعيد نفسه ، وهذا حق ، ولكنه ليس كل الحق ، ذلك بأن التاريخ لا يعيد نفسه بصورة واحدة ، وإنما يعيدها بصورة تشبه من بعض الوجوه ، وتختلف من بعضها ، عما كان عليه الأمر في سابقه ، فالمكان ليس كرويا ، ولا الزمان ، تبعا لذلك ، بكروي ، وإنما هما لولبيان ، يسيران من قاعدة إلى قمة ، تشبه فيهما نهاية الحلقة بدايتها ، ولا تشبهها .
    وكما أن الزمان ، على كوكبنا هذا ، يسير على رجلين ، من ليل ونهار - ظلام ونور- وكما أن الإنسان يمشي على رجلين من شمال ويمين ، فكذلك الحياة تتطور على رجلين من مادة وروح .. وعندما يقدم المجتمع البشري ، في ترقيه ، رجل المادة ، ويثبتها ، ويعتمد عليها ، يكون في حالة تهيؤ ليقدم رجل الروح ، وهو لا بد مقدمها ، (( كان على ربك حتما مقضيا .)) ذلك بأن تقدم الحياة لا يقف إطلاقا ، ولا يتأخر ، ولا يكرر نفسه ، وإنما يسير قدما في مدارج مراقيه ، حيث تطلب الحياة أن تكون كاملة في الصور ، كما هي كاملة في الجوهر . وهيهات !!
    أو قل ان سير الحياة ، في مراقيها ، كسير الموجه ، فهي لا تنفك بين سفح وقمة ، وهي عندما تكون في السفح إنما تحتشد لتقفز إلى القمة ، وإنما يمثل السفح التقدم المادي للمجتمع البشري ، وتمثل القمة تقدمه الروحي ، والذين لا يرون صورة سير المجتمع مكتملة ، وإنما يرونها بالتفاريق ، ينعون عليه تقدمه المادي ، ولا يعتبرونه إلا انحطاطا ، ويحسبونه رجسا من عمل الشيطان ، والله هو المسير الحياة إليه ، على هذين الرجلين ، من المادة والروح . وفي الحق ، انه لدى التوحيد ، إنما المادة والروح شئ واحد ، ولا يقع بينهما اختلاف نوع ، وان وقع بينهما اختلاف المقدار .

                  

01-22-2014, 06:12 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)


    الباب الأول


    المدنية والحضارة

    المدنية غير الحضارة ، وهما لا يختلفان اختلاف نوع ، وإنما يختلفان اختلاف مقدار .. فالمدنية هي قمة الهرم الاجتماعي والحضارة قاعدته .
    ويمكن تعريف المدنية بأنها المقدرة على التمييز بين قيم الأشياء ، والتزام هذه القيم في السلوك اليومي ، فالرجل المتمدن لا تلتبس عليه الوسائل مع الغاية ، ولا هو يضحي بالغاية في سبيل الوسيلة . فهـو ذو قيـم وذو خلـق . وبعبارة موجزة ، فالرجل المتمدن هو الذي حقق حياة الفكر وحياة الشعور
    هل المدنية هي الأخلاق؟؟

    هي كذلك ، من غير أدنى ريب !! وما هي الأخلاق ؟؟ للأخلاق تعاريف كثيرة ، ولكن أعلاها ، وأشملها ، وأكملها هي أن نقول أن الأخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة . ولقد قال المعصوم (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق . )) فكأنه قال ما بعثت إلا لأتمم مكارم الأخلاق ، ومن أجل ذلك قلنا أن محمدا عاش في أوج المدنية التي جاء بها الله عن طريقه ، ووصفه تعالى فيها بقوله (( وإنك لعلى خلق عظيم )) .
    وحين سئلت عائشة عن أخلاق النبي قالت (( كانت أخلاقه القرآن )) ومعلـوم أن القرآن أخلاق الله ، وأخلاق الله إنما هي في الإطلاق ، ومن ههنا جاء التعريف بأن الأخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة .
    ولقد كان محمد أقدر الناس على حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة ، وذلك لشدة مراقبته لربه ، ولدقة محاسبته لنفسه ، على كل ما يأتي ، وما يدع ، في جانب الله ، وفي جانب الناس . أليس هـو القائل (( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا )) ؟
    بل ان حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة إنما هو سنة النبي ، التي طالما تحدث عنها الناس ، من غير أن يدركوا حقيقتها . وهذه السنة هي التي أشار إليها في حديثه المشهور عن عودة الإسلام ، وذلك حيث يقول (( بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء ! قالوا من الغرباء يا رسول الله ؟ قال الذين يحيون سنتي بعد اندثارها . ))
    فسنته هي مقدرته، في متقلبه ومثواه ، وفي منشطه ومكرهه ، على حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة ، وتلك هي قمة الأخلاق ، وهي أيضا قمة المدنية .
    وأما الحضارة فهي ارتفاق الحي بالوسائل التي تزيد من طلاوة الحياة ، ومن طراوتها .. فكأن الحضارة هي التقدم المادي ، فإذا كان الرجل يملك عربة فارهة ، ومنزلا جميلا ، وأثاثا أنيقا ، فهو رجل متحضر ، فإذا كان قد حصل على هذه الوسائل بتفريط في حريته فهو ليس متمدنا ، وان كان متحضرا ، وانه لمن دقائق التمييز أن نتفطن إلى أن الرجل قد يكون متحضرا ، وهو ليس متمدنا ، وهذا كثير ، وأنه قد يكون متمدنا ، وهو ليس بمتحضر ، وهذا قليل ، والكمال في أن يكون الرجل متحضرا متمدنا في آن . وهو ما نتطلع إليه منذ اليوم .
                  

01-22-2014, 06:14 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    المدنية الغربية

    على هذا الفهم الدقيق ، فان المدنية الغربية الحاضرة ليست مدنية ، وإنما هي حضارة ، وهي ليست مدنية لأن موازين القيم فيها قد اختلت ، فتقدمت الوسيلة وتأخرت الغاية . ولقد ورد في (( رسالة الصلاة )) قولنا (( ان المدنية الغربية الآلية الحاضرة عملة ذات وجهين : وجه حسن مشرق الحسن ، ووجه دميم .. فأما وجهها الحسن فهو اقتدارها في ميدان الكشوف العلمية ، حيث أخذت تطوع القوى المادية لإخصاب الحياة البشرية ، وتستخدم الآلة لعون الإنسان : وأما وجهها الدميم ، فهو عجزها عن السعي الرشيد إلى تحقيق السلام ، وقد جعلها هذا العجز تعمل للحرب ، وتنفق على وسائل الدمار أضعاف ما تعمل للسلام ، وأضعاف ما تنفق على مرافق التعمير ..
    فالوجه الدميم من المدنية الغربية الآلية الحاضرة هو فكرتها الاجتماعية ، وقصور هذه الفكرة عن التوفيق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة .. حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة ، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة ، وفي الحق أن العجز عن التوفيق بين هاتين الحاجتين :
    حاجة الفرد ، وحاجة الجماعة ظل آفة التفكير الاجتماعي في جميع عصور الفكر البشري .
    وهذا التوفيق هو ، إلى اليوم ، القمة التي بالقياس إليها يظهر العجز الفاضح ، في فلسفة الفـلاسفة ، وفكر المفكرين ، ويمكن القول بأن فضيلة الإسلام لا تظهر ، بصورة يقصر عنها تطاول كل متطاول ، إلا حين ترتفع المقارنة بينه وبين المذاهب الأخرى إلى هذه القمة الشماء .)) هذا ما قلناه في (( رسالة الصلاة )) يومئذ ، ونقول اليوم أن من آيات اختلال موازين القيم في هذه المدنية الغربية المادية ، أن الشيوعية الروسية أعطت اعتبارا للمجتمع ، وهو وسيلة ، فوق ما أعطت الفرد ، وهو غاية وان الاشتراكية فيها تقوم على حساب الحرية الجماعية ، وعلى حساب الحرية الفردية ، وليست الرأسمالية في الغرب بأحسن حالا ، في هذا الباب ، من الشيوعية الروسية .
    فشل المدنية الغربية
    وهذه المدنية الغربية الآلية الحاضرة قد بلغت نهاية تطورها ، وقد فشلت فشلا نهائيا وظاهرا في أن تنظم حياة المجتمع البشري المعاصر ، وآية هذا الفشل أن مجتمع ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يذق الاستقرار الذي ذاقه مجتمع ما بعد الحرب العالمية الأولى ، حين كانت هذه المدنية الغربية لا تزال غنية بأفانين الحلول لمشاكل ذلك المجتمع ، فقد كان المنتصر في الحرب العالمية الأولى منتصرا في السلام أيضا ، وقد كان بذلك قادرا على تنظيم المجتمع العالمي يومئذ ، بصورة من الصور ، مهما يكن عيبها ، فقد كانت كافية لتحقيق نزع السلاح ، ولو إلى مدى ، والى حين ، وكانت كافية لتحقيـق لون من الاستقرار . وأما المنتصر في الحرب العالمية الثانية ، وهو بريطانيا ، فقد أصبح منهزما في السلام الذي أعقبها ، وان أردت الدقة فقل ، لم يكن في الحرب العالمية الثانية منتصر ومنهزم ، وإنما أصبح الجميع في مركب واحد ، تلفهم الحيرة في جناحها الأسود ، وها قد انقضى على نهاية الحرب نيف وعشرون عاما ، ولا تزال البشرية من خوف الحرب في حرب ، فهي تتحدث عن السلام ، وتنفق على التسلح أضعاف ما تنفق على مرافق التعمير وما ذاك إلا لأنها لا تعرف طريقا إلى السلام إلا طريقا يقوم على تخويف العدو من عواقب المجازفة بإشعال نار الحرب .
    وسبب فشل المدنية الغربية الآلية الحاضرة في تنظيم المجتمع الحاضر هو أنها بلغت نهاية تطورها المادي الصرف ، في هذه المرحلة الحاسمة ، من مراحل تحولات المجتمع البشري المعاصر ، وأصبحت تفتقر إلى عنصر جديد تشفع به عنصرها القديم ، وتلقحه به ، وتزيد بذلك من طاقتها على التطور ، ومن مقدرتها على مواكبة ، وتوجيه حيوية المجتمع الحديث .
    روسيا ، وهي تواجه الفشل اليوم في تحقيق الاشتراكية ، بله الشيوعية وتنكص على أعقابها ، إلى إجراءات هي أدخل في الرأسمالية منها في الاشتراكية ، تتوخى بها إيجاد حوافز للإنتاج جـديدة ، تعطي أكبر الدليل على أن المدنية الغربية الحاضرة بلغت نهاية تطورها المادي الصرف ، ووقفت عند نهاية الطريق المسدود وسيصبح لزاما عليها أن ترجع إلى مفترق الطرق ، حيث تبدأ بسلوك طريق آخر ، كانت شرة الثورة قد أذهلتها عن سلوكه منذ نصف قرن مضى . ولن تجد الصين فرصة التجربة الطويلة التي وجدتها روسيا ، ذلك لأن الزمن قد أزف ، وأن المفارقة الكبيرة بين طاقة المجتمع البشري الحديث ، وقصور المدنية الغربية أصبحت تتضح كل يـوم ، وقد أخذت الصين تشعر بهذا التناقض الرهيب ، ولكنها لم تهتد إلى متنفس له إلا في هذه الحالة العصبية ، التي أسمتها سخرية ، بالثورة الثقافية يقوم بها ، في الشوارع والأماكن العامة ، المراهقون ضد أساتذة الجامعات والعلماء ، وهي تستهـدف ، فيما تستهدف ، تأليه ماو تسي تونـغ ، وجعل كتاباته مصادر الثقافـة الوحيـدة ، ومناهل الحكمة التي ينتـهي عندها رأي كل ذي رأي .
    وليس من الضروري أن نذكر الغرب الرأسمالي هنا ، لأن مفارقات المدنية الغربية تمثلها الشيوعية في روسيا وفي الصين أكثر مما يمثلها الغرب ، ولأن الغرب الرأسمالي ليس بصاحب رأي جديد في المدنية الغربية ، وإنما هو مقيم على القـديم ، على تطوير يسير سببه تطرف الثورة الشيوعية ، مما اضطره إلى ملاقاتها في نصف الطريق ، في محاولة الإبقاء على نظامه القـديم ، في وجه الثورة المجتاحة . فسبب فشل المدنية الغربية الآلية الحاضرة إذن ، هو أن تقدمها المادي والآلي ، لم يشفع بتقدم خلقي يصحح موازين القيـم ، ويضع الآلة في مكانها من حيث أنها خادم الإنسان وليست سيدته ، فالتقدم المادي غير متناسق ، ولا متساوق ، مع التقدم الروحي ، وفي تفكيرنا الاجتماعي المعاصر ، كما سبق بذلك القـول ، الرغيف يجد اعتبارا فوق ما تلقى الحرية ، وهـذه الظاهرة تنطبق على المذاهب الاشتراكية ، كما تنطبق على الرأسمالية ، وفي الحق أن الشيوعية لا تختلف عن الرأسمالية ، إلا اختلاف مقدار فهي كالرأسمالية ، مادية في الأصل ، ولكنها أكفأ منها ، من حيث المقدرة على تحقيق الوفرة المادية ، وعدالة توزيعها ، وما ينبغي أن نخدع عن هذه الحقيقة بملاحظة العداوة النائرة بينهما ، فإنما هي بمثابة العداوة التي تكون بين الفرق المختلفة في الدين الواحد فهي عـداوة لا تدل على اختلاف المنبت كما تدل على وحـدة الأديم الذي تقوم عليه هذه الفرق المتناحرة .
    وإذا أردنا أن نضع سبب فشل المدنية الغربية الآلية الحاضرة وضعا محددا ، وجب علينا أن نقرر أن مرد هذا الفشل هو عجز هذه المدنية عن الإجابة على سؤالين ظلا بغير جواب صحيح طوال الحقب السوالف من التاريخ البشري ، وقد أصبحت الإجابة عليهما ضربة لازب .
    والسؤالان هما : ما حقيقة العلاقة بين الفرد والجماعة ؟ وبيـن الفـرد والكون .
                  

01-22-2014, 06:15 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    الفرد والجماعة في التفكير الفلسفي

    أما الفلسفة الاجتماعية ، عبر العصور والى أن انتهت بالشيوعية المعاصرة ، فإنها قد فشلت في إدراك العلاقة بين الفرد والجماعة ، فهي قد ظنت أن الفرد إذا وجد الفرصة لممارسة حريته فان نشاطه سيكون ضد مصلحة الجماعة ، ولما كانت الجماعة أكثر من الفرد ، فان مصلحتها أولى بالرعاية من مصلحته ، ومن ثم أهدرت حرية الفرد ، في سبيل مصلحة الجماعة ، متى ظهر أنهما تتعارضان .
    ومتى نظرت إلى تاريخ المجتمع البشري ، منذ نشأته وإلى يوم الناس هذا ، ظهر لك جليا أن حرية الفرد كثيرا ما تتعارض مع مصلحة الجماعة ، بل ظهر لك أن الجماعة لم يقم نظامها ولم تصن مصالحها إلا على حساب تقييد حرية الفرد ، ذلك بأن الفرد البشري ارتفع من حيوانية متوحشة ، لا هم لها غير تحصيل شهوة البطن والفرج ، ولما كان المجتمع البشري في أولياته لم يكن لينشأ إلا إذا قيدت هاتان الشهوتان ، فقد قام العرف الذي ينظم العلاقات الجنسية ، فيحرم الأخت على الأخ ، ويحرم البنت على الأب ، ويحرم الأم على الإبن ، ويحرم زوجة الإبن على الأب ، ويحرم زوجة الأب على الإبن ، قبل أن يقوم العرف الذي يحرم الزنا عموما ، وقد أعان هذا العرف ، أو سمه القانون الأول ، على تهدئة الغيرة الجنسية التي كانت تفرق الأسرة البشرية ، كلما بلغ الأبناء فيها مبلغ الرجال ، فقد أصبح ، بعد هذا العرف ، من الممكن أن يتعايش ، في منزل واحد ، أو في منازل متجاورة ، الأب والإبن البالغ والصهر والإبن المتزوج ، وكل منهم آمن على زوجته من الآخرين . ولربما يكون العرف الذي ينظم احترام الملكية الفردية قد نشأ مع هذا العرف من الوهلة الأولى ، فانه ، في المجتمعات البدائية ، ليس هناك كبير فرق بين ملكية الزوجة ، وملكية الآلة أو الكهف ، وإذا كان لا بد للمجتمعات الصغيـرة أن تعيش في وئام ، وفي مكان واحد ، وفي أعداد تتزايد دائما ، تصيد معا ، وتحارب أعداءها معا ، وتقابل صروف الأيام متحدة ، فإنه لا بد من التواضع على هذين العرفين ، اللذين ينظمان السلوك في الجماعة ، ويصونان كيانها ، ولا بد أن عقوبة القتل كانت تنفذ في الفرد لدى ثبوت تهمة الزنا ، في هذه الدوائر ، عليه ، يستوي في ذلك الرجال والنساء . ولقد كانت عقوبة القتل توقع على الفرد أيضا لدى السرقة من عشيرته الأقربين ، ثم عممت فأصبحت تطبق لدى السرقة من حيث هي ، وذلك عندما اتسعت الجماعة ، ثم خففـت ، فأصبحت تستأصل طرفا من السارق بدلا من استئصال حياته كلها ، ذلك بأن الأفراد قد بلغوا من الرفعة والذكاء بحيث يرتدعون بعنف أخف من العنف الذي كان ضروريا لردع أسلافهم .
    وليس معنى هذا الحديث أن المجتمعات كلها نشأت بصورة واحدة في كل مكان ، ولكنه مما لا شك فيه أن المجتمعات البشرية حيث نشأت فقد نشأت حول طائفة من العادات والأعراف ، التي تمثل نشأة القانون ، والتي يرجع إليها الفضل في نشأة المجتمع البشري . ولما كان الفـرد البشري الأول غليظ الطبع ، قاسي القلب ، بليد الحس ، حيواني النزعة فقد احتاج إلى عنف عنيف لترويضه ، ولنقله من الاستيحاش إلى الاستيناس ، وكذلك كان العرف الاجتماعي الأول ، شديدا عنيفا ، يفرض الموت عقوبة على أيسر المخالفات ، بل انه يفرض على الأفراد الصالحين أن يضعوا حياتهم دائما في خدمة مجتمعهم ، فقد كانت الضحية البشرية معروفة تذبح على مذابح معابد الجماعة ، استجلابا لرضا الآلهة ، أو دفعا لغضبها حين يظن بها الغضب ، ولقد كانت هذه الشريعة العنيفة ، في دحض حرية الفرد ، في سبيل مصلحة الجماعة معروفة ومعمولا بها ، إلى وقت قريب ، ففي زمن أبي الأنبياء ، إبراهيم الخليل وهو قد عاش قبل ميلاد المسيح بحوالي ألفي سنة ، كانت هذه الشريعة لا تزال مقبولة دينا وعقلا ، فإنه هو نفسه قد أمر بذبح ابنه إسماعيل ، فأقبل على تنفيذ الأمر غير هياب ولا متردد، فتأذن الله يومئذ بنسخها فنسخت ، وفدي البشر بحيوانية أغلظ من حيوانيته ، وكان هذا إعلاما بأن ارتفاع البشر درجة فوق درجة الحيوان قد أشرف على غايته ، ولقد قص الله علينا من أمر إبراهيم وإسماعيل فقال (( وقال إني ذاهب إلى ربي سيهديني * رب هب لي من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أنى أذبحك، فانظر ماذا ترى ، قال يا أبتي افعل ما تؤمر ، ستجدني إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم* قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم . ))
    (( وتركنا عليه في الآخرين )) تعني ، فيما تعني ، إبطال شريعة العنف بالفرد البشري ، لأنها لبثت حقبا سحيقة ، وقد تم انتفاعه بها ، فارتفـع من وهـدة الحيوانية وأصبـح خليقا أن يفـدى بما هـو دونـه من بهـيمة الأنعام .
    ولا عبرة ببعض صور العنف التي لا يزال يتعرض لها الأفـراد في المجتمعات البشرية المعاصرة ، فإنها آيلة إلى الزوال كلما أتيحت لها فرص الوعي والرشد . فان التضحية الحسية بالفرد البشري لم تنته بجرة قلم على عهد إبراهيم الخليل ، والتاريخ يخبرنا أن المسلمين ، لدى فتح مصر ، قد وجدوها تمارس في صورة عروس النيل ، فإنه قد قيل أن عمرو بن العاص ، فاتـح مصر وأميرها يومئذ ، قد انتبه ذات يوم على جلبة عظيمة ، فسأل عنها ، فأخبر أن القـوم قد جرى عرفهم بأن يتخيروا بنتا، من أجمل الفتيات ، ومن أعرق الأسر ، يزفونها كل عام إلى النيل ، يلقـونها في أحضانه فداء لقـومها من القحـط ، لأنها تغـري النيل بأن يفيـض عليهـم باليمن والبـركات ، فطـلب إليهـم عمرو بن العاص أن يستأنـوا بهـا ، حتى يستأمر عمـر بن الخطاب في ذلك ، فكتب إلى عمـر ، فـرد عمـر بجوابه المشهـور الذي قال فيه:

    (( بسم الله الرحمن الرحيم ))
    من عبد الله عمر بن الخطاب ، أمير المؤمنين ، إلى نيل مصر .
    السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته .
    أما بعد ، فإن كنت تفيض من عندك فلا تفض ، وان كنت إنما تفيض من عند الله ففض .

    وأمر عمرو بن العاص أن يلقيه في النيل ، ففعل ، وفاض النيل ، وأبطلت من يومئذ تلك العادة ، وتم بالعلم فداء جديد للفرد البشري .
    وهذا العنف العنيف بالفرد البشري ، الذي استمر منذ فجر المجتمع البشري ، وهو قبل فجر التاريخ بآماد سحيقة ، وظلت صوره إلى وقت قريب ، كالذي سقنا عليه المثالين الماضيين ، ضلل المفكرين الاجتماعيين ، فظنوا أن حرية الفرد ، قياسا إلى ما جرى به التاريخ ، تتعارض دائما مع مصلحة الجماعة ، وان الرشد إذن في أن يضحى بحرية الفرد في سبيل مصلحة الجماعة . وتورطت في هذا الوهـم الشيوعية ، وهي طليعـة الفلسفة الاجتماعية المعاصرة ، وصاحبة الـدور التقـدمي الذكي في المدنية الغربية الآلية الحاضرة .
                  

01-22-2014, 06:16 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    لفرد والكون في التفكير الفلسفي

    وعجز الفلسفة الاجتماعية المعاصرة في إدراك العلاقة بين الإنسان والكون ، أكبر من عجزها عن أدراك العلاقة بين الفرد والجماعة ، ولكن أثره أقل ظهورا ، ذلك بأن علاقة الفرد بالجماعة واجهت التطبيق العملي ، في السياسة والتشريع والتنفيذ ، بينما لا تزال العلاقة بين الفرد والكون في الحيز النظري ، وما ذاك إلا لأننا لا نزال في قبضة غريزة القطيع ، لم يقو بنا الفكر حتى نبرز إلى منازل الفرديات . ولكن ، مما لا ريب فيه ، أن عهد الجماعة أصبح يخلي مكانه لعهد الفرد الذي أخذت شمسه تؤذن بشروق ، وسيحل يومه حين يتم نظريا ، ثم عمليا ، فض التعارض المتوهم بين الفرد والجماعة ، وهو أمر سنتحدث عنه بالتفصيل بعد قليل ، إن شاء الله .
    والفهم الدقيق للعلاقة بين الإنسان والكون ليس أمر فلسفة نظرية يمكن أن تلحق بالترف الذهني ، وإنما هو أمر عملي ، عليه يتوقف تحقيق الفردية ، في مضمار المجهود الفردي ، وفي مضمار تنظيم الجماعة لتكون والدا شرعيا للأفراد الذين يرجى لهم أن يحققوا فردياتهم .
    وضلال الفلسفة الاجتماعية عن فهم العلاقة بين الإنسان والكون فهما صحيحا إنما يلتمس سببه في استقراء التاريخ البشري منذ بداياته ، ذلك بأن الإنسان الأول ، عندما وقف على رجليه لأول مرة ، واستقبل بعقله البيئة الطبيعية التي عاش فيها ، وجدها تزخر بالقوى الهائلة التي ، فيما يبدو له ، تتركب بطريقة تختلف عن تركيبه ، وتتصرف بأسلوب لا يستقيم مع تفكيره ومع رغباته ، وهي بعد لا تبالي بحياته أو موته ، بل إن كثيرا منها ليسعى في إهلاكه سعيا حثيثا ، والذين يشاركونه الحياة ، بين هذه القوى الصماء الهائلة ، هم بين صيد وصياد - صيد يصيد ويصاد ، وصياد يصيد ويصاد ، فكأن البيئة كلها ، أنياب زرق ، ومخالب حمر ، وأصبح عليه هو ، إذا كان لا بد له أن يحفظ مهجته ، أن يكيد أصناف الكيد ، وأن يحتال لنفسه ألوان الحيل .
    ثم إن هذه القوى الصماء ، منها الهائل الرهيب الذي يعجز حيلته ، ويعيي عقله ، ومنها ما يغلب منه الضرر ، ومنها ما يغلب منه النفع ، فهدته حيلته إلى التزلف إليها جميعا ، بدوافع الخوف ، أو بدوافع الحب ، فتذلل ، وتخشع ، وقدم الهدايا ، وقرب القرابين ، ورسم مراسيم العبادات . ومن القوى التي تموج بها البيئة الطبيعية التي عاش فيها ، قوى تنالها الحيلة ، وتبلغ منها المناجزة ، فاحتال أفانين الحيلة ، فبنى البيوت فوق الأشجار ، وعلى قمم الجبال ، وعلى أعمدة اتخذها من سيقان الشجر وغرزها في أرض برك المياه ، وفي الأماكن المحصنة الأخرى . ثم هو باتخاذ الآلة ، من فروع الأشجار ، ومن قطع الأحجار ، قد مد في قدرته على المناجزة .
    والإنسان ، بين العبادة والمناجزة ، تغلب عليه الوحشة ، ويساوره القلق بأنه وحيد من نوعه ، يحتوشه الأعداء من جميع أقطاره ، يتحينون منه الغرة ، ويتربصون به الدوائر ، ومن ههنا قام في خلد الإنسان أن مكانه من الكون مكان اللدد والخصومة .
    ولقد انتهت الفلسفة ببعض أبنائها الآن إلى أن يقرروا أن التدين ، الذي دفع إليه الإنسان الأول ، بالعوامل الطبيعية التي جرى ذكرها آنفا ، إنما هو لازمة من لوازم الطفولة ، وأن الدين ، حيث وجد والى اليوم ، إنما هو ظاهرة طفولة ، إذ لجأ الإنسان الأول إلى إله تخيله ليسد به حاجة الطفـل فيه إلى أب يحميه . وأن الأصل في مواجهة البيئة هو المناجزة ، لا التمليق ، وما دفع الإنسان إلى التمليق إلا العجز عن المناجزة ، والآن ، وبتطويره لسلاحه الأول ، من فروع الأشجار وقطع الأحجار ، إلى أن بلغ به القنبلة الهيدروجينية ، فإن مقدرته على المناجزة اكتملت ، أو كادت ، ويجب إذن أن يقلع عن التمليق ، أو قل عن التدين ، وعن الأديان ، وعـن الله.
    وإلى خروشيف ينسب قول ، زعموا انه قاله ، وهو أن قاقارين عندما دار في الفضاء الخارجي وكان ذلك لأول مرة في تاريخ تقدم العلم الحديث ، لم يجد ذلك الكائن الذي يدعونه الله ، فكأن خروشيف لا يتصور الله إلا من نوع المادة التي يزعم أنه يعرفها ، وفي الحق ، أن فلسفتهم ، حين عجزت عن تصور شئ وراء المادة ، اتخذت من عجزها فضيلة ، فأنكرت وجود كل شئ وراء المادة ، وذلك لكي يستقيم لها القول بأن الإنسان ، أثناء مناجزته لبيئته المادية ، يتطور في فهمه لها ، ويحسن من وسائله في مناجزتها ، حتى يتم له قهرها وتسخيرها ، ويصبح بذلك سيد مصيره .
    إن الضلال في فهم علاقة الإنسان بالكون لم يبلغ ، في أي وقت من الأوقات ، هذا البعد الذي بلغه على عهد الشيوعية ، وباسم العلم والفلسفة ... والشيوعية هي طليعة الفلسفة الاجتماعية المعاصرة ، وهي صاحبة الدور التقدمي ، الذكي ، في المدنية الغربية الآلية الحاضرة .. على أيسر تقدير ، هذا ما يبدو للشعوب الآن .
    أم تقولون أن الغرب المسيحي يختلف في مسألة الدين ، وفي أمر الله ، عن الشرق الشيوعي .
    قد يكون هذا حقا من الناحية التقليدية ، ولكنه ليس بحق من الناحية العملية ، وليس في فكرة الغرب عن الدين ، وعن الله ، ما يعصم الغرب من أن يصبح شيوعيا ، ولقد كانت روسيا ، قبل الثورة الشيوعية ، مسيحية ، وكانت أورثوذكسية في ذلك .
    وفي الحق ، ان الدين ، سواء كان مسيحية أو إسلاما ، إن لم يستوعب كل نشاط المجتمع ، ونشاط الأفراد ، ويتولى تنظيم كل طاقات الحياة الفردية والجماعية ، على رشد وعلى هدى ، فإنه ينصل من حياة الناس ، ويقل أثره ، ويخلي مكانه لأية فلسفة أخرى ، مهما كان مبلغها من الضلال ، ما دامت هذه الفلسفة قادرة على تقديم الحلول العملية لمشاكل الناس اليومية ، أو حتى ما دامت قادرة على تضليل الناس، إلى حين ، باسم خدمة مصالحهم المعيشية ، فإن الناس ، ما داموا أصحاب معدات وأجساد ، يجب ألا تهمل دعوتهم إلى الفضيلة حاجة معداتهم وأجسادهم ، بل إن المعرفة بطبائع الأشياء تقضي بأن تكون دعوتهم إلى الفضيلة عن طريق معداتهم وأجسادهم .
    مهما يكن من الأمر بين الشرق الشيوعي ، والغرب المسيحي ، فان المدنية الغربية الآلية الحاضرة ليست مسيحية ، وهي قد عجزت عن إدراك العلاقة بين الفرد والجماعة ، كما عجزت عن إدراك العلاقة بين الفرد والكون ، وهي من جراء هذا العجز قد منيت بالقصور العملي عن الجمع بين الاشتراكية والديمقراطية وذلك أكبر مظاهر فشلها .
    ولسنا نحن الآن بصدد الزراية عليها ، ولا بصدد التقليل من شأنها ، وإنما نحن بصدد دراسة علمية لها ، تضعها في موضعها ، وتعـرف لها حقها ، وتـدعو إلى سـد النقـص فيها لتغـدو مدنية بعد أن أصبحت حضارة .
                  

01-22-2014, 06:17 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    لفرد والجماعة في الإسلام

    أول ما تجب الإشارة إليه هو أن الفرد في الإسلام هو الغاية وكل ما عداه وسيلة إليه ، بما في ذلك وسيلة القرآن ، والإسلام ، تستوي في ذلك المرأة مع الرجل مساواة تامة ، وهذا يعني أن الفرد البشري - امرأة كان أو رجلا ، عاقلا كان أو مختل العقل - يجب ألا يتخذ وسيلة إلى غاية وراءه ، وإنما هو الغاية التي تؤدي إليها جميع الوسائل .
    وهذه الفردية هي جوهر الأمر كله ، إذ عليها مدار التكليف ، ومدار التشريف ، وإذ لا تنصب موازين الحساب ، يوم تنصب ، إلا للأفراد - يتساوى في ذلك الرجال والنساء وهذه النقطة نحب لها أن تكون مركزة في الأذهان - فالله تعالى يقول (( ولا تزر وازرة وزر أخرى )) ويقول (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) ويقول (( ونرثه ما يقول ويأتينا فردا )) ويقول (( إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا )) ويقول (( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة )) وهذه المساواة بين الرجل والمرأة ، هي أصل الإسلام وإنما ميزت بينها الشريعة لعوامل تلتمس في تطور المجتمع عبر التاريخ .
    ومما لا ريب فيه أن الفرد الذي يقام له وزن في الإسلام إنما هو الفرد العارف بالله ، وإنما جعل الإسلام كل فرد غاية في ذاته ، وإن كان أبله ، لأنه جرثومة العارف بالله ، وستحصل منه المعرفة ، عاجلا أو آجلا ، (( كان على ربك حتما مقضيا )) ولقد زعمنا في مستهل هذا السفر أن الإسلام قد استطاع أن يفض التعارض البادي بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة ، وأن ينسق هاتين الحاجتين في سمط واحد ، تكون فيه حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة ، امتدادا لحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة . وبعبارة أخرى ، استطاع أن يجعل تنظيم الجماعة وسيلة إلى الحرية ، وهو بعد إنما استطاع هذا التنسيق بفضل التوحيد ، الذي جعل شريعته تقع على مستويين .. مستوى الجماعة ، ومستوى الفرد: فأما تشريعه في مستوى الجماعة فيعرف بتشريع المعاملات ، وأما تشريعه في مستوى الفرد فيعرف بتشريع العبادات . والسمة الغالبة على تشريع المعاملات أنه تشريع ينسق العلاقة بين الفرد والفرد في المجتمع ، والسمة الغالبة على تشريع العبادات أنه تشريع ينسق العلاقة بين الفرد والرب ، وليس معنى هذا أن كلا من هذين التشريعين يقوم بمعزل عن الآخر ، وإنما معناه أنهما شطرا شريعة واحدة ، لا تقـوم إلا بهما معا ، وبينهما اختلاف مقدار ، لا اختلاف نوع . فتشريع المعاملات تشريع عبادات في مستوى غليظ ، وتشريع العبادات تشريع معاملات في مستوى رفيع ، وذلك لأن سمة الفردية في العبادات أظهر منها في المعاملات .. والمقرر أنه ليس للعبادة قيمة إن لم تنعكس في معاملتك الجماعة معاملة هي في حد ذاتها عبادة . ولقد جعل المعصوم الدين كله في هذا المجال فقال : (( الدين المعاملة )) فكأن العبادة في الخلوة مدرسة تعد الفرد الاعداد النظري ، ثم هو لا يجد فرصة التطبيق العملي إلا في سلوكه في الجماعة ، وتمرسه بمعاملة أفرادها .
    فالتوحيد يقرر أن الوجود كله مصدره واحد ، وطريقه واحد ، ومصيره واحد .. من الله صدر، وإلى الله يعـود ، وإنما يعود فرادى (( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة )) . وليست العودة إلى الله بقطع المسافات ، وإنما هي بتقريب الصفات من الصفات . بتقريب صفات المحدود ، من صفات المطلق . وإنما تكون عودة الفرد إلى الله بوسائل العودة إليه ، ومنها وسيلة الإسلام ، ووسيلة القرآن ، ووسيلة الجماعة .. والجماعة لها حرية ، وهي بمثابة قاعدة الهرم حين تكون حرية الفرد هي قمته . أو قل أن حرية الجماعة هي الشجرة وحرية الفرد هي الثمرة ، ومن ثم ، ومن هذه النظرة الشاملة ، لا يجد الإسلام تعارضا ، ولا تناقضا ، بين الفرد والجماعة .
    وحين وصل الإسلام بفضل التوحيد ، إلى هذا التحقيق الدقيق ، بين الفرد والجماعة ، شرع كل تشريعاته بصورة تحقق في سياق واحد ، حاجة الفرد وحاجة الجماعة .. فلم يضح بالفرد في سبيل الجماعة ، فيهزم الغاية بالوسيلة ، ولم يضح بالجماعة ، في سبيل الفرد ، فيفرط في أهم وسائل تحقيق الفردية ، وإنما جاء تشريعه ، في جميع صوره ، نسقا عاليا من المقدرة على التوفيق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة ، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة .
                  

01-22-2014, 06:18 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    الحرية الفردية المطلقة

    كثير من الفلاسفة يرى أن الحديث عن الحرية الفردية المطلقة نافلة من القول ، وإلا فحرية الفرد يجب أن تكون مقيدة ، إن لم نرد لها أن تصبح فوضى .
    وأما الإسلام فهو يرى أن الأصل في الحرية الإطلاق ، واننا حين نتحدث عن الحرية ، من حيث هي ، وفي أي مستوى كانت ، إنما نتحدث عن الإطلاق ، من حيث لا ندري ، ذلك بأن الحرية المقيدة إنما هي نفحة من نفحات الإطلاق تضوعت على أهل الأرض بقدر طاقتهم على احتمالها ، فكأن القيد ليس أصلا ، وإنما الأصـل الإطـلاق ، وما القيـد إلا لازمة مرحليـة تصاحب تطـور الفـرد من المحـدود إلى المطلق .
    فالحرية في الإسلام مطلقة ، وهي حق لكل فرد بشري ، من حيث أنه بشري ، بصرف النظر عن ملته أو عنصره ، وهي حق يقابله واجب ، فلا يؤخـذ إلا بـه ، وهـذا الواجب هـو حسن التصـرف في الحـرية . فلا تصبح الحرية محدودة إلا حين يصبح الحر عاجزا عن التزام واجبها ، وحينئذ تصادر في الحدود التي عجز عنها ، وتصادر بقوانين دستورية .. والقوانين الدستورية في الإسلام هي القوانين التي تملك القدرة على التوفيق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة ، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة ، فهي لا تضحي بالفرد في سبيل الجماعة ، ولا بالجماعة في سبيل الفرد ، وإنما هي قسط موزون بين ذلك .. تحقق حين تطبق ، بكل جزئية من جزئياتها ، مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة في آن معا ، وفي سياق واحد . وإنما كان الإطلاق في الإسلام أصلا لأنه لا يرى لترقي الفرد حدا يقف عنده ، فهو عنده ساير من المحدود إلى المطلق ، أو قل مسير من النقص إلى الكمال - والكمال المطلق . فنهاية العبد في الإسلام كمال الرب ، وكمال الرب في الإطلاق ، والله تبارك وتعالى يقول (( وأن ليس للانسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى * وأن إلى ربك المنتهى )) يعني منتهى السير .. وليس السير إلى الله بقطع المسافات ، كما قلنا آنفا ، وإنما هو بتخلق العبد بأخلاق الرب ، والله تعالى يقول (( يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه )) أردت أو لم ترد لقاءه ، وأين يكون لقاؤه ؟ أفي أرضه أم سمائه ؟ لقد قال جل من قائل (( ما وسعني أرضي ولا سمائي ، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن .)) فأنت إذن إنما تلقاه فيك ، وبه لا بك .
    وفي ذلك قال المعصوم (( تخلقوا بأخلاق الله ، إن ربي على سراط مستقيم )) ..
    والله تعالى يقول (( كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب ، وبما كنتم تدرسون )) .
    والذي يجعلنا عاجزين عن الوفاء بواجب الحرية الفردية المطلقة إنما هو الجهل ، ونحن ، لفرط جهلنا ، نحب جهلنا ، ونكره المعرفة ، إلا إذا جاءت عن طريق يناسب هوانا . (( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون )) .. (( وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم )) تشير إلى أنانيتنا .. فنحن نحب أنفسنا ، ونحب كل ما يصدر عنها من حماقات . وكل فرد بشري هـو ، بالضرورة التكوينية ، أناني .. وكماله إنما يكمن في هذه النشأة الأنانية ..
    وأنانية كل أناني على مستويين .. مستوى الأنانية الضيقة ، المتسفلة ، الجاهلة ، ومستوى الأنانية الواسعة ، المتسامية ، العاقلة .
    فالأناني الجاهل قد يرى مصلحته في أمور تخالف مصالح الجماعة ، وإذا اقتضى الأمر فهو قد يضحي بمصلحة الجماعة ليصل إلى ما يظنه مصلحته هو .. والأناني العاقل لا يرى مصلحته الا في أمور تستقيم مع مصالح الآخرين ، فهو يقول مع أبي العلاء المعري :ـ
    ولو أني حبيت الخلد فردا * لما أحببت بالخلد انفرادا
    فلا هطلت على ولا بأرضي * سحائب ليس تنتظم البلادا
    وملاك هذا الأمر التعليم الرشيد في عبارة المعصوم حين قال : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) ومنذ هذه اللحظة وضع الإسلام نفسه ضد الأنانية الجاهلة ، ومـع الأنانية العاقلـة (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )) هواه يعني أنانيته الجاهلة .. (( ان أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك )) . (( نفسك التي بين جنبيك )) تعني نفسك السفلى ، أو نفسك الدنيا ، في مقابلة نفسك العليا ، أو نفسك الأخرى ، التي يرجع إليها كاف الخطاب في (( ان أعدى أعدائك)) فكأنه قال ان أعدى أعداء نفسك الأخرى نفسك الدنيا .. ولأمر ما كثر التعبير في القرآن بكلمتي الدنيا والأخرى .
    وكل ذلك يعني الأنانية الجاهلة في مقابلة الأنانية العاقلة .. وقول الله تعالى (( ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )) يعني للنفس العليا ، وكذلك قوله (( مـن اهتـدى فإنما يهتـدي لنفسـه ، ومن ضـل فإنما يضل عليها )) .
    وما دمنا في منطقة الأنانية الجاهلة ، فإن حريتنا لا بد تقيد ، لمصلحة مجتمعنا ، ولمصلحتنا نحن أيضا ، ويجب أن يكون القيد وفق قانون دستوري .. ومن هذا يتضح أن الحرية في الإسلام على مستويين : مستوى الحرية المقيدة بقوانين دستورية ، وقد تحدثنا عن القوانين الدستورية ، ومستوى الحرية المطلقة . والحر في المستوى الأول ، هو الذي يفكر كما يريد ، ويقول كما يفكر ، ويعمل كما يقول ، على شرط ألا تتعدى ممارسته لحريته في القول ، أو العمل ، على حريات الآخرين ، فإن تعدى تعرضت حريته للمصادرة وفق قوانين دستورية ، جزاء وفاقا .
    والحر في المستوى الثاني هو الذي يفكر كما يريد ، ويقول كما يفكر ، ويعمل كما يقول ، ثم لا تكون نتيجة ممارسته لكل أولئك إلا خيرا ، وبركة ، وبرا بالناس ، وأدنى مراتب الحرية الثانية العفـو ، وصاحب هذه لا ينطوي ضميره المحجب على ضغن على أحد ، ذلك لأنه يعلم أن الجريمة إنما تبدأ في الضمير ، ثم تبرز إلى حيز القـول ، ثم إلى حيز العمل . والله تعالى إنما يعني هـؤلاء ، ولا يعني أولئك، حين قال : (( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ، إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون )) وهو أيضا يعنيهم حين قال : (( قل إنما حرم ربي الفواحش ، ما ظهر منها وما بطن )) وهو أيضا يعنيهم حين قال : (( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ، يحاسبكم به الله )) ..
    وأما أصحاب مرتبة الحرية المقيدة فإن حديث المعصوم يعنيهم حين قال (( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفوسهم ، حتى يقولوا أو يعملوا ))
    والحريتان متداخلتان ، فالأولى منهما مرحلة اعداد للثانية ، إذ لا يبلغ الفرد منازلها إلا بالتمرس بالمجهود الفردي في تربية النفس ، بمراقبتها ، ومحاسبتها ، وترويضها لتصبح موكلة بالتجويد ، كلفة بالإحسان . والمراقبة تعني الحضور مع الله دائما حتى لا تتصرف الجوارح فيما لا يرضيه ، من فكر ، أو قول ، أو فعل ، والمحاسبة تعني استدراك ما أفلت من ضبط المراقبة ، ولما كانت الحرية الفردية المطلقة لا تنال إلا بثمنها ، وثمنها ، كما قررنا آنفا ، هو حسن التصرف في حرية الضمير المغيب ، وحرية القـول ، وحريـة العمـل ، فقد طوع الإسلام عباداته ، وتشاريعه ، لتبلغ بالفرد هذا المبلغ .
                  

01-22-2014, 06:22 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)


    الشريعة في خدمة الحرية الفردية المطلقة

    شريعة العبادات كلها شريعة فردية لأن مدارها على الضمير المغيب ، ولا يطعن في هذا التقرير أن بعض العبادات تؤدى في جماعة ، وفي الحق ، أن كل أعمال الإسلام في العبادات ، والمعاملات ، تركز على الضمير تركيزا أساسيا ، ومن ههنا جاء قول المعصوم: (( نية المرء خير من عمله )) . فالنية تجري من العمل مجرى الروح في الجسد ، فإذا خرجت الروح من الجسد فسد ، وتحلل ، وأصبح هباء منثورا ، وإلى ذلك الإشارة الكريمة بقوله تعالى (( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا )) ذلك لأنه عمل لا روح فيه ، أو قل لا نية صالحة لوجه الله وراءه .
    والخطيئة إنما تبدأ في الخاطر ، والخاطر هو حديث الضمير ، فإذا كان الضمير المحجب ينطوي على إثم فان خواطره تكون شريرة ، ثم لا تلبث هذه الخواطر أن تلح على صاحبها حتى ينطلق بها لسـانه ، فيكون كلامه شريرا ، ثم لا يلبث هذا الكلام الشرير أن يلح على صاحبه حتى يبرز إلى حيز العمل ، فيكون عمله شريرا أيضا ، فإذا كان الفرد يفكر بالشر في ضميره المغيب ، ويتحدث بالشر ، وتتحرك أعضاؤه بعمل الشر ، فقد وجب أن تسحب حريته ، وأن تصادر ، بيد أن هذه المصادرة يجب أن تكون لمصلحته هو أولا ، ثم لمصلحة الجماعة في المكان الثاني ، وهي إنما تكون لمصلحته إذا كان إنما يفيد منها تربية تجعله أهلا لاسترداد حريته من جديد ، مع المقدرة على حسن التصرف فيها .
    ومما لا شك فيه ان التشريع ، سواء كان تشريع عادة ، أو تشريع عبادة ، إنما هو منهاج تربوي يرتفع ، بالمجتمعات وبالأفراد ، من الغلظة ، والجفوة إلى اللطف والإنسانية ، وكلما كان الناس غلاظ الأكباد ، بليدي الحس ، كلما شدد عليهم في التشريع ، وكبلوا بالقيود والأثقال . فلو أن الناس رعوا ما عليهم ، حق رعايته ، لما أعنتوا في أمر من أمور معاشهم ، ولا أمور معادهم ، والله تبارك وتعالى يقول (( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ، وكان الله شاكرا عليما ؟ )) لكن حاجة الناس إلى التربية ، والتأنيس ، والترويض ، هي التي حرمت المحرمات ، وهي التي عزمت العزائم ، وجاءت المحرمات والعزائم وفق الحاجة إليها . وقد تحدثنا عن التشديد على الفرد عند نشأة المجتمع البشري في سحيق الآماد بما يكفي ، فإذا جئنا إلى العصور الحديثة ، عصور الديانات الكتابية التي نعرفها ، نجد أن القاعدة تطرد ولا تتخلف ، فهذا القرآن يحدثنا عن اليهود فيقول (( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهـم طيبات أحلت لهم ، وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ، وأخذهم الربا ، وقد نهوا عنه ، وأكلهم أموال الناس بالباطل ، وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما )) ويقول أيضا عنهم ، (( وإذ قال موسى لقومه يا قومي إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ، فتوبوا إلى بارئكم ، فاقتلوا أنفسكم ، ذلكم خير لكم عند بارئكم ، فتاب عليكم ، إنه هو التواب الرحيم )) .
    فلغلظة أكبادهم ، وبلادة حسهم ، شدد عليهم ، فحرمت عليهم الطيبات ، وفرض عليهم ، في التـوبة ، أن يقتلوا أنفسهم قتلا حسيا ، وهو بسبيل مما تحدثنا عنه في أمر التضحية بالفرد البشري على مذابح العبادة في أول النشأة .
    ولما تقدم الفرد البشري هوناً ما ، وأصبح لا يحتاج كل ذلك التشديد ليتربى ، خفف عنه ، فجاء التشريع في حق الأمة المحمدية يقول (( قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً على طاعم يطعمه ، إلا أن يكون ميتة ، أو دما مسفوحا ، أو لحم خنزير ، فإنه رجس ، أو فسقا أهل لغير الله به ، فمن اضطر غير باغ ولا عاد ، فإن ربك غفور رحيم )) وقال في حقهم أيضا ، (( يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، إلا أن تكون تجارة ، عن تراض منكم ، ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما )) .
    فضاقت دائرة المحرمات في التشريع الأخير ، واختصرت إلى أربعة ، كلها خبيث ، ثم تجاوز حتى عن هذه الأربعة للمضطر ، إذا لم يكن باغيا ، ولا عاديا على أحد .
    ونهى عن قتل النفس ، حين أصبحت تستجيب بأقل من هذا العنف فقال (( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما )) وهو إنما كان ، في شريعته ، بنا رحيما لأننا أصبحنا رحماء (( كما تدين تدان )) .
    وتواصل القاعدة اطرادها في المزيد من التخفيف على الناس كلما أصبحوا من رهافة الحس بحيث لا يحتاجون الشدة ليتعلموا .. ويبلغ من أمر هذا التخفيف أن ينتقل التحريم من الأعيان الحسية إلى صور السلوك المعنوية ، فاسمع القرآن الكريم يحدثنا فيقول : (( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ، وكلوا واشربوا ، ولا تسرفوا ، إنه لا يحب المسرفين * قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؟ قل هي للذين آمنوا ، في الحياة الدنيا ، خالصة يوم القيامة ، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون * قل إنما حرم ربي الفواحش ، ما ظهر منها وما بطن ، والإثم ، والبغي بغير الحق ، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون )) ويقول ، (( وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم ، إلا ما اضطررتم إليه ، وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم ، إن ربك هو أعلم بالمعتدين * وذروا ظاهـر الإثـم وباطنـه ، إن الذين يكسبون الإثـم سـيجزون بما كانوا يقتـرفون )) .
    فإذا المحرم حقا ، وفي آخر الأمر ، هو عيب السلوك ، ونقص الأخلاق ، وإنما حرم المحسوس من الأعيان المحرمة كوسيلة لشفاء النفوس من عيوب السلوك ، ومن نقص الأخلاق ، وذلك على القاعدة الحكيمة التي تطالعنا بها هذه الآية الكريمة ، (( سنريهم آياتنا ، في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق ، أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟ )) وحين ينسحب التحريم من الصور الحسية الغليظة إلى الصور المعنوية الدقيقة في عيوب السيرة بين الناس ، يواصل هذا الانسحاب حتى يصل خفايا السريرة ، وما يحوك فيها من خواطر الإثم ، وحين قال (( وذروا ظاهر الإثم وباطنه )) إنما جاء الأمر بترك ظاهر الإثم في مكان الوسيلة ، وجاء الأمر بترك باطن الإثم في مكان الغاية . فكأنه قال : أتركوا ظاهر الإثم لتتمكنوا من ترك باطنه ، لأنه هو مصدر كل الشرور .. ويصل القرآن بمطاردة الإثم إلى أغوار السريرة حين يقول (( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ، يحاسبكم به الله )) وحين يقول (( وعنت الوجوه للحي القيوم ، وقد خاب من حمل ظلما )) والظلم هنا الشرك الخفي ، وإليه يرجع كل الشر ، في جميع صوره ، وإنما يكون الشرك الخفي في سر السريرة ، وأخفى منه ما يكون في سر السر ، كما يقول أصحابنا الصوفية والقرآن في ذلك يقول (( وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى )) أخفى من السر ، وهو سر السر . فأسلوب القرآن في شفاء النفوس من الخطيئة أسلوب عكسي ، يبدأ من الخارج ، ويسير إلى الداخل . (( سنريهم آياتنا ، في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق ، أولم يكف بربك انه على كل شئ شهيد ؟ )) قوله (( سنريهم آياتنا ، في الآفاق ، وفي أنفسهم )) يعني ، في جملة ما يعني ، أن السالك في طريق الله ، يراقب نفسه ، في أول أمره ، ويحاسبها ، لتترك عيوب العمل ، في حين أنها متورطة ، في هذه الأثناءة ، في عيوب القول ، ولكنه يسمح بذلك كنوع من التدريج للنفس ، ثم هو ، إن استقام له أمر نفسه في ترك عيوب العمل ، وكان ذلك منها في سلاسة بينة وانقياد ، زحف بها إلى تكليفها ترك عيوب القول ، في حين أنها متورطة ، في هذه الأثناءة ، في عيوب الخواطر ، فهي مشوشة الخواطر ، كثيرة الثرثرة الباطنية ، ولكنه يسمح لها بذلك سياسة لها وتدريجا ، إذ كلفها أمرا شاقا في ترك ثرثرة اللسان ، ثم هو ، إن استقام له أمره على ما يحب في ضبط لسانه ، بعد ضبط جوارحه ، يكون كل أولئك قد ترك أثرا حميدا في تهذيب الخواطر فيصبح عليه أن يزحف نحوها في ثبات وثقة ، يهذبها بعد تشويش ، ويسكنها بعد جيشان ، فإن هو استقام له أمره على خير ما يحب ، وسلم صدره من الوساوس وتنقت السريرة ، فقد يبدأ ، بصورة جلية ، الأسلوب الطردي ، بعد أن وصل الأسلوب العكسي إلى هذه المرحلة المتقدمة ، ويجئ دور قوله تعالى من الآية السالفة الذكر: (( أولم يكف بربك انه على كل شئ شهيد ؟ )) ويكون أغلب نظر الإنسان بعد ذلك إلى داخله بعد أن كان مشغولا ومهووسا بالخارج . وعند ذلك توشك المطابقة أن تتم بين السيرة والسريرة ، فإن نقاء السريرة ينعكس في استقامة السيرة ، ويبلغ صاحب هذه السيرة عتبة الحرية الفردية المطلقة . وكلما تنقت السريرة ، كلما استقامت السيرة ، فضاقت لذلك دائرة المحرمات ، وانداحت دائرة المباحات ، على قاعدة الآية الكريمة ، (( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم، وكان الله شاكرا عليما ؟ )) فإذا استمر السير بالساير إلى نهايته المرجوة ، وهي تمام نقاء السريرة ، وكمال استقامة السيرة ، عادت جميع الأعيان المحسوسة إلى أصلها من الحل ، وانطبقت الآية الكريمة ، (( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ، إذا ما اتقـوا ، وآمنوا ، وعملوا الصالحات ، ثم اتقـوا ، وآمنوا، ثم اتقـوا، وأحسنوا، والله يحب المحسنين )) .
    وهذه مرتبة متقدمة من مراتب الحرية الفردية المطلقة ، التي قد طوع كل تشريع الإسلام ليبلغها الأفراد ، ومن أكبر آيات هذا التطويع أن التشريع كله ، وفي كل صوره ، مبني على المعاوضة ، أو قل القصاص (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ، لعلكم تتقون )) والقرآن أيضا يقول ، (( ليس بأمانيكم ، ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوء يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ، ولا نصيرا )) ويقول (( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المنافقين ، إن شاء ، أو يتوب عليهم ، إن الله كان غفورا رحيما )) ويقول (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) وهاتان الآيتان هما قوام الأمر كله ، في مبنى الشريعة ، وفي مبنـى الحقيـقة .. يعني في عقـوبة الدنيـا أو ثوابـها ، وفي عقـوبة الآخـرة أو ثوابها .
    والقرآن يقول (( ليسأل الصادقين عن صدقهم ، وأعد للكافرين عذابا أليما )) فسئل عنه شيخ الطائفة الصوفية ، أبو القاسم الجنيد فقال (( يسأل الصادقين ، عند أنفسهم ، عن صدقهم ، عند الله .)) والصدق عند الله مطلق ، والصدق عند الخلق نسبي ، فيجزي كل صاحب صدق بما يبلغ صدقه بالقياس إلى الصدق المطلق ، كما قال (( ليجزي الصادقين بصدقهم )) وهذا الجزاء قصاص في الشريعة ، وقصاص في الحقيقة أيضا ، كما وردت إلى ذلك الإشارة (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب )) حياة هنا تعني زيادة معرفة . فحين تجازون بالخير على ما عملتم من خير ، على قاعدة الحسنة بعشر أمثالها ، أو تضاعف ، وحين تعاقبون على السيئة بمثلها ، أو يعفى عنها ، تزيدون حياة على حياتكم السابقة ، بارتفاع مدارككم ، وصفاء عقولكم ، وبسلامة قلوبكم .
    وهذه الزيادة في المدارك ، لدى القصاص في الشريعة ، لا تحتاج إلى عميق فكر ، فهي ظاهرة ، وذلك أن الفرد لا يتعدى على حريات الآخرين ، أثناء ممارسته لحريته ، إلا لجهل ، وغباء ، وقصور تخيل .. فمن قلع عين أحد ، أثناء ثورة غضب ، مثلا ، لا يفعل ذلك وهو متخيل تماما لمبلغ الألم ، وفداحة الضرر ، الذي يلحقه بضحيته . فإذا ما اقتص منه ، فوضع في موضع الضحية ، وقلعت عينه معاوضة منه لفعله ذلك ، فقد تحقق غرضان في آن معا ، أولهما حفظ حق الجماعة ، بردع المعتدي في نفسه ، وبجعله نكالا لغيره ، وثانيهما إحراز حاجة الفرد إلى سعة التخيل ، حيث أعطي الفرصة ليعيش التجربة الأليمة التي فرضها على غيره لقصر في تخيله شدة الألم ، وفداحة الخسـارة ، اللذين تسبب فيهما ، وإنه لمما لا ريب فيه أن مثل هذه التجربة الأليمة تجعل من يتعرض لها أكثر إنسانية ، في مقبل أيامه ، منه في سابقتها ، فهو لا يمكن أن يسقط من اعتباره نتائج تصرفه على الآخرين . وهو ، على أيسر تقدير ، سيكف أذاه عن الآخرين ، وقد يحتمل أذاهم أيضا ، وسيكون ، على التحقيق ، كثير الاعتبار لهم ، حين يتصرف ، وقد يقوده هذا الصنيع ، معانا بالعبادة ، إلى الكلف بتوصيل الخير اليهم ، وهو خليق أن يجد في ذلك رضا نفسه ، وطمأنينة قلبه . فإن هو بلغ ذلك فقد وقف على أعتاب الحرية الفردية المطلقة ، بفضل ما أصاب من الوعي وسعة التخيل اللذين أفاده إياهما القصاص . وإن هو لم يبلغ هذا المبلغ فحسبه أن يكون واعيا لحدود حريته وحدود حريات الآخرين ، وفي ذلك خير كثير . والمعاوضة في حد الزنا تقوم على الرجم ، أو على الجلد ، حسب مقتضى الحال ، وذلك أن الزاني حين ذهب يبحث عن اللذة ، حيث كانت ، ومن غير اعتبار لشريعة ، أذيق الألم ليرده لصوابه ، فإن موقع الألم من وادي النفس يقـوم على العـدوة القصـوى ، حيـن تقـوم اللذة على العـدوة الدنيا ، وفي شـد النفس إلى الألم ، حيـن تتـهافت على اللـذة المحـرمة ، إقامـة للوزن بالقسـط مـما يعينها على الاعتـدال ، ويجعـلها أبعد من الطيش والنـزق.
    وحد الخمر يقوم على نفس الأصل ، وذلك أن صاحب الخمر حين يسعى في إلغاء عقله ، إنما يريد أن يهرب من واقعه ليعيش في دنيا من صنع أوهامه ، وأخيلته المريضة ، فأريد بألم الجلد أن يرده إلى واقعه المرير ليعمل عقله في تغييره ، فإن الواقع لا يتغير بالهروب منه ، وإنما يتغير بمواجهته ، وإعمال الفكر في تغييره ، والله تعالى يقول (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) .
    ثم إن العقل ، وبه وحده استحق الإنسان الكرامة على الحيوان ، هو الإبن الشرعي للقاح اللذة بالألم ، منذ سحيق الآماد ، وعبر رحلة الحياة الشاقة ، فإذا حاف عليه صاحبه ، في لحظة من لحظات الضعف ، فإن في لذع الألم لما يعينه على استعادة مكانه من قيادة السفينة في خضم الحياة الصخاب ، حتى يبلـغ بها بـر السـلامة .
    وقانون المعاوضة ـ القصاص ـ قانون ينبع من أصل في الحياة أصيل ، فهو ليس قانون دين بالمعنى المألوف في الأديان ، ونحن حين نقرر أن تشاريع الإسلام مبنية على القصاص ، إنما نعني الإسلام في حقيقته ، لا في عقيدته ، والإسلام في حقيقته ليس دينا بما ألف الناس عن الأديان ، وإنما هو علم ، وما مرحلة العقيدة فيه إلا مرحلة انتقال إلى المرحلة العلمية منه .. مرحلة الشريعة فيه مرحلة انتقال إلى مرتبة الحقيقة حيث يرتفع الأفراد ، من الشريعة الجماعية ، إلى الشرائع الفردية ، التي هي طرف من حقيقة كل صاحب حقيقة .
    (( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ؟ ، * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ، نبتليه ، فجعلناه سميعا بصيرا )) .. (( هل )) تعني هنا قد و (( الإنسان )) تعني جنـس الإنسان . (( لم يكن شيئا مذكورا )) تعني أنه كان يتقلب في المستويات الدنيا من الحياة ، لم يظهر فيه العقل ، الذي عليه انبنى التكليف ، وبه رفع الذكر . و(( نطفة أمشاج )) تعني الماء الصافي المخلوط بالطين ، ومنه نشأت الحياة في ظلمات الدهر . وأما قوله (( نبتليه )) فهو روح الآية ، لأنه يشير إلى الصراع في البيئة الطبيعية ، بين الحي والقوى الصماء ، وبينه وبين إخوانه في الحياة ، وهو ما سبقت الإشارة الى جانب منه ، حين تحدثنا عن نشأة المجتمع البشري ، وهذا الصراع ، قبل ، وبعد نشأة المجتمع البشري ، كان ولا يزال ، قانونه المعاوضة (( القصاص )) .
    قوله (( فجعلناه سميعا بصيرا )) إشارة إلى العقل ، والى كون العقل وليد الصراع الذي يهتدي بقانون المعاوضة (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) ووردت بعد الآيتين السالفتين من سورة الدهر الآية (( إنا هديناه السبيل ، إما شاكرا ، وإما كفورا )) .. (( إما شاكرا )) تعني مصيبا ، (( وإما كفورا )) تعني مخطئا ، وهكذا يرتجح العقل في أرجوحة الخطأ والصواب . وفي ذلك كماله (( إن لم تخطئـوا وتستغفـروا ، فسيأت الله بقـوم يخطئـون ويستغفرون فيغفـر لهم )) كما قال المعصوم .
    وقانون المعاوضة على مستويين : مستوى الحقيقة ، ومستوى الشريعة ، وبينهما اختلاف مقدار ، لا اختلاف نوع .. فقانون المعاوضة في مستوى الحقيقة قوامه قوله تعالى (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) وقانون المعاوضة في مستوى الشريعة قوامه قوله تعالى (( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص ، فمن تصدق به فهو كفارة له ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون )) .
    وقانون المعاوضة في مستوى الحقيقة هو الإرادة التي بها قهر الله العوالم فأبرزها إلى الوجود وسيرها إلى الكمال ، وهو الحق الذي ورد كثيرا في القرآن (( ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون )) وهو يقول أيضا ، (( خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون )) ويقول (( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون )) فالحق هو هذا القصاص الذي تحكيه أحكم حكاية الآيتان ، (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) وعبارة (( لاعبين )) في الآية السابقة تشير إلى ما تشير إليه الآيتان من قوله تعالى ، (( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم الينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق ، لا إله إلا هو رب العرش الكـريم )) وتعني أن العـوالم لا بـد راجعة إلى الله بفعل قانون المعاوضـة هـذا (( ليس بأمانيكم ، ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سـوء يجز بـه ، ولا يجـد له من دون الله وليا ولا نصيرا . ))
    وقانون المعاوضة في مستوى الشريعة محاكاة محكمة لقانون المعاوضة في مستوى الحقيقة ، وهـو يسير معه سيرا مصاقبا ولكنه ، في سبحاته العليا ، أكمل منه وأدق ، وهو يقع على ثلاث مستويات ، ويحكيه قولـه تعالى (( إن الله يأمر بالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى )) والعدل هو القصاص في مستوى (( العين بالعين ، والسن بالسن )) ، (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )) . والإحسان هو العفو عن المسئ ، (( فمن تصدق به فهو كفارة له )) كما ورد في آية القصاص ، (( وإيتاء ذي القربى )) تعني صلة الرحم في معناها الواسع ، وهو رحم الحياة . وهذه المستويات الثلاث تحكيها هذه الآية ((وجزاء سيئة سيئة مثلها ، فمن عفا وأصلح فأجره على الله ، إنه لا يحب الظالمين )) قوله (( وجزاء سيئة سيئة مثلها )) مستوى العدل من درجة التناصف ، وإنما سماها سيئة ليرغب عنها ، حيث أمكن ذلك (( ولمن صبر وغفر ، إن ذلك لمن عزم الأمور )) وأما قوله (( فمن عفا )) فهو مستوى الإحسان بترك المسئ ، وهو فوق العدل . واما قوله (( وأصلح )) فهـو يعني المرحمة بالمسئ ، والتعطف عليه ، والتلطف به ، والمحبة له ، وذلك قمة الصلاح والإصلاح ، وهو أعلى مستويات قانون المعاوضة في الشريعة.
    ولما كان قانون المعاوضة ، في مستوى الحقيقة ، مرادا به تسيير العوالم إلى الله عن طريق الجسد ـ عن طريق القهر ، فإن قانون المعاوضة ، في مستوى الشريعة ، مراد به تسيير البشر إلى الله عن طريق العقل ـ عن طريق الحرية ، وفي ذلك الكرامة ، كل الكرامة ، للإنسان . وفي هذا المقام يجئ حديثنا عن العلاقة بين الإنسان والكون .
                  

01-22-2014, 06:23 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    الفرد والكون في الإسلام

    والعلاقة بين الإنسان والكون ظلت مادة التعليم والتعلم ، من لدن فجر الحياة البشرية وإلى يوم الناس هذا ، ولقد استعان الإنسان على استجلاء حقيقة هذه العلاقة بالدين ، وبالعلم المادي ، منذ النشأة ، فالدين والعلم المادي تومأن ، ولدا في وقت واحد ، ودرجا معا ، وظلا يتعاونان في مدارج النمو . ولقد كان ميدان العلم المادي لدى الإنسان الأول ضيق جدا ، وميدان الدين واسعا ، فهو قد اعتنق جميع مظاهر الحياة المادية في البيئة الطبيعية ، وفيما وراء المادة بالقدر الذي تعطيه الأحلام في النوم ، وتوحيه الأوهام في اليقظة ، وهو لم يترك في حيز العلم المادي إلا أشياء قليلة أوحى طول الألفة بأنها لا تحتاج إلى كثير احتفاء . كان الإنسان يشعر أن لكل شئ في الوجود روحا ، ورسخت الأحلام فيه هذا الشعور ، حتى لقد أصبح يصلي لكل شئ .. يصلي للصيد ، ويصلي للزراعة ، ويصلي للحصاد ، ويصلي لتناول الطعام ، ويصلي للسلاح . ثم أخذت الالفة والعادة تعمل عملها ، في رفع الرهبة والقداسة عن الأشياء التي اعتادها وقدر عليها ، فدخلت في منطقة علمه التجريبي ، وأخذت بذلك دائرة العلم تزيد ودائرة الدين تضيق ، حتى جاء الوقت الحاضر ، حيث يزعم بعض المغرورين بالعلم الحديث أن الدين لم تعد له مكانة في حياة الإنسان المتحضر ، وما كفر العلم ، ولكن بعض العلماء كفروا ، برسالة العلم ، وبرسالة الدين معا . ذلك بأن العلم لم يدع أنه يبحث عن جوهر الأشياء وحقائقها ، وإنما هو يبحث عن ظواهرها وقوانين سلوكها ، فهو يعرف خصائص الكهرباء ولا يعرف كنه الكهرباء . بل إن العلم نفسه قد قـرر أن المادة ، كما نعرفها ، إنما هي مظهر لأمر وراءها لا نعرف حقيقته . فقد قال اينشتاين أن المادة والقوى شئ واحد ، وجاءت التجارب في انفلاق الذرة بتأييد هذا القول ، فالقوى غير معروفة الكنه ، وإن كانت بعض القوانين التي توجه سلوكها معروفة .
    وفي الحق ان العلم الحديث داع إلى الله بلسان بليغ ، فهو يرينا كل يوم ، كيف أن العالم المحسوس ، إذا أحسن استقصاؤه ، يسوقنا إلى عتبة عالم وراءه ، غير محسوس ، أو قل لا تدركه الحواس على النحو المألوف ، ثم يتركنا هناك وقوفا ، في خشوع وإجلال ، نلتمس وسائل غير وسائل العلم التجريبي المادي ، بها نهتدي في مجاهيل الوادي المقدس ، الذي يقع وراء عالم المادة التي نعرفها .
    إن أرباب القلوب قد سمعوا أن الظواهر المادية تنادي إلى الله بصوت عال يقول : إنما نحن فتنة فلا تكفروا ! وإن مطلوبكم أمامكم فلا تقفوا معنا !
    قد أنى للانسان أن يعلم أن البيئة التي يعيش فيها إنما هي بيئة روحية ذات مظهر مادي ، وهذا اكتشاف جديد أفاده تقدم العلم المادي الأخير ، وهو اكتشاف يواجه الإنسان المعاصر بتحد حاسم ، ذلك بأن عليه أن يوائم بين حياته وبين بيئته هذه القديمة الجديدة ، إن كان لا بد له أن يستمر حيا .
    لقد كان الإنسان الأول أحكم منا ، في موقفنا الحاضر ، حين ظن ، أو قل علم ، أن لكل شئ في الوجود روحا ، والآن ، وقد استدار الوجود دورة تامة ، فإن التاريخ سيعيد نفسه في الأيام القليلة المقبلة ، وهو ، كما قررنا في مستهل هذا السفر ، لن يعيد نفسه بصورة واحدة ، وإنما يعيدها بصورة تشبه من بعض الوجوه ، وتختلف من بعضها ، عما كان عليه الأمر في سابقه ، وسيكون وجه الشبه ، في الدورة الجديدة ، علمنا أن بيئتنا روحية الجوهر ، مادية المظهر . وسيكون وجه الاختلاف أن إدراكنا هذا لن يكون إدراكا ساذجا ، جاهلا ، وإنما هو أدراك حاذق ، عالم ، به يعود الدين ليعتنق كل نشاطنا ، في كل صغيرة وكبيرة .. يعود علما يتقدم بمنهاج للحياة متكامل ، يخاطب العقل ، ويحترمه ، ويحاول إقناعه بجدوى ممارسة منهاجه في الحياة اليومية ، في كل مضطربها ، لأمر معاشها ، وأمر معادها .
    لقد جاء الإنسان إلى هذه الحياة ولم يكن له في أمر مجيئه تدبير ، ولا اختيار ، وهو يغادر هذه الحياة ، يوم يغادرها ، وليس له في ذلك تدبير ، ولا اختيار .. والله تعالى يحدثنا في ذلك فيقول ، جل من قائل : (( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة ، فخلقنا المضغة عظاما ، فكسونا العظام لحما ، ثم أنشأناه خلقا آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين * ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون )) وهذه الصورة القرآنية المتكاملة تعطينا صورة لموضعنا من الكون ، إذ نحن مسيرون فيه كالعناصر الصماء تماما ، ولن يكون لنا فضل عليها إلا إذا استيقنت نفوسنا أمر هذا التسيير ، ثم أذعنا له ، عن رضا وعن استسلام ، وعن علم ولقد خلقنا الله مستعدين لتحصيل هذا العلم ، ولقد أشار إلى هذا الاستعداد بقوله تعالى (( ثم أنشأناه خلقا آخر )) من الآيات السابقة . وفي موضع آخر جاء البيان الواضح ، حيث قال : (( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )) فهذا الخلق الآخر إنما جاء من نفخ الروح الإلهي فيه .
                  

01-22-2014, 06:24 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    الإرادة

    والروح الإلهي المنفوخ في البشر هو الإرادة .. والإرادة صفة متوسطة بين صفتين .. من أعلاها العلم ومن أسفلها القدرة .. وبالعلم والإرادة والقدرة أبرز الله العوالم إلى حيز الوجود ، وكذلك البشر إنما يعملون أعمالهم بالعلم والإرادة والقدرة ، فوقع الشبه بين الخالق والمخلوق ، والى ذلك الإشارة بقول المعصوم : (( إن الله خلق آدم على صورته )) .
    والإرادة لله بالأصالة ، وللإنسان بالإعارة ، وهي هي الأمانة التي أشار إليها تعالى في قوله (( إنا عرضنا الأمانة على السموات ، والأرض ، والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملهـا الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا )) .. (( ظلوما )) بادعائه لنفسه ما لغيره ، و (( جهولا )) بقدر نفسه ، حين ظن أنه صاحب إرادة ، والذي ورطه في هذا الظلم ، وهذا الجهل ، خفاء الأمر ، ودقة مأتاه ، ذلك بأن الله ، جلت حكمته ، سير الغازات ، والسوائل ، والجمادات ، تسييرا قاهرا ومباشرا ، (( قل أانكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ، وتجعلون له أندادا ، ذلك رب العالمين ، وجعل فيها رواسي من فوقها ، وبارك فيها ، وقـدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ، ثم استوى إلى السماء ، وهي دخان ، فقال لها ، وللأرض ، إئتيا طـوعا أو كرها ، قالتا أتينا طائعين ، فقضاهن سبع سموات في يومين ، وأوحى في كل سماء أمرها ، وزينا السماء الدنيا بمصابيح ، وحفظا ، ذلك تقدير العزيز العليم)).
    وهذه هي بيئة الحياة ، فلما تهيأ المكان في الأرض خلق فيها الحياة وأودع فيها (( إرادة الحياة )) وهي قوة تعمل ، بدوافع حب البقاء ، للاحتفاظ بالحياة .. وقانونها السعي وراء اللذة ، والفرار من الألم ، وأصبح تسيير الله للمخلوقات في هذا المستوى وهو مستوى النبات والحيوان ، شبه مباشر ، ومن وراء حجاب (( إرادة الحياة )) وهي إنما سميت بإرادة الحياة لأنها تتمتع بما يسمى الحركة التلقائية ، وذلك لأن دوافع حركتها ، وقوى حركتها ، فيما يظهر ، مودعة فيها . وهي حركة يستخدمها الحي في تحصيل قـوته ، وفي الاحتفاظ بحياته ، والاحتفاظ بنوعه .
    ثم لما ارتقى الله تعالى بالحياة إلى مرتبة الإنسان ، زاد على (( إرادة الحياة )) عنصرا جديدا هو (( إرادة الحرية )) ، وهي إنما تختلف عن إرادة الحياة اختلاف مقدار ، لا اختلاف نوع . ثم سير الله تعالى البشر من وراء إرادة الحياة ، ثم من وراء إرادة الحرية ، وأصبح بذلك تسييره إيانا غير مباشر ، وتدخله في أمرنا هو من اللطف والدقة ، بحيث تورطنا في الوهم الأكبر .. فاعتقدنا أننا نملك إرادة حرة مستقلة بالترك أو بالعمل .. واليكم آيات هن آية في الدلالة على لطف تدخل إرادة الله في توجيه إرادتنا (( إذ أنتم بالعدوة الدنيا ، وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم ، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيى عن بينة ، وإن الله لسميع عليم * إذ يريكهم الله في منامك قليلا ، ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ، ولتنازعتم في الأمر ، ولكن الله سلم ، إنه عليم بذات الصدور * وإذ يريكموهم ، إذا التقيتم ، في أعينكم قليلا ، ويقللكم في أعينهم ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، والى الله ترجع الأمور )) .. فانظروا إلى هذا اللطف اللطيف ، مـن جانب الإرادة الإلهية القديمة ، إذ تتدخل في تسيير الإرادة البشرية المحدثة !!
    فالنبي يرى أعداءه في منامه قليلين فيصمم على مقاتلتهم ، ولو رآهم غير ذلك ما قاتلهم ، ثم عند اللقاء ، يرى المؤمنون المشركين قليلين فيصمموا على قتالهم . ويرى المشركون المؤمنين قليلين فيصمموا بدورهم على قتالهم . والله هو الذي يري النبي أعداءه في منامه قليلين ، والله هو الذي يري ، كل فريق من الفريقين أعداءه قليلين ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا . كل ذلك من غير أن تنزعج (( إرادة الحرية )) ومن غير أن تشعر بتدخل خارجي في أمر من أمورها ، يملي عليها ، أو يسلبها حريتها.
    خلق الله الإنسان ضعيف البنية ، وبغير مخالب ولا أنياب ، ليكون اعتماده على الحيلة أكثر من اعتماده على القوى الجسدية . وجعل طفولته طويلة ليكون اعتماده على الآخرين أكثر من استقلاله بأمر نفسه . وضعف بنيته ، وطول طفولته ألجآه ليعيش في جماعات ، ولقد تحدثنا انفا عن نشأة الجماعة ، وكيف أنها أقامت العرف الذي يقيد نزوات الأفراد ، ولقد كان القتل الذريع جزاء وفاقا لكل فرد يتورط في مخالفة العرف الذي ارتضته الجماعة ، وقد يكون غضب الآلهة في انتظار هذا الفرد بعد موته ، ليذيقه من ألوان العذاب فوق ما أذاقته الجماعة ، ولقد كان الخوف من غضب الجماعة ، ومن غضب الآلهة يؤرق الفرد ، وهو لا يزال يعمل عمله في حمل الأفراد على ترك مخالفات القوانين .
    وبنشأة المجتمع البشري البدائي دخل صراع في البنية البشرية بين قوتين .. بين الحيوان القديم الذي يعمل (( بإرادة الحياة )) ، وقانونها السعي في تحصيل اللذة بكل سبيل ، وبين الإنسان الحديث الذي يعمل (( بإرادة الحرية )) ، وقانونها تحصيل اللذة التي لا تتورط في غضب الجماعة ، ولا غضب الآلهة ، بمخالفة العرف المرعي ، مما تكون عاقبته ألما باقيا في الحياة وبعد الممات .
    فإذا كانت اللذة المبتغاة لا تنال إلا عن طريق مخالفة أمر الجماعة ، وهو دائما أمر الآلهة ، فإن اتجاه إرادة الحرية التخلي عن ابتغاء تلك اللذة ، رجاء الحصول على لذة أكبر منها ، من ثواب الجماعة ، ومن ثواب الآلهة ، وذلك خير وأبقى . وبهذا دخلت في الحياة القيم التي تجعل الفرد البشري يضحي باللذة الحاضرة في سبيل لذة مرتقبة ، أو يضحي باللذة الحسية العاجلة في سبيل لذة معنوية عاجلة أو مؤجلة ، كرضا المجتمع عنه ، وثقتـه بـه ، وثنائه عليـه ، أو كرضا الآلهة عنـه ، ومجازاتـها إياه ، في هـذه الحيـاة ، أو في الحياة المقبلة .
    واستمر المجتمع البشري ينمو ومعه ينمو عرفه وعاداته ، ويتجدد هذا العرف ، ويتخذ صورا دقيقة ، وحاسمة ، ويجئ أنبياء الحقيقة ، ويدخل تشريع الحرام والحلال ، واعتبارات الجنة والنار ، وأوصاف الإله . فان أنبياء الحقيقة ، ورسل الإنسانية لم يجيئوا ليقولوا للناس أن لهم خالقا ، فإن ذلك قد سبقتهـم إليـه رسـل العقـول . ولكنهـم جاءوا ليعينـوا العقـول على معـرفة الخالـق بتعليمها أسماءه وصفاته وأفعاله .
    وأما أنوار العقول فإنها قد نشأت من نار الاحتكاك الـذي ظـل جاريا بيـن (( إرادة الحياة )) و (( إرادة الحرية )) بفعل الخوف القديم ، الذي دفعته في قلب الإنسان الأول القوى الصماء ، التي زخرت بها بيئته الطبيعية التي عاش فيها .
    ولقد قلنا أن إرادة الحرية لا تختلف عن إرادة الحياة اختلاف نوع ، وإنما تختلف اختلاف مقدار ، ونعني أن إرادة الحرية هي الطرف الرفيع ، الشفاف ، من إرادة الحياة .. أو قل هي الروح ، حين تكون إرادة الحياة بمثابة النفس .. فإرادة الحياة حواء البنية البشرية ، وإرادة الحرية آدمها ، والعقل هو نتيجة اللقاء الجنسي بين آدمها وحوائها هذين . وفي مرتبة اللقاء الجنسي الذي ينتج العقل فإن لإرادة الحياة اسما آخـر ، هو الذاكرة ، وإرادة الحرية هي الخيال . والذاكرة هي حصيلة التجارب السوالف جميعها ، ومن ثم فقد أسميناها النفس ، في موضع آخر ، وقد ورد أن القصاص المراد به تقوية التخيل عند من يحتاج أن يوضع بالقصاص في موضع ضحيته . والتخيل هو إسم آخر للذكاء ، وهو القدرة الدراكة ، والإرادة الكابتة لرغايب النفس التي لا يرضى عنها القانون . والذكاء يعمل في توجيه رغايب النفس بفعل الخوف فيه ـ أو قل بفعل الرغبة والرهبة فيه ـ وهـو ، كلما أحسن السيطرة على رغائبها ، كلما زاد قوة ومقدرة على التمييز . وهي قد تزداد مطاوعة ، أو تزداد تمردا ، تبعا لمقدرته هو على العدل ، أو عجزه عنه ، وركوبه مركب العنف والشطط .
    وإذ ولد العقل في بيت منقسم ، من أبوين متشاكسين .. أم شهوانية ، جامحة ، شديدة النزوات ، كثيرة الرغايب ، وأب ضعيف ، ######## يسوقه الخوف إلى العنف ، فيرد مطالبها في شدة وصرامة ، قد تبلغ به أن يحيف عليها ويكبتها في غير موجب للكبت ، فإن طفولته لم تكن سعيدة ، بل كانت طفولة مشردة ، حانقة ، كثيرة الجنوح والانحراف ، وقد ظهرت عليه خصائص أبويه ، وأثر فيه جو البيت الذي ولـد فيه ، فجاء منقسما على نفسـه أيضـا ، بعضه يقـف في مناهضة بعضـه الآخـر ، وقديـما قيـل (( البيت المنقسم لا يقوم )) .
    ولقد ترسب الخوف في أغوار النفس منذ نشأة الحياة ، وقبل ظهور البشر على مسرحها ، ثم نشب الصراع الطويل بين (( إرادة الحياة )) و (( إرادة الحرية )) الذي صحب ظهور البشر على مسرح الحياة ، والذي لا يزال يتسعر ضرامه إلى اليوم ، ولقد نتج عن هذا الصراع أن بعض الرغائب المحرمة ، والتي كانت تتحرك طليقة قبلا ، قد كبلت بالأغلال ، وكبتت ، وأصبحت حبيسة في سراديب مظلمة من حواشي النفس . وكل هذه الرغائب أصيلة ، وكثير منها ، لطول ما حبس في الظلام ، فقد البصر ، وفـقد القدرة على الحركة ، ولكنه لم يمت ، وهو ينتظر أن يفرج عنه ، من هذا المحبس يوما من الأيام .
    فالنفس البشرية اليوم معرضة لآفات كثيرة .. خوف ترسب فيها قبل أن تصبح بشرية ، وذلك بين فجر الحياة البدائية الأولية ، وعهـد ظهـور البشر على المسرح ، وكبت موروث منذ ظهور المجتمع البشـري ، وإلى أن يولـد أحدنا ، ثم كبت مكتسب في حياة الفـرد، بين ميـلاده ووفاتـه ، حيث يتسلط القانون ، والعـرف ، والرأي العـام على تكبيل رغائبه التي لا تجد الموافقة على تحركاتها ، وتعبيراتها في حرية وطلاقة .
    وكل الكبت بفعل الخوف ، فالخوف ، سواء كان الخوف البدائي ، الساذج ، الذي لا مبرر له ، أو كان الخوف العاقـل ، المـوزون ، المعـروف الأسباب ، المعقـولها ، قـد ترك طابعه على النفس البشرية بصورة مزمنة .
    والخوف ، من حيث هو ، هـو الأب الشرعي لكل آفات الأخلاق ومعايب السلوك ، ولن تتم كمالات الرجولة للرجل وهـو خائف ، ولا تتـم كمالات الأنوثـة للأنثى وهي خائفة ، في أي مستوى من الخوف ، وفي أي لـون من ألوانه ، فالكمال في السلامة من الخوف .
    ولن يتم تحرير الفرد من جميع صور الخوف الموروث إلا بالعلم .. العلم بدقائق حقيقة البيئة الطبيعية التي عاش ، ويعيش فيها ، والتي كانت سببا مباشرا لترسيب الخوف في أغوار نفسه ، فإن الخوف جهل والجهل لا يحارب إلا بالعلم .. ومن أجل ذلك وجب الاهتمام بإعطاء الفرد صورة كاملة ، وصحيحة ، عن علاقته بالمجتمع ، وعن علاقته بالكون ، وهو ما نحن بصدده منذ حين .
                  

01-22-2014, 06:25 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    الجبر والاختيار

    ومسألة الجبر والاختيار ، أو التسيير والتخيير ، تمثل جماع العلاقة بين الفرد والكون ، وهي مشكلة أعيت دقائقها الفكر البشري في جميع عصوره ، وقد أنى لها أن تبرز من جديد ، وأن تستحوذ على كل اهتمام المفكرين ، ذلك بأن ضرورة فهمها ، فهما دقيقا ، لا تجئ من قبيل الترف الذهني ، كما قد يتبادر إلى بعض العقول ، ولا هي مسألة لا تعنينا في أمر معيشتنا اليومية ، أثناء الكسب والصرف ، كما قد يتبادر إلى بعض العقول الأخرى ، وإنما ضرورة فهمها تجئ من الحاجة إلى المنهاج العملي لتحقيق الحريـة الفرديـة المطلقة ، والحرية الفردية المطلقة هي منـذ اليـوم المركز الذي منـه تتفـرع ، وتشـع الحرية الجماعيـة ، بجميع صورها ، وفي كافـة مستوياتهـا ، تدخل في ذلك معيشتنا اليومية ، أثناء الكسب وأثناء الصرف .
    والسؤال المزمن هو ، هل الإنسان مسير إلى مصير مبرم ؟ أم هل هو مفوض إليه ليختار في أمر مستأنف ؟
    لقد قـرر المعصوم في هـذا تقريرا فيـه لحاجـة المؤمن غناء ، كل الغناء ، وذلك حين قال : (( من آمن فقد آمن بقضاء وقدر ، ومن كفر فقد كفر بقضاء وقدر ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف )) ولما قال بعض الأصحاب (( ففيم التعب إذن يا رسول الله؟ )) قال (( أعملوا فكل ميسر لما خلق له ! )) فانصرف الأصحاب لعملهم ، واعتصموا بإيمانهم ، فعصمهم ووسعهم . (( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ، تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم )) .
    فحاجة المؤمن مكفية بالإيمان نفسه ، ولكن حاجة المسلم هي التي تحتاج إلى مزيد من العلم يدخل بها مداخل اليقين ، ويحرز لها طمأنينة القلب . ألم تر إلى إبراهيم الخليل (( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ، قال أولم تؤمن ؟ قال بلى ! ولكن ليطمئن قلبي ! قال فخذ أربعة من الطير ، فصرهن اليك ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ، ثم ادعهن ، يأتينك سعيا ، واعلم أن الله عزيز حكيم . ))
    ولقد خلف من بعد الأصحاب ، خلف لم يسعهم في هذا الأمر ما وسع الأصحاب ، فبدا لبعضهم ، وهم أصحاب الرأي ، أن التسيير المطلق مع العقاب على الخطيئة يشبه قول من قال :
    ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
    وهذا ظلم ، ولما كان الله تبارك وتعالى منزها عن الظلم ، ولما كان العقاب على الخطيئة ثابتا ، في الشريعة وفي الدين ، فلم يبق إلا أن يكون الإنسان متمتعا بشئ من الاختيار ، به يستحق العقاب ، حين يخطئ ، ويستأهل الثواب ، حين يصيب . وكذلك اعتقدوا ، فتورطـوا في الشرك من حيـث أرادوا التنزيه .. ومد لهؤلاء في غيهم أمران : أولهما أن البداهة ، وظاهر الأمر ، توحي بأن للإنسان اختيارا يبدو في حركاته الاختيارية ، فهو يستطيع أن يمشي ، إن شاء ، أو أن يجلس ، أو أن يقف ، هذا إلى جملة حركات أخرى ، وسكنات ، كلها تقع تحت اختياره وإرادته . وثانيهما أن ظواهر القرآن تقر الإنسان على ما أعطته إياه هذه البداهة المعاشة .
    وهناك أصحابنا الصوفيـة ، وهـم ، في عمـومهم ، قـد حاولوا أن يكتفـوا ، من هـذا الأمـر ، بما اكتفى به الأصحاب ، ولكـن حكم الوقت ، وإلحاح الفـرق الأخرى ، قد اضطـر بعضهم أن يقـرر أن الإنسان مسير ، في كل صغيـرة وكبيـرة من أمـوره ، وانه مـع ذلك ، معاقـب بالإساءة ، مجـازى بالإحسان . وليس الله ، في كل أولئـك ، بظالم ، لأنـه لم يتصـرف في ملك غيـره . واضطر البعـض الآخر أن يقـرر التسيير المطلق مع العقوبة ، ثم خرج عن مسألة الظلم هذه بقول الله تعالى ، (( لا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون . ))
    وأجمع كبار عارفيهم على أن التوفيق بين التسيير المطلق ، وهو أمر يوجبه التوحيد ، والعقاب ، والعدل الإلهي ، إنما يلتمس في حكمة العقاب . وذهبوا في البيان مذاهب كانت وافية بحاجة عصرهم ، والعصور التي تلته إلى يومنا هذا ، ولكننا ما نرى أنها تكفي حاجة الفكر الحديث ، منذ اليوم .
                  

01-22-2014, 06:26 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    القرآن والجبر والإختيار

    ولقد بنى أصحاب الرأي رأيهم على القرآن ، وساقوا منه آيات بينات للتدليل على صدقهم ، ولقد بنى الصوفية ، وهم يقفون من أصحاب الرأي موقف النقيض من النقيض ، مذهبهم على القرآن أيضا ، وساقوا منه آيات بينات للتدليل على صدقهم . ولقد ورطت هذه الظاهرة الغريبة كثيرا من المستشرقين ، ممن عنوا بدراسة القرآن ، في خطأ جسيم ، فظنوا أن بعض القرآن يناقض بعضا ، وأسرفوا في ذلك على أنفسهم ، وعلى مواطنيهم ، والحق ، في هذا الأمر ، أن للقرآن ظاهرا وباطنا ، فظاهره عني بظواهر الأشياء ، وباطنه قام على الحقائق المركوزة وراء الظواهر ، ثم اتخذ ، في نهجه التعليمي ، الظواهر مجازا يعبر منها العارف إلى البواطن ، وهو في ذلك يقول (( سنريهم آياتنا ، في الآفاق ، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق ، أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟ )) والظـواهر هنا آيات الآفاق ، والبواطن آيات النفوس . وأبواب العقل على آيات الآفاق هي الحواس ، والحواس قد جاءت كلها مثاني ، من يمين وشمال ، على تفاوت في القوة بينهما ، فينتج عن هذا أن ما تؤديه العين اليمنى ، إلى العقل ، من الشئ المرئي ، يختلف عما تؤديه العين اليسرى منه إليه . وليست صحة الأمر بينهما . وهذا يعني أن تجري غربلة في العقل ، بها يتخلص مما يسمى خداع الحواس ، ويخلص إلى الأمر على ما هو عليه في الحق .
    وكثير من العقول الساذجة لا تملك القدرة على الإنعتاق من أسر الحواس ، والعقول ، على إطلاقها ، شديدة الاعتماد على معطيات الحواس ، ولما كان القرآن كتاب عقيدة ، وشريعة ، وحقيقة ، ولما لم تكن إلى حقيقته من سبيل إلا عن طريق عقيدته ، فشريعته ، ولما لم يكن من مصلحة العقيدة أن تصادم دعوتها ما تعطيه البداهة المشاهدة بالعين ، فإنه جاءنا بظاهر يجاري الوهم الذي أعطتنا إياه الحواس عن عالم الظاهر ، وبباطن يرتكز على الحق الصراح . وهـو ، بمجاراتنا في وهمنا ، إنما أراد أن يدفع عنا المشقة ، حيث لم يكن موجب للمشقة ، ريثما ينقلنا ، على مكث ، إلى الحق . ولنسق على ذلك مثلين : مثلا في مستوى مجاراة وهم الحواس ، وهو وهم غليظ ، ومثلا في مجاراة وهم العقل ، وهو وهم دقيق : فأما المثل الأول ، فإن القرآن عندما جاء يدعو إلى العقيدة قوما يرون بأعينهم أن الأرض مسطحة ، لم يشأ أن يجمع عليهم ، إلى مشقة الدعوة إلى عقيدة في الإله جديدة ، مشقة الدعوة إلى فكرة جديدة، عن الأرض ، تناقض البديهة المرئية بالعين ، فجاء في سياقه بآيات عن الأرض لم تزعج المدعوين عما ألفوا من أمرها ، فقال (( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون * والأرض فرشناها فنعم الماهدون )) وقال (( ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا؟ )) وقال (( والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها )) وقال (( والأرض مددناها ، وألقينا فيها رواسي ، وأنبتنا فيها من كل شئ موزون )) ، فإذا دخلوا في العقيدة ، وعملوا بالشريعة ، تبين لهم أن الأرض ليست مسطحة إلا فيما ترى العين ، وليس إلى الحقيقة من سبيل إذا أسقطنا ما تـرى العين ، كل الإسقاط ، من حسابنا ، كما أنه ليـس إلى الحقيقـة وصـول إذا ظللنا أسـرى أوهـام الحواس ، وإنما الـرشد أن نجعـل ما ترى الأبصار مجـازا إلى ما تـرى العقـول ، وما ترى العقـول مجازا إلى ما تـرى القلـوب ، وهو الحـق ، ثم هو الحقيقـة ، في الفينة بعد الفينة .
    والمثل الذي يجاري وهم العقل تعطيه هاتان الآيتان ، (( لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين )) فإن السالك المجود ، وهو في أول الطريق ، إذا قرأهما فهم من أولاهما أن له مشيئة مستقلة تملك أن تستقيم ، كما تملك أن تلتوي ، ولم يفهم من ثانيتهما إلا ما تعطيه اللغة ، فيجتهد في سبيل الاستقامة في تشمير وجد . حتى إذا نضجت تجربته بالمجاهدة ، ومصابرة النفس ، علم يقينا أنه لا يملك مع الله مشيئة ، وأصبح الخطاب في حقه ، ساعتئذ ، قوله تعالى (( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين )) ويعرف أن قوله تعالى(( لمن شاء منكم أن يستقيم )) قد أصبح في حقه منسوخا ، بعد أن تخلص من وهم عقله . هذا مع الفهم الأكيد للحكمة التي من أجلها جاءت هذه الآية الكريمة .
    فالقرآن ساق معانيه مثاني .. معنى قريبا في مستوى الظاهر ، ومعنى بعيدا في دقائق الباطن ، ولكن أصحاب الرأي لم يفطنوا إلى ذلك ، فجعلوا الآيات التي تجاري أوهام الحواس ، والتي تجاري أوهام العقول ، سندهم ، وبنوا عليها علمهم ، فضلوا كثيرا وأضلوا .
    وأما الصوفية فقد تفطنوا إلى ذلك ، وعلموا أن أوهام الحواس ، وأوهام العقول ، يجب التخلص منها بأساليب العبادة المجودة ، التي تبلغ بهم منازل اليقين المحجبة بحجب الظلمات ، وحجب الأنوار .
                  

01-22-2014, 06:27 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    القرآن والتسيير

    (( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا )) ومن الظالمين من يعتمد على العقل ، في فهم حقائق الدين ، كل الاعتماد .
    والقرآن قد جعل وكده تركيز فهم التسيير في العقول ، بالطائفة المستفيضة من آياته ، فإذا استقرت مدركات العقول في طـوايا الصدور ، ظهـر أن ليـس في القـرآن حـرف لا يـدعو إلى وحدة الفاعل .. فوحدة الفاعل هي أصل التوحيد ، وقاعدته ، وبتجويد وحدة الفاعل تتبع كل مستويات التوحيد الأخرى . وأمر التسيير هو وحدة الفاعل هذه . فلنستمع إلى طائفة من هذه الآيات (( هو الذي يسيركم في البر ، والبحر ، حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ، وفرحوا بها ، جاءتها ريح عاصف ، وجاءهم الموج من كل مكان ، وظنوا أنهم أحيط بهم ، دعوا الله ، مخلصين له الدين ، لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ، يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ، متاع الحياة الدنيا ، ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون . ))
    هذا أوضح كلام في التسيير الإلهي للناس ، وقد أشار إشارة لطيفة إلى علة الغفلة ، وهي سعة الحيلة ، فإننا إذا احتلنا في أمورنا ، ونجعت حيلتنا في حل مشاكلنا ، مد لنا هذا النجاح في أسباب الغفلة ، فتوهمنا أنا أصحاب إرادة مختارة . والحيلة في البر أوسع منها في البحر ، ولذلك قال (( هو الذي يسيركم في البر ، والبحر )) ثم ذهب يفصل أهوال البحر التي تظهر أمامها قلة حيلتنا وعندها (( دعوا الله ، مخلصين له الدين ، لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين )) فلما جاءت دعوتهم بلسان حالهم أنجاهم ، تبارك وتعالى ، ثم قـص علينـا ما كان من أمـرهم فقال (( فلمـا أنجاهـم إذا هـم يبغـون في الأرض بغير الحق )) يعني لما خرجوا من أهوال البحر ، ووطئوا البر ، واستشعروا القدرة على الحيلة ، رجعت إليهم غفلتهم ، وادعوا إرادة واختيارا . وهو هنا يذكرنا بأن الذي يسيرنا في البر هو الذي يسيرنا في البحر ، فيجب ألا نكون من الغافلين .
    وقوله تعالى (( إني توكلت على الله ، ربي وربكم ، ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها ، إن ربي على سراط مستقيم )) وقوله تعالى (( أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السموات والأرض ، طوعا وكرها ، وإليه يرجعون ؟ )) وقوله تعالى (( أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ؟ قل الله خالق كل شئ ، وهو الواحد القهار )) وقوله تعالى (( تسبح له السموات السبع ، والأرض ، ومن فيهن ، وإن من شئ إلا يسبـح بحمـده ولكن لا تفقهـون تسبيحهـم ، إنه كان حليمـا غفورا )) وقولـه تعالى (( والله خلقكم وما تعملون )) أي خلقكم وخلق أعمالكم . وقوله تعالى (( ما أصاب من مصيبـة في الأرض ، ولا في أنفسكم ، إلا في كتاب ، من قبل أن نبرأها ، إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكـم ، ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور * الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخـل ، ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد )) وفي جميع هذه الآيات حكمة تربوية بالغة ، يستفيد منها من يستيقن أمر التسيير .
                  

01-22-2014, 06:28 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    التسيير ما هو؟

    أول ما يجب توكيده هو أن الله لا يسير الناس إلى الخطيئة ، وإنما يسيرهم إلى الصواب ، قال تعالى عن لسان هود (( إني توكلت على الله ، ربي وربكم ، ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها ، ان ربي على سراط مستقيم . )) ومعنى هذا أن الله مسير كل دابة على السراط المستقيم ، وكل دابـة مهتدية ، حالا ، ومآلا، ما دامت في طاعة الله ، وليس شئ في الوجود بمفلت عن هذه الطاعة ، ولكن الله تبارك وتعالى يريد أن يكون المطيع مدركا لهذه الطاعة ، وبهذا وضع خطا فاصلا بين الهدى والضلال ، ما دونه ضال ، ومن فوقه مهتد ، وهنا دخل اعتبار الإيمان والكفر . وليس الاختلاف بين الإيمان والكفر اختلاف نوع ، وإنما هو اختلاف مقدار ، فالمؤمن علمه أكثر من الكافر .. أو قل أن المؤمن يطيع الله وهو عالم بذلك ، والكافر يطيع الله وهو جاهل بذلك ، والله تعالى يقول (( إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ، وهو العزيز الحكيم )) هو يعلم ذلك ولكنهم لا يعلمون ، وهو يريد لهم أن يعلموا . و (( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؟ )) .
    إن إرادة الله لا تعصى ، ولكن الله يريد أن ينقل الخلائق من طاعة ما يـريد ، إلى طاعة ما يرضى ، فإنه سبحانه وتعالى أراد شيئا لم يرضه . فهو تعالى يقول (( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ، ولا يرضى لعباده الكفر ، وإن تشكروا يرضه لكم . )) فكأنه يقول ، إن تكفروا فإنكم لم تكفروا مغالبة لله ، وإنما كفرتم بإرادته ، ولكنه لا يرضى منكم ما أراده لكم . والرضا هو الطرف الرفيع من الإرادة . أو هو قمة هرم قاعدته الإرادة ، فالإرادة في مرتبة (( الثنائية )) ، والرضا في مرتبة (( الفردانية )) ، ففي الإرادة يدخل الكفر والإيمان ، ولكن بالرضا لا يدخل إلا الإيمان .
    والأمر التكويني أعلى من الإرادة . فقمته رضا وقاعدته إرادة فهو هرم مكتمل ، وتفصيل ذلك يجئ في آخر يس حيث يقول جل من قائل (( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون )) . والأمر التشريعي يمثل قمة هرم الأمر التكويني ، حين تكون قاعدته إرادة ، والله تعالى حين قال (( وإذا أردنا أن نهلك قرية، أمرنا مترفيها ، ففسقوا فيها ، فحق عليها القول فدمرناها تدميرا )) إنما أراد بالأمر هنا الأمر التكويني في مستوى قاعدة هرمه ، وهو إرادة . وحين قال (( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ، والله أمرنا بها ، قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ، أتقولون على الله ما لا تعلمون ؟ )) إنما أراد الأمر التشريعي ومعنى (( إن الله لا يأمر بالفحشاء )) إن الله لا يرسل رسلا ، ويؤيدهم بالمعجزات ، ثم تكون شرائعهم داعية إلى الفحشاء (( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم ، والنبوة ، ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب ، وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ؟ )) .
    فالأمر التشريعي دعوة لإخراج الناس من إرادة الله إلى رضاه تعالى ، ومن اجل ذلك أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وقال فيها (( ان الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، يعظكم لعلكم تذكرون )) ..
    ومع أن الأمر التشريعي وحدة ، إذا ما قورن بالإرادة ، فإنه ، لدى النظر الدقيق ، ذو شكل هرمي أيضا ، قاعدته الشريعة الجماعية ، وقمته الشريعة الفردية ، وقمة هرم الأمر التشريعي هذه ، تكون لقمة هرم الأمر التكويني قاعدة ، وهذا الأخير قمته عند الله ، حيث لا حيث . وإلى هذه القمة الدقيقة ، الممعنة في الدقة ، الإشارة بقوله تعالى (( إنا كل شئ خلقناه بقدر ، وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر )) وهكذا يظهر بوضوح هرم الكائنات ، قمته التنزل الأول إلى مرتبة الاسم ، وهو مرتبة الشريعة الفردية وقاعدته التنزل الأخير إلى مرتبة الفعل ، وهو مرتبة التعدد ، في الأحياء والعناصر ، وأسفل السافلين فيها هو الدخان ، وهو بخار الماء ومنه خلقت الأشياء ، والأحياء . قال تعالى: (( ثم استـوى إلى السماء وهي دخان ، فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها ، قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات في يومين ، وأوحى في كل سماء أمرها ، وزينا السماء الدنيا بمصابيح ، وحفظا ، ذلك تقدير العزيز العليم )) وأدنى من ذلك إلى قاعدة هرم الخليقة قوله تعالى عن هذا الدخان (( أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ، وجعلنا من الماء كل شئ حي ، أفلا يؤمنون ؟ )) وحين كانت قمة هذا الهرم عند الله فقد كانت القاعدة بعيدة عنه ، وليس البعد هنا بعد مسافة ، وإنما هو بعد درجة . فقمة هرم الخليقة ، وهي مرتبة الشريعة الفردية ، في عالم الملكوت . وقاعدة الهرم في عالم الملك ، وعالم الملكوت مهيمن على عالم الملك ، حتى أن عالم الملك بمثابة الظلال لعالم الملكوت ، فعالم الملك هو عالم الظاهر ، وعالم الملكوت هو عالم الباطن ، أو قل عالم الملك هو العالم المحسوس ، حيث التعدد ، وعالم الملكوت هو عالم المعاني ، حيث الوحدة ، وليس معنى هذا أن ليس في عالم الملكوت محسوس ، ولكن معناه أن محسوسه هو من اللطف بحيث لا يحس إلا بالحاسة السابعة .. وسلطان العاشقين ، ابن الفارض إنما عنى هذا اللطف اللطيف حين قال :
    ولطف الأواني في الحقيقة تابع للطف المعاني والمعاني بها تنمو
    ذلك بأن لكل معنى حسا ، ولكل حقيقة شريعة ، فكل معنى من المعاني ، أو حقيقة من الحقائق هي ذات شكل هرمي ، له قمة وله قاعدة ، وكلما دقت القمة دقت القاعدة تبعا لذلك ، أو قل ، إن شئت ، كلما دق المعنى دق الحس .
    قال تبارك وتعالى (( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ، وإليه ترجعون )) فملكوت كل شئ هو فرديته . وإليه ترجعون توكيد لهذا الفهم ، لأن الرجوع إلى الله إنما يكون بتقريب صفات العبد من صفات الرب . فكأن الخلائق مسيرة إلى فردياتها بجمعيتها ، من التعدد في الوحدة ، بفضل التوحيد .
    قوله تعالى (( والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين * لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فلهم أجر غير ممنون * فما يكذبك بعد بالدين * أليس الله بأحكم الحاكمين )) .. لقد ذكرنا أن ظاهر القرآن عنى بآيات الآفاق ، وباطنه عنى بآيات النفس البشرية . والكرامة عند الله للبشر ، وليست للسموات ولا للأرض ، بل إن النملة عند الله أكرم من الشمس ، لأن النملة دخلت في سلسلة من الحياة والموت ، لم تتشرف بها الشمس ، وهي تتطلع إليها ، وترجوها بشق النفس . ومن أجل ذلك فإنا لن نتحدث عن تفسير الظاهر في هذه الآيات ، ومن أراده فليلتمسه في أي من كتب التفاسير ، فهو مبذول .
    أقسم الله بنفسه حين أقسم بقوى النفس البشرية (( يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، واتقوا الله الذي تساءلون به ، والأرحام ، إن الله كان عليكم رقيبا )) وهذه النفس الواحدة التي خلقنا منها إنما هي نفسه تبارك وتعالى . و (( التين )) النفس ، و (( الزيتون )) الروح ، و (( طور سينين )) العقل ، و (( هذا البلد الأمين )) القلب ، . وقد أسلفنا القول بأن العقل هو نتيجة لقاح النفس والروح ، ونقول هنا أن العقل هو طليعة القلب ، ورائده إلى المعرفة ، وهو له بمثابة عكاز الأعمى ، يتحسس به الطريق ، أو قل ، إن شئت ، أن العقل يقوم من القلب مقام الحواس منه هو . وهو حين يقوى ، ويستحصد ، ويصبح يتلقى مداركه عن الحواس جميعها في كل لحظة ، يصير الحاسة السادسة المرتقبة ، ذلك بأن الحياة إنما بدأت بحاسة واحدة ثم تقدمت ، في سحيق الآماد ، إلى الحاسة الثانية ، فالثالثة ، فالرابعة ، فالخامسة ، وهي منطلقة في طريقها إلى الحاسة السادسة ، ثم الحاسة السابعة ، وتلك نهاية المطاف . ولا يكون الترقي بعدها إلا بتطوير هذه الحواس السبع نفسها ، لا بزيادة في العدد عليها. فالحاسة السادسة إذن هي العقل ، حين يستحصد ، ويصبح قادرا على أن يذوق ،ويشم ، ويلمس ، ويرى ، ويسمع ، كل شئ ، وفي لحظة واحدة . فإذا بلـغ العقل هذا المبلغ ، فإنه يعرف قدر نفسه ، ويعلم أن مكانه خلف القلب لا أمامه ، ويسمع ، ويحاول أن يطيع ، قول العارف الجنيد : (( وقدم إماما كنت أنت أمامه )) . ولكن طاعة هذا الأمر هي أشق الأشياء عليه ، وهي لا تتحقق إلا الفينة بعد الفينة ، وفي قمة السلوك المجود . ولا يطول المكث فيها ، إذ فيها يرد الخطاب من خضر القلب ، على موسى العقل (( إنك لن تستطيع معي صبرا )) ولكن هذه اللحظة القصيرة ، التي يطيقها موسى كل فرد مع خضره هي زنة الدهر الدهير ، لأنها خارج الدهر .. وهي مقام (( ما زاغ البصر، وما طغى )) وعندها يشاهد السالك من ليس يحويه الدهر .. هذا مقام الشهود الذاتي بسقوط كل الوسائط ، في تلك اللحظة يبلغ القلب مبلغ الحاسة السابعة وفيها يكون السالك وترا .
    ثم لن يلبث العقل أن يدركه ضعفه ، فيجهل قدر نفسه ، ويتقدم على القلب ، وعندها يصبح العابد شفعا ، ويحجب بأنوار العقل عن شهود الذات ، ولا يشهد إلا تجلياتها في مرتبة الاسم ، أو في مرتبة الصفة ، أو في مرتبة الفعل ، وأدناها مرتبة وحدة الفاعل ، والسالك في مراتب حجب النور صاحب شرك خفي ، وهو صاحب شريعة فردية ، ومن ثم فهو في ملكوته .
    قوله تعالى من الآيات السوالف (( لقد خلقنا الإنسان في احسن تقويم )) إشارة إلى خلقه في عالم الملكوت ، وهو قمة هرم الخليقة ، وذلك في عالم الأمر ، وقوله (( ثم رددناه أسفل سافلين )) إشارة إلى خلقه في عالم الملك ، وهو قاعدة هرم الخليقة ، وذلك عالم الخلق (( ألا له الخلق والأمر )) وعالم الخلق هو أيضا الذي أشار إليه بقوله (( إنا كل شئ خلقناه بقدر * وما أمرنا الا واحدة كلمح بالبصر )) وقصة الخلق في أحسن تقويم ، ثم الرد إلى أسفل سافلين ، تحكيها هذه الآيات (( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ، ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ، ونقدس لك ؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ، ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالـوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ، انك انت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم ، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ، ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات ، والأرض وأعلم ما تبدون ، وما كنتم تكتمون ؟ * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس ، أبى واستكبر، وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، وكلا منها رغدا حيث شئتما ، ولا تقربا هذه الشجرة ، فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها ، فأخرجهما مما كانا فيه ، وقلنا اهبطوا ، بعضكم لبعض عدو ، ولكم في الأرض مستقر ، ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ، إنه هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا ، فإما يأتينكم مني هدى ، فمن تبع هداي ، فلا خوف عليهم ، ولا هم يحزنون * والذين كفروا ، وكذبوا بآياتنا ، أولئك أصحاب النار ، هم فيها خالدون )) .
    خلق آدم في عالم الأمر كاملا ، وعالما ، وحرا ، وكانت حريته منحة لم يدفع ثمنها ، فامتحنه الله ليرى كيف يصنع فيها ، فقال (( يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، وكلا منها رغدا حيث شئتما ، ولا تقربا هذه الشجرة ، فتكونا من الظالمين )) وكانت الشجرة التي نهي عنها هي نفسه ، في الباطن ، وزوجه في الظاهر ، فلم يحسن التصرف في حريته فيؤثر أمر الله على أمر نفسه ، وإنما اختار نفسه عن ربه ، وفسق عن أمره ، واتصل بزوجه ، فصودرت حريته ، إذ عجز عن حسن التصرف فيها ، وهبط إلى حيث يلقى عقوبة المخالفة ، وحيث يبدأ باسترداد حريته بدفع ثمنها ، حتى تكون عزيزة عنده ، فلا يفرط فيها مرة أخرى ، لأن الحرية التي لا يدفع ثمنها لا تعرف قيمتها ، ولا يدافع عنها . قال تبارك وتعالى يحذر حبيبه محمدا من حالة آدم (( فتعالى الله الملك الحق ، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ، وقل رب زدني علما * ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ، ولم نجد له عزما )) .. (( ولقد عهدنا إلى آدم )) يعني أخذنا عليه عهداً بأن يحسن التصرف في حريته فيختار الله دائما . (( فنسي ولم نجد له عزما )) نسي عهدنا ، وضعف عزمه عن التزام واجب الحرية ، فتهالك أمام إغـراء زوجه ، ورغبة نفسه ، فأساء استعمال حريته فصادرناها . و (( كذلك نفعل بالمجرمين )) .
    وحين عصى آدم ربه عن نسيان ، وعن ضعف عن مراغمة النفس ، عصاه إبليس عن قصد مبيت ، وعن استكبار ، ولقد قص الله علينا من خبره فقال (( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ، ونفخت فيه من روحي ، فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم ، أجمعون * إلا إبليس ، استكبر ، وكان من الكافرين * قال يا إبليس ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدي ، استكبرت أم كنت من العالين ؟ قال أنا خير منه ، خلقتني من نار ، وخلقته من طين ! * قال فاخرج منها ، فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين * قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك ، وممن تبعك منهم أجمعين )) وقد كان إبليس عابدا ، ولكنـه كان متكبرا، فحجب بنفسه ، عن ربه ، ولم تنفعه عبادته ، وكان إبليس عالما ، ولكن علمه كان علم ظاهر ، ولم يصحب بعلم باطن ، ولذلك لم يكن تقيا ، ولا كان ذكيا ، فهو يقسم بعـزة الله ، (( قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين )) ثم يستكبر عن طاعة الله .. وهو اذ فاتته التقوى لم يفكر في الاستغفار ، عند المعصية ، وإنما فكر في الإصرار عليها ، وطلب الإمهال ليجد الفرصة الى الإغراء بها ، (( قال ربي فانظرني الى يوم يبعثون )) ولما قال تعالى (( فانك من المنظرين* الى يوم الوقت المعلوم )) قال هو (( فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين )) والآية الأخيرة من دلائل علمه ، إذ علم أن عباد الله المخلصين لا طاقة له بهم ، ولكن علمه كما قلنا علم ظاهر بلا تقوى في الباطن . وأما آدم وحواء فقد قالا (( ربنا ظلما أنفسنا ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا ، لنكونن من الخاسرين )) .
    ومهما يكن من الأمر فإنهم جميعا قد عصوا أمر ربهم ، وصاروا بالمعصية غلاظا ، كثافا غير منسجمين مع تلك البيئة اللطيفة ، فهبط بهم وزنهم الكثيف ، من سلم الترقي إلى الدرك ، وهو ما سمي في آيات (( والتين )) أسفل سافلين ، وكان ترتيبهم في الهبوط إبليس أولا ، متبوعا بحواء ، ثم آدم ، وفي بيئتهم الجديدة احتوشتهم الشرور ، من كل جانب ، ولكنهم ما لبثوا أن تأقلموا ، ونسوا ما كانوا فيه من كمال إلا قليلا ، واستجاب الله دعاء إبليس ، فأنظره إلى يوم يبعثون ، فلبث في أسفل سافلين ، من غير ترق منه ، لأنه لم يطلب الترقي ، وإنما طلب الإنظار . واستجاب الله دعاء آدم وحواء ، فلم يلبثا في أسفل سافلين إلا ريثما أدركتهما المغفرة والرحمة التي طلباها في ساعة مخالفتهما أمر ربهما (( إن رحمة الله قريب من المحسنين .))
    وقد يظن ظان حين يقرأ في الآيات السوالف من سورة (( والتين )) قوله تعالى (( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فلهم أجر غير ممنون )) أن الاستثناء هنا يعني أنهم لم يردوا إلى أسفل سافلين ، وهذا خطأ . والحق أن هذه الآية وسابقتها تؤديان المعنى المؤدى بقوله تعالى (( وإن منكم إلا واردها ، كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ، ونذر الظالمين فيها جثيا )) فنجى ، من أسفل سافلين ، آدم وحواء وبدأ ترقيهما ، بفعل المغفرة والرحمة ، وترك إبليس ، حيث لم يفكر في التغيير .
    قوله (( فما يكذبك بعد بالدين ؟ )) الدين الجزاء ، وهو المعاوضة ، وهو القصاص ، وفيه إشارة إلى قانون القصاص ، الذي قلنا أن الإسلام بني عليه حقيقتـه ، وشريعتـه ، والإشارة تـرمي إلى إرشادنا إلى أن الإنسان ، إنمـا رد مـن مقـام أحسـن تقـويم ، إلى درك أسفـل سافلين ، بحكـم قانـون المعاوضة ، جزاء وفاقا .
    قوله (( أليس الله بأحكم الحاكمين )) تزكية لقانون المعاوضة ، وتذكير لنا بالحكمة المودعة فيه .
                  

01-22-2014, 06:28 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    المغفرة لآدم وحواء

    كيف غفر لآدم ؟ إن الله أمر الملائكة أن يسـجدوا لآدم فأطاعوا ، وأمر إبليس أن يسجد لآدم فعصا ، فأما الملائكة فقد أطاعوا الأمر التشريعي ، وهم (( لا يعصـون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمـرون )) وأما إبليس فقد عصا الأمر التشريعي ، ولكنه بالمعصية ، أطاع الأمر التكويني ، وليس له من ذلك بد . والسجود يعني تسخير الملائكة لآدم ، وتسخير إبليس ، على تفاوت في التسخيرين . فتسخير الملائكة إعانة على الخير ، وهداية إلى الحق ، وتسخير إبليس دلالة على الشر ، وإضلال عن الحق ، وآدم متنازع بين الخير من أعلى ، والشر من أسفل ، وهو في الحالتين ساير إلى الله . (( وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة )) فالنعم الظاهرة هي العوافي ، والنعم الباطنة هي المصائب .. وكلها رحمة ، وإن كانت النفوس تنفر من المصائب ، وترتاح إلى العوافي ، ولكن الله تبارك وتعالى يقول (( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ، والله يعلم ، وأنتم لا تعلمون )) ، وكل المصيبة في نقص العلم .
    فإذا تصورت أول مخلوق بشري قائم على الخط الفاصل بين الحيوانية والإنسانية ، وتصورته رأس سهم التطور ، فقد تصورت آدم الخليفة في الأرض ، وهو في مرحلة من مراحل تطوره من بدايات سحيقة ، ولكنها مرحلة تحولية ، دخلها بقفزة فريدة ، نتجت عن استجماع فضائل شتى ، اختزنها أثناء تطوره الطويل ، المرير ، من تلك البدايات السحيقة ، وتلك القفزة هي المعبر عنها بقوله تعالى (( ثم أنشأناه خلقا آخر )) من الآيات الكريمات (( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة ، فخلقنا العلقة مضغة ، فخلقنا المضغة عظاما ، فكسونا العظام لحما ، ثم أنشأناه خلقا آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين )) .
    وهي بعينها المعبر عنها بقوله تعالى (( ونفخت فيه من روحي )) من الآيتين الكريمتين (( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ، ونفخت فيه من روحي ، فقعوا له ساجدين )) . (( فإذا سويته )) هذه ، تشير ، بإجمال معجز ، إلى سلسلة التطور التي بدأت من بخار الماء ، حيث كانت السموات والأرض سحابة واحدة ، والى أن استعد المكان لنفخ الروح الإلهي فيه . ولقد قلنا أن الروح الإلهي هو (( إرادة الحرية )) التي توجت (( إرادة الحياة )) فارتفع بها الإنسان فجأة فوق الحيوانات العليا . ولم توجد إرادة الحرية فجأة بعد عدم ، وإنما برزت بعد كمون طويل فهي بمثابة الزبدة التي مخضها العراك من لبن الحياة ، ولقد تحدثنا عنها آنفا وقلنا أنها دخلت في عراك مع إرادة الحياة ، وأن العقل نتيجة هذا اللقاء.
    وإرادة الحياة نبتت من الأرض ، وعوامل السماء فيها موجودة ، ولكنها أضعف من عوامل الأرض . وإرادة الحرية نشـأت من الأرض ، ولكن عوامل السماء فيها قوية ، فبها القامة البشرية قامت على الرجلين ، وخصصتهما للمشي ، وفرغت بذلك اليدين لمزاولة أعمال ذات صلة بالعقل أكبر ، وكذلك استطاعت أن تدير رأسها ، بسهولة ، ويسر ، على ما حولها ، وما فوقها ، فترى الشمس والقمر والنجـوم ، وأن تمشي سوية ، تهتدي في مسالك الأرض ، وفي طرائق السماء (( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ، أم من يمشي سويا على سراط مستقيم ؟ ))
    وآدم ، في الوجود ، متنازع بين الملائكة من أعلى ، والأبالسة من أسفل ، فهـو برزخ الوجود كله ، وهو في ذلك عقل الوجود أيضا ، والله تبارك وتعالى يعنيه حين قال ، جل من قائل (( مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان )) والبحران هنا هما : بحر الأرواح العلوية ، التي أشرقت بالطاعة ، وبحر الأرواح السفلية التي انكدرت بالمعصية .
    وعقـل آدم ، فـي آدم ، متنـازع بـيـن (( إرادة الحيـاة )) وهـي النفـس ، من أسـفل ، و (( إرادة الحـرية )) ، وهي الروح ، من أعلى ، وهو أيضا برزخ ، والله تعالى يعنيه ، في الآيتين الكريمتين السالفتين ، وهو معناهما الباطن ، وآدم معناهما الظاهر .
    والنفس قانونها ابتغاء اللذة بكل سبيل ، واجتناب الألم بكل سبيل أيضا . ولذلك فهي تطيع الأمر التكويني ، وتثقل عليها طاعة الأمر التشريعي ، لأنه يضع لها الحدود ، وهي في ذلك أشبهت إبليس .
    والروح قانونها الحرام والحلال ، وهي تبتغي من النفس أن تستعصم عن اللذة العاجلة إذا كانت حراما ، وذلك ابتغاء اللذة الآجلة الحلال ، وفرارا من الألم المترتب على تعاطي اللذة الحرام ، سواء كان هذا الألم معجلا أو مؤجلا. ولذلك فهي ترتفع من طاعة الأمر التكويني ، إلى طاعة الأمر التشريعي . وهي في ذلك أشبهت الملائكة .
    وآدم ، في هذه المرحلة البدائية من تطوره ، قيل له كل من هذا ، ولا تأكل من هذا .. أي قيل له هذا حرام وهذا حلال ، فإن هو قوي على مراغمة النفس ، وعصا أمرها بالسـوء ، واجتنب الحرام ، فقد أحسن التصرف في حريته ، واستحق أن يزاد له فيها ، والله تعالى يقول (( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ )) وجزاء الإحسان مضاعف ، وذلك محض فضل . اسمعه يقول ، (( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ، وهم لا يظلمون )) . وقد تضاعف أضعافا كثيرة ، وقد تضاعف بغير حساب .. اسمعه تبارك وتعالى يقول (( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ، في كل سنبلة مائة حبة ، والله يضاعف لمن يشاء ، والله واسع عليم )) فههنا الحبة أنبتت سبع سنابل ، في كل سنبلة مائة حبة ، فذلك سبعمائة ضعف ، ثم قال ، فوق ذلك ، (( والله يضاعف لمن يشاء )) كأن يكون سبعة آلاف ضعف ، أو سبعين ألف ضعف ، فإذا قال (( والله واسع عليم )) فقد خرج عن العدد ، إلى السعة المطلقة .
    وإن هو لم يقو على مراغمتها ، وضعف أمام إغرائها ، واسترسل في تحصيل شهوتها الحرام ، فقد أساء التصرف في حريته ، وعرضها ، من ثم ، للمصادرة . فإن كان سوء تصرفه هذا فيه اعتداء على حق من حقوق الجماعة ، صودرت حريته وفق قانون المعاوضة في الشريعة ، وآيته من كتاب الله قوله تبارك وتعالى: (( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص ، فمن تصدق به فهو كفارة له ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون )) .
    وإن كان سوء تصرفه إنما يقع وباله على نفسه وحدها ، دون غيرها من الأنفس ، صودرت حريته وفق قانون المعاوضة في الحقيقة ، وآيتاه من كتاب الله قوله تبارك وتعالى (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) . هذا ولا يظنن أحد ان قانون المعاوضة في الشريعة ، دائما ، كان في هذا الإحكام الذي وردت به التوراة ، ثم أقره الإنجيل من بعدها ، ثم جاء القرآن بتأييده وإقراره . ذلك بأنه قانون يتطور مع تطور المجتمع البشري ، ويتأثر بمستوى دقة العقل البشري ومقدرته على مضاهاة قانون الحقيقة الذي هو أصله ، والذي كان ، ولا يزال ، في منتهى الإحكام ، وهو لم يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها .
    والدقة التي هي حظ قانون المعاوضة في الحقيقة ، والتي فاتت كثير من صورها على قانون المعاوضة في الشريعة ، تجد ضبطها في أن القانونين يعملان معا في مصادرة حرية من عجز عن الوفاء بحق الحرية ، من غير أن تكون هناك عقوبتان على خطيئة واحدة ، وفي مستوى واحد من مستويات العقاب . وأقرب قوانين المعاوضة في الشريعة دقة من قوانين المعاوضة في الحقيقة الحـدود ، وهي أربعة .. الزنا والقذف والسرقة وقطع الطريق .. وترجع إلى أصلين هما حفظ العرض ، وحفظ المال ، وهما أول قانونين نشآ في المجتمع البشري البدائي ، وإليهما يرجع الفضل في جعل المجتمع ممكنا . ويلي هذه الحدود حد السكر ، ثم تجئ قوانين القصاص الأخرى في النفس بالنفس ، والعين بالعين .
    ومعاوضة فعل الشر إنما تكون بوضع الألم في مقابلة اللذة من النفس ، والمراد من ذلك وزن قواها حتى تعتدل ، ولا تحيف ، فتتهالك على اللذة بغير كتاب منير .
                  

01-22-2014, 06:29 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    كيف غفر لآدم؟

    الجواب غفر له بإعطائه حق الخطأ . وهذا يعني أن حريته لم تصادر مصادرة أبدية فيقام عليه وصي إلى نهاية ذلك الأبد ، كما فعل بإبليس ، وإنما أذن له في استردادها ، وبدأ بممارسة ما يطيق منها ، فهو يعمل في ذلك بين الخطأ والصواب ، فكلما أحسن التصرف في الحرية التي لديه أوتي مزيدا منها ، وإن بدرت منه إساءة في التصرف تحمل نتيجة سوء تصرفه بعقوبة معاوضة ، ومقابلة للخطيئة ، يراد بها إلى شحذ قوى نفسه ، حتى تتأهل ، أكثر من ذي قبل ، لتحمل واجب الحرية في ذلك المستوى الذي بدر منها العجز عنه .. ثم إن هذه العقوبة يتجلى فيها اللطف الإلهي كما يليق به ، فهو يجازي بالحسنة عشر أمثالها ، وقد يضاعفها حتى تخرج عن الحصر ، وهو لا يجازي بالسيئة إلا مثلها ، وقد يعفو عنها ، وقد يبدلها حسنة ، وقد يضاعفها ، بعد ذلك ، أضعافا لا حد لها ، فهو تبارك وتعالى يقول (( والذين لا يدعون مع الله الها آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا يزنون ، ومن يفعل ذلك يلق آثاما ، يضاعف له العذاب ، يوم القيامة ، ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب ، وآمن ، وعمل عملا صالحا ، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ، وكان الله غفورا رحيما )) ولقد ألهم آدم كلمات فتلهمها ، فكانت سببا إلى التوبة ، فالمغفرة ، (( فتلقى آدم من ربه كلمات ، فتاب عليه ، إنه هو التواب الرحيم )) ولقد كانت تلك الكلمات هي (( ربنا ظلمنا أنفسنا ، وإن لم تغفر لنا ، وترحمنا ، لنكونن من الخاسرين )) .
    هذه هي المغفرة لآدم بعد أن أصبح بشرا عاقلا ، ولقد أنفق آدم دهرا دهيرا قبل أن يبلغ هذه المرتبة الرفيعة .. قال تعالى في ذلك ، (( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه ، فجعلناه سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا )) يعني قد أتى على آدم عهد سحيق ، لم يكن فيه مكلفا ، ولا مسئولا ، لأنه لم يبلغ مبلغ العقل ، ولقد تحدثنا عن هذا آنفا ، وقلنا أن الله سير الحياة ، من لدن ظهورها بين الماء والطين ، والى أن بلغت مبلغ العقل ، تسييرا شبه مباشر ، وقانونها يومئذ هو قانون المعاوضة في الحقيقة ، وآيتاه من كتاب الله ، كما سبق بذلك التقرير ، هما الآيتان الكريمتان (( فمن يعمل مثـقال ذرة خيـرا يـره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يـره )) وهو قانون يعمل دائما على تنمية الخير ، ومحو الشر ، وذلك بسوق الحياة إلى كنف الله الرحيم.
    هذا التسيير في مراقي القرب هو المغفرة لآدم ، من لدن النطفة الأمشاج ، وإلى أن أصبح بشرا مكلفا، فماذا كان آدم قبل هذا ؟ وكيف غفر له ؟ اسمع (( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين )) فقبل أن يصبح آدم نطفة مختلطة بالطين - نطفة أمشاجا - قد كان ذرة من بخار الماء ، الذي هو أصل الحياة ، كما يخبرنا تبارك وتعالى (( أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ، وجعلنا من الماء كل شئ حي، أفلا يؤمنون ؟ )) وهذه الذرة هي أصل سلالة الطين . وإنما غفر له في هذه المرحلة بهذا التسيير المباشر ، بالقهر الإرادي ، الذي حفز الحياة إلى الله وأزعجها إلى قربه ، فارتقت المراقي ، وبلغت المبالغ . وقانون هذه الإرادة الإلهية ، هو قانون المعاوضة في الحقيقة أيضا .
    وهذه المغفرة لآدم في مستوياتها المختلفة هي بعينها التسيير ، فالناس مسيرون ، من مرتبة العناصر إلى مرتبة الحياة ومن مرتبة الحياة البدائية إلى مرتبة الحياة المتقدمة الراقية المعقدة ، ومن هذه إلى مرتبة الحرية الجماعية بدخول العقل في المسرح ، ومن مرتبة الحرية الجماعية ، إلى مرتبة الحرية الفردية المطلقة ، والتسيير يطرد في هذه إلى غير نهاية ، لأنه سير إلى الله في إطلاقه .
                  

01-22-2014, 06:30 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)


    التسيير خير مطلق

    بدخول العقل في المسرح نشأ قانون المعاوضة في الشريعة ، وهو قانون فج ، إذا ما قيس إلى قانون المعاوضة في الحقيقة ، ولكنه يدق ، وينضبط ، كلما قوي العقل واستحصد . وهو القانون الحادث ، ويحكي الإرادة البشرية ، المحدثة . وهو إنما يستهدف إتمام الانطباق على القانون القديم ، الذي يحكي الإرادة الإلهية القديمة .. وهيهات !!
    والإنسان مسير من البعد إلى القرب ، ومن الجهل إلى المعرفة ، ومن التعدد إلى الجمعية ، ومن الشر إلى الخير ، ومن المحدود إلى المطلق ، ومن القيد إلى الحرية .
    والتسيير ، من بدايته ، هو رحمة في صورة عدل ، وهو أكبر من العدل - (( فالرحمة فـوق العـدل )) - وقد أسلفنا القول في ذلك .
    والتسيير حرية ، لأنه يقوم على ممارسة العمل بحرية (( مدركة )) في مستوى معين ، فإذا أحسن المتصرف التصرف زيد له في حريته ، فارتفع مستواه بالتجربة والمرانة ، وإن لم يحسن التصرف تحمل مسئوليته بقانون حكيم يستهدف زيادة مقدرته على حسن التصرف ، وهكذا ، فكأن الإنسان مسير من التسيير إلى التخيير ، لأن الإنسان مخير فيما يحسن التصرف فيه ، مسير فيما لا يحسن التصرف فيه ، من مستويات الفكر ، والقول ، والعمل .
    هناك حديث قدسي جـرى من الله تعالى لنبيـه داوود: (( يا داؤود ! إنك تريـد ، وأريـد ، وإنما يكـون ما أريـد ، فإن سلمت لما أريـد كفيتك ما تريـد ، وإن لم تسـلم لما أريد أتعبتـك فيما تريـد ، ثم لا يكون إلا ما أريـد )) ولقد قرر الأمر من الوهلة الأولى حين قال ، في صـدر الحديث ، (( وإنما يكون ما أريد ، )) فـدل بذلك على أن إرادة الله هي النافذة .
    وحين قال (( فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد )) دل على أن إرادة الإنسان تكون نافذة المفعول إن هو أراد الله . فإن قلت فهل هو يملك أن يـريـد الله ؟ قلنا هو لا يملك من تلك الإرادة إلا ما ملكه الله تعالى إياه ، فانه سبحانه وتعالى يقول (( ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء )) وهو يشاء لنا في كل لحظة أن نحيط بشئ من علمه ، وإلى ذلك الإشارة بقوله (( كل يوم هو في شأن )) وشأنه هو إبداء ذاته لخلقه ليعرفوه ، وليس يومه أربعا وعشرين ساعة ، وإنما يومه وحدة زمنية التجلي ، وقد تنقسم فيه الثانية إلى جزء من بليون جزء ، حتى ليكاد الزمن أن يخرج عن الزمن ، كل ذلك وفق ما أودع الله في المكان من قابلية التلقي ، ولما كان القيد على قابلية التلقي لا يخضع إلا لحكمة المطلق ، فهو قيد في حرية ، وضيق في سعة ، ومن أجل هذه الرحمة المطلقة فإننا أصبحنا نشعر بأننا نملك إرادة حرة ، وهذا الشعور أوجب علينا أن نحسن التصرف في حرية إرادتنا هذه . وحسن التصرف في حرية الإرادة إنما يكون بأن نريد الله ، ولا نريد سواه ، فان نحن قمنا بذلك عن يقين مكتمل .. فكرا ، وقولا ، وعملا، فإنه يمدنا بمزيد من حرية الإرادة ، وإن نحن أسأنا التصرف في حرية الإرادة ، فأردنا سواه ، صادر حريتنا بما يعلمنا كيف نحسن التصرف في مستأنف أمرنا ، وحسن تصرفنا منه منة ، وسوء تصرفنا منه حكمة ، وهدف الحكمة أن يستعد المكان لتلقي المنة ، وكل ذلك إنما يجري في لطف تأت ، لا ينزعج معه لنا خاطر ، ولا يمحى معه لنا وجـود .
    ونحن لا نختار أنفسنا عن الله إلا لجهلنا ، وليس الجهل ضربة لازب علينا ، وإنما نحن نخرج عنه إلى العلم كل لحظة . فإن قلت فلماذا لم نخلق علماء ، فنكفى بذلك شر الجهل ، وسوء التصرف في الحرية ، وما يترتب على سوء التصرف من عقوبة ؟. قلنا إن العقوبة هي ثمن الحرية ، لأن الحرية مسئولية ، والمسئولية التزام شخصي في تحمل نتيجة العمل ، بين الخطأ والصواب . ولقد خلق الله خلقا علماء لا يخطئون ، ولكنهم ليسوا أحراراً ، ولقد نتج عن عدم حريتهم نقص كمالهم ... أولئك هـم الملائكة ، فإن الله فضل عليهم البشر ، وذلك لمكان خطئهم وصوابهم ، أو قل لمكان طاقتهم على التعلم بعد جهل ، وإلى ذلك الإشارة بحديث المعصوم (( إن لم تخطئوا وتستغفروا فسيأت الله بقوم يخطئون ويستغفرون فيغفر لهم )) فكأن الخطائين المستغفرين هم موضع نظر الله من الوجود ، لأنهم بذلك سيصيرون إلى الحرية ، والحرية المطلقة ، وهي حظ الله العظيم .. وكل مقيد مصيره إلى الحرية ، والحرية المطلقة في ذلك، وكل جاهل مصيره إلى العلم ، والعلم المطلق في ذلك أيضا . والله تبارك وتعالى يقول (( يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه )) ويقول (( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ، وأنكم إلينا لا ترجعون ؟ )) وملاقاة الله ، والرجوع إليه ، لا يكون بقطع المسافات ، وإنما يكون بتقريب الصفات ، من الصفات . ومن أجل ذلك قررنا أن التسيير خير مطلق ، وهو في حقيقة أمره خير ، في الحال ، وخير ، في المآل .
    وسيجئ وقت ينتهي فيـه الجهـل بفضـل الله في التسييـر ، وإلى ذلك أشار المعصوم حين قال (( لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، ولعلمتم العلم الذي لا جهل بعده ، وما علم ذلك أحد !! قالوا ولا أنت ؟ قال ولا أنا !! )) قالوا ما كنا نظن الأنبياء تقصر عن شئ !! قال (( إن الله أجل وأعظم من أن ينال ما عنده أحد !! )) وكلما قل الجهل ، وزاد العلم، قل الشر ، ورفعت العقوبة ، عن المعاقبين ، في تلك المنطقة التي وقعت تحت علمهم .
    فالعقاب ليس أصلا في الدين ، وإنما هو لازمة مرحلية ، تصحب النشأة القاصرة ، وتحفزها في مراقي التقدم ، حتى تتعلم ما يغنيها عن الحاجة إلى العقاب ، فيوضـع عنها إصـره ، وتبـرز نفـس إلى مقام عـزها .
    وما من نفس إلا خارجة من العذاب في النار ، وداخلة الجنة ، حين تستوفي كتابها في النار ، وقـد يطـول هـذا الكتاب ، وقد يقصـر، حسب حاجـة كل نفس إلى التجربة ، ولكن ، لكل قـدر أجل ، وكل أجـل إلى نفـاد .
    والخطـأ ، كل الخطـأ ، ظـن من ظـن أن العقاب في النار لا ينتهي إطلاقا ، فجعل بذلك الشر أصلا من أصول الوجود ، وما هو بذاك . وحين يصبح العقاب سرمديا يصبح انتقام نفس حاقدة ، لا مكان فيها للحكمة ، وعن ذلك تعالى الله علـوا كبيرا .
                  

01-22-2014, 06:31 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    القضاء والقدر

    هناك ما يسمى سر القدر ، وهو الطرف الرفيع من القضاء ، ولقد وردت الإشارة إليه في قوله تعالى (( إنا كل شئ خلقناه بقدر * وما أمرنا الا واحدة كلمح بالبصر )) فالقضاء هو هذا الأمر الواحد الذي خرج عن الزمان والمكان ، كما تفيد عبارة (( كلمح بالبصر )) والقدر هو تنفيذ القضاء ، وإبرازه في حيز الزمان والمكان ، على مكث ، وتلبث ، وتطوير.
    والقضاء والقدر وردت الإشارة اليهما أيضا في آية أخرى ، وهي قوله تعالى (( يمحو الله ما يشاء، ويثبت ، وعنده أم الكتاب )) فقوله تعالى (( يمحو الله ما يشاء، ويثبت )) إشارة إلى القدر ، وهي في ذلك إشارة إلى التطور ، بتعاقب صور الكائنات ، فقد أسلفنا الإشارة إلى أن الحياة تتقلب في الصور ، ابتغاء أن تكون ثابتة في الصور كما هي ثابتة في الجوهر ، وهيهات !!.. وقوله (( وعنده أم الكتاب )) يعني القضاء ، يعني سر القدر.
    واليهما أيضا الإشارة بقوله تعالى (( وإن من شئ إلا عندنا خزائنه ، وما ننزله إلا بقدر معلوم )) فقوله (( وما ننزله إلا بقدر معلوم )) تعني القدر ، وقوله (( وإن من شئ إلا عندنا خزائنه )) تعني القضاء ، تعني سر القدر أيضا.
    فالقدر منطقة ثنائية ، حيث الخير والشر ، والعلم والجهل ، ولكن القضاء منطقة وحدة ، حيث يختفي الشر ، ولا يبقى إلا الخير المطلق ، عند الله، حيث لا عند . وهذا ما يسمى عند أصحابنا بسر القدر ، وهو أمر لم يكن عندهم مما يصح البوح به ، وذلك مراعاة لحكم الوقت ، وتأدبا بأدبه .
    وهناك سابقتان لكل مخلوق : سابقة في القضاء ، وسابقة في القدر .. فأما السابقة في القضاء فهي خير مطلق لكل الخلائق ، وأما السابقة في القدر فهي : إما خير ، وإما شر ، وأمرها مغطى على الناس ، وقد تدل ، على هذه السابقة ، اللاحقة ، وهي ما يكون عليه الإنسان في حياتـه اليومية من صلاح أو طلاح ، وأمر اللاحقة غير مغطى على أصحاب البصائر ، الذين يعرفون عيوب العمل بالشريعة ، وإرسال الله الرسل ، لكشف اللاحقة ، بتفصيل الشريعة ، وتغطيته تعالى السابقة في سر لوحه المحفوظ ، ألزم عباده الحجة ، وأوجب عليهم العمل بأوامر الشريعة ، ونواهيها ، (( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )) ولقد قال ، جل من قائل ، في ذلك (( وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ، ما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يخرصون )) .. ما لهم بمشيئة الرحمن من علم ، لأنها مغطية عنهم ، وإنما لهم علم بشريعة الرحمن ، وقد أمرتهم ألا يعبدوا إلا إياه ، وقوله (( إن هم إلا يخرصون )) تعني إلا يكذبون ، وذلك لأنهم لا يردون الأمور كلها لله ، في أمور معاشهم ، وفي كسب أرزاقهم ، وما ردوها إليه في أمر عبادتهم إلا لقلة يقينهم بالآخرة ، إذا ما قيست إلى الدنيا .
    وحين تطلع النفس على سر القدر ، وتستيقن أن الله خير محض ، تسكن إليه ، وترضى به ، وتستسلم وتنقاد ، فتتحرر عندئذ من الخوف ، وتحقق السلام مع نفسها ، ومع الأحياء والأشياء ، وتنقي خاطرها من الشر ، وتعصم لسانها من الهجر ، وتقبض يدها عن الفتك ، ثم هي لا تلبث أن تحرز وحدة ذاتها ، فتصير خيرا محضا ، تنشر حلاوة الشمائل في غير تكلف ، كما يتضوع الشذا من الزهرة المعطار.
    ههنا يسجد القلب ، وإلى الأبد ، بوصيد أول منازل العبودية . فيومئذ لا يكون العبد مسيرا ، وإنما هو مخير . ذلك بأن التسيير قد بلغ به منازل التشريف ، فأسلمه إلى حرية الاختيار ، فهو قد أطاع الله حتى أطاعه الله ، معاوضة لفعله .. فيكون حيا حياة الله ، وعالما علم الله ، ومريدا إرادة الله ، وقادرا قدرة الله ، ويكون الله .
    وليس لله تعالى صورة فيكونها ، ولا نهاية فيبلغها ، وإنما يصبح حظه من ذلك أن يكون مستمر التكوين ، وذلك بتجديد حياة شعوره وحياة فكره ، في كل لحظة ، تخلقا بقوله تعالى عن نفسه ، (( كل يوم هـو في شأن )) والى ذلك تهدف العبادة ، وقد أوجزها المعصوم في وصيته حين قال (( تخلقوا بأخلاق الله ، إن ربي على سراط مستقيم )) وقد قال تعالى (( كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون )) .
    وفي حق هؤلاء قال تعالى (( لهم ما يشاءون عند ربهم ، ذلك جزاء المحسنين )) فقوله تعالى (( لهم ما يشاءون )) يعني هم مخيرون وقوله (( عند ربهم )) يعني مقام العبودية ، لأنه لا يكون عند الرب إلا العبد ، وقوله (( ذلك جزاء المحسنين )) يعني بالمحسنين من أحسنوا التصرف في الحرية الفردية المطلقة ، وذلك باستعمالها في تحقيق العبودية لله ، فإنه تعالى قد قال (( وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون )) .
    ههنا منطقة فرديات ، والشرائع فيها شرائع فردية ، والداعية فيها إلى الله، الله نفسه .. يقوم فيها العبد في مواجهة الرب ، وقد سقطت من بينهما الوسائط ، ورفعت الحجب - حجب الظلمات وحجب الأنوار- العبادة فيها عبودية ، والعمل فيها ملاحظة السابقة ، وضبط اللاحقة عليها ، حتى يستقيم الوزن بالقسط، إذ محاولة العبد هنا أن يكون لربه كما هو له ، وهذا معنى أمر الرب سبحانه حين قال (( وأقيموا الـوزن بالقسط ولا تخسـروا الميزان )) فإذا كان حضور العبد مع الرب كحضور الرب مع العبد ، تماما ، فقد أقيم الوزن بالقسط .. وهيهات !! ولا بأس هنا من استطراد بسيط إلى القيمة العملية من العبادة ، ذلك بأن قيام العبد في مواجهة الرب ، وقد سقطت من بينهما الوسائط، تعني اللقاء بين الحادث والقديم ، وقد رفعت من بينهما الحجب ، والحادث هنا العقل والقديم القلب ، وهو ما يعبر عنه أيضا بالعقل الباطن . وهذه الحجب هي جثث الرغبات المكبوتة على سطح العقل الباطن ، بفعل الخوف الموروث ، في سحيق الآماد، من لدن النشأة البشرية الأولى ، وهي (( الرين )) الذي وردت الإشارة إليه في قوله تعالى (( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )) .
    ولا يمكن أن يبلغ الفـرد الحرية الفردية المطلقة وهو منقسم على نفسه ، وبعضه حرب على بعض . بل لا بد له من اعادة الوحدة إلى بنيته ، حتى يكون في سلام مع نفسه ، قبل أن يحاول أن يكون في سلام مع الآخرين ، فإن فاقد الشئ لا يعطيه . وهو إنما يكون في سلام مع نفسه حين لا يكون العقل الواعي في تضاد، وتعارض مع العقل الباطن ، ويومئذ تتحقق سلامة القلب ، وصفاء الفكر . وبعبارة أخرى ، تتحقق حياة الفكر ، وحياة الشعور ، وتلك هي الحياة العليا .. وتوحيد القوى المودعة في البنية إنما يتم بأن يفكر الإنسان كما يريد ، ويقول كما يفكر ، ويعمل كما يقول ، وهذا هو مطلب القرآن إلينا جميعا ، حين قال ، عز من قائل ، (( يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ؟ * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )) .
    وإنما يفض التعارض القائم ، بين العقل الواعي والعقل الباطن عن طريق فهم التعارض القائم بين الفرد والجماعة ، وبين الفرد والكون وقد بينا فضل الإسلام في ذلك ، وهكذا يتضح ان ضرورة فهم علاقة الفرد بالجماعة ، والفرد بالكون ، فهما دقيقا إنما تجئ من الحاجة العملية إلى المنهاج الذي به يتم تحقيق الحرية الفردية المطلقة ، ولا يتم بمنهاج سواه .
    بقي شئ .. وهو أن هنالك خطأ يتورط فيه كثير من المفكرين ، وذلك حين يظنون أن القول بالتسيير فيه سلبية والحق غير ذلك .. ذلك لأن تغطية ما سبق به القدر ، وكشف ما جاءت به الشريعة ، قد أوجبا على الإنسان العمل بأوامر الشريعة ، ونواهيها ، جهد الإتقان ، والإحسان ، ثم الرضا بعد ذلك بما عسى أن يكون مكتوبا عند الله ومقدرا ، وذلك توكلا عليه ، وثقة به - ولقد قال المعصوم (( إن الله كتب الإحسان على كل شئ ، فإذا قتلتـم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحدد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته . )) بل إني لا أعلم إيجابية تبلغ إيجابية من يعمل الواجـب المباشـر جهد الإتقان (( لأن الله قد كتب الإحسان على كل شئ )) ثم يرضى بالنتيجة مهما كانت من غير أن تذهب نفسه حسرات عند الخيبة ، أو يستخفه الفرح عند النجاح ، والله تبارك وتعالى يربينا ، في ذلك ويؤدبنا ، بقوله جل من قائل (( ما أصاب من مصيبة ، في الأرض ، ولا في أنفسكم ، إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ، إن ذلك على الله يسير * لكيـلا تأسـوا على ما فاتـكم ، ولا تفرحـوا بما آتـاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور . ))
                  

01-22-2014, 06:31 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    الخلاصة

    وخلاصة الأمر في علاقة الفرد بالكون هي أن موضعه منه ليس موضع اللدد والخصومة ، ولا موضع المناجزة والمصاولة التي لا تهدأ حتى تبدأ من جديد ، في صعيد جديد .
    إن الإنسان هو ثمرة الكون ، وصفوته ، وهو فيه ملك في مملكته ، مكانه منها مكان السياسة الحكيمة ، والإدارة القديرة والعدل الموزون . وقد تأذن رب الكون أن يجعل الإنسان خليفته عليه ، فهو يعده لهذه الخلافة بالتربية والتعليم والإرشاد الحكيم . وقد خيل الجهل للإنسان أنه مقصود بالعداوة ، في غير رحمة ولا هوادة ، فأصبح يحارب في غير محترب ، ويعادي في غير موجب للعداوة ، وهو لن يبلغ مبلغ الخلافة إلا إذا شب عن العداوات ، وعلم أنه أكبر من أن يعادى ، ولم يصبح في قلبه مكان إلا للمحبة .. فإن الله يحب جميع الخلائق .. غازها ، وسائلها ، وحجرها ، ومدرها ، ونباتها ، وحيوانها ، وإنسانها ، وملكها ، وإبليسها .. فانه تبارك وتعالى إنما خلق الخلائق بالإرادة .. والإرادة (( ريدة )) وهي المحبة .. ولن يكون الإنسان خليفة الله على خليقته إلا إذا اتسع قلبه للحب المطلق لكل صورها وألوانها ، وكان تصرفه فيها تصرف الحكيم ، الذي يصلح ولا يفسد . ولا يعوق الحب في القلوب مثل الخوف . فالخوف هو الأب الشرعي لكل الآفات التي إيف بها السلوك البشري في جميع عصور التاريخ .. ولا يصلح الإنسان للخلافة على الأرض ، ولا للتصرف السليم في مملكته وهو خائف .. وليس هناك أسلوب ، ولا نهج للتربية يحرره من الخوف غير الإسلام .. فان بالإسلام يتم سلام الإنسان مع نفسه ، ومع ربه ، ومع جميع الأحياء ، والأشياء .. قال تعالى (( يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين )) السلم يعني الإسلام ، ويعني السلام .. وهما بمعنى واحد (( ولا تتبعوا خطوات الشيطان )) فيغري بينكم العداوة ، والبغضاء .. والإشارة إلى العداوة وردت في قوله تعالى (( إنه لكم عدو مبين )) ..
                  

01-22-2014, 06:38 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    لإســــلام

    لقد تحدثنا عن الفرد والجماعة في التفكير الفلسفي ، وعن الفرد والكون في التفكير الفلسفي أيضا ، وأعقبنا ذلك بالحديث عن الفرد والجماعة في الإسلام ، والفرد والكون في الإسلام ، ننتجع في الإسلام من الحلول ما أعيانا ابتغاؤه في الفلسفة ، وقد أظفرنا الله من ذلك بما نريد ، فوجب أن نعرف الأرض التي نقف عليها !!

    فما هو الإسلام؟

    أسلم : إنقاد واستسلم . والإسلام ، في الحقيقة ، الإنقياد والإستسلام . ونعني بالحقيقة ما فطرت عليه الأشياء . والله تبارك وتعالى يعني هذا حين قال : (( أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السموات والأرض ، طوعا وكرها ، وإليه يرجعون ؟ )) والدين يعني هنا الشأن ، والسيرة ، والسنة . ودين الله يعني سنة الله في خلقه ، وهي ما فطرت عليه الأشياء . ولقد فطرت الأشياء منقادة لله ، (( وله أسلم من في السموات والأرض ، طوعا وكرها ، وإليه يرجعون )) والإسلام ، بهذا المعنى هو دين الخلائق جميعها ، في البداية ، وفي النهاية ، وفيما بين البداية والنهاية . ولا يستثنى من ذلك الإنسان . بيد أن الرحمة الإلهية لم ترض للخلائق الإنقياد بغـير إرادة ، فمدت ، بدقائق لطفها ، لطليعتها ، وهو الإنسان ، أن يتوهم أنه يختلف عن بقية المخلوقات ، وهذا الوهم هو مصدر شقائه في الحال ، وهو مصدر سعادته في المآل ، وإنما دخل عليه هذا الوهم بما أدخل الله عليه من إرادة الحرية ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : (( إنا عرضنا الأمانة على السموات ، والأرض ، والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا )) و(( كان ظلوما جهولا )) مدح في قالب ذم . فإنه من أجل هذه الأمانة جاءت الكرامة لبني الإنسان ، والله تبارك وتعالى يقول (( ولقد كرمنا بني آدم ، وحملناهم في البر والبحر ، ورزقناهم من الطيبات ، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا . )) ..
    وعن توهم الإنسان الشذوذ عن بقية الخلائق يحدثنا ، تبارك وتعالى ، فيقول (( ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض ، والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب ، وكثير من الناس ، وكثير حق عليه العذاب ، ومن يهـن الله فما له من مكـرم ، إن الله يفعـل ما يشاء ؟ )) ولكلمة (( يسجد )) معان كثيرة ، منها مطاوعة القهر الإرادي . وهذه المطاوعة جارية من الإنسان ، كما هي جارية من العناصر الصماء . ومنها سجود العبادة ، وهو ما عناه حين قال (( وكثير من الناس )) . فإن هؤلاء سجدوا سجود الأجساد في محاريب العبادة ، الأمر الذي لم يقع من بعض الناس ، وإلى هؤلاء الإشارة بقوله تعالى (( وكثير حق عليه العذاب )) . فاستحقاق العذاب ليس لأنهم لم يسجدوا سجود القهر الإرادي ، فإنهم قد سجدوا هذا ، ولكنه لم يقبل منهم ، وإنما أريد منهم سجود العبادة ، فلم يفعلوه ، فحق عليهم العذاب . ومنها سجود العبودية ، وهو ما لم يحصل من أحد ، على تمامه ، ولن يحصل . ذلك بأن العبودية ، كالربوبية ، لا تتناهى ، ولكن طلائع البشرية ، من أنبياء الحقيقة ، حققوا منه حظوظا متفاوتة . وكون سجود العبودية لم يتم لأحد ، ولن يتم ، إنما يلتمس تقريره في صدر الآية التالية ، حيث يقول تعالى (( هذان خصمان اختصموا في ربهم )) فإنها تصح في حق كل عابد ، وهي إشارة إلى انقسام الشخصية البشرية ، إلى ظاهر ، وباطن ، وهي لن تنفك منقسمة ، لأن الثنائية حظها ، ولا تتم العبودية إلا لوتر ، وهيهات !! وسجود العبادة وسيلة إلى سجود العبودية ، إذ به يرفع عن الإنسان الوهم ، فيخرج من سجنه إلى سراحه ، ومن جهله إلى علمه ، ومن شقائه إلى سعادته ، وذلك حين يسجد سجود المطاوعة للقهر الإرادي ، ولكن عن وعي ، وفهم ، وإدراك به يختلف عن العناصر الصماء ، وإلى هذا السجود الرفيع الإشارة اللطيفة في قوله تعالى (( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ، وهو محسن ، واتبع ملة إبراهيم حنيفا ، واتخذ الله إبراهيم خليلا ؟ )) والإشارة اللطيفة هنا هي عبارة (( وهو محسن )) فإنها سر هـذه الآية ، وهي أيضا سر الآية الأخرى التي تقول (( ومن يسلم وجهه إلى الله ، وهو محسن ، فقد استمسك بالعروة الوثقى ، وإلى الله عاقبة الأمور )) وإنما كانت عبارة (( وهو محسن )) سر الآيتين لأن جميع العناصر الصماء مسلمة وجهها لله ولكنها غير محسنة - غير واعية ولا مدركة - فلا عبرة بإسلامها ، لأنها مسلمة في منطقة الإرادة ، ولم تبلغ أن تكون مسلمة في منطقة الرضا ، فذلك حظ البشر وحدهم ، وهو ما من أجله أرسل الله الرسل ، وقد سبقت إلى ذلك الإشارة .
    والإسلام بهذا المعنى دين البشرية ، وغـرضه مجاراة الوهم البشري ، الذي أوحت به إرادة الحرية ، حتى يتم الخروج عنه ، على مكث ، وبحكمة متثبتة ، تكون ثمرتها الإسلام الواعي . والإسلام الذي هو دين البشرية ظهر بظهور العقل ، وظل يواكب نمو العقل في تطوره الطويل ، من بداية ساذجة ضعيفة إلى نهاية حكيمة مستحصدة .
    والإسلام الذي هو دين البشرية ، هـو نفسه الإسلام الذي هو دين الله ، في الآية التي سلف ذكرها ، وهي قوله تعالى، (( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض ، طوعا وكرها ، وإليه يرجعون )) وعن الإسلام الذي هو دين البشرية وردت الآية (( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) وقوله (( وهو في الآخرة من الخاسرين )) يعني أن محاولاته كلها تفشل ، فيرد في أخرياتها إلى الاستسلام بعد أن تعييه الحيلة . وفي نفس المعنى وردت الآية (( إن الدين عند الله الإسلام ، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم ، بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب )) قوله (( عند )) ليس للزمان ، ولا للمكان ، لأن الله لا يحويه الزمان ولا المكان ، وإنما هي لتناهي الكمال . فالإسلام الذي هو دين البشرية ، في قمته ، يسير مصاقبا للإسلام الذي هو دين العناصر ، ويطالب بانقياد كانقيادها ، مع الوعي وتمام الادراك لهذا الانقياد ، وهيهات !!
    قوله (( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم )) يعني ما اختلفوا إلا في الشرائع ، هذا معنى من جملة معان ، وهو يستقيم مع كون الدين في أصله واحدا ، والشرائع متباينة. قال تعالى ((كان الناس أمة واحدة ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه )) كانوا أمة واحدة على الجهل البدائي ، (( وأنزل معهم الكتاب )) تعني (( لا إله إلا الله )) ، والشرائع المناسبة ، لجماعتهم ، ولعبادتهم ، وعندئذ ظهر الخلاف ، فجاء قوله تعالى (( ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه )) ، وفي وحدة الدين يحدثنا القرآن فيقول (( وَللّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً )) فقوله (( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، وإياكم أن اتقوا الله )) يعني أمرناهم ، كما أمرناكم ، أن تقولوا (( لا إله إلا الله )) فإن هـذه هي قمة التقوى ، (( وهي كلمة التقوى )) التي عنى بقوله تعالى (( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية ، حمية الجاهلية ، فأنزل الله سكينته على رسوله ، وعلى المؤمنين ، وألزمهم كلمة التقوى ، وكانوا أحق بها ، وأهلها ، وكان الله بكل شئ عليما )) فكلمة التقوى هي (( لا إله إلا الله )) ومن ههنا جاء حديث المعصوم (( خير ما جئت به أنا والنبيون من قبلي (( لا إله إلا الله )) ..
    وإلى وحدة الدين الإشارة بقوله تعالى (( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، والذي أوحينا إليك ، وما وصينا به إبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، أن أقيموا الدين ، ولا تتفرقوا فيه ، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ، الله يجتبي إليه من يشاء ، ويهدي إليه من ينيب )) قوله (( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا )) يعني بين لكم من الدين ما فرض على نوح وهو أيضا ما فرض على آدم ، وهو حين بينه لكم إنما فرضه عليكم ، وهذا لا يعني الشريعة وإنما يعني التوحيد ، الذي عليه تقوم الشريعة ، بقرينة وحدة التوحيد ، واختلاف الشرائع ، وبقرينة قوله (( أن أقيموا الدين ، ولاتتفرقوا فيه ، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه )) وإنما يكبر على المشركين ، وهم المعددون ، أن يدعوا إلى التوحيد . وهو ما يحصل دائما ، وانعكاس التوحيد في التشريع هو الذي يعرض التشريع للمعارضة ، ذلك لأن النفوس لا حظ لها في التوحيد.
    الإسلام كدين بدأ ظهوره بظهور الفرد البشري الأول ، وقد تحدثنا عن ذلك في الفصل الذي عقدناه عن علاقة الفرد بالمجتمع وهو ، يحاول في قمته أن يصاقب الإرادة الإلهية . وقد تحدثنا عن ذلك في الحديث عن الأمر التكويني والأمر التشريعي ، فهو إذن له بداية ، وليست له نهاية ، لأن نهايته عند الله ، (( إن الدين عند الله الإسلام )) .
    بدأ ظهور هذه الفكرة الواحدة في الوثنيات البدائية المتفرقة ، ثم أخذت تتقلب في مراقي التطور حتى ظهرت الوثنيات المتقدمة ، واطرد بها التقدم حتى ظهرت صور ديانات التوحيد الكتابية ، بظهور اليهودية وظهور النصرانية ، ثم توج ذلك ببعث محمد ، وبإنزال القرآن الكريم . وهذه الفكرة الواحدة ذات شكل هرمي ، قاعدته أحط الوثنيات التعدديات ، وأكثرها تعديدا ، وقمته عند الله ، حيث الوحدة المطلقة ، والاختلاف ، كما هو واضح ، بين القاعدة والقمة اختلاف مقدار ، وليس اختلاف نوع .
    وهذه الفكرة الواحدة نبتت في الأرض ، كما نبتت الحياة بين الماء والطين ، وظلت متجاذبة بين أسباب السماء وأسباب الأرض ، وكلما ألمت بها أسباب السماء رفعت قمتها إلى قمة ، ثم إذا ألمت بها أسباب الأرض أخذت قمتها تتطامن نحو القاعدة ، حتى تطمئن ، فتتسع القاعدة ، وتنحط القمة . واتساع القاعدة هذا ، إنما هو استعداد لارتفاع القمة ، إلى قمة جديدة ، أعلى من سابقتها ، عند إلمامة أسباب السماء المستأنفة . وإلمامة السماء في الأوج نسميها زمن بعثة ، وإلمامة الأرض في الحضيض نسميها زمن فترة . وهكذا ظلت هذه الفكرة الكبيرة تسير في مراقي الاكتمال كما تسير الموجة بين قمة وقاعدة ، وكل قمة أعلى من سابقتها ، وكل قاعدة أوسع من سابقتها ، إلى أن التحقت الأرض بأسباب السماء ، أو كادت . فاستقر وحي السماء إلى الأرض ، بين دفتي المصحف ، على الأرض ، ولكنه لا يزال ينتظر التطبيق .
                  

01-22-2014, 06:39 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    الثالوث الإسلامي

    بمجئ موسى ونزول التوراة على بني إسرائيل دخلت الفكرة الإسلامية في طور جديد ، وهو طور ما يسمى بالأديان الكتابية ، وهي اليهودية والنصرانية ، والإسلام - فالتوراة لليهود ، والإنجيل للنصارى ، والقرآن للمسلمين . وهذا الطور الجديد ، الذي دخلته الفكرة الإسلامية بمبعث موسى ، تميز بالتوسع في التشريع الديني بصورة لم يسبق لها مثيل ، وجميع التشاريع تنسب للرب عن طريق الوحي الملائكي لموسى ، وقد اتجه التشريع الديني ، الموحى به من الرب الواحد ، إلى تنظيم حياة المجتمع ، في كل كبيرة وصغيرة ، وبصورة جماعية واسعة . ولقد تعانقت عقيدة التوحيد مع شريعة التنظيم على هذا المدى الواسع لأول مرة في التاريخ. ثم جاء عيسى بالإنجيل ، ثم اكتمل الثالوث الإسلامي بمبعث خاتم النبيين ، والقرآن يحدثنا عن ذلك فيقول (( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا ، للذين هادوا ، والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله ، وكانوا عليه شهداء ، فلا تخشوا الناس ، واخشوني ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون * وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص ، فمن تصدق به فهو كفارة له ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون * وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم ، مصدقا لما بين يديه من التوراة ، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ، ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وهدى وموعظة للمتقين * وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون * وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ، مصدقا ، لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ، فاحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ، فاستبقوا الخيرات ، إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون )) .
    ولقد بعث موسى في القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، وكان المجتمع بدائيا غليظا ، وكان الفرد شكسا، سئ الخلق ، وكان قريب عهد بقانون الغابة ، فدعته التوراة إلى الإنصاف - إلى المعاملة بالمثل - النفس بالنفس ، والعين بالعين - لتكون شريعته ، وتلطفت فرغبته ، من بعيد ، في العفو . فقالت ، فيما حكاه عنها القرآن ، (( فمن تصدق به فهو كفارة له )) . من تصدق بالقصاص على المعتدي ، فلم يقتص منه ، فإن الله يعوضه من فضله عما أصابه . فذلك قول القرآن ، حين قال : (( فيها هدى ونور )) فإن الهدى الشريعة ، والنور الأخلاق .. والأخلاق هي الطرف الرفيع من الشريعة ، وهي تخرج عن إلزام الشريعة إلى تطوع كل فرد على حدة .
    وإنما طالبت التوراة بالقصاص ، وكادت أن تقتصر عليه ، لأنه أقرب إلى طبيعة النفس البشرية البدائية ، التي مردت على الشكاسة ، والاعتداء ، فلا يرجى منها كثير في باب العدل ، بله العفو . ولقد كان بنو إسرائيل كلما دعوا إلى واضحـة نكصوا عنها . وإنهم لفي عنفوان دينهم ، وموسى بين ظهرانيهم ، ونصرة الله إياهم على عدوهم لا تزال ماثلة ، حين حنوا لعبادة العجل ، وهذا القرآن يقص علينا من أخبارهم (( فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، فقالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه ، وباطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين ؟ )) فسكتوا عن غير اقتناع ولا إيمان ، فلما ذهب موسى لميقات ربه ، وخلف على قومه هارون أخاه ، اتخذوا العجل ، وقالوا هذا إلهكم ، وإله موسى ، فقال تعالى عنهم في ذلك (( أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً ؟ * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى )) ..
    والمشاهد كثيرة في القرآن التي تتحدث عن غلظة اليهود ، وعن كثافتهم ، وكيف أنهم كلما دعوا إلى رفعة أخلدوا إلى الأرض ، وهذا أمر طبيعي في ذلك الطور المتقدم من أطوار النشأة ، وهم ، على ما كانوا عليه ، قد كانوا صفـوة زمانهم .. (( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين )) وإنما هم آل إبراهيم ، وهم أيضا آل عمران .. (( ذرية بعضها من بعض ، والله سميع عليم )).
    ومهما يكن من الأمر، فقد جاءت تشاريع التوراة في طرف البداية ، ولم يتخلص اليهود ، لدى التطبيق ، من الوثنيات التي عاصروها في مصر زمنا طويلا ، مما زادها إيغالا في البدائية .
    ثم جاء المسيح بتشريع يشد الناس إلى طـرف النهاية حتى لكأنه رد فعل ، وهو من غير شك كذلك . وهذا أمر يدركه كل عابد مجود ، فإنك في بداية عبادتك تكون نفسك صماء ، لأن روحك تكون منكدرة بظلماتها ، فإذا ما أخذت بأساليب العبادة النبوية الأحمدية ، فصمت صياما صمديا لثلاثة أيام وليلتين ، أو لسبعة أيام وست ليال ، مع موالاة الصلاة ، وبخاصة صلاة الثلث الأخير من الليل ، فإنك تبدأ تشعر بأن نفسك أخذت تشد إلى الطرف الآخر ، فإذا ثابـرت على موالاة هذا النهج الأحمدي لمدة كافية ، فإن روحك ، بعد أن كانت مطوية تحت جناح نفس كثيفة مظلمة ، تنطلق ، في لطف وخفة ، إلى شاطئ الوادي الأيمن ، وتظل أنت ، كبندول الساعة ، تتأرجح بين أقصى الشمال ، وأقصى اليمين . ويكون مثلك الأعلى أن تثبت في الوسط ، وهيهات ! هيهات! فإن ذلك مقام (( ما زاغ البصر وما طغى)).
    هذا الأمر الذي يجري للفرد العابد المجود ، من بروز ثالوثه ، هو ما حصل للإنسانية المجاهدة ، في هذا الأمد الطويل ، ببروز ثالوثها ، من الأديان الثلاثة .. اليهودية والنصرانية والإسلام .. ذلك بأن تاريخ الفرد البشري يحكي تاريخ المجتمع البشري برمته .. وهذا هو السر في أن المسيح جاء بروحانية مفرطة في مقابل مادية مفرطة (( الأولى من الافراط والثانية من التفريط )) - وجد عليها اليهود . ولقد قال المسيح لتلاميذه (( لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس ، أو الأنبياء .. ما جئت لأنقض بل لأكمل )) وهذا ما أشار إليه القرآن بقوله من الآيات السوالف (( وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم ، مصدقا لما بين يديه من التوراة ، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ، ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وهدى وموعظة للمتقين )) فهو مصدق لما بين يديه من التوراة ، وإنجيله مصـدق لما بين يديه من التوراة ، فهو لا ينقض ، وإنما يكمل ، كما قال ، ومعنى يكمل أنه يطور ، ويمدد المعاني ، التي قصر بها حكم الزمن ، عن بلوغ غاياتها ، إلى غاياتها أو تكاد .
    اسمعه وهو يعلم تلاميذه فيقول : (( سمعتم أنه قيل عين بعين ، وسن بسن ، وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر ، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا )) ولقد بعث المسيح في وقت كانت السلطة الزمنية فيه ، على اليهود ، للرومان ، وكانت الشريعة اليهودية معطلة ، في بعض جوانبها ، من جراء ذلك ، فجاءت دعوة المسيح وكأنها ، من الناحية العملية ، لا تعنى بتنظيـم حياة المجتمع ، وإنما تقـدم وصايا خلقية ، ومد في هـذا المظهـر كـون السيد المسيح لم يعمـر طويلا ، فإنـه لـم يلبث في الدعوة إلا ثلاث سنوات .
    والحق أن تشريع اليهود هو تشريع النصارى، إلا حيث تناوله المسيح بالتطوير، ففي هذه الحالة يصبح تشريع النصارى قد جدد من تشريع اليهود، بالنص الوارد عن المسيح. وهذا الأمر غير مدرك وغير معمول به عند النصارى.
    ((وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور )) وهدى هنا أيضا تعني شريعة ، ونور تعني أخلاق . والإنجيل أدخل في الأخلاق من التوراة ، ولذلك فإنه قد جعل العفو شريعته ، وبها جاء أمر رسوله ، وحين قال المسيح: (( سمعتم أنه قيل عين بعين ، وسن بسن )) فإنه قد جاء بطرف البداية ، وهو طرف التفريط في الروح ، وحين قال (( أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر ، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا )) قد جاء بطرف يشبه النهاية ، وهو طرف الإفراط في الروح .
    ثم جاء الإسلام ، على عهد محمد ، بين طرفي الافراط والتفريط ، فكأنه من (( ثالوث الإسلام )) مقام (( ما زاغ البصر ، وما طغى )) من ثالـوث القـوى المودعة في البنية البشرية ، قال تعالى في هذا (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، لتكونوا شهداء على الناس ، ويكـون الرسول عليكم شهيدا )) .. (( أمة وسطا )) بين الافراط والتفريط ، و (( لتكونوا شهداء على الناس )) يعني لتكون فيكم كل الخصائص التي يلتقي عندها الناس ، وقوله (( أهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين )) فالصراط المستقيم هو الوسط بين الطرفين اللذين يكون في أحدهما غضب الله ، وهو طرف التفريط ، وفي ثانيهما الضلال ، وهو طرف الافراط في الروحانية . ومعنى (( الذين أنعمت عليهم )) المسلمون ، وإلى ذلك الإشارة بقوله (( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا )) ولما كان الإسلام الذي جاء به محمد وسطا بين اليهودية والنصرانية ، فإن القرآن قد جاء في سياقه بالجمع بين خصائص اليهـودية ، وخصائص النصـرانية ، وذلك حيـن يقـول ، مثلا : (( وجزاء سيئة سيئة مثلها ، فمن عفا ، وأصلح فأجره على الله ، إنه لا يحب الظالمين )) فقوله (( جزاء سيئة سيئة مثلها )) يقابل قول التوراة الذي حكاه المسيح حين قال (( عين بعين ، وسن بسن )) وهو لا يحكيه تماما ، وإنما فيه تطوير ، ينفر من القصاص ، ليمهد للعفو ، وذلك بما يسمي عمل المقتص ممن اعتدى عليه (( سيئة )) . وقوله (( فمن عفا ، وأصلح ، فأجره على الله ، إنه لا يحب الظالمين )) يقابل قول الإنجيل الذي حكاه المسيح حين قال (( وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر ، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا )) وهو لا يقابله تماما . فإن قول القرآن أبلغ من عبارة الإنجيل هذه ، في التسامح ، وللمسيح قولة أخرى تقابل (( فمن عفا وأصلح فأجره على الله )) ، وذلك حيث يقول (( أحبوا أعداءكم ، باركوا لاعنيكم ، أحسنوا إلى مبغضيكم ، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم )) ..
    وكون الإسلام وسطا بين طرفين ، طرف البداية وطرف النهاية ، وجامعا لخصائص الطرفين، جعل الإسلام نفسه ذا طرفين : طرف أقرب إلى البداية ، وطرف أقرب إلى النهاية .. وهذا شأن كل وسط بين طرفين ، فهو كالولد يجئ جامعا لخصائص الوالد ، وخصائص الوالدة ، على نسب قد تتفاوت ، ولكنها لا تنعدم .
    فإذا كان هذا الحديث صحيحا ، وهو صحيح ، بلا أدنى ريب ، فإن له أثرا بعيدا في مستقبل الفكر الإسلامي ، ذلك بأنه يعني أن الإسلام ، كما جاء به القرآن ، ليس رسالة واحدة ، وإنما هو رسالتان: رسالة في طرف البداية ، أو هي مما يلي اليهودية ، ورسالة في طرف النهاية ، أو هي مما يلي المسيحـية ، وقد بلغ المعصوم كلتا الرسالتين ، بما بلغ القرآن وبما سار السيرة ، ولكنه فصل الرسالة الأولى بتشريعه تفصيلا ، وأجمل الرسالة الثانية إجمالا ، اللهم إلا ما يكون من أمر التشريع المتداخل بين الرسالة الأولى ، والرسالة الثانية ، فإن ذلك يعتبر تفصيلا في حق الرسالة الثانية أيضا ، ومن ذلك ، بشكل خاص ، تشريع العبادات ، ما خلا الزكاة ذات المقادير .
                  

01-22-2014, 06:40 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    الرسالة الأولى

    الرسالة الأولى هي التي وقع في حقها التبيين بالتشريع وهي رسالة المؤمنين .. والمؤمنون غير المسلمين ، وليس الاختلاف بين المؤمن والمسلم اختلاف نوع ، وإنما هو اختلاف مقدار ، فما كل مؤمن مسلم ، ولكن كل مسلم مؤمن .
    والإسلام بداية ، ونهاية . فكما أن الزمان والمكان لولبيان ، فكذلك الأفكار ، فإنها لولبية ، يسير الصاعد في مراقيها في طريق لولبي ، يرتفع في المراقي كلما يدور على نفسه ، حتى إذا تمت دورة على نقطة البداية ارتفع السالك سمتا فوقها ، وجاءت نهاية تلك الدورة على صورة تشبه البداية ، ولا تشبهها . فكذلك الشأن ، فإن السالك في مراقي الإسلام يسير على معراج لولبي ، ينضم نحو مركزه ، كلما ارتفع نحو قمته ، ويدور على نفسه دورة ، كلما رقى في سبع درجات ، أولها الإسلام ، ثم الإيمان ، ثم الإحسان ، ثم علم اليقين ، ثم عين اليقين ، ثم حق اليقين ، ثم ، في نهاية الدورة ، الإسلام .
    وأمة البعث الأول - أمة الرسالة الأولى - اسمها المؤمنون، لدى الدقة ، وإنما أخذت إسم المسلمين ، الذي ينطلق عليها عادة ، من الإسلام الأول ، وليس ، على التحقيق ، من الإسلام الأخير.
    وأنت حين تقرأ قوله تعالى (( إن الدين عند الله الإسلام )) يجب أن تفهم أن المقصود الإسلام الأخير ، وليس على التحقيق ، الإسلام الأول ، ذلك بأن الإسلام الأول ليست به عبرة ، وإنما كان الإسلام الذي عصم الرقاب من السيف ، وقد حسب في حظيرته رجال أكل النفاق قلوبهم ، وانطوت ضلوعهم على بغض النبي وأصحابه - ثم لم تفر ضلوعهم عن خبئها ، وذلك لأن المعصوم قد قال (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ، عصموا مني دماءهم ، وأموالهم ، إلا بحقها ، وأمرهم إلى الله )) ولقد نشأ الإسلام بين القريتين : مكة والمدينة : بدأ في مكة ، فلما انهـزم فيها هاجر إلى المدينة ، حيث انتصر . وما كان له أن ينتصر في مكة ، ولم ينتصر . (( وتلك الأمثال نضربها للناس ، وما يعقلها إلا العالمون )) .
    ما انتصر الإسلام ، وإنما انتصر الإيمان . ولقد جاء القرآن مقسما بين الإيمان ، والإسلام ، في معنى ما جاء إنزاله مقسما بين مدني ، ومكي . ولكل من المدني والمكي مميزات يرجع السبب فيها إلى كون المدني مرحلة إيمان ، والمكي مرحلة إسلام .
    فكل ما وقع فيه الخطاب بلفظ (( يأيها الذين آمنوا )) فهو مدني ، ما عدا ما كان من أمر سورة الحج ، وكل ما ورد فيه ذكر المنافقين فهو مدني ، وكل ما جاء فيه ذكر الجهاد ، وبيان الجهاد ، فهو مدني ، هذا إلى جملة ضوابط أخرى .
    وأما المكي فمن ضوابطه أن كل سورة ذكرت فيها سجدة فهي مكية ، وكل سورة في أولها حروف التهجي فهي مكية ، سوى سورتي البقرة ، وآل عمران ، فإنهما مدنيتان ، وكل ما وقع فيه الخطاب بلفظ (( يأيها الناس )) أو (( يا بني آدم )) فإنه مكي ، سوى سورة النساء ، وسورة البقرة ، فإنهما مدنيتان وقد استهلت أولاهما بقوله تعالى (( يأيها الناس اتقوا ربكم )) وفي أخراهما (( يأيها الناس اعبدوا ربكم )) والشواذ عن الضوابط ، بين المكي والمدني ، إنما سببها التداخل بين الإيمان والإسلام ، فإنه ، كما ذكرنا ، كل مؤمن مسلم في مرتبة البداية ، وليس مسلما في مرتبة النهاية ، وكل مسلم مؤمن ، ولن ينفك.
    والاختلاف بين المكي والمدني ليس اختلاف مكان النزول ، ولا اختلاف زمن النزول ، وإنما هو اختلاف مستوى المخاطبين . فيأيها الذين آمنوا خاصة بأمة معينة . ويأيها الناس فيها شمول لكل الناس . فإذا اعتبرت قوله تعالى (( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم )) - وقوله تعالى (( إن الله بالناس لرؤوف رحيم )) وأدركت فرقا ، فاعلم أنه الفرق بين المؤمن والمسلم ، وهو مستوى كل من الخطابين. وورد خطاب المنافقين في المدينة ، ولم يرد في مكة ، مع أن زمن النزول في مكة ثلاث عشرة سنة ، وفي المدينة عشر سنوات ، أو يقل ، وذلك لأنه لم يكن بمكة منافقون . وإنما كان الناس إما مؤمنين ، أو مشركين ، وما ذلك إلا لأن العنف لم يكن من أساليب الدعوة بل كانت آيات الاسماح هي صاحبة الوقت يومئذ ، (( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين )) وأخواتها ، وهن كثر .
    وحين تمت الهجرة إلى المدينة ، ونسخت آيات الاسماح ، وانتقل حكم الوقت إلى آية السيف ، ونظائرها ، (( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم ، واحصروهم ، واقعـدوا لهم كل مرصـد ، فإن تابوا ، وأقامـوا الصلاة ، وآتـوا الزكاة فخلـوا سبيـلهم ، إن الله غفور رحيم . )) ودخل الخوف في ميدان الدعوة ، واضطرت نفوس إلى التقية ، أسرت أمرا وأعلنت غيره ، ودخل بذلك النفاق بين الناس .
    وكون ذكر الجهاد ، وبيان الجهاد ، من ضوابط الآيات المدنية ، لا يحتاج إلى تعليل .
    وأما كون المكية من ضوابطها ذكر السجدة ، فذلك لأن السجدة أقرب إلى الإسلام منها إلى الإيمان . وفي حديث المعصوم: (( أقـرب ما يكـون العبـد لربه وهـو ساجد )) وفي القـرآن الكريم (( واسجد واقترب )) وفيه سر عظيم من أسرار السلوك إلى منازل العبودية .
    ومنها أن تفتتح السور بحروف التهجي ، وهذا باب عظيم ، وفيه سر القرآن كله ، والحديث عنه لا يتسع له هذا المقام ، وإنما نكتفي منه بما نحن بصدده من بيان الفرق بين رسالتي الإسلام . وعدد الحروف التي جرى بها الافتتاح أربعة عشر حرفا ، وهي بذلك نصف الحروف الأبجدية . وقد افتتحت بها تسع وعشرون سورة ، على أربع عشرة تشكيلة ، هي :-
    ألم ، المص ، الر ، المر ، كهيعص ، طه ، طسم ، طس ، يس ، ص ، حم ، حم – عسق ، ق ، ن . وكل هذه التشكيلات ورد بعدها ما يفيد أنها القرآن ، وأوضح شئ في ذلك قوله تعالى من سورة البقرة : (( ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين )) ذلك إذا وقفت على (( فيه )) ، أو شئت وقفت على (( لا ريب )) فجاءت الآيتان هكذا : (( ألم * ذلك الكتاب لا ريب ، فيه هدى للمتقين )) وفي كلتيهما فإن الإشارة بذلك إلى (( ألـم )) .
    ومعنى الحرف أنه من كل شئ طرفه ، وشفيره ، وحده ، ومنه (( حرف الجبل )) وهو أعلاه المحدد الرفيع .
    ولقد مرت على حروف التهجي حقب سحيقة وهي تتقلب في صور بدائية جدا ، قبل أن تأخذ شكولها الحاضرة ، ذلك بأن الحاجة إلى الكتابة إنما نشأت مع الحاجة إلى اللغة في وقت واحد ، وتلك حاجة سبقت الحاجة إلى العرف الذي سلفت إشارتنا إليه ، حين قلنا أن المجتمع الأول نشأ حول عرف قيد نزوات الفرد ، وأوجب رعاية حدود معينة ، واجبة الرعاية . فالحاجة إلى وسيلة التفاهم ، ونقل الأفكار ، حاجة أملتها ضرورة المعيشة في مجتمع . ولقد شعر بضرورة الاجتماع جميع أصناف الحيوان ، ولكن الإنسان هو وحده الذي ظفر منه بحاجته ، وذلك لمقدرته على التفاهم عن طريق (( تقليد )) أصوات الأشياء ، والأحياء ، ومحاكاة الحركات ، وقـد ساعده على ذلك إستواء قامته ، ولباقة حركات يديه ورأسه ، وارتقاء أوتار صوته. فإلى ملكة (( التقليد )) التي انفرد بتجويدها الإنسان عن سائر الحيوان ، يرجع الفضل في نشأة اللغة ، ونشأة الكتابة ، وفي اطراد ارتقائهما ، من بدايات بسيطة ، ساذجة ، إلى أدوات شارفت الاتقان في عصرنا الحاضر . بل إنه إلى هذه الملكة التي وهبها الله الإنسان ، يرجع الفضل في التعليم والإتقان . فإنه ، من أجل تجويد التقليد ، لا بد من استيعاب الأشياء المراد تقليدها استيعابا عقليا كاملا ، ثم لا بد من التناسق بين أدوات التقليد وبيـن العقل ، سواء كانت أدوات التقليد اليدين ، أو الرأس ، أو الوجه ، أو العينين . وإلى هذا المجهود المبذول في تناسق حركات التقليد يرجع الفضل في توحيد العقل والجسد . وهو توحيد لم يكتمل بعد ولا يزال يطرد .
    ومع أن الحاجة إلى الكتابة ظهرت في نفس الوقت مع الحاجة إلى اللغة إلا أنها لم تكن في مستوى واحد من الإلحاح ، ومن الضرورة . ولقد أغنت الإشارة عنها إلى ردح طويل . ولقد بدأت الكتابة برسم الأشياء ، والحيوان المراد التعبير عنها ، أو ربما برسم حادثة برمتها يراد نقلها إلى أحد لم يكن شاهدها . ولقد كان رسم صورة الحيوان من مراسيم الصيد ، وهي مراسيم تتصل بالعقيدة والعبادة ، فكأن الصياد كان يعتقد أنه يحرز الحيوان في الصيد ، حين يحرز صورته في كهفه الذي يقيم فيه . وذلك للصلة التي اعتقدها بين الصورة والروح .
    ثم تطور الفهم فأصبح الفنان يجتزئ برسم جزء معين للحيوان للتعبير عن سائره ، كأن يرسم رأس الثور فقط بدلا من رسمه كله . ثم اطرد التطور في تبسيط صور الأشياء والأحياء حتى جاءت الحروف الأبجدية الحاضرة ، في سحيق الآماد ، وبعد تطور بطئ ، طويل .
    وعدد حروف التهجي يختلف في اللغات المختلفة ، وهو في لغتنا ثمانية وعشرون حرفا ، أولها الألف وآخرها الغين ، وهي في ذلك أكمل اللغات .
    وإذ دفعت الضرورة إلى اللغة ، دفعت أيضا إلى الحساب ، وقد نشأ الحساب نشأة ساذجة ، وبدائية أيضا ، وأعان عليه ، وبعثه في الذهن ، أصابع اليدين والقدمين ، فإنها ظاهرة تبعث على التأمل ، والتعجب ، ولقد كان العدد ، ولا يزال ، يمارس على أصابع اليدين ، وهذا من الأسباب التي جعلت العشرة تتخذ أساسا للعد . ولم تظهر الأرقام التي نعرفها الآن إلا بعد زمن طويل من التطور من الصور البدائية للأعداد . ولقرينة الرمز ، والإشارة ونقل العبارة ، التي تربط بين اللغة والحساب استعملت أحرف الهجاء بدلا من الأرقام منذ زمن متقادم ، كما هو معروف في الأرقام الرومانية ، وهم قد كانوا مسبوقين إلى ذلك باليونانيين . ولقد سرى هذا الاستعمال إلى اللغة العربية ، فجعلت الأحرف التسعة الأولى لتنوب عن الآحاد التسعة ، والحرف العاشر وما بعده يدل على العقود ، إلى الحرف الثامن عشر ، ومن الحرف التاسع عشر وإلى الثامن والعشرين تدل على المئات ، فأصبح بذلك الرقم المقابل لنهاية الأبجدية الألف ، وهذا هو الذي جعلنا نقول أن اللغة العربية أكمل اللغات ، وذلك لما للرقم (( ألف )) من قيمة روحية (( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون )) أو حين يقول (( إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر )) وهي تعني ألف عام. وحين يقول (( من الله ذي المعارج * تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة )). والقرآن كله ذو شكل هرمي .. له قاعدة ، وله قمة ، وهو يتفاوت بين القاعدة والقمة في معان تدق كلما ارتقت نحو القمة . فهو تفاوت بين حسن وأحسن . وفي قمة القرآن الحروف الهجائية التي افتتحت بها السور ، وهذه الحروف، في ذاتها، ذات شكل هرمي أيضا ، يتفاوت بين قاعدة وقمة . فالحروف على ثلاث درجات :
    الحروف الرقمية ، والحروف الصوتية ، والحروف الفكرية . فالحروف الرقمية هي الثمانية والعشرون المعروفة ، ومنها يتألف الكلام الظاهر: والحروف الصوتية لا حصر لها ، وهي ، المسموع منها ، وغير المسموع بالحاسة ، تؤلف الخواطر التي تجيش في العقل الواعي . وأما الحروف الفكرية فهي ملكوت كل شئ ، وهي كلمات الله التي قال عنها ، جل من قائل (( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثله مددا )) . ومن هذه الحروف الفكرية تتكون الخواطر المستكنة في العقل الباطن ، وفي سويدائه الحقيقة الأزلية ، وعلى حواشيه الدين . وإلى الحروف الرقمية ، والحروف الصوتية ، والحروف الفكرية ، الإشارة بقوله تعالى (( وإن تجهر بالقول ، فإنه يعلم السر ، وأخفى )) فالقول المجهور به يقابل الحروف الرقمية ، والسر يقابل الحروف الصوتية ، وأما الحروف الفكرية فيقابلها (( سر السر )) وهو المعبر عنه بكلمة (( وأخفى )) ومن هذه الحروف الفكرية ما لا يسمع الا بالحاسة السابعة .
    وإلى هذه المراتب الثلاث أيضا الإشارة بقوله تعالى (( وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا )) وهي آية في الجهر ، وفي السر ، أي في القول باللسان وفي الخواطر ، وأما سر السر فإن فيه قوله تعالى (( وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما )) . والظلم هنا الشرك الخفي ، وهو الكبت الذي به انقسمت الشخصية البشرية إلى عقل واع ، وعقل باطن ، بينهما تضاد وتعارض .
    ولقد تحدثنا عن الكبت فيما سلف من هذا الكتاب ، وقلنا أنه بفعل الخوف . وقلنا أن الحرية الفردية المطلقة تتطلب الحرية من الخوف ، ومن أجل الحرية من الخوف ، على إطلاقه ، وجب تنظيم المجتمع على صورة تؤمن الفرد من الخوف على الرزق ، والخوف من تسلط الحاكم ، والخوف من تعنت الرأي العام. ثم وجب إعطاء الفرد فكرة متكاملة عن علاقته بالبيئة ، وعن حقيقة البيئة التي عاش فيها أسلافه ، والتي لا يزال يعيش فيها هو ، حتى يستطيع أن يتحرر من العقد النفسية التي ترسبت في عقله الباطن ، وورثها صاغرا عن كابر ، في سحيق الآماد .
    ولقد تحدثنا عن أسلوب القرآن العكسي ، في تعليم الانسان ، والطردي ، وذلك على غرار الآية الكريمة (( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟ )) . وقلنا أن هذا يعني في السلوك أن السالك يجاهد في ترك مخالفات الأعمال ، وإن سمح للنفس في تلك المرحلة بمخالفات اللسان ، كتدريج لها ، فإن هو استقامت له المجاهدة في هذه المرتبة ، زحف إلى ترك مخالفات اللسان ، وإن ترك للنفس سعة ، في هذه المرحلة ، في مخالفة الخواطر في العقل الواعي ، بأن سمح بجولان الخواطر الشريرة فيه ، وذلك أيضا تدريج للنفس . ثم إن هو استقامت له المجاهدة ، في هذه المرتبة أيضا ، انتقل الى تحريم جيشان الخواطر في العقل الواعي ، وهكذا الى أن يصل الى تنقية خواطر العقل الباطن ، ويومئذ تتم سلامة القلب ، فيرى في صفوها الله العظيم ، ويبدأ من هناك الاسلوب الطردي في التعليم . ويكون السالك ههنا في سلام مع نفسه ، ومع ربه ، ومع الأحياء ، والأشياء . وهذا هو الإسلام في قمة وهو الذي أمر الله تبارك وتعالى المؤمنين به حين قال (( يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين )) فالسلم هنا هو السلام ، وهو الإسلام في قمة.
                  

01-22-2014, 06:41 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    أمة المؤمنين

    قلنا لقد جاء القرآن مقسما بين الإيمان والإسلام ، كما جاء إنزاله مقسما بين مدني ومكي ، وكان المكي سابقا على المدني ، وبعبارة أخرى ، بدئ بدعوة الناس إلى الإسلام فلما لم يطيقوه ، وظهر ظهورا عمليا قصورهم عن شأوه ، نزل عنه إلى ما يطيقون . والظهور العملي حجة قاطعة على الناس ، وهو المعني بقوله تعالى ، (( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم ، والصابرين ، ونبلو أخباركم .)) حتى نعلم علم تجربة لكم ، وإلا فإن علم الله غير حادث ، و (( المجاهدين )) يعني الجهاد الاكبر ، وهو مجاهدة النفس ، (( والصابرين )) يعني الصابرين عن الله ، (( ونبلو أخباركم )) يعني نستخرج خواطركم المكبوتة في العقل الباطن - في سر سركم .
    والآيات الدالة على النزول من أوج الإسلام ، الى مرتبة الإيمان كثيـرة ، نذكر منها قوله تعالى (( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) فلما قالوا أينا يستطيع أن يتقي الله حق تقاته ؟ نزل قوله تعالى (( فاتقوا الله ما استطعتم ، واسمعوا ، وأطيعوا ، وأنفقوا خيرا لأنفسكم ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )) .
    ولما نزل قوله تعالى (( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون )) شق على الناس فقالوا : يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه ؟ فقال (( إنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ؟ ( يا بني لا تشرك بالله، إن الشرك لظلم عظيم ) إنما هو الشرك )) فسري عنهم ، لأنهم علموا أنهم لم يشركوا مذ آمنوا .. والحق أن المعصوم فسر لهم الآية في مستوى المؤمن .. وهو يعلم أن تفسيرها في مستوى المسلم فوق طاقتهم ، ذلك بأن (( الظلم )) في الآية يعني الشرك الخفي على نحو ما ورد في آية سر السر (( وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما )) وقد وردت الإشارة إليها .
    ولقد قيل أنه لما نزل قوله تعالى (( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ، أولئك لهم الأمن وهم مهتـدون )) قال النبي (( قيـل لي أنت منهم )) والنبي ليس من المؤمنين ، وانما هـو أول المسلميـن : (( قل ان صلاتي ، ونسكي ، ومحياي ، ومماتي ، لله رب العالمين * لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين )) .
    وقلنا أن أمة الرسالة الأولى هي (( المؤمنون )) . والقرآن ، حين يسمي المسلمين في عهد موسى يهودا أو (( الذين هادوا )) ، ويسمي المسلمين على عهد عيسى (( نصارى )) يسميهم ، على عهد البعث المحمدي الأول ، (( المؤمنين )) أو (( الذين آمنوا )) أسمعه يقول (( إن الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والنصارى ، والصابئين ، من آمن بالله واليوم الآخر ، وعمل صالحا ، فلهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) واسمعه يقول (( إن الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والصابئون ، والنصارى ، من آمن بالله ، واليوم الآخر ، وعمل صالحا ، فلا خوف عليهم ، ولا هم يحزنون )) وهناك آية هي آية في بيان ما نحن بصدده ، وذلك حين يقول (( يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ، ورسوله ، والكتاب الذي نزل على رسوله ، والكتاب الذي أنزل من قبل ، ومن يكفر بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، فقد ضل ضلالا بعيدا )) فهو يسميهم (( الذين آمنوا )) ثم يندبهم الى الإيمان .
    إن كل من له بصر بالمعاني إذا قرأ قوله تعالى (( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) ثم قوله تعالى (( فاتقوا الله ما استطعتم ، واسمعوا ، وأطيعوا ، وأنفقوا خيرا لأنفسكم ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )) علم أن هناك معنيين : معنى أصليا ومعنى فرعيا ، وإنما المراد ، في المكان الأول ، المعنى الأصلي ، وإذ أملت الضرورة تأجيله ، انتقل العمل الى المعنى الفرعي ، ريثما يتم التحول ، من الفرع إلى الأصل ، بتهيؤ الظرف المناسب لذلك . والظرف المناسب هو الزمن الذي ينضج فيه الاستعداد البشري ، الفردي والجماعي ، وتتسع الطاقة . وإلى نقص الاستعداد هذا يرجع السبب في تأجيل أصول الدين والعمل بالفروع .. وإليك بيان ذلك :-
                  

01-22-2014, 06:42 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    الجهاد ليس أصلا في الإسلام

    الأصل في الإسلام أن كل انسان حر ، الى أن يظهر ، عمليا ، عجزه عن التزام واجب الحرية ، ذلك بأن الحرية حق طبيعي ، يقابله واجب واجب الأداء ، وهو حسن التصرف في الحرية ، فإذا ظهر عجز الحر عن التزام واجب الحرية صودرت حريته ، عندئذ، بقانون دستوري ، والقانون الدستوري ، كما سلفت إلى ذلك الإشارة ، هو القانون الذي يوفق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة ، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة ، وقد قررنا آنفا أن ذلك هو قانون المعاوضة .
    هذا الأصل هو أصل الأصول ، وللوفاء به بدئت الدعوة إلى الإسلام بآيات الاسماح ، وذلك في مكة ، حيث نزلت (( ادع الى سبيل ربك بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين )) وأخواتها ، وهن كثيرات ، وقد ظل أمر الدعوة على ذلك ثلاث عشرة سنة ، نزل أثناءها كثير من القرآن المعجز ، وتخرج أثناءها من المدرسة الجديدة ، كثير من النماذج الصالحة ، من الرجال والنساء والصبيان . وكان المسلمون الأولون يكفون أذاهم عن المشركين ، ويحتملون الأذى ، ويضحون ، في صدق ومروءة ، في سبيل نشر الدين ، بكل أطايب العيش ، لا يضعفون ولا يستكينون .. يبينون بالقول البليغ ، وبالنموذج الصادق ، واجب الناس ، في هذه الحياة ، نحو ربهم ، بإخلاص عبادته ، ونحو بعضهم ، بصلة الرحم ، وإصلاح ذات البين .
    والله سبحانه وتعالى يقول (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) ولقد أعطانا من نعم العقل ، والجسد ، وأطايب العيش ، ما يمكننـا من عبادته وعرفان فضله . ويقول (( إن الله يأمر بالعدل ، والاحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء ، والمنكر ، والبغي ، يعظكم لعلكم تذكرون )) ويقول (( ولا تقتلوا أولادكم من املاق ، نحن نرزقكم وإياهم ، ولا تقربوا الفواحش ، ما ظهر منها وما بطن ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ذلكم وصاكم به ، لعلكم تعقلون )).. كل ذلك جاء به القرآن في الدين الجديد ، وبلغه النبي وأصحابه ، بالقول ، وبالسيرة ، وفيه لأمر الناس صلاح وفلاح ، فإذا أصر الناس، بعد ذلك ، على عبادة الحجر الذي ينحتون ، وعلى قطع الرحم ، وقتل النفس ، ووأد البنت ، فقد أساءوا التصرف في حريتهم ، وعرضوها للمصادرة ، ولم يكن هناك قانون لمصادرتها ، فلم يبق إلا السيف ، وكذلك صودرت . وبعد أن كان العمل بقوله تعالى (( فذكر انما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر )) انتقل الى قوله تعالى (( الا من تولى وكفر * فيعذبه الله العذاب الأكبر )) فكأنه قال أما من تولى وكفر فقد جعلنا لك عليه السيطرة ، فيعذبه الله بيدك العذاب الأصغر بالقتال ، ثم يعذبه العذاب الأكبر بالنار. (( إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم )) واعتبرت الآيتان السابقتان منسوختين بالآيتين التاليتين ، وكذلك نسخت جميع آيات الاسماح ، وهن الأصل ، بآية السيف وأخواتها ، وهن فرع أملته الملابسة الزمانية ، وقصور الطاقة البشرية ، يومئذ ، عن النهوض بواجب الحرية . ومن ههنا جاء حديث المعصوم حين قال (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله . فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحقها ، وأمرهم الى الله )) .
    وقد ظن بعض علماء المسلمين أن حروب الإسلام لم تكن إلا دفاعية ، وهذا خطأ قادهم اليه حرصهم على دفع فرية بعض المستشرقين الذين زعموا أن الإسلام إنما استعمل السيف لينتشر . والحق أن السيف إنما استعمل لمصادرة حرية أسئ استعمالها ، وقد تلبث بذلك ثلاثة عشر عاما يدعو الى واضحة من أمر الفرد ، وأمر الجماعة ، فلما لم ينهضوا بأعباء حريتهم ، ولما لم يحسنوا التصرف فيها ، نزع من أيديهم قيامهم بأمر أنفسهم ، وجعل النبي وصيا عليهم ، حتى يبلغوا سن الرشد . فإذا دخلوا في الدين الجديد ، فحرموا من دمائهم وأموالهم ما حرم ، ووصلوا من رحمهم ما أمر به أن يوصل ، رفع عنهم السيف ، وجعلت مصادرة حرية المسئ إلى القانون الجديد ، وكذلك جاء التشريع الإسلامي ، ونشأت الحكومة الجديدة .
    وكل ما يقال عن تبرير استعمال الإسلام للسيف هو أنه لم يستعمله كمدية الجزار ، وإنما استعمله كمبضع الطبيب . وكانت عنده الحكمة الكافية ، والرحمة الكافية ، والمعرفة الكافية ، التي تجعله طبيبا لأدواء القلوب . ولقد قال تعالى في ذلك (( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب ، والميزان ، ليقوم الناس بالقسط ، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ، ومنافع للناس ، وليـعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ، إن الله قوي عزيز )) قوله (( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات )) يعني بالدلائل القواطع على صدق دعواهم ، (( وأنزلنا معهم الكتاب)) يعني (( لا إله إلا الله )) و (( الميزان )) يعني الشريعة لوزن ما بين العبد والرب ، وما بين العبد والعبد ، و (( ليقوم الناس بالقسط )) يعني ليعدلوا في المعاملة ، وقوله (( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ، ومنافع للناس )) يعني وشرعنا القتال بالسيف في مصادرة حرية من لا يحسن التصرف في الحرية ، حتى يرده بأس السيف إلى صوابه ، فيـحرز يومئذ حريته ، وينتـفع بحياته .. هذا بالطبع إلى ما للحديد من منافع أخرى لا تحتاج منا الى إشارة . وقوله (( وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب )) يعلم علم تجربة لكم ، لأن القتال كره للنفوس .. ليعلم من يحتمل مكروه الحرب في سبيل الله لنصرة المستضعفين ، بإقامة القسط بين كل فرد وبين نفسه ، وبينه وبين الآخرين ، وقـوله (( إن الله قوي عزيز )) يعني بالقوي الذي لا يحتاج لنصرة ناصر ، و (( عزيز )) يعني لا ينال ما عنده إلا به ، وما عنده في هذا المقام هو النصر ، فكأنه يشير إشارة لطيفة إلى قوله تعالى (( إن تنصروا الله ينصركم ، ويثبت أقدامكم )) إن تنصروا الله بنصرة أنبيائه لإقامة القسط ، ينصركم الله على أنفسكم ، وهذا يعني ، بعبارة أخرى ، إن تنصروا الله في الجهاد الأصغر ، ينصركم في الجهاد الأكبر ، حيث لا قوة لكم إلا به ، ولا ناصر لكم إلا هو . (( ويثبت أقدامكم )) يعني يطمئن قلوبكم . وتثبيت الأقدام الحسية غير مجحود في مقام النصرة .
    ومن الحكمة في طب أدواء القلوب أن تبدأ الدعوة باللين ، وألا يلجأ الى الشدة إلا حين لا يكون منها بد ، فإن الكي آخر الدواء . وما العذاب بالقتل بالسيف في الدنيا إلا طرف من عذاب الآخرة بالنار ، وليس لعذاب الآخرة موجب إلا الكفر ، وكذلك الأمر في القتال .. فإن هو أضاف الى الكفر دعوة إلى الكفر ، وصداً عن سبيل الله ، فقد أصبح قتاله وقتله أوجب ، وإلا فهو مقاتل بكفره لا محالة ، قال تعالى (( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ، ثم تكون عليهم حسرة ، ثم يغلبون ، والذين كفروا الى جهنم يحشرون * ليميز الله الخبيث من الطيب ، ويجعل الخبيث بعضه على بعض ، فيركمه جميعا ، فيجعله في جهنم ، أولئك هـم الخاسرون * قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ، ويكون الدين كله لله ، فإن انتهوا فان الله بما يعملون بصير )) تأمل قوله تعالى (( والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب )) تجد أن موجب العذاب هو الكفر (( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ؟ وكان الله شاكرا عليما )) . وقـولـه (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة )) يعني حتى لا يكون شرك ، ودعوة إلى الشرك ، وصد عن سبيل الإيمان . وقوله (( ويكون الدين كله لله )) هو غرض القتال الأصلي (( وقضى ربك ألا تعبدوا الا اياه )) ذلك أمر الله . والله بالغ أمره ولو كره الكافرون .
    وقال تعالى في موضع آخر (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ، ويكون الدين لله ، فإن انتهوا فلا عدوا إلا على الظالمين )) والظالمون على مستويين : مستـوى من يجعل الدين لغير الله ، ويصر على ذلك ، ومستوى من يذعن لله بالطاعة ولكنه يتعدى على حقوق الناس ، ويحيف عليهم . وفي الآية أمر بمصادرة حرية من يسئ التصرف في الحرية ، وإنما تكون المصادرة على مستوى الاساءة . فللجاحدين قانون الحرب ، وبأس الحديد . وللمعتدين على حقوق الناس قانون السلام ، وفصل الحقوق . وهذا معنى قوله تعالى (( فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين )) .
    والنزول من المعنى الأصلي الى المعنى الفرعي يعني النزول من مستوى الإسلام الى مستوى الإيمان ، ومن ههنا يجب أن يفهم قوله تعالى (( وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون )) قوله (( وأنزلنا اليك الذكر )) يعني القرآن كله ، مشتملا على الأصل - الإسلام- والفرع – الإيمان . وقوله (( لتبين للناس ما نزل إليهم )) يعني لتفصل بالتشريع ، وألوان التبيين ، للمؤمنين ما نزل إلى مستواهم . قوله (( ولعلهم يتفكرون )) يعني لعل الفكر ، أثناء العمل بالفروع ، يقودهم الى الأصل الذي لم يطيقوه أول أمرهم . وفي ذلك إشارة بالغة اللطف إلى السير في مراقي الإسلام المختلفة ، مبتدئا بالإسلام الأول ، صاعدا بوسائل الفكر الصافي ، والقول المسدد ، والعمل المخلص . فإنه (( إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه )) .
    نخلص مما تقدم الى تقرير أمر هام جدا ، وهو أن كثيرا من صور التشريع الذي بين أيدينا الآن ليست مراد الإسلام بالأصالة . وإنما هي تنزل لملابسة الوقت والطاقة البشرية .
                  

01-22-2014, 06:43 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    الرق ليس أصلا في الإسلام

    فالأصل في الإسلام الحرية ، ولكنه نزل على مجتمع الرق فيه جزء من النظام الاجتماعي والاقتصادي . وهو مجتمع قد ظهر عمليا أنه لا يحسن التصرف في الحرية ، مما أدى الى نزع قيام أفراده بأمر أنفسهم ، وجعل ذلك إلى وصي عليهم ، وقد رأينا أن هذا أدى الى شرعية الجهاد . ومن أصول الجهاد في سبيل الله أن يعرض المسلمون على الكفار أن يدخلوا في الدين الجديد ، فإن هم قبلوه ، وإلا فأن يعطوهم الجزية ، ويعيشوا تحت حكومتهم ، مبقين على دينهم الأصلي ، آمنين على أنفسهم . فإن هم أبوا عليهم هذه الخطة أيضا ، حاربوهم ، فإذا هزموهم اتخذوا منهم سبايا ، فزاد هؤلاء في عدد الرقيق السابق للدعوة الجديدة .
    والحكمة في الاسترقاق تقوم على قانون المعاوضة . فكأن الانسان عندما دعي ليكون عبداً لله فأعرض ، دل إعراضه هذا على جهل يحتاج إلى فترة مرانة ، يستعد أثناءها للدخول ، عن طواعية ، في العبودية لله ، فجعل في هذه الفترة عبدا للمخلوق ليتمرس على الطاعة التي هي واجب العبد . والمعاوضة هنا هي أنه حين رفض أن يكون عبداً للرب ، وهو طليق ، وأمكنت الهزيمة منه ، جعل عبدا للعبد ، جزاء وفاقا . (( ومن يعمل ، مثقال ذرة ، شرا ، يره )) .
    وهكذا أضاف أسلوب الدعوة إلى الإسلام ، الذي اقتضته ملابسة الوقت ، والمستوى البشري ، إلى الرق الموروث من عهود الجاهلية الأولى ، رقا جديدا ، ولم يكن من الممكن ، ولا من الحكمة ، أن يبطل التشريع نظام الرق ، بجرة قلم ، تمشيا مع الأصل المطلوب في الدين ، وإنما تقتضي حاجة الأفراد المسترقين ، ثم حاجة المجتمع ، الاجتماعية ، والاقتصادية ، بالإبقاء على هذا النظام ، مع العمل المستمر على تطويره ، حتى يخرج كل مسترق ، من ربقة الرق ، إلى باحة الحرية . وفترة التطوير هي فترة انتقال ، يقوى أثناءها الرقيق على القيام على رجليه ليكسب قوته من الكدح المشروع ، وسط مجتمع تمرن أيضا ، أثناء فترة الانتقال ، على تنظيم نفسه بصورة لا تعتمد على استغلال الرقيق ، ذلك الاستغلال البشع الذي يهدر كرامتهم ، ويضطهد آدميتهم ، والذي كان حظهم التعس إبان الجاهلية .
    وهكذا شرع الإسلام في الرق ، فجعل للرقيق حقوقا وواجبات ، بعد أن كانت عليهم واجبات ، وليست لهم حقوق . ثم جعل الكفارات ، والقربات ، بعتق الرقاب المؤمنة ، السليمة ، النافعة . وأوجب مكاتبة العبد الصالح الذي يستطيع أن يفدي نفسه ، وأن يعيش عيشة المواطن الصالح . وهو في أثناء ذلك يدعو إلى حسن معاملتهم فيقول المعصوم (( خولكم إخوانكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فأطعموهم مما تطعمون ، وأكسوهم مما تلبسون )) .
                  

01-22-2014, 06:43 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    الرأسمالية ليست أصلا في الإسلام

    والأصل في الإسلام شيوع المال بين عباد الله ، فيأخذ كل حاجته ، وهي زاد المسافر . وذلك أمر يلتمس تطبيقه في حياة المسلم الوحيد في تلك الفترة ، وهو النبي . ولكن الإسلام نزل على قوم لا قبل لهم به ، فلا يعرفون إلا أن المال مالهم . وهم لم تكن عليهم حكومة تجعل على مالهم هذا وظيفة يؤدونها ، ولذلك فقد شقت على نفوسهم الزكاة التي جعلت على أموالهم ، وكانت ، لـدى التحاق النبي بالرفيق الأعلى ، السبب المباشر في الردة . وفي حقهم يقول تعالى (( إنما الحياة الدنيا لعب ، ولهو ، وإن تؤمنوا ، وتتقوا ، يؤتكم أجوركم ، ولا يسألكم أموالكم * إن يسألكموها فيحفكم ، تبخلوا ، ويخرج أضغانكم * هأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ، فمنكم من يبخل ، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ، والله الغني ، وأنتم الفقراء ، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم )) قوله (( إنما الحياة الدنيا لعب ، ولهو )) يعني فترة غفلة ، وجهالة ، لا تحتمل مسئولية الرجال . وقوله (( وإن تؤمنوا )) يعني بالله ، ورسوله ، (( وتتقوا )) يعني الكفر ، والشرك ، والكبائر ، (( يؤتكم أجوركم )) يعني ثواب هذه الأعمال .. قوله (( ولا يسألكم أموالكم )) يعني كلها في الصدقة ، قوله (( إن يسألكموها فيحفكم ، تبخلوا )) يعني إن يسألكم في الصدقة كل أموالكم تبخلوا عن طاعة هذا الأمر الشاق على نفوسكم ، وقوله (( ويخـرج أضغانكم )) يعني يظهر ما تنطوي عليه صدوركم من حب المال ، وضعف اليقين ، وكمون الشرك . قوله (( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم )) فيه اشارة لطيفة جدا إلى المسلمين الذين يجيئون بعد المؤمنين ، ثم يكونون خيرا منهم . وهذا السبب هو الذي جعل تشريع الإسلام في المال دون حقيقة مراده ، وذلك تخفيفا على الناس ، وتدريجا لهم ، ودرء للمشقة عن نفوس أحضرت الشح . وهكذا جاءت الزكاة ذات المقادير وجعلت ركنا تعبديا في حقهم ، وذلك بمحض اللطف . يضاف إلى الاعتبار الفردي اعتبار آخر ، هو أن شمس الاشتراكية لم تكن قد أشرقت على عالم يومئذ بعد .
                  

01-22-2014, 06:44 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    عدم المساواة بين الرجال والنساء ليس أصلا في الإسلام

    والأصل في الإسلام المساواة التامة بين الرجال والنساء ، ويلتمس ذلك في المسئولية الفردية أمام الله، يوم الدين ، حين تنصب موازين الأعمال . قال تعالى في ذلك (( ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ ، ولو كان ذا قربى ، إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ، وأقاموا الصلاة ، ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ، وإلى الله المصير )) وقال تعالى (( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ، لا ظلم اليوم ، إن الله سريع الحساب )) وقال تعالى (( كل نفس بما كسبت رهينة )) ولكن الإسلام نزل ، حين نزل ، على قوم يدفنون البنت حية خوف العار الذي تجره عليهم إذا عجزوا عن حمايتها فسبيت ، أو فرارا من مؤونتها إذا أجدبت الأرض ، وضاق الرزق : قال تعالى عنهم (( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ، أيمسكه على هون ، أم يدسه في التراب ؟ ألا ساء ما يحكمون )) ومن ههنا لم يكن المجتمع مستعدا ، ولا كانت المرأة مستعدة ليشرع الإسلام لحقوقها في مستوى ما يريد بها من الخير ، وكان لا بد من فترة انتقال أيضا يتطور في أثنائها الرجال والنساء ، أفرادا ، ويتطور المجتمع أيضا . وهكذا جاء التشريع ليجعل المرأة على النصف من الرجل في الميراث ، وعلى النصف منه في الشهادة . وعلى المـرأة الخضوع للرجل ، أبا وأخا وزوجا .. (( الرجال قوامون على النساء بما فضـل الله بعضهم على بعض ، وبما أنفقـوا من أموالهم )) والحـق ، أن في هـذا التشريع قفـزة بالمرأة كبيرة بالمقارنة إلى حظـها سابقا ، ولكنـه ، مع ذلك دون مراد الدين بها .
                  

01-22-2014, 06:45 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    تعدد الزوجات ليس أصلا في الإسلام

    والأصل في الإسلام أن المرأة كفاءة للـرجل في الزواج ، فالرجل كله للمرأة كلها ، بلا مهر يدفعه ، ولا طلاق يقع بينهما . ويلتمس منع التعدد في قوله تعالى (( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة )) وفي قوله تعالى (( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم )) . ويلتمس منع الطلاق في قولة المعصوم (( أبغض الحلال إلى الله الطلاق )) والإشارة اللطيفة أن ما يبغضه الله لا بد مانعه ، حين يصير المنع ممكنا ، وعمليا . فإن الله بالغ أمره .
    ويلتمس عدم إرادة الإسلام ، في أصوله ، المهر ، في كون المهر يمثل ثمن شراء المرأة حين كانت إنما تزوج عن طريق من ثلاثة طرق .. إما أن تسبى ، أو تختطف ، أو تشترى ، فهو بذلك من مخلفات عهد هوانها على الناس ، وما ينبغي له أن يدخل معها عهد كرامتها التي أعدها لها الإسلام ، حين تدخل أصوله طور التطبيق .
    ولقد نزل الإسلام ، أول ما نزل ، على مجتمع لم تكن فيه للمرأة كرامة ، على نحو ما رأينا آنفا . وإنما كانت تعامل معاملة تسلكها في عداد الرقيق .. ولم تكن العلاقة الزوجية تقوم على الإنسانية واللطف مما ينبغي لها ، وإنما كان الرجل يتزوج العشر زوجات ، والعشرين ، يستولدهن ، ويستغل عملهن .
    وهناك ظاهرة أخرى وجـدها الإسلام في ذلك المجتمع وهي أن عدد النساء كان يفوق عدد الرجال ، لما كانت تأكل الحروب منهم . فشرع الإسلام في تقييد الإفراط في التعدد ، ولكنه لم ير أن يقفز بالناس إلى زواج الواحدة ، لأن ذلك لا يستقيم له في ذلك المجتمع الذي مرد على الإفراط في التعدد ، ولأنه رأى لأن يكون للمرأة ربع رجل يعفها ، ويحميها ، ويغذوها ، خير من أن تكون عانسا تتعرض لعاديات الأيام وهي مندوحة الذيل . وكذلك قيد تعدد الزوجات بأربع ، فقال عز من قائل (( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، مثنى ، وثلاث ، ورباع ، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة )) وفي موضع آخر ترد إشارة غاية في اللطف تحدثنا عن صعوبة العدل بين النساء ، وذلك حين قال تعالى (( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ، ولو حرصتم ، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ، وإن تصلحوا ، وتتقوا ، فإن الله كان غفورا رحيما )) نزل من مستوى العدل الذي هو مطلوب الدين ، والذي لم يكن وقته ، بالنسبة للمجتمع ، وبالنسبة للفرد ، من رجل ، وامرأة ، قد حان يومئذ ، إلى مستوى العدل في الشريعة ، فأعقب قوله (( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ، ولو حرصتم )) بقوله (( فلا تميـلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة )) وبذلك أصبح معنى العدل هنا يقتصر على العدل المادي .. ولا يتناول ميل القلوب ، ولولا هذا التجاوز لما أصبح تشريع التعدد ممكنا ، وهو ، في واقع الأمر ، تشريع ضرورى ، وبخاصة لتلك الفترة من حياة المجتمع المؤمن .
    وطبيعة العدل هنا ألا يقيد إلا بما تقيد به الحرية ، لأنه هنا حق ، يقابله واجب ، فمن لا يعرف الواجب يسلب الحق . وكانت المرأة متخلفة كثيرا ، ولم تكن في مستوى المساواة مع الرجل ، وقد تضافرت عدة عوامل لوضعها ذلك الوضع المتخلف ، فجاء تقييد العدل في حقها عدلا ، فيه لها خدمة ، ولمجتمعها خدمة . ويعتبر تشريع التعدد تشريع فترة انتقال الى فجر المساواة التامة بين الرجال والنساء ، ويومها يصبح العدل في حقها يشمل العدل في ميل القلوب ، وهو المعني بقوله (( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ، ولو حرصتم )) ويجئ يومئذ القيد من قبل قوله تعالى (( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة )) وهكذا يشرع في تحريم التعدد ، إلا لدى ضرورات بعينها تلجئ إليه ، وينص عليها في القانون ، ويستأمر فيها الطرف المضرور بها.
                  

01-22-2014, 06:46 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    الطلاق ليس أصلا في الإسلام

    والأصل في الإسلام ديمومة العلاقة الزوجية بين الزوجين ، ذلك بأن زوجتـك إنما هي صنو نفسك . هي انبثاق نفسك عنك خارجك . هي جماع آيـات الآفاق لك في مقابلة نفسك ، على فحوى آية: ((سنريهم آياتنا في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق)) ولكنا لا نملك النور الذي به نختار في الزواج نصفنا الآخر ، اختيارا صحيحا.. مثلنا في ذلك يقرب منه مثل الأعمى الذي يجلس وبين يديه ((خوابير)) بعضها مربع ، وبعضها مستطيل ، وبعضها مثلث ، وبعضها مبـروم ، وبعضها نصف دائرة ، وبعضها قطاعات دائرة على أحجام مختلفة ، وأمامه سطح عليه ((أخرام)) يناسب كل منها ((خابورا)) من ((الخوابير)) التي بين يديه ، فهو يحاول أن يضع ((الخابور)) المناسب في ((الخرم)) المناسب ، فيتفق له ذلك حينا ، ويعييـه أحيانا ، بل قد يعجـز عجـزا تاما عن التوفيـق التام بين ((الخابور)) و ((الخرم)) . وفي الحق ، أن هذا المثل لا ينطبق تمام الانطباق على حالة اختيارنا الزوجة ، بل أن الأعمى ، في هذا المثل ، أقرب إلى التوفيق ، والتسديد ، من أحدنا وهو يمارس تجربة الاختيار هذه . فإذا أخطأ أحدنا فوضع ((خابورا)) نصف دائري في ((خرم)) مربع ، مثلا ، فإنه يحتاج الى فرصة ثانية ليعيد التجربة من جديد ، وإنما شرع الطلاق ليعطينا هذه الفرصة الثانية .
    عندما سقط آدم بالخطيئة ، وحواء ، وأخرجا من الجنة ، هبط كل منهما ، في مكان في الأرض ، منعزلا عن صاحبه ، وطفقا يبحثان: آدم عن حواء ، وحواء عن آدم ، وبعد لأي ، وجد آدم حواء ، ولم يجدها . ووجدت حواء آدم ، ولم تجده . ومنذ ذلك اليوم وإلى يومنا هذا ، يبحث كل آدم عن حوائه ، وتبحث كل حواء عن آدمها . وأبواب الضلال واسعة ، وأبواب الرشاد ضيقة ، ولكنا ولله الحمد ، في كل يوم نستقبل مزيدا من النور ، به تضيق دائرة الضلال ، وتنداح دائرة الرشاد . ونور الإيمان لا يكفي - وهو لم يكف المؤمنين من قبل - لتمام التسديد في الاختيـار . فإذا أتم الله نوره ، فأشرقت شمس الإسلام ، فيومئذ لا يقع خطأ في الاختيار ، مما يحتاج إلى التصحيح بتشريع الطلاق ، فالنظائر قد التقت بالنظائر والشكول ضمت إلى الشكول .. ((قد علم كل أناس مشربهم)) .. فالزواج في الإسلام علاقة أزلية سابقة للزواج في الشريعة ، وما الزواج في الشريعة إلا محاولة للوصول لتلك العلاقة التي كانت بين آدم وحواء ، حين أخذت حواء من آدم ((يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، واتقوا الله الذي تساءلون به ، والأرحام ، إن الله كان عليكم رقيبا)) وما الطلاق إلا فرصة الخطأ التي أتيحت للشريكين ليتعلما ، فيستغنيا عن الخطأ ، فتسقط في حقهما شريعة الطلاق بعدم الحاجة إليها .
                  

01-22-2014, 06:46 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    الحجاب ليس أصلا في الإسلام

    والأصل في الإسلام السفور .. لأن مراد الإسلام العفة .. وهو يريدها عفة تقوم في صدور النساء والرجال ، لا عفة مضروبة بالباب المقفول ، والثوب المسدول . ولكن ليس الى هذه العفة الغالية من سبيل إلا عن طريق التربية والتقويم . وهـذه تحتاج إلى فترة انتقال لا تتحقق أثناءها العفة إلا عن طريق الحجاب ، وكذلك شرع الحجاب . فكأن الأصل ما كان عليه آدم وحواء قبل أن يزلا: ((ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، فكلا من حيث شئتما ، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما ، وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين ، أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور ، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وناداهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ، وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ؟ * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ، وإن لم تغفر لنا ، وترحمنا ، لنكونن من الخاسرين * قال اهبطوا ، بعضكم لبعض عدو ، ولكم في الأرض مستقر، ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون ، وفيها تموتون ، ومنها تخرجون * يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم ، وريشا ، ولباس التقوى ، ذلك خير ، ذلك من آيات الله ، لعلهم يذكرون * يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ، ينزع عنهما لباسهما ، ليريهما سوآتهما ، إنه يراكم ، هو وقبيله ، من حيث لا ترونهم ، إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون)) قوله ((ليبدي لهما)) يعني ليظهر لهما .. قوله ((ما ووري عنهـما)) يعني ما غطي عنهـما بلباس النـور.. ((من سوآتهما)) مـن عوراتهما .. قوله ((فدلاهما بغرور)) نصحهما بباطل ، وكذب ، حتى تـورطا في الخطيئة ، فلما سقطا ((بدت لهما سوآتهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة)) فأخذا يستران عوراتهما بورق التين ، ومن يومئذ بدأ الحجاب . فهو نتيجة الخطيئة ، وسيلازمها حتى يزول بزوالها ، إن شاء الله . وفي ذلك قوله تعالى ((يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم)) ، وهو يعني قد خلقنا لكم ، وفرضنا عليكم لبس ثياب القطن والصوف وغيرهما مما يواري عوراتكم .. وقوله ((ولباس التقوى)) يعني لباس التوحيد ، والعفة ، والعصمة المودعة في قلوبكم ، قوله ((ذلك)) لباس العفة ((خير)) من لباس القطن .. ((ذلك)) يعني لباس القطن .. ((من آيات الله)) من حكمته في تشريعه .. وكل المعنى في قـوله تعالى ((لعلهم يذكرون)) ويعني لعل الناس يذكرون حالة الطهر ، والبراءة والعفة ، التي كان عليـها أمرهم قبل الخطيئة ، فتكون منهم الرجعى .
    والآية الأخيرة واضحة الدلالة على ما ذهبنا اليه في أمر الحجاب .. والسفـور في الإسلام اصل لأنه حرية .. وقد أسلفنا القول بأنه ، في الإسلام ، الأصل في كل إنسان أنه حر، إلى أن يسئ التصرف في الحرية ، فتصادر حريته بقانون دستوري .. وقد سلفت الإشارة إلى القانون الدستوري .. اقرأ في حكمة الحجاب قوله تعالى ((واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت ، حتى يتوفاهن الموت ، أو يجعل الله لهن سبيلا .)) إذا توفرت الأدلة على اعوجاج سلوكها بما لا يرقى إلى الحد تصادر حريتها بحرمانها من حقها في حرية السفور ، وتحبس في المنزل ((حتى يتوفاهن الموت)) إن لم يبد من احداهن أنها قد انتفعت بالعقوبة ، وأنها استقامت ، مما يجعلها مرجوة لحسن التصرف في السفور .
    فالحجاب عقوبة حكيمة على سوء التصرف في حرية السفور . هـذا في الأصل الإسلامي . ولكنه ، في التشريع الحاضر ، يمثل مصادرة مستمرة لحرية السفور ، لأن الشارع أراد به الى سد الذريعة ، حماية للقصر من مسئولية باهظة ، وثقيلة ، لا ينهض بها المؤمنون ، وإنما ينهض بها المسلمون ، وما لهؤلاء شرع .

    المجتمع المنعزل رجاله عن نسائه ليس أصلا في الإسلام

    وما يقال عن السفور يقال عن الاختلاط ، فان الأصل في الإسلام المجتمع المختلط ، بين الرجال والنساء ، ثم هو مجتمع سليم من عيوب السلوك التي إيفت بها المجتمعات المختلطة الحاضرة .
    هذه جميعها مجرد أمثلة سيقت على سبيل إظهار الفرق بين الأصل والفرع ، وللتدليل على أن الرسالة الأولى ، إنما هي تنزل عن الرسالة الثانية ، لتناسب الوقت ، ولتستوعب حاجة مجتمعه ، ولتتلطف بالضعف البشري يومئذ ، وفيها في ذلك غناء.
                  

01-22-2014, 06:48 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    الرسالة الثانية

    الرسالة الثانية هي الإسلام ، وقد أجملها المعصوم إجمالا ، ولم يقع في حقها التفصيل إلا في التشاريع المتداخلة بين الرسالة الأولى وبينها ، كتشاريع العبادات ، وكتشاريع الحدود ، قال تعالى (( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا )) هذا اليوم يوم عرفة ، من حجة الوداع ، في السنة الثامنة من الهجرة ، وقد كان يوم جمعة . وهذه الآية هي آخر ما نزل من القرآن .. وهي قمة رسالات السماء .
    وهو إنما رضي لنا الإسلام دينا لنرضاه ، فان أمراً لا يبدأ من طرفه هـو ، لا يبدأ من طرفنا نحن .. قال تعالى (( ثم تاب عليهم ليتوبوا )) .
    وقد ظن كثير من الناس أن قوله تعالى (( اليوم أكملت لكم دينكم )) تعني أن الإسلام كمل عند الناس ، وانتهى الى قمة كماله يومئذ . وهؤلاء ، حين يقرأون قوله تعالى (( وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم )) يعتقدون أن تبيين القرآن قد تم ، وليس هناك أمر هو أبعد من الصواب من هذا الرأي .. فالقرآن لم يبين منه بالتشريع ، وبالتفسير ، إلا الطرف الذي يناسب الوقت الذي جرى فيه التبيين ، ويناسب طاقة الناس ..
    والقرآن لا يمكن أن يتم تبيينه . والإسلام ، كذلك ، لا يمكن أن يكمل . فالسير في مضماره سير سرمدي . (( إن الدين عند الله الإسلام )) و (( عند )) ، هنا ، ليست ظرف زمان ، ولا هي ظرف مكان ، وإنما هي خارج الزمان ، والمكان .. فالسير بالقرآن في مضمار الإسلام سير إلى الله في إطلاقه .. وهو بذلك لم يتم تبيينه ، ولن يتم ، وإنما تم إنزاله بين دفتي المصحف .. تم إنزاله ، ولم يتم تبيينه ..
    ومن ههنا يفهم الفرق بين (( أنزلنا )) و (( نزل )) من الآية (( وأنزلنا إليك الذكر لتبيـن للناس ما نزل اليهم ، ولعلهم يتفكرون )) فان الفهـم العام ، عنـد العلماء ، أنهما مترادفتـان ، وما هما بـذاك .. و (( ما )) في جملة (( ما نزل اليهم )) لا تعود إلى الذكر ، وإنما تعود إلى جزء من الذكر ، ينصب عليه الأمر بالتبيين ، وهو ما يخص الرسالة الأولى .. إلا ما يكون متداخلا بينها وبين الرسالة الثانية .
    ويحسن أن نذكر هنا أن القرآن قد نزل مثاني .. وفي ذلك يقول تعالى (( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها ، مثاني ، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ، ثم تلين جلودهم ، وقلوبهم إلى ذكر الله ، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ، ومن يضلل الله فما له من هاد )) ومعنى (( متشابها )) قائمة قرينة الشبه بين أسفله وأعلاه ، وبين وجهه وقفاه ، وبين ظاهره وباطنه . ومعنى (( مثاني )) أنـه ذو معنيين ، معنيين . معنى بعيد عند الرب ، ومعنى قريب تنزل للعبد .. والقرآن كله مثاني .. كل آية منه ، وكل كلمة فيه ، بل وكل حرف من كل كلمة .. والسر في ذلك أنه حديث صادر من الرب مخاطب به العبد .. والشبه الذي فيه هو الشبه الذي قام بين الرب والعبد ، وعبر عنه المعصوم بقوله (( إن الله خلق آدم على صورته )) وعبر عنه تبارك وتعالى (( يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة )) وتلك النفس الواحدة إنما هي نفسه ، تبارك وتعالى ..
    فكلمة الإسلام ، مثلا ، لها معنى قريب هو الذي عبر عنه القرآن بقوله تعالى (( قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ، ولكن قولوا أسلمنا ، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم )) .. وهذا هو الذي أسميناه الإسلام الأول وقلنا أنه لا عبرة به عند الله . وللاسلام معنى بعيد ، وهو مركوز عند الله ، حيث لا حيث .. وهو بمعناه البعيد قد أشار اليه سبحانه وتعالى حين قال (( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) . ومعلوم أنه لا يتقي الله حق تقاته إلا الله ، وهو ، من ثم ، نهج معراج إلى الله ذي المعارج ، في مقام عزه ، بالعبودية ، والتذلل ، والاستسلام .. والعبـودية لا تتناهى .. فهي كالربوبية تماما .. والعبودية المطلقة لله تقتضي العلم المطلق بالله . وهذا لا يكون الا لله عز وجل (( قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله )) فالغيب هنا يعني الله .. فكأنه قال ، لا يعلم الله إلا الله ، ولقد تحدثنا في رسالة الصلاة كيف أن العبودية هي الحرية مما لا سبيل إلى إعادته هنا .. فليرجع اليه .
    والإسلام إنما كان نهج معراج إلى مقام العبودية بفضل القرآن . وهو كتابه المسلك في مراقيه . وهذا التسليك هو ما من أجله أنزل القرآن ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى (( ولقد يسرنا القرآن للذكر ، فهل من مدكر )) . وهو إنما يذكرنا بالعبودية التي أقررنا على أنفسنا بها ، ثم نسيناها ، وذلك حيث قال تعالى عنا (( وإذ أخذ ربك من بني آدم ، من ظهورهم ، ذريتهم ، وأشهدهم على أنفسهم ، ألست بربكم ؟ قالوا بلى! شهدنا ، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا ، إنما أشرك آباؤنا من قبل ، وكنا ذرية من بعدهم ، أفتهلكنا بما فعل المبطلون * وكذلك نفصل الآيات ، ولعلهم يرجعون)) لعلهم يرجعون إلى الله بالعبودية والاستسلام .. بالإسلام .
    ولما كان القرآن هو منهاج السلوك إلى الله ، (( قلنا اهبطوا منها جميعا ، فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) ، والقرآن هو هذا الهدى ، فقد أصبح أوله عند الله ، وآخره عندنا . فإن نحن أحسنا السلوك في مدارجه استرجعنا الفردوس الذي فقدناه بخطيئة آدم ، وارتقينا المراقي في الإطلاق .. قال تعالى عن القرآن (( ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين )) وقال عن المتقين المهتدين بالقرآن (( إن المتقين في جنات ، ونهر ، في مقعد صدق ، عند مليك مقتدر )) وهذه درجات : أولها الجنات ، ثم النهر ، ثم مقعد الصـدق ثم عند مليك مقتـدر ، وذلك (( عنـد لا عنـد )) و (( حيث لا حيث )) . وهذه الدرجات تتفاوت من الجنات الحسية ، وهي الفردوس المفقود بالخطيئة ، إلى المطلق في إطلاقه ، وإلى كل أولئك يهدي القرآن ، فهو لا يستنفد . (( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثله مددا )) ومن أجل هذا فإنه باطل ، زعم من زعم أن القرآن يمكن أن يستقصى تبيينه .. ذلك بأن القرآن هو ذات الله .. وهذه الذات تنزلت ، بمحض الفضل ، إلى مدارك العباد ليعرفوها ، فكانت القرآن في تنزلاته المختلفة : الذكر ، والقرآن ، والفرقان . وفي منزلة الفرقان هذه انصب في قوالب التعبير العربية ، واستعملت هذه القوالب أبلغ استعمال لتشير الى منزلتي القرآن ، والذكر .. والقرآن انما انصب في قوالب التعبير العربية لنتمكن نحن من الفهم عن الله .. قال تعالى في ذلك : (( إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون )) ولقد ورطت هذه الآية ، وأخواتها كثيرا من علماء المسلمين في الخطأ ، فظنـوا أن القرآن عـربي بمعنى أنه يمكن أن يستقصى فهمه من اللغة العربية ، ومن معرفة أساليبها ، وما هو بذاك ، ولقد تحدثنا عن ذلك عند حديثنا عن السور المفتتحة بأحرف التهجي ، فليراجع هناك .
    ولما كان الإسلام بهذا السموق ، فإنه لم يتفق لأمة من الامم الى اليوم . والأمة المسلمة لم تظهر بعد . وهي مرجوة الظهور في مقبل أيام البشرية . وسيكون يوم ظهورها يوم الحج الأكبر ، وهو اليوم الذي يتم فيه تحقيق الخطاب الرحماني بقوله تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا )) .
    ولقد كان محمد يومئذ طليعة المسلمين المقبلين ، وهو كأنما جاء لأمته ، أمة المؤمنين ، من المستقبل ، فهو لم يكن منهم ، فقد كان المسلم الوحيد بينهم (( قل إن صلاتي ، ونسكي ، ومحياي ، ومماتي ، لله رب العالمين * لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين )) . ولقد كان أبوبكر ، وهو ثاني اثنين ، طليعة المؤمنين .. وكان بينه وبين النبي أمد بعيد . وإلى المسلمين ، الذين يجيئون في مقتبل أيام البشرية ، أشار حديث المعصوم ، حين قال : (( واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد ! )) فقال أبوبكر (( أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ )) قال (( بل أنتم أصحابي ! )) ثم قال ثانية : (( واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد ! )) فقال أبوبكر(( أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ )) قال (( بل أنتم أصحابي ! )) ثم قال ثالثة : (( واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد ! )) قالوا (( من إخوانك يا رسول الله ؟ )) قال (( قوم يجيئون في آخر الزمان ، للعامل منهم أجر سبعين منكم )) قالوا (( منا أم منهم ؟ )) قال (( بل منكم )) قالوا (( لماذا ؟ )) قال (( لأنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون على الخير أعوانا )) .
                  

01-22-2014, 01:31 PM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)


    المسلمون

    المسلمون كأمة لم يجيئوا بعد ، ولقد تنبأ المعصوم بمجيئهم في آخر الزمان ، وذلك حين يبلغ الكتاب أجله ، ويجئ موعود الله تعالى في قوله (( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين )) ويومئذ يدخل الناس في الدين كافة ، ولا يجدون عن ذلك منصرفا ، لأن جميع المشاكل لا تجد حلها إلا فيه . وما نرى إلا أن الأرض أخذت تتهيأ لظهور شريعة المسلمين التي بها تكون المدنية الجديدة ، وما بدون المدنية الجديدة للناس خلاص من إفلاس النظم الاجتماعية المعاصرة . وذلك أمر سلفت الإشارة إليه في صدر هذه الرسالة ، حيث قلنا أن الإنسانية كلها ، في هذه الآونة ، في التيه ، وقد ضل سعي المدنية الغربية ، واستعلن إفلاسها ، وأصبحت قضايا الديمقراطية ، والاشتراكية ، والحرية الفردية ، تتطلب الحلول ، وتلح في الطلب ، ولا يجئ الحل إلا من تلقيح المدنية الغربية . أو قل ، إن أردت الدقة ، الحضارة الغربية - بروح جديد ، هو روح الإسلام ، وإنما رشح الإسلام لهذا المقام مقدرته على حل الإشكال القائم بين الفرد والجماعة ، وبين الفرد والكون ، وهو أمر أسلفنا في تفصيله القول.
    وما ينبغي أن يلتبس إسم المسلمين المعنيين هنا ، مع الاسم التقليدي الذي تتسمى به الأمة الحاضرة . فإننا قد أسلفنا القول بأنها لم تتسم بهذا الاسم إلا من الإسلام الأول ، وإلا فهي الأمة المؤمنة . فما من أمة من الأمم السوالف تستحق هذا الاسم . وكل ما ذكر عن الأمم من إسلام فإنما هو الإسلام الأول . إلا ما كان من أمر طلائع البشرية ، فإنه الإسلام الأخير ، أو قل هو درجة في الإسلام الأخير، فما للإسلام الأخير غاية فتبلغ . وهم بذلك طلائع الأمة المسلمة التي لم تجئ إلى اليوم .. قال تعالى في ذلك .. (( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ، وإسماعيل ، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا ، وتب علينا ، إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب ، والحكمة ، ويزكيهم ، إنك أنت العزيز الحكيم * ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ، ولقد اصطفيناه في الدنيا ، وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم ، قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ، ويعقوب ، يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون * أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ، إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك ، إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، إلها واحدا ، ونحن له مسلمون )).. قوله (( ربنا واجعلنا مسلمين لك )) يعني الإسلام الأخير ، وقد كانا مسلمين من ذلك الطراز . وأما قوله (( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك )) فإنه يعني ، في المدى القريب ، أمة مسلمة على مستوى الإسلام الأول ، ثم يتداعى بها الترقي ، والتطور حتى تبلغ ، في المدى البعيد ، مراقي الإسلام الأخير . وقد استجيب لهما في ذلك . قوله (( ووصى بها إبراهيـم بنيه )) يعني وصاهـم بالكلمة وهـي (( لا إله إلا الله )) وكذلك وصاهم يعقوب . (( يا بني ! إن الله اصطفى لكم الدين ، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) يعني فلا تموتن إلا وأنتم متمسكون بالملة ، وبالكلمة (( لا إله إلا الله )) .. وقوله (( قالوا نعبد إلهك ، وإله آبائك ، إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحق ، إلها واحدا ، ونحن له مسلمون )) يعني أيضا الإسلام الأول.
    وقال تعالى في ذلك (( وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ، قالوا آمنا ! واشهد بأننا مسلمون . )) فإسلامهم هنا مطابق للإيمان ، وهو ما وقع به الإذن بالوحي . فإن الله إنما أوحى إليهم أن يؤمنوا .. فلما آمنوا وقالوا (( آمنا )) وقع لهم أن هذا الإيمان إسلام وكذلك قالوا (( واشهد بأننا مسلمون )) والعارف يسمع إجابة القدس إياهم في فحوى : (( قل لم تسلموا ولكن قولوا آمنا )) . لم يسلموا الإسلام الأخير .. أعني درجة البداية منه .. وإنما أسلموا الإسلام الأول .
    ونحن إنما جزمنا بأن إسلام كل هؤلاء هو الإسلام الأول لأن أدنى مراتب الإسلام الأخير الخروج عن الشريعة الجماعية والدخول في الشريعة الفردية ، وذلك بإتقان العمل بالشريعة الجماعية حتى يحسن الفرد التصرف في الحرية الفردية المطلقة . فالإسلام الأخير مرتبة فرديات .. والفردية لا تتحقق لأحد وهو منقسم على نفسه ، فلا بد له من إعادة الوحدة إلى بنيته ، فلا يكون العقل الواعي في تعارض وتضاد مع العقل الباطن ، وبفض التعارض بينهما تتم سلامة القلب ، وصفاء الفكر ، وجمال الجسم ، فتتحقق حياة الفكر ، وحياة الشعور .. وهذه هي الحياة العليا .. (( وإن الدار الآخـرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون )) فالحيوان هنا ضد الموتان ، وهي الحياة الكاملة ، غير المؤوفة بالنقص ، ولا بالمرض ، ولا بالموت .
    وإعادة الوحدة إلى البنية تعني أن الإنسان يفكر كما يريد ، ويقول كما يفكر ، ويعمل كما يقول .. وهذا هو مطلوب الإسلام ، وذلك حيث يقول (( يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ؟ * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون . ))
                  

01-22-2014, 01:36 PM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    المجتمع الصالح

    ولا يبلغ أحد هذا المبلغ الرفيع من الحياة إلا بوسيلتين اثنتين: أولاهما وسيلة المجتمع الصالح ، وثانيتهما المنهاج التربوي العلمي الذي يواصل به مجهوده الفردي ليتم له تحرير مواهبه الطبيعية من الخوف الموروث .
    والمجتمع الصالح هو المجتمع الذي يقوم على ثلاث مساويات: المساواة الاقتصادية ، وتسمى في المجتمع الحديث الاشتراكية ، وتعني أن يكون الناس شركاء في خيرات الأرض . والمساواة السياسية ، وتسمى في المجتمع الحديث الديمقراطية ، وتعني أن يكون الناس شركاء في تولي السلطة التي تقوم على تنفيذ مطالب حياتهم اليومية . ثم المساواة الاجتماعية ، وهذه ، إلى حد ما ، نتيجة للمساويين السابقتين ، ومظهرها الجلي محو الطبقات ، وإسقاط الفوارق التي تقوم على اللون ، أو العقيدة ، أو العنصر ، أو الجنس ، من رجل ، وامرأة . فإنه يجب ألا يكون هناك تمييز بين الأفراد يقوم على أي اعتبار من هذه الاعتبارات . فالناس لا يتفاضلون إلا بالعقل ، والخلق . ومحك ذلك العدل في السيرة بين الناس ، والنصح ، والإخلاص للمواطنين ، في السر والعلن ، وروح الخدمة العامة ، في كل وقت ، وبكل سبيل .
    والمساواة الاجتماعية تستهدف محو الطبقات ، ومحو الفوارق بين المدن والأرياف ، وذلك بإتاحة الفرص المتساوية للتثقيف ، والتمدين ، حتى يكون التزاوج بين جميع الأفراد في المجتمع أمرا عاديا .. وهذا هو المحك الصادق في مبلغ المساواة الاجتماعية ..
    والمجتمع الصالح ، بعد أن يقوم على هذه المساويات الثلاث ، التي يتكفل القانون بتنظيمها ، ورعايتها ، يقوم أيضا على رأي عام سمح لا يضيق بأنماط السلوك المختلفة ، لدى النماذج البشرية المتباينة ، ما دام هذا السلوك لا يعود إلا بالخير والبركة على المجتمع .
    وللرأي العام أحكام تصدر من وراء حكم القانون ، وهي غير ملزمة لأحد ، ولا منفذة بسلطة ، ولكنها قد تكون ، مع ذلك ، أكثر فعالية من القانون ، في ردع الشواذ والمارقين . ويمكن للرأي العام بالطبع ، أن يصدر حكمه على أي سلوك لا يوافق عليه ، ولكن يجب تجنب العنف في إحداث أي تغيير في ذلك ، فإن العنف لا يبعث إلا إحدى خصلتين : إما العنف ممن يطيقون المقاومة ، أو النفاق من العاجزين عنها ، وليس في أيهما خير .. ثم ، لدى الضرورة ، يمكن لأحكام الرأي العام ، والعرف الجماعي ، أن تدخل حرم القانون ، وذلك باقتراح التشريعات التي تسد النقص الذي بدا لمن شاء ، وبالطبع لن تكون التشريعات غير دستورية ، ودستورية القانون عندنا معروفة ..
                  

01-22-2014, 01:39 PM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)


    المساواة الاقتصادية: الاشتراكية

    ليس هذا المقام مقام التفصيل في أمر الاشتـراكية ، فان لها سفرا سيخرج للناس قريبا ، إن شاء الله ، باسم (( الإسلام ديمقراطي اشتراكي )) .
    والاشتراكية تعني أن يكون الناس شركاء في خيرات الأرض ، وهي قـد بدأت منذ أن بدأ المجتمع ، فإنها صنو الرأسمالية . وكانت الرأسمالية ، ممثلة في الملكية ، هي النظام الذي نشأ عليه المجتمع ، ولقد تطورت الرأسمالية إلى أن وصلت معناها العلمي الحاضر ، وكذلك تطورت الاشتراكية ، وإنما كان تطورها أبطأ من تطور الرأسمالية لأن الرأسمالية تعتبر مقدمة طبيعية لها ، ولا يمكن للاشتراكية أن تسبق الرأسمالية . ثم إن الاشتراكية نتيجة حكم القانون الذي يرعى حق الضعيف ، في حين أن الرأسمالية نتيجة قانون الغابة الذي يعطي الحق للأقوياء ، ويتقاضاه لهم ، وبطبيعة النشأة ، فإن قانون الغابة مرحلة سابقة لمرحلة قانون العدل ، والمرحمة ..
    ولقد ظهرت الاشتراكية في جرثومتها البدائية في صورة الحسد ، أو الغبطة التي تعتمل في صدر (( الماعندهم ضد العندهم )) . فقد كان محسودا الذي يوفق الى سلاح حجري يمتاز بالخفة ، والقوة ، والحدة . والذي يوفق الى كهف حصين ، وفسيح ، والذي يوفق إلى زوجة جميلة ، ومحبة ، ومطيعة ، وقوية ، وهكذا . ولقد دفع هذا الحسد إلى الصراع التاريخي بين (( الماعندهم والعندهم )) . ولا يزال هذا الصراع محتدما ، ولن ينفك ، حتى تتم المساواة المطلقة بين الناس في خيرات الأرض ..
    وقبل أن تظهر الاشتراكية العلمية نتيجة لهذا الصراع الطويل المرير كانت الاشتراكية في مرحلتها البدائية ، وهذه تعني المشاركة في الخيرات التي لا تضيق بأحد ، ولا يقع عليها الحوز . ولقد عبر المعصوم عن هذه حين قال (( الناس شركاء في ثلاثة : الماء والكلأ والنار )) . وفي هذا الحديث إشارة رصينة إلى وجوب الاشتراكية بين الناس حين يمكن أن تفيض الخيرات باستغلال الموارد الطبيعية والصناعية .
    وإنما دخلت الاشتراكية في الطور العلمي مؤخرا ، وبرزت ، واستحوذت على اهتمام الناس ، وأصبحت في أيامنا هذه يدعيها الذين يعنونها ، والذين لا يعنونها ، وذلك لفرط تعلق الشعوب بها .
    ولقد بدأ في أوائل القرن التاسع عشر استخدام اصطلاحي (( الاشتراكية )) و (( الشيوعية )) في كل ما له صلة بفكرة الملكية العامة للعقار .. وقد استخدم اصطلاح (( الاشتراكية )) في انجلترا في حوالي عام 1820 ، ولأول مرة ، بواسطة روبرت أوين ، وهو صانع ثري ، ويعتبر مؤسس الاشتراكية الحديثة . ولقد كان يؤمن بإمكان تحقيق التحسين الاجتماعي عن طريق الوسائل الاختيارية ، والدستورية الوئيدة ، والمستقرة ، التي تجنب الشعوب الشرور التي تسير في ركاب التغييرات الثورية العنيفة ، وبخاصة السيئة الإعداد منها .
    وكلمة (( الشيوعية )) مشتقة من كلمة لاتينية معناها (( عام )) أو (( مملوك للجميع )) . ولقد استخدمت في أول الأمر حوالي عام 1835 بواسطة الجمعيات الثورية السرية الفرنسية التي كانت ترمي إلى قلب الطبقة الوسطى بالعنف ، ثم السيطرة على فرنسا ، بهدف انشاء اقتصاد يكون فيه جميع المتاع المنتج مملوكا للشعب ، وتكون فيه طبقة العمال هي العنصر الحاكم .
    ودخل كارل ماركس في الصورة ، وأخذ يدرس ويرصد ويطور أفكاره على أساس النظريات ، والتطبيقات الاشتراكية ، والشيوعية المختلفة ، ولقد فضل اصطلاح (( الشيوعية )) ، فاختاره ليصف به أفكاره ، لأن هذا الاصطلاح كان مرتبطا بفكرة تغيير المجتمع بالعنف . وكان ماركس يقيم مذهبه على أربعة مبادئ :-
    1ـــ مجرى التاريخ تتحكم فيه القوى الاقتصادية .
    2 ـ التاريخ ما هو إلا س جل لحرب الطبقات .
    3 ــــ الحكومة ما هي إلا أداة تستخدمها طبقة في اضطهاد طبقة أخرى .
    4 ــــ العنف والقوة هما الوسيلتان الوحيدتان لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع .
    وعلى هذه المبادئ ، ووفاء بها ، ظل ماركس ، منذ كتاباته الأولى ، يهاجم بإلحاح التجارب الاشتراكية ، كالتي كان يرعاها روبرت أوين ، ويصفها بأنها غير علمية ، وغير واقعية ، لأن التاريخ ، كما هو واضح في رأيه ، قد سار على قوانين علمية قاسية ، وأن تغييرا اجتماعيا جوهريا بغير طريق القوة والعنف لا يمكن أن يتم .. ولهذا فقد سخر باعتقاد أوين وغيره من الاشتراكيين بإمكان اصلاح اجتماعي عن طريق الزمالة ، والتعاون ، والتطور الوئيد . وكان يسمي عملهم هذا الاشتراكية (( المثلى )) ويهتم كثيرا بالتفريق بينها وبين مذهبه هو ، ويسميه الاشتراكية (( العلمية )) أو (( الشيوعية )) . ونحن عندما نتحدث عن الاشتراكية العلمية ، أو عن الشيوعية ، فيما ندعو إليه ، لا نريد مذهب ماركس هذا ، بل إنا لنعلم أن اشتراكية ماركس ليست علمية ، وإنما هي متورطة في خطأ أساسي ، ليس هذا المقام مقام الخوض فيه ، وإنما سنخوض في تبيانه عند الكتابة عن (( الإسلام ديمقراطي اشتراكي )) الذي سيصدر عما قريب إن شاء الله .
    فالاشتراكية العلمية ، عندنا ، تقوم على دعامتين اثنتين ، وفي آن واحد : أولاهما زيادة الانتاج ، من مصادر الانتاج ، وهي المعدن ، والزراعة ، والصناعة ، والحيوان . وذلك باستخدام الآلة ، والعلم ، وبتجويد الخبرة الادارية ، والفنية . وثانيتهما عدالة التوزيع ، وهي تعني ، في مرحلة الاشتراكية ، أن يكون هناك حد أعلى لدخول الأفراد ، وحد أدنى . على أن يكون الحد الأدنى مكفولا لجميع المواطنين ، بما في ذلك الأطفال ، والعجائز ، والعاجزين عن الانتاج ، وعلى أن يكون كافيا ليعيش المواطن في مستواه معيشة تحفظ عليه كرامته البشرية .. وأما الحد الأعلى للدخول فيشترط فيه ألا يكون أكبر من الحد الأدنى بأضعاف كثيرة حتى لا يخلق طبقة عليا تستنكف أن تتزاوج مع الطبقة ذات الدخول الدنيا .. ومن أجل زيادة الانتاج وجب تحريم ملكية مصادر الانتاج ، ووسائل الانتاج ، على الفرد الواحد ، أو الأفراد القلائل في صورة شركة ، سواء كانت شركة إنتاج ، أو شركة توزيع .. ولا يحل للمواطن أن يملك ، ملكا فرديا ، إلا المنزل ، والحديقة حوله ، والأثاثات داخله ، والسيارة ، وما إلى ذلك مما لا يتعدى إلى استخدام مواطن استخداما يستغل فيه عرقه لزيادة دخل مواطن آخر . والملكية الفردية ، حتى في هذه الحدود الضيقة ، يجب ألا تكون ملكية عين للأشياء المملوكة ، وإنما هي ملكية ارتفاق بها ، وتظل عينها مملوكة لله ثم للجماعة بأسرها .
    ثم إنه كلما زاد الانتاج من مصادر الانتاج اتجهت عدالة التوزيع إلى الاتقان ، وتقريب الفوارق ، وذلك برفع الحد الأدنى ، وبرفع الحد الأعلى ، على السواء . ولكن رفع الحد الأدنى يكون نسبيا أكبر من رفع الحد الأعلى ، وذلك بغية تحقيق المساواة المطلقة . وعند تحقيق المساواة المطلقة بفضل الله ، ثم بفضل وفرة الانتاج ، تتحقق الشيوعية ، وهي تعني شيوع خيرات الأرض بين الناس .. فالشيوعية إنما تختلف عن الاشتراكية اختلاف مقدار .. فكأن الاشتراكية إنما هي طور مرحلي نحو الشيوعية .
    ولقـد عاش المعصوم الشيوعية في قمتها حيـن كانت شريعتـه في مستـوى آية الزكاة الكبرى (( يسألونك ماذا ينفقون قل العفو )) ولقد فسر العفو بما يزيد عن الحاجة الحاضرة . وحديثه عن الأشعريين في مستوى الشيوعية ، وذلك حين قال (( كان الأشعريون إذا أملقوا ، أو كانوا على سفر ، فرشوا ثوبا ، فوضعوا عليه ما عندهم من زاد ، فاقتسموه بالسوية ، أولئك قوم أنا منهم وهم مني )) وهذا هو فهم الأمة المسلمة التي لما تجئ بعد .. ولقد أدرك هذا الفهم أصحابنا الصوفية وذلك حين تصوروا جميع الأرض ، وما عليها من خيرات ، كمائدة أنزلها الله على عباده ، وأمرهم أن يرتفقوا منها بزاد المسافر ، ويواصلوا سيرهم إليه .. فهذه الأرض ، مثلها عندهم مثل المائدة ، وضعت للآكلين ، وعليها اللحم ، والخبز ، والخضار ، والحلوى ، وجلس إليها عشرة رجال ، فإن كل ما عليها هو على الشيوع بينهم ، ولا تقع لك الملكية الفردية لقطعة لحم منها ، إلا حين تحتويها أصابعك ، وتبدأ رحلتها إلى فمك .
    وحين يحدثنا القرآن عن الجنة (( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الأرض ، نتبوأ من الجنة حيث نشاء ، فنعم أجر العاملين )) إنما عنى أيضا النموذج المصغر للجنة الكبرى ، الذي يتحقق في هذه الأرض التي نعيش عليها اليوم وذلك حين (( تملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا )) على حد التعبير النبوي الكريم . وهو ما داعب خيال ماركس وضل الطريق إليه كل الضلال ، ولن يبلغه إلا المسلمون الذين لما يأتوا بعد .. وحين يأتون سيتحقق في الأرض طرف من قوله تعالى (( إن المتقين في جنات وعيون * ادخلوها بسلام آمنين * ونزعنا ما في صدورهم من غل ، إخوانا على سرر متقابلين * لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين )) وهذا الطرف هو الشيوعية التي يحققها الإسلام بمجئ أمة المسلمين ، ويومئذ تشرق الأرض بنور ربها ، وتتم نعمة الله على سكانها ، ويحل في ربوعها السلام ، وتنتصر المحبة .

                  

01-22-2014, 01:41 PM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)


    المساواة السياسية: الديمقراطية

    ولن نتحدث عن الديمقراطية بتطويل هنا ، فإن موعدنا بذلك السفر الذي سيخرج باسم (( الإسلام ديمقراطي اشتراكي )) فكما أن الاشتراكية هي ثمرة النزاع الطويل بين (( العندهم والماعندهم )) في الصعيد المادي ، فإن الديمقراطية هي أيضا نتيجة الصراع بين (( العندهم والماعندهم )) في الصعيد السياسي ، وهي تبتغي أن يكون الناس شركاء في السلطة ، كما هم شركاء في خيرات الأرض . والديمقراطية صنو الاشتراكية .. وهما معا يمثلان جناحي المجتمع .. فكما أن الطائر لا يستقل في الهواء على جناح واحد ، فكذلك المجتمع ، لا يستقل بغير جناحين من ديمقراطية واشتراكية . ولقد ظهرت الديمقراطية قبل الاشتراكية ، ذلك لأن الاشتراكية تحتاج إلى وعي جماعي أكثر مما تحتاجه الديمقراطية التي قد تقوم في بدايتها على قلة من المثقفين .. ثم إن الاشتراكية تحتاج ، كمقدمة لها ، إلى الرأسمالية النامية الغنية .. وهي أيضا وليدة الآلة، فلم يكن من الممكن أن تتقدمها .. ولم تجئ الآلة إلا مؤخرا .. هذا الحديث يعني الاشتراكية العلمية .. أما الاشتراكية الساذجة ، البدائية ، فإن نشأتها بعيدة في التاريخ ..
    ولدت الديمقراطية في بلاد الاغريق ، وفي أثينا بالذات . وقـد كانت أثينا أرقى مدن الاغريق ثقافة . وكانت كل مدينة من تلك المدن حكومة قائمة بذاتها .. ولما كانت الدول الاغريقية التي تمثلها المدن صغيرة فقد كان من السهل على الشعب أن يمارس الحكم مباشرة عن طريق اجتماع أفراده ، وكانت ديمقراطيتهم بذلك الديمقراطية المباشرة التي لا تحتاج إلى مجلس نيابي ، ولا إلى مجلس تنفيذي ، على النحو الذي عرف مؤخرا ، وهي لم تكن تقوم على موظفين دائمين ، وإنما كان الموظفون ينتخبون كل عام .. وكثيرا ما كان الانتخاب يجري بالاقتراع ، وكان أهل أثينا يعتقدون أن الاشتراك في مناقشة ، وسياسة الشئون العامة ، حق لكل مواطن ، وواجب عليه ، (( لم يكونوا يعتبرون النساء والعبيد من المواطنين )) ، وكان بركليس أعظم الخطباء المتكلمين باسم الديمقراطية الأثينية ، وفي خطابه المعروف باسم خطبة الجنازة ، التي ألقاها في مناسبة الاحتفال الشعبي بدفن الذين قتلوا في الحرب ضد اسبارطة عام 430 قبل الميلاد ، قال في تصوير هذه الديمقراطية : (( إنما تسمى حكومتنا ديمقراطية لأنها في أيدي الكثرة دون القلة وإن قوانيننا لتكفل المساواة في العدالة للجميع ، في منازعاتهم الخاصة ، كما أن الرأي العام عندنا يرحب بالموهبة ويكرمها في كل عمل يتحقق ، لا لأي سبب طائفي ، ولكن على أسس من التفوق فحسب ، ثم إننا نتيح فرصة مطلقة للجميع في حياتنا العامة ، فنحن نعمل بالروح ذاتها في علاقاتنا اليومية فيما بيننا . ولا يوغرنا ضـد جارنا أن يفعل ما يحلو له ولا نوجه إليه نظرات محنقة ، قد لا تضر ، ولكنها غير مستحبة )) .
    (( ونحن نلتزم بحدود القانون أشد التزام في تصرفاتنا العامة ، وإن كنا صرحاء ودودين في علاقاتنا الخاصة . فنحن ندرك قيود التوقير : نطيع رجال الحكم والقوانين ، لا سيما تلك القوانين التي تحمي المظلوم ، والقوانين غير المكتوبة التي يجلب انتهاكها عارا غير منكور . ومع ذلك فإن مدينتنا لا تفرض علينا العمل وحده طيلة اليوم . فما من مدينة أخرى توفر ما نوفره من أسباب الترويح للنفس - من مباريات وقرابين على مدار السنة ، ومن جمال في بيئتنا العامة ، يشرح الصدر ، ويسر العين ، يوما بعد يوم ، وفوق هذا فإن هذه المدينة من الكبر والقوة بحيث تتدفق عليها ثروة العالم بأسره ، ومن ثم فإن منتجاتنا المحلية لم تعد مألوفة لدينا أكثر من منتجات الدول الأخرى . ))
    (( إننا نحب الجمال دون اسراف ، والحكمة في غير تجرد من الشجاعة والشهامة ، ونحن نستخدم الثروة ، لا كوسيلة للغرور والمباهاة ، وإنما كفرصة لأداء الخدمات . وليس الاعتراف بالفقر عيبا ، إنما العيب هو القعود عن أي جهد للتغلب عليه . ))
    (( وما من مواطن أثيني يهمل الشئون العامة لإغراقه في الانصراف إلى شئونه الخاصة . والشخص الذي لا يعنى بالشئون العامة لا نعتبره (( هادئا وادعا )) وإنما نعتبره غير ذي نفع . ))
    (( وإذا كانت قلة منا هم الذين يرسمون أية سياسة ، فإنا جميعا قضاة صالحون للحكم على هذه السياسة . وفي رأينا أن أكبر معوق للعمل ، هو نقص المعلومات الوافية - التي تكتسب من النقاش قبل الاقدام - وليس النقاش ذاته )) . هذا ما قاله بركليس في تصوير الديمقراطية الأثينية وهو تصوير طيب .. ولقد أخذت الديمقراطية من أيام أثينا تنمو وتتطور وتتباين في ذلك في مختلف أرجاء العالم ، ولكنها تنبع في كل مكان من مبادئ تحاول أن تبينها بوضوح كنهج متميز وفذ من مناهج الحياة .. نهج للحياة يعترف بكرامة الإنسان ، ويحاول أن يقيم تصريف الشئون الإنسانية وفق العدل ، والحق ، وقبول الشعب .. ولقد وصلت مرحلة تطوير الديمقراطية الحديثة إلى مبادئ يمكن تلخيص أهمها فيما يلي:-
    1ـــ الإعتراف بالمساواة الأساسية بين الناس.
    2ـــ قيمة الفرد فوق قيمة الدولة .
    3ـــ الحكومة خادمة الشعب .
    4ـــ حكم القانون .
    5ـــ الاسترشاد بالعقل ، والتجربة ، والخبرة .
    6ـــ حكم الأغلبية ، مع تقديس حقوق الأقلية .
    7ـــ الاجراءات أو الوسائل الديمقراطية تستخدم لتحقيق الغايات في الدولة الديمقراطية .
    فليست الاجراءات ولا الأجهزة الديمقراطية غاية في ذاتها ، وإنما هي وسيلة إلى غاية وراءها .. فليست الديمقراطية أن تكون لنا هيئة تشريعية ، وهيئة تنفيذية ، وهيئة قضائية ، وإنما جميع أولئك وسائل لتحقيق كرامة الانسان .. فإن الديمقراطية ليست أسلوب حكم فحسب ، وإنما هي منهاج حياة ، الفرد البشري فيه غاية ، وكل ما عداه وسيلة إليه ، ولا يجد أسلوب الحكم الديمقراطي الكرامة التي يجدها عند الناس إلا من كونه أمثل أسلوب لتحقيق كرامة الانسان .
    وفي النهج الديمقراطي الحاضر خطأ هو أقل من الخطأ الذي تورطت فيه الشيوعية الماركسية بكثير ، ولكنا رغم ذلك لن نسترسل في استقصائه هنا وإنما نتركه إلى حينه في سفر (( الإسلام ديمقراطي اشتراكي )) .
    وإنما تجئ كرامة الانسان من كونه أقدر الأحياء على التعلم والترقي ، وإنما تجئ كرامة الديمقراطية من كونها ، كأسلوب للحكم أقدر الأساليب لاتاحة الفـرص للانسان ليبلغ منازل كرامته وشرفه ، وإنما يتعلم الإنسان من أخطائه ، وتلك هي الطريقة المثلى للتعليم .. ففي الدكتاتورية تمنع الحكومة الفرد من أن يجرب ، أو يعمل بنفسه ، وبذلك تعطل نموه الفكري والعاطفي والخلقي ، لأن كل أولئك إنما يتوقف نموه على ممارسة العمل ، وتحمل مسئولية الخطأ في القول ، وفي العمل ، ثم التعلم من الخطأ .. وعلى العكس من الديكتاتورية ، نجد أن الديمقراطية قائمة على الحق في ارتكاب الأخطاء ، وهذا ليس معناه الرغبة في الخطأ من أجل الخطأ، وإنما اعترافا بأن الحرية توجب الاختيار بين السبل المختلفة للعمل . ولا يمكن للإنسان أن يكون ديمقراطيا حقا دون أن يتعلم كيف يختار ، وأن يحسن الاختيار في ذلك ، وأن يصحح ، باستمرار ، خطأ الاختيار الذي يبدو منه الفينة بعد الفينة . وفي واقع الأمر فان السلوك جميعه ، وممارسة الحرية برمتها ، إنما هي سلسلة من التصرف الفردي في الاختيار والتنفيذ .. أو قل في حرية الفكر ، وحرية القول ، وحرية العمل .. على شرط واحد هو أن الانسان يتحمل نتيجة خطئه في القول ، وفي العمل ، وفق قانون دستوري .
    فالديمقراطية هي حق الخطأ .. وفي قمة هذا التعريف جاء حديث المعصوم (( إن لم تخطئوا وتستغفروا فسيأت الله بقوم يخطئون ويستغفرون فيغفر لهم . ))
    ومن كرامة الانسان عند الله أن الحرية الفردية لم يجعل عليها وصيا ، حتى ولو كان هذا الوصي هو النبي على رفعة خلقه وكمال سجاياه . فقد قال تعالى في ذلك (( فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر )) ، والمعنيون هنا هم المشركون ، الذين رفضوا عبادة الله ، وعكفوا على الأصنام ، يعبدونها ، ويتقربون إليها بالقرابين ، والمنهي عن السيطرة عليهم هو الرسول محمد ، الذي لم يـرد علوا في الأرض ، والذي قال تعالى عنه (( وإنك لعلى خلق عظيم )) .. ومن هذا نأخذ أنه ليس هناك رجل هو من الكمال بحيث يؤتمن على حريات الآخرين . وأن ثمن الحرية الفردية هو دوام السهر الفردي عليها .. وفي الحق أن الحرية الفردية حق أساسي يقابله واجب هو حسن التصرف في ممارستها . ولما كان مجتمع المؤمنين قاصرا عن الارتفاع إلى ممارسة الحرية الفردية في الاختيار والعمل فقد جعل النبي وصيا عليهم ليعدهم لتحمل مسئولية الحرية الفردية المطلقة ، وهو أثناء وصايته عليهم يصر على إعطائهم حق الخطأ ، كلما وسعه ذلك ، من غير أن يشق عليهم أو يعنتهم .. فهو بذلك إنما يعدهم لممارسة الديمقراطية حين يقوى عودهم ، ويستحصد عقلهم .. وبذلك أمر الله حين قال (( فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله ، إن الله يحب المتوكلين )) .
    وهذه آية الشورى ، والشورى ، حيث وردت ، سواء في هذا الآية ، أو في قوله تعالى(( والذين استجابوا لربهم ، وأقاموا الصلاة ، وأمرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون )) فليست آيـة ديمقراطية ، وإنما هي آية تنزلت من آية الديمقراطية لتعد الناس ليستأهلوا الديمقراطية ، حين يجئ أوانها ..
    فالشورى ليست أصلا ، وإنما هي فرع ، وهي ليست ديمقراطية ، وإنما هي حكم الفرد الرشيد الذي يعد الأمة لتصبح ديمقراطية .. والأصل في الديمقراطية آيتا (( فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر )) .
    وبنفس هذا القدر، الزكاة ذات المقادير ليست اشتراكية ، وإنما هي رأسمالية .. وآيتها (( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ، وتزكيهم بها ، وصل عليهم ، إن صلاتك سكن لهم )) ليست أصلا ، وإنما هي فرع . والغرض وراءها إعداد الناس نفسيا ، وماديا ليكونوا اشتراكيين ، حين يجئ أوان الاشتراكية .. والآية الأصل ، التي تنزلت منها آية الزكاة ذات المقادير ، هي قوله تعالى : (( يسألونك ماذا ينفقون قل العفو )) ولقد أسلفنا الإشارة إلى ذلك .
    ولما كانت الرسالة الثانية تقوم على الارتفاع من الآيات الفرعية إلى الآيات التي هي أصل ، والتي جرى منها التنزل إلى الفروع لملابسة الزمان ، ولملاءمة طاقة المجتمع ، المادية ، والبشرية ، فقد وجب الارتفاع بالتشريع ، وذلك بتطويره ليقوم على آيات الاصول ، وكذلك يدخل عهد الاشتراكية ، وعهد الديمقراطية . وينفتح الطريق إلى تحقيق الحرية الفردية المطلقة بالممارسة في مستوى العبادة ، ومستوى المعاملة . وهذه هي شريعة المسلمين .. شريعة الأمة المسلمة التي لما تأت بعد ، وقد أصبحت الأرض تتهيأ لمجيئها .. فعلى أهل القرآن أن يمهدوا طريقهم ، وأن يجعلوا مجيئهم ممكنا ، وميسرا ، وهذا ما من أجله كتب هذا الكتاب .
                  

01-22-2014, 01:42 PM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)


    المساواة الاجتماعية: محو الطبقات والفوارق

    هذه أصعب المساويات تحقيقا ، وتعتبر المساواة الاقتصادية ، والمساواة السياسية مقدمة لها ، وهي تتويج لهما ، وخلاصة ، وقمة .
    وهي لم تتحقق للإنسانية إلى يوم الناس هذا ، ولن تتحقـق في المستقبل إلا بالجهد الشاق ، والتربية ، والتعليم ، لتصحيح ، وتغيير ما هو كالطبيعي في المسلك الإنساني . وهي بذلك أرقى إنتاج المدنية في جميع العصور . إذ المدنية إن هي إلا محاولة تبعد الانسان عن نزعاته الحيوانية الدنيئة ، وتقوده إلى مستوى أعلى من الخلق ، حيث يستبدل قانون الغابة - قانون العنف ، والسيطرة بالقوة - بقانون العدل ، والحق ، والمرحمة - فيدخل بذلك التحسين في نوع العلاقات البشرية ، فيحل الرضا محل القوة ، والعدالة محل الاستغلال ، والحرية محل الكبت ، والعاطفة المتسامية بالعقل القوي ، محل العاطفة الناضبة .
    وشأننا مع هذه المساواة في هذا الكتاب شأننا مع سابقتيها وهو إرجاء الاستقصاء إلى موعده من كتاب (( الإسلام ديمقراطي اشتراكي )) حيث نبحثها بحثا مستفيضا ولكن لا بد من الإشارة إليها هنا بما يحتمله المقام من تطويل .
    موضوع المساواة الاجتماعية هو الفرد البشري ، كما كان الأمر في شأن المساواة الاقتصادية ، والمساواة السياسية .. فإن الفرد البشري ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرات ، هو الغاية وراء كل سعي جماعي .. هو غاية وسيلتها الإسلام والقرآن ، وهما أعظم الوسائل المنهجية على الإطلاق . ووسيلته أيضا المجتمع ، وهو أعلى ما أنتجته الإنسانية إلى اليوم . والفرد الذي هو غاية هو الفرد البشري ، من حيث أنه بشري .. حتى وإن كان أحمق .. فإنه يجب أن لا يجعل وسيلة إلى شئ سواه .. ومن أجل ذلك وجب ألا تقوم بين الأفراد فوارق من جراء المولد ، أو العنصر ، أو اللون ، أو العقيدة ، أو الجنس من الذكورة والأنوثة . قال تعالى في ذلك : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير )) قوله (( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) يعني إنما تكون الكرامة بالعلم والخلق .. فإن التقوى علم وعمل بمقتضى العلم ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى (( إن الله عليم خبير )).. (( عليم )) إشارة إلى العلم.. (( خبير )) إشارة إلى التصرف بالعلم . وقال المعصوم (( الناس لآدم وآدم من تراب ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) .
    وعدم التمييز الاجتماعي ضد الضعيف ، ومحو الفوارق التي قامت على قانون الغابة بين الأفراد والطبقات هو عمل التمدين الأكيد ، فإذا وجدت مجتمعا للضعفاء فيه حق محفوظ ، وكرامة مرعية ، وإذا وجدت مجتمعا للنساء فيه حرية ، وحرمة ، وتشريف ، وللأطفال فيه حقوق ، وله بهم عناية ، وعليهم رحمة ، ولهم فيه محبة ، فاعلم أنه مجتمع متمدن ، ومتحضر .
    والأسرة هي المجتمع الأول ، وفيها تعلم ، ولا يزال يتعلم ، الفرد النظام ، والسلوك الاجتماعي النظيف ، واحترام القانون ، وتوقير السلطة ، والتعاطف ، والتسامح ، والمحبة .. ولا تزال للأسرة مقدرتها الفائقة على تربية الأفراد التربية التي تكون بعيدة الأثر ، على حياتهم الفردية ، وحياتهم في مجتمعهم الصغير ، وفي مجتمعهم الكبير ، حين يبرزون إليهما ، وعماد الأسرة الأم ، وهي ملكة المملكة الصغيرة ، ولكن مع شديد الأسف فإن الاعتراف بها لم يتفق للاسرة البشرية إلى اليوم . فإنها كانت ، ولا تزال ، مضطهدة . وكان ، ولا يزال ، دورها في بيتها دور الخادمة .. ولهذا الوضع سود العواقب على تنشئة الأطفال ، مما يترك عميق الأثر في حياة المجتمع برمته وفي جميع مستوياته .
    ولقد أسلفنا القول في هذا الكتاب عن أمر المساواة المطلقة بين الرجال والنساء مما لا نحتاج إلى إعادته في هذا الموضع ، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن أمر المساواة الاجتماعية لا يجئ عفوا ، وكأمر طبيعي للتطور . بل لا بد فيه من التخطيط ، والتطوير الذكي للمجتمع ، ذلك بأنه يحتاج إلى تعليم ، ويحتاج إلى تربية .. والتعليم غير التربية ، فإن غرض التعليم إكساب الفرد الخبرة المهنية التي تجعله مفيدا للمجتمع في الميدان الذي خلق وهو مستعد له بما ركز في فطرته من موهبة .. وهو ضروري ليسلح الأفراد بالقدرات العلمية ، والفنية ، والادارية ، والتكنولوجية ، لتنمية حضارة مجتمعهم ، وللتسامي بها في مراقي الكفاءة والكفاية . وفي التعليم يقع التخصص ، ويقع التمييز ، ويسود الاتجاه إلى التخطيط لإنجاب حاجة المجتمع - فيه يقع التمييز بين الرجال ، والنساء ، ويقع التمييز بين الرجال ، والرجال أيضا ، ذلك بأنه إنما يرمي إلى تنمية ، وتغذية الموهبة عند كل موهوب ، حتى يخدم مجتمعه في الميدان الذي خلق وهو مستعد له استعدادا فطريا ، بيد أن هذا التمييز الذي يقع في ميادين الاعداد لخدمة المجتمع المدنية لا يحمل معه أي امتياز اجتماعي ترتفع به ، تلقائيا ، مكانة فرد فوق فرد آخر .. وفي هـذه النظرة ، التي تتجه إلى إعداد المواطنين إعدادا مهنيا بواسطة برامج التعليم الموجه ، قيمة المرأة غير قيمة الرجل ، ولكنها قيمة مساوية لقيمته .. بمعنى أن المرأة ، حين تعد لتكون أما ، بأن تعلم كل ما يؤهلها لهذه الوظيفة الحيوية المتشعبة ، لا تقل خدمتها للمجتمع ، في نظر المجتمع ، عن خدمة أخيها الذي يعد ليكون مهندسا ، أو طبيبا ، أو مشرعا .. وليس لإعداد الأمومة الصالحة حد تقف عنده ، فإن الفتاة كلما علمت كلما زادت كفاءتها في ميدان الأمومة نفسها .. ومن أجل مصلحة المجتمع يجب أن يعلم كل فرد عملا يتقنه باليد وبالعقل ، وهو كذلك من مصلحة الفرد نفسه ، لأن الانسان لا تنضج قيمه الفكرية ، ولا قيمه الخلقية ، إلا إذا كان يحب العمل اليدوي ، ويتقن طرفا منه إتقانا حسنا ، ذلك بأن الترقي جميعه إنما هو علم ، وعمل بمقتضى العلم .. قال تعالى في ذلك (( إليه يصعد الكلم الطيب ، والعمل الصالح يرفعه . )) كل هذه المسائل تدخل في غرض التعليم ..
    وأما غـرض التربية فهو تحرير المواهب الطبيعية : العقل ، والقلب ، من أسر الأوهام ، والأباطيل .. فبسلامة القلب من الخوف ، وصفاء الفكر من الأوهام ، تتحقق حياة الفكر ، وحياة الشعور ، وهي غاية كل حي .. وهي مهمة التربية .. وللتربية وظائف كثيرة هي في جملتها نقل الانسان من الاستيحاش إلى الاستيناس ، حيث تصبح عاداته جميعها إنسانية ، ومهذبة .. فهو يأكل بطريقة إنسانية ، ويشرب بطريقة إنسانية ، وينام ، ويجلس ، ويتحدث ، ويتصرف في جميع شئونه ، العامة والخاصة ، بطريقة إنسانية ومهذبة ، فلا يعرض مباذله ، ولا يبدر منه ما يؤذي السمع ، ولا البصر ، ولا العقل ، ولا القلب .. وهو لا يبصق في الأماكن العامة النظيفة ، ولا يتبول ، ولا يتغوط ، في الأماكن العامة . ولا يرمي الأوساخ ، والقاذورات ، في الأماكن النظيفة على الطرقات . وهو ، على العموم ، يحاول ، بجهد الطاقة ، أن يترك كل شئ على صورة أحسن من التي وجده عليها .. ويجب أن يعده لكل أولئك التربية .. التربية في المدارس ، وفي النوادي ، وفي الأماكن العامة ، حيث يجري التثقيف ، والتعليم ، للشعب ، كل حين ، وبغير انقطاع ، وبكل وسائل الاعلام التي تستطيع الدولة أن توفرها ، من إذاعة ، وتلفزيون ، وسينما ، ومسرح ، وصحافة ، وكتب ، ومجلات ، ومحاضرات ، وأنواع التسجيل المختلفة ، لأنواع الفنون المختلفة ، حيث توجه الدولة كل إمكانات المجتمع لإنجاب الأفراد الناضجين ، وذلك بتوخي النهج التربوي السليم .. فإن مشاكل المجتمعات كون أغلبية الأفراد إما مراهقين ، أو أطفالا .. ويقل فيها الأفراد الناضجون الذين يقوون على مواجهة الحقيقة ، (( والأطفال يتابعون مبدأ اللهو ، وهو مبدأ يجعل الإنسان يتصرف مدفوعا بأهوائه ورغباته ، ويحاول أن يحقق أية رغبة عند ظهورها ، دون أن يوازن بين رغبة وأخرى وينفذها ، ويقترن الجري وراء هذا اللهو الوقتي المباشر بتجنب ما قد يسبب الفشل ، أو الألم ، أو الإنكار ، ومسلك كهذا ينشأ من الفشل في التمييز بين الرغبات المتنازعة على أساس معقول طويل المدى . وغالبا ما يحل التمني محل ما هو محتمل أو مرغوب فيه )) وليس هناك مخرج إلا عن طريق التربية .. والتربية ، بخلاف التعليم ، لا يقع فيها التخصص ، ولا التمييز بين الرجال والنساء ، وإنما هي حق أساسي لكل فرد بشري ، وهي تشمل حتى الأطفال ، ولا تحد إلا بطاقاتهم على التلقي ، والإدراك ، والتنفيذ . ولقد تحدثنا عن أسلوب الإسلام في التربية فيما سلف من هذا الكتاب مما لا موجب لإعادته ههنا .
    والقاعدة الذهبية في التربية هي أن تضع الأفراد أمام المسئولية وأن تعينهم ، بكل الوسائل ، على تحمل المسئولية ، ذلك بأن غرض التربية هو إنجاب الأفراد الناضجين .. هو إنجاب الرجال ، من الأطفال ، ومن المراهقين ، الذين تعج بهم المجتمعات عجيجا .. والفارق بين الأطفال والمراهقين ، وبين الرجال هو أن الرجال يتصرفون بحرية ، ويتحملون مسئولية تصرفهم ، بينما الأطفال والمراهقون يتركون التصرف خوف المسئولية ، أو يتصرفون ويحاولون الهروب ، تحت الظلام ، من مسئولية تصرفهم .
                  

01-22-2014, 01:43 PM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    خاتمة

    أما بعد فان فيصل القول في أمر الرسالة الأولى ، والرسالة الثانية ، هو أن للدين شكلا هرميا قمته عند الله ، حيث لا عند ، وقاعدته عند الناس .. (( إن الدين عند الله الإسلام )) ، ولقد تنزلت هذه القاعدة من تلك القمة .. تنزلت إلى واقع الناس ، وحاجتهم وطاقتهم البشـرية ، والماديـة ، فكانت الشريعة .. وستظل قمة هرم الإسلام فوق مستوى التحقيق ، في الأبد ، وفي ما بعد الأبد ، وسيظل الأفراد يتطورون في فهم الدين ، كلما علموا المزيد من آيات الآفاق ، وآيات النفوس . والله تبارك وتعالى يقول (( سنريهم آياتنا في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق ، أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟ )) ويقول (( ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء )) وهو تبارك وتعالى يشاء لنا الزيادة من علمه كل لحظة ، وفي ذلك يقول (( كل يوم هو في شأن )) وما شأنه إلا إبداء ذاته لخلقه ليعرفوه .. وهو تبارك وتعالى يعلمنا في ذلك فيقول (( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى اليك وحيه ، وقل رب زدني علما )) وما الزيادة في العلم إلا ترق من قاعدة الهرم نحو قمته في تطور مستمر .. وحين يتطور الإنسان بفهم الدين ، في فهم الدين ، يطـور شريعتـه ، تبعا لحاجتـه ولطاقتـه ، من القاعـدة الغليظة إلى قاعدة أقل غلظة ..
    فالأفراد يتطورون في فهم الدين فيدخلون في مراتب الشرائع الفردية ، والمجتمعات تتطور ، تبعا لتطور الأفراد ، فترتفع شرائعها من قاعدة غليظة إلى قاعدة أقل غلظة .. وذلك صعدا في سلم هرم قاعدته شريعة الرسالة الأولى ..
    فإذا كانت قمة هرم الدين ، فيما يختص بالمال ، هي آية (( يسألونك ماذا ينفقون قل العفو )) فان قاعدته هي آية (( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ، وتزكيهم بها ، وصل عليهم ، إن صلاتك سكن لهم ، والله سميع عليم )) ، وعليها قامت شريعة الرسالة الأولى في الزكاة ذات المقادير ، وجعلت شريعة في المال ، وركنا في العبادة ، وذلك لأن الناس لم يكونوا يطيقون أفضل منها ، وترك أمر تحقيق قمة الهرم للأفراد ، كل حسب طاقته ، وورد الترغيب في التسامي في قول المعصوم حين قال (( في المال حق غير الزكاة )) وورد في قوله تعالى حين قال (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )) وذلك لأن شريعته هو في المال ، وركنه في العبادة ، هو أقرب الى القمة ..
    وإذا كانت قمة هرم الدين ، فيما يختص بالسياسة ، هي آيتا (( فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر )) فإن قريبا من قاعدته آية الشورى (( فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله ، إن الله يحب المتوكلين )) وقاعدته على الإطلاق هي آية السيف (( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وخذوهم واحصروهم ، واقعدوا لهم كل مرصد ، فإن تابوا ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، فخلوا سبيلهم ، إن الله غفور رحيم )) .
    وعلى هذه القاعدة قامت شريعة الجهاد ، وعلى آية الشورى قامت شريعة الحكم ، على أساس وصاية الفرد الرشيد على المجموعة ..
    فقاعدة الهرم في هذه ليست ديمقراطية . وإنما هي أقرب ما تكون إلى الديمقراطية ، في وقت لم تكن الديمقراطية قد عرفت ، ولم يكن المجتمع مستعدا لممارستها .
    وقاعدة الهرم في تلك ليست اشتراكية ، وإنما هي أقرب ما تكون إلى الاشتراكية ، في وقت لم تكن الاشتراكية ، بمضمونها العلمي ، قد عرفت ، ولم يكن المجتمع مستعدا لممارستها ..
    فإذا كانت البشرية ، في مدى أربعة عشر قرنا قد قطعت أرضا شاسعة نحو النضج ، وأصبحت تستقبل عهد الرجولة ، وتستدبر عهد الطفولة .. وأصبحت ، بفضل الله ، ثم بفضل هذا النضج ، تطيق ، ماديا وفكريا ، الاشتراكية والديمقراطية ، فقد وجب أن تبشر بالإسلام على مستواهما ، وهذا يعني الارتفاع من قاعدة شريعة الرسالة الأولى الغليظة إلى قاعدة أقل غلظة ، ترتفع هونا ما نحو القمة ، وستظل القمة دائما في منطقة الفرديات .. وأدنى منازل القاعدة الجديدة هي المدخل على الاشتراكية ، وذلك بتحريم تمليك وسائل الانتاج ، ومصادر الإنتاج على الفرد الواحد ، أو الأفراد القليلين في صورة شراكة .. فإن هذا يفتح أبواب التشريع على الاشتراكية ..
    وأدنى منازل القاعدة الجديدة هي المدخل على الديمقراطية وذلك بوجوب حق الانتخاب لكل مواطن ، ولكل مواطنة ، بلغ وبلغت سنا ، معينة مثلا ، وكذلك حق الترشيح .. فإن هذا يفتح أبواب التشريع على الديمقراطية .
    وهذا الصنيع هو ما يسمى بتطوير التشريع .. فهو ارتفاع ، من نص فرعي ، يستلهم أكثر ما يمكن من التسامي نحو نص أصلي .. هو ارتفاع من نص إلى نص .
    وهناك تشريع متداخل بين الرسالة الأولى والرسالة الثانية كتشريع العبادات ، وهذا لا يدخل فيه ، من التطوير ، إلا ما يجعل قمته مفتوحة على منازل الشرائع الفردية ، لكل فرد تسامى ، بفضل الله ، ثم بفضل إتقان التقليد ، إلى تحقيق فرديته التي ينماز بها عن أفراد القطيع .
    فالشريعة الجماعية ليست أصلا، وإنما الأصل الشريعة الفردية ، ذلك ، وبنفس القدر الذي به الجماعة ليست أصلا ، وإنما الأصل الفرد .. ولكن الناس لكثرة ما ألفوا المعيشة في الجماعة ، ولشدة أثر غريزة القطيع عليهم ، ظنوا الأمر بعكس ذلك . فأنت تراهم يستغربون ، ويستوحشون عندما تكلمهم عن الشرائع الفردية . ولأمر آخر أيضا ، فإن الشريعة الفردية مرتبة رجولة ، ومرتبة مسئولية . والناس لا يزالون أطفالا ، يحبون أن يحمل غيرهم عنهم مسئوليتهم ، ويطيب لهم أن يظلوا غير مسئولين .. أو هم إن احتملوا المسئولية فإنما يحتملونها في القطيع ، وعلى الطريق المطروق . أما أن يكون المسئول وترا ، وأن يطرق طريقا بكرا ، فإنه أمر مخيف ، ولا يجد في النفوس استعدادا ، ولا ميلا .
    والمدخل على الرسالة الثانية الرسالة الأولى . إلا ما يقع عليه التطوير من تشريعها .. ولا يقع التطوير في أمر العبادات إلا على الزكاة ذات المقادير ، وما ذاك إلا لأنها ليست ركنا تعبديا إلا لعلة أن الناس لم يكونوا يطيقون أفضل منها ، وإلا فإن الركن التعبدي إنما هو زكاة المعصوم . ولا يقع التطوير على تشريع المعاوضة ، وما ذاك إلا لأنه أصيل ، وقد بني على الأصول الثوابت من الدين . وإنما يقع التطوير في تشريع المعاملات ، كالحقوق الأساسية للأفراد ، وكالنظم الاقتصادية والسياسية ، إلى آخر ما يرتبط بتحولات المجتمع ، وما يسرع إليه التغيير من هذه النظم التي يجب أن تواكب المجتمع في حيوية ، واقتدار على التجدد ، والنمو ، والتطور ، وقد سبقت إلى كل أولئك الإشارة في هذا الكتاب .
    فالأصل في الرسالة الثانية الحيوية والتطور ، والتجدد ، وعلى السالك في مراقيها أن يجدد حياة فكره ، وحياة شعوره كل يوم ، بل كل لحظة ، من كل يوم ، وكل ليلة .. مثله الأعلى في ذلك قول الله تبارك وتعالى في شأن نفسه (( كل يوم هو في شأن )) ثم هو (( لا يشغله شأن عن شأن )) .
    فهو حين يدخل من مدخل شهادة (( ألا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله )) يجاهد ليرقى بإتقان تقليد المعصوم إلى مرتبة (( فاعلم أنه لا إله إلا الله )) ثم يجاهد بإتقان هذا التقليد حتى يرقى بشهادة التوحيد إلى مرتبة يتخلى فيها عن الشهادة ، ولا يرى إلا أن الشاهد هـو المشهود ، ويطالع بقوله تعالى (( شهد الله أنه لا إله إلا هو ، والملائكة ، وأولو العلم ، قائما بالقسط ، لا إله إلا هو ، العزيز الحكيم )) وعندئذ يقف على الأعتاب ، ويخاطب كفاحا ، بغير حجاب (( قل الله ! ثم ذرهم في خوض يلعبون )) ، و (( قل )) هنا تعني (( كن )) وههنا مقام الشرائع الفردية . وحين يرقى السالك في مدارج الرسالة الثانية من مدخل الرسالة الأولى على النحو الذي بينا يكون قد قطع درجات السلم السباعي ، من درجة الإسلام ، إلى الإيمان ، إلى الإحسان ، إلى علم اليقين ، إلى عين اليقين ، إلى حق اليقين ، إلى الإسلام من جديد ، ثم يبدأ من جديد ، على مستوى جديد ، دورته الجديدة ، وهكذا دواليك .
    إن الإسلام سلم لولبي ، أوله عندنا في الشريعة الجماعية ، وآخره عند الله ، حيث لا عند ، وحيث لا حيث .. والراقي في هذا السلم لا ينفك في صعود إلى الله (( ذي المعارج )) فهو في كل لحظة يزيد علمه ، ويزيد ، تبعا لذلك ، إسلامه لله . وتتجدد بكل أولئك حياة فكره ، وحياة شعـوره .. ودخول العارج ، في هذه المراقي ، على مرتبة الشريعة الفردية ، أمر محتم ، وليس هو بالمقام البعيد المنال ، وإنما محك الكمال ، الذي تقطع دونه الأعناق ، هو أن تكون حقيقتك عند الله وأن تكون شريعتك الفردية طرفا من حقيقتك هذه . وهيهات !! هيهات !!. فإن ذلك سير في الإطلاق .. وليس في هذا القول مثالية ، لأنه في طرفه العلمي ، قد تنزل إلى أرض الناس ، وأخذ يشدهم إلى المطلق ، على تفاوت في التحصيل بينهم ، كل حسب مبلغه من العلم . فهم في سلم صاعد ، عدد درجاته بعد الأنفس ، و (( فوق كل ذي علم عليم )) إلى أن ينتهي العلم إلى (( علام الغيوب )) .
    إن هذا يعني أن حظ الانسان من الكمال لا يحده حد ، على الإطلاق . موعود الإنسان من الكمال مرتبة الإله . ومع ذلك فإن النهج إلى تحقيقه لا يقوم على المثالية ، وإنما يقوم على الواقعية الملموسة في مسلك العبادة ، وفي مسلك المعاملة ، وقد سلفت إلى كل أولئك التفاصيل .. وبحسب الانسان أن الله قد ادخـر له مـن كمال حيـاة الفكر ، وحيـاة الشعـور ، ما لا عيـن رأت ولا أذن سمـعت ، ولا خطـر على قلب بشر.
    لك الحمد اللهم كما أنت أهله ، حمدا كثيرا ، طيبا ، مباركا فيه .

    من أجل البعث الإسلامي

    من أجل استيعاب فكرة البعث الإسلامي هذه نوصي ، بالإضافة الى قراءة هذا الكتاب ، بقراءة الكتب الآتية :-
    رسالة الصلاة - الإسلام - لا اله الا الله - طريق محمد .
    قراءة طريق محمد تمامها بالعمل به (( من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم )) .
                  

01-23-2014, 07:11 AM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    بسم الله الرحمن الرحيم
    (( لا إكراه في الدين ، قد تبين الرشد من الغي .. فمن يكفر بالطاغوت ، ويؤمن بالله ، فقد استمسك بالعروة الوثقى ، لا انفصام لها.. والله سميع عليم .. ))
    (( ومن يسلم وجهه إلى الله ، وهو محسن ، فقد استمسك بالعروة الوثقى .. وإلى الله عاقبة الأمور .. )) ..
    صدق الله العظيم ..
                  

01-23-2014, 03:40 PM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    فالعروة الوثقى هي الشريعة .. والحبل الوثيق هو الدين .. وبين الشريعة والدين اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع .. فالشريعة هي القدر من الدين الذي يخاطب الناس - عامة الناس - على قدر عقولهم .. ولقد صدرنا هذه المقدمة بآيتين ، أولاهما: (( لا إكراه في الدين ، قد تبين الرشد من الغي . فمن يكفر بالطاغوت ، ويؤمن بالله ، فقد استمسك بالعروة الوثقى ، لا انفصام لها .. والله سميع عليم..)).. العروة الوثقى هنا الشريعة ، وهي (( لا انفصام لها )) من الدين لمن (( يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله )).. فإنها له موسلة ، وموصلة .. هذا شرط عدم انفصامها عن الدين - الكفر بالطاغوت ، والإيمان بالله .. وهذا يعني أنها منفصمة عن الدين لمن يستمسكون بها بغير كفر بالطاغوت ، وبغير إيمان بالله ، وهو ما عليه حال المسلمين اليوم .. هذه أولى الآيتين ..
                  

01-23-2014, 06:04 PM

عزام حسن فرح
<aعزام حسن فرح
تاريخ التسجيل: 03-19-2008
مجموع المشاركات: 8891

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    يا جمال ياخ ما تكرهنا في الأُسْتاذ.. معقول كِده.. على الأقل لامِن تفتح عمود للأُسْتاذ إدي العمود فُرصة ياخ! خلي العمود ياخُد وقتو.. خلي الناس تقراهو.. تداخل فيهو.. شنو عمود ورا عمود الأُسْتاذ قال.. الأُسْتاذ فعل.. الأُسْتاذ قام.. كَدي براك شوف عدد مشاركات الأعضاء في الأعمدة حقت الأُسْتاذ الإنت بتنزِل فوقا الصباح الصباح دي بطريقة الظليل/النسخ/اللصق) وشوف عدد قُراء العمود، العدادين ديل بِوضِحو ليك شعبِية العمود، ولو ما بتهتم بيهُم، حأسألك: إنت بتكتِب لمنو سمِح عاد.. عذبتنا؟! ياخ كُتُب الأسْتـاذ مُتوفِرة، الما مُتوفِر والمفروض يِيكون عندِك فوقا قول.. رأي.. شرح.. تفسير.. تأويل.. المفروض تقول لينا إنت فهمت شنو؟ بتعتقِد فوقا ليه؟ حققت شنو؟ الخطأ كان وين؟ الخطأ كان مِن منو؟ وليه الفِكرة ما مشت لِقِدام؟ عاد بس تبقى لينا مِتل بائعي الصُحف في التقاطعات [أقرأ الخبرأقرأ الخبر] وتاني يوم برضو نلقاك في تقاطُع بتروِج لخبر تاني [أقرأ الخبرأقرأ الخبر]

    (عدل بواسطة عزام حسن فرح on 01-23-2014, 06:13 PM)

                  

01-23-2014, 06:11 PM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: عزام حسن فرح)

    Quote: يا جمال ياخ ما تكرهنا في الأُسْتاذ.. معقول كِده.. على الأقل لامِن تفتح عمود للأُسْتاذ إدي العمود فُرصة ياخ! خلي العمود ياخُد وقتو.. خلي الناس تقراهو.. تداخل فيهو.. شنو عمود ورا عمود الأُسْتاذ قال.. الأُسْتاذ فعل.. الأُسْتاذ قام.. كَدي براك شوف عدد مشاركات الأعضاء في الأعمدة حقت الأُسْتاذ الإنت بتنزِل فوقا الصباح الصباح دي بطريقة الظليل/النسخ/اللصق) وشوف عدد قُراء العمود، العدادين ديل بِوضِحو ليك شعبِية العمود، ولو ما بتهتم بيهُم، حأسألك: إنت بتكتِب لمنو سمِح عاد.. عذبتنا؟! ياخ كُتُب الأسءـاذ مُتوفِرة، الما مُتوفِر إنك تقول فوقا قولك.. فهمت شنو؟ بتعتقِد فوقا ليه؟ حققت شنو؟ الخطأ كان وين؟


    عزام بي نفسو عندنا
    يا سلام
    زارتنا الربكة
    الحقيقة انا ما قاعد اكتب الكتب دي، انا قاعد انقلها نقل..
    والمسألة ما مسألة شعبية للعمود..الحقيقة في تركيز شديد اليومين ديل علي فكر الاستاذ/ وفي اتهامات متيرة ليهو بكتابات ما كتبا، و بعض الاخوة اشتكوا من عدم قيم الجمهوريين بتوفير المادة المكتوبة، عشان ده في الاول النوفر المادة وبعدين يتم النقاش حوليها..
    معليش استحملنا شوية

                  

01-23-2014, 06:30 PM

عزام حسن فرح
<aعزام حسن فرح
تاريخ التسجيل: 03-19-2008
مجموع المشاركات: 8891

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: جمال المنصوري)

    معليش يا جمال، بس أنا خايِف تبقى لي إنت سبب في كرهي سيرة "الأُسْتاذ" زي ما كرهنا بدرالدين الأمير في مُصْطفى سيدأحمد.. والله يا جمال يا خوي لامِن أسمع بدرالدين الأمير بِقول: [ موسـطـفـانـا ] وبِكون حين القَول ماد عنقرتو ومُغمِض عِويناتو الود مُسْتغرِق يعني، والله يا جمال التقول زي لامِن أسمع [ موسـطـفـانـا ] دي منو، زي البتسقُط مِن جُواي أغْنِية لمُصْطفى سيدأحمد + لحنين + لِقاء، لامِن بقيت أتَوجس مِن ذِكرى مُصْطفى سيدأحمد السنوِية.. أها عليك الله ما لي حق هسِع أتَوجس مِن الإغراق البتسوي فوقو إنت ده في شأن الأُسْتاذ.. ما علينا
                  

01-23-2014, 06:37 PM

جمال المنصوري
<aجمال المنصوري
تاريخ التسجيل: 04-02-2009
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرسالة الثانية من الإسلام (Re: عزام حسن فرح)

    Quote: معليش يا جمال، بس أنا خايِف تبقى لي إنت سبب في كرهي سيرة "الأُسْتاذ" زي ما كرهنا بدرالدين الأمير في مُصْطفى سيدأحمد.. والله يا جمال يا خوي لامِن أسمع بدرالدين الأمير بِقول: [ موسـطـفـانـا ] وبِكون حين القَول ماد عنقرتو ومُغمِض عِويناتو الود مُسْتغرِق يعني، والله يا جمال التقول زي لامِن أسمع [ موسـطـفـانـا ] دي منو، زي البتسقُط مِن جُواي أغْنِية لمُصْطفى سيدأحمد + لحنين + لِقاء، لامِن بقيت أتَوجس مِن ذِكرى مُصْطفى سيدأحمد السنوِية.. أها عليك الله ما لي حق هسِع أتَوجس مِن الإغراق البتسوي فوقو إنت ده في شأن الأُسْتاذ.. ما علينا


    يا عزام اخوي
    انت عارف انا بكتب من 2009 وما حصل سويت زي ده..
    والله لولا انو الناس بتنقصها المعلومات عن كتب الاستاذ/ ما كت نقلتها..
    تخيل في واحد ساكيني في الفيس يخت لي 3 نقاط علي التوالي، محمود قال ان الانسان يبقي الله ويسقط عنو التكليف..2- محمود قال رفعت عني الصلاة..
    اسوي شنو باقيليك لو ما جبت الكتب حب ابقي زي الببغاء.. اردد نفس الاجابة كل ما ينط لي واحد بي كلام زي ده..
    زمان كنا بنزل رابط الفكرة.. لكن الظاهر الناس ما عاوزة تتعب نفسها دايرة الجاهز..
    لو ملاحظ الكتب الاخبرة بقيت انزل المقدمة واخت الرابط.. يمكن ربنا يسهل ويقروها..
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de