مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة

نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب الزميل فتحي البحيري فى رحمه الله
وداعاً فتحي البحيري
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-27-2024, 11:26 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-16-2013, 12:58 PM

ود الخليفه
<aود الخليفه
تاريخ التسجيل: 07-21-2002
مجموع المشاركات: 3178

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة (Re: ود الخليفه)

    Quote: عبدالله الطيب.. وُلِد وبيده طبق من لغة

    عبدالغني كرم الله



    (الكرتوم ده واللاااهي أكبر دار للمسنين في العالم كلووو)!! هكذا قالت جريزلدا، زوج العلّامة، ولكن لِمَ قالتها؟، ولِمَ صفَّقَت القاعة كلّها؟، فلها حكاية وقصة طويلة مطويّة في متن هذا المقال. كم يرهق نطق حرفي (الحاء، والخاء) العجم، فقد حكت رحالة إنجليزية زارت القدس في القرن التاسع عشر: «مهما هصرت لساني تحت حنكي، غلبني أن أنطق الهااا»، وهي تقصد الحاء. قالت بأنها هصرت لسانها، تحت حنكها، وحين لم تستطع نطقه، هرسته بأصبعها أيضاً، (أي لسانها)، ثم من جوف حلقها أخرجت الهواء قوياً، عسى ولعل تصنع إيقاع حرف الحاء، فخاطبها السماع بـ «هااااااء» بينة.يقال بأن نطق كلمة (مدينة الحصاحيصا)، كان له شأن عظيم، في كشف أهل القرن الإفريقي الكرام، من الأحباش والإرتيريين، حين تشابهت الملامح، بيننا، وبينهم، حد وقع الحافر على الحافر، ولم يبق سوى حدّ الحاء، فاصلاً بيننا وبينهم. حين كان نميري ثم من بعده هؤلاء يحرمون شعبهم وزوارهم من دول الجوار من أكل خشاش الأرض السمراء الواسعة، فغضب الله عليهم، وأغلق مصنع نسيج «الهسهيسا»، ليوم الناس هذا، لم يطعموهم ولم يتركوهم يأكلون من خشاش الأرض، فقد حبس أهل القرن في معسكرات، وحبس أهل البلاد، في بيوتهم، بلا وظائف، أو داخل البلاد، بلا تأشيرة خروج، فقط للحروب والصفير والصراخ في مواكب النصر المزيَّف داخل البلاد.

    قدم عريف الحفل، وهو ضليع في اللغة، برنامج الجلسة الأولى، أي كلمة كانت تأخد تشكليها رفعاً، وفتحاً، وسكوناً، وشعرت بأنها- أي اللغة- لها الحق، أن تفتن الشعراء في البدء مثل تلاعب ألفاظ.

    كانت الدراسة الأولى، إضاءة في سيرة عبدالله الطيب، وزواجه الميمون، «من شرق يحنّ للغرب»، السيدة جريزلدا، يقدمها البروفيسور عبدالقادر محمود، وتعقبها مداخلات، ثم ورقة «سيرة عبدالله الطيب من منظور أدبي يقدمها الأستاذ مصطفى الصاوي، وفي البدء آيات من القرآن الحكيم يتلوها عليكم الشيخ صديق أحمد حمدون.

    خلفي تجلس شابات صغيرات، أظنهن من جامعة الخرطوم، وهن خير دليل للانقطاع المعرفي بين الأجيال، كانت إحداهن، تتلفت يمنة ويسرة، في انتظار أن يصعد الشيخ المقرئي الشهير صديق أحمد حمدون المنصة، وهو المتوفَّى قبل أن تولَد، حيث رحل إلى قصر قبره عام 1985م، كانت تراقب رجلاً عجوزاً، بجلباب أبيض، يبحث عن كرسي، وحسبته المقرئ المبارك، وأظنها امتعضت لتأخُّره في الصعود. «قد تكون على موعد، أو موطنها بعيد عن الجامعة» بعد تصفية سكن الجامعة القريب كي لا يعود هناك تجمّع، ووقت فراغ للفكر والتأمُّل والمعارضة، بل يُبَدَّد الوقت في الطريق من الجامعة وإليها.

    أظنها قطيعة مقصودة، ولو بمكر العقل الباطني لحكّامنا، وسلاطين الثقافة، أي وزرائها الكرام، ما بعد الاستقلال، صرنا (منبتّين)، فلا أحد يعرف جَمّاع، ولا التجاني، ولا أستاذ محمود محمد طه، ولا نقد، ومن هم أبطال التاريخ الحديث، ورجالاته، وقعت وصاية ما، على كاهل الشباب، في ألا يعرف تاريخه كما هو، وليس كما يسطِّر المؤرخ الملتوي، اتركوهم والتاريخ، فلهم عقول، مثل ما لكم، إن لم تكن أعمق وأعقل، كي لا نفتنّ كلّ يوم في تصوّر للهوية أو توزيع للثورة، والسلطة، كما يجري الآن، بل صار العسكر الجدد يمنعون تأمل ما جرى في زمان العسكر الأقدم منهم، وها نحن مَحَلَّكْ سِرْ، فاتركوا الشباب وتاريخهم، يفحصوه، ويدرسون، بمهل وصدق بعيداً عن الوصاية والأكاذيب الكبيرة والصغيرة، التي وقع فيها أغلب المؤرخين، فصارت لنا هويات بلا هوى وعشق، ومات شبابٌ نضر في حروب سَنَّها الأجداد، تُسنّ القبور السكاكين، وتشعل الحرب، وتدفع الأرحام أطفالاً يشتد عودهم في أتون البغض والكراهية. وفي ريان شبابهم، تدفعهم تلكم القبور التي بين الجماجم، إلى الموت، وكأن الماضي هو السيد، فلنضع الحصان أمام العربة، كي يقود فرس المستقبل الحياة، وليس ماضيها، فالخيال أمير الغد، لا الذاكرة المهترئة.

    كنتُ خمسة سويعات في حضرة العلامة كانت في قاعة الشارقة، زوجته السودانية الإنجليزية، وكانت خير برهان، لجمال وتنوُّع هذا الرجل الفريد، وصفية قريبته، جاءت من التميراب، ورجال من بلاد نجيريا، وأصحاب من سلطنة عمان، فقد كان العلامة حراً، يصلح أن يكون نموذجاً للشخصية السودانية، النظيفة، المتواضعة، السمحة، التي طمستها في أخر العقود السنوات العجاف، إسلام الآفاق، وليس النفوس، وحتى في الآفاق مظهرها، حين كان الدين في وطني يعنى بالداخل، بالباطن أو في حكمة العبيد. لكن انحرف الدين من بواكير العباسيين، وقبل الأمويين، حتى صار دين فقه، وليس دين تربية وسلوك، وغرف من أغوار النفس، وما أغناها، ولكن، في تلكم النفوس كان الله حاضراً، حتى في الاختلاف، فلا انزعاج من تجلّياته في الشر والفضيلة. لكن، جاء أقزام الدين، وأبطال الدنيا، فسرقوا الدين باسم الدين، فشحموا، وكنزوا، وسافروا سياحة (للنفس، لا لله)، في بلاد العالم، والشعب جائع، ويدرس أبناؤهم في أعتى جامعات الكون.

    لله درّ الحديث عنه، يأبى إلا أن يجرّ النفس، لحديث هنا، وهناك. فقد كان هو يفكر بطريقة دائرة، حين يحكي في المذياع والتلفاز. حديثه ممتع، يحلِّق ويشرِّق ويغرِّب، دون ملل، كم كنت أحب مجرد نطقه للأحرف، للكلمات، للجمل، أحسّها بين لسانه كحلوى، يتذوَّق الكلمات العربية كأنها بلحة بركاوي (قيل بأنه يحبه)، لأنه يعرف فصلها، وأصلها، ومشتقاتها، وبناتها، وقدراتها اللفظية، وجرسها، ورمزيتها، ومن أي صوت أو طبيعة استقت (مثل زقزقة العصافير). كم شَدَّني كتابه الفريد «المرشد في فهم أشعار العرب» أعظم كشكول للشعر العالمي والجاهلي والإفرنجي والشعبي، وأعظم تداعيات في شأن اللغة، وأجمل خواطر شخصية، أحسّه كتبه بحروف العبقري الذي يكره حتى أصنام المناهج، فيخرقها بعلم وتأويل، للأعمق، أسمعه يتحدث عن «الضمة، والسكون، والكسرة»، في شأن التنوين والتشكيل، فيقول إنها أصوات كي تعبر عن حالتنا، في القوة، والبأس والانكسار، واللطف، يقول إن الكسرة وليدة الأنوثة، وتعابير الحياة الهشة، والضمة وليدة شئون الحرب، الصغيرة، والكبيرة، كتاب ممتع بحق وجريء في مادة صارمة.

    كان العلّامة، رجلاً متديِّناً، يصادق السكارى والدروايش، ودخل بارات لندن مع صحبه دون استياء، وتزوَّج ببريطانية، أسكنها الدامر ثلاثة أشهر كرام، وهي أُعجبت بالبلاد والعباد، ورسمت بلون ريشتها جمال سمرتنا وتراثنا وأساريرنا. كان هناك معرض لها، خارج القاعة، وصور له تشعّ من عينيه النجابة والدهاء الطيب.

    في المعرض، الموازي لحلقات الدرس، للفنانة جريزلدا، تعجبت من سرّ العادة فينا، فكم رسمت أشياء وزوايا في حياتنا نمرّ بها مرور الكرام، لعمى العادة، وصمم التعبير! لكنها هي فتنت بها، فرسمت كل شيء بدهشة: البروش، الصلاة، قعدة البن، وجبر الخاطر في العرس والمرض، نساء حول مريض، أو عريس، كأنها مثل قيس، حين أصرّ على أن زيارة قبر ليلى، نسك من مناسك الحج والعمرة، وقد صدق.

    ما أعظمها من ورثة، موهبة، قُدّت في جرم صغير أسمر، لمّاح، طيب، ودود الأسارير، استلَّته الحياة طفلاً في أواخر رمضان، عام 1921م. غرب الدامر، صرخ الطفل صرخته الأولى في قرية طينية زاهدة، قرية التميراب بين أخوال وأعمام وأهل كتب الدهر عليهم حياة تصوُّف، بين نور القرآن ونار القيام والصيام.

    ولد الطفل عبدالله، فصار الابن وحيد أمه، «أخا أخوات»، مسئولاً ومثابر، ومن عجب لم يتجاوز الفتى العقد الثاني، حتى سَطَّر ملحمة لغوية وشعرية وفكرية، بل وسياحة أدبية، سميت مجازاً «المرشد في فهم أشعار العرب»، أظهر فيها من البراعة الموروثة والمكتسبة، التي قُدَّت في جارحَتَيه.. عقله، وقلبه، في فهم اللغة، وأجراسها وقواعدها ودورب خلقها، ومآل حالها ومآلها ما يحيِّر الألباب، قياساً لصغر عمره، وبفهم وحب وهيام عبقري للمرأة اللعوب «اللغة».

    لو كانت بلادنا تعرف أقدار الرجال، لفرَّغَته تماماً للدرس والتحصيل، كثروة وطنية سمراء، بدل أن يدرس، هنا وهناك وراء الحدود، في نيجيريا والمغرب، أو يدير جامعة، ويفني جزءاً من ذهب وقته في هموم ومشاكل إدارية، أولى بها عقل آخر، جُبِل عليها، ولكنا شغلنا فراغه الميمون بإدارة جامعة الخرطوم، وشغل هو نفسه بتنظيم شعر، كان أجدى به وهب عظيم آخر، غير الشعر، قُدَّ فيه، ومثله كُتّاب عظام، بددوا طاقاتهم، في سبيل كسب العيش، وحياة الكفاف، في بلد يجني سماسرة السوق وباعة الدولار ورجالات الدين ثروة في لمح البصر، لم يحلم بها قارون، باستغلال النفوذ والسلطان والمكر، وصاروا، وهم سراق الشعب، أبناء بررة في البلاد، تكرِّمهم الدولة، ومؤسَّساتها، كل أسبوع، وقد جنوا مالهم، من وسائل كسب طفيلية، لا علاقة لها بالصناعة والزراعة، سبل أنانية، نفعية، ضارة بالحياة، وسعت فتوق المجتمع الأسمر الطيب، المتآخي عبر قرون طوال، إلى طبقات في الثرى وأخرى في الثريا، تركت الريف وأمصاره صحراء جرداء تنعق فيها البوم، وتصفر الرياح، ورحل أهلها، حفاة ومشاة، إلى هامش المدن، وتركوا خلفهم، بأسىً عظيم، ذكرياتهم وقبورهم.

    تقسو بلادنا (التي لم تتشكَّل بعد، كدولة أو كيان، أو هوية، أو حلم وطموح)، على أي عبقري يمرّ بترابها، يموت ألف مرة في اليوم، كلهم أعدمتهم بالإهمال، أو بسيف الهوس، أو النسيان، أو المحاكمات (التجاني، جماع، معاوية، نجيلة، محمود، عبدالخالق)، وغيرهم من شموس كانت ستنير للأمة دربها نحو الحرية والعلم والحب، ولكن طباع الاستبداد، بكل أشكاله، الظاهرة والمستترة، أقصت تلكم المواهب، فالعداء الفطري بين الظلمة والنور لا يجتمعان أبداً في أرض واحدة.

    لاشك، مرّ الرجل المخضرم بمخاض عسير، فتعدُّد مواهبه، جعله أسيراً لها بين عالم لغة، ومفسر قرآن، وشاعر «جاهلي»، وسارد عظيم لأدب الرحلات، ومؤلف عظيم في أدب اللغة، قوس قزح من المواهب، جعلته ضالاً، محتاراً، في أي طريق يسلك، أو جبل يصعد، أو وادٍ ينزلق.

    أظنه خطأ قديماً، يعود إلى غبار التربية الأولى، وصدأ قيم تعلي شأن فن على فن، كما جرى لبلادي في عشق الشعر والشعراء، ولكنه عشق جعل كل فنان يحرص على كتابته، لسهولة الأمر والنشر. وهذا ما جرى للعلامة العظيم عبدالله الطيب، ولكن بخسارة أقل، إذ لم ينحَزْ للشعر كلية، ولكنه أفنى وقتاً عزيزاً في صنعه، كان أولى به فن آخر كالسرد والحكاية، اللتين برع فيهما.

    ماذا كسبنا من اهتمامه بالشعر الجاهلي الذي سَطَّره وكأنه في بادية المعرة، أو راعٍ في وادٍ بذي سلم؟ وماذا خسرنا لإهماله أدب الرحلات، وهو من أساطينها بما يملكه من قوة ملاحظة ومقارنة وتهكُّم وحنكة وسلاسة لغة وعشق للحياة بكل صورها، وبساطة تحليل فطري يمس جوهر المتلقي والقارئ، ويفتح شهيته لرؤية دار الإفرنج، أو شمال بلادي، أو سفينة هولندية في الأربعينات، كما سطر في أدب رحلاته الفريد؟ ولكن ندامة الكُسَعي، تعترينا، فقد عضَّ إبهام موهوب في أدب الرحلات حتى بتره كان سيكون له أثر فريد في إثراء هذا النوع العتيق من الأدب، ويظهر ذلك جليّاً في كتابيه «من نافذة قطار»، و«من حقيبة الذكريات»، وهما يؤرَّخان لفترة هامة من تاريخ السودان، وإنجلترا، وأحداث العالم إبان الاستعمار، في الأربعينات والخمسينات، مما يدخله كمؤرخ أدبي واجتماعي للحياة السودانية، وحياة الإنجليز وقتها. وأرضها التي لا تعرف الغروب أو حتى الشروق.

    ففي كُتَيِّبه الرشيق العبارة، الودود الإشارة «من حقيبة الذكريات» ملأ الصفحات بمداد قلمه الأسمر، كي نسوح معه في تلك الفترة الهامة من تاريخنا وتاريخ بلادنا وأهله، ومثقفيه، فقط سَطَّر، وببراعة بسيطة، بلا تكلُّف، وبعين سودانية تستكشف الخصم في عقر داره، طرائق تفكيره، معيشته، حياته، نحن في نظرهم، وهم في نظرنا. وللحق، كتبها بروح معتدّة بذاتها، رغم سخريته من أبناء جلدته، كما يتراءى، وكأنه يحس بعبقريته، وأصله، وفصله، يبدو وراء السطور اعتداد جلّي، رغم مكر السخرية، منهم ومنا في تلك الحيوات ما قبيل الاستقلال. وينبري التهكُّم، حين تحاول صرامة الإنجليز وتقاليدهم، لترويض بدواة مُحَبَّبة، ومتوثِّبة بألف حكمة مغروزة في شباب سوداني جاء من بداية المجذوب، إلى لندن التقاليد المرعية بحسبان في البسمة والضحكة والجلوس والأكل، بل لكل طقس من هذه الطقوس من الأحكام ما يجعله مارشاً عسكرياً.

    تظهر في هذه (الحقيبة)، بساطة الحكي، مع إقحام شعر شعبي وجاهلي وعباسي، وفيها ولع بالتفاصيل، ومقارنة بين الحياة السودانية الفطرية والحياة الإنجليزية المعاصرة والمعقَّدة.

    ورغم أصوله الصوفية ونار المجاديب التي تشتعل في قلبه، إلا أن كتابته كانت متحرّرة من هذا الإرث الصوفي والتقاليد الإسلامية والسودانية، فقد كتب بفطرة شاب لا يأبه سوى لما يرى. وقد يكون حينها ظاناً بأن هذه الذكريات مُجَرّد (جوابات، ورسائل)، لأصدقائه، أو لمن يعرف القراءة والكتابة حينها.

    ومن هذه (الحقيبة) نشعر بالتناقض العجيب بين تعقيد شعره «الجاهلي» وبساطه كتابته النثرية، والسردية. كأنهما شخصان، لا شخص واحد، ففي شعره الجاهلي، كان شاباً مولعاً بالألغاز، وإثبات ضلوعه اللغوي الفذ، (إعرابي يسير في شوارع باريس، أو لندن بحماره)، كما نُسب إلى طه حسين.

    سَطَّرَ أدباً قديماً، أمام تجارب شعرية حديثة مثل البارودي والسياب ونازك والمجدوب والتجاني. فأشعاره لم تخلّد لابتعادها عن لغة العصر، من حيث اللغة الجاهلية، والألفاظ التي لا توجد إلى في مختار الصحاح، والقواميس التي استعملها جرير والحطيئة، وذات الأسلوب العروضي، مع ميل إلى تقليد مصطنع، جعل عامة الناس وخاصتهم، بمنأى عن اجترار أشعاره وحفظها، وخلوّها من تلك القشعريرة الجمالية التي تباغت قارئ الشعر، وتلك الغبطة التي تصيب المتلقي حين يُتلى الشعر أو يُقرأ.

    إن العبقري عبدالله الطيب، كان سيكون بطل الإمتاع والموانسة، فحديثه العذب، الشامل يسحر مستمعه بما فيه من رنّة جرس ولطف حكاية وبساطة حكي وعشق للحياة ونزواتها وبركتها، فأدب المؤانسة أدب قديم، ليته تمادى وأسرف في كتابته النثرية. وللحق، خسرنا روائياً عظيماً، يملك مقدرات مذهلة، حرمنا منها بانشغاله بشعر، لا أرى له جدوى، بل ليت فرَّغَ وقت كتابته للحكي، والنثر، أو حتى الحكي الشفوي. ما أعذب لسانه، وقلبه!.


    Quote: الإصابة بالشغف

    ديمة الشكر

    كان عبد الله الطيب مجذوب (1921 - 2003) في عقده الرابع حين ألّف واحداً من أهمّ المراجع النقدية في معرفة الشعر العربي وأضخمها في القرن العشرين: «المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها». فهذا السِفر الضخمّ المؤلّف من خمسة أجزاء نُشر للمرّة الأولى في القاهرة عام 1955، وأعيدت طباعته أربع مرّات، كانت آخرها في السودان عام 1991. وقد نال عبد الله الطيب على كتابه الفريد هذا، جوائز عديدة، منها جائزة الملك فيصل العالمية، ومنها ما يروى عن غرام الشاعر المصري أمل دنقل بهذا الكتاب، الأمر الذي كان يدفعه إلى زيارة دار الكتب المصرية يوميّاً كي يقرأ فيه، إذ كانت طبعته قد نفدت من الأسواق. لكن الجائزة الأهمّ كانت في سعي عميد الأدب العربي طه حسين إلى نشره (لذا نُشر أوّلاً في القاهرة) وتقديمه بقلمه البديع الصحيح: «هذا كتابٌ ممتعٌ إلى أبعد غايات الإمتاع، لا أعرف أنّ مثله أتيح لنا في هذا العصر الحديث». ولعلّ سراً وحيداً دفع العلامة الشاب إلى كتابة أزيد من ألفين وثمانمائة صفحة عن الشعر العربي، وليس لهذا السرّ إلا اسماً واحداً هو الشغف.

    أثار عبد الله الطيب في كتابه مسائل دقيقة تتعلّق بأصول الشّعر العربي وبأوزانه، وبالتناسب بينها وبين الأغراض الشعريّة. ومن الصحيح أن بعض الباحثين اهتمّ بهذا التناسب وناقش الكاتب في وجهة نظره، إلا أن «نظرية» عبد الله الطيب مجذوب في ما يخصّ أصول الشعر العربي، لم تلقَ حقّها من البحث والدرس. وعلينا ألا ننسى أن هذا الكتاب قد صدر في منتصف الخمسينيات من القرن المنصرم، في وقت لم يكن فيه من بحوث ودراسات تهتمّ بهذا الجانب الشيّق من تاريخ القصيد وإرهاصاته، وتمزج من أجل سبره والبحث فيه علميّ البلاغة والعَروض، فضلاً عن مقارنة ولو طفيفة، بين العَروض العربي من جهة والعَروضيْن الفارسي والإغريقي من جهة أخرى، بالإضافة إلى الانتباه إلى توزّع القبائل العربية وعلاقة ذلك بانتشار البحور الشعريّة. ومما لا شكّ فيه أن دراسة عبد الله الطيب مجذوب في جامعة لندن وحصوله على شهادة الدكتوراه من معهد الدراسات الشرقيّة والإفريقيّة، أتاحت له التفكير والبحث في أصول الشعر العربي. ويظهر ذلك في الفصل المعنوّن بـ «التقسيم» من الجزء الثاني من كتابه. حيث ينطلق من علم العَروض ليبيّن دور العَروض والضرب والقافية في التأثير على القراءة الجهرية للأبيات الشعريّة، مستفيداً من دور التضمين (أن تتعلّق القافية أو لفظة مما قبلها بما بعدها) في ذلك، لينفذَ بعدها إلى ما اصطلح على تسميته بـ «المقابلة التقسيمية أي المقابلة بين دقّات الوزن ودقات المواقف والاستراحة للسان». وبعد ذلك سيفصّل في التقسيم، وسينظر في مصطلحات البلاغيين القدامى الذين نظروا إلى الأمر عينه، لكنهم وضعوا مصطلحات مختلفة تخصّ المعاني والتراكيب البليغة، وسيمزج ذلك بحدسه النقدي الخاصّ الذي سيمكنّه من الكشف عن العلاقة الدقيقة بين التراكيب النحوية في البيت الشعري وعلاقتها بالأوزان، وتأثير ذلك على الإيقاع، وهو ما سمّاه بـ «التقسيم والموازنة»، حيث سيبيّن أن تطوّر التقسيم والموازنة أفضى إلى شكل القصيد، وذلك من خلال ستة أطوار هي «المراحل التي مرّ بها نظم الكلام العربي من الموازنة اللفظية إلى الصياغة البحريّة القافوية المحكمة». وفي كلام أوضح، فإن عبد الله الطيب وضع للمرّة الأولى في اللغة العربية بحثاً ينظر في الأشكال السابقة على القصيد وكيف تطوّرت لتكوّنه أي من «السجع الموزون إلى التسميط المحكم» بتعبيره وصولاً إلى القصيد. أو بكلام «معاصر» من سجع الكهان والرَمل والرجز (كأشكال شعرية لا كأسماء البحور المعروفة) وصولاً إلى القصيد وقد اكتمل، ما مكّن الخليل بن أحمد من استنباط أوزانه ووضع علم العَروض. وقد فعل عبد الله الطيب ذلك من خلال أمرين: معرفته الواسعة بالشّعر العربي وحدسه النقدي العالي، إذ لم تكن كثير من الكتب التراثية قد تحقّقت، خاصّةً كتب علم العَروض التي تشير في مقدّماتها إلى ما هو خارج عن أوزان الشعر العربي عبر أمثلة تسبق القصيد، وكذلك الكتب التي دوّنت وحفظت ما سبقه، ككتاب قُطْرُب «الأزمنة وتلبية الجاهلية» على سبيل المثال لا الحصر. ومن الصحيح أن عبد الله الطيب يخالف غالبية البلاغيين القدامى في ما يخصّ أسبقية القافية على الوزن، إلا أن اطلاعه على بعض الدراسات الإنكليزية التي تخصّ التراكيب البلاغية في التوراة والإنجيل، مكّنته من «تعريب»، إن صحّ التعبير، مفهوم التوازي PARALLELISM، (وهو ما سمّاه الموازنة، وكانت العرب تعرفه قديماً وسمّته الازدواج)، والاستناد إليه في تحليل تطوّر شكل الشعر العربي، من دون أن يهمل تماماً جهود البلاغيين القدامى في الإشارة إلى أثر الترصيع والتجانس اللفظي على الإيقاع. بيد أن عبد الله الطيب يتقدّمهم أكثر ببحثه هذا، عبر ربط الترصيع وسواه من التراكيب البلاغية بوزن البيت الشعري. وفي كلامٍ مختلف، فإن الربط بين علميّ العَروض والبلاغة في تحليل شكل القصيد، سمح للعلامة كتابة أوّل بحثٍ علميّ ينظر في أصول الشعر العربي. من الصحيح أن المصري محمّد عوني عبد الرؤوف قد بحث في ذلك في كتابه «بدايات الشعر العربي بين الكمّ والكيف» إلا أن ذلك كان في منتصف السبعينيات من القرن العشرين واقتصر على البدايات، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن نزاهة العلامة عبد الله الطيب وسعة إطلاعه، أتاحتا له أن يوسع زاوية النظر، ليثير مسألة مهمّة، إذ يرى أن اللغة العربية تتميّز عن أختيها من اللغات السامية أي العبرية والآرامية بأوزانها الشعرية الوفيرة، فيسأل عن تأثّر العَروض العربي بما هو خارج اللغات السامية، أي تأثّره بالعَروضين الفارسي والإغريقي، مرجّحاً كفّة الأوّل، ومقترباً من واحدة من أهم المسائل التي نظر فيها بعض المستشرقين: «وقد كان أهل مشرق الجزيرة العربية من قبائل ربيعة وتميم وإياد، هم أوّل من نقل الوزن عن فارس فيما أرى... كما كان أهل الحجاز هم آخر من استعمل الوزن، وإنما أخذوه من جيرانهم من المجموعة التميمية». إذ إن النظر إلى توزّع القبائل في الجزيرة العربية وأثر ذلك في انتشار بحور الطويل والبسيط والوافر والكامل، أكثر من بحور الخفيف والمتقارب والمديد والمنسرح، قاد عبد الله الطيب إلى الشاعر عدي بن زيد المولود في الحيرة، صاحب اللسانين العربي والفارسي، وأوّل من كتب بالعربية في ديوان كسرى، فحدس قائلاً إن «الشعر الموزون بدأ في مشرق الجزيرة وانتقل بعدها إلى الحجاز»، إذ كان يظنّ إن القصار من البحور والأقل استعمالاً، هي الأصل قبل تقصيد القصائد على يديّ المهلهل خال امرئ القيس أو خال الجاهليات الجليلات إن جاز التعبير. مما لا شكّ فيه أن بلاط الحيرة مثّل مكاناً ممتازاً لالتقاء العربية بالفارسيّة، بيد أن الدراسات الحديثة التي تنظر في العَروضين العربي والفارسي، تبيّن أن لغة الضاد سليلة اللغـات السـامية الأكمـل، تختلـف اختـلافـاً بيّنــاً عن الفارسية سليلة اللغات الهندو-أوروبية، من هنا يختلف العَروض بين اللغتين، فما هو كثير الورود من البحور في واحدة، قليل الورود في الثانية، لكأن العروضين متعاكسان. مع ذلك فإن حدس العلامة تجاه بلاط الحيرة وتوزع القبائل في الجزيرة العربية، مكّنه من فتح البحث العلمي العربي في ما يخصّ الشعر وأصوله على المقارنة والإحصاء والتحليل المتفلّت من تأثير قدماء البلاغيين. فقد نظر عبد الله الطيب إلى «ديوان العرب» بعين طازجة وجريئة، تعشق التراث ولا تقدّسه، بل تخضعه للتحليل المحبّ الحريص. تحليل غنيّ آسرٌ فاتن، ممتلئ بالشغف والحماسة، حدّ أنه متّع عميدنا طه حسين في الخمسينيات من القرن المنصرم، وما زال إلى اليوم يمتّعنا ويقدح فينا شرارة الشغف بالشعر العربي.
                  

العنوان الكاتب Date
مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة ود الخليفه09-16-13, 12:29 PM
  Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة ود الخليفه09-16-13, 12:41 PM
    Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة ود الخليفه09-16-13, 12:49 PM
      Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة ود الخليفه09-16-13, 12:51 PM
        Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة ود الخليفه09-16-13, 12:54 PM
          Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة ود الخليفه09-16-13, 12:56 PM
            Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة ود الخليفه09-16-13, 12:58 PM
              Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة صلاح عباس فقير09-16-13, 03:10 PM
  Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة محمد حيدر المشرف09-16-13, 04:12 PM
    Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة عبدالغني كرم الله09-16-13, 09:38 PM
      Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة عبدالغني كرم الله09-17-13, 05:32 AM
        Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة بدر الدين الأمير09-17-13, 11:02 AM
          Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة عبدالغني كرم الله09-17-13, 03:13 PM
            Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة بله محمد الفاضل09-17-13, 03:18 PM
              Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة khaleel09-17-13, 04:05 PM
                Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة حمزه بابكر الكوبي09-17-13, 05:30 PM
                  Re: مجلة الدوحة لشهر سبتمبر تحتجزها الرقابة Ishraga Mustafa09-17-13, 05:51 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de