الحنجرة الذهبية...عبد العزيز محمد داؤود...( أبوداؤود)

Quote: في تذكر عبد العزيز داود الفنان شيخ الظرفاء (2) إن من أميز الشواهد على فرادة وعبقرية الأستاذ عبد العزيز محمد داود , رحمه الله , قدرته الفائقة على تأليف الطرف ــ النكتة ــ واسترجاعها , وإعادة تشكيلها . كما أنه يمتلك في ذات الوقت البراعة في إلقاء النكته وتمثيل ما يصحبها من موقف بحركة الوجه حينا , وبخفض الصوت وارتفاعه أحيانا , وبالإشارة احيانا أخرى . يفعل ذلك بفطرته السمحة دون إعمال أو تكلف , متعمدا كل ذلك على سرعة البديهة والخاطر وعلى ذكاء لماح أخاذ يستشعر مواضع المفارقة في مثل هذا الموقف . كان عبد العزيز داود شيخ الظرفاء , وهم قلة في هذا الزمان اللاهث المتسارع الخطى الذي يجعل الفرد مهموما بقضاياه الخاصة , منكفئا عليها , ساعيا إلى تحقيق أقصى ما يستطيع من إنجازاتها المادية . في مثل هذا الوضع يقل عدد الظرفاء القادرين على إضحاك الناس . هذا وضع يقنعك بصدق المقولة : إن عدد الظرفاء أقل من عدد الزعماء , ويظل حكم امة أسهل من إضحاكها . فتأمل ! لقد وجدت النكتة عناية خاصة من علماء الإجتماع , وعلماء النفس , وعلماء السياسة , وعلماء الاقتصاد , وعلماء الإدارة . وأحاطها بعض الفلاسفة بأطروحاتهم . كما وجدت في الوقت ذاته كل الاهتمام من الحكام والزعماء وأجهزة الامن وخصصت لها بعض نظم المخابرات إدارات تقوم برصدها وتحليلها وتحديد موضوعاتها . وقد حفظ لنا التاريخ أن أباطرة الرومان كانوا يعينون ما عرف بزمنهم بحراس الشائعات Delatores الذي يتمثل اختصاصهم في رصد وجمع وتحليل الشائعات لإفادة منها كمؤشرات للتعرف على التوجهات الشعبية أو نبض الشارع كما يقال هذه الأيام . ومن مهام هؤلاء الحراس أن يطلقوا شائعات مضادة في بعض الحالات لكي يجهضوا أثر بعض الشائعات التي تبتدعها بعض الكيانات المعارضة . وما كانت هذه الشائعات منذ قديم الزمان إلى يومنا هذا , في معظم الحالات غير نكات معبرة عن موقف من المواقف أو حالة من الحالات . والنكتة في جوهرها تقوم على سرعة البديهة والملاحظة الدقيقة لعنصر المفارقة paradox , وتلك خاصية تنبني بالضرورة على ذكاء يستشف الصورة ويحقق الاستجابة السريعة . كل الظرفاء أذكياء بدرجات . وأخي عبد العزيز يأتي في طليعة هؤلاء النجباء الأذكياء وسأقدم لك من الشواهد ما يثبت صدق هذا الرأي . النكتة هادفة للإضحاك . والضحك خاصية إنسانية , فالإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك . والمؤمن الحق يدرك في أعماق نفسه أن الله تعالى جلت قدرته ما خلق الضحك عبثا . يحدثنا الأستاذ عادل حمودة قي كتابه القديم الممتع : ( النكتة السياسية , كيف يسخر المصريون من حكامهم ؟ ) إن النكات ( بحكم أنها هادفة للإضحاك ) هي نوع من الأنتبيوتك ضد النكبات . والابتسامة مشروع ضحكة أوضحكة صامتة , والعيون قد تبتسم قبل الشفاه , والطفل يبتسم قبل أن يتكلم . وعندما نضحك , تتحرك في جسمك ( 26 ) عضلة , في البطن والصدر والرقبة والظهر كأنك مارست بعض التمارين البدنية . وهذا يعني أن تنفسك سيكون أفضل . والحجاب الحاجز سيكون أكثر ليونة , ولن تتعرض لمتاعب في الهضم . والمصاب بالقلق المزمن إذا سمع نكتة وضحك فقد شفي . فالإقبال على العمل والاستجابة للنكتة من علامات الصحة النفسية . ويستطرد الأستاذ عادل حمودة بالقول أن المثير للدهشة أن طبيبا أمريكيا اسمه هيرام براونيل استخدم النكتة في تشخيص حالة المخ المصاب بجلطة . إنه يلقي بنكتة , فإذا لم يضحك المريض , كانت الجلطة في الفص الأيمن من المخ . والجلطة على هذا الحانب لا تحرم المريض من الحوار , لكنها تحرمه من تذوق النكتة , والنقاط مغزاها , ومن ثم لا يضحك . فالفص الأيمن هو فص الإبداع والاستمتاع .. أنت من بعد عندما تضحك يقوي القلب بنسبة 7,14% ويزداد النبض نشاطا إلى الضعف من (60) إلى (120) , ويرتفع ضغط الدم المنخفض . ولو ضحكت فتأكد أن خلايا مخك سليمة , وقلبك أيضا . ولو كنت معرضا لأزمة قلبية فسيتأخر ذلك سنة أو أكثر .. فالضحك يطيل العمر . ربي جلت قدرتك ما خلقت الضحك عبثا . ولك أن تتخيل الآن مزايا النكتة وما تبعثه في النفس من ضحك . وبمثل هذا التحليل ندرك فضل الظرفاء أمثال عبد العزيز داود علينا , فقد كانت قدرتهم على الإضحاك البلسم الشافي لكثير من أمراض العصر . وكانت على أقل تقدير وسيلة لتحقيق التوازن العصبي والنفسي المطلوب . فتأمل ! كان عبد العزيز داود ذكيا لماحا قادرا على الملاحظة الدقيقة مستعينا بسرعة البديهة لاستخلاص عنصر المفارقة فيتجسد أمامك الموقف المضحك . يتأتى له كل ذك في سرعة مذهلة , وفي كل المواقف . وهو في كل الحالات لا يجد تداعيات خواطره بأية صورة من الصور التي قد تفرضها ظروف الزمان أو المكان . أذكر لك في هذا السياق مثالين : صعد عبد العزيز إلى المسرح في إحدى تلك الاحتفالات السنوية بثورة اكتوبر .. وكان الرئيس إسماعيل الأزهري في مقدمة شهود الحفل .. تقدم عبد العزيز إلى المايكروفون مخاطبا الرئيس أزهري ( الليلة يغني لكن اثنان من أولاد بحري , ثنائي أن والكابلي , بلاك أند وايت ) ! وجاء عبد العزيز ذات يوم مشاركا في مؤتمر الاتحاد الاشتراكي .. لمجه الرئيس جعفر نميري وقال له مازحا : تعال يا عبد العزيز أنت جيت تمثل منو ؟! فرد عبد العزيز ببديهته الحاضرة : لقد يا ريس أمثل السواد الأعظم !! وسمعته ذات مره في موقف النقد اللاذع للحاكم . سأله الرئيس نميري : تعال يا عبد العزيز ما هي قصة فرق الجاز الكثيرة دي ؟ .. يا أخي نحن عايزين أغاني الحقيبة القديمة ! فرد عبد العزيز بسعة مذهلة : هو فضل فيها جاز يا ريس !! مشيرا بذلك لا أقول من طرف خفي بل بصورة مباشرة إلى ما كان يعانيه المواطن أيامها من شح المواد البترولية من غاز وبنزين . فضحك الرئيس وكل من شهد الموقف وقتذاك . وذات يوم شاهد عبد العزيز على مقربة من مدخل دار الإذاعة ثلاث سيدات .. يسرن في خطى وئيدة لضخامة وثقل ما اكتنزن من لحم وشحم .. ظلت الأولى تناديه من بعد : تعال يا عبد العزيز انت عيونك زغللت ولا شنو .. كمان ما عرفتنا .. وحاول عبد العزيز أن يستذكر اسم إحداهن فما وجد سبيلا لذلك .. حينها بلغت الأولى موقفه , فقالت : أظنك نسيت إسمي , أنا ما دار السلام .. ودي دار النعيم .. فقال عبد العزيز : أي والله أختنا الثالثة دي عرفتها .. دي ما دار الرياضة !! وضحك الجميع لهذه القدرة المتميزة التي يمتلكها عبد العزيز في تأليف النكتة مستلهما في ذلك طبيعة المفارقة . وجاء متطفلا إلى إحدى الجلسات الخاصة واحد من الثقلاء . وظل يلح على عبد العزيز أن يغني له ( غصن الرياض ) . ظل عبد العزيز يتجاهل الطلب , والثقيل يزيد إلحاحا إلى أن جاء قريبا منه وقال له : والله يا أستاذ لما تغني غصن الرياض أنا أشعر أن عمري رجع عشرين سنة للوراء . قال عبد العزيز في غير مبالاة : وانت الآن عمرك كم سنة ؟ رد الرجل في براءة أربعين سنة . قال عبد العزيز : خلاص لقينا الحل .. أنا حأغني ليك غصن الرياض مرتين عشان ترجع بطن أمك , ونرتاح منك !! متى حبكت النكتة , لا يتردد عبد العزيز في ذكراها , أيا كان الموقف . في جلسة مؤنسة حدثتنا زوجته الفاضلة فوزية محمد حسين , عليها رحمة الله تعالى , فقالت إبان الأشهر الأولى من زواجهما , ظلت تسأل عبد العزيز كحال كل عروسة جديدة تود أن تعبر عن حرصها على زوجها , تسأله عبد العزيز ماشي وين ؟ يقول : الإذاعة .. هي : وتجي متين ؟ هو : بعد ساعتين . وفي وقت آخر : عبد العزيز ماشي وين ؟ هو : عندنا حفلة عرس في أم درمان . هي وتجي متين ؟ هو : بعد أربع ساعات .. وهكذا من يوم لآخر .. وفجأة بادرها بالقول : تعالي يا فوزية أنا مؤجر منك عجلة !! فقالت فوزية ضاحكة : وكان ذلك التعليق آخر مطاف سؤالي لعبد العزيز عن ميعاد خروجه وعودته !! كم ضحكنا جميعا لهذه الخاطرة !! وحدث الأستاذ برعي محمد دفع الله بأنه جاء ذات صباح باكر للمحطة الوسطى بأم درمان ليصحب عبد العزيز في الترام للخرطوم . دخل عبد العزيز عربة الترام محييا : يا جماعة صباح الخير .. كان الصباح باكرا كان الصباح باكرا والكل في إغفاءة . غاظه عدم رد التحية . فقال : يا برعي أحسن ننزل .. أظن هذا ترام بضاعة ! هذه العبارة اللاذعة أفاقت الكل من تلك الإغفاءة , وردوا التحية بأحسن منها . وأنسوا لا جدال بصحبة عبد العزيز وبرعي حتى الوصول إلى المحطة الوسطى بالخرطوم !تلك أيام ذات طعم خاص , مترعة بالحسن والألفة والمحبة , والتطلع إلى آفاق رحبة من العيش الهانئ المطمئن المؤنس . وأذكر بجلاء حديث عبد العزيز الودود عصرئذ . يوم جاء والاعزاء أحمد المصطفى , وعبد الكريم الكابلي , وبرعي محمد دفع الله , وعبد الله عربي في الزيارة الأولى لنخبة من الفنانين السودانيين للولايات المتحدة بهدف الترفيه عن طلابنا في الجامعات الأمريكية والتعريف بالفن الغنائي السوداني . ولقد قضوا شهرا كاملا متجولين بين الولايات الأمريكية في غناء دائم ومستديم .. عند وصولهم مدينة لوس أنجلوس هاتفني عبد العزيز : قلت : أرجوا أن تكونوا مبسوطين من الرحلة . وما تكونوا تعبتوا ؟! قال : أبدا ما تشيل هم .. مبسوطين جدا.. وما في أي تعب !! ــ إنت متأكد ما تعبتوا بعد كل هذه الحفلات المتلاحقة في كل البلاد التي زرتوها حتى الآن . ــ أبدا .. أبدا ما في تعب .. فقط أنا عايز أسألك لما سافرت من واشنطن كان اسمي منو ؟ ــ تقصد شنو ؟ أنت عقلك حدث ليه شي ؟ ــ ( ضاحكا ) .. لا والله ما تخاف العقل تمام في تمام .. بس أنا عايز أتأكد اسمي كان منو ؟ ــ طبعا اسمك عبد العزيز ــ أكان كده أمانا ما ضاع راجل .. أنا خلاص من كثرة التعب سأعود لك عبد ساكت ؟! ولك أن تتأمل هذا الظرف , وهذه القدرة الفذة على تلخيص الموقف , وفي التعبير عنه بهذا الاختزال السهل الممتع . يشير الكثير من المفكرين والدارسين لظاهرة النكتة السياسية بأنها كانت عبر القرون والحضارات , وستظل الوسيلة والأداة للتعبير عن نبض الشارع والتوجهات المجتمعية في كل الظروف المكانية والزمانية التي لا تتوافر فيها الديموقراطية . النكتة السياسية هي وسيلة للنقد وللتعبير عن الرأي وللمجاهرة برفض مصادرة الرأي الآخر . ولهذا فإن كل الظرفاء أولاد النكته , يأتون في طليعة الرواد الذين يرفضون النظم القهرية الدكتاتورية , وان لم يجاهروا بذلك . ومن هنا فإن النكات السياسية التي ألفها عبد العزيز أو أعاد تشكيلها توضح انحيازه الكامل للنهج الديموقراطي , وتفاعله الكامل مع قضايا السواد الأعظم من أبناء هذا الوطن العزيز الذي ظل عبد العزيز يحتضنه في محبة , ويثريه بروائعه الابداعية في كثير من مجالات الفن الرفيع . الله إنا نسألك يا رحمن يا رحيم يا حنان يا منان , يا عظيم الشأن أن تنزل شآبيب رحمتك على أخينا عبد العزيز وتسكنه فسيح جناتك . اللهم إنا نستعطفك أن تستجيب لدعائنا فقد كان عبد العزيز عزيزا علينا , أثرى حياتنا بروحه ذات الألق الصوفي الشفيف , وإبداعاته الموحية , وترك لنا هذا التراث القيم في العديد من أوجه الإبداع , وتبقى ذكرياته الحميمة تعطر حياتنا بنسماتها المنعشة وأريجها الأخاذ