الأستاذ محمود محمد طه: أزرعوهم في أرض الحوار يموتوا موت طبيعي

Quote: تتلمذت على يدي أستاذي القدال في الصف الأول في الجامعة. وأذكر جيداً أنه أول من علمني أساسيات البحث العلمي في مادة "تاريخ الاقتصاد السوداني" التي كان يدرسها لنا في كلية الاقتصاد. وقد تشرفت أن كنت في مجموعة متميزة من الطلبة، كانت مستوياتهم الأكاديمبة رفيعة، ولغتهم الإنجليزيه متميزة كذلك. أذكر من تلك الوجوه المتميزة الأخت ليلى أبو العلاء وأخرين ممن كنت أشعر أمامهم بتواضع قدراتي اللغوية والأكاديمية. وقد أصبحت ليلي هذه من أميز الأكاديميات والكاتبات السودانياث، في بريطانيا على ما أظن. ولكن الشاهد أنني كنت أتهيب الحديث أمام" بنات الذوات وأبناء الذوات" الذين قدر لي أن أكون بينهم في ما كان يعرف المجموعات -GROUPS. كانت مجموعتنا تسمى بالمجموعة الأولى. ولا أدري إن كانت تلك المجموعات مقسمة على أساس أكاديمي أم لا. ولكني كنت أشعر بتضاؤل شديد أمام قدرات زميلاتي وزملائي. وقد كانت زميلاتي أكثر جسارة وشطارة منا، نحن الذكور. ولكن كانت وسط الذكور أيضاً قدرات هائلة. فقد كان يزاملنا في هذه المجموعة مثلاً الأخ منير أحمد صفي الدين، إبن شقيق الأستاذ الدكتور محمد هاشم عوض (وكما هو معروف فمنير ابن زينب مختار محمد طه). وقد كان منير طالباً نجيباً بكل المقايسس... المهم، كنت أشعر بتهيب شديد للحديث وسط بنات العز وأولاد العز هؤلاء، وكلهم له فصاحة في الانجليزية مزعجة كانت بالنسبة لي. وذلك لأنه كان لابد لي إما أن أجاريهم، أو سيفوتني قطار الفائدة العلمية من الجامعة. وأنا في هذه الحالة المزرية، دخلنا علي أستاذنا هذا السامق، القدال. وما أعجب هذا القدال حين يقدل طرباً بسرد التاريخ في محاضراته التي كانت محشودة بالروح والثقة بالنفس والتمكن من اللغة، ومن المادة العلمية، بصورة لا تزال تطرق آذاني حتى اليوم. كانت مادته هذه "تاريخ الاقتصاد السوداني" هي أمتع المواد التي درستها في الصف الأول، تليها مادة علم الاجتماع التي تخصصت فيها لاحقاً، ثم تخصصت في علوم الاتصال والشؤون الدولية. وما زال محفوراً في ذهني أن أخرجت من تلك الحالة المزرية بأن تشجعت حين خاطبني الدكتور في الدرس الأول عند المجموعات الصغيرة، عن هل أرغب في أن أكون أول من يتقدم بورقة شفهية للمجموعة. أنزعجت. ولكني تجملت، فوافقت، لأنني، كجمهوري من تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه لا أعرف الإزورار. ولكن بعد أن غادرت قاعة الدرس ركبني هاجس وشيطان ضعفي في اللغة، وغير ذلك من ضعف القدرات الأخرى، مقارنة بغيري من أبناء وبنات الذوات. وقد كنت الوحيد من أبناء العمال بين مجموعتي تلك فيما أذكر. لم أدرس في مدارس خاصة، ولم أخرج من السودان البتة حتى ذلك التاريخ، ولكني أكتب اللغة الانجليزية، بصورة حسنة، ولكنها لا ترقى بأي حال لمستوى كتابة بنات وأبناء الذوات الذين كانوا يؤرقونني باتقانهم البريع البديع لهذه اللغة الساحرة. وفوق ذلك كانت خطوط كتابة بنات الذوات باللغة الانجليزية، كاللوح المسطور. ظل هذا الشيطان، شيطان الخوف من فضيحة بجلاجلها، يوم تقديم البحث الشفاهي، يركبني إلى أن قرب موعد تقديم ورقتي للثلاث ساعات أو يزيد بقليل، وأنا لم أفتح ولا صفحة من المرجع الذي حدده لي أستاذي الكريم. فقد كنت ناشطاً جمهورياً في أركان النقاش الجمهورية، بحضورها، والإنشاد فيها، وتقديم الأركان في البركس، وكافة أنواع النشاط الجمهوري المعروفة. ولم يكن لي كثير وقت لأنفقه في الدراسة حيث كنت أعتبر أن مدرستي الأولي هي الأستاذ محمود محمد طه وحركته الفذة. من وحي تلك الحركة كنت أعرف أهمية أن أجود واجبي المباشر، فلم أكن "أدك" المحاضرات أبداً، إلا إذا دعت ضرورة قصوى. وكنت أنتبه في المحاضرات انتباهاً لصيقاً. وكيف لا ينتبه من يدرسه شخص بقامة سيد البحث العلمي في جامعة الخرطوم، في زماننا، الأستاذ القدال. كيف لا؟ تبقت ثلاث ساعات لتقديم البحث. كان علي فيها أن أقوم بتقديم الإنشاد العرفاني بركن النقاش، باعتباري منشد الجمهوريين الأول بالجامعة، وأن أحضر جزءاً من الركن، ثم أختمه بالإنشاد لتتبقى بعد ذلك ساعة واحدة لتقديم البحث!!! يالله!!! ما هذه الورطة؟ كان الدكتور أحمد المصطفي دالي هو مقدم الركن. ورغم معزتي للأستاذ القدال فإن دالي كان أستاذي أيضاً، ولا أستطيع ألا أحضر له ركنا من أركان النقاش. ولا أذكر بأنني لم أحضر له أي ركن قدمه بالجامعة بعد دخولي لها. في واقع الأمر فإني كنت أحضر أركانه حتى قبل دخولي لللجامعة بثلاث سنوات. ولكوني مدمن للاستماع لصوت أخي الحبيب دالي، ولمنطقه المسدد، فإنني لم أكن أقاوم حضور أركانه. فقررت أن أفعل الآتي: أقدم فاصلة الإنشاد الأولي، ثم أحضر لأقدم الفاصلة الأخيرة، لاستفيد من الفترة بينهما في المكتبة الرئيسية. وهي لم تكن تبعد عن موقع ركن الجمهوريين وقتها، إذ كنا نقدمه في تلك الفترة مقابل تلك المكتبة العظيمة، تحت ظلال شجر كلية الآداب المقابلة. قدمت فاصلة الإنشاد، على ما أذكر، وجلست لأستمتع بخمسة دقائق من حديث الأخ دالي. وصارت الخمس دقائق إلى عشر. والعشرة إلى عشرين... وهكذا!!! ياللهول!! ماذا سأفعل مع أستاذي القدال؟ لقد توسم هذا البطل في هذا الغلام خيراً. لابد أن الغلام سيخذله، إن أستمر في شغل المداحين والكلمنجية هذا!!! بعد تثاقل مريع، ومديد، قررت أن أذهب للمكتبة وأنا كاره لها وللقدال و"لأبو خاش" اليوم الذي فيه قبلت اقتراحه. ولكني هدأت نفسي، محدثاً لها قبل وصولي للمكتبه هكذا: يا أخي القدال مالو، سو ليك شنو؟ أقرا قرياتك وأعمل البسهلا ليك الله! جلست وفتحت المرجع، وزدت عليه من عندي مراجع. تخيرت مواضع بعينها ذات صلة مباشرة بموضوعي. دونت بعض الملاحظات. ووضعت خطة. ثم ركيتني ملائكة ركن دالي مرة أخرى، وحملتني حملاً إلى الركن. جلست و أكملت باقي الركن مستمعاً لدالي. ثم قدمت الفاصلة الختامية للإنشاد العرفاني. وتبقت لي ساعة واحدة لتقديم البحث. ياللهول!!! ولم أكن وقتها أملك غير خطة صغيرة، متهافتة في ظني. ودعت دالي وإخوتي الذاهبين إلي الأستاذ بسرعة، وأنا أتحسر على أنني لست ذاهباً معهم. فإن قامة القدال على سموقها تقصر أمام الأستاذ محمود، ومعيته المشرفة. ركبني شيطان الهواجس. فبدأت ألعن اليوم الذي تعرفت فيه على هذا الأستاذ "القدال" النبيل، رغم أن قدلاته داخل قاعات الدرس كانت ترقص قلبي طرباً، وتشعل فكري إشعالاً. ولكنه الآن يضعني في هذا الموقف العجيب. يا خي ما كا يقول لي ليلي أبو العلا، ولا منير، ولا أي زول تاني. مالو ومالي؟ رغم هذا الصراع الداخلي العنيف انتصر حبي العميق لأستاذي الجليل في نهاية المطاف، فصرفت الذهن عن نوع هذا الكلام المايل. جلست لكتبي، تفحصت فيها الصفحات ذات الصلة بالموضوع، ولم أزد عليها كلمة. وقلت سأعمل الذي يقسمه لي ربي. أما مسألة تقديم البحث في القاعة، وأمام جميع الطلبة في المجموعة الأولى، وباللغة الانجليزية، وأنا طالب بالصف الأول، -وأمام بنات مثل من وصفت، وشباب من الذكور، تقابلك روائح عطورهم من مسافات بعيدة بعد أن يقع عليك ناظرهم أو لايقع، وربما قبل أن يقع عليهم ناظرك- فهذا أمر بعيد الطولان. كيف سأتحدث الانجليزيه وأنا إبن رجل طيب، عظيم، ولكنه ترقى من محولجي إلى مساح، إلى عطشقي، إلى سواق، ثم لم يأبه أن يتعلم ولا كلمة واحدة بالانجليزية، بعد yes and no. يا إلهي!!! لماذا تقصدني هذا القدال أنا بالذات. هل لأنه رأي قمصاني المهترئة، فرثي لحالي، حينما قارنني بأصحاب العطور وذوات الخدور؟ هل لأنني أبدو شاحباً من الهزال، الذي تسببت فيه حملة الكتاب الجمهوري، والأركان، وطباعة الكتب، وتغليفها، ثم الطواف بها في القرى والحضر. ربما رأى هزالي فلم يدرك كنهه فظن أنني مفارق للحياة، فرأى أن يكرمني قبل موتي بشئ من الاعتراف بوجودي. لاأدري!!! والله لا أدري، لما ذا وقع اختياره على لأقدم ذاك البحث بذاك العنوان، بذاك اليوم، وأن يجعلني أتقدم الصف كله لأقدم بحثي في اليوم الأول لتقديم البحوث. ولكن ما أعرفه هو أنه ورطني، ورطة مزعجة!!! لملمت أوراقي، وسلمت كتبي "للكاونتر" وبعضها أرجعته للأرفف. وأنا ما زلت في حالة أقرب إلى الغثيان بعد وجبة تاريخية دسمة. ولم أكن واثقاُ حتى دخلت غرفة الدرس، فوجدت أستاذي يجلس، بهيبته المعروفة. يا للهول!!!!!!!!!!!!! جلست في صمت، بعد أن أديت واجب التحية. والصمت يخيم على المكان، والطالبات والطلبة كل يدخل بإجلال، ويجلس باحترام متناه، تماماً كما يدخل المصلون للمسجد، أو للكنيسة، أو لصومعة، أو لأي معبد. كانت هذه هي الحالة. يا للهول!!!! إمامي العظيم، هذا العملاق في عالم التاريخ السوداني جملة، وتاريخ الاقتصاد فيه تخصيصاً، يقدمني عليه للصلاة. هل يجوز أن يصلي مثلي بمثل هذا الإمام الهمام. قلبي يتفطر. ولكني سألت الله في سري أن يلملم شتاتي. وقرأت الآيات: "رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمرى، وأحلل عقدة من لساني بفقهوا قولي، وأجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي، أشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً." فشعرت بجسمي يسكن وضربات قلبي تنتظم، فيستحيل صدري إلى حالة ثلجية منعشة. يهدر الصوت الأجش، الرخيم. فيطلب مني أن أبدا الحديث بعد مقدمة قصيرة شديدة السبك، كعهدنا بهذا المعلم الفذ. ثم يقدم إسمي للمجموعة وكأنهم لا يعرفونني، وكاننا في جلسة مؤتمر علمي لم يلتق فيها الجالسون إلا في تلك القاعة، في تلك الساعة. وكانت مقدمته بمثابه الوضوء للصلاة. غسلت مقدمته تلك ما تبقى لي من خوف. قدمت بحثي بثبات أذهلني، وبلغة انجليزية سلسلة، تحاول أن تحاكي سلاسلة أستاذي. ولكن هيهات، لها أن تكون في ذلك الزمان في ذلك المكان. فقد كنت أخطو خطواتي الأولى في مدارحج البحث العلمي. ولم تكن تلك النظرة الأولي المباشرة في عيني، وبتلك الصورة الحانية القوية، و المرعبة في آن معاً حين سألني أستاذي " هل تحب أن تقدم البحث الأول؟" -بصورة تقريرية وليست استفسارية - إلا تنوعياً جديداً مما قالته لي أمي وحبوباتي العطوفات حين كن يقلن لي ليي "تاتي....تاتي...تاتي.....أوووبح!" نعم لقد علمني أستاذي، هذا القدال، المشي في ردهات البحث العلمي، وعلمني صلاة جديدة، زيادة على الصلوات الخمس وصلاة الثلث الأخير من الليل التي علمني الأستاذ محمود محمد طه كيف أؤديها!! ما يرمز له هذا الشامخ هو جامعة الخرطوم، أما الزبد فيذهب جفاء!