هذا البص الصابر المثابر ، الذي أصبح رمزاً للصمود .. صمود ضد كل عوامل التدهور الذي أصاب كل نواحي الحياة عندنا في السودان ، وخاصة ناحية التربية و التعليم .. أعتقد أنه لم يدر في أذهان الذين قرأوا هذا الخيط عن هذا البص سؤال عن تاريخ هذا البص الصامد ، وكيف جاء لرفاعة .. أما لماذا لم يتبادر إلي الأذهان مثل هذا السؤال فالسبب في إعتقادي طبيعي جداً .. لأن أغلب الذين مروا علي هذا البوست إعتادوا علي رؤية هذا البص يجوب شوارع و حواري مدينة رفاعة صباح كل يوم ، منذ أن تفتق وعيهم .. فأصبح الأمر لديهم و كأنه من طبائع الأشياء .. فكما اعتادوا علي رؤية الشمس وهي تشرق كل يوم إعتادوا أيضاً علي رؤية هذا البص ، يتهادي ذهاباً وإياباً علي شوارع المدينة تلوح من خلال نوافذه الطرح والثياب البيضاء فوق رؤوس الطالبات والمعلمات الفضليات ــ عادي جداً أن لا يرى الناس غرابة في هذا الأمر ، فهو مجرد بص إعتادوا علي رؤيته صباح كل يوم يحمل المعلمات والطالبات إلي المدرسة الثانوية بنات ، مثلما اعتادوا علي رؤية الشمس وهي تشرق صباح كل يوم جديد !!
نصيحتي لكم أيها السادة الكرام والنصيحة موجهة لكل من أراد أن يكسر هذه العادية والرتابة ليدخل في طور الغرابة ، أن يوجه من يمر به هذا البص لنفسه هذا السؤال : منذ متي يعمل هذا البص ؟ وما السر الذي جعله يعمل حتي اليوم ؟؟ .. هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يوجهه المرء لنفسه متي مرَّ بقرب هذا البص فيجب عليه أن لا يمر مرور الكرام ، بل يجب علي المرء أن يقف ويتأمل ، فهذا أمر يدعو للتأمل !!
فتاريخ هذا البص الذي نشاهده صباح كل يوم يختال في شوارع المدينة لا يحسب بالسنوات ، إنما يحسب بعشرات السنين ، نعم .. هو تاريخ عتيد ، يرجع إلي بداية النصف الثاني من القرن السابق ــ صدق أو لا تصدق ــ فقد كان هذا البص " الفورد" يعمل بمدارس الخرطوم الثانوية للبنات نفس العمل الذي يعمله الآن بمدينة رفاعة .. نعم ، ظل هذا البص الصامد يعمل بالعاصمة منذ الخمسينات من القرن السابق ، وأستمر يعمل مثابراً حتي تعطل ، فرُكِنَ بحوش الوزارة ، و لم يفكر أحد في صيانته بعد أن تعطل لأن المواصلات العامة كانت قد إذدهرت وأنتشرت بصورة واسعة ومريحة في أنحاء العاصمة في تلك الأثناء ، فتغيرت الأحوال بالعاصمة ، و لم تصبح الطالبات في حاجة ماسة لهذا البص ، كما أن العربات الخاصة لآباء وأولياء أمور الطالبات إنتشرت أيضاً وأصبح الكثيرون يحضرون بناتهم للمدرسة قبل الذهاب إلي أماكن عملهم ..
وفي تلك الأثناء أيضاً ، في الستينات ، إفتتحت أول مدرسة ثانوية للبنات برفاعة ، وكان المدير الذي أشرف علي إفتتاحها هو الأستاذ أحمد خالد ( السوريبا)، الذي كان يعمل بمدرسة حنتوب الثانوية ثم انتدب لتـُفتح مدرسة رفاعة الثانوية تحت إشرافه وإدارته .. وفي أحد زيارات الأستاذ الحصيف أحمد خالد إلي وزارة التربية والتعليم بالخرطوم لمح هذا البص مركوناً ، فقفزت فكرة صائبة إلي رأسه ، فأسرع وتقدم بطلبه راجياً التصديق به لمدرسة رفاعة الثانوية للبنات ، و استجيب لطلبه .. فسارع بدوره في نفض الغبار عن البص وعمل فوراً علي صيانته ، وأتي قافلاً ظافراً به إلي مدرسة رفاعة الثانوية بنات منذ ذلك الحين .. هذا ما كان من تاريخ مجئ هذا البص الأسطورة لمدينة رفاعة ..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة