في مفهوم الكتابة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-29-2024, 07:18 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثانى للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-05-2013, 07:07 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في مفهوم الكتابة (Re: محمد عبد الله حرسم)

    إضاءة (2-2):


    الفلسفة الغربية في ختام القرن العشرين(2/2)
    المعركة الفلسفية الكبرى بين فوكو النيتشوي/ وهابرماس الكانطي- الهيغلي

    بعد ما رأيناه في القسم الاوّل من هذه الدراسة، سوف أنتقل الآن إلى المرحلة الثالثة، وربما الأخطر والأهم، من نقد العقل الغربي. وقد سيطرت عليها شخصيات فلسفية من أمثال فوكو ودريدا وديلوز من جهة، ثم هابرماس وجماعته من جهة أخرى. بالطبع فإنّ هذه المعركة بين تيّار فوكو/وتيّار هابرماس لا تزال مستمرّة من خلال الفلاسفة الشباب، وبخاصة لوك فيري الصاعد حالياً بقوّة في الساحة الباريسية والذي يمثّل هابرماس. كان ميشيل فوكو قد قام بأكبر محاولة لنقد العقل الغربيّ وتعرية ملابساته السلطويّة وكلّ أشكال الهيمنة التي ترافقه. وأثبت أنّ هذا العقل ليس بريئاً إلى الحدّ الذي يوهمنا به، وليس معرفياً محضاَ كما يزعم، وإنما هو متورط في ممارسات القوة والهيمنة والتسلُّط. أو قل إنّه تحوّل في لحظة من اللحظات من عقل تنويريّ استكشافي تحريريّ إنسانيّ، إلى عقل قمعي يشبه الأخطبوط الذي يهيمن على كل مستويات الوجود الاجتماعي للبشر ويسير الأمور من خلف الستار أو الضغط على الأزرار إلى درجة أنّك لم تعد تعرف من الذي يحكم بالضبط. إنها أجهزة سرية لا مرئية لا وجه لها ولا صورة. ثم انضافت إليها مؤخرا أجهزة المراقبة أو كاميرات التصوير الاتوماتيكية المسلطة على الأماكن العامة والساحات والشوارع إلى درجة انه لا يمكن لأيّ شخص أن يفلت منها. وقد أصبحت تسجل كل شاردة وواردة عنك مهما فعلت وأينما حللت وارتحلت. هذا هو مجتمع "المراقبة والعقاب" الذي تحدث عنه ميشيل فوكو في كتابه الشهير الذي يحمل نفس الاسم. فمجتمع الحداثة يطوعك ويدجّنك شئت أم أبيت، بشكل مباشر أم غير مباشر.

    وهنا يلتقي ميشيل فوكو بمدرسة فرانكفورت التي سبقته إلى نقد انحرافات العقل الغربي وانتهازيته. وقد صرح الفيلسوف الفرنسي فيما بعد بأنه لو اطلع مسبقاً على نظريات هذه المدرسة لما احتاج إلى كتابة كل ما كتبه. ولكنه يأسف ولا يأسف في ذات الوقت على هذا التأخر. فعدم اطلاعه على هذه النظريات النقدية دفعه إلى أن يتوصل إلى نفس النتائج عن طريقه الخاص. وهذا شيء إيجابي لا ينكر. ما هو الشيء الذي استفاده فوكو من النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت؟ إنه يتمثل بالفكرة الأساسية التالية: اكتشاف الآثار السلطوية المرتبطة بممارسة العقلانية التي أخذت تتبلور في الغرب بدءاً من القرن السادس عشر. فنحن كنا نتوهّم أنّ العقل بريء كلياً ولا علاقة له بالسلطة، فإذا بنا ندرك، ولكن بعد فوات الأوان، أنه ينتج سلطة بدوره، وأحياناً سلطة قمعية.

    ويرى الفيلسوف الفرنسي الكبير بأن القدر الاقتصادي والاجتماعي والتاريخي والثقافي والعلمي للأمم الغربية كان مرتبطا بشكل وثيق ببلورة هذه الصيغة من صيغ العقلانية. يقول بالحرف الواحد:
    "كيف يمكننا أن نفصل هذه العقلانية عن آليات السلطة ومجرياتها وتقنياتها وآثارها؟ أقصد السلطة التي رافقت العقل الغربيّ والتي لا نستطيع تحمُّلها إلا بصعوبة شديدة. فهي تشكل صيغة قمعية مرتبطة بالمجتمعات الغربية الرأسمالية، وربما الشرقية الاشتراكية. ألا نستطيع أن نستنتج من ذلك أن وعود التنوير في التوصل إلى الحرية عن طريق ممارسة العقل قد انقلبت إلى عكسها؟ فاستخدام العقل في الغرب لم يعد واعداً بالحرية كما كان عليه الحال سابقاً. هذه هي المشكلة الأساسية المطروحة علينا اليوم. وهي مشكلة نتخبط فيها نحن جميعاً. وأود أن أقول بهذا الصدد أن المشاكل التي نواجهها حالياً كانت قد طرحت بشكل رائع ومدهش من قبل مدرسة فرانكفورت" [1] .

    ثم ينتهي الأمر بفوكو إلى القول بأنّ العقل هو استبداد وتنوير في آن معاً. أو قل: إنّ عقل التنوير الذي خلق الحريات هو الذي خلق السلاسل والأغلال أيضاً! حقا لقد انقلبت الأمور إلى عكسها، والعقل الذي صنع كل هذه الحضارة يوشك أن يدمرها أيضا إذا لم يردعه رادع أو وازع..لقد انقلب العقل إلى جنون: جنون الهيمنة، أو جنون العظمة، أو جنون التسلط والتحكم بكل شيء، سمّه ما شئت..

    سوف نلاحظ فيما بعد كيف أنّ هابرماس وتلامذته الفرنسيين من أمثال لوك فيري سوف يهاجمون فوكو حول هذه النقطة بالذات. فالعقل لم يكن فقط أداة لتدجين الناس وقمعهم عن طريق أجهزة التنصت والمراقبة السرية أو العلنية، وإنما هو الذي أسّس كل هذه الحضارة المرتبة المنظمة التي تحسدنا عليها جميع أمم الأرض. ولكنه لا يرى فيها إلا السلبيات. ولذا فسوف يتهمونه باللاعقلانية والفوضوية بل ومحاولة تدمير الحداثة وإنجازاتها. ولكن فوكو يستبق هذا الانتقاد ويتخذ كل الاحتياطات إذ يقول:
    "هل ينبغي أن نقيم محاكمة للعقل؟ في رأيي إن هذا شيء عقيم ولا معنى له. فأولاً المسألة ليست مسألة إدانة أو تبرئة. فالتاريخ هو التاريخ. وما جرى فيه ينبغي أن نحاول فهمه وليس إطلاق حكم قيمة عليه. وثانياً لأنه من العبث أن نعتبر العقل بمثابة القطب المضادّ لشيء نعتبره اللاعقل. وثالثاً لأن مثل هذا العمل يجبرنا على أن نلعب الدور الاعتباطيّ والمملّ والمتمثل بفرز الناس إلى فريقين، فريق مع العقلانية، وفريق ضد العقلانية.
    الشيء المهم فيما يبدو لي هو أن نشرع بتحليل هذا النمط من العقلانية والذي يبدو وكأنه خاص بثقافتنا الحديثة ولم يكن معروفاً سابقاً. وأقصد بذلك العقلانية المتولدة عن عصر التنوير. هذا ما فعله بعض أعضاء مدرسة فرانكفورت. ولكن هدفي ليس مناقشة أعمالهم المهمة والثمينة. وإنما أهدف إلى تقديم نمط آخر من تحليل العلاقات الكائنة بين العقلنة والسلطة" [2] .

    وفي مكان آخر يرد ميشيل فوكو على انتقادات هابرماس له ويقول بما معناه: إنّ هابرماس ليس وفياً لمدرسة فرانكفورت على الرغم من أنّه آخر ممثليها رسمياً. لقد خرج عليها وتناقض معها. فهو يمارس عليّ نوعاً من الابتزاز إذ يقول لي: إما أن تقبل بالعقلانية، وإما أن اتهمك بالسقوط في أحضان اللاعقلانية! إنه يريد أن يمنعني من القيام بأي نقد للعقل، أو من طرح أي تساؤل نقدي على تاريخ العقلانية الغربية. يحصل ذلك كما أنه يستحيل علينا أن نقوم بنقد عقلاني للعقلانية!
    والآن ما هو موقف هابرماس؟ سوف أقول باختصار شديد إنه يتفق مع فوكو على الاعتراف بانهيار التصور الكلاسيكي المضخم للعقل الغربي. فلم يعد أحد مقتنعاً بوجود عقل كبير ومعصوم يقف فوق كل نقد كما كان يعتقد هيغل مثلاً أو كانط حيث تبلورت العقلانية الغربية في أعلى ذراها. لا. لقد تحطمت أسطورة عقل التنوير أو عصمته بعد كل ما حصل من جرائم وكوارث ونكبات استعمارية وغير استعمارية، داخلية وخارجية. وما عدنا نستطيع الاستمرار وكأن شيئا لم يكن..

    ولكن هابرماس على الرغم من كل ذلك يعتقد بإمكانية إنقاذ فكرة العقل والعقلانية. كيف؟ عن طريق طرح تصوّر متواضع ولكنه فعّال للعقل. فلم يعد العقل، بحسب تصوّر هابرماس، شيئاً جوهرانياً موجوداً في أعماق الأشياء أو في قلب العالم. وإنما أصبح صفة ننعت بها الأشخاص أو المقولات التي تطمح إلى تحقيق صلاحية إجرائية معينة سواء أكانت هذه الصلاحية تخصّ الحقيقة، أو الاستقامة، أو الصدق. فنقول مثلاً عن سلوك هذا الشخص بأنه عقلانيّ، ونقول عن مضمون هذا الكتاب بأنه عقلانيّ أو لاعقلانيّ.. وبالتالي فقد تحوّل العقل إلى عقلانية، أي إلى صفة تُلصق بمن يتّسمون بهذه السمة. هكذا نزل العقل من برجه العاجيّ أو من مثاليته الطوباوية لكي يصبح مجرد فعالية إجرائية هدفها التوصل إلى نتيجة ايجابية معينة في مجال من المجالات[3] . ولهذا السبب يموضع هابرماس العقل داخل المجتمع، أي داخل الفعالية التواصلية أو العقل التواصلي والحواري. فعلى كل مستويات الوجود الاجتماعي يوجد حوار وتواصل بين أفراد مختلفين، وعن طريق هذا الحوار التواصلي يتوصلون إلى إجماع أو قاسم مشترك يجمع بينهم ويحل مشكلتهم. (انظر التفاوض بين العمال وأرباب العمل في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، أو التفاوض بين الأساتذة والطلاب، أو حتى بين الأب والابن، أو بين البائع والمشتري، الخ...). ويفترض هابرماس أنه توجد في لغة التفاوض شحنة عقلانية كامنة هي التي تؤدي إلى تقارب المواقف وإيجاد حلّ للخلاف الناشب. ولكنّ خصوم هابرماس من أمثال ديلوز أو دريدا أو جان فرانسوا ليوتار يشكّون في هذه النزعة الإنسانية المتفائلة التي تنضح بها نظرية هابرماس الفلسفية.

    وهم يتساءلون: هل إنّ البشر يريدون حقاً التفاهم فيما بينهم، وأنهم يبحثون عن إجماع؟ ودريدا لا يرى في مسار هابرماس إلا نوعاً من تأليه العلم أو العودة إلى ميتافيزيقا العلم. وهذه العودة أسيرة الفلسفة الوضعية بالضرورة، هذه الوضعية التي ينبغي أن نتحاشاها. ويرد عليهم هابرماس قائلاً بأنّه يفضل التركيز على الاتفاق، وليس على الاختلاف كما يفعلون هم. ثم إنه يريد أن يثق بالطبيعة البشرية وبالعقل التنويري أكثر مما يفعلون. ثم إن الحوار التواصلي الديمقراطي بين الذوات الحرّة هو البديل الوحيد عن الجنون والضرب والقمع والاستبداد. هكذا نلاحظ أنّ الرجل وجد الحلّ في نظرية العقل الحواريّ التواصليّ الذي يتناسب مع طبيعة المجتمعات الديمقراطية المتقدمة. وهذه هي آخر نظرية فلسفية في الغرب.

    ثم راح يتهم الفلاسفة الفرنسيين من أمثال فوكو ودريدا وليوتار وديلوز بأنهم عدميون أو فوضويون يريدون القضاء على الحداثة والانتقال فوراً إلى مرحلة ما بعد الحداثة. وأما هو فيريد الدفاع عن مشروع الحداثة أو مشروع التنوير بعد تنقيحه وإصلاح نواقصه وانحرافاته. باختصار فإنه يتهم الفلاسفة الفرنسيين المذكورين بأنهم من أتباع نيتشه (اللاعقلاني)، في حين أنه هو من أتباع كانط (العقلاني). فكانط هو الذي أسس مشروع الحداثة لأول مرة عندما نشر كتبه الأساسية. ويمكن اعتبار نصه الشهير "ما هو التنوير؟" بمثابة أول خطاب فلسفيّ تأسيسيّ للحداثة يحصل قبل هيغل مباشرة [4] . ولكن يظل هيغل هو المؤسس الأكبر للخطاب الفلسفي للحداثة. من المعلوم أن هابرماس يعتقد انه في كل عصر أو جيل تحصل ظلمة جديدة وتخيم على الفكر فتسدّ الأفق.

    في كلّ عصر يحصل انسداد تاريخي ثم يظهر المفكر الكبير لحلحلة الأمور وفتح هذا الانسداد أو تبديد الظلمة والكربة الجديدة. بهذا المعنى فإنّ الفكر هو نور يشق دياجير الظلام. فديكارت هو الذي فتح الانسداد التاريخيّ الناتج عن هيمنة الفلسفة القروسطية السكولائية التي كانت قد أصبحت مملة وعقيمة. وكانط هو الذي فتح الانسداد التاريخي الناتج عن تصارع التيارين الدوغمائي القطعي والارتيابي الشكوكي. وهيغل فعل نفس الشيء ضمن ظروف أخرى. وفي كل مرة كان الفكر الأوروبي يتنفس الصعداء ويشعر بالارتياح وينطلق على أسس جديدة ويستعيد الثقة بالنفس. وهابرماس نفسه ليس إلا كانط أو هيغل جديد يريد أن يزيح الظلمة الجديدة عن وجه الحضارة الأوروبية بعد أن وصلت إلى الجدار المسدود مرة أخرى. بهذا المعنى أيضا فإنّ الفلاسفة الكبار هم أطباء حضارات. فهم وحدهم القادرون على تشخيص المرض العضال وإيجاد العلاج الشافي.

    هكذا اندلعت المعركة بين فيلسوف الألمان والفلاسفة الفرنسيين حول القضية المركزية التالية: تقييم تجربة الحداثة الأوروبية منذ عصر التنوير وحتى اليوم: أي على مدار مائتي سنة من تاريخها. هل الحصيلة إيجابية أم سلبية؟ في رأي هابرماس أن الحصيلة إيجابية في مجملها رغم كلّ الكوارث التي حصلت ورغم المحرقة والحروب العالمية والمجازر الاستعمارية. أما الفلاسفة الفرنسيون فيبدون متشائمين ويركزون على السلبيات أكثر من الإيجابيات. نقول ذلك رغم أنّ فوكو في أواخر أيامه، وباعتراف هابرماس نفسه، عاد إلى حظيرة الحداثة والتنوير بعد طول مشاغبة ومشاكسة [5] . ولكنه في مراحله الأولى كان نيتشوياً محضاً يريد تدمير كل شيء بنته الحداثة أو يريد تعريته اركيولوجياً كما يقول. أما دريدا فقد أمضى كلّ عمره في تفكيك الميتافيزيقا الغربية (أي العقلانية الغربية والعرقية المركزية الأوروبية). أمّا عن ديلوز فحدّث ولا حرج...

    هكذا نجد أنّ مسألة نقد الحداثة أو تقييم تجربتها التاريخية تعتبر أهمّ قضية فلسفية مطروحة على البيئات الثقافية الغربية من أوروبية وأمريكية طيلة الثلث الأخير من القرن المنصرم. وبهذه المسألة سوف يُخْتتم القرن فلسفياً، على الأقل بالنسبة للمثقفين الغربيين. ولكن الشيء الذي نلاحظه هو أنه إذا كانت النظرة السلبية للحداثة هي التي سادت منذ عام 1945 وحتى أوائل الثمانينات (تاريخ وفاة ميشيل فوكو)، فإنّ النظرة الإيجابية هي التي أخذت تسود بعدئذ. وهذا يعني أنّ هابرماس انتصر على فوكو في نهاية المطاف، ورافق انتصاره سقوط الشيوعية عام 1989، وانتصار الليبرالية الديمقراطية على الشيوعية التوتاليتارية. ومن المعلوم أنّ فوكوياما صفّق لهذا الانتصار واعتبره نهاية التاريخ. وراح يحتمي بمرجعية هيغل الكبرى لتدعيم أطروحته المتفائلة بمسيرة التاريخ البشري. بل راح يعتقد أنّ النموذج الديمقراطي الغربي سوف يهيمن تدريجيا على البشرية كلها. وبالتالي فهو نهاية التاريخ. حقا لقد انتصر هيغل! وانتصر أيضا كانط على نيتشه وربما كاسيرر على هيدغر..

    وقد ردّ عليه دريدا بقسوة في كتابه شبح ماركس أو أشباح ماركس بالأحرى[6] . بمعنى أنّ شبح ماركس لا يزال يهيمن على الغرب الرأسمالي رغم انتصاره على الشيوعية. فدريدا يقول بأن الديمقراطية الليبرالية لم تترسخ حتى الآن كنظام سياسيّ في القسم الأكبر من العالم. يضاف إلى ذلك أنها غير قادرة وحدها على حلّ المشاكل الناتجة عن تفاقم البؤس والفقر ليس فقط في بلدان العالم الثالث وإنما في الغرب نفسه. فالحداثة أنتجت شرائح واسعة من المهمَّشين والعاطلين عن العمل، والذين يسرحون الآن للشحاذة حتى في "مترو" باريس..يضاف إلى ذلك أن العولمة الأميركية التي يتبجّح بها فوكوياما ويعتبرها نهاية التاريخ والنموذج الأمثل للبشرية تجوّع مليار شخص في العالم على الأقل وتهدّد الكون بالتلوّث والحروب اللانهائية في عهد بوش العظيم! أنظر أبحاث المفكر السويسري جان زيغلير عن "أسياد العالم الجدد" أو "إمبراطورية العار والشنار" حيث يشن هجوما كاسحا على العولمة الغربية وشركاتها الأخطبوطية متعدّدة الجنسيات أو العابرة للقارات.. وبالتالي فلا بأس من العودة إلى ماركس والآفاق التي افتتحها، ثمّ من خلال ماركس إلى السفح الإيجابيّ من تراث التنوير. هكذا نجد أنّ دريدا أيضاً اضطرّ إلى العودة إلى التنوير بعد أن أمضى عمره في تفكيك العقل الغربي، ومهاجمة التنوير البورجوازي!


    والواقع أنّ الهجوم عليه وعلى فوكو وديلوز أصبح لا يُحْتمَل في السنوات الأخيرة من القرن المنصرم. وجاء هذا الهجوم من جهة الفلاسفة الشباب الصاعدين حالياً وبخاصة لوك فيري. فقد أصدر هذا الأخير عام 1984 كتاباً عنيفاً يدين فيه فلسفة فوكو ودريدا وديلوز وبورديو ولاكان، أي جميع الأقطاب الذين سيطروا على الساحة الفرنسية أثناء المرحلة البنيوية (1960-1980). واتهمهم بأنهم معادون لكل قيم الحضارة الغربية الحديثة كالنزعة الإنسانية (هيومانيزم)، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، والعقلانية... ثم راح "فيري" يحتمي بمظلة هابرماس لكي ينقضّ عليهم بقوّة أكثر ويدين كرههم للمناقشة الحرّة والديمقراطية التي قد تؤدي إلى الإجماع والوفاق واتخاذ القرار الصحيح وتسيير أمور المجتمع دون حرب أو ضرب. ومعلوم أنّه لا بديل عن الحوار الديمقراطي إلا الضرب والحروب الأهلية كما يحصل في المجتمعات المتخلفة التي لم تستنر بعد. كما ويدين تركيزهم الشديد على الاختلاف والحقّ في الشذوذ والخروج على المألوف وعدم الاعتراف بقيم كونية تجمع بين الناس. وهنا يلمح لاعقلانيتهم النيتشوية وكرههم للقيم الكونية لفلسفة التنوير [7] . وبما أن الدائرة كانت قد دارت على فوكو وجماعته فإنّ الناس راحوا ينصرفون عن فلسفتهم الراديكالية في نقدها والتي تكاد تطيح بالمكتسبات الأكثر إيجابية للحداثة وفي طليعتها دولة الحق والقانون. وهكذا انتصر هابرماس على فوكو أو كانط على نيتشه مرة أخرى في أواخر القرن المنصرم، دون أن يعني ذلك أن المعركة قد حسمت نهائياً. فالتاريخ يخبّئ في باطنه العقلانية واللاعقلانية، فأحياناً يهدأ ويركز، وأحياناً ينفجر ويثور كالبركان الهائج. يضاف إلى ذلك أن الجرائم التي ارتكبت باسم الحداثة الغربية أثناء الفترة الاستعمارية تشهد لصالح فوكو ضد هابرماس ولوك فيري وسواهما. ولكن المناقشة تظلّ مفتوحة، وسوف نعود إليها حتماً لاحقاً. فهي اكبر من أن تختصر في دراسة واحدة مهما طالت.


    أريد قبل أن أختتم هذا الحديث أن أشير إلى الظاهرة التالية المرعبة والدالة على مدى حجم التفاوت التاريخي بيننا وبينهم : وهي انه في الوقت الذي ينشغلون فيه بنقد تطرفات أو انحرافات العقل العلمي الرأسمالي البارد والتكنولوجي نحن مشغولون بنقد العقل الأصولي اللاهوتي! وهو شيء كانوا قد فرغوا منه منذ مائتي سنة على الأقل..الفرق الوحيد بين أزمتنا وأزمتهم، بين انسدادنا الحضاري وانسدادهم (على فرض أن عندهم انسدادا بالفعل) هو أن أزمتنا من النوع البنيوي المفصلي: إنها قصة حياة أو موت، وجود أو عدم وجود. في حين أنهم تجاوزوا هذا النوع من الأزمات التي تخص المنعطفات التاريخية الكبرى والعبور الحضاري الخطير. ولهذا السبب ترددت كثيرا قبل كتابة هذه الدراسة أو بالأحرى قبل نشرها لأني خشيت أن يتخذها التيار الارتكاسي الأصولي عندنا حجّة ضد العقل أو وسيلة للهجوم على التنوير. من الواضح أني ما إلى هذا قصدت. فنحن في أمسّ الحاجة إلى العقل والعقلانية والتنوير في حين أن الأوروبيين شبعوا منها حتى درجة التخمة. ولذلك ينبغي موضعة الأمور ضمن سياقها التاريخي وإلا فلن تفهم على حقيقتها.فمثل هذه المناقشات الفلسفية العويصة غير مفهومة خارج السياق الأوروبي الذي عاشها ودفع ثمنها بعد أن جرب الحداثة على مدار مائتي سنة متواصلة.


    [1] - انظر كتاب ديدييه اريبون: ميشيل فوكو ومعاصروه، فايار، باريس 1994، ص. 300-301.
    - Didier Eribon: Michel Foucault et ses contemporains, Paris, Fayard, 1994. pp: 300-301.
    [2] - انظر كتاب الفيلسوفين الأمريكيين: هوبيرت دريفوس وبول رابينو عن ميشيل فوكو، مسار فلسفي، غاليمار، 1984. ص: 300.
    - Hubert Dreyfus et Paul Rabinour: Michel Foucault, un parcours philosophique, Gallimard, 1984, p. 300.
    [3] - حول التشابه والاختلاف بين تصور هابرماس للعقل وتصور فوكو انظر مقالة برنار والدنفيل في مجلة الدراسات الفلسفية، عدد أكتوبر-ديسمبر 1986، ص 473 وما بعدها. المقالة بعنوان: انقسام العقل أم تبعثره؟ مناقشة بين هابرماس وفوكو.
    - Les études philosophiques: octobre-décembre 1986, Bernard Waldenfels: Division ou dispersion de la raison? Un débat entre Habermas et Foucault.
    [4] - كان هابرماس قد وضح موقفه من الحداثة ومن الفلاسفة الفرنسيين في كتابه الضخم الخطاب الفلسفي للحداثة. غاليمار، باريس، 1988. (حوالي خمسمائة صفحة من القطع الكبير).
    - Hurgen Habermas: Le discours philosophique de la modernité. Gallimard, Paris, 1988.
    [5] - انظر حول هذه النقطة الهامة رثاء هابرماس لفوكو في مقالة مشهورة بعنوان: سهم في قلب الأيام الحاضرة، مجلة كريتيك الفرنسية، عدد أغسطس-سبتمبر 1986، ص 794-799. - urgen Habermas: Une flèche dans la cour du temps présent, Critique, août-septembre 1986, pp. 794-799.
    بمعنى أن حياة فوكو مرت كسهم في قلب الأيام الحاضرة لأنه لم يعش طويلاً (57 سنة).
    [6] - انظر كتاب دريدا: أشباح ماركس ويمكن ترجمة العنوان أيضاً بـ: أطياف ماركس. منشورات غاليليو، باريس، 1993.
    - Jacques Derrida: Spectre de Marx, Galilée, 1993.
    [7] - انظر كتاب لوك فيري وآلان رينو بعنوان: فكر مايو 1968: مقالة حول الفلسفة المعاصرة المضادة للنزعة الإنسانية. باريس، غاليمار، 1985، ص. 162-164.
    - Luc Ferry et Alain Renaut: La pensée 68. Essai sur l'anti-humanisme contemporain. Gallimard. 1985. pp. 162-164

    عن موقع التنوير

    http://haria.arabblogs.com/archive/2008/7/619871.html
                  

العنوان الكاتب Date
في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس01-31-13, 08:41 AM
  Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس01-31-13, 06:41 PM
    Re: في مفهوم الكتابة Amin Mahmoud Zorba01-31-13, 07:10 PM
      Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-01-13, 05:42 PM
        Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-01-13, 07:10 PM
          Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-02-13, 10:05 AM
            Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-02-13, 07:24 PM
              Re: في مفهوم الكتابة محمد عبد الله حرسم02-03-13, 07:26 AM
                Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-03-13, 12:37 PM
                  Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-04-13, 08:19 PM
                    Re: في مفهوم الكتابة مرتضي عبد الجليل02-04-13, 09:18 PM
                      Re: في مفهوم الكتابة مرتضي عبد الجليل02-04-13, 10:05 PM
                        Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-05-13, 00:32 AM
                          Re: في مفهوم الكتابة وليد زمبركس02-05-13, 04:26 AM
                            Re: في مفهوم الكتابة مرتضي عبد الجليل02-05-13, 09:14 AM
                              Re: في مفهوم الكتابة محمد عبد الله حرسم02-05-13, 06:37 PM
                                Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-05-13, 07:07 PM
                                  Re: في مفهوم الكتابة Kabar02-06-13, 09:51 AM
                                    Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-06-13, 07:00 PM
                                      Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-07-13, 06:19 PM
                                        Re: في مفهوم الكتابة Kabar02-08-13, 10:56 AM
                                          Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-09-13, 11:19 PM
                                            Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-11-13, 05:13 PM
                                              Re: في مفهوم الكتابة Amin Mahmoud Zorba02-12-13, 12:35 PM
                                                Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-12-13, 07:12 PM
                                                  Re: في مفهوم الكتابة محمد يوسف طه02-13-13, 00:39 AM
                                                    Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-13-13, 05:52 PM
                                                      Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-14-13, 06:50 PM
                                                        Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-15-13, 06:32 PM
                                                          Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-18-13, 05:35 PM
                                                            Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-19-13, 07:00 PM
                                                              Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-21-13, 06:14 PM
                                                                Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-23-13, 10:12 AM
                                                                  Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-26-13, 06:39 PM
                                                                    Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس02-26-13, 08:09 PM
                                                                      Re: في مفهوم الكتابة عبد الحميد البرنس03-03-13, 06:45 PM
                                                                        Re: في مفهوم الكتابة اميرة السيد06-01-13, 04:16 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de