الأستاذ محمود محمد طه: هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب

Quote: ظللت أتابع هذا الخيط باهتمام كبير بسبب الصلة الروحية القوية التي ربطت بيني وبين الأخ متوكل لما يزيد عن الثلاثين عامًا. فهو بالنسبة لي شقيقٌ في الروح، وبأكثر من أيِّ شخصٍ آخر عرفته. أحببت أن أسجل حضوري هنا من أجل البركة، ولأكتب بضع كلماتٍ هن دين علي. هذا الدين لا توفِّيه هذه المساحة، ولكنّ شيئًا خيرٌ من لا شيء. متوكل من أصحاب الأسرار المطلعين على جواهر الحقائق، وإني لأومن باطلاعه على الأسرار إيمانًا يماسُّ تخوم اليقين. وفي ما أعرف، أن متوكل انتقل قبل فترةٍ طويلةٍ من انتقاله الجسدي الذي شهدنا. فهو قد كان جاهزًا للعبور منذ وقتٍ طويل، وقليلون هم الذين يكونون جاهزين حين يأتي أوان عبورهم. ومثله كان الأخ بشير بكار، لا غرابة أبدًا أن انتقل كلٌّ من متوكل وبشير في يسرٍ وفي خفاءٍ وفي تكتم لم يشهد معه أحدٌ انتقالهما. لقد عبروا كمن ينسرب في ثنايا حلمٍ لذيذ. حين استدعى خليفة المهدي الشيخ العبيد ود بدر إلى أمدرمان، وقد كان خليفة المهدي يهين المتصوفة وينكل بهم، كما فعل بالشيخ حمد النيل، دعا الشيخ العبيد ربه دعاء مضطر فقال: "بركة القيوم ما أصل الخرطوم". فاستجيبت دعوة الشيخ العبيد، وانتقل قبل أن يصل إلى الخرطوم. وقيل أن أحد الصالحين (نسيت اسمه) رفض رفع الفاتحة على روح الشيخ العبيد عقب موته مباشرة. وبعد سنوات قام ذلك الرجل الصالح وسط الناس وقال لهم بعد أن رفع يديه: "الفاتحة، اليوم انتقل الشيخ العبيد". (سمعت هذه القصة من الأستاذ). حالة متوكل كانت على العكس من حالة الشيخ العبيد فهو قد انتقل روحيّا، وبقي في انتظار الانتقال الحسي. كان متوكل يقظًا، أي حاضرًا، وحالة اليقظة والحضور تأتي ثمرةً للعبادة ولإدامة الفكر، غير أن الوهب فيها أكبر بكثيرٍ من الكسب، وقد كان متوكل موهوبًا وهبًا كبيرًا، وممدودًا مددًا عظيمًا. لا يبلغ الشعراء سماوات المتصوفة ولكنهم يدنون منها. قال عبد الرحيم أبو ذكرى في قصيدته "الرحيل في الليل": أيها الراحل في الليلِ وحيدا ضائعًا منفردًا أمسُ زارتني بواكيرُ الخريفْ غسلتني بالثلوجْ وبإشراق المروجْ أيها الراحل في الليل وحيدا ضائعًا منفردا حين زارتني بواكير الخريف كان صيفي جامدا وجبيني باردا وسكوني رابضا خلف البيوت الخشبيه مخفيًا حيرته في الشجرِ وغروبِ الأنهرِ وانحسارِ البصرِ لوّحت لي ساعةً حين انصرفنا ثم عادت لي بواكير الخريف حين عادت، وثبةُ الريح على اشرعتي المنفعلهْ سطعت شمس الفراديس علي أروقتي المنعزلهْ ومضت تحضنني الشمس النديه التي ماحضنتني في الزمان الاولِ في الزمانِ الغائبِ المرتحلِ ايها الراحل في الليلِ وحيدا ضائعًا منفردا انتظرني فانا أرحلُ في الليل وحيدا موغلاً منفردًا في الدهاليزِ القصيّاتِ انتظرني في العتاميرِ وفي البحرِ انتظرني انتظرني في حفيف الأجنحهْ وسماواتِ الطيورِ النازحهْ حين تنهدُّ المداراتُ وتسودُّ سماءُ البارحهْ انتظرني انتظرني ولسوف أعود لأحكي عن متوكل أكثر في وقتٍ لاحق، حين أخرج من حالة الانقباض والبُرحاء التي سببها فقده، وحين يأتيني الوارد