كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (4)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 06:01 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-30-2012, 03:57 PM

د. عمرو محمد عباس


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (4)

    الفصل الخامس: الرؤية الثالثة: رؤية مؤتمر الخريجين (الرواد)

    نعالج مؤتمر الخريجين باعتبارها رؤية العناصر السياسية النشطة التى تبلورت فى هذا التنظيم الجامع والتى مثلت فيها كافة التيارات والفئات التى جاءت عبر القرون قبل ان تتفرق الى الاحزاب السياسية التى تلت تلك الفترة. ورغم ان هذا التنظيم بدأ وانتهى قبل ان يستطيع تحقيق رؤيتة كسلطة حاكمة، الا اننا نرى انة المجرى الاساسى الذى شكل رؤية الفئات الحاكمة منذ الاستقلال وحتى انقلاب مايو ( الديمقراطية الاولى، الحكم العسكرى الاول و الديمقراطية الثانية) وامتد فى التاثير فى فترات لاحقة. طوال اكثر من عقد كان هناك إحساس وطني عام ومتزايد بين الكثير من الخريجين الذين كانوا مهتمين بالشان السوداني العام، ويقومون بانشطة أدبية وثقافية واجتماعية وتعليمية متعددة لا سيما الأبروفيين بان هناك حاجة ماسة لتكوين تنظيم ما يقوم بالتعبير عن مطالب المتعلمين، وتنسيق وتنظيم جهودهم المشتركة في الأعمال الاجتماعية والتعليمية والسياسية. ( د/ عبد الوهاب أحمد عبد الرحمن: الحركة الوطنية السودانية بين وحدة وادي النيل والاستقلال 1956 – 1919م ، دار القلم، الإمارات العربية المتحدة 2007 م ).

    كانت التجربة الهندية جاذبة للوجدان السياسى السودانى فى حقبتى الثلاثينيات والاربعينيات وحتى مشارف الاستقلال فى 1956 ، فتسمية مؤتمر الخريجين جاءت إقتداءً بالمؤتمر الهندى، وراح رموز الحركة الوطنية فى بلادنا فى ذاك الزمن المجيد يلبسون (بدل الدمور) تأسياً بدعوة غاندى ونهرو لمقاطعة المنسوجات الانجليزية (إدريس حسن:الديمقراطية لمن يستحقها، الصحافة 7-6-2011 http://su-press.net ).

    الشائع بين الناس ان المغفور لة احمد خير المحامى هو أصل فكرة المؤتمر ومن أول المنادين بها والداعين لها ولكن يرجع البعض إلى ان أول نداء لإقامة مثل هذا التنظيم حدث في عام 1935م لما دعت مجلة الفجر، التي كان يرأس تحريرها انذاك عرفات محمد عبد الله، إلى تكوين جمعية تعاونية أو جمعية أخرى لتمثيل الخريجين وتدافع عن مصالحهم وتتصل بالحكومة في جميع المسائل المتعلقة بظروف عمل الخريجين في دواوين الحكومة. بينما يذكر خضر حمد انه كان كغيره من الخريجين المشغولين بهذا الأمر، قد فكر في هذا الشيء الذي يجمعهم، وانه قد أشار دون قصد منه، إلى كلمة مؤتمر في مقال كتبه لجريدة السودان في يوم 14/7/1935م في العمود الذي كان يعده لها تحت عنوان ( في الهدف وبتوقيع طبعجي) بمناسبة الاجتماع السنوي الذي درجت كلية غردون على إقامته سنوياً للاحتفال بطلبتها القدامى وتطلق عليه ( يوم الخريجين) ليجددوا عهدهم بها، ويتعرفوا على أوجه نشاطها الثقافي والرياضي. ويذكر ان أحمد خير المحامي، الناشط السياسي المتدفق حيوية في جمعية واد مدني الأدبية قد علق على مقالة هذا بخطاب مفتوح بعث به إلى ( طبعجي )، تقدم فيه باقتراح محدد إلى جميع من يهمهم الأمر لعلاج موقف الخريجين الحالي يتمثل في ( تمركز التفكير في صعيد واحد لوضع برنامج عملي شامل وتكليف كل فرد بتنفيذ ما يتناسب مع مداركه واستعداده)، وأشار إلى ان ذلك الأمر لا يتطلب (غير السير بالنادي خطوة أخرى تجعل من داره الحالية، وهي مجمع أدب وسمر ولهو كعبة للنهضة المرموقة. واختتم أحمد خير خطابه المفتوح إلى خضر حمد بدعوة صريحة إلى عقد مؤتمر للخريجين قوامه صراحة العلم، وروحه اتزان العمل وغرضه خدمة القضيتين، قضية الخريجين كطبقة وقضيتهم العامة باعتبارهم جزءاً من الكيان السوداني. وقال أحمد خير في آخر المقال أيضاً: فإلى اللقاء في مؤتمر الخريجين، وإلى لجنة النادي أقدم الاقتراح فهل من مثنى، وهل إلى تنفيذه من سبيل؟؟

    ولم ييأس أحمد خير، الذي عرف بإصراره ودأبه وعناده، ولم يستسلم، فاتبع دعوته هذه بمحاضرة ألقاها في نادي الموظفين بواد مدني، ضمن نشاط الجمعية الأدبية لذلك النادي، والتي عرفت وتميزت بتقدير ومتابعة الناس لنشاطاتها المتعددة والمفيدة وإقبالهم الشديد عليها، وكان أحمد خير الروح المحرك لها. وكانت المحاضرة بعنوان: واجبنا السياسي بعد المعاهدة أي: معاهدة 1936م. قال المغفور لة احمد خير: ان واجبنا الاول هو الاتحاد الفكرى واعنى بالاتحاد الفكرى انتظام الطبقة المستنيرة ولا اقول المتعلمة لاستغلال منابع القوة والنضال فى هذا البلد. واضاف لنجعله ممثلا حصينا للوحدة الفكرية – وحدة السودان الحديث – فاذا انتظم السودان الحديث فى مؤتمر او نقابة مركزها لجنة النادى بام درمان وفروعها فى الاقاليم واذا ما نشر برنامجه القومى نكون قد عرفنا وحددنا واجبنا القومى. (مؤتمر الخريجين في ذكراه السادسة والستين http://www.sudaneseonline.com. وبعد ان ألقى أحمد خير محاضرته هذه في النادي، أرسل نسخة منها إلى خضر حمد، وأخرى إلى لجنة نادي الخرجين بام درمان ونشرت بعض فقراتها في الصحف المحلية لا سيما مجلة الفجر التي نشرت نصها كاملاً في العدد السادس بتاريخ 16/5/1937م. ووجدت المحاضرة عند نشرها بمجلة الفجر ترحيباً حاراً وتأييداً من جانب الكثيرين من الخريجين، كما أيدت مجلة الفجر نفسها هذه الفكرة في مقال افتتاحي أعدته عن مستقبل السودان تضمن الأفكار التي طرحها أحمد خير، ونادت فيه بتكوين ( جبهة موحدة، ومؤتمر يمكن ان يواجه مصيرنا على الطريق صوب الحكم الذاتي كما نشرت مجلة الفجر مقالات أخرى كثيرة مؤيدة لفكرة قيام المؤتمر. د/ عبد الوهاب أحمد عبد الرحمن: مرجع سابق)

    انعقد الاجتماع التأسيسي للمؤتمر العام للخريجين في موعده المحدد، أي في 12 فبراير 1938م، خلال عطلة عيد الأضحى، وكان اجتماعاً حضره ألف ومائة وثمانون (1180) خريجاً من مختلف نوادي الخريجين في شتى انحاء السودان وكان أكثرهم من العاصمة المثلثة. ألقى الأزهري، رئيس النادي ورئيس اللجنة التمهيدية للمؤتمر، في هذا الاجتماع الذي ترأسه، خطاباً حدد فيه الهدف من انشاء المؤتمر، ان المؤتمر لسان الخريجين المعبر عن رغباتهم الموضح لشكاياتهم العامل لتحقيق الأماني القومية، ما لنا نتضاءل في بلدنا ونتخاذل في حقنا، وقد تعهدنا الحكم الثنائي ما يقارب الأربعين عاماً. أما ان نقف على أرجلنا، أما ان لنا ان نثبت وجودنا ونعتز بسودانيتنا... ولنعمل في صف واحد متآزرين ليس كخريجين فقط بل مع الآباء ورؤساء العشائر والزعماء، وقد تعددت طرق الوصول إلا ان الهدف واحد نعمل جميعاً على تحقيقه. وتم في هذا الاجتماع التآريخي إجازة الدستور المقترح للمؤتمر وأعلن بان هدف المؤتمر هو خدمة المصلحة العامة للبلاد، على وجه العموم، ومصلحة الخريجين على وجه الخصوص .

    ولاشك ان قيام المؤتمر يعد انجازاً هاماً، وتتويجاً لتضافر مجموعة مخلصة ومثابرة من الخريجين الشباب من أمثال أحمد خير وعبد الله ميرغني وخضر حمد، وغيرهم من أعضاء جمعية واد مدني الأدبية، جماعة أبو روف وجماعة الفجر، ومختلف جماعات الخريجين النشطة الأخرى في العاصمة المثلثة والأقاليم. كما يعد نقطة تحول بارزة في تاريخ السودان الحديث وفي مسيرة الحركة الوطنية. يعد قيام مؤتمر الخريجين هذا أول معلم ينطوي على التجسيد الحتمي لمطلب تقرير المصير في طريق التطور السياسي السوداني. اهتم مؤتمر الخريجين في بداية مسيرتهم الوطنية الرائدة بالأعمال التنظيمية والإدارية لمؤتمرهم العام وبذلوا جهوداً مضنية لتأسيس فروع له في مدن السودان الكبرى. وارتفعت نتيجة لجهودهم تلك عضوية المؤتمر وانتشر تكوين اللجان حتى بلغ مناطق نائية في مختلف انحاء السودان مثل الفاشر وملكال. واقتصرت نشاطات المؤتمر، في أول الأمر، على تحسين أوضاع الخريجين الوظيفية ثم امتدت لتشمل جميع الموظفين، وطوائف السكان، وطبقات الشعب السوداني المختلفة. ( د/ عبد الوهاب أحمد عبد الرحمن: مرجع سابق )

    عند النظر الى لجان المؤتمر: لجنة التعليم والاصلاح الاقتصادي، الاصلاح الاجتماعي، ‏المجلة، الطلبة القاهريين ، الموظفين، المعهد العلمي ولجنة العمال، نلاحظ نظرتة الوطنية الشاملة وتركيزة على التعليم. ‏ ابتدر المؤتمر انشطتة بتشجيع التعليم فسياسيا تحرك بتقديم مذكرة عن المعهد العلمي في مارس ثم مذكرة اخرى عن اصلاح التعليم في يوليو 1939م لدعم الخلاوي وتشجيعها لمحو الامية، الاهتمام بالتعليم الفني والصناعي، وضع الاسس للجامعة السودانية والمشروع الرائد مشروع تعليم العرب الرحل. بل وسار خطوات كبرى فى نشر التعليم الاهلي وانشاء المدارس. كما اسهم فى في المجال الاقتصادي تشجيع المصنوعات والمنتجات الوطنية، انشاء شركة السينما الوطنية والدعوة لقيام بنك السودان وغيرها. وشملت انشطتة المجالات الاجتماعية والثقافية.

    تبلور النشاط الوطني الذى قادة المؤتمر وسط الخريجين وأثمر احدى أهم محطات الاجماع السوداني بتقديم مذكرة الخريجين في 3 أبريل 1942م. وبدات المذكرة مخاطبة حضرة صاحب المعالي حاكم عام السودان- بواسطة سعادة السكرتير الإداري لحكومة السودان: يا صاحب المعالي: يتشرف مؤتمر الخريجين العام ان يرفع لمعاليكم بصفتكم ممثلين لحكومتي صاحب الجلالة الملك جورج السادس ملك بريطانيا العظمى، والملك فاروق ملك مصر، المذكرة التالية التي تعبر عن مطلب الشعب السوداني في الوقت الحاضر. تلخصت بنود المذكرة فى مطالبة الحكومتين المصرية والبريطانية بإعتماد حق تقرير المصير للسودان بحدوده الجغرافية بعد الحرب مباشرةً، فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية. وفى الجانب الاقتصادى: رفع القيود عن حركة التجارة بين الشمال والجنوب، عدم تجديد عقد الشركة الزراعية بمشروع الجزيرة. مسالة العلاقة بين الشمال والجنوب: إلغاء قانون المناطق المقفولة (الصادر في عام 1920)، إلغاء الإعانات التي كانت تمنح للإرساليات، توحيد المناهج التعليمية وحرية التنقل بين الشمال والجنوب. وحول التعليم: رفع ميزانية التعليم وتأسيس مجلس أعلى للتعليم . وتم تذييل الرسالة بالعبارة التالية: خادمكم المطيع رئيس مؤتمر الخريجين العام- ام درمان 3/ابريل/1942. سوف نحاول ان نتبين المكونات الرئيسية لرؤية المؤتمر واهم الخصائص التى ميزتها ليس كمحاكمة تاريخية ولكن لانها تعود للتأثير مرارا وتكرارا فى تاريخنا المعاصر:

    اولا: جاء تكوين مؤتمر الخريجين كتعبير واضح عن غلبة الاتجاهات العروبية القحة فى جسم المتعلمين السودانيين، فقد تصدرتها جماعة أبو روف، جمعية واد مدني الأدبية وجماعة الفجر وعبرت عن مصالحهم (لم تكن تضم اى خريج من جنوب البلاد الذى كان مغلقا بقانون المناطق المقفلة، النوبة او القوميات غير العربية). وقد استطاع هذا الجسم ان يصل الى معظم الاطراف المدينية فى السودان. ورغم ان بعض المشاركين فى ثورة 1924 قد شاركوا فى المؤتمر الا ان صوتهم كان خافتا او كانوا قد تخلوا عن افكارهم "القومية". وبدلا عن الطابع الثورى 1924 فقد تبنى المؤتمر طريق العمل المتدرج.

    ثانيا: عانى المؤتمر مثل 1924 من اثر خصوصية استعمار بواسطة الانجليز والمصريين، هذة الثنائية كانت اسفينا شق المؤتمر من داخلة وادت للضبابية التى ميزت كل الدعوات من تقرير المصير والاتحاد مع مصر، الاستعانة بالانجليز لمقاومة اطماع مصر الى الكفاح المشترك لشعب وادى النيل. كان هذا تراجعا عن مطالب الامة السودانية وادخلت مطلبا مشروعا من النضال ضد الاستعمار، ككل الدول المستعمرة، الى سياسات الكواليس والمحادثات الجانبية والخلط الكامل بين التناقضات الاساسية والثانوية.

    ثالثا: رغم ان مذكرة 1942 كانت معلما بارزا على قدرة كافة النخبة فى العمل سويا من اجل الصالح الوطنى فقد عانت مثل ثورة 1924 من قصورها فى دراسة المصالح التى تحرك كافة الفئات ( ما يسمى فى علوم التخطيط تحليل اصحاب المصلحة)، والعمل على كسب كافة الفئات الاجتماعية ( الطوائف الدينية، زعماء القبائل والفئات التجارية ) وذلك بتوجية رسائل تطمين لها او على الاقل تحييدها، وكان هذا واضحا انذاك " ولكن دعوة أحمد خير الصريحة هذه، لعقد مؤتمر للخريجين، لم تجد انذاك التجاوب المطلوب لتنفيذه لسبب أو لآخر، وربما كان تفاوت واختلاف الآراء والمواقف الداعية لعقده، وتعارض وتباين الاتجاهات الفكرية والسياسية في أوساط الخريجين، وعدم حماس بعضهم لعقده، ومعارضة الإدارة البريطانية له، وحذر وخوف زعماء الطوائف الدينية وشيوخ القبائل والأعيان من انتزاع المثقفين القيادة منهم، من أهم الأسباب التي حالت دون انعقاده انذاك.". ( د/ عبد الوهاب أحمد عبد الرحمن: مرجع سابق ).

    رابعا: سوف نلاحظ ان مؤتمر الخريجين ورغم المدة الطويلة التى كان فيها فى الساحة ممثلا للوطن قد نابتة الخصائص الى ستلازم الثورات السودانية وهى قصر نفسها الشديد، فالثورة التى بنيت فى عدة اعوام واستطاعت الحشد، والتوعية والتمدد فى اطراف الوطن، خاصة المدنية، اثناء اعوام 1938-1944 سرعان ما تراجعت بعد تفشى الصراعات داخلها وعدم اتفاقها على خارطة طريق الاستقلال. كان متاحا اذن ان تطور وجودها فى انحاء الوطن برفع وتبنى القضايا التى تهم سكان المناطق الريفية والمهمشة – وكانت هذة القضايا متلمسة فى وثائقها وتحليلاتها – لجذبهم الى ساحة العمل الوطنى ودمجهم فى المجتمع القومى المنشود، وبناء المؤسسات الوطنية التى تشجع وتفتح الطريق نحو التحلل المستقبلى للقبلية والعشائرية والطائفية.

    خامسا: ان ابرز اوجة القصور فى رؤية الخريجين هو فقدانها الحس القومى (وليس الوطنى)، ونعنى بها عدم تمثيلها لكافة الاقوام السودانية، فاذا كان الجنوب المثال الاوضح فى حصر قضاياة فى المذكرة 1942 فى المسائل المرتبطة بالايديولوجية العربية الاسلامية مثل حق التبشير ونشر اللغة، فقد تواصل التجاهل حتى انة لم يشرك الجنوبيون حتى في المفاوضات التي أدت لاستقلال البلاد ، كما تم تماما تجاهل تمثيل القوميات غير العربية. أما الأحزاب الإقليمية التي تكونت قبيل وبعد الاستقلال مباشرة فقد صرف النظر عنها باعتبارها أحزابا عنصرية٬ والتاريخ يدلل على ان هذه العناصر الإقليمية المهمشة كانت تتجمع داخل البرلمانات المتعاقبة حول المطالب الإقليمية وقد جمعت في صفوفها أبناء الجنوب وأبناء جبال النوبة ودارفور وأبناء البجة. ولكن الأحزاب الشمالية التي بيدها السلطة جعلت من القضايا الإقليمية قضايا عنصرية ودعمت هذا الاتجاه. لقد القى هذا بظلة على التطور اللاحق لمجرى الاحداث التى لاحقت هذة الرؤية وغيرها كالكوابيس وفتحت عليها نيران جحيم الحرب المستمرة منذ 1955 حتى الان. (الدكتور عدلان أحمد الحاردلو: الدولة السودانية، 2006 ، http://www.cihrs.org ).

    رؤية الرواد (1942-1969)

    بدأ من الاربعينات وتكون الاحزاب تداخلت رؤى كثر وتصارعت فى الساحة، اثرت وتاثرت، اقصت وقربت، لكنها جميعا كانت تدفع بالوطن الى غياهب المجهول. من مجمل سنوات الاستقلال الـ56 خبرالسودان خمسة عشر عاما من الديقراطية فى ثلاث حقب ديمقراطية منذ الاستقلال الوطني عام 1956 (الحقبة الديمقراطية الاولى 1953- 1958 ، الحقبة الديمقراطية الثانية 1964-1969 ، الحقبة الديمقراطية الثالثة 1986-1989). وادار القوات المسلحة االشان السياسى فى الحقبة العسكرية الاولى (1958-1964) واطاحت بة ثورة اكتوير، الحقبة العسكرية الثانية (1969-1985) واطاحت بة انتفاضة ابريل. والحقبة العسكرية الثالثة (1989- ).

    نشات معظم الاحزاب الرئيسية فى وقت متقارب فى الاربعينات من القرن الماضى فى ظل النضال ضد الاستعمار وشاركت جميعها باساليب متفاوتة فى ذلك. وقد تزامل معظم قادتها الذين جاءوا من القطاع المدينى (ما اطلق علية لاحقا القطاع الحديث) فى المدارس والجامعات سواء داخل او خارج السودان. وقد خرجت كافة هذة الاحزاب من مؤتمر الخريجين الذى انعقد فى 12 فبراير 1938م ومثَّلت مرحلة جديدة في تطور الحركة الوطنية السودانية وضمت كافة التيارات والاتجاهات وقد فصل كتاب ومؤرخين عدة على دور الطائفتين ( الختمية والانصار) فى استقطاب الاجنحة المختلفة و كذلك توجة كثير من المثقفين الى الارتكاز على الابنية الطائفية الجاهزة فى تحقيق طموحاتها السياسية. ( انظر كتابات منصور خالد، حسن عابدين، محمد سعيد القدال، احمد خير المحامي، محمود محمد طة، حيدر ابراهيم، محمد عمر بشير، كمال الجزولى، على عبد اللة عباس والمقالات الاسفيرية عبدالله الفكي البشير و احمد ضحية و اخرون كثر)

    وقد واجهت الحياة السياسية السودانية بعد ان نال السودان استقلاله، بعد فترة الحكم الذاتي اثر اتفاقية وقعت في القاهرة في كانون الثاني عام 1953م تمهيدا للاستقلال الكامل فى 1956، العديد من التحديات والاسئلة والمهمات التى شكلت جوهر الصراعات التى قادت الى الدائرة الجهنمية. وعلى الرغم من ان هذة التحديات تختلف حسب كل حزب سياسى او موقف المؤلف الفكرى، الا ان هناك اتفاق عام على ان مهمات المرحلة كانت تتطلب جهودا كبيرة للنهوض بالبلاد وتحقيق التنمية الاقتصادية و تعزيز المبادئ الرئيسة التي تقوم عليها الديمقراطية: استقلال القضاء وسيادة القانون وضمان الحقوق الاساسية وحرية الفكر والمساواة في الحقوق والواجبات وعدم التمييز بين ابناء الشعب .

    هذة الدائرة انتهت الى قذف السودان الى الترتيب رقم 147 حسب دليل التنمية البشرية 2009 ، وكما هو متوقع ضمن الفئة الاخيرة، "البلدان التي لا تتمتع فيها الصحافة بالحرية" وجاء تصنيفه في المركز 168 من مجموع 195 بلدا هذا العام 2009 (تقرير مؤسسة "فريدوم هاوس" او"بيت الحرية" الامريكية، عن مؤشر حرية الصحافة في العالم لعام 2009) و 176/ 180 دولة فى الشفافية وحاز على اكبر دول العالم فى عدد النازحين وعلى اطول حرب اهلية فى التاريخ الحديث وانضم بجدارة الى قائمة الدولة الفاشلة فى المرتبة الثالثة من 60 دولة بعد الصومال و زيمبابوى (يستخدم المصطلح من قبل المعلقين السياسيين والصحافيين لوصف الدولة التي فشلت حكومتها في القيام بمسئولياتها. ولجعل التعريف اكثر دقة، فقد قام صندوق دعم السلام وهو مؤسسة بحثية مستقلة بوضع بعض الخصائص لوصف الدولة الفاشلة: فقدان السيطرة الفعلية على اراضيها، عدم القدرة على تقديم قدر معقول من الخدمات العامة وعدم القدرة على التفاعل مع الدول الاخرى كعضو فعال في المجتمع الدولي) وكذلك 172/178 فى قائمة الدول المصنفة من حيث مستوى تفشي الفساد فيها (منظمة الشفافية الدولية : مؤشر مدركات الفساد لعام 2010.)

    عند تعرضنا لرؤية الرواد فاننا سنتناول الوعاء الحاضن للرؤية انذاك وتشمل الاحزاب الطائفية الليبرالية ونتابع فيها تطور هذة الاحزاب واثرها فى بلورة الرؤية المطروحة وتنفيذها. ونعالج الظروف الموضوعية التى تسهم وتضغط على التكوينات التنظيمية عند صياغتها لرؤيتها. اتحاشى هنا ان ابدأ باى تتبع تاريخى لنشاة الاحزاب السودانية عموما، فهذا ليس غرض هذا الكتاب، الا عندما يقتضى السياق وفى اضيق الحدود. فرؤية الرواد تنازعها عهدان من الديمقراطية وعهد عسكرى بينهما، نازعتها الرؤية الاشتراكية فى السودان والقومية فى العالم العربى وقاد النزاع معها الى الانقلاب المايوى الذى شهد اطروحات اشتراكية انتهت الى تسيد القومية العربية ودعاتها. لكن سقوط مشروعها وافلاسة وضعها فى طريق تيار الدولة الدينية وصعود ما اسمى بالمشروع الحضارى. خطل الرؤية الاستراتيجية السودانية وهزال نموذج تيار الدولة الدينية، اتى الى الساحة برؤية السودان الجديد.

    سنتناول الانظمة العسكرية الديكتاتورية التى حكمت البلاد ولازالت لاكثر من اربعة عقود، كانت حصان طروادة للرؤى التى لم يستطع دعاتها تحقيقها عبر الآليات الديمقراطية فركبت صهوة الجواد الحديدى الاشتراكى حينا، القومى عربى ثانيا لتصل بنا اخيرا الى صحارى المشروع الحضارى. احاول فى هذا الجزء النظر فى رؤية الاحزاب الليبرالية وكيف سيؤثر هذا فى التغيير فى السودان، سواء فى بطئها اذا ظلت الجموع فى ظنها بعدم جدوى اى استثمار فى التغيير مالم تتقدم قيادات الاحزاب وتطرح مشروعا مقنعا للبناء الوطنى خاصة مع تحقق انفصال الجنوب ودفع النظام لادخال البلاد فى حلقات عنف لاطالة عمرها، تسارعها اذا ادى تراكم الازمة الثورية الى تفجرها عند لحظة ثورية مناسبة (اركان المواجهة مع النظام مكتملة كما عبر عنها الاستاذ محمد الفكى سليمان، الجريدة 21 يونيو 2011 ). السيناريو الاخير فى ترك الامور كما هى – اى الامر الواقع- وتحول الازمة الى صراع داخلى مزمن منخفض الكثافة كما هو حادث حاليا وترك السلطة للتطاحن بين تياراتة المتصارعة والتفكك الذاتى.

    الاحزاب الليبرالية

    نشأت الاحزاب الطائفية الليبرالية من رحم طبقة متعلمة محدودة العدد فى خضم صراع ضد المستعمر وعلى اجنابها مؤسسات ذات جذور تاريخية ساهمت المؤسسة الاستعمارية فى تطويرها: الطوائف الدينية (الانصار والختمية والهندية اساسا) فى طبعتها المدعومة معنويا وماليا وسياسيا واعادة تركيب المؤسسة القبلية. وبطبيعة الحال فقد تم التحالف بين الطوائف الدينية والادارة الاهلية على ارضية موحدة للجميع وهى السلطة والنزوع الى قيادة مؤيديهم الى اوضاع افضل. هذا الوضع هو حقيقة تاريخية وستظل تعيش معنا على الاقل فى المستقبل المنظور ولن يزيلها نقدنا لها او تجاوزها.

    يلخص الامام الصادق المهدي تطورالاحزاب الليبرالية على مدى الزمن " ان الاحزاب السياسية السودانية مع مافيها من ملامح الواقع الاجتماعي السوداني هياكل مفتوحة فحزبي الامة والاتحادي الديمقراطي فيهما الانصاري وغير الانصاري والختمي وغير الختمي بل المسلم وغير المسلم. وهي احزاب متطورة ففي المرحلة الاولى كان وراء الحزب السيد الراعي ويقود الحزب افندية، هذا الشكل كان ملائما لمرحلة اولى. ولكن تطور الممارسة الديقراطية سلم الجميع بضرورة انتخاب القيادة ومساءلتها وان يكون للحزب الحق في اتخاذ اي قرار داخل اجهزته فاصحاب التاييد الديني ان ارادوا المشاركة في القرار فانما يشاركون من موقع حزبي". (الامام الصادق المهدي: الديمقراطية في السودان عائدة راجحة، الطبعة الثانية).
    وبرغم المناقشة المنطقية التى قدمها الامام الا ان واقع الحال يوضح ان التطور التاريخى لتحالف اجزاء من النخبة (الافندية) مع المنظومة الطائفية انتهت بهيمنة الطائفة على الحزب وانتفت امكانية المنافسة على قيادة الحزب، وهو الشرط الجوهري للديمقراطية والاصلاح والتجديد. ان حديث الامام هى الصورة المرجوة التى عجزت عن التحقق تقريبا. الممارسة العملية تقول ان الامام الصادق المهدى على رئاسة حزب الامة منذ بداية السبعينات، السيد محمد عثمان الميرغنى زعيم الحزب منذ نهاية السبعينات.

    تناول ابوذر على الامين يسن فى سلسلة مقالات خواطر الازمة السياسية السودانية ان الاحزاب السياسية التى تمخضت عنها نضال السودانيين المدنى منذ بداياتة فى المنظمات التى انشاتها الطبقة المتعلمة المحدودة العدد منذ الاتحاد السودانى، وبعد مسار عسير الى الاحزاب الليبرالية المعروفة اليوم الامة، الاتحادى و العقائدية الشيوعى والاخوان. جاءت وهى محملة بكل خصائص المحيط الطائفى القبلى. فنظرة سريعة ترينا بوضوح تكوينها المدينى الوسطى، فهى احزاب المركز الوسط مطعمة ببعض تمثيل من الاطراف ولكن لم تعكس البرامج المطروحة اولوياتها. الخصيصة الثابتة الثانية هى ثبات القيادات الحزبية. كل رؤساء الاحزاب ماتوا فى الرئاسة. يرجع ابوذر ازمة الزعامة لضعف او غياب المؤسسية وتقسيم العمل وكمؤشر على رسوخ انماط القيادة التاريخية (زعيم القبيلة – شيخ الطريقة – وفكي الخلوة).. وكل الانماط التي تورث الزعامة بالدم والنسب القريب والمباشر)، فهنا يكمن جزرها الذي يغذي استمراريتها وبقاءها ضمن المؤسسات والقوى الحديثة، كما يقدم اقوى تفسير لعدم نجاح النخبة الحديثة في خلق بدائل لها او تجاوزها. (ابوذر على الامين مقالات خواطر الازمة السياسية السودانية نشرت خلال ديسمبر 2010 فى الاصدارة الالكترونية حريات http://www.sudaneseonline.com )
    الاحزاب الطائفية الليبرالية قامت اساسا على الطائفة الدينية التى استند مؤسسيها فى بنائها على الموروث التاريخى واللحمة التى تربط بينها وجذبت المثقفين لدائرتها. لكنهم ايضا استجابوا لمتغيرات العصر بقدر امكانهم وبقدر مساعدة المثقفين الذين انتموا اليها ولذلك ساهمت فى وضع اساس مقدر من التراث الديمقراطى العصى على الذوبان او الهجر رغم تعرضها لفترات طويلة من القهر وغسيل المخ والقمع الوحشى.

    مسارات حزب الامة: الامام عبد الرحمن المهدى

    يمكن تتبع تاريخ هذا الحزب من تتبع التاريخ الشخصى للامام الراحل عبد الرحمن المهدى منذ ولادتة فى امدرمان ثم الى منفاة الداخلى فى الشكابة فى النيل الابيض ثم جزيرة الفيل لمدة تسع سنوات والاستعمار البريطانى مستهدف المهدوية فى كافة اشكالها ويفكك فى كافة اشكالها الدينية والتنظيمية. فى هذا المحيط تكون وتشرب مفاهيمة المستقبلية، فالنظام المهدوى قد تم تمزيقة وكسرت شوكته القتالية واعيد ترتيب النظام الادارى وفى الخلفية قعقعة السلاح النارى الحديث. واهل تحمل الامام عبد الرحمن المهدي لمسئولية القيام بشئون اهلة وتداخلة مع افراد الشعب العاديين بعد زوال السلطة الى بناء القدرات الفكرية والاجتماعية والشخصية التى مكنتة من اعادة بناء المهدوية الجديدة (الانصار) واختطاط تكتيكات مناسبة للصراع مع المستعمر كانت تقوم على استيعاب العلاقة مع المستعمر وعدم التناقض معها فى مجمل تحركة لحين بناء ركيزة اقتصادية وتنظيمية قوية وذلك عن طريق الصبر والتسامح كما عبر عنها المغفور لة عبيد عبد النور . (مذكرات الامام عبد الرحمن المهدى، مركز الدراسات السودانية، 1996 ).

    سمحت السلطات البريطانية للامام الراحل عبد الرحمن المهدي بزراعة اراضي المهدي في الجزيرة ابا بمنطقة النيل الابيض في عام 1908م ، حيث كانت تلك البداية لاعماله الزراعية والاقتصادية التى تبلورت فى دائرة المهدى 1925 كمدخل لبناء القوة السياسية، كما مكنتة من مد جسور العلاقات مع الانصار عن طريق وكلاء اغلبهم من قادة الادارة الاهلية. ادى قيام الحرب العالمية الاولى 1914 وحاجة الحلفاء لصوت سنى اسلامى ضد تركيا مركز الخلافة والمتحالفة مع المحور، الى تغير موقف البريطانين منة، فاستطاع بصبرة ان يشيد تنظيم الانصار فى مختلف ارجاء السودان، خاصة دارفور وكردفان والنيل الابيض.

    ورث الامام من والدة التفاعل مع ثقافة العصر وتلمس الاستراتيجيات الصائبة للتعامل مع المتحرك الاقتصادى والاجتماعى. ورغم انة لم يتلق تعليما نظاميا، الا انة استشعر اهمية دور المثقفين فى الحياة العامة وحاجتهم الى مخاطبة مختلفة عن تجمعات الانصار حول الراتب فى القرى والبوادى. ارتبط الامام بهذا المجتمع الجديد باطروحات مناسبة وبمداخل مختلفة، فساعد فى تاسيس نادى الخريجين 1918 وشارك فى اصدار جريدة الحضارة و ساند المثقفين فى مناسبات عديدة اوجدت لة موقعا فى عالم الطبقة المثقفة. وعند تكوين حزبة السياسى حزب الامة 1945 كان الامام قد استطاع بناء شبكة من الانصار الموالين فى انحاء القطر شكلت نواة صلبة وجد فيها مجموعة المثقفين الذين توافدوا علية تكأة مناسبة لتحقيق تطلعاتهم نحو تحرر البلاد والوصول الى السلطة. عند عشية الاستقلال برز الحزب وهو يتبنى الديمقراطية الليبرالية والدولة المدنية والسيادة للشعب على نمط وستمنستر مسنودا بطائفة لديها ولاء مطلق و قدرة مالية كبيرة.

    عند انفجار الحكومة العسكرية الاولى اصدر الامام الراحل السيد عبد الرحمن بيانا بعد يومين فقط من الانقلاب جاء فيه (يؤسفني ان اقول ان السياسيين الذين قادوا الاحزاب السياسية قد فشلوا جميعا، ولم تنجح اي من الحكومات الاربع التي تعاقبت على كراسي الحكم واصيب الشعب السوداني بالاحباط وهاهو يوم الخلاص، فقد هبّ رجال القوات المسلحة وامسكوا بمقاليد الامور ولن يسمحوا بالتردد والفوضى والفساد بالعبث في هذه البلاد، ولقد من الله علينا برجل يقود الحكومة بالحق والصرامة فابشروا بهذه الثورة المباركة واذهبوا الى اعمالكم بهدوء وثقة لتاييد رجال الثورة(جريدة الاخبار، 19 ديسمبر 2010 http://alakhbar.sd

    مسارات حزب الامة: الامام الصديق عبد الرحمن المهدى

    كان المغفور لة الامام الصديق عبد الرحمن المهدي معارضا منذ البداية وراى ان النظام العسكري لا يعالج مشكلة الحكم في السودان وكان السيد الصديق خارج السودان عندما وقع الانقلاب فعاد الى السودان مسرعا وحدد موقفه بادانة ما حدث ودعا الى مقاومة الوضع الجديد. ويمكن ان نرجع موقف الامام الراحل الى نشأتة فى وسط الحركة الوطنية فقد تخرج من كلية غردون التذكارية قسم الهندسة، فى الثلاثينات وشكّل مع اعضاء اخرين لجنة الزعفران، وهي اللجنة المسئولة عن تسيير اضراب كلية غردون الشهير (نوفمبر 1931 - 31 يناير 1932م)، وهو الاضراب الذي قام للمطالبة بحقوق الطلاب في التعليم العالي الاكاديمي، وحقوق الخريجين الوظيفية، والذي ساهم الامام عبد الرحمن –والده- بدور اساسي في انجاح المفاوضات التي انهته في 31 يناير 1932م.

    بوفاة الامام عبد الرحمن المهدي في 25 مارس 1959م تمت مبايعه الصديق عبد الرحمن المهدي اماما للانصار. تميز الامام الراحل فى معارضتة للنظام العسكري بعدة اتجاهات فبدا اولا من المشاركة فى تطوير اليات للعمل الوطنى وفى تجميع المعارضة قوميا. لم يعتمد الامام الراحل على العمل الفوقى فى قيادة المعارضة ولكن خلق جوا جماهيريا عاما بعدة تكتيكات. فقد ارسل الوفود لشرح المواقف لكل الاقاليم، وبادر بمخاطبة النظام الحاكم بالعديد من المذكرات والتى تطور فيها موقفة من المطالبات الاجرائية الى الموقف السياسى الواضح " ان تنتهي مهمة القوات المسلحة في مباشرة شئون الحكم مشكورا علي ما ادى فيما يختص بالدفاع عن البلاد متجنبا الدخول في شئون الحكم؛ ان يتكون مجلس راس اعلى من أن يتكون مجلس رأس أعلى من خمسة أعضاء برئاسة، ويتولي هذا المجلس رئاسة الدولة والإشراف على شئون الحكم مؤقتاً ؛ ان تتالف حكومة من المدنيين لحمل اعباء الحكم في البلاد؛ ان يوضع دستور للبلاد.. انتخاب هيئة لاقرار الدستور وانتخاب رئيس الجمهورية". وفى المفاوضات التى دارت بين وممثلي المجلس الأعلى والامام في مقابلة أول رمضان 1380هـ بمنزل الضيافة بالخرطوم عبر عن راية فى الديمقراطية بشكل واضح: إنني لا أعترف بأن الديمقراطية فشلت، ولكن يصح أن يكون الحكم قد فشل والديمقراطية مع ما بها من عيوب فهي أسلم وسيلة للحكم، أما كلمة الجنوب كان أيضاً محكوماً بالبندقية فقد كان له ممثلون بالبرلمان ولهم حق الانتقاد وحرية التعبير وهذا ما نطلبه الآن. (الوثيقة رقم 3: جهاد في سبيل الديمقراطية: مطلب الامة: اشرف على اعداده الصادق المهدي، www.umma.org ).

    تطور خطاب المغفور لة الامام الصديق المهدى بعد تجارب المقاومة الشعبية والاضرابات الى مخاطبة برنامجية فى الاحتفال بعيد الهجرة 1961 بعد تكوين الجبهة الوطنية ضد الحكم العسكرى الاول. كان الخطاب بارزا مما يمكن ان يعد برنامجا صائبا حتى اليوم ويمكن ادراجة كاحد المراجع المهمة فى صياغة مشروع الرؤية السودانية وتطورة الوطني والديمقراطي " قيام حكم ديمقراطي منبثق من مبادئ الاسلام والواقع السوداني مستمد من تجارب الماضي ما يضمن للمواطنين حقوقهم في ظل قضاء نظيف مستقل يسيره تشريع عادل؛ للافراد حقوقهم في التعبير النشر والتنظيم؛ تنظيم الاقتصاد السوداني علي اساس خطة واقعية تضمن تطوير قطاعاته العامة والتعاونية والخاصة بعيدا عن السيطرة الاجنبية حتى يتوفر الرخاء والعدالة للفرد السوداني وتصبح سيادته في بلاده حقيقة واقعية؛ وضع خطة واعية للتطوير الاجتماعي بشكل خاص على المناطق الاكثر تخلفا حتى تنهض البلاد في كيان سوداني موحد متقدم مستمد من مثلنا العليا وروح عصرنا الحديث؛ انتهاج سياسة خارجية مستمدة معالمها من مصلحتنا الوطنية المرتكزة على مناهضة الاستعمار في صوره المختلفة والحياد في النزاع القائم بين الشرق والغرب والتعاون مع كل الدول معاملة الند لتحقيق المصالح المشتركة مع اعداد السودان لدوره الطبيعي كرابط بين افريقيا والعالم العربي. لم يستعمل الامام الراحل النضال السلمى فقط ولكن استعان باستعراضات القوة المتكررة باجتماع الانصار سواء فى الاحتفال بالهجرة والمولد وقد ادت حوادث المولد عام 1961 الى اطلاق النار على تجمع الانصار. وكان من وقع هذا الحادث الاليم اصابته بذبحة صدرية في يوم السبت 30/9/1961م واختاره الله الى جواره وفقدت البلاد احد ابرز واحكم قادتها. (الوثيقة رقم 12: جهاد في سبيل الديمقراطية: مطلب الامة: اشرف على اعداده الصادق المهدي).

    لدى وفاته في أكتوبر 1961، لم يوص الإمام الصديق لشخص معين خليفة له. بل كون لجنة لإدارة شئون الانصار من خمسة أشخاص برئاسة السيد عبد الله الفاضل المهدي. وقال في وصيته التي أملاها على ابنه السيد الصادق المهدي "بعد وفاتي يتألف مجلس شورى برئاسة السيد عبد الله الفاضل المهدي وعضوية السادة: الهادي ويحيى وأحمد والصادق المهدي ويرعى هذا المجلس شئوننا الدينية والسياسية بكلمة موحدة حتى تنقضي الظروف الحالية في البلاد وعندما تلتفتوا لأمر اختيار الخليفة الذي يكون إماماً يكون ذلك عن طريق الشورى بقرار الأنصار. ولكن بعد وفاة الإمام اجتمع المجلس الخماسي واقترح رئيسه ان يختار المجلس الإمام لان تعليق هذا الاختيار لفترة ربما أحدث أضرارا، وان يكون الإمام هو السيد الهادي المهدي، فوافقت اللجنة على الاقتراح، وبويع المغفور لة الامام الهادى عبد الرحمن المهدى إماما للانصار. (جهاد في سبيل الديمقراطية: مرجع سابق).

    مسارات حزب الامة: الامام الهادى عبد الرحمن المهدى

    درس المغفور لة الامام الهادى عبد الرحمن المهدي فى كلية فكتوريا و تولى إدارة دائرة المهدي و اختاره الإمام الصديق المهدي بمجلس الشورى الذي كونه لإدارة شئون الانصار بعد وفاته ولحين اختيار الإمام شورياً. تغير الخطاب بعد تولى الامام الهادى المهدى الى اتجاة محافظ وطائفى سوف يطبع الحزب والوطن بطابعة العام منذاك ويعطل نموة الديمقراطى المنفتح الذى كان ديدن الامامين الراحلين. حدث اختلاف داخل حزب الامة عند تولي المغفور لة الامام الهادى عبد الرحمن المهدى امامة الانصار حول صلاحيات الامام داخل الحزب. تبنى فريق بزعامة السيد محمد احمد محجوب الراى بان لامام الانصار مطلق الصلاحيات داخل حزب الامة. ادى ذلك الى انشقاق الحزب بين فريق بقيادة الامام الصادق المهدى يرى ان القرارات داخل الحزب وداخل هيئته البرلمانية يجب ان تقوم على اساس ديمقراطي، مع الاكتفاء بدور راعي للامام وان صلاحيات الامام، لا تنقض قرار الحزب واوضحتة رباح الصادق: كان (تقصد الامام الصديق المهدى) من اوائل الذين انشاوا حزب الامة في عام 1945م واصبح بوصفه ذاك عضوا في هيئة الحزب التاسيسية ثم انتخب بواسطة هذه الهيئة كما انتخب غيره لعضوية مجلس الادارة او ما يسمى الان بالمكتب السياسي للحزب. (الصادق الهادي.. معركة في غير معترك: صحيفة اجراس الحرية 2009 09:06 http://ajrasalhurriya.net/) .

    كان حزب الامة وكيان الانصار اول التنظيمات التى رفعت شعار المقاومة منذ الوهلة الاولى لانقلاب مايو خاصة وان بعض مساعي التهدئة والتوفيق السياسي التى قادتها شخصيات عسكرية و مدنية فى الاسابيع الاولى للانقلاب كانت قد فشلت، لهذا فقد ظلت طبيعة العمل المعارض للنظام المايوى تصادمية منذ الشهور الاولى للانقلاب، حيث لم يمضي اقل من عام حتى وقعت المواجهات الدامية بين الانصار ومنسوبي حزب الامة والنظام الانقلابي فى ودنوباوى والجزيرة ابا، ثم انتفاضة شعبان 1973، وسبتمبر 1975، ويوليو 1976، هذا بالاضافة الى عشرات المحاولات الانقلابية والتى ذكر بعض المراقبين انها قد بلغت خمسا وعشرين محاولة بعضها لم يتعدى مرحلة التخطيط وبعضها اخمد بعد مواجهات دامية. اذا من الممكن وصف ان الحقبة المايوية بانها حقبة ذات طبيعة تصادمية بين المعارضة والنظام الشمولى، وفى مثل هذا المناخ السياسى المشحون كان من الطبيعى ان يكون القطاع الطلابى والكوادر الحزبية فى طليعة النضال ضد الانظمة العسكرية.

    في سبتمبر 1973م وبالاستفادة من الانفراج النسبي بعد توقيع اتفاقية اديس ابابا للسلام (1972م) شارك الحزب في تنظيم انتفاضة شعبان سبتمبر 1973م التي فشلت بسببين: انعدام التجاوب العسكري معها، وتعجل بعض السياسيين. وكان الحزب قد كون بعد الانقلاب مباشرة الجبهة الوطنية لمعارضة النظام مع حزبي الاتحادي الديمقراطي والاخوان المسلمون وقد عملت على عزل النظام دبلوماسيا وتنشيط المعارضة السياسية. هذه الجبهة التي كان يراسها رئيس حزب الامة نظمت لالانتفاضة المسلحة في 2 يوليو 1976م والتي هزت اركان النظام ولكنها فشلت في تغييره واستلام السلطة. فواجهها بقمع وحشي. ولكنه ادرك خطورة المعارضة فاقترح مصالحة وطنية واظهر جدية في الاصغاء لمطالب التحول الديمقراطي. حينها قبل الحزب وضع السلاح ونقل العمل للداخل في 1977م. ولكنه اكتشف ان نميري لم تكن له رغبه حقيقية في التنازل عن سلطاته بل اراد من المصالحة ان يأمن من المعارضة القوية له. سرعان ما انهارت المصالحة واعلن الحزب فشلها في 1978م، ولكن الحزب استفاد منها في شيئين: الاول عودة عدد كبير من قيادة المعارضة من المنفي للسودان بسلام. والثاني : منح هامش كبير من الحرية السياسية سمح بعقد انتخابات نقابية في جو من الحرية النسبية لا سيما وسط المهنيين.

    مسارات حزب الامة: الامام الصادق المهدى

    اذا كان حزب الامة ارتبط فى بداياتة الاولى بالامام الراحل عبد الرحمن المهدى فقد ارتبط الحزب مرورا بالامامين الراحلين الصديق والهادى بالامام الصادق المهدى’ فخلال اكثر من اربعين عاما فى قيادة الحزب نرى حزبا يحمل كل التاريخ الشخصى لة. عندما التحق الامام الصادق بكلية فكتوريا فى عصر التحرر الوطنى وبعدها اكسفورد، التى كانت احد معاقل اليسار فى الخمسينات والستينات، كان لابد ان يتاثر بهذا المحيط ، وقد تناول د. حيدر ابراهيم فى قراءة ممتعة هذة الفترة فى كتابة التجديد عند الصادق المهدي -الإشكاليات والاختلالات اثار هذة البيئات فى تطور الامام الصادق المهدى وحاورة فى المجال الفكرى (مركز الدراسات السودانية نشرته الحضارة للنشر مكون من 181 صفحة بالحجم المتوسط يناير 1012م).

    واجة الامام تحديات جسيمة فى مجال عملة الحيوى فى السياسة السودانية حتى اليوم. سوف نهتم هنا برصد المنتج من ناحية تاثيرها على رؤية الحزب وادائة العام. لقد واجة الامام نفس الاسئلة التى واجهها جدة المؤسس وحاول فى عمرة ان يجد الاجابات عن قضايا متشابكة ستؤسس لحزب الامة الحالى. قضايا ارتبطت برؤاة الفلسفية، اطروحاتة الفكرية ومن ثم ترجمتها العملية اى المواقف السياسية. ولان كثيرا ما يختلط مفهوما الفلسفة والفكر، ليس فقط لمجانية إطلاق المفاهيم في الواقع العربي المعاصر، ولكن كذلك لتداخل شديد بين مجاليهما في الفكر العالمي عموما ، ولكن هذا التداخل ليس دقيقا فلكل من المفهومين دائرة مخصوصة ، فدائرة الفلسفة تنتمي للتفكير النظري المحض غير المقيد ويكون أكثر قربا من المسائل الكلية أما الفكر فينتمي لدائرة التأسيس النظري التفسيري أو التغييري لواقع متعين سياسي أو ثقافي أو اجتماعي ، وبينما تنزع الفلسفة نحو العالمية والشمول قد يركز الفكر على دوائر جيوثقافية محددة ولكن أهم الفروق – برأينا – هو أن الفيلسوف يبني بناء نظريا مستقلا أو يطور بناء قائما تطويرا جوهريا ومفصليا في تاريخ أفكاره فيكون من أصحاب المقولات الفلسفية أو النماذج التفسيرية الخاصة أما المفكر فلا يبني بناء مستقلا ولكن على أساسات سابقة وغالبا ما ينشئ رؤى وآراء وليست مقولات فلسفية جوهرية ومفصلية (هاني نسيره : الفلسفة والفكر فض للإشكال المفاهيمي ! ، الحوار المتمدن - العدد: 1438 - 2006 / 1 / 22 - 12:01)

    سياسيا واجة الامام تحدى ان ينتمى للمثقفين (كما واجة جدة العلماء) بحكم تكوينة الثقافى وفى نفس الوقت ان يقود حزبا مؤسسا على مفهوم الطائفة الدينية. تقدم الامام باوراق اعتمادة للحلقات الثقافية السودانية فى السودان ابان العهد العسكرى عند وفاة الإمام الصديق المهدي في أكتوبر1961. حيث عمل مع المعارضة مواصلا موقف والدة من الانظمة الديكتاتورية فوثق علاقاته مع اتحاد طلاب جامعة الخرطوم ومع قطاعات المثقفين الذين ناصبوا النظام العسكري العداء. كتب في أبريل 1964 كتاب " مسألة جنوب السودان"دعا فيه لحل سلمي سياسي للمشكلة،. حينما تفجر الوضع عشية 21 أكتوبر 1964 أصدر الصادق خطابه الشهير"رسالة للمواطن السوداني" والذي دعا فيه الأمة للثورة على الحكومة العسكرية واختار المشاركة في الانتفاضة الشعبية التي أجبرت الطغمة على التنحي بعد أربعة أيام. داخليا تبنى "مذكرة أكتوبر" والتى دعت على فصل الأبعاد السياسية والدينية في الطائفة حفاظا على قداسة وطهارة الإمامة فوق مشاحنات الساحة السياسية. في أعقاب ثورة أكتوبر طرح الامام الصادق تفعيل دعوة الأحزاب والمجموعات السودانية للتوحد في جبهة عريضة لحكم البلاد.

    وربما تكون هذة اول الملامح لما سيميز اطروحات الحزب بعد ذلك ( وربما تكون انعكاسا عن الفكرة المهدية عن توحيد المجتمع) " التوافق الوطنى" وتنويعاتها. بعد ذلك شرع الصادق " في إصلاح حزبنا حينما فشلنا في إقناع الآخرين في إجراء إصلاح قومي عام". نادت الإصلاحات المقترحة في حزب الأمة بليبرالية وديمقراطية الأجهزة ودعت ضمن أشياء أخرى إلى تغيير اسم الحزب وتنظيمه وبرامجه واستراتيجياته لتتماشى مع فترة ما بعد ثورة أكتوبر والتي جلبت معها تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية عنيفة. أصر الصادق وأغلبية الذين حضروا الاجتماع على أن مناصب الحزب القيادية بالإضافة للمكتب السياسي يجب اختيارها ديمقراطيا بواسطة أجهزة الحزب العليا:الجمعية العامة. تم التوصل لاتفاق يتم بموجبه كتابة دستور جديد للحزب وأن ينتخب المجلس التأسيسي القيادات العليا للحزب. (د. الفاتح عبد الله عبد السلام (ترجمة: د. عبد الرحمن الغالي): النزاعات داخل الأحزاب: حالة حزب الأمة، موقع حزب الامة القومى).

    رغم الملامح العامة التى طرحها الامام فى سنوات بداية الستينات من الاصلاحات فى حزبة "اللبرلة والدمقرطة"، الحل السلمى لمشكلة الجنوب، خطة الاصلاح الزراعى (دعا فيها لإنهاء الرخص وتعويض الملاك ونقل الملكية لجمعيات المزارعين التعاونية) وتطويرالنفوذ الطائفي والقبلي (كون الصادق لجنة وزارية لبحث جدوى حل مؤسسات الإدارة الأهلية و/أو اقتراح سبل تطويرها في المناطق الريفية الأقل نموا). لكن هذا لم يرق لمشروع وطنى وان كان اكثر تطورا فى بعض جوانبة من رؤية ألامام الصديق. خاض الامام غمار الرئاسة رئيسا للوزراء وهو فى الحادى والثلاثين بتنازل احد النواب باخلاء دائرتة ودخل تاريخ العمل السياسى من مدخل الطائفية والاسرة. من الصعب تحميل الامام عبء هذا السلوك الذى اثار غبارا كثيرا فى حينة والقى بعبء بالغ علية فى مستقبل حياتة. فقدان المشروع الوطنى المكتمل لقائد طموح جعلة فريسة سهلة لعتاة المثقفين السياسيين الذين اتكأوا على نفس الطائفية وبعد حوالى العشرة اشهر (27/7/1966-15/5/1967م) "فتم التآمر الثلاثي على الحكومة من كل من: الجناح المنشق من الحزب (جناح الامام الهادى)، زائدا حزب الشعب الديمقراطي والحزب الوطني الاتحادي اللذان توحدا لاحقا في انتخابات أبريل 1968م لمواجهة أداء وسمعة حزب الأمة المميزين تحت قيادة الصادق". رباح الصادق: مفردات التفرد في تجربة الإمام الصادق المهدي، موقع حزب الامة القومى).

    ان هذا التحدى الذى واجههة الامام طوال حياتة هى التى ستحدد الاطار العام لحركتة الفكرية والسياسية. سوف يكون لهذا المؤثر دورة فى المرحلة المايوية، فنفس التوجة من المخاطبة الثقافية والخلفية الطائفية قادت الى تجنيد " الاحباب الانصار" فى المعسكرات الليبية ومحاولة تغيير النظام، اى الاعتماد على الكتل البشرية لا الارادات الفردية الواعية والحرة. ان هذا الاشكالية الدائمة التى حاول جهدة ان يجد لها مخارجا تصطدم فى اغلبها باحتلال نفس الشخص للمنصبين. " ولظلال الالتباس الذي جرى في الماضي بين عمل حزب الأمة وهيئة شئون الأنصار فقد حرص الصادق على تطوير العلاقة بين حزب الأمة (الحزب السياسي الديمقراطي مفتوح العضوية لجميع السودانيين) وبين هيئة شئون الأنصار (التنظيم الدعوي الإسلامي المنطلق من الدعوة المهدية في السودان)، فدعا لكتابة صحيفة التمييز بين حزب الأمة وكيان الأنصار التي أجيزت في مؤتمر الهيئة الأول (2002) والمؤتمر العام السادس للحزب (2003). وذلك لضبط العلاقة ومأسستها. كيان الأنصار الآن هو الكيان التقليدي الوحيد بين كافة الكيانات الدينية والعشائرية الذي تخطى العلاقة الأبوية في القيادة وأسس القيادة على المشاركة والمساءلة والتحديث الذي يوفق بين الأصل والعصر حيث شكل مؤتمره الأول عام2002م قفزة في عمل الكيانات الدينية السودانية خاصة والإسلامية الجماهيرية على العموم. الهيئة الآن يجلس على قمتها مجلس الحل والعقد المنتخب إلى جانب الإمام المنتخب ويقوم بالعمل التنفيذي مكتب منتخب والتكوين مسئول لمجلس شورى ثم لمؤتمر عام يمثل القاعدة الأنصارية. (رباح الصادق: مفردات التفرد في تجربة الإمام الصادق المهدي، موقع حزب الامة القومى)

    فكريا كانت القضايا اكثر تعقيدا، فهو سليل الامام المهدى الذى استطاع فى عصر سابق ان يشعل ثورة وطنية اجتماعية فى اساسها فى محيط سياقات دينية تصوفية، كان وليد عصرة ولكن الامام الصادق جاء فى عصر مختلف يطرح تحديات اكثر تعقيدا واهمها امكانية الوصول الى معادلة الاصالة والمعاصرة. فاذا استطاع جدة حشد المريدين والاحباب عن طريق النقل، فقد اتاح التنظيم الذى اعاد بنائة الامام الراحل عبد الرحمن المهدى ان يضمن حشدا كبيرا من المناصرين فى مناطق نفوذ المهدية السابقة، فهولاء يمكن ان ياتوا بالنواب الى البرلمان لكن القوى المدينية والمثقفين هم عصب الحياة السياسية فى الوطن والقادرين على انجاح او اجهاض اى قرارات تصدرها الاغلبية النيابية. كان على الامام تقديم رؤية للقطاعات الفاعلة تعتمد على العقل وتخرج بة من عباءة المهدى. المعضلة الحقيقية ان البحث عن تحديث وعصرنة حزب الامة حدث فى خضم صراع حول السلطة داخل الحزب بديلا ان يكون تحديثا للحزب نفسة مما جعلة شعارات لم تصمد كثيرا. لقد انطلق الامام فى موقفة الفكرى فى قضيتين جوهريتين من قضايا الوطن من تفسيرات تبسيطية تطورت عبر التاريخ والتجارب الى تعمق واعتكاف. القضيتان قادتا المسار المآساوى الذى يجد الوطن نفسة فية اولهما ما اطلق علية ملف التأصيل والثانى مرتكزات الديمقراطية.

    برغم ان هاتين المسالتين كانتا فى خضم النقاش الوطنى منذ الاستقلال الا ان دخولهما فى النزاع الداخلى لحزب الامة كانت ما اطلقهما الى الساحة فى استقطابات حادة. دخل ملف التاصيل الساحة بعنف عند تبنى الامام الصادق اطروحات الاخوان المسلمين فى ضرورة اقحام الدين فى السياسة ( وليس المجتمع). " سيطر على الساحة الفكرية لاسيما في مجالات القوى الحديثة تيارات أحدهما اشتراكي والآخر إسلامي. كانت القوى السياسية ذات الوزن الشعبي الأكبر إسلامية التوجه بصورة فضفاضة وقابلة للتفاعل بانفتاح مع التيارات الجديدة لذلك استطاعت أن تحاور اليسار السوداني وأن تستصحب بعض أفكاره كما ظهر ذلك جليا في برنامج حزب الأمة "إصلاح وتجديد" الصادر في 1968م. استطاعت أن تجلي توجهاتها الإسلامية وتحاور الحركة الإسلامية الحديثة وتبلور أهدافها الإسلامية كما ظهر في برنامج حزب الأمة "نحو آفاق جديدة" الذي صدر في عام 1965م وكان مشروع التشريع الإسلامي في مشروع دستور 1968م".( الصادق المهدى: رؤى في الديمقراطية والعروبة والإسلام على طريق الهجرة الثانية، موقع حزب الامة القومى).

    ابتدر الامام محاورتة لدور الاسلام فى حياة الشعوب الاسلامية من موقع فقهى وقانونى وهى التى ستكلفة حياتة السياسية من الانقلاب المايوى الذى دفع بالقوانين الاسلامية فى قوانين سبتمبر 1983 . ليعود بعد هذة التجربة المريرة وفى خضم صراع دام بين الشمال والجنوب كانت المسألة الاساسية فية دور الدين فى السياسة والتشريع الاسلامى . وادى هذا الى ان " برنامج "نهج الصحوة" ركز على أن للإسلام نظام اجتماعي لا تصلح العقوبات إلا كحماية له. وأن العقوبات نفسها ينبغي أن تخضع لاجتهاد جديد يخرج بها من القيد المذهبي، ويجعلها تلائم ظروف العصر الحديث.... الجبهة الإسلامية القومية لم ترض عن هذه الأفكار والضوابط ورأت أن تختصر الطريق إلى الأسلمة الفورية عن طريق الانقلاب العسكري في يونيو 1989. ". الا ان نظامة الديمقراطى دفع ايضا بالدستور الاسلامى الى البرلمان فى نهاية الثمانينات رغم ان اغلب القوى كانت ترى انذاك الانتظار حتى المؤتمر الدستورى. (الصادق المهدى: رؤى في الديمقراطية والعروبة والإسلام على طريق الهجرة الثانية، موقع حزب الامة القومى). كان لابد ان نمر كافة ابناء الوطن بتجربة مريرة وقاسية حتى نصل مع الامام الى الرؤية التى كان قد طرحها الراحل الصديق للتوصل لقيام حكم ديمقراطي منبثق من مبادئ الإسلام والواقع السوداني مستمد من تجارب الماضي ما يضمن للمواطنين حقوقهم في ظل قضاء نظيف مستقل يسيره تشريع عادل وللأفراد حقوقهم في التعبير النشر والتنظيم.

    ثانيا: الديمقراطية. لقد بدأ الامام مسيرتة مع الديمقراطية الليبرالية التى تبناها حزب الامة منذ انشائة وقرعها لارتباطها بالعلمانية ونعتها بفلسفة فصل الدين عن الدولة، والتى اثبت هو نفسة الخطأ البالغ فى نقد العلمانية ونعتها بالعاجزة عن الاستجابة لمتطلبات التكوينات الثقافية، الاديان والافكار المتنوعة "العلمانية الغربية فلسفة فصل الدين عن الدولة. هذا الفصل النظري نجده عمليا مؤقلما في الواقع. ففي بريطانيا يوجد فصل بين الدين والدولة دون أن يمنع ذلك أن تكون الملكة رأس الدولة والكنيسة في آن واحد. ودون أن يمنع ذلك مجلس اللوردات وهو مجلس له دور تشريعي وقضائي أن يكون ثلث أعضائه من رجالات الكنيسة بحكم مناصبهم. كل دول أوروبا وهي تفصل بين الدين والدولة ترسم الصليب على أعلامها. وفي كثير من دول أوربا تسمى الأحزاب ذات الوزن الشعبي نفسها ديمقراطية مسيحية. وحتى في أمريكا حيث الفصل بين الدولة أكبر صرامة يفسح الواقع مساحات للتعبير الديني في المجال السياسي ابتداء من النص في العملة الوطنية – الدولار – "على الله توكلنا" إلى إجراء القسم على الكتاب المقدس لرجالات الدولة وفي المحاكم إلى العلاقات الوثيقة بين الجماعات الدينية والأحزاب السياسية، إلى اللوبي الديني في البيت الأبيض والكونغرس". ( الصادق المهدى: رؤى في الديمقراطية)

    ان النقد تجاوز العلمانية الى الليبرالية "لقد نما التيار الليبرالي في بلداننا مستمدا وجوده من عوامل وافدة صحبت الاستعمار ونفوذه. صحيح أن كثيرا من التيارات اللبرالية استقلت برأيها السياسي وصارت حربا على الاستعمار من الناحية السياسية- لذلك، فإن بعض أنصار الليبرالية العلمانية هم وطنيون تربوا في بيئة كانت فيها الليبرالية العلمانية هي التيار الفكري والثقافي الغالب، ولم يكن لتيارات التأصيل شأن، بل كان الفكر والثقافة غير الوافدين في حالة تعفن طارد ". ويخلط بشكل واضح بين الليبرالية والعلمانية ففى السودان المعروف كانت جهة واحدة يمكن اطلاق الليبرالية العلمانية وبتحفظ شديد (الحزب الوطنى الاتحادى) والليبرالية على شرائح من حزب الامة. الاحزاب اليسارية كانت علمانية ولكنها نقدت الليبرالية اكثر منة والاسلام السياسى اعتبرة كفرا. اذن فمن هم هولاء " هؤلاء (التيار الليبرالي) اعتبروا الإسلام قرين التخلف، وتمسكوا بالوافد تخلصا من "التخلف"- ولكن، بعض شرائح التيار الليبرالي العلماني لا دينية، وتنتمى لهذا التيار حفاظا على حرياتها الشخصية وأهوائها، وبعض شرائح التيار الليبرالي العلماني متتلمذة للغرب تتطلع للالتحاق به. إن أكثرية الشرائح العلمانية اللبرالية قابلة للمخاطبة والإقناع بأن الإسلام ليس مردفا للتخلف، وأن حضارة الغرب ليست مرادفة للتقدم". (الصادق المهدي: الطريق المسدود والمخرج الممكن في السودان، 18 مارس 1992م – 15 رمضان 1412هـ ). ان نهج صحوة اخرى فى بلاد المسلمين التى على التخوم مثل السودان توصلت الى ان العلمانية كغيرها من المصطلحات جاءت من مفاهيم سياسية ومخزون فكرى من تطور الانسانية التى للاسلام فيها دور مقدر، لكنها قابلة للتطويع والتطوير والتأصيل. لقد قاد فيها هذا التطوير قادة مثل الامام الصادق المهدى.

    لدى مقولة ارددها وقد تبدو للوهلة الاولى غريبة بعض الشىء، اننى وقد وصلت للستين من العمر عشت حياتى العاقلة فى عصر الامام الصادق المهدي، هذا صحيح فرغم ان حاكمين عسكريين مرا على السلطة فقد كان الصادق المهدى هو الفاعل الحقيقى فى تاريخ بلادنا. فدفعة للدستور الاسلامى هو الذى قذف بالنميرى الى السلطة، محاولة التغيير العسكرى من الخارج 1976 قادت الى المصالحة ومن ثم الى الانتفاضة. التردد وسوء ادارة الفترة الديمقراطية الثالثة هى التى اورثتنا الحكم الانقاذى وتبعاتة وهلماجرا حتى الان. لقد بدأ الامام رحلتة باعطاء تنظيم صغير للاخوان المسلمين الثقل الطائفى من حزبة بدأ من الخمسينات، ثم تبنى برنامجهم فى الستينات فى حل الحزب الشيوعى ودفع الشريعة الى الجمعية التأسيسية " تحالف طبيعى يمكنة ان يقوم بدور دفاعى فى حماية المجتمع من الهجمة الشيوعية وبدور ايجابى يقدم الاسلام نظاما حديثا وبديلا حضاريا باسلوب شعبى ديمقراطى" (الصادق المهدى:الوفاق والفراق موقع حزب الامة القومى) . الامر الذى سوف يستنكرة على الاخرين لاحقا " ويواصل الامام الصادق المهدى فى خطابة فى الاحتفال الذي نظمته اللجنة القومية يوم 25/12/2005م بمناسبة عيد ميلاد السبعين: كان الرئيس اسماعيل الازهري قد استشعر خطر الحزب الشيوعي على قواعده خصوصا عندما فاز السيد عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي على السيد احمد زين العابدين في دائرة الازهري بامدرمان شمال بعد أن تركها لدي أنتخابه رئيسا لمجلس السيادة، استقبل الرئيس الازهري المظاهرات وايد مطالبها هذا الاتجاه ايده الامام الهادي المهدي بشدة وفي الظروف السائدة غلب هذا التيار على النواب ونفذت المطالب ".

    لقد استمر هذا التحالف حتى الفترة الديمقراطية الثالثة (1985-1898 ) والتى عاد فيها الامام لمد يد العون للجبهة الاسلامية القومية ( والتى قال عنها انها اقرب الية فكريا وان قوى الانتفاضة اقرب الية سياسيا) وذلك عقب عزلة الجبهةالشديدة التى وضعته فيهاتكتيكاتة المسعرة للحرب ورصيدها فى المشاركة الفعلية فى الحكم المايوى ما قبل الانتفاضة. هذا المسلسل الذى قاد الى فك التحالف مع الاتحادى، استدعى مذكرة القوات المسلحة وقاد الى الانقلاب الذى كان اول ضحاياة. لقد صرح الامام انة كان مهندس ذاك التحالف رغم اعتراض " كثير" من زملائة (د.حيدر ابراهيم: التجديد عند الصادق المهدى: الاشكاليات والاختلالات: جريدة الجريدة، 24 ابريل 2012 ). ولانة تعامل مع تنظيم شديد الفراسة، زعيمة احد المع العقول السودانية، ذرائعى حتى النخاع فقد كانت النتيجة التى رأيناها انة تبنى افكارهم وليس العكس. ان وجود تنظيم شيوعى كبير كان يستدعى (كما فعل آل نهرو ولديهم تنظيم شيوعى اضخم من السودان ولازال يحكم فى بعض الولايات حتى الان) ان يضمن برنامجة قضايا العدالة الاجتماعية التى كانت الحوجة اليها حاسمة، خاصة فى الاقاليم التى يمثلونها دارفور، كردفان والنيل الابيض والتى جميعها تحتل ذيل القائمة فى كافة المعدلات الخدمية والبشرية. اما عن المشروع الاسلامى الحديث والحضاري باسلوب شعبى ديمقراطى فلماذا يحتاج سليل الامام المهدى الذى فجر اضخم ثورات القرن التاسع عشر لتنظيم الاخوان ليبدعة؟

    ولنستدل على هذا فقد جاء الى السياسة وخلفة تراث من الحكمة والنظر الثاقب من الامامين الراحلين عبد الرحمن والصديق وبدأ الامام رحلتة السياسية بكتاب " مسألة جنوب السودان" الحل السلمى لمشكلة الجنوب، خطة الاصلاح الزراعى و تطويرالنفوذ الطائفي والقبلي. هذة القضايا الثلاث التى لو قدر لة المواصلة فى تطويرهما، كانت تشكل عصب مشروع الرؤية من حلول لازمة الهوية، المشاركة والمشروع الاجتماعى الاقتصادى. لقد اتيحت للامام الصادق فى حياتة المديدة كافة عناصر رؤية، لكن افتقادة قدرة الامساك بالمحتوى الاستراتيجى جعلة، ومن ثم الوطن، يتأرجح ويتنقل للامساك بتفاصيل العناصر المختلفة. لذلك اذا تابع القارىء اعمال الامام على مدى الخمسون عاما المنصرمة سيجدة قد طرق كافة الموضوعات الحياتية بعمق وتوسع. واذا كان هذا سمة مفكرى القرون الاسلامية الاولى والتى اعطتنا العلماء الموسوعيين فقد سلبتنا رؤية قائد. ربما سيرى البعض اننا نظلم جهد الامام الكبير وانة قد طور مشروعة الوطنى عبر جهاد طويل، صبور وعميق ولكن حتى لو سلمنا جدلا بهذا، فالرؤية مشروع بناء يقدمة القائد ويطور بة الاوطان ونفسة ومشروع الامام بنى من هدم مشروع الليبرالية العلمانية، النميرى السبتمبرى والمشروع الحضارى ولكن لم يهتدى حتى الان لرؤية واضحة. لدى حزب الامة ذخيرة نادرة من الحفر العميق فى كافة مناحى الحياة السياسية والاجتماعية السودانية التى لو صنفها ورتبها واخرج منها الخط الاستراتيجى لربما نأمل ان الذى اعطى السودان رؤيتة الاولى سيفلح حملة تراثة فى اهدائنا الرؤية الاخيرة فى بناء الوطن.

    وكلمة اخيرة فاذا كان الشيخ الترابى اوغل فى اللغة العربية التراثية لحد الابهام مما جعلها جزءا من تكالب متوسطى الثقافة عليها لاظهار تفوقهم السياسى حينا والفقهى غالبا حتى صارت رمزا لمنتسبى حزبة واحدى العلامات البائسة على فقر الابداع وقفر التجديد عند اتباعة، فقد اختط الامام الصادق المهدى لغة سهلة وسيطة اوغل فيها فى العامية السودانية من جميع البيئات واعاد لها شفيفها الرهيف فى مخاطبة الوجدان وان شابها التكرار والدوران حول المعانى (وان كانت هاتان اللغتين عند الشيخ والامام ليستا ما نقبل بهما نحن معشر العلميين والتى اللغة لدينا هى وسيلة الوصول للمعنى المباشر مما يطلق علية المصريون: هات من الاخر). لقد اغنى الامام المكتبة السياسية والفكرية بمحصول وافر قلما تيسر لسودانى ان يبدعة والافضل من ذلك الجهد الكبير فى توثيق هذا التراث. جانب اخر اعاد فية الامام الحياة وهو الجانب الاجتماعى الذى تعهدة بالرعاية ورفدة بالشعبية و الجماهيرية والعودة لسودان التوائم الاجتماعى بعدما عملت فية اسياد وزارة التخطيط الاجتماعى، الهندسة الديمغرافية وتغيير الشعب حنى كدنا لا نتبين اننا سودانيون ابناء الاباء الذين عشنا فى كنفهم .

    حزب الامة عشية الانتفاضة 1985

    بعد فشل المصالحة نقل الحزب اغلب عملة السياسى الى الداخل. فقد كانت الحاجة ماسة بعد الاعتماد طويلا على دغدغة المشاعر الشعبية الرافضة للنظام بشعارات اسقاطة بواسطة المجابهة العسكرية وفشل هذا الخط السياسى فى يوليو 1976 وكذلك شعور القيادة بفعل العوامل العربية والمحلية والعالمية بخلخلة وتفكك الروابط الطائفية والعلاقات القبلية الى يستند اليها الحزب. اخطر من ذلك كان بروز قوى جديدة رفعت شعارات الدولة الدينية، التى كانت قد صارت الخط السياسى لحزب الامة نفسة منذ منتصف الستينات، من الاخوان وحلفائهم مدعومة بركائز اقتصادية وعلاقات تحالفية محلية واقليمية قوية والاستفادة من الابنية الطائفية والقبلية الجاهزة واختراقها وربطها بعلاقات اقتصادية وسياسية جديدة. كل هذا جعل القيادة تستغرق فى استنباط خط سياسى مواز ( ماعرف بفكر الصحوة الاسلامية) ومحاولة اعادة بناء شبكة علاقات جديدة مع ابنيتها التقليدية.

    اصطدم كل هذا مع تسارع الاحداث وتبنى النظام ما عرف فى تاريخ السودان بقوانين سبتمبر 1983 وبناء شكل سلطوى ديكتاتورى تحت دعاوى جديدة متهافتة. ادى هذا بقيادة حزب الامة الى تبنى موقف وسطى متردد، فقد عارضت القوانين الارهابية من منطلق فقهى قانونى وطرحت بدائلا فقهية وتشريعية جديدة داخل وعاء لبديل ديمقراطى غامض ( تم الاعلان عن المعارضة لقوانين سبتمبر فى صلاة العيد، اى من منبر دينى وليس سياسى وكان هذا ذا مغزى). استطاعت قيادة الحزب ان تكتسب مواقع فعالة في القطاع الحديث فساهمت في التخطيط الانتفاضة ابريل 1985م وكتبت ميثاقها. كما ان فصيل حزب الامة الطلابي كان راس الرمح في تحركات طلاب جامعة ام درمان الاسلامية التي كتبت الفصل الاول لالانتفاضة. في هذه الفترة ايضا جرت الخطوات الاولى نحو مآسسة عمل الانصار بتكوين هيئة شئون الانصار وصياغة دليلها التاسيسي في 1979م. (التاريخ:المراحل السبعة: موقع حزب الامة القومي، www.umma.org )

    شهد حزب الامة كثيرا من الانشقاقات التاريخية و تبودلت فيها لغة خشنة جدا فى كل انشقاق،المشكلة ان كل انشقاق قاد الى تراجعات فى التطور الديمقراطى، ان خاصية الديمقراطية فى تواجد مختلف التيارات فى الحزب وامكانية ان تجد حظها فى التعبير لا الانشقاق الذى يعنى عجز الطرف الاخر عن المحافظة على تواجدة كتيار داخل الحزب. وقد مثلت الانشقاقات الاخيرة انحرافا عن المسار التاريخى التوافقى للتغيرات الحادة فى التطور الاجتماعى والاقتصادى للمجتمع وتمركز الثروة والسلطة فى يد الانقاذ.

    طريق طويل سارة الحزب منذ ذلك التاريخ جرى فيها ما جرى " لقد تعاونت معنا عناصر جبهة الميثاق تعاونا اكيدا منذ ايام الحكم العسكري قد اثمر ذلك التعاون كثيرا في نجاح الثورة وفي مواجهة الانحرافات التي وقعت فيها الحكومة الانتقالية ومع ان جبهة الميثاق تسترشد بتنظيمات خارج السودان الا اننا لم نلمس منها انتقادا لاي تيار خارجي في معالجة القضايا السودانية. ولا شك اننا في الفترة منذ الحكم العسكري حتى قيام انتخابات 1968 قد استفاد حزبنا من الجبهة اكثر من استفادتها منا ولكنها استفادت منا اكثر من استفادتنا منها في انتخابات 1968 . لقد شعرت بعض العناصر في جبهة الميثاق بذاتيتها كحزب سياسي مما جعلها تتاثر بالحزبية اكثير من تاثرها بالمفاهيم والمبادئ الاساسية فادي هذا الاتجاه الى اضعاف موقف المعارضة قبل حل الجمعية في فبراير1968 وادي الى الموقف شبه الحيادي الذي تسير فيه جبهة الميثاق الان وهذا الاتجاه يمكننا تلقائيا من السير دون ارتباطات محددة مع جبهة الميثاق. ( حزب الامة: وثائق الحزب حتى 1969م، www.umma.org )

    وبعكس الحكم العسكرى الثاني الذى لم يقترب من الاساس الفكرى الاجتماعى للحزب ولكن توجة الى الاساس السياسى ( الادارة الاهلية) ولكن لقوة هذا التكوين الاقتصادى والاجتماعى فقد استطاع الحزب الالتفاف على محاولات نفية من المجتمعات، خاصة المراكز القوية والبعيدة عن هموم المجموعة المدينية الحاكمة. ورغم ان الهجرة اصابت الحزب انذاك ولكنها انحصرت فى شكلها الاكبر فى مجموعات الحزب المدينية والمحاربين الذين هاجروا الى اثيوبيا او بعد ذلك الى ليبيا فى معسكرات الاعداد لغزوة 1976، او الهجرة العادية لاسباب اقتصادية فى المجمل سواء الى ليبيا ودول الخليج مثل غيرهم من ابناء السودان.

    كان من طبيعة نظام الانقاذ الجديد الذى جاء من داخل المنظومة المستندة الى الاسلام وبالتالى فقد كان حتاما ان يتجة الى تصفية الاساس الفكرى والسياسى والاجتماعى لهذا الحزب فتعرض لصنوف من الاقصاء والتنكيل ومصادرات للاموال والعقارات بدأ من رئيسة والذى حاول الانقاذ تشوية سمعتة واغتيال شخصيتة فى اوائل العهد وتعرض الحزب لاول مرة للاقتلاع من الجذور. تعرض الحزب ككافة الاحزاب الى التضييق الشديد وحدثت هجرات واسعة الى كافة ارجاء المعمورة من مناطق نفوذة الاساسية الى الحركة الشعبية، مصر وحتى الى اسرائيل. وقعت ضغوط واسعة على قيادة الحزب من انصارة المعرضين الى شتى بؤس الحياة فى المهاجر، هذا فى ظل الاعسار المالى الذى شهدتة اجهزة الحزب.

    عكست هذة التجربة نفسها على القيادة وبالاضافة الى احتكاكها بكافة قطاعات الشعب السودانى فى المنافى والجهد الخارق لمنظر الحزب الرئيسى الامام الصادق المهدى فى التصدى الفكرى للتحديات التى طرحها وجود نظام من الصعب وصفة كما جاء فى وصفة للنظام المايوى بعد تطبيق قوانين سبتمبر: " غالبية قادة العمل السياسي في النظام عرفوا باتجاهات سياسية وفكرية غير اسلامية وسلوك "اجتماعي جيد" عن خلق الاسلام". تصدى الامام واعضاء حزبة للتصدى و نسج اطروحات ملائمة اعانهم على ذلك كما ذكرنا الاحتكاك بالاخر والاقتراب من الشعوب الاخرى، ليس سواحا فى البلاد او داخل الجيتو السودانى فى المنافى ولكن على مستوى المعايشة اليومية والاحتكاك السياسى المباشر فى التنظيمات والتجمعات. ( الامام الصادق المهدى: النظام السوداني وتجربته الاسلامية www.umma.org ). تمت المنازلة على المستوى الفكرى ولحسن حظ السودانيين فقد اختط الامام المراجعة النقدية لكل مسيرة حزب الامة وتتابعت اعمالة النقدية فى عدد من كتبة ومنشورات الحزب ومقالات الصحف ومقابلات التلفزيون (يمكن القول بدون مبالغة انة لم يتبق حجر فى تاريخ حزب الامة لم يقلب ويمحص ويفحص والحبل على الجرار) وقدم بدائلا لكافة اطروحات تيار الدولة الدينية واستطاع هزيمتها بفكر مثقف، معاصر و مستنير، خاصة وقد يبس فكر الانقاذ بعد مبارحة الشيخ الترابى.

    كانت الكارثة عندما نرى خط الحزب على المستوى السياسى كان النزال اشد واكثر وعورة. فقد التقى ممثلى الطائفتين الاكبر فى السودان وعدنا الى الصراعات العقيمة. ولم يكن ماضى الامام يطمن فقد توعكت ادارتة فى المنازلة وتخبطت بة الطرق وهو يحاول وضع الندى موضع السيف فى جيبوتى، ومغادرة التجمع والخروج والعودة ثم مسلسلات الاجماع والتراضى والوفاق...الخ. يطرح الحزب بشكل متواصل سعية لنزع القداسة عن زعامة الحزب ومواصلة ان صلاحيات الامام، لا تنقض قرار الحزب. وهذا مسلك ندعمة بشدة وان كنا نراة صعب التحقق، الى ما وصفتة رباح الصادق: " ولذلك فالوضع الان اكثر تقدما بما لا يقاس، لان الغلاط حينها كان حول مدى تدخل امام الانصار في قرارات حزب الامة، والان امام الانصار ليست له اية صلاحية داخل الحزب ولا يستطيع التدخل في قراراته الا بالتنسيق عبر اللجنة المشتركة بين الحزب والهيئة، بل ليست له صلاحيات انفراد بالسلطة حتى داخل الهيئة نفسها فالانصار هم الذين ينتخبونه ويعزلونه لو ارادوا.. انه امام منزوع الدسم القداسوي والمراكز الروحية والوراثية بين الانصار انفسهم ناهيك عن جماهير حزب الامة!! وانت ترى منسوبي حزب الامة الان يمارسون حقوقهم في نقد امام الانصار بلا وجل، وللانصار ذلك لو ارادوا! (رباح الصادق :الصادق الهادي.. معركة في غير معترك: صحيفة اجراس الحرية : http://ajrasalhurriya.net ).

    الفارق كبير وملحوظ بين موقف الحزب من تساؤلى عن الديقراطية داخل الاحزاب ودورها فى تخريب الديمقراطية فى السودان والاتفاق الذى تم بين الاحزاب ان تقدم نقدا ذاتيا لمسيرتها وشهادة حزب الامة انذاك والتى قدمها الاستاذ حسن احمد الحسن. ابرز ما جاء فيها وقد تناولت الحزب فى الديمقراطية الثالثة: ارجاع بعض الخلل لعدم الحصول على اغلبية وسيادة واقع توفيقى (وهذا واقع مستمر وسيستمر وهو حال كل الدنيا الا اذا اردنا شيئا غير الديمقراطية)؛ روح المكايدة السياسية ولكن لم يبرز دور حزبة فى نشر هذة الثقافة والامثلة كثيرة (لقاء السيدين، الحكم العسكرى الاولى، حل الحزب الشيوعى والموقف من القضية الدستورية وهكذا)؛ ضعف البناء التنظيمى للحزب ( اهمها علاقة الحزب بالطائفة هذة القضية المعقدة والتى تعرقل تحول الحزب الى حزب قائد لمسيرة البناء الوطنى) والخلل فى تقويم العلاقة مع الخارج.

    ربما يتعامل الحزب بجدية مع سؤال الديمقراطية، نظريا هذا واضح فى وثائقة المعلنة ولكنة عمليا وعلى مستوى التجارب السابقة برع فى اجادة التملص وايراد الموقف والعمل عكسة ( شاع فى الادب السياسى تعبير مؤشر شمال ولافى يمين تعبيرا عن عدم تطابق الاقوال والافعال فى السياسة السودانية والتى وصلت بها الانقاذ الى مستويات الاجادة العبقرية). د. حيدر ابراهيم: الديمقراطية فى السودان، مرجع سابق). ولكن وللناظر فى صفحة الحزب على الانترنت (www.umma.org) من امثالنا الذين عملوا فى منظمات دولية تعتمد العمل الاسفيرى، لابد ان يحس وينظر بكثير من الاعجاب لما تحتوية هذة الصفحة والعمل التوثيقى الكبير الذى تم حتى الان والتى حوت كافة وثائق الحزب الداخلية فى عهود مختلفة، والتى اعدها من افضل المواقع لحزب سودانى واكثرها شفافية. اكمل الامام عملية النقد والمراجعة فى ميزان المصير الوطنى فى السودان ومن واقع سرد الامام الصادق المهدى فى محاورتة الممتازة والممتعة للتاريخ السياسى السودانى من موقف الصانع والمشارك النشط، امدنا بجملة تحليلات منطقية وموضوعية ابانت كثيرا من الاحداث والحقائق المفيدة. واوضح هنا ان قراءتة المحكمة والمدققة والموثقة احدى القراءات التى تقبل كثيرا من الجدل وقد نختلف مع كثير مما جاء فيها ولكن هى فى مقياس العمل الحزبى مواجهة شجاعة وشفافة من قائد فكرى متطور وسياسى قابل للجدل الاكبر فى الحياة السودانية.

    ان الصراع الذى دار فى داخل حزب الامة- كما تعكسة مداولات اجتماع الهيئة المركزية فى ابريل 2012 - يشى بالحركية و التجدد وعلامات الصحة. يواجة الحزب ككل الاحزاب مخاضا عسيرا، فكلها احزاب عصر مضى: اولا: تغيرت الاوضاع السياسية المحلية والعالمية، وسائل التواصل والمعرفة وسبل القيادة. حزب الامة يواجة اعسر من ذلك فهو مهدد فى مراكز ثقلة النوعى ومحاولات التلاعب على تبنية النهج العروبي الاسلامي فى الوسط وعند مناقشات السلطة وتمثيلة لمجموعات اغلبها غير غربى لم تنجح " والان اغلب اعضاء الحركات انصار وحزب امة، سواء اكان فى دارفور او جنوب كردفان وفى النيل الازرق اما محايدين او انضموا للحركات ( مبارك الفاضل يروى قصة حزبين: الاهرام اليوم، 8 ابريل 2012 ). ثانيا: فقد انفتحت كل ابواب الجحيم من تناقض اللغة العصرية للامام والقيد الطائفى مما ادى لمساومة اطاحت بالامين السابق واختيار الدكتور ابراهيم الامين. هذة مرحلة انتقالية بين نمط القيادة السياسية للامام الصادق المهدى والانماط القادمة المرجوة.

    تباين موقفى من حزب الامة عند انتمائى لليسار الذى كان يرى ان فية ممثلا لبقايا شبة الاقطاع ( بشكل عام) والموقف منها سياسى، باعتبارها تلعب دورا كبيرا فى تغييب وعى جماهير غفيرة فى الارياف. وهناك عاملان اخران مهمان لعبا دورا فى موقف الحركة اليسارية من حزب الامة والتقارب الذى ميز العلاقة بين قيادة الحزبين طوال التاريخ الحديث. اولا: عامل سايكولوجى (استعمل الكلمة بحذر) اذ ان اليسار قيم الثورة المهدية كثورة تحررية، وبحث منذ بداياتة عن العوامل المشتركة التى تجعلة امتدادا متطورا للمنظور التحررى للمهدية. كما كانت الروح القتالية المصادمة للانصار تقدر ايجابيا كموروث جماهيرى للمسحوقين. ثانيا: شعور اليسار منذ بداية تكوينة بصعوبة العمل وسط جماهير القطاع التقليدى ( وان لم يمنعة ذلك من المحاولة)، والانعزال الكامل لهذة المجتمعات عن مجرى الحياة السياسية السودانية اليومية، وبالتالى كان حزب الامة يقرب هذا القطاع للعمل السياسى بتنظيمها وخلق طلائع مثقفة وسطها. ويتراوح موقفى الليبرالى منذ طرحت رأى فى ديمقراطيات السودان منذ الاستقلال وحتى اعلان نيروبى" ضمن ندوة تقييم الديمقراطية في السودان التى نظمها مركز الدراسات السودانية فى القاهرة 4-6 يوليو 1993، الى القبضة الطائفية التى وقع فيها الحزب منذ وفاة الامام الراحل الصديق المهدى حتى الان.

    الحزب الاتحادى الديمقراطى

    تاسس حزب الليبرالية من بين رحم تيارات مؤتمر الخريجين وقد حوى العديد من التيارات المختلفة و تركزت فى مناطق الدولة السودانية التاريخية فى شمال السودان والتى تفاعلت فى طوال تاريخها الطويل منذ الممالك النوبية القديمة مع التراث البشرى. تطابق تواجد مركز ثقل الحزب مع مراكز انتشار الطريقة الختمية ادى الى وجود روابط معها ولكن احتفظت التيارات العلمانية بمواقع مستقلة ( يمكن وصف العلاقة بانها اكثر من تعاون واقل من تحالف). هذة العلاقة المستقلة بين الحزب والطائفة كانت تمثل خطورة موضوعية على الطائفة، اذ ان اغلب هذة المناطق التى تسود فيها الطريقة الختمية وشبيهاتها ( شمال السودان، كسلا والبحر الاحمر) كانت نسبيا ذات ابنية قبلية ضعيفة وكانت الرابطة بين الطائفة والسيد تقوم اساسا على الولاء الدينى . من هذا التراث نشا الحزب الوطنى الاتحادى لكن وكما يتابع الاستاذ زين العابدين صالح عبد الرحمن المواقف المتباينة للحزب: الحزب الوطنى الاتحادى مر بمحطات فكرية عديدة لم تحسم باتفاق قاعدى داخل الحزب او يتم قبولها من قبل مؤتمر عام للحزب انما ظلت قضايا تعبر عنها القيادات بشكل فردى و تختلف من واحد الى الاخر فى بداية طريق الحزب تبنى العلمانية كاساس للحكم و تؤكد ذلك شعاراتهم " موت القداسة على اعتاب السياسة" " حررت الناس ياسماعيل من الغاشين الناس باسم الدين و الدين مسكين ياسماعيل" (زين العابدين صالح عبد الرحمن: الطائفة و النخبة وتبدد الحركة الاتحادية http://www.sudaneseonline.com ) . هددت اطروحات الحزب الليبرالية الولاء الدينى للطائفية، وكان التوسع التجارى ومفاهيم السوق الحر مهددا خطيرا للولاء القبلى. وقاد هذا قيادة الطائفية الى فك تحالفها مع الحزب والعمل على انشاء حزب يعبر عن توجهات الطائفة ومصالحها فانشات حزب الشعب الديمقراطى.

    بالرغم ان من الصعب تحميل الحزب كل العبء التاريخى فى السياسات عقب الاستقلال، ولكن لانجد بدا من هذا التناول من باب الحرص الشديد على الحفاظ على فاعلية هذا التيار الملقى علية تاريخيا قيادة الوطن. ليس من اهتمامات الكتاب التاكيد على وجود او تفكك الحزب الذى جاء كمنتوج تاريخى، لكن المهم ان تتبلور هذة المبادىء فى حزب الوسط الاساسى من الليبرالية، العلمانية والعدالة الاجتماعية. سواء ان مثلها الحزب الاتحادى الديمقراطى او الحزب الذى سينشأ من رحم الصراع لبلورة رؤية جديدة لبناء الوطن. ان هذا التيار الفاعل طوال الفترة الاستعمارية والذى استلم السلطة منفردا بعثر الزخم الشعبى الذى نالة من اربع اخطاء تاريخية:

    اولا: بدا منذ البداية فى نقض العهود وفقدان الرؤية التى بدأت من السودنة والتى كانت كارثة بكل المقاييس والوعود التى بذلت للجنوبين للتصويت للوحدة وعند الاستقلال بادراج الفيدرالية فى الدستور ثم تم تجاهلها بالكامل، بل وقوبل تمرد محدود باقسى الاجراءات الغير متوقعة.

    ثانيا: الحزب الوطنى الاتحادى الذى شكل العمود الفقرى لحركة الوسط التى تعتبر القاعدة الاساسية للفكر الليبرالى تنحرف من مسارها التاريخى و تقف مع اعداء الديمقراطية ثم تذهب و تتحالف مع الطائفية و تغير اسم الحزب بعد الاندماج، كان هذا ايذانا بتغير نوعى فى اطروحات الحزب الجديد ( اندماج الحزبين الوطنى الاتحادى و حزب الشعب الديمقراطى ليصبح الاتحادى الديمقراطى)، لتتخبط بين شعارات اسلامية و اخرى اشتراكية ثم بدات تخرج الى السطح شعارات الدولة الاسلامية و من هنا نستطيع ان نقول ان الاتحاديين حركة فى طور التخلق و هى تحتاج الى حوارات فكرية داخل الحركة بشكل تنظيمى متواصل لكى تصل الى برنامج سياسي متفق عليه رغم ان الاغلبية تميل الى الديمقراطية الليبرالية كاساس فكرى للحزب و لكن تظل امال النخب الديمقراطية دون ان تصل ابعادها الفكرية الى جماهير الحزب و حتى الكثير من القيادات لا تعرف الابعاد الفكرية للديمقراطية الليبرالية". (الحزب الاتحادى الديمقراطى يتبدد ولا يتجدد ... بقلم: محمد زين عبد القادر sudanile)

    ثالثا: اثر ندوة معهد المعلمين الشهيرة التي نظمها الاتجاه الاسلامي 9/11/1965 لم يقم حزب الوسط الاساسى الليبرالي بخرق الدستور واحتقار القضاء لكن استجاب بردود فعل ضخمة " فدخول ازهري بثقله السياسي وبشعبيته حمل المعركة خارج قدرات الاخوان المسلمين المحدودة. كما ان ازهري قرر ما ستتخذه الجمعية التاسيسية بالنسبة للقضية قبل طرح الامر عليها. ودخل ايضا الامام الهادي الي المعركة واستدعي مجموعات من الانصار الي العاصمة". (دكتور محمد سعيد القدال: معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني ، الناشر دار الفارابي بيروت). وقال الامام الصادق المهدى فى خطابة فى الاحتفال الذي نظمته اللجنة القومية يوم 25/12/2005م بمناسبة عيد ميلاد السبعين: " كان الرئيس اسماعيل الازهري قد استشعر خطر الحزب الشيوعي على قواعده خصوصا عندما فاز السيد عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي على السيد احمد زين العابدين في دائرة الازهري بامدرمان شمال بعد ان تركها لدي انتخابه رئيسا لمجلس السيادة استقبل الرئيس الازهري المظاهرات وايد مطالبها. هذا الاتجاه ايده الامام الهادي المهدي بشدة وفي الظروف السائدة غلب هذا التيار على النواب ونفذت المطالب." عقب ذلك مباشرة اتجة حزب الوسط الاساسى الليبرالي الى تبنى مشروع الدستور الاسلامى الذى سيطال السودان تمزيقا وسيطال الحزب نفسة فرقا وشيعا تبيض كل ليلة انشقاقا جديدا. ان امرا كان من المفترض ان يحسم حسب القوانين التى تغطى هذة الاحداث تحولت الى احد اخطر المواقف السياسية السودانية واعظمها تاثيرا فى تاريخها الحديث وبل مسئولية اخلاقية مريعة كلفتهم جميعا فقدانهم الشرعية الدستورية. والادهى والامر انهم كلهم دفعوا وما زالوا يدفعون ثمنا غاليا من حياتهم او مستقبلهم السياسى اما الشعب السودانى فلازال يدفع الثمن.

    رابعا: برغم ان مؤتمر الخريجين كانت لدية رؤية وان لم تكن مكتملة الاركان لبناء الوطن الا ان التشكيلة التى كانت على قيادة الحزب الوطنى الاتحادى بعد الاستقلال والتى كان لديها طاقات ضخمة فى التعبئة السياسية والعمل الحركى والتكتيكات كانت تخلو تماما من الفكر الاستراتيجى ومن المفكر الاستراتيجى. انة لمن العجيب فعلا ان المنتج الفكرى الوحيد لقائد الحزب وزعيمة وحادى السودان الى الاستقلال المغفور لة الزعيم اسماعيل الازهرى هو كتاب الطريق الى البرلمان وهو اغلبة عن الاجراءات فى البرلمان ، اما القادة الاخرين فقد خلت سيرتهم الذاتية من اى منتوج فكرى حقيقى. لقد عجزت هذة القيادة والتى مثلت السلوك الجلابى الحقيقى فى القدرات الاجتماعية والاحاديث الشفاهية عن اضافة اى تطوير لرؤية الخريجين، بل قذفت بها فى اتون النسيان وبدأت السياسة التى ستعتمد رسميا فى السودان بعد ذلك: رزق اليوم باليوم والتحت تحت. بعكس كافة الاحزاب والتى تراكمت لديها مكتبة سياسية، دستورية وقانونية على طوال السنوات نلاحظ الضعف المفرط فى ادب هذا الحزب. سواء من انتاج اعضائة او المؤسسة الحزبية . واشار الباحث على عبد اللة عباس الى ان الحزب الاتحادى الديمقراطى هو اقل الاحزاب السودانية اشتغالا بالمسائل الفكرية ويشير كذلك ان موقف الحزب من المثقفين يتسم بالكثير من الشك والحذر. (على عبد اللة عباس : حول الثقافة السياسية لبعض الاحزاب السياسية واثر هذة الثقافة على موقف الاحزاب من الديمقراطية، الديمقراطية فى السودان ، البعد التاريخى والوضع الراهن وافاق المستقبل -ندوة تقييم الديمقراطية في السودان، 4-6 يوليو 1993 مركز الدراسات السودانية فى القاهرة).

    برحيل المغفور لة الشريف حسين الهندى، عام 1982 بعد ان تحمل اعباء النضال المستمر ضد ديكتاتورية مايو، فقد الحزب القيادة الكاريزمية التى كانت توحد مختلف التيارات داخلة، وتفكك اوصالة كتنظيم سياسى وان استمر فاعلا كحزب فضفاض. وقد ساهمت هذة الصفة فى الحفاظ علية فى العمل الخارجى وتواجدة وسط القوى الحديثة بمختلف تشكيلاتها ولكنة عانى من نقاط ضعف خطيرة.

    اولا: ان طائفة الختمية التى شكلت احد الدواعم الاساسية للحزب الوطنى الاتحادى وكانت العلاقة معها تشاورية ولكنها مع تطور هذا الحزب، الذى كان مؤملا ان يكون مؤئل الليبرالية، فقد بدات الهجرة من الطائفية واليها. ومع الضعف المتواصل للاساس الفكرى والبرامجى لقادة الحزب على مر العهود وتراجع تاثيرهم ودورهم آلت زعامة الطائفة والحزب الى السيد محمد عثمان الميرغنى.

    ثانيا: الطبيعة الفضفاضة للحزب الاتحادى الديمقراطى، تكتيكاتة المرنة والغير مبدئية احيانا، الموقف الغامض دائما للقيادة من الانقلابات وارتباط مصالح قطاعات مؤثرة من الاطارات الطائفية، فئات التجار، القطاعات الزراعية المتوسطة والمثقفين بمصالح متشعبة مع اجهزة السلطات العسكرية المختلف، واكثر من ذلك تبنى القيادة – بعد وفاة الهندى- تكتيكات العمل من داخل النظام والتحالفات المؤقتة، ادى هذا الى سهولة تحرك هذة الفئات وسيولتها عبر الانظمة الحاكمة.

    ثالثا: انفراط عقد القيادة الديمقراطية الليبرالية ادت الى استعادة الزعامة الطائفية للقيادة ورفع خطها السياسى وبديلها الاسلامى " الجمهورية الاسلامية" ( برغم ان هذا الشعار اطلقة الراحل على الميرغنى قبل اكثر من نصف قرن الا انة ليس هناك اى تفصيل ولو صغير عما يعنية هذا المصطلح، ولم يتناولة اى كاتب او سياسى. واظن انة اطلق فى عهد من المزايدة الدينية بعد الاستقلال واكتوبر ويستعملة زعيم الطائفة عند تعرض الحزب للحملات الضارية التى كانت توجهها قوى تيار الدولة الدينية سواء فى انتخابات 1986 او الاخيرة).

    عند االانتفاضة كان الحزب بعيدا عنها وفى حالة تفكك تنظيمى وضعف سياسى شديد وبلا خط سياسى واضح. وقد اعتبر ان من حسن حظة ان بعض القيادات النى جاءت ضمن المجلس العسكرى الانتقالى ذات توجهات ختمية قديمة. " بعد الانتفاضة عام 1985، كانت هناك فرصة كبيرة للاتحاديين للتخلص من الطائفة، بعد ما عجزت الطائفة تبرير مواقفها الداعمة لديكتاتورية جعفر محمد نميري، منذ بدأت تعزف في الإذاعة جلالات الانقلاب، وبالفعل، بعد الانتفاضة، ذهب السيد محمد عثمان الميرغني إلي شرق السودان " سنكات" و مكث فيها قرابة الثلاثة شهور، خوفا من شعارات الانتفاضة تطهير و محاسبة سدنة النظام، و لكن الخلافات التي نشبت وسط الاتحاديين، هي التي جعلت البعض يستقوي بالطائفة، و دعوة السيد الميرغني لاجتماعات الهيئة القيادية للحزب، و هي كانت الفرصة التي اغتنمتها الطائفة، ليس فقط رجوعها للعمل السياسي، بل استطاعت أن تستغل صراعات الاتحاديين، و تقبض علي مفاصل الحزب ثم عملت علي ابعاد الاتحاديين و يحل مكانهم أهل الولاء الأمر الذي جعل الحزب يتراجع للوراء و يبقي علي هامش الأحداث.( زين العابدين صالح عبد الرحمن: الاتحاديون الليبراليون و مصارعة الحلف الطائفي، سودانايل)

    لكن مجمل حركة الحزب السياسية كانت رد فعلا لتهديد الجبهة الاسلامية بانتزاع قواعدة الانتخابية منة واشتراك اعداد غفيرة من قياداتة فى النظام المايوى مما جعلة يعيد رفع شعارة المحافظ ويقاطع التجمع الوطنى ولايشارك فى كوكادام. وعندما جاءت الانتخابات تميز بانة الحزب الوحيد فى الساحة الذى لم يالوا على نفسة تقديم اى جهد فكرى او برنامج سياسى وحازعلى 23% من النواب. كان هذا الفشل الانتخابى الاكثر قسوة فى تاريخ الحزب وجاء كاشارة واضحة الى قيادة الحزب بتعارض شعاراتها ومواقفها مع نبض الجماهير .

    بعد تواجد قصير فى خندق الجبهة الاسلامية القومية استطاع الحزب الخروج من ازمتة. تصاعد التيار الديمقراطى الليبرالى داخل الحزب وانحسرت الهيمنة الطائفية بعد ان تبين بجلاء ان التنسيق او المنافسة مع الاسلاميين فى نفس ميادينها ( شعارات الدولة الدينية) تؤدى لخسائر مؤكدة لمساحات الحركة الاتحادية. ترافق هذا مع تعارض مصالح فئات من البرجوازية التجارية والصناعية مع فئات الراسمالية الطفيلية الاسلامية. وقد دارت معارك شرسة مع اعلام الجبهة الاسلامية لاثنائها عن هذا التحول، الا ان العوامل الموضوعية كانت اقوى وساهمت فى انتقال قيادة الحزب، من التنسيق مع الجبهة الاسلامية القومية ودخولها مأزق حكومة الوفاق الوطنى والتى كان قد عبرعنها السيد الامام الصادق بان حزب الامة اقرب الى قوى االانتفاضة سياسيا واقرب الى الجبهة الاسلامية القومية فكريا ( احدى سياسات السيد الامام الصادق الكارثية القائمة على وهم الاجماع )، الى الانسحاب من الحكومة وصولا الى مبادرة السلام السودانية فى 16 نوفمبر 1989 والتى شكلت اقرب النقاط للوصول الى تسوية سلمية مع القوى المقاتلة الجنوبية.

    عندما جاءت الانقاذ كانت قد استمالت من تشاء من كوادر الحزب ولكنها كانت مصممة على تصفية كافة ارجاء العمل العام فى السودان من كافة اعدائها وكانت فى طليعتها الاحزاب الطائفية الليبرالية وكوادرها، عسكرييها، راسماليتها الوطنية، موظفيها العامين ومن ثم تحجيم وخرط الممثلين الطائفيين من خلفاء ووكلاء وقطع خطوط تواصلهم مع المركز. منذ نهارة الاول فى المعتقل بدا الحزب فى تبنى المعارضة، توقيعا على وثيقة التجمع الوطنى الديمقراطى وقيادة العمل المعارض طوال تاريخ طويل حتى اتفاقية القاهرة بين حكومة جمهورية السودان والتجمع الوطني الديمقراطي في 16 يناير 2005.

    اذا كان الحزب الشيوعى اكثر الاحزاب تعرضا للعداء من سلطة الانقاذ وتم تصفية اكثر من 90% من كوادرة الناشطة من كافة الاجهزة المدنية والعسكرية، وتم منعة بالكامل من التواجد فى الاجهزة النقابية، الاعتقالات والتعذيب ومنع المشتبة فى اى نوع من الانتماء لة من العمل فى اى مجال، فقد كان الحزب الاتحادى اكثر الاحزاب تعرضا للضرر من الناحيتين السياسية والاجتماعية. فقد نال اعضاء الحزب الناشطين او على هوية الانتماء الختمى التشريد للصالح العام والاعتقالات والتضييق فى الرزق وتصفيتة من الاتحادات والنقابات ومجالس الادارة. على المستوى الاجتماعى فقد تم خرط الامكانيات المادية عن كافة اعضائة من فئات التجار والراسمالية واخرجوا من السوق بشكل كامل، الا من خضع وسار فى ركاب الانقاذ.

    بفعل تدخل الانقاذ العنيف فى كافة مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وما جلبتة على المجتمع السودانى من الام ومحن، انشغلت الاحزاب لمحاولة فهم هذة المتغيرات والتفاعل معها لتخفيف الضغوط على الشعب السودانى. ومن ناحية اخرى فرضت هذة التغيرات مراجعة الاحزاب لموقفها من الديمقراطية والحكم والهراء الدستورى الذى انشغلت فية طوال تاريخها الفاشل ومحاولة صياغة جديدة لبرامجها ومرتكزاتها الفكرية. مراجعات مريرة نهض بها حزب الامة سواء على مستوى التكتيك او النظرية والجهد البالغ من قائدة الامام ومعالجة الانشقاقات التى طالت الحزب يمينا ويسارا، الى المراجعات النظرية والتكتيكية التى شغلت الحزب الشيوعى السودانى منذ بداية التسعينات واجبرتة ان يعقد مؤتمرة الخامس بعد طول تلكؤ (لعلة من الاشياء التى تحزننى – وهى كثيرة اوردت بعضها فى هذا الكتاب- اننى مع نفر كثير غيرى، دخلوا الحزب وخرجوا منة خلال اربعة عقود دون ان يتاح لهم حضور اى مؤتمر حتى ولو كان تداوليا وان الجهد الكبير الذى نهضوا بة فى التعلم والتثاقف لم يكن لة اى اثر فى تشكيل وبلورة افكار جيلهم داخلة). لكن هذة العواصف التى ضربت الاحزاب من الامة الى الشيوعى والاحزاب الجهوية وكافة مثقفى الوطن مرت على هذا الحزب ولم ينشغل بها الا فى ابتداع الاشكال الجديدة من الانشقاقات . احدثت الانشقاقات الاثر الاكبر على هذا الحزب، فقد تتالت وتكاثرت بلا معالجة موضوعية من القيادة سوى الاتهامات. وهذة ليست ظاهرة متفردة فى هذا الحزب فقط ولكنها السمة العامة فى السلوك المجتمعى، الخلاف لحد الفجور ثم اللملمة بدون معالجة الظروف والاسباب الحقيقية. ويمكن برغم عدم الدقة والموضوعية المحتملة القول ان كادرات هذا الحزب مثلت، على النطاق الفردى، العمود الفقرى الذى اعتمد علية نظامى عبود والنميرى وجزئيا جدا الانقاذ.

    وقد تميزت قيادة الطائفة بالغموض الشديد فى اشكالها التنظيمية ومصادر تمويلها وانشطتها و بعلاقة ملتبسة مع المثقفين وان كان اكثرهم وافضلهم يميلون لهذا الحزب . ينسحب هذا على المؤسسة الطائفية (الختمية) والتى لم يتناولها الكثيرون بالدراسة وذلك بعكس الطائفة الانصارية التى ما ترك السودانيون سواء من الطائفة او اعضاء الحزب او الاكاديميين او المستشرقين و الكتاب الاجانب شاردة او واردة فى تاريخها الماضى او الحاضر والا تناولوها بالفحص والتمحيص والنقد والتحليل.

    ان القوانين التى تحكم مسيرة حزب الليبرالية هى نتاج التفاعل بين فريقين فئات الراسمالية والتكوينات القبلية والدينية من جهة و النخبة المثقفة والقادة الجماهيريين. لقد قاد الصراع بين هذين التيارين مع تسيد القيادة الطائفية واختراقات الحزب الحاكم الى شلل الحزب بالكامل من ان يكون لة اى دور فاعل. ان الحزب الان يدور بين مستنقع المصالحات والتعاون مع الانقاذ ومصطلحات الحكومة الموسعة والوحدة الوطنية واودية الانقسامات والانشقاقات وعاجزا ان يعقد اجتماعا لمكتبة السياسى لمدة سبع سنوات. لقد بدأت حياتى متعاطفا مع الحزب الاتحادى الديمقراطى من يسارة وقادتنى مواقف قيادتة المتنكرة لتراثة العلمانى للالتحاق باليسار. ان الحزب يفتقد لقيادة كارزمية ذات رؤية تستطيع تجميع اطرافة المهلهلة واستعادتة من القيادة الطائفية واستعادة الوطن من تيار الدولة الدينية على اساس صلب من العلمانية كرؤية تعيد لحم هذا الوطن المشتت. ان صراعا محتدما يدور فى اوساط هذا الحزب العريق لتحويلة من مركزية التحكم الطائفى والتسيد الى حزب عصرى حقيقى جدير بان يشارك فى قيادة الوطن. هذة تحولات ضرورية ولامفر منها ولابد ان يحدث هذا او يدور فى فلك يعمهون ويتأكل.

    الفصل السادس: فشل مشروع رؤية الرواد (1942-1969)

    قضايا رؤية الرواد (1938-1969 )

    الذين قادوا الكفاح الطويل ضد الاستعمار وضحوا بمختلف التضحيات هم الذين شكلوا الاحزاب الى نشأت فى الاربعينات وقادت رؤية السودان لثلاثة عقود. وقد صبغت هذة السنوات رؤيتهم بكافة الخصائص التى ستميزها. ويمكن بشكل مجمل ان نلخصها فى:

    اولا: بانشطار حركة المثقفين وارتماء جزء منها فى احضان الطائفية وفشل حركة الاشقاء للتحول الى حزب سياسي ذو رؤى سياسية وفكرية واضحة كما كان الحال بالنسبة لجماعة الاتحاديين الذين انبثقوا من مدرسة ابي روف والذين كانوا يعتمدون على مرجعية فكرية ليبرالية علمانية، غير ان التحالف الذي قام في اخر المطاف بينهم وبين الاشقاء فى الوطني الاتحادي انتهت بتحالف جماعات الاتحاديين مع الختمية فى الحزب الاتحادى الديمقراطى واتجاه الطائفة للسيطرة على مقاليد الامور. بالتالى فقدت النخبة مبادرة قيادة التغيير، العمل المشترك مع نفسها ومع القوى الفاعلة فى المجتمع ؛

    ثانيا: بدأت من كتابات عبد الرحمن الضرير ومحمد عبد الرحيم مدرسة التعصب لعروبية واسلامية السودان ومن ثم تبنتها كافة الجمعيات الادبية (ابروف والفجر)، تبنت النخبة هذة الهوية كجامعة للسودانيين. ورغم طرح اللواء الابيض مفهوم القومية السودانية كبديل، الا ان هبتها وانطفائها كانت سريعة. طرحت مخارج فكرية لتجاوز ازمة الهوية بطرح المدرسة الافروعروبية (الغابة والصحراء). لم تستطع النخبة فى التيار الاساسى السودانى تجاوز العروبية حتى طغت عليها الثقافة الاسلاموعروبية بقدوم الانقاذ.

    ثالثا: الانفصال والتشتت فى الطبقة التجارية المتحولة للراسمالية حيث ارتبط نموها بالتشابك مع الطرق الصوفية عند تحولها الى طوائف دينية والقبلية واصبحت ممثلة فى الاحزاب الليبرالية الطائفية. هذة الخاصية ستكون احد اسباب عدم استقرار الحكومات وعدم تمكن اى من الاحزاب فى الحصول على الاغلبية اللازمة؛

    رابعا: الحركة الصوفية ذات الاساس السنى كانت اكثر سماحة وانفتاحا من الاجهزة الرسمية والاسلام الاشعرى المسيطر ومثلت احدى خصائص تحولات الحركة الصوفية السودانية وهو قابليتها لقبول الافكار المعاصرة كما سنرى فى انخراط الطوائف المنحدرة منها فى تبنى الحركة الليبرالية والدولة المدنية الديمقراطية. وسنرى فى رصدنا لاحقا ان امتدادات التيار السلفى والاشعرية الرسمية هى التى دفعت هذة الطرق الى التشدد فى دور الدين فى السياسة خاصة فى العقود الاخيرة من القرن الماضى. (على عبد اللة عباس : حول الثقافة السياسية لبعض الاحزاب السياسية واثر هذة الثقافة على موقف الاحزاب من الديمقراطية، الديمقراطية فى السودان ، البعد التاريخى والوضع الراهن وافاق المستقبل -ندوة تقييم الديمقراطية في السودان، 4-6 يوليو 1993 مركز الدراسات السودانية فى القاهرة.)

    فى هذا الفصل سنتناول وبالتفصيل القضايا التى اثرت بشكل جوهري وحاسم فى رؤية الرواد وعوامل الفشل لمشروعها الوطنى. وسوف يشمل بحثنا عناصر الرؤية التى تبنتها الاحزاب الليبرالية بعد الاستقلال وطرحتها كشعارات ونفذتها كسياسات وما واجهتة من ازمات: اولا: أزمة الهوية: الهوية السودانية وتجذر المفهوم العروبواسلاموى فيها وتداخلات السياسى والدينى؛ ثانيا: أزمة الشرعية: ؛ ثالثا: أزمة المشاركة:الدساتير الديمقراطية المؤقتة والعسكرية الدائمة الرائحة؛ السلوكيات الغير ديمقراطية من اقصاء الخصوم والموقف من القوات المسلحة رابعا:أزمة التوزيع: الرؤية الاقتصادية الاجتماعية وقضايا التنمية والخدمات؛ وخامسا: أزمة الاندماج و التغلغل

    اولا:ازمة الهوية

    سواء بدانا من التقسيم العرقى للعالم لحام وسام ويافث، التمايز بواسطة المناخ والجغرافيا، الطفرات الجينية او استندنا على مفاهيم علاقات الانتاج فى بلورة هذة التمايزات، فقضايا الهوية ومصدر ازماتها حقيقية وواقع موضوعى فى كافة المجتمعات البشرية منذ نشأتها وتناولها بالنقاش المستفيض كافة علماء النفس والاجتماع والسياسة. وحسبها علماء التنمية السياسية احد اهم مصادر عدم الاستقرار السياسى والاجتماعى. وربما ما نالت ازمة من الأزمات الست للتنمية السياسية نقاشا مستفيضا فى السودان اكثرمن هذة الاشكالية العويصة. وقد تم تناول الهوية من جانبين مختلفين.

    اولا: الهوية الشخصية والاجتماعية: هذا الجانب هو الذى شكل الجزء الهام والاساسى فى المناقشات السودانية باعتبار ان البلاد فى طور متخلف من العلاقات العشائرية، القبلية والجهوية والتى عرضها د. الباقر العفيف فى دراستة الضافية حول أزمة الهوية في شمال السودان والتى لخصت مجمل قضايا الحوار الواسع وسط النخبة فى نهايات القرن الماضى وبدايات القرن الحالى. وطرح د. الباقر العفيف ان ثلاث عوامل تستطيع إذا ما تفاعلت مع بعضها البعض، ان تفسر كل هوية اجتماعية. وتتبلورهذة العوامل حول تصور اﻟﻤﺠموعة لنفسها، تصور الآخرين للمجموعة والاعتراف أو عدمه من قبل مركز الهوية ﺑﻬذه اﻟﻤﺠموعة. تناقض هذة العوامل هى التى اعدت المسرح لبروز تناقضات الهوية، ولزحف عدم الاستقرار إلى خلايا اﻟﻤﺠتمع، ولتفاقم أزمة الهوية حتى سدت عليه الأفق وتقود الوطن الى التفكك. (د. الباقر العفيف ترجمة الخاتم عدلان: أزمة الهوية في شمال السودان: متاهة قوم سود...ذوو ثقافة بيضاء http://kacesudan.org/files/h679nz72yp.pdf )

    ثانيا: الهوية القومية: من بدء التيارات العروبية والاسلامية بشكل جنينى قبل ثورة 1924 الى وضوحها البائن بعدها واعتمادها كنظرية مركزية للطبقة الحاكمة بعد الاستقلال، تطورت من اعتزاز العرق الى تكوين آلياتها الخاصة وتطورها فى الثقافة السودانية مسلكا، تعبيرا والى اكثر اشكال تعبيرها الصارخ عند الانقاذ. لقد تداخل العروبى مع الاسلامى مع الدولة بشكل شديد الارتباط حتى اصبحت السياسة المعتمدة فى الدولة. اذا كان لدولة السودان ان تستمر فى الحياة وفى داخلها مختلف الاقوام فلابد ان تتغير معادلات التعايش، ان العروبية احد مكونات الامة وعنصر اصيل فيها والغة العربية هى لغة التفاهم لجميع مكونات الامة (Lingua Franca ( ولكن يمتلك الاخرون لغاتهم الخاصة وثقافاتهم المميزة التى لن يتنازلوا عنها.

    من بلاد كثيرة فى العالم تذخر بالتنوع الدينى والعرقى والثقافى والتنموى ليس من بلد ارتبطت فية مسالة الهوية الوطنية بالفوارق الاقتصادية الاجتماعية وعدم حسمها مثل السودان، فالاختلاف الدينى والعرقى فصل الجنوب والاختلاف العرقى والثقافى والتنموى يمكن ان يفصل الغرب او الشرق او يدفع النوبيون – بناة حضارة هذا الوطن و قوميوة – للبحث عن مخرج عن الدولة الاسلاموعروبية او السودانوعروبية. ربما يكون السودان من اكثر الدول تغييرا لدستورها وهى قرابة ال 12 دستورا منها الدائم ومنها المعدل ومنها المؤقت واصدق تعبير عن عدم القدرة الوطنية للوصول الى ثوابت مرجعية و متلازمة التناوب المدني - العسكري للحكم المدورة وعدم الاستقرار السياسى فيها (محمد عبد المجيد امين : في البحث عن دساتير وقوانين السودان، sudanile ).

    ارتبطت الهوية السودانية بشكل محكم بالتهميش الذى ترحل عبر القرون وتجلى فى تحكم المراكز على السلطة والثروة وظلت عاملا تفريقيا طوال القرون ومع دخول العرب السودان تمظهرت ثقافيا فى اعلاء شان الدم العربى واهميتة واتخذت المسألة بعدا دينيا، ورغم قيام السلطنات الغير عربية فى السلطنة الزرقاء، دارفور والزعامات القبلية فى الجنوب، الا ان مآلها جميعا كان ادخالها فى زمرة التهميش او تمسكها باصل عربى، والذى لم يمنع التهميش العرقى. لقد جاب د. عطا البطحانى فى سوحات التاريخ والجغرافيا لجبال النوبة وحلل بعمق متميز تطور الصراع السياسى بكافة جوانبة وخلص الى ما اعتبرة مدخلا قبليا تاهت عنة رؤية الرواد وعجزت امام تحقيقها كافة الرؤى التى طرحت لاحقا "ربط الحركة الشعبية لتحرير السودان (حركة قرنق) للاستراتيجية السياسية بالكفاح العسكرى المسلح يعتبر مرحلة جديدة من التطور السياسى للقوميات الغير العربية. هذا التوجة لاينظر الى مسالة القوميات من منظور اقليمى..... بل ينظر اليها من وحدة التكوين الاجتماعى السودانى، وحدة تقوم على اساس التعدد العرقى ودولة علمانية ديمقراطية توجة فيها الموارد تجاة خلق القواعد المادية التى تضمن وحدة كافة القوميات على اسس متساوية بدون استغلال اقتصادى او قهر ثقافى" . وكما لاحظ د. عطا البطحاني " ان السمة العامة التى تميز العلاقات السياسية بين المجموعات العربية الغالبة فى السودان الشمالى وبين المجموعات الاثنية غير العربية، هو التوزيع غير المتكافىء للسلطة والموارد الاقتصادية". ورغم انة يرى ان العامل الاقتصادى وحدة لا يفسر تصاعد هيمنة الاتجاهات العربية الاسلامية الا انها التفسير الغالب لهذة المجموعات فى جبال النوبة، وسنرى نفس التفسير لدى د. جون قرنق. ادى تطور الحياة السياسية فى القرن العشرين الى نشوء كافة الاحزاب من هذة الفئة الغالبة " ان الدافع المشترك للأحزاب السياسية الشمالية-على الرغم من اختلاف توجيهات هذه الأحزاب فيما يتعلق بقضايا التنمية والوحدة الوطنية – ان الدافع المشترك لها هو الإبقاء على سيطرتها السياسية مع تهميش الهوية الثقافية والوطنية للمجموعات الاثنية غير العربية (د. عطا البطحانى: جبال النوبة: الاثنية السياسية والحركة الفلاحية 1924-1969 ، ترجمة: فريد السراج، شمس الدين ضو البيت، مركز الدراسات السودانية،2002)

    ولاهمية الموضوع فى مبحثنا فسنورد بعض المفاهيم العامة من وجهات نظر مختلفة للنظر للاقصاء والتهميش فقد نظر لها ابكر ادم اسماعيل : جدلية المركز والهامش واشكال الهوية في السودان، من وجهة الهوية الوطنية ويرجع نزعة الهيمنة والاقصاء المتشددة الى: البطرياركية الابوية القائمة على التشدد العرقي: نمط الاقتصاد الريعي العشائري (الطفيلي) والنزعة الاستبدادية المتشددة http://dozna.ahlamontada.com. ويستعرض الاستاذ احمد ابراهيم ابو شوك فى مقال ممتاز فى موقع المعرفة التابع لقناة الجزيرة "ظهر تياران للاجابة عن سؤال الهوية المازومة: احدهما يتبنى طرحا صداميا، لانه يرى في الترويج للهوية "الاسلاموعربية" دعوة لتفكيك دولة السودان الموحدة، بينما يقدم التيار الاخر طرحا وفاقيا، يزاوج بين "الهوية والمواطنة" ويرى انة ياتي في مقدمة انصار الطرح الصدامي اولئك الذين يطعنون في شرعية الهُويَّة السودانية المنشودة وفق هدي المشروع الحضاري، الذي يعُدُّونه مشروعا اقصائيا وكارثيا على وحدة السودان؛. يرى الكاتب ان التيار التوفيقي ينقسم الى عدة تيارات ثانوية " يتصدرها تيار الدولة الوطنية والتنمية والتيار التوفيقي الثاني يتمثل في تيار الهُويَّة والديمقراطية، والذي يعزي احد انصاره، الاستاذ عبد العزيز الصاوي، فشل انجاز مشروع الدولة السودانية في المقام الاول الى عجز "النُّخبة السودانية في تاسيس مشروع الديمقراطية، الذي هو صنو لمشروع التنمية، كما اثبتت التجارب العالمية في الهند وماليزيا اما التيار التوفيقي الثالث فيزاوج بين المواطنة والهُويَّة "السودانوية" التي لا تمييز فيها لاحد بسبب العنصر، او الدين، او اللغة، او الثقافة، او الجهة. "http://www.aljazeera.net

    وقد تبدى هذا منذ مؤتمر الخريجين من التوجة العروبى الاسلامى المسيطر والصامت عن الاثنيات المختلفة الا فيما يمس مصالح فئاتها خاصة التجارية وتجلى بوضوح فى صمت الدستور الانتقالى 1956 عن القضية الحاسمة لقادة الجنوب، بنيه الدولة الاتحادية. ضمَّت لجنة الدستور ثلاثة فقط من ابناء الجنوب، حيث صوَّتت هذه اللجنة ضد النظام الفيديرالي الذي كان يطالب به ممثلو اهل الجنوب بالحاح ووعدتهم قيادة الشمال ان طلبهم عن الحكم الفيديرالي للمديريات الجنوبيَّة الثلاثة سوف يلقى الاعتبار الكافي بعد الاستقلال، ولكن تراجع حكومة الخرطوم عن وعودها للجنوبيين لاعتماد نظام الفيدرالية ادى الى تمرد من قبل ضباط القوات المسلحة الجنوبي الذي اطلق 17 عاما من الحرب الاهلية (1955-1972) الحرب الاهلية في السودان.

    اما السودنة فهى الكارثة الحقيقية، فقد تجاهلت تماما الجنوب ولا ندرى كم كان فيها من الاثنيات المهمشة الاخرى. لقد دقت الاثنيات الجنوبية ناقوس تحذير واضح عام 1955 والمؤسف ان رؤية الرواد فى طبعتها الديمقراطية والعسكرية قد ابدت عجزا كاملا عن تلمس خطواتها والوصول للحل. لم تختلف الرؤية القومية العربية للنميرى او رؤية تيار الدولة الدينية عن رؤية الرواد فكلها استندت الى الاسلاموعروبية فى تنويعاتها. ان المرء ليندهش من قصر نظر احزابنا الليبرالية وهى ترى الحكم العسكرى الاول يسقط بتاثير مشكلة الجنوب الاصل، والنميرى يعتلى السلطة من تأثيرها ويسقط من تفاعلات الحرب الثانية للجنوب ويعتلى البشير السلطة من بوابة الجنوب الاصل ويغرق الان فى وحل الجنوب الجديد. كانت الفرص التاريخية الحقيقية ما بعد ثورة اكتوبر وبعد االانتفاضة فهى جاءت للتعبير عن قضايا استعادة الديمقراطية ومشكلة الجنوب وكانت هذة قضايا عامة يمكن الاتفاق القومى حولها ضمن اطار من عقد اجتماعى جديد، لكن بدلا منها فقد ترعرعت ثقافة الاقصاء على كل الاصعدة وتحولت الثورة الى اغنيات جميلة وابداعات بديلا عن الرؤية الاستراتيجية الشاملة.

    معالجة الخلل الجهوى لبناء الامة

    نال السودان استقلالة وتكوينة كامة قيد البحث، فدارفور انضمت للسودان عام 1916 وعزلت جزئيا والجنوبيون اختاروا الوحدة فى مؤتمر جوبا 1947 بعد عزلة طويلة، اى ان المقومات الأساسية التي تقوم عليها الأمة، كاللغة والدين والتقاليد والتاريخ والمصيرالمشترك لم تكن مكتملة فى كافة السودان. ان الدولة بخلاف الأمة تحتاج لكي تقوم، إلى وجود قانون و سلطة تسهر على تطبيقه، فهي بذلك لا تنشأ إلا إذا اخذ الأفراد القرار وعزموا على بنائها. بينما تتكون الأمة عفويا و تلقائيا عبر التاريخ و الأيام، وما يمر به الأفراد من محن و أحزان و انتصارات و أفراح وكما يقول رينان "الأمة نهاية ماضي طويل". كذلك فان للقوانين السياسية و الاقتصادية والاجتماعية التي تنتهجها الدول و السلطات دورا مهما في تقوية العلاقات الروحية بين أفراد الأمة الواحدة، إذا كان بينها اتفاق، و في إضعافها إذا كثر الخلاف بينها، الأمر الذي جعل فكرة توحيد قوانين الدول التي تكون أمة واحدة تظهر إلى الوجود للحفاظ على استمرار الأمة وبقائها.

    شهد يوم 18 أغسطس 1955 وقوع تمرد القوات العسكرية الجنوبية في مدينة توريت بمديرية الاستوائية واول انذار للدولة الوليدة وقد وصلت لجنة للتحقيق برئاسة قاض فلسطيني مشهود له بكفاءته ونزاهته هو توفيق قطران، قاضي المحكمة العليا وافاد فصلا من خلفيات السياسة البريطانية في جنوب السودان. وقال التقرير انه لا يمكن فهم اسباب الاضطرابات دون ادراك ابعاد النقاط التالية: أولا: ان الامور المشتركة بين الشماليين والجنوبيين قليلة جدا، وهذا بخلاف التفاوتات الجغرافية والتاريخية والثقافية في ما بينهم؛ ثانيا: ولأسباب تاريخية يعتبر الجنوبيون الشماليين اعداءهم التقليديين؛ ثالثا: كانت السياسة الادارية البريطانية تتوخى حتى عام 1947 ان يترك الجنوبيون على حالهم ليتقدموا على النمط الافريقي الزنجي؛ رابعا: بسبب عوامل سياسية ومالية وجغرافية واقتصادية تقدم السودان الشمالي تقدما سريعا في كل الميادين فيما كان الجنوب يزداد تخلفا وخامسا: كل العوامل مجتمعة لم تولد في الجنوبيين احساسا برابط قومي مشترك مع الشماليين او حتى شعورا وطنيا وتعلقا بالسودان كوطن واحد وظل ولاء الجنوبي العادي منحصرا في نطاق ضيق. كما اشار التقرير الى الوعود المبذولة ابان الحملة الانتخابية لاول برلمان سوداني وقلقهم الشديد تجاه تنفيذ عملية السودنة - من التسعمائة (900) وظيفة التي تمت سودنتها في 1952 – 1956 هناك ست وظائف احتلها جنوبيون، وما افرزه ذلك من تخوف من السيطرة السياسية عليهم. (محمد سعيد محمد الحسن: الشرق الاوسط، الاربعـاء 13 رجـب 1426 هـ 17 اغسطس 2005 العدد 9759 ).

    ماذا فعلت الدولة الوليدة والاحزاب الممثلة فى البرلمان قطعت عهداً لممثلى الجنوب فى البرلمان بان مطلبهم فى الحكم اللامركزى (الفدريشن) سوف يلقى إعتباراً جاداً، إذا صوتوا لصالح إعلان الاستقلال فى 19 ديسمبر 1955. وهكذا توحدت كل الأحزاب السياسية خلف مطلب الاستقلال باجماع تاريخى لم يتكرر فيما بعد. وقد أصابت خيبة الامل كل من تطلع إلى الأحزاب الشمالية التى تناوبت على الحكم لتفى بعهدها بشان مطلب الفيدرالية، وتمهد بذلك لبدء مرحلة جديدة قوامها الثقة بين الشمال والجنوب. فقد انقلبت أحزاب الوطنى الاتحادى والامة والشعب الديمقراطى على أعقابها ونفضت أيديها من العهد الذى قطعته بمنح المديريات الجنوبية حكماً فيدرالياً. وفى اكتوبر 1958 فرغت من مهمتها لجنة إعداد مسودة الدستور على أساس قوانين الشريعة الاسلامية. (د. عبد الماجد بوب: الصعود والهبوط فى سيرة الزعيم الازهرى (4)، http://sudaneseonline.com)
    كانت منطقة جبال النوبة (جنوب كردفان) ضحية لسياسة المناطق المقفولة التي بدأت منذ العام 1925 تقريباً إلى العام 1947 وتم إلغاء سياسة النوبة (Nuba Policy) وسياسة الجنوب في مؤتمر جوبا (1947). عند الاستقلال في 1956م لم يكن هناك اى من النوبة أو العرب المحليين في جنوب كردفان قد تخرج في كلية غردون.... وبالتالي لم يحتل أي واحد منهما منصباً في السودنة.) د. حامد البشير إبراهيم :مرجع سابق). في عام 1948 وتزامناً مع الحركة الوطنية وحركة وتنظيمات الخريجين، ظهر إلى حيز الوجود تنظيم سري باسم الكتلة السوداء (Black Block) الداعي إلى انصاف الحقوق المدنية لبعض المجموعات الإثنية من السكان الأصليين) وخاصة النوبة والإثنيات الجنوبية وغيرهم). كان التنظيم بقيادة الدكتور احمد ادهم الطبيب المشهور صاحب العيادة القديمة القابعة عند مدخل كبري الحرية من الناحية الجنوبية. تنظيم الكتلة السوداء بذل جهداً كبيراً لاختراق البنية التقليدية في جبال النوبة لكن دون نجاح يذكر إذ تفرق ولاء قيادات النوبة التقليدية (الإدارة الأهلية) بين الولاء للحركة الاستقلالية وانصار الوحدة مع مصر. كانت الطبقة الوسطى من ابناء النوبة صغيرة للغاية ان لم تكن معدومة وغير ذات تأثير يذكر، وذلك لقلة المدارس التي كانت تخرج صغار الموظفين في الإقليم وبعض منها قد أقعدت بها الدراسة باللهجات المحلية والتي لم تؤهلها لشغل وظيفة عامة في الدولة أو في القطاع الخدمي. . دعا تنظيم الكتلة السوداء "بان خروج الانجليز المبكر ربما عنى بالنسبة للكيانات الإفريقية استبدال استعمار باستعمار آخر". كانت الدعوة الصريحة والمبطنة أيضاً ربما اشتملت على ضرورة بقاء الانجليز بعض الوقت ريثما تتم الإجراءات والخطوات الكفيلة باستقواء العناصر الإفريقية في السودان حتى يتم الانتفاع – على قدم وساق – من الاستقلال بواسطة كل إثنيات السودان دون استحواذ فئة على حساب أخرى ودون إقصاء. (آدم جمال أحمد: الأب فيليب عباس غبوش زعيماً قومياً ... للسودان، http://www.sudaneseonline.com)

    في عام 1964م تم تكوين اتحاد جبال النوبة والذي أضيفت إلى اسمه كلمة (عام) في 1965م في مؤتمر التنظيم الثاني بكادقلي. وذلك بعد النقد الذي وجه للحزب الوليد واتهامه بإقصاء الآخر الإثني في المنطقة (العرب) فأصبح اتحاد عام جبال النوبة وانضم إليه ناظر الرواوقة (الحوازمة) سعيد حامد اللكة وآخرون. لقد خاض الحزب الجديد أول انتخابات له عام 1965 وفاز بثمانية مقاعد فى البرلمان شغلها السيد فيليب عباس غبوش والسيد زكريا اسماعيل والسيد احمد الزبير النعمة والسيد قمر حسين رحمة والسيد بحر الرضى وغيرهم. في عام 1967م كانت إحدى القضايا المحورية التي نالت (معظم) اهتمام اتحاد عام جبال النوبة في البرلمان هو موضوع ضريبة الدقنية والتي تفرض على الانسان لشخصه (على الرأس). وكانت تلك الضريبة (منذ أيام الفترة الاستعمارية) تخص النوبة دون غيرهم من إثنيات المنطقة وذلك بافتراض ان البقارة (الحوازمة والمسيرية) يدفعون ضريبة القطعان (لكونهم مربي ماشية) وان الجلابة يدفعون ضريبة التجارة (الأرباح)، أما النوبة فكان عليهم دفع ضريبة الدقنية وذلك لغياب القاعدة الاقتصادية التي تفرض عليها الضريبة، أو هكذا كان افتراض المشرع الذي رأى ان الزراعة عند النوبة كانت إعاشية وان الاقتصاد عندهم كان اكتفائياً بلا فائض تجاري يتيح فرض الضريبة عليه. ولكن ذلك المنطق يضعفه ولوج النوبة زراعة القطن تحت مظلة مؤسسة جبال النوبة الزراعية. لكل ذلك كان شعور النوبة بالكرامة والخيلاء والإباء عالياً وكان إحباطهم عظيماً حينما رأوا الإصرار بعد الاستقلال من الحكومة الوطنية الديموقراطية على الإبقاء على ضريبة الدقنية المهينة لهم والجاحدة لدورهم الوطني ولتاريخهم النضالي الناصع في مقاومة الاستعمار. وهي بالطبع محبطة لقدرهم الرفيع أيضاً. (آدم جمال أحمد: ضريبة الدقنية بجبال النوبة ظلم إجتماعى ومذلة انسانية، http://sudaneseonline.com. كان الاستئثار بالسلطة ميراثا للمتعلمين من أبناء الوسط تكالبوا عليه بأحزابهم وعند سودنة الوظائف في بداية الاستقلال، حرموا منه حتى الجنوبيين الذين وعدتهم الأحزاب السياسية بمناصب مقدره وكانوا يطالبون فقط بأربعين وظيفة فمنحوا ستة وظائف من مجموع 800 وظيفة.

    ثانيا: أزمة الشرعية

    يرجع الأصل اللاتيني لكلمة الشرعية إلى "legitimacy " بمعنى " خلع الصفة القانونية على شيء ما" وتضفي الشرعية طابعاً ملزماً على أي أمر أو توجيه و من ثم تحول القوة إلى سلطة، وتختلف الشرعية عن المشروعية legality في ان الأخيرة لا تكفل بالضرورة تمتع الحكومة بالاحترام أو اعتراف المواطنين بواجب الطاعة. فالمشروعية بهذا المعنى مشتقة من التوافق مع القانون أو اتباعه، أما الشرعية فهي الأصل الذي يفترض ان يستند إليه القانون (و من ثم المشروعية). و رغم ان التصور المثالي يفترض ان تكون القوانين (و المشروعية) تتمتع في الان ذاته بالشرعية ، إلا ان الواقع يعرف العديد من الأمثلة المخالفة لذلك ، حيث تنشأ فجوات بين الشرعية و المشروعية ، يكون من أبرز مظاهرها وجود قوانين لا تستند إلى الأساس الرضائي المتفق عليه، أو حتى تنتهك هذا الأساس و تتعارض معه. (حكمت حكيم، الحوار المتمدن - العدد: 892 - 2004 / 7 / 12 ).

    ونقتبس هنا من د. منصور خالد فى سلسلة المقالات الضافية والمعنونة اتفاقيات السلام ... البدايات والمالات: مفهوم الشرعية نفسه يحوطه الكثير من اللبس، خاصة في التعبير العربي. فللشرعية وجهان، وجه اجرائي والثاني جوهري، يعبر عنهما في اللغات غير العربية بمفردتين مختلفتين. فالشرعية بمعنى legality تشير الى قيام النظام على قواعد قانونية (دستورية) متفق عليها مسبقا، ومتى ما توفرت تلك القواعد اكتسب النظام شرعيته. مثال ذلك ان يحكم النظام وفق دستور متفق عليه، وان يصل الى الحكم عبر اسلوب مقنن ومتفق عليه ايضا مثل الانتخابات. المعنى الثاني legitimacy يشير الى شرعية اخلاقية لا تُستمَد من الدستور او القانون فحسب، وانما ايضا من الالتزام بقيم انسانية، سياسية واجتماعية اتسمت بالعالمية، او بقواعد سلوكية اجمع عليها الناس. من ذلك احترام حقوق الانسان بمعناها الواسع، سيادة حكم القانون، التزام قواعد الحكم الصالح ومنها الصدق والشفافية. الفشل التاريخي للديمقراطية في السودان كان بسبب اختزالها في المعنى الاجرائي، دون ادنى اعتبار للجانب الجوهري او المعنوي الاخلاقي. ..... رغم ان الالتزام بهذه الاحكام هو وحده الذي يعين على ترسيخ الديمقراطية واستدامتها ".

    ويتمثل جوهر مفهوم الشرعية بقبول الغالبية العظمى من المواطنين لحق الحاكم في ان يحكم، وهذا القبول من عدمه يجري في ظروف شفافه وليس عن طريق الاذعان، وقد عالج عالم الاجتماع الالماني (ماكس فيبر) منذ قرن تقريباً ارتباط مفهومي الشرعية والسلطة. وفى راى فيبر ان هناك ثلاثة مصادر للشرعية:

    اولا: التقاليد: هي المعتقدات والعادات والاعراف المتوارثة التي تحدد الاحقية بالسلطة، ويدخل ضمن هذا المصدر المعتقدات الدينية أو القبلية أو العائلية ، وفي المجتمع العربي الاسلامي كانت الاية القرانية الكريمة "واطيعوا الله والرسول واول الامر منكم" وغيرها من الايات، وما اضفى عليها الفقهاء من اجتهادات هي المصدر التقليدي التي استندت عليها الخلافة الاسلامية.

    ثانيا: الزعامة الملهمة (الكاريزما):يرتبط هذا المصدر بشخصية القائد او الزعيم وتأتي من اعجاب المواطنين بصفاته الحميدة وما يجسده من مثل عليا او لانه يرعى مصالحهم ويوفر لهم الامن والاستقرار ويتفانى في سبيل شعبه ووطنه.

    ثالثا: العقلانية القانونية: ويستند هذا النوع من الشرعية على قواعد قانونية تحدد واجبات وحقوق المحاكم ومعاونيه وطريقه مل المناصب واخلائها وانتقال السلطة وتداولها، ويوازي ذلك بتداخل حقوق وواجبات المواطنين وعلاقتهم بالسلطة الشرعية، ويطلق على هذا النوع من الشرعية في ادبيات العلوم الاجتماعية والسياسية والقانونية المعاصرة، بـالشرعية الدستورية او الشرعية المؤسسية أو الشرعية القانونية. ((حكمت حكيم، الحوار المتمدن - العدد: 892 - 2004 / 7 / 12 )
    والذي يجعل السلطة شرعية في نظر ماكس فيبر هو النوع الثالث فقط لانه فعل إرادي عقلاني، أما القبول بسلطة قائمة لمجرد الاعتياد التقليدي أو الكاريزما الخطابية فهو ليس فعلا عقلانيا، ولا يُكسب السلطة شرعية سياسية. وقد حاولت الرؤى الشيوعية والقومية اعتماد الأداء الاقتصادي والاجتماعي الفعال، فقدمت للمجتمع صفقة للتنازل عن الحرية السياسية مقابل الرفاه الاجتماعي. وتحاول كل الانظمة السياسية -مهما طغت- ان تبني لها شرعية سياسية، بحيث يكون خضوع الناس بالاقتناع لا بالقهر. فان فشلت في ذلك لجأت إلى أساليب غير شرعية للتعويض عن شرعيتها، مثل القهر القمعي، والتضليل الدعائي، والبذل المالي لشراء الذمم والضمائر. لكن للشرعية السياسية الحقيقية ثمراتٍ لا توجد في الشرعيات الزائفة، ومن هذه الثمرات انها تستبدل بالإكراه المادي إكراها معنويا نابعا من إرادة المجتمع، وبالإلزام القسري التزاما طوعيا تمليه فكرة التعاقد، ان المجتمعات التي تقودها سلطة شرعية يسودها لحد كبير السلم الاجتماعي والانسجام، وهما خاصيتان ناتجتان عن انبثاق الدولة من المجتمع، وصدورها عنه في سير عملها، وإمكانية التداول السلمي للسلطة دون إثارة صراع داخلي يمزق لحمة المجتمع ويعوق مسيرته "الدولة المنسجمة"، واخيرا فان الشرعية عاملا من أهم عوامل القوة في المجتمعات البشرية "فالشرعية هي أيضا شكل من أشكال القوة" (محمد بن المختار الشنقيطي: النظام الرسمي العربي بين شرعية البناء وفاعلية الأداء، http://www.aljazeera.net )

    ثالثا: أزمة المشاركة: ثقافة الاقصاء

    اورد هنا مقطعا مطولا من مقال د. عبدالوهاب الافندي يوضح ما نرمى الية: ففي كل النظم غير الديمقراطية، هناك طبقة حاكمة تمارس السيادة على بقية اهل البلاد الذين لا يرتفعون بهذا السبب عن مقام الرعية. ففي الدول الملكية، تنحصر السيادة في الاسرة المالكة، وفي النظم الاستبدادية تكون للحاكم الفرد، وفي الاوليغارشية، تكون السلطة للاقلية الحاكمة، وفي الارستقراطية يكون الامر لطبقة النبلاء، وهكذا. اما الديمقراطية فهي النظام الوحيد الذي يكون فيه كل المواطنين (نظريا على الاقل) اعضاء في الطبقة الحاكمة، ومتساوين في المواطنة. وعليه فان اي سلطة فعلية تنفيذية او تشريعية تكون خاضعة لسلطان جماعة المواطنين، وخادمة لهم لا سيدة عليهم. ولا بد ان تبرر هذه السلطة كل اعمالها للشعب، وتكون خاضعة للمساءلة امامه، وبالتالي للخلع والابعاد اذا لم يرض عنها الشعب. وهذا هو مقتضى مقولة حكم الشعب لنفسه. (د. عبدالوهاب الافندي: ضروب الاقصاء ومطالب المواطنة: حديث مستانف حول اشكالات بقاء الدولة السودانية فى موقع الراكوبة
    عن القدس العربى اللندنية ،تاريخ 23-11-2010 )

    نود ان نبدا الاشارة هنا الى احدى السمات العامة التى حكمت ولازالت تتحكم بالحياة السياسية السودانية بميسمها الاليم و سنطلق عليها ثقافة الاقصاء ونقصد بها هنا المعنى السياسى واقرب المعانى لما نقصد جاء فى مقال لسيد يوسف، الحوار المتمدن - العدد: 1516 - 2006 / 4 / 10 " الرغبة الجامحة لفئة او شريحة ما للاستئثار بالسلطة، التي تؤدي الى رفض الاخر والغائه وادعاء العصمة والكمال والبراءة والنظافة، وربما يلعب التحجر الايديولوجي دورا في انتشار ظاهرة الاقصاء وتسيدها، اذ يؤدي احتكار الحقيقة والصواب وادعائهما، الى الاقصاء والالغاء بل حتى التكفير، ناهيك بتراجع دور مؤسسات المجتمع المدني تربويا واعلاميا وثقافيا، وتعرض هذه المؤسسات نفسها لاليات الاقصاء والالغاء. http://www.ahewar.org.
    تناول الاستاذ محمد عثمان مكي العجيل الموضوع فى السودان من مدخل حوار الثقافات فى كتاب شيق دسم: وارجع ان اهمها الطبيعة غير الديمقراطية لنشاة الحركة الوطنية . حيث لم تتشكل الحركة الوطنية في بلادنا من خلال المعارك السياسية التي قادتها الجماهير، بقدر ما نشات من وسط النخب المثقفة التي تميزت بالاتكالية. فهي اولا اعتمدت على الجماهير الجاهزة المنظمة في الكيانات الطائفية الدينية ( الختمية والانصار) وثانيا كان اعتمادها في الدعوة لشعاراتها على قوى الاحتلال نفسها ( وحدة وادي النيل تحت التاج الملكي او مؤسسات الاستعمار البريطاني من مجلس تشريعي الي جمعية تشريعية). كما يرى ان اليسار رغم انة كان يبحث عن جماهير اكثر حداثة وقوة ( الطبقة العاملة ) ويدعو لشعارات اكثر عملية واستقلالية ( الاستقلال وتقرير المصير). الا انه كان يستلهم تجاربا لا تشبه تجارب الشعب السوداني وبالذات في قضية الوحدة الوطنية مثل تجربة بناء الاتحاد السوفيتي التي تعتبر ضمن افشل التجارب السياسية في مجال حل قضية التعدد القومي والثقافي والعرقي (محمد عثمان مكى العجيل: خواطر فلسفية: مرجع سابق)

    ثقافة الاقصاء فى السودان ليست حصرا على تيار بعينة لكنها طالت كل التيارات والشخصيات. لقد ادى الاقصاء لنتائج كارثية على كافة التيارات واثر على مسارات تيارات باكملها وعلى مسار الوطن باكملة. وسوف نتناول بالتفصيل مواقف الاقصاء او المحاولات الكبرى فى السياسة السودانية بدأ من الشخصيات: البية عبد اللة خليل والتيارات: الحزب الشيوعى واخير اقصاء المكونات القبلية والجهوية غير العربية فى الوطن والتى كانت دافعا لتغيرات حاسمة اثرت على مجرى الاوطن بكاملة.

    البية عبد الله خليل

    مشوار طويل سارة البية منذ تخرج في قسم الهندسة كلية غردون التذكارية - بالتحاقه بالمدرسة الحربية في عام 1908م والتي تخرج فيها بعد عامين. ثم اصبح عضوا في اللجنة العسكرية لحركة اللواء الابيض. الشعور بالمرارة من تقاعس الاورطة المصرية بالسودان عن نجدة مناضلي اللواء الابيض عندما امطرتهم القوات المسلحة الانجليزي بوابل من الرصاص ، كان لها اثر كبير على مستقبل حياته السياسية اذ قلب عبد الله خليل وآخرون ظهر المجن لساسة مصر. انضم الى مجموعة العشرة الاوائل الذين سعوا لانشاء اندية الخريجين كملتقى يتشاور فيه الخريجون في امور بلادهم. ولكن تم نقله الى القيادة الاستوائية حتى يكون بعيدا عن المناشط السياسية. ولكن عند اشتداد ا########س في الصراع السياسي بين توجهين: استقلال السودان عن كل من مصر وبريطانيا، والاتحاد مع مصر، قرر عبد الله خليل ترك موقعه في أعلى رتبة بلغها ضابط سوداني: الأمير لاي، فحتى ذلك التاريخ كانت أعلى الرتب التي حازها الضباط السودانيون هي رتبة القائمقام، اعتزاز عبد الله خليل بعسكريته هو الذي جعله- حتى وهو رئيس للوزراء- يحرص على الإشارة إلى رتبته العسكرية في اللافتة التي وضعها أمام باب منزله. وعند انشاء حزب الامة تم اختيار عبد الله خليل كأمين عام للحزب وظل الرجل الاول في الحزب حتى فبراير 1949م عندما انتخب الصديق المهدي رئيسا لحزب الامة. (د. منصور خالد: في الذكرى الاربعين لرحيل الأميرلاي عبدالله خليل، الصحافة، التاريخ: 30-ديسمبر-2011 ). ان البية حين احس ان الحزب الذى انشأة سوف يعيد تحالفة مع الازهرى وسوف يطيح بة، وهى نفس اللعبة التى لعبها حزب الأمة في 1956 لشق وحدة الحزب الوطني الاتحادي وذلك بالتحالف مع حزب الشعب الديمقراطي في حكومة عبد الله خليل الائتلافية. " يؤكد عضو المجلس العسكري النوفمبري أحمد عبد الوهاب أن عبد الله خليل قد خطط بالفعل لذلك الإنقلاب، بل وأتي لوزارة الدفاع في يوم 16 نوفمبر (اليوم السابق للإنقلاب) وقال لكبار الضباط: "ربنا يوفقكم" بعد أن تأكد من قيام الانقلاب في اليوم التالي. بيد أن الشهادة التي قيل أنها "تثبت" أن انقلاب 17 نوفمبر انقلاب مدبر من قبل عبد الله خليل (وربما حزبه) هو ما قاله الفريق عبود نفسه إذ تحدث (ولم يعرف عنه كذباً صراحاً من قبل) عن أن عبد الله خليل دعاه للحضور لمقابلة السيد الصديق المهدي لمناقشة الأوضاع الحالية، ثم قابله مرات عديدة من بعد ذلك محاولاً إقناعه بحاجة البلاد للإنقاذ، وقال بلغة دارجة ما نصه: "عبد الله كان يجري ورانا عشان تنفيذ الانقلاب"، وبما أنه كان ضابطاً ملتزما، فلقد التزم بتنفيذ "أوامر" وزير الدفاع الذي هو رئيسه الأعلى! (في 17 نوفمبر: هبَّ الشعب وطرد جلاده .. بقلم: بدر الدين حامد الهاشمي’ سودانايل)

    حل الحزب الشيوعى السودانى

    مثلت ثورة اكتوبر 1964 و بروز الجبهة الوطنية للهيئات اول الفرص الحقيقية الضائعة فى بدء دولة مستدامة اذ ان قوى مدنية جديدة ظهرت بقوة على الساحة السياسية وتبنت ميثاقا فضفاضا وتضمنت شعارات عامة قابلة للتطور لبرنامج حكم عملي- اى برامج الحد الادنى المعتادة فى هذة المواقف التاريخية المفصلية- عندما لم يتم الوصول الى تعاقد بين القوى كافة حول القضية الجوهرية من يحكم وليس كيف يحكم السودان؟. ما جرى هو الاقصاء حاولت القوى المدنية الجديدة تطبيق يرنامج الحد الاقصى وتربصت بها القوى التقليدية الدوائر وحققت برنامجها الاقصى.

    جاء فى شهادة الدكتور جعفر كرار ممثل الجمعية البيطرية ورئيس الجبهة " تكونت جبهة الهيئات بعد الاربعاء 21 اكتوبر 1964 بمبادرة من اساتذة جامعة الخرطوم واتحاد طلابها بعد استشهاد القرشي وتبلورت الفكرة بعد صلاة الجمعة الموافق 23 اكتوبر 1964 وتشييع جنازة الشهيد القرشي. وفي صباح السبت 24 اكتوبر 1964 انعقد اجتماع ممثلي اكثر من عشر هيئات. وفي يوم الاثنين 26 اكتوبر 1964 اجتمعنا كممثلين لهيئات مختلفة في مقر الجمعية الطبية وحضر هذا الاجتماع عدد كبير من الممثلين وفي هذا الاجتماع ظهر فعلا اسم جبهة الهيئات". ويلاحظ الدكتور جعفر " كونت الاحزاب السياسية القديمة جبهة متحدة ضمت في عضويتها كل من حزب الامة والحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي وجبهة الميثاق الاسلامي كانت تتجمع في قبة الامام المهدي في امدرمان " ( كافة الشهادات جاءت بجريدة الصحافة، العدد رقم: 5297، 2008.3.18 )
    ويرى الدكتور احمد السيد حمد: وقد كان لانعقاد تحالف جبهة الهيئات والتي كانت بمناى عن المؤسسة التقليدية بالغ الاثر في صيرورة الاحداث بعد ذلك فقد تبنى ذلك التحالف التقدمي برنامجا راديكاليا اهم بنوده احتكار الدولة للتجارة الخارجية وتأميم المصارف والشركات ومزارع القطن الخاصة، وقد استمد التحالف قوته من العمال والطبقات الوسطى، ونسبة لموقفها الحرج كونت الاحزاب السياسية القديمة جبهة متحدة. ( كافة الشهادات جاءت بجريدة الصحافة، العدد رقم: 5297، 18.3ز2008)

    ابو الزهور خرق الدستور

    فى ندوة معهد المعلمين الشهيرة التي نظمها الاتجاه الاسلامي 9/11/1965 وتحدث فيها كل من يوسف الخليفة ابوبكر وسعاد الفاتح وادارها محمد احمد الفضل "ووقف طالب بالمعهد واساء الى السيدة عائشة رضي الله عنها مذكرا الحضور بحديث الافك الشهير في التاريخ الاسلامي وقبل ان يترك الطالب المنصة وقفت السيدة سعاد الفاتح وصاحت وا سلاماه!! بصورة متكررة وانفضت الندوة عندها . (الصحافة العدد رقم: 5297 بتاريخ 2008-03-18 ، مذكرات مدير الرقابة والامن السابق بالحزب الشيوعي السوداني :محمد احمد سليمان، الحلقة العاشرة). كان رد فعل الاطراف الضالعة فى الحدث " وفجر الحديث مشاعر غاضبة وسط جمهور الطلبة، واصدرت تنظيماتهم بيانات تدين الطالب وتطالب بمعاقبته. كما اصدرت رابطة الطلبة الشيوعيين بيانا وضحت فيه ان الطالب ليس عضوا في الحزب الشيوعي. ارسل السيد عبدالخالق محجوب خطابا للسيد وزير الداخلية انكر فية عضوية الطالب لحزبة وان ما جاء على لسان الطالب يقابل منهم بالاستنكار التام وان الحزب الشيوعى السودانى يحترم عقائد السودانيين ويحترم الاسلام بصفة خاصة . (معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني. دكتور محمد سعيد القدال، الناشر دار الفارابي بيروت).

    رواية قريبة يوردها د. عبد الله على ابراهيم لكن عن السيد علي عبد الله يعقوب: انه ما ان سمع بما فاه به طالب معهد المعلمين المنسوب للشيوعية عن حادث الافك في الندوة المشهورة في شتاء 1965 ، قال ان هذا كفيل بحل هذا الحزب الشقي. وقصد من ساعته السيدين عبد الرحيم حمدي، محرر جريدة الميثاق الاسلامي، وعبد الله حسن احمد، المسئول عن الحركة بجامعة الخرطوم، فما زادا ان قالا ان هذا مما يحدث في الندوات فلا تثريب. وهذا قول استفاداه من حداثة الحركة واعترافها بالراي الاخر حتى لو امض في القول. ولكن علي عبد الله، الازهري ومعلم اللغة العربية والدين الذي ذاق الامرين من حزازات الغرب التي الشيوعية هي اعلى مراحلها، لم يستسلم ل "حذلقة" رفيقيه ومضى الى المعهد العلمي يلوى على شيء وهو استجابة المعهديين لاخيهم لا يسالونه على ما قال برهانا. وسارت الامور كما ارادها على عبد الله يعقوب، ممن ظل الدكتور الترابي يرميهم ب "محافظي الحركة"، لا كما ارادها حمدي وعبد الله حسن احمد من محدثي الحركة الذين ارتضوا الديمقراطية لهم وعليهم.. (الحركة الاسلامية بين الانفتاح والانغلاق: د. عبد الله على ابراهيم: ورقة قدمت لسمنار "قضايا واشكالات الدولة الاسلامية المعاصرة" الذي نظمته الدكتورة هويدا العتباني بتكليف من مؤسسة فردريش ايبرت بالخرطوم في اغسطس 2006 ) .

    وفى افادة عبد الرحيم حمدي في برنامج تلفزيوني بعد الانقاذ وهو رئيس تحرير جريدة الميثاق الناطقة باسم الاسلاميين انذاك: انة تعامل معها باعتباره حديث طبيعي في المنابر الجامعية ولكن بعد استقبال اسماعيل الازهري للمظاهرة بحماس وقوله انه سيقود المظاهرات لحل الحزب الشيوعي ادرك ان الامر يستحق التصعيد وان من الممكن التفكير في حل الحزب الشيوعي، فاعلنت جريدة الميثاق استنكارها للحديث متاخرة. واذا اعتبرنا ان التظاهرات في كل انحاء السودان، والتى نادت فية قيادة جبهة الميثاق الاسلامي بضرورة حل الحزب الشيوعي السوداني، طبيعيا فى ظل المنافسة السياسية بين حزبين عقائديين يودان الاطاحة ببعضيهما فماذا دفع بالاحداث لتبلغ هذا االشان الخطير؟

    نستعين هنا بروايات توثيقية مختلفة، دكتور محمد سعيد القدال: طافت تلك المظاهرة شوارع امدرمان الرئيسية وانتهت عند منزل اسماعيل الازهري الذي قام بمخاطبتها واعلن بانه لم يقرا في حياته كتابا شيوعيا ولكنه يعرف بان الشيوعية الحاد وكفر بالله وحرض الناس على المضي قدما في التظاهر حتى حل الحزب الشيوعي السودانى وتصاعد الموقف يوم الجمعة عندما خرجت عدة مظاهرات نظمها الاخوان في امدرمان بعد الصلاة. واتجه المتظاهرون الي منزل اسماعيل الازهري رئيس مجلس السيادة. فخطب فيهم مؤكدا ان الحكومة والجمعية التاسيسية ستضع حدا لهذا الفساد، وان لم تفعل فانه سينزل معهم الي الشارع لتطهير البلد. وكان ذلك منعطفا حاسما وخطيرا في تطور الازمة. فدخول ازهري بثقله السياسي وبشعبيته حمل المعركة خارج قدرات الاخوان المسلمين المحدودة. كما ان ازهري قرر ما ستتخذه الجمعية التاسيسية بالنسبة للقضية قبل طرح الامر عليها. ودخل ايضا الامام الهادي الي المعركة واستدعي مجموعات من الانصار الي العاصمة. نواصل مع دكتور محمد سعيد القدال لنرى الذي حدث: " اجتمعت الجمعية التاسيسية في 15 نوفمبر 1965 وبدات سلسلة الاجراءات العجولة. وفي جلسة 17 نوفمبر تقدمت الحكومة بمشروع قانون لتعديل المادة الخامسة من الدستور في مرحلة القراءة الاولي في جلسة 18 نوفمبر. ثم عرض المشروع للقراءة الثانية ومرحلة اللجنة في جلسة 22 نوفمبر واجيز باغلبية 145 ومعارضة 25 وامتنع عضوان. (دكتور محمد سعيد القدال: مرجع سابق)

    ناقش الازمة من جانب اخر الاستاذ الخير عمر احمد سليمان فى كتابة القرار السياسي في السودان تاريخ 2005م والذى قدمة بعرض سلس ممتاز د. عوض ابراهيم عوض استاذ الاعلام بجامعة افريقيا العالمية: حيث اورد الكاتب ان قرار حل الحزب الشيوعي السوداني قد اتخذ بعد تمرحل المسالة بشكل سريع بدأ بحادثة المعهد (العارضة) الذي تطور الى رفع الامر للبرلمان الذي قرر حل الحزب، وسرعان ما رفع الامر الى المحكمة الدستورية التي قضت ببطلان الحل. وقد ناقش هذه الاشكالية المطروحة من خلال صفحات الكتاب منطلقا من فرضية ان اتخاذ القرار السياسي في السودان يتم خارج المؤسسات وبتاثير جهات اخري وليس عبر مؤسسات السلطة الرسمية المنصوص عليها دستورا من خلال السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية . يعتبر قرار حل وطرد نواب الحزب الشيوعي من القرارات التي اثارت جدلا واسعا وخلقت ازمة سياسية في حينها والقت بظلالها على الفترة التي تلت التجربة البرلمانية الثانية وتباينت زوايا النظر للهدف من ذلك القرار. (عرض د. عوض ابراهيم عوض استاذ الاعلام بجامعة افريقيا العالمية، جريدة الصحافة، العدد رقم: 5297، و)2008-03-18 ).

    وبذلك انزلقت البلاد الى اتون معارك ساخنة لصون الديمقراطية، كان القضاء احد ساحاتها. فأصدر حكماً ببطلان قرار طرد النواب الشيوعيين. صدح به القاضي الجليل صلاح حسن، وقدم لقراره بحيثيات ناصعة تنم عن علمه الواسع ونزاهته، التي أصبحت وسماً لاستقلال القضاء السوداني، يهفو إليه طلاب الديمقراطية الليبرالية ومبدأ فصل السلطات في الدولة. إلا ان رئيس الوزراء انذاك، السيد الصادق المهدي بمساندة الامام الهادي المهدي والدكتور حسن الترابي ورئيس مجلس السيادة اسماعيل الازهري رفضوا الانصياع لقرار المحكمة العليا.

    ويواصل الامام الصادق المهدى فى خطابة فى الاحتفال الذي نظمته اللجنة القومية يوم 25/12/2005م بمناسبة عيد ميلاد السبعين: كان الرئيس اسماعيل الازهري قد استشعر خطر الحزب الشيوعي على قواعده خصوصا عندما فاز السيد عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي على السيد احمد زين العابدين في دائرة الازهري بامدرمان شمال بعد ان تركها لدي انتخابه رئيسا لمجلس السيادة، استقبل الرئيس الازهري المظاهرات وايد مطالبها هذا الاتجاه ايده الامام الهادي المهدي بشدة وفي الظروف السائدة غلب هذا التيار على النواب ونفذت المطالب.

    عهود عدم المحاكمه

    السمة العامة الثانية من السلوكيات الغير ديمقراطية التى حكمت وستحكم الحياة السياسية السودانية بميسمها الاليم حتى نعالجها سنطلق عليها ثقافة عهود عدم المحاكمه. وقد اورد الباحث القانونى الضليع السيد محجوب ابراهيم حسن: ان حكومة اكتوبر شكلت لجنة تحقيق قضائية لمعرفة الاسباب التى ادت الى استيلاء العسكر على الحكم، الا ان الحزبين الكبيرين والاخوان المسلمين كانوا قد سارعوا لاعطاء عهد للعسكر بعدم محاكمتهم دون تفويض من احد. وقد تذرع المعاهدون بان ما قاموا بة نبع من اعتبار دينى. ويرجع الباحث الاسباب الحقيقية لرغبة هولاء فى حماية رؤؤس حزبية تورطت مع النظام، والخشية من زيادة شعبية جبهة الهيئات وسبب اخر- مبنية على ادلة ظرفية لاحقة- ان جماعة الاخوان المسلمين كانت اخترقت القوات المسلحة وفى استراتيجيتها الاستيلاء على السطة مستقبلا. (محجوب ابراهيم حسن: التشريع والتطور الديمقراطى فى السودان (حتى مايو 1969) ضمن ابحاث ندوة تقييم الديمقراطية في السودان، 4-6 يوليو 1993 مركز الدراسات السودانية فى القاهرة )

    تجارب العالم الاخرى ترينا ان هذة كانت احدى الفرص الضائعة فى تاريخنا، اذ فشلت الاطراف المكونة للفضاء السياسى من القوى المدنية الجديدة - نقابات، منظمات اهلية...الخ والاحزاب المختلفة الرؤى على التأكد من معالجة الظروف البنيوية و التكوينات الهيكلية التى تساعد على نجاح المحاولات الانقلابية وهناك تجارب عالمية كثيرة فى هذا المجال. بدلا من ذلك اتجهت القوى السياسية الى مظاهر استعراضية فارغة وغير مجدية كما حدث فى وثيقة الدفاع عن الديمقراطية ما بعد انتفاضة 1985 والتى يعلم الجميع انة عندما تتحرك الدبابات فهو يتحول الى خرقة بالية لايعبا بها احد وهذا ماحدث. لربما لو كان تم هذا لكنا استاصلنا شآفة المتلازمة السياسية السودانية ووضعنا الاساس لبناء ديقراطى مستدام

    اولا: لم تتم اى محاسبة تاريخية للانقلاب ونقصد بها ليس المحاكمة الجنائية والعقاب (والذى يتم علية اتفاق موضوعى يراعى منظومة القيم السائدة) ولكن المحاكمة السياسية للتمرد فى شكلة العسكرى ويطال الذين قصروا فى حماية الدولة انذاك. الانقلابات اسبابها سياسية ولكن تنفيذها تقنى وتتعلق بظروف تقود الى التمرد العسكرى فى المجال التقنى. اولا: ظلت القوات المسلحة كما تركها الاستعمار ولم تعالج الثغرات التى تتسرب منها الافكار الانقلابية ووسائل تجميع الانصار والتحرك الميدانى؛ ثانيا: تركت معالجة مسائل العقيدة القتالية لجزء مهم من تكوين الدولة ومسلح معرض لاختراقات حزبية واقليمية ودولية او فى يد العسكر نفسة؛ ثالثا: ترك الهيكل التنظيمى الذى يركز السلطة فى يد المنظومة العسكرية، واخرجت ميزانيتة من النقاش العام وترك وزير الدفاع المدنى بلا اى عمق معرفى حقيقى بما يجرى فى داخل هذا الجهاز؛ رابعا: لم يتم اخضاع المؤسسات الامنية والعسكرية لاى تغييرات هيكلية وتنظيمية وتمويلية تحد من تدخلها فى الحياة السياسية ومن امكانيات تحركها- الملاحظ ان كافة المؤسسات الموروثة من الزمن الاستعمارى حافظت على ابنيتها- وهذا ليس سيئا فى حد ذاتة ولكن مع التحديث المطلوب والذى يبلغ احيانا التغيير الكامل. ويقدم القوات المسلحة السودانى حالة نموذجية على ثبات الحال فهو رغم اقتلاعة من السلطة بثورتين ظل كما هو فى هياكلة، تراتبيتة، تنظيمة، توزيعاتة بل وحتى تواجده الجغرافى فى المدن الكبرى والاهم من ذلك فى ردود فعلة تجاة التمردات المتوقعة .
    وقد عبر اخر رئيس وزراء منتخب ديمقراطيا الامام الصادق المهدى عن هذة الحالة المربكة " أثناء الفترة الانتقالية القوات المسلحة عملت لنفسها قانوناً أشبه بالنقابة، وهذا يجعل وزير الدفاع أشبه بالمناوب ما عنده أية صلاحيات ونحن عندما وصلنا للسلطة أول ما فكرنا فيه هو تغيير القانون، وفي هذا الموضوع ظهرت مناورات، فالاخوة في الحزب الإتحادي ما كانوا متجاوبين لانهم يفتكرون ان وزارة الدفاع مع حزب الأمة، فأي تغيير يمنح وزير الدفاع صلاحيات أكبر هم ما عاوزنو، ولذلك أخذنا وقتاً طويلاً نفكر في هذا الموضوع وشكلنا لجنة جاءت بالقوانين من كل العالم حتى نتمكن من عمل مشروع قانون يحل محل القانون الذي أتى من الفترة الانتقالية وهو يمنح صلاحية أكبر للقوى المدنية". (الامام الصادق المهدي في حوار الخاص والعام - صحيفة الوطن، 13 مارس 2012 )

    ثانيا: يمكن ان نلاحظ بلا اى تفرس فى الفضاء السياسى حرية انتقال الافراد والمجموعات بين مختلف الانظمة بدون قيود. عرف السودان فى تاريخة الحديث مسائل العزل السياسى فى مايو حيث طبقت العزل السياسى على نطاق ضيق اما الانقاذ فقد استعملت الابعاد الامنى والتهديد والاستئصال السياسى. حاولت الحكومة التى شكلت بعد انتخابات 1986 برئاسة السيد الصادق المهدى المضى فى اجراءات العزل السياسى لمن اسموا سدنة مايو، لكنها سرعان ما تراجعت لموقف الحزب الحليف فى الحكومة الاتحادى الديمقراطى من تعريض عدد من قادتة العائدين من مقاعد القيادة المايوية الى الوزارات الديمقراطية للمسائلات. انتهى التراجع الى اعادة الدكتور الترابى الى وزارة العدل، المنصب الذى شغلة فى مايو فى الحكومة التى اسميت بحكومة الوفاق بعد حل الحكومة الثالثة فى ظرف اقل من ثلاثة اعوام؟؟.

    ثالثا:عندما ارادت ثورة اكتوبر معالجة الموالين للحكومة السياسية ابتدعت ما سيدخل التاريخ السودانى كاحد اسوأ الممارسات التى اضرت بالوطن ما عرف بالتطهير والذى طور بعد ذلك الى الفصل للصالح العام واستعملتة الحكومات العسكرية والديمقراطية بلاهوادة. عندما تصدت حكومات ما بعد االانتفاضة 1985 عقدت ما سميت بمحاكمات رموز مايو وهذا جيد، المؤسف انها لم تعالج مسالة توفير احتياجات الاحتكام للقضاء لرد الحقوق وحل الظلامات فى مجتمع قليل الفعالية القانونية، والمحاسبة القانونية فى تجاوزات الخدمة المدنية وتطبيق القانون وتكوين لجان محايدة للتحقيق فى دعاوى الفساد. والاخطر من ذلك انها لم تمس بنية النظام السابق.

    ثقافة تاييد الانقلابات

    السمة العامة الثالثة سنطلق عليها ثقافة تاييد الانقلابات والتى تباينت اسبابها والعلة واحدة. نبدأ بان هناك اختلافات جذرية تحدد موقف الاحزاب الليبرالية فى تعاملها مع الانقلابات. فهى بداية ليس لديها تنظيمات داخل القوات المسلحة –مثل الاحزاب العقائدية- ولكن لديها عناصر تنتمى تاريخيا او سياسيا لهذة الاحزاب، ولكن لاتستطيع ان تتجمع فى تنظيم انقلابى لان هذا يعتبر تناقضا اساسيا مع تبنيها الديمقراطية. وتقوم قاعدة الانقلابات ضمن اسباب كثر على ان الاحزاب لا تطرح برنامجا مقنعا لجماهير الوطن، غير الديمقراطية والغرق فى نقاشات مطولة وبيزنطية حول الدستور الاسلامى، لاحل لقضاياة الاساسية من الفقر والتهميش والتنمية والتقدم. لذا عندما تنطلق الموسيقى العسكرية لا تجد هذة الديمقراطيات بيت عزاء واحد، وبالعكس فان الشارع السودانى يراودة بعض امل من ان يحقق لة النظام الجديد بعض ما يطمح الية. الامر الاهم ان تمويل هذة الاحزاب مرتبط جذريا مع جهاز الدولة، فالدولة هى المتحكمة فى اغلب العمليات الاقتصادية قانونيا واداريا من تراخيص اراضى وانشطة تجارية وتمويل بنوك...الخ. ويعتمد ربط كثير من القيادات القبلية والمناطقية والعناصر الراسمالية عن طريق التسهيلات التى تمنح لهم وعند تغير النظام الديمقراطى الى النظام الديكتاتورى يستعمل نفس السلاح فى اغراء واستمالة العناصر الموالية للاحزاب او الحرمان من هذة التسهيلات.

    الموقف من عسكر السودان

    ياتي موقع المؤسسة العسكرية ضمن مؤسسات الدولة غير السياسية، نظرا لكونها تقوم بوظيفة غيرسياسية قوامها الذود عن ارض الوطن ضد اي اخطار قد تهدد امنه واستقراره واستمراره، بعبارة اخرى هي مؤسسة ادارية بحته وفنية صرفه ينحصـر دورها في ادارة الحرب دون اتخاذ قرار الحرب ذاته، ذلك ان قرار الحرب يعد عملا سياسيا من اختصاص المؤسسات السياسية ولاسيما التشريعية منها، بينما تقع مهمة اختيار الطرق الفنية المناسبة لتنفيذ هذا القرار على عاتق العسكريين، لذلك يمكن القول ان المؤسسة العسكرية هي مؤسسة ادارية يتولاها فنيون مهمتهم تنفيذ قرار الحرب وليس اتخاذه (فتحى سيد فرج: الحكومات العسكرية في العالم العربي، الحوار المتمدن - العدد: 2625 - 2009 / 4 / 23 )

    الانقلابات شائعة في جوار السودان الافريقى والعربى، فبين عامى 1952 و 2000 ، شهدت ثلاث وثلاثون بلدا 85 محاولة معروفة. وكانت معظمها ضد الانظمة المدنية ولكن 27 منها كانت ضد انظمة عسكرية. وقد تراجعت الانقلابات فيما بعد 2000 الى حوالى الخمس محاولات. وقد حدثت انقلابات عسكرية في جميع الدول العربية قاطبة باستثناء لبنان، منذ استقلال هذه البلدان حتى الان، وقد شهد بعضها اكثر من انقلاب، وربما كانت الانقلابات العسكرية العربية فاتحة عهد ومثالا لبلدان العالم الثالث التي اقتبست النهج العربي في الانقلابات، فقد استهلت العراق الانقلابات العسكرية عام 1936 ثم تلتها سوريا 1949 و مصر 1952 والسودان 1958.

    كما نال السودان استقلالة كاوّل بلد افريقي جنوب الصحراء، نال كذلك سبق ان يكون اول بلد يحدث فية انقلاب فى افريقيا جنوب الصحراء. وقد عد ذلك فى حينة مجافيا للتقاليد البريطانية النى اسس عليها القوات المسلحة السودانى (الانقلابات العسكرية فى السودان- د. حسن الحاج على احمد – جامعة الخرطوم –ورشة التنوير المعرفى). كغيرة من دول العالم الثالث عامة و الاقطار الافريقية خاصة عانى السودان مما سمى الدائرة الجهنمية، الدائرة الشيطانية و الدائرة الشريرة من الانتقال من الديقراطية النيابية الى الحكم العسكرى العسكرية، او كما وصفها د. منصور خالد بمتلازمة التناوب المدني - العسكري للحكم عبر الانقضاض الجماهيري على الحكم العسكري عَبر ما درجنا على تسميته باالانتفاضة اى العصيان المدني والاضراب العام ، ثم انحياز القوات المسلحة الى الشعب، اما كقوة مساعدة داخل القوات المسلحة (اكتوبر 1964م) او بمشاركة مباشرة (ابريل 1985م) و يتلو ذلك تحقيق التحول الديمقراطي عبر نظام يقوم على الديمقراطية التعددية واسترداد الحقوق المدنية (حرية التجمع، حرية التعبير، حرية الضمير)، ثم التداول السلمي للسلطة (الانتخابات). (التغيير السياسي في السودان -صحيفة الاخبار السودانية- Sunday, 07 June 2009).

    واكب تطورعسكر السودان تطور الرؤية السودانية وتقلباتها فمن جيش غازى تأثر بايقاع الحياة السودانية وتنامى الروح الاستقلالية الى جيش محترف حتى تسلم السلطة فى 1958 ولكن ظل على احترافيتة حتى انقلاب مايو 1969. بدأت التحولات الجوهرية منذ الانقلاب حيث ساد الولاء للنظام مع استمرار تقاليد الاحتراف حيثما كان لايتناقض مع الولاء. الانتقال الحاسم جاء مع انقلاب الانقاذ والذى طبق الولاء للحزب بشكل نهائى وضرب عرض الحائط باى تقاليد احترافية فى الادارة والتنظيم.
    من الغزو الى الاحتراف (1925-1969)

    كان ثلث القوات المسلحة الذى غزا السودان ستة كتائب من المحاربين السودانيين الاشداء الذين تم تجنيدهم عبر السنوات من الرقيق الذين تم اسرهم من المناطق المختلفة فى السودان. وقد كان لهولاء القدح المعلى فى قيادة الحركة الوطنية ما بين الحرب العالمية الاولى حتى 1925. هذا التلاقى و التداخل والتاثير بين الحركة السياسية و القوات المسلحة السودانى – والذى سيظل سمة تلازم فضاء الحياة السياسية السودانية منذاك ولاحقا- دفعت المستعمر لانشاء قوة دفاع السودان 1925 كنسخة محلية من القوات المسلحة البريطانى ولتدين بالولاء والطاعة لحاكم عام السودان وعزلها عن التجمعات المدنية سواء بابعادها جغرافيا او تمييزها ومتابعتها الدقيقة الصارمة. لكن الحركة الوطنية العارمة التى انتظمت البلاد فى الاربعينيات وضمت الطلاب وسط من ضمت، استمرت ترفد القوات المسلحة وتحافظ على التداخل بين الفضاءات المختلفة. هذا بحد ذاتة لم يكن ليقود البلاد للتاريخ المفجع الذى ينتظرها لولا بدء العمل المنظم الذى بدأتة تيارات اليسار والتيارات الاسلامية منذ نهاية الاربعينات- متاثرة بمنابعها المصرية والعالمية- والذى هدفت من ورائة للوصول الى السلطة، اى اصبح العسكر جزءا من نظرية الحكم.

    يرجع الاستاذ حيدر طة دخول فكرة تسلل الاخوان الى القوات المسلحة عند زيارة الضابط الاخوانى ابو المكارم عبد الحى المسئول عن الجهاز الخاص للاخوان المسلمين فى مصر الى السودان عام 1955 ونقل الخبرة والتجربة الى الاخوان السودانيين. وكعادتها فى العمل مع الطلاب بدات العمل فى المدرسة الحربية واستطاعت ان تضم فى صفوفها المرحوم بشير محمد على ( لاحقا احد وزراء دفاع نميرى)، السيد عبد الرحمن فرح (رئيس جهاز امن السودان ابان الفترة الديمقراطية عن حزب الامة والتى عجزت عن حماية الوطن و انحاز نائبها الى الانقلابيين الجدد) والسيد عبد الرحمن سوار الدهب ( لاحقا رئيس المجلس الانتقالى بعد انتفاضة 1985 ). ورغم ان الاستاذ حيدر طة يورد ان هؤلاء تركوا التنظيم مبكرا، الا ان الادوار التى لعبوها بعد ذلك تعطى مؤشرات تدعو للتحفظ. طريق طويل سار فية الاسلاميون منذ ذلك التاريخ فى اختراق القوات المسلحة تحت انف واذن قادتة الذين اما مروا على التنظيم فى عمرهم او كجزء من التدبير السياسى او اشياءا اخرى (حيدر طة : الاخوان والعسكر: قصة الجبهة القومية والسلطة فى السودان مركز الحضارة العربية للاعلام والنشر، يناير 1993 ).

    الانقلابات فى السودان

    اغتنت ما يمكن ان نسمية المكتبة العسكرية بتصدى نفر من الذين عملوا فى صفوفها للكتابة عن تجربتهم بموضوعية (مذكرات الفريق محيى الدين احمد عبد الله ؛ محمد محجوب عثمان: القوات المسلحة والسياسة في السودان، مركز الدراسات السودانية 1988، كتاب عصام ميرغنى طة: القوات المسلحة السودانى والسياسة، السر احمد سعيد: السيف والطغاة، القوات المسلحة السودانية و السياسة، ومساهمات عبد العظيم عوض سرور وعبد الرحمن خوجلى عن علاقة الحزب الشيوعي بالصراعات المسلحة واخرون). ومن خارجها محمد احمد كرار عن الانقلابات العسكرية في السودان؛ د. محمد سعيد القدال: الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو، و الاستاذ حيدر طه عن الاخوان والعسكر: قصة الجبهة الاسلامية والسلطة فى السودان واخرون.
    اول خلية انقلابية متاثرة بالضباط الاحرارالمصريين لاستلام السلطة كانت في سلاح الاشارة بزعامة البكباشي يعقوب كبيدة من الدفعة التاسعة من ضباط قوة دفاع السودان التي تخرجت في 5 فبراير 1945م، البكباشي محمد عيسى من الدفعة الثامنة وتخرج عام 1944م وثالثهم البكباشي محمود حسيب واخرين. اول محاولة انقلاب كانت نتاجا للتاثير المباشر لانقلاب الضباط الاحرار في مصر عام 1952م بقيادة الرائد عبدالرحمن كبيده عام 1957 لكنه اثناء تجنيد المؤيدين تم اكتشافه والقى القبض عليه ومعه عدد من الضباط.

    وجاء فى وثائق " السفارة الاميركية، الخرطوم الى: وزارة الخارجية، واشنطن: الموضوع: خلايا سرية مصرية بتاريخ: 15-5-1954 "حسب معلومات جمعناها، خلال احد زياراته الى السودان، اجتمع الصاغ صلاح سالم، عضو مجلس الثورة المصري ووزير شئون السودان، مع ضباط سودانيين في قوة دفاع السودان (في وقت لاحق، القوات المسلحة). وخلال الاجتماع دعا ثلاثة ضباط لزيارة مصر، وهم: حسيب، وكبيدة، وشداد. وكون هؤلاء اول خلية تابعة لمجلس الثورة في مصر. وقال لنا ضباط عسكريون ان رئيس الوزراء الازهري يعرف ذلك، ولا يعترض عليه. لكن، قال لنا اخرون ان هذا غير صحيح. وقالوا لنا ان اغلبية الضباط يعارضون اي نشاط مصري داخل المؤسسة العسكرية . لكنهم، اذا تازم الموقف، وزاد تسلل المصريين الى داخل القوات المسلحة، ربما سيقومون بانقلاب عسكري مضاد لمصر، ويعلنون استقلال السودان .

    الاحترافية العسكرية لم تستطع الصمود سوى ثلاث سنوات بعد نيل الاستقلال، اذ استدعتها القيادة السياسية للتدخل فى نوفمبر 1958. فقد استدعى رئيس الوزراء ووزير الدفاع الاميرالاي (العميد معاش) عبدالله بك خليل في مطلع نوفمبر 1958، الفريق عبود وابلغه بان المماحكات السياسية بين الاحزاب السياسية الممثلة في البرلمان بلغت حدا لا يطاق، بل باتت تهدد الامن الوطني، خصوصا الخلاف حول قبول او رفض عرض قدمته الولايات المتحدة لتقديم معونة الى السودان. فى اعوام الحكم العسكرى الاول (1958-1964 ) توسعت حرب الجنوب وتحولت من نزاع مسلح الى فرض الاسلمة والعروبة فى الجزء الجنوبى من الوطن انذاك. هذا الوضع رافقة تطوران مهمان اديا لتغييرات هيكلية فى عقيدة القوات المسلحة. اول هذة التطورات ادخال القوات المسلحة فى حل نزاع بين ابناء الوطن. هذا الوضع استدعى مفاهيم ومفردات اعلامية، تعبوية، حشدية وسياسية للعمل على معنويات القوات المسلحة تأسست على حصر الدور السياسى فى يد القوات المسلحة وسيادة المفاهيم العرقية والعنصرية والفوقية. ثانى هذة التطورات هى غياب اى تنظيم سياسى فى الدولة يعول علية لحلحلة القضايا الخلافية وبالتالى دخول القوات المسلحة مباشرة فى خضم سياسى وترسخ فكرة انة المنوط بة التعامل مع كافة معطيات الخلاف. هذا كان اول تحولات العقيدة السياسية الاحترافية الى المفهوم الجهادى والرسالى والذى سيستمر فى التراكم. رغم ان الجهاز السياسى كان ناشطا فى سنوات الديمقراطية الثانية (1965-1969 ) فى التوصل لحل سياسى لنزاع حرب الجنوب وعقدت اكثر من لقاء لهذا الغرض. استمر دور القوات المسلحة حاسما فى منطقة الجنوب ولم يتعد دور الحكومات الا فى الادارة المدنية للمدن والتجمعات السكانية الكبيرة. تنحوا الحكومات الديمقراطية عادة لاجراء تخفيضات فى ميزانيات القوات المسلحة لمواجهة متطلبات المرحلة الجديدة وعادة تؤخذ هذة التخفيضات من اثمان الاسلحة والمعدات والتجهيزات لان اخذها من الرواتب والحوافز التى تراكمت فى العهد الديكتاتورى مخاطرة لايود اى احد القيام بها. ادى هذا بالطبع الى تفاقم بعض المشكلات والعجز وجيش يشعر بالتهميش وفقدان دورة السياسى وادى هذا الى الاحتكاكات بين سلطة مدنية منتصرة على القوات المسلحة فى ثورة اعادتهم الى الثكنات.

    القوات المسلحة الذى شاركت اجزائة المسيسة فى انجاح ثورة اكتوبر 1964 كانوا منتظمين فى تنظيمات متعددة، ومع تصاعد الناصرية باطروحاتها الاشتراكية فى ازهى عصورها اصبح التيار الغالب من اطراف اليسار. احداث كثيرة قادت الى تراكم النزعة الانقلابية لدى صغار الضباط والجنود كان اهمها: انسداد الطريق البرلمانى امام اليسار بعد طرد الحزب الشيوعى من الجمعية التاسيسية وارتفاع الدعوات الى الدستور الاسلامى وتناقضة مع منشأ وتطلعات و تربية القوات المسلحة جعلة يتجة الى الطرق الاخرى. مثلت هزيمة 1967 (ما سمى النكسة) وتداعياتها الحاجة الى التعاضد من قبل الجناح القومى العربى السودانى مع اشقائهم المصريين وشكلت عاملا دافعا لبدء التنظيم لانقلاب. هذا اذا اضفنا العلاقات التاريخية بين تنظيمى الضباط الاحرار فى البلدين ودور الاجهزة المصرية فى دعم الانقلاب والذى لم نعرف عن كامل اسرارة حتى الان. اذن جاءت طلائع القوات المسلحة المنهك فى حرب لانهاية لها والذى تشكى علنا من نقص احتياجاتة واستلمت السلطة فى مايو 1969 محملة بايديلوجيا اشتراكية واخراج البلاد من نزاعات الدستور الاسلامى. لم تشكل القضايا الاقتصادية والاجتماعية اهمية تذكر فى اسباب الانقلاب فقد كانت البلاد تنعم بوضع اقتصادى مستقر وخدمات مجانية متاحة ومتوفرة وخدمة مدنية كفؤة ورغم الادعاءت بوجود فساد كبير الا ان هذة كانت مجرد اتهامات لا اساس لها من الصحة

    رؤية الرواد (1942-1969 ) والقوات المسلحة

    تعلو راية الخطاب الطائفى سواء الانصارية او الختمية فى داخل الاحزاب الطائفية الليبرالية فى زمن الانظمة العسكرية، خاصة الانظمة العسكرية الاولى والثانية . وهذا طبيعى اذ تنحو الانظمة العسكرية اول ما تتجة الى فصل جماهيرهذة الاحزاب، والتى تشكل اغلب مكونات الشعب، عن قادتها، لانها مخزن المواكب المؤيدة والملجأ للقادمين الجدد فى مقابل جماهير المدن ذات السقف العالى والصوت المرتفع والثورات المحتملة. فعلها النميرى حين جاب البوادى والفرقان على ظهر الكومر فى بداياتة واحتمى بالصوفية واهل الطرق وزعماء القبائل فى نهاية عهدة، كما فعلها سادة المشروع الحضارى لنسج شرعية عزت عليهم فى حشدهم فى عملية انتخابية اقل ماتوصف بة انها حققت المستحيل فى الفوز الكلى فيما نعرف فى تاريخ الديكتاتوريات والديمقراطيات.

    ففيما ينشغل مثقفى الحزب فى اعادة ترتيب اوضاعهم والبحث عن مداخل للولوج الى السلطة الجديدة لاعادة تدوير انفسهم – ويمكن ان يحاول القراء فى البحث عبر الانترنت عن اسماء الوزراء واعضاء البرلمانات والمجلس المركزى ومجالس الشعب والمجلس الوطنى فى كافة العهود الديمقراطية وستجدون ان اغلب الاسماء متكررة لا يفرقها من السلطة سوى الموت الزؤام ولكنها تتكرر فى ابنائهم واحفادهم- ويوهمون القادمين الجدد انهم يحملون الجماهير التى كانت تفوزهم فى الانتخابات تحت اباطهم. اما عندما تثور الجماهير المدينية وتسقط الحكم العسكرى ولا تتحقق محاكمات نورمبرج او حتى الحقيقة والمكاشفة الجنوب افريقية، فهم ايضا هناك يتلونون و يعيدون طلاء انفسهم والمصيبة ان نفس الاحزاب التقليدية تستعيدهم بنيولوك .

    لذلك يجد قادة الاحزاب الطائفية الليبرالية فى زمن العسكر ان الجهاز السياسى الذى كان يلتف حولهم فى الديمقراطية ينفض، خاصة الفئات التى ترتبط مصالحها بجهاز الدولة مثل فئات الراسمالية وزعماء الادارة الاهلية وكبار الملاك الزراعيين وزعماء الطوائف الدينية. يتبعهم المثقفون الذين يحتاجون لبعض الوقت لاعادة تركيب المنطلقات الفكرية ومتابعة بالونات الاختبار التى تطلقها السلطة. ولا يبقى حقيقة الا افراد الطائفة البسطاء التى تجد زادها الانفعالى والعاطفة فى هذة الارتباطات طوال عمرها وفى مجموعة الوكلاء والخلفاء، الذين لا يعتمدون على جهازالدولة الا بشكل قليل ولكن يعتمدون على مريديهم و احبابهم.

    القوات المسلحة والولاء

    طرح السيد السر احمد سعيد فى كتابة الثرى السيف والطغاة تساؤلا يشكل المدخل الاساسى والرئيسى لعلاقة العسكر والسياسة على اثر احد المنعطفات التاريخية للجيش السودانى عقب مذبحة بيت الضيافة والتحقيق مع الضباط لمعرفة مدى ولائهم لسلطة مايو، حيث تسائل الكاتب عن ولاء الضباط والجنود هل للسلطة ( سلطة مايو فى هذه الحالة) ام الدولة ام الوطن ام للشعب. سنحاول ان نجيب على الاسئلة الصعبة حول قضايا الولاء وحدود الدور الذى يجب ان يلعبة القوات المسلحة فى المنظومة السياسية والادارية والوطنية وكيفية اعادة القوات المسلحة ليصبح ذا دور استراتيجيى فى حل مشاكل الوطن ضمن الاطار العام. ان افضل المداخل للمقاربة لهذة التساؤلات سيكون محاولة تتبع تداخل المنظمات و التيارات السياسية و العسكر على مدى التاريخ السياسى السودانى الحديث. سنحاول مقاربة مسالة الولاء ونحاول ان نجد الاجابة لسؤال السر احمد سعيد من خلال تناول رأيين يمثلان وجهات النظر المختلفة فى تعامل فضائى العسكر والسياسة طوال السنوات، وهما رأيان جديران بالتامل اذا شئنا التعامل بجدية مع وضع مستقبلى مستدام للقطاعات المختلفة المؤثرة على السلطة ونظام الحكم فى المجتمع السودانى. (السر احمد سعيد: مرجع سابق).

    الراى الاول جاء فى عرض السيد عصام ميرغنى طة فى كتابة القوات المسلحة السودانى والسياسة وهو من افضل الكتب التى توفر مرجعا ممتازا للباحثين فى شئون القوات المسلحة السودانى والذى يصف الفترة بين 1925-1957 بانها كانت فترة استقرار الاحترافية الوطنية الاولى والاخيرة للمؤسسة العسكرية السودانية منذ تاسيسها- اى ان تبرع فيما انشات من اجلها (حفظ الامن وحماية الحدود) وكما تفعل كافة المؤسسات المناظرة. (عصام ميرغنى طة: مرجع سابق )

    اما الراى الثانى فقد تعرض لة د. حسن مكى فى مؤلفة الحركة الاسلامية السودانية -1969-1985 الذى تناول قضية تدخل القوات المسلحة فى السياسة كجزء من تطور الحركة فى صراعها مع نظام مايو واشتراكها فى عدة انقلابات فاشلة او الغزو من الخارج كشريك صغير. ويرى الكاتب ان القوات المسلحة السودانى اعيد تاسيسة لاستعادة الدولة المهدية ومن ثم اصبح حتميا ان يداوم الاستيلاء على الدولة. ولكن الدكتور مكى لة رأى مخالف حول القوات المسلحة المحترف- القوات المسلحة الوظيفى- ويعرض رأى الحركة الاسلامية السودانية نحو القوات المسلحة والتى التزمت بها حتى استطاعت تطبيقها فى القوات المسلحة السودانى منذ انقلابها فى 1989 . ويرى الدكتور مكى ان القوات المسلحة لابد ان يكون عقائديا يقوم على قيم الجهاد ونصرة الاسلام وبسط الشريعة- كما اسماه الفلسفة القتالية الاسلامية. واذا كان الجهاد اصيح شبة مستحيل فى ظل الظروف الحالية والوضع العالمى الحالى – وقد حاولت ذلك ايران والسودان قبلا – وصارت نصرة الاسلام تدخلا فى الاوضاع الداخلية للدول الاخرى لم يبق الا ان يعمل القوات المسلحة لبسط الشريعة والذى يبدو غريبا ان يترك تنظيم سياسى يرتكز على انفاذ الشريعة على محاربية للعمل الفكرى والسياسى ويصبح بلا دور او يتبنى جزء منة المعارضة. (د. حسن مكى : الحركة الإسلامية في السودن 1969م – 1985م تاريخها وخطابها السياسي ، الخرطوم الدار السودانية للكتب، ط ثانية ، 1420هـ / 1999م.)

    هذا هو الذى حدث بالضبط فقد تم حل تنظيم الحركة الاسلامية فى بداية الانقاذ وبعدها تم احالة الجهاز الفكرى والفلسفى للحركة للصالح العام فى المفاصلة وانفرد ممثلى جيش الانقاذ والامن انفاذ الشريعة واصبح من اختار البقاء نافذا اذا كان لة خلفية امنية او مجرد ديكور فى النظام علية التبرير ولحس المواقف والتراجع امام العين الحمراء.
    سنتعرض للصورة وكيف تبدو عند انحصار دور القوات المسلحة فى دورة الوظيفى من خلال تناول د. منصور خالد (عسكرة الحكم..... السياسة باسلوب اخر، صحيفة الاخبار السودانية ، 07 June 2009 ) " فالذين يستنكرون توغل القوات المسلحة في السياسة يفترضون، فيما يبدو، ان جيش السودان هو القوات المسلحة الامريكي او الهندي او النرويجي. تلك الجيوش تلتزم بعقيدة عسكرية من بين عناصرها قبول السيطرة المدنية على المؤسسات الضاربة، او مؤسسات العنف المنظم، في ذات الوقت الذي تلزم فيه الحاكم المدني ان ينآى بالقوات المسلحة كمؤسسة عن الصراعات الداخلية. لهذا لا يجرؤ سياسي مدني على اقحام القوات المسلحة في الصراعات السياسية الداخلية حتى في الحالات التي يضطرم فيها العنف ويشتد ويعجز البوليس عن ايقافه. ففي الولايات المتحدة، مثلا، لا تستعين الدولة مطلقا بالقوات المسلحة عند محاولتها بسط الامن الداخلي حتى ان عجزت الشرطة واجهزة انفاذ القانون الاخرى عن وقف تردي الامور. في تلك الحالات تلجا الدولة الى اجناد الولايات المتحدة (US Marshals) وهم فرقة شبه عسكرية تعتبر من اجهزة انفاذ القانون، وتعمل تحت امرة وزير العدل حتى لا تكون هناك شبهة في انتسابها للجيش رغم طابعها العسكري ونوع تسليحها."

    مسئولية الحلقة الشريرة

    التساؤل الاخر جاء فى فى كتاب السيد عصام ميرغنى طة كجزء من تحليلة لتدخل القوات المسلحة فى السياسة، يقول المؤلف " خلال معظم تلك الحقب الزمنية والسنوات الماضية كانت القوات المسلحة السوداني في صدارة الاحداث السياسية التي صاغت تاريخ السودان الحديث، والتى ادخلت القوات المسلحة السوداني في مستنقع السياسة، لتبدأ الحلقة الشريرة التي اشتهر بها السودان: اسقاط حكم مدني ديمقراطي بانقلاب عسكري، فانتفاضة شعبية تهدف لاستعادة الديمقراطية السليبة"، ويواصل المؤلف ان هذه الحلقة الشريرة تمثل نتاجا مشتركا لخيبة الانظمة الديمقراطية من جهة، وتغول القوات المسلحة السوداني من جهة اخرى. فالانظمة الديمقراطية فشلت في قيادة البلاد بانتهاج حكم ديمقراطي معافى قادر على تحقيق طموحات الجماهير في الاستقرار والتنمية، وادخلت الوطن في ازمة سياسية متلاحقة عبر نصف قرن من الزمان، كانت تنتهي دائما بفتح الطريق لتدخل القوات المسلحة، ان انظمة الحكم الديمقراطي منذ استقلال السودان 1956، تتحمل المسؤولية كما يقول المؤلف في عدم اكمال اية دورة حكم ديمقراطي، وهي الفترة التي تعارف عليها العالم في التداول الديمقراطي للحكم، وفي متوسطها اربعة اعوام، اذ سرعان ما ينقض نظام عسكري لاجهاض التجربة الديمقراطية دون اتاحة فرصة للجماهير للحكم عليها، وعلى السياسيين الذين قادوها، والذين اخفقوا في تنفيذ وعدهم لناخبيهم. وانحى المؤلف باللائمة على الاحزاب السياسية، فعوضا عن الدفاع عن النظام الديمقراطي، تتسارع دائما الى تاييد القادمين الجدد، الذين انتزعوا منها السلطة قسرا، مما يعكس عدم القناعة الكاملة بالنظام الديمقراطي من قبل القائمين على امره، وهو اثبات دامغ على تمكن نزعة انتهازية واضحة تحاول الحصول على المغنم من كعكة السلطة العسكرية الجديدة. السيد عصام ميرغنى يلقي باللائمة على انظمة الحكم الديمقراطي منذ استقلال السودان 1956، وعلى الاحزاب السياسية و السيد الصادق المهدى يلقية على القوات المسلحة وتتراوح المواقف بين هذين الموقفين. وكما حاولنا ان نوضح فالمسالة ليست توزيع تهم او تحميل المسئولية ولكن هو عجز كلى للحركة المجتمعية ونخبها والقوات المسلحة جزء فاعل فيها فى استثمار الفرص التى اتيحت لها لمراجعة المسيرة والوصول الى رؤية مشتركة .

    المؤسسة العسكرية والانقلابات

    اذا استثنينا انقلاب الفريق عبود، باعتبار ان قيادة القوات المسلحة هى التى استلمت السلطة، فاننا نجد فى انقلابى العقيد نميرى والعميد البشير انهما انقلبا على مؤسسة القوات المسلحة بكاملها من قيادة عامة الى قيادات اقليمية واسلحة متعددة...الخ بمجموعة من الجنود والضباط لاتتجاوز 400 و300 من الانقلابين. اذا تابعنا الرصد الجيد للسيد عصام ميرغنى لكافة الانقلابات 1956-2000 نجد ان من 17 محاولة انقلاب نجحت منها ثلاثة وفشلت واحدة فى زمن الديمقراطية، بينما فشل 12 انقلابا فى زمن الحكومات العسكرية. فلماذا تستطيع هذة المجموعة القليلة ان تستلم السلطة بهذة السهولة فى زمن الديمقراطية ولماذا تستطيع الحكومات العسكرية احباط الانقلابات ولاتستطيع الحكومات الديمقراطية. لا تقدم المكتبة العسكرية اجابة واضحة ولكن الملاحظة ان القوات المسلحة السودانى لايبدى اى نوع من المقاومة فى اطاراتة المركزية ولايستعيد القائد العام زمام المبادرة اما القيادات الاقليمية فهى تنتظر استقرار الامور وترسل برقيات التاييد.

    معارضة الانقلابات

    ان الاحزاب الليبرالية فى الدول الاخرى لا تترك الميدان للعسكر ولكن تطرح برنامجها وتدافع عنة وتتواصل مع جماهيرها، كما اثبتت احزابنا فى الفترة العسكرية الاولى والتى تمخضت عن ثورة مكتملة. كانت المشكلة ليس فى ادارة الثورة ولكن فى عدم الاتفاق على ادارة الدولة بعد الثورة. انتقلت الاحزاب من معارضة غير معلنة فى اوائل العهد المايوى الى الاحتكاك المسلح فى ودنوباوى وابا، منها الى تدبير الانقلابات فى يوليو 1971، 1973 حتى الغزو من الخارج عام 1976. اضعف هذا من تجذير الديمقراطية فى الوطن وسيادة الاتجاهات الانغلاقية فى الاحزاب. عندما وصلت الاحزاب الليبرالية الى انتفاضة 1985 كانت قد تحولت الى هياكل طائفية واجتذبت لها المثقفين الذين كانوا فى خدمة النظام العسكرى – مكسورى العين من الذين يسهل قيادهم.

    استمرت هذة الظاهرات السلبية فى زمن الانقاذ، فالاحزاب الليبرالية وغيرها وبديلا ان تبدا فى النضال المدنى والتصدى للاطروحات الاستبدادية، بدات بنفس السلاح فمن انقلاب رمضان الى امان السودان وبعدها حملت ميثاق التجمع الوطنى الديمقراطى الى خارج الوطن وبدات مسلسلا طويلا من التصدى بالقوة لاسقاط النظام. المشكلة ليست فى الاساليب من الانقلابات الى الكفاح المسلح، المشكلة اننا بدانا – كدروس مستفادة من ثورتى 1964 و1985- فى اعداد الاتفاق على ادارة الدولة بعد اسقاط النظام واستغرقتنا التفاصيل وفرقتنا قبل قتل القرنتية. لا اقلل هنا من التضحيات الجسام والبطولات الشخصية والعامة لالاف من ابناء وبنات الشعب السودانى فى تلك السنوات.

    لقد اجبرت الظروف التاريخية الجميع الى التواجد داخل الوطن الواحد وارى ان ما تم القفز فوقة فى غابر الايام بدا فى الوضوح، فالديمقراطية تكسب كل يوم وتتجذر وتساعدها الثورات العربية فى التغلغل والنمو، والكفاح المدنى وحركة الجماهير تتسع وتقوى، والاحزاب تخوض الصراعات الداخلية بين التيارات المختلفة تستعيد بها حيويتها ورشدها بما فيها انتزاعها من القيادة الطائفية او الشائخة. حتى الحزب الحاكم يتراجع يوميا ويرسل فى الرسائل المختلفة – احيانا المتناقضة- يسابق الزمن فى ايقاف عجلة التغيير المندفعة من رسائل انكار او تطمين او تراجعات. باختصار يعيش الوطن المراحل المحروقة قبلا ويدور فى دوامة من الاهتزاز العنيف لكافة قوانينة و ترتيباتة المعتادة.

    مياة كثيرة كانت قد جرت تحت الجسر لكن حتى بعد ثورات زلزلت اركان حكم عسكرى كاول تجربة فى التاريخ الحديث ربما بعد الثورة الفرنسية، لم تستطع احزاب السودان التى جاءت كنتيجة لها الاستفادة من دروس التاريخ، اسقطت راس الحكم ولم تسقط النظام. لم تنجز ميثاقها والذى نص على الحريات ولكنها حلت الحزب الشيوعى فوضعت اللبنة الاولى للاقصاء. وبدلا من تجاوز الانقلابات باجراء المحاكمة السياسية للنظام السابق اعطى الانقلابيون الحصانة فاحس الانقلابيون المحتملين بهشاشة الدولة ومنظماتها المدنية. والمحاسبة السياسية الواجبة للاطراف التى تعاونت مع النظام السابق سواء جماعاتا او افرادا انتهت الى تحميل المسئولية لبعض الكباش السود فيما اسمى التطهير بدون اى حدود قانونية فوضع فى الاجندة الاحالة للمعاش للاسباب السياسية والتى توسع الحكم العسكرى الثاني فى تطبيقة وجعلة الحكم العسكرى الثالث وباءا لا ارضا قطع ولا ظهرا ابقى.

    (عدل بواسطة د. عمرو محمد عباس on 07-31-2012, 11:10 PM)
    (عدل بواسطة د. عمرو محمد عباس on 07-31-2012, 11:54 PM)

                  

العنوان الكاتب Date
كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (4) د. عمرو محمد عباس07-30-12, 03:57 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de