كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (2)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 02:13 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-28-2012, 07:18 PM

د. عمرو محمد عباس


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (2)

    الجزء الاول: رؤى السودان من المهدية الى السودان الجديد

    الفصل الاول: المحددات الاقتصادية الاجتماعية للرؤي السودانية

    كتب المغفور لة عبد الرحمن على طه مع اخرين فى بخت الرضا كتابا عن الجغرافيا ليدرس فى السنة الثالثة ابتدائى سمي ( سبل كسب العيش فى السودان ) وموضوعه زيارات حقيقية قام بها نفر من اساتذة بخت الرضا الى مناطق شملت شمال وجنوب وشرق وغرب البلاد. كان اسهام عبد الرحمن على طه الاضافى الى الكتاب انشودة حلوه لخصت الرحلات التى تمت وظل التلاميذ فى المدارس يرددونها لعقود من الزمان . نتعرف على اشخاص بعينهم فى اطراف مختلفة فى السودان ونتعرف على حيواتهم وهناك تعرفنا على اقتصاديات وطننا وتاثيرة على الانماط الاجتماعية والقيمية للشعب السودانى. وهناك شعر جميل يلخص هذة الرحلات. ان هذة القصيدة كانت مفتاحا لرؤية لمن اراد ان يبنى الوطن، فقد قدمت بشكل مبسط احتياجات التنمية فى نختلف اقاليم السودان.
    فى القولد التقيت بالصديـق انعم به من فاضل ، صديقى
    خرجت امشى معه للساقية ويا لها من ذكريات باقيــة
    فكم اكلت معــه الكابيدا وكــم سمعت اورو والودا
    ***
    ودعته والاهل والعشيرة ثم قصدت من هناك ريره
    نزلتها والقرشى مضيفى وكان ذاك فى اوان الصيف
    وجدته يسقى جموع الابل من ماء بئر جره بالعجـل
    ***
    ومن هناك قمت للجفيـل ذات الهشاب النضر الجميل
    وكان سفري وقت الحصاد فســرت مع رفيقى للبــلاد
    ومر بي فيها سليمان على مختلف المحصول بالحب امتلا
    ومرةً بارحت دار اهـلى لكي ازور صاحبى ابن الفضل
    الفيته واهله قد رحلـوا من كيلك وفى الفضـاء نزلوا
    فى بقعة تسمى بابنوسـة حيث اتقوا ذبابة تعيســــة
    ***
    ما زلت فى رحلاتى السعيدة حتى وصلت يامبيو البعيدة
    منطقة غزيرة الاشجــار لما بها من كثرة الامطــار
    قدم لى منقو طعــم البفره وهو لذيذ كطعام الكســـره
    ***
    وبعدها استمــر بى رحيلى حتى نزلت فى محمد قـــول
    وجدت فيها صاحبي حاج طاهر وهو فتى بفن الصيد ماهـــر
    ذهبت معه مرةً للبحـــــر وذقت ماء لا كماء النهــــر
    ****
    رحلــت من قول لودْ سلفاب لالتقى بسابع الاصحــــاب
    وصلته والقطن فى الحقل نضر يروى من الخزان لا من المطر
    اعجبنى من احمد التفكيـــر فى كــــل ما يقوله الخبيرُ
    ***
    ولست انسى بلدة ام درمان وما بها من كثرة السكان
    اذا مرّ بي ادريس فى المدينة ويا لها من فرصـــة ثمينة
    شاهدت اكداسا من البضائــع وزمرا من مشتر وبــــائعْ
    ***
    واخر الرحلات كانت اتبره حيث ركبت من هناك القاطره
    سرت بها فى سفر سعيد وكان سائقى عبد الحميـــد
    اعجبت من تنفيذه الاوامر بدقة ليسلم المســـــافر
    ***
    كل له فى عيشه طريقـة ما كنت عنها اعرف الحقيقـة
    ولا اشك ان فى بــلادى ما يستحق الدرس باجتهـــاد
    فابشر اذن يا وطني المفدي السعي مني كــي تنال المجدا

    ارتبط تطور السودان منذ قديم الزمان بوجود ممرات مائية كبيرة جارية طوال الاعوام ومن ثم قيام زراعة مستقرة على جانبى النيل، زراعة مطرية متنقلة وتواجد مجموعات رعوية متنقلة عبر المراعى، كذلك ببروزها كرابط تجارى بين الداخل السودانى كمركز تجارى وصلة بين المنتوجات الافريقية (اهمها الرقيق، العاج والحديد الذى اشتهرت بصناعتها. ..الخ) والعالم الخارجى عن طريق مصر والبحر الاحمر. على نفس المنوال سارت ممالك النوبة المسيحية الثلاث وكانت تجارة الرقيق تمثل مركز الثقل في هذا النشاط التجاري. كان تنظيم التجارة وفتح الممرات الامنة وتنظيم العمل الزراعى والحرفى العامل الرئيسى لقيام الممالك والسلطنات والتنظيمات الادارية العشائرية طوال تاريخ السودان. وقد لعبت مجموعات متعددة ادوارا مختلفة فى تشكيل السلطات التى تناوبت على حكم السودان ولكن يمكن تحديد اربعة مجموعات كانت دائما قاطعا مشتركا فى تشكيل النظام الحاكم منذ سلطنات العصر الوسيط (الفونج، الفور....الخ): المزارعين، الادارات القبلية، الطبقة التجارية والطرق الصوفية.

    الزراعة

    يمكن القول ان الحضارة السودانية، منذ بدء التاريخ المعروف، حضارة زراعية ورعوية بالاساس على ضفاف الانهر والوديان والزراعة المطرية والمراعى الشاسعة فى السودان من بدء ظهور الدولة السودانية منذ قيام مملكة كرمة، وتطورها بعد ذلك الى ممالك نبتة ومروي وممالك النوبة المسيحية. فى كل هذة الممالك كان الملك هو ممثل الاله في الارض وبالتالى هو المتحكم في كل الأراضي الزراعية الخصبة وهو الذي يهبة للمزارعين العبيد ولاحقا الاقنان ويساعدهم بالفيضان والامطار ويحميهم من الدمار. وقد شهدت الزراعة والرعى فى الممالك القديمة تطورا مضطردا فى توفير كافة الاحتياجات المحلية عن طريق المزارعين والرعاة والرقيق وكذلك تصديرها الى الدول المجاورة. ادخلت مملكة مروى الساقية فى السودان واحدثت تطوراً هائلاً في القوه المنتجة حيث حلت قوة الحيوان محل قوة الانسان العضلية، وتم إدخال محاصيل جديدة، أصبحت هنالك اكثر من دورة زراعية واحدة وشهدت مروي صناعة الحديد الذي شكل ثورة تقنية كبيرة فى انتاج أدوات الانتاج الزراعية مما أدى إلى تطور الزراعة والصناعة الحرفية ، كما تطورت صناعة الفخار المحلي اللامع. وبذلك ازدهرت علاقة مروي التجارية مع مصر، وكانت أهم صادرات مروي إلى مصر هي : سن الفيل والصمغ والروائح والخشب وريش النعام بالإضافة إلى الرقيق ، وكانت التجارة تتم بالمقايضة .

    مع تطور الحركة التجارية فى ممالك الفونج والفور وغيرها الى التجارة البعيدة حدث تغيير فى ملكية الارض ووضع المزارعين، وبقيام الشكل الجديد للتملك ( ظهور الملكية الخاصة لللاراضى) التي كان يقطعها سلاطين الفونج ويوزعونها على الاتباع وقادة القبائل وزعماء الطرق الصوفية مقابل خراج معين، اصبح لكل من مالك الارض والفلاح مصلحة في زيادة الانتاج الزراعي، وبالتالي تطور الانتاج الزراعي، وظهرت فوائض كثيرة من انتاج الحبوب والماشية. ودخلت زراعة السمسم والدخن والذرة والفول والصمغ والتمباك .. الخ. ادى اتساع ذلك الفائض إلى انتعاش الصناعة الحرفية لا للاستعمال الشخصي بل للسوق، وبالتالي ازدهرت الصناعة الحرفية والمدن التجارية. وادت هذة السياسات الى ظهور فئات وطبقات جديدة، تمركزت في أيديها ثروات وفوائض انتاج زراعي ورعوي مثل السلاطين والملوك ومشايخ القبائل وكبار ملاك الأراضي الزراعية والماشية، وبعض الأغنياء من مشايخ الطرق الصوفية والتجار. (تاج السر عثمان : نشأة وتطور الرأسمالية السودانية (عشرة حلقات)، الحوار المتمدن - العدد: 2362 - 2008 / 8 / 3 ).

    كان تطور الزراعة مماثلا فى دارفور اذ امتلك سلطان دارفور الارض وكان يوزعها على عاملية اما لشخص يزرعه ويستفيد من انتاجه في معيشته، وهذا النوع كان غالبا في شكل قطع صغيرة، وهو ما يوصف عادة بانها ملك أو هبة أو صدقة، وغالبا ما كان ذلك لطبقة الفقرا والعلماء وكان صاحب الارض يزرع أرضه بواسطة المزارع إذا لم يكن مباشرا الزراعة. النوع الاخر هى الحوا كير وهي قطعة ارض كبيرة قد تمتد أميالا، وقد تكون قرية واحدة، أو تكون عددا من القرى وقد تكون بطنا من قبيلة. والسلطان هو الذي يعطى الحاكورة بهدف مساعدة قريب أو صديق أو تعطى للفقرا والعلماء بهدف إعادة انتاج النظام وترسيخه. ويستطيع صاحب الحاكورة بعد ذلك، إما ان يزرع ما شاء بنفسه وبعبيده وبمن يستطيع تسخيره من الأهالي، ومن حقه ان يعقد ما شاء من العقود مع المزارعين، فيما ينال من الانتاج مقابل تسديد الضرائب أو الخراج للسلطان حسب ما تقتضي الشريعة الإسلامية والعرف. والسلطان قد يتنازل عن هذه الحقوق أو بعضها لصاحب الحاكورة حسب كل حالة على حدة فيقوم هو بجمعها للانتفاع بها في معيشة اتباعه وتدبير سلاحه وأموره وهو مقابل ذلك يقوم بتدبير بعض الخدمات للسلطان، ويقدم الولاء ويكون في خدمته ويدافع عنه، وهو يعاونه في الإشراف على أهل الحاكورة واهم الخدمات إعانة السلطان في الحرب. يقدم صاحب الحاكورة فوق ذلك جعلا سنويا متفقا عليه، إضافة للغرامات والهوامل والهدايا التي تقدم في المناسبات، أما العلماء والفقرا، فعليهم خدمة الكتابة والقضاء والدعاء للسلطان واقامة الشعائر الإسلامية وتعمير المساجد ، وحاكم الإقليم لانصيب له وانما يؤخذ من نصيب السلطان. استمر الحكم التركى على خطى السلطنات من الملكية الخاصة للأرض وبيع الأراضي ورهنها وتوريثها حسب الشريعة الإسلامية، وشهدت فترة الحكم التركي توسعا في زيادة مساحات الأراضي الصالحة للزراعة مما أدى إلى زيادة المحاصيل الزراعية في الأسواق، كما اهتمت الحكومة بإدخال محاصيل نقدية جديدة مثل الصمغ ، السنامكى ، النيلة ، ... الخ.

    وقع عبء تطور كل الممالك السودانية منذ اول العصور على كاهل المزارعين والرقيق وكان الوضع دائما سيئا فهم تدرجوا من عبيد لملوك النوبة القديم والمسيحية الى مزارعين يدفعون الضرائب بشقيها والتي تقوم على الشريعة الإسلامية والعرف، وكان هؤلاء هم الذين يقومون بالانتاج فعلا ولكنهم يفقدون جزءا من فائض انتاجهم والذى يذهب إلى السلاطين أو للفقرا والعلماء وحكام الأقاليم أو ملاك الحواكير. هذا إضافة إلى انهم كانوا يخدمون في مزارع حكام الأقاليم والسلاطين والفقرا والعلماء بدون اجر(السخرة ). ويمكن ان نقول بشكل اجمالى ان المزارعين كانوا يقومون بزراعة اراضيهم المحدودة ويدفعون ضرائبها ويزرعون الحاكورة او الاقطاعية كعمل تطوعي بدون مقابل اما الأرقاء فقد عملوا كعبيد لأراضي السلطان ورجال الدين.

    لم يتغير الحال كثيرا فى اثناء الحكم التركى المصرى، رغم التحسينات التي أدخلتها الحكومة بهدف تطوير القوى المنتجة في الزراعة والانتاج الحيواني، إلا ان الضرائب الباهظة التي كانت تفرضها الحكومة على المزارعين والرعاة أدت إلى هزيمة هذا الهدف، فقد هجر آلاف المزارعين سواقيهم في الشمالية، كما هرب آلاف الرعاة بمواشيهم إلى تخوم البلاد، وهكذا نجد ان سياسة الحكومة التي كانت تعتمد على القهر والضرائب الباهظة أدت إلى انخفاض الانتاج الزراعي والحيواني، وبالتالي أدى ذلك إلى تدهور الأحوال المعيشية والمجاعات والأمراض والخراب الاقتصادي، وغير ذلك مما شهده السودان في السنوات الأخيرة للحكم التركي المصري.

    الادارة القبلية

    اذا كانت الزراعة هى اساس النهضة فقد استدعت مباشرة التنظيم الملائم لادارتها فى كل عصر والذى حدث عن طريق التوحد فى قبائل أساسًا للنظام الاجتماعي لدواعى الحماية وحل المنازعات والتواصل مع القبائل المجاورة. وفى كل منطقة جغرافية معينة يتميز بعض الافراد او الاسر ويتولون قيادة القبيلة ليبدا توارث القيادة فى هذا الفرع القبلى المعين. وببروز أسرة أو سلالة معينة تتمتع بقدرات تنظيمية وعسكرية ودرجة معينة من الرقي الحضاري في الغالب، مقارنة بما حولها، تقوم هذه الاسرة بالاستيلاء علي السلطة في البلد المعين وتوحد القبائل الأخري وتخضعها لسيطرتها، ويصبح بعد ذلك نظام الحكم الملكي متوارثا في هذه السلالة حتي يندثر حكمها وتحل محلها سلالة جديدة. وفي سودان وادي النيل حكمت سلالات معينة في ممالك: كرمة ونبتة ومروي وممالك النوبة المسيحية، وبغض النظر عن منشأ تلك السلالات وأصلها، لاشك انها كانت تتميز بقدرات عسكرية وتنظيمية ودينية جعلتها تفرض سيطرتها علي بقية القبائل وتؤسس هذا النظام الملكي أو ذاك. وفي دارفور قامت أسرة سليمان سولونج بتوحيد القبائل العربية والافريقية حولها وكونت سلطنة دارفور. ان الدافع لاتحاد هذه المملكات والمشايخ اختياريا هو حاجتها لحماية طرق القوافل التجارية وتطوير التجارة الداخلية والدفاع عن نفسها ضد الغارات المحلية والغزوات الخارجية. تطورت الادارات القبلية مع التطور الاقتصادى الاجتماعية والتنظيمات السياسية وعند وصول الاتحاد الفونجي- العبدلابي كانت القيادات القبلية المحلية ضاربة بجذورها فى كافة انحاء القطر، اذن كان نظام الحكم لامركزيا لحد بعيد تمتع فية زعماء القبائل بسلطات واسعة الى حد انها شكلت وحدات ادارية منفصلة (مملكة بني عامر، مملكة الجعليين، مملكة الميرفاب، مملكة الرباطاب، مملكة الشايقية، مملكة الخندق، مملكة الخناق، مملكة ارقو...الخ)، وكانت السلطنات الاخرى تتماثل فى نفس الخصائص. (تاج السر عثمان : مرجع سابق).

    جاء الغزو التركى المصرى فى 1821 م ليحدث تغيرات عميقة فى علاقة السلطة والقبيلة، فاهدافها المتمثلة فى استنزاف الموارد المالية والرقيق جعلها تتجة لاقامة نظام شديد المركزية، السيطرة التامة على القبائل وتقليل سلطات القيادات المحلية الى اقل حد فى مجالات بسط الامن والنظام، جمع الضرائب والمكوس. ساهمت القيادات القبلية بشكل مباشر فى الثورة المهدية، خاصة فى القطاع الرعوى، لكن هذا لايعنى ان القبائل النيلية لم تساهم الا انها كانت اكثر ارتباطا بالسلطة المركزية بحكم ارتباطاتها المصلحية. قللت المهدية من قيمة الزعامة القبلية فى القيادة السياسية وحاولت تجاوزها عن طريق وضع معايير جديدة للاختيار وتوحيد المذاهب اثناء الثورة. لم تسنح للدولة الوليدة ان تحدث تحولات كبيرة فى النظام القبلى الادارى لانشغالها فى الحرب والمنازعات الداخلية والخارجية وغياب رؤية واضحة للخليفة فى البناء الوطنى. القسوة التى جمعت بها الضرائب والتوترات التى تلتها فى العهد التركى جعل الاستعمار الانجليزى المصرى يعيد النظر ويعطى الشيوخ حق جمع الضرائب واحصاء السواقى والاطيان بعد ان تتم مراجعتها بواسطة المديريات وتحصل ضرائبها بواسطة الشيوخ نظير اجر. كان هذا النظام النواة الاولى لنظام الحكم غير المباشر الذى تبنتة السلطات الاستعمارية والحكومات الوطنية المتعاقبة. ادى هذا الى تقليل ارتباط الافراد بقبيلتهم والتخلى عن مهنهم والتحرك الى مناطق مختلفة من القطر. (السنى بانقا: اضواء على النظام القبلى والادارة فى السودان موقع www.almostafa.com ) .

    الطبقة التجارية

    كان الدافع التجاري من الأسباب التي عجلت بانتشار الإسلام والقبائل العربية في السودان، إضافة لدخول العرب السودان طلبا للكلأ والماء وفرارا من الاضطهاد السياسي في حكم السلالات غير العربية فى مصر. وبالتالي جاء التجار العرب إلي بلاد النوبة وانتشروا فيها بخبرتهم السابقة، وهكذا بدأت بذور وجذور رأس المال التجاري والطبقة التجارية في السودان، وبدأ اقتصاد السلعة - النقد يظهر جزئيا في بلاد النوبة، إضافة للمقايضة (تاج السر عثمان: نشأة وتطور الرأسمالية السودانية، الحوار المتمدن - العدد: 2362 - 2008 / 8 / 3 ).

    ارتبط قيام دولة الفونج بحاجة طبقة التجار النامية من التجار المحليين والعرب الى توفير ظروف ملائمة لانطلاق رأس المال التجاري. لكن الضعف النسبى لهذة الطبقة ادى ان يتولى الحكام تنظيم العمليات التجارية والسيطرة عليها، خاصة سلعتى الرقيق والذهب. وامتد نشاط هذة التجارة عن طريق الشبكات التجارية القديمة للعالم الخارجي. هذه الهيمنة كانت سمة من سمات النظم الشرقية الاستبدادية القديمة في الصين ، مصر ، الهند .. الخ ، وبأشكال متفاوتة، ولكنها كانت من معوقات انطلاق الطبقة التجارية أو الرأسمالية التجارية المستقلة عن سيطرة الطبقة الإقطاعية الحاكمة . وكانت هناك مراكز تجارية هامة مثل : بربر، شندى، سواكن، فازوغلى ...الخ .

    جاء الغزو التركى للسودان مترافقا مع الضعف الذى اصاب السلطنات نتيجة عوامل متشعبة ربما اهمها التناقض الكبير بين النمو التجارى والتجارة الخارجية والداخلية والتي قويت شوكتها بمرور السنين والسيطرة المتزايدة من قبل الحكام على هذة التجارة، حتى دخلت في تناقض مع النظام الإقطاعي مما شكل أحد الأسباب لانحلاله وتفككه. و تداخل مع هذا عوامل متشعبة من النزاعات القبلية مما ادى لضعف العائد من التجارة الخارجية والضرائب نتيجة لانعدام الأمن. وكما اشار تاج السر عثمان فقد كان نظام الفونج إقطاعيا، وتم تحلله وتفككه تقريبا بالآليات نفسها التي تفككت بها النظم الإقطاعية الأوربية والشرقية ، ولكنة لم يتطور بشكل طبيعي باطني، بل زال بأثر خارجي هو الاحتلال التركي للسودان.

    السودان الحديث صنيعة الاستعمار التركى المصرى، فقد دفعت اطماع اقليمية والنزعة الامبراطورية لمحمد على باشا لغزو السودان للسيطرة على الموارد المالية وعلى تزويدة بالرجال لتجييشهم فى العمل الحربى والاتجار بهم فى السوق العالمى (المال والرجال). على طوال اكثر من سبعة عقود (1821-1884) تم تكوين السودان وتوحيدة وربطة من خلال سلطة مركزية حاكمة حيث اكتمل بنائه بضم المديريات الجنوبية وبسقوط سلطنة الفور عندما هزم الزبير باشا رحمه السلطان إبراهيم قرض في واقعة منواشي عام 1874م وانضمت دارفور للإدارة التركية المصرية (البروفسير تيم نبلوك، السودان الدولة المضطربة 1698- 1989، جامعة امدرمان الاهلية 2002 ، ترجمة محمد على جادين).

    تم انشاء جهاز ادارى مسنود بقوة عسكرية حاسمة لتأمين الاغراض التى جاءت بالاتراك فتم اولا انشاء دولة ممركزة مدنية حديثة تناصر شرعيتها مؤسسة العلماء الرسمية كامتداد للايديولوجية الاشعرية السنية، وادخل التعليم المدنى والقضاء المدنى . كان هذا مطلوبات انتزاع التجارة من الطبقة الحاكمة القديمة وتوسيعها وفتحها على الخارج عن طريق التجار الاوربيين. ترافق مع هذا نمو الطبقة التجارية المحلية والتى عملت فى التجارة الصغيرة فى كافة ارجاء البلاد وتقديم التسهيلات للمزارعين فى المناطق النيلية ولكن فرضت عليهم ضرائب باهظة وكانت تجمعها بعسف واذلال وشراسة. رافق ذلك العمل على التوسع فى الزراعة وتطويرها وادخال محاصيل نقدية جديدة والعمل على تطور زراعة القطن وشق القنوات للتوسع في زراعة الأحواض وتشجيع تعمير السواقي وارسال الطلاب إلى مصر للتعليم والتدريب الزراعي وجلب المحاريث لحراثة الارض وانشاء المخازن في المراكز الرئيسية على طول الطريق إلى مصر لتوفير مياه الشرب لتسهيل الحركة التجارية وتصدير المواشي بشكل خاص واهتمت بالثورة الحيوانية وجلبت الفلاحين والعمال المهرة في الزراعة واهتمت بالتقاوي المحسنة والأشجار المثمرة واهتمت بمكافحة الآفات مثل الجراد .

    ويرى تاج السر عثمان ان سمات وخصائص التشكيلية الاقتصادية- الاجتماعية لدولة الحكم التركي كانت تشكيلة تابعة موظفة لخدمة أهداف دولة محمد علي في مصر. أرتبط السودان بالسوق الرأسمالي العالمي عن طريق تصدير سلع مثل الصمغ العربي ، العاج ، القطن ...الخ وتم التوسع فى تجارة الرقيق بشكل لا مثيل له في السابق. بالتالي تم إفقار السودان وتدمير قواه المنتجة (المادية والبشرية)، هذا إضافة للأرباح الهائلة التي كانت تحققها الطبقة الحاكمة والتجار الأجانب من احتكار تجارة السودان الخارجية وكان ذلك جذراً أساسياً من جذور تخلف السودان الحديث. ورغم هذا فقد كانت هذة التغييرات محدودة بالمراكز الحضرية وضفاف النيل وظل الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي في السودان خلال تلك الفترة حبيس القطاع المعيشي (التقليدي) وظلت قوي الانتاج وعلائق الانتاج بدائية ومتخلفة، ولكن الجديد ان السودان عرف البذور الأولى لنمط الانتاج الرأسمالي والذي نشأ مع اتساع التعامل بالنقد والارتباط بالتجارة العالمية وتحول قوة العمل إلى بضاعة، واقتلاع آلاف الفلاحين من أرضيهم نتيجة للقهر والضرائب الباهظة . ازداد نمو الشعور القومى بتاثير الحكم التركى نفسة والحركات الصوفية خاصة الطريقة الختمية والسمانية والتجانية والتى اعطت هويات تتجاوز الهوية القبلية، ادت جميعها الى قيام ثورة تحررية ذات صبغة دينية. (تاج السر عثمان: مرجع سابق)

    ورثت المهدية السودان بحدودة التركية واغلب جهازها البرقراطى وان اقفلت مصدرها من المدارس. حررت المهدية التجارة من السيطرة الأجنبية وهيمنت الدولة نسبيا عليها وانشأت اسواق ثابتة وحاولت تنظيمها ولكن من جانب آخر فقد أدت الحروب والاضطرابات والفوضى الى اضعاف فعالية النشاط التجاري في المهدية وكذلك ادى انشغال السكان فى الحرب الى تقلص الفائض من الانتاج الزراعي للسوق. ولكن هذا التحرير رافقة كما سنلاحظ ظاهرة جديدة في فترة المهدية وهى وجود مصدر جديد من مصادر تراكم رأس المال التجاري للدولة ، يختلف عما كان عليه الحال أيام الفونج والحكم التركي ،وهو ملكية الدولة مثل الدكاكين والوكالات والعصارات والطواحين والبنوك أو الدكاكين الحرفية التجارية والمشاريع ، وبالتالي دخلت الدولة كمستثمر تجارى في تلك المشاريع التي أممتها وصادرتها من التجار الأجانب والمحليين مما زاد من هيمنة الدولة على التجارة . يوضح مواقع تركز السلطة والثروة فى المهدية والذى يشمل الحكام، الخليفة وحكام الأقاليم وكبار موظفي الدولة من عسكريين ومدنيين وامراء كما يشمل زعماء ومشايخ القبائل، وقد جمع هؤلاء بين السلطة والثروة من مواقعهم ومناصبهم ومن حيازتهم للأراضي التي تمت غنيمتها. اتسعت الطبقة التجارية في فترة المهدية، وبالتالي زاد أفراد هذه الفئة بواسطة الارتباطات بالحكام الجدد، بينما تقلص نفوذ التجار الأجانب والتجار المعارضين للمهدية، وقد اصبح كثير من البقارة تجارا أثرياء. ورغم عزلة المهدية بشكل جزئي عن السوق العالمي ومحاصرتها تجاريا على النطاق العالمي ، إلا ان الرأسمالية التجارية واصلت نموها وازدهارها واستمرت التجارة مع العالم الخارجي، وان كان بشكل اقل من فترة الحكم التركي، وبالتالي تغلبت المصالح التجارية والمادية على الحواجز الأيديولوجية. حدث ايضا تطور ملحوظ لبعض الصناعات الحرفية والصابون والطواحين.

    بدخول البضائع الانجليزية الجيدة الصنع، وبكميات كبيرة وبدون جمارك من أقمشة وأحذية وأدوات منزلية وبأسعار رخيصة، تم القضاء على الصناعات الحرفية. عليه ومنذ تلك اللحظة استمر التخلف الاقتصادي والاجتماعي من خلال تخصص السودان في انتاج محصول نقدي (القطن)، وبالمقابل اصبح السودان مستهلكا للبضائع الأوربية، وتم تدمير الصناعة الوطنية وتوقف التنوع في زراعة المحاصيل الغذائية الأخرى .( تاج السر عثمان: نشأة وتطور الرأسمالية السودانية، الحوار المتمدن - العدد: 2362 - 2008 / 8 / 3 )

    الحركات الصوفية

    العامل الثانى الذى ساعد على قيام السلطنات وتدهورها (السلطنة الزرقاء، الفور، المسبعات، تقلى..الخ) هو وفود الطرق الصوفية والذى سيكون لها اثارا ممتدة فى الزمن السياسى حتى عصرنا الحالى وتؤثر فى ملامح الرؤية التى ستطرح لحكم البلاد وتطورها. وسوف نتناول الحركات الصوفية ليس من بعدها العقائدى والذى تختلف فية الاراء وتتباين ولكن اسباب تطورها ودخولها السودان واثرها فى البناء السياسى. ننطلق فى تحليلنا للصوفية من ملاحظة وردت فى كتاب البروفسير تيم نبلوك " كان نمو وتطور الحركات الصوفية فى العالم الاسلامى فى اطار الخلفية التى ادت الى تدهور الامبراطورية العربية الاسلامية، ومن ثم التحول من الاتجاة العقلانى الى التوجة الصوفى الباطنى، حيث تقدم الحركة الصوفية الطريق الموصل للة". سوف نتابع تحليلنا للصوفية الاسلامية لنرى تاريخها وتوجهاتها الايديولوجية لعلها تفسر لنا كثيرا من المواقف السياسية والايديولوجية تجاة السلطات المتعاقبة بدأ من قيام السلطنات. (البروفسير تيم نبلوك، مرجع سابق).

    يلخص شيخ الإسلام ابن تيمية تطور العلوم العربية الاسلامية في القرون الهجرية الاولى بقوله: "في أواخر عصر التابعين حدث ثلاثة أشياء: الرأي، والكلام ، والتصوف، فكان جمهور الرأي في الكوفة، وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة". الانقسام الذى شهدتة الساحة الاسلامية في القرون الهجرية الاولى كان محاولة تقديم اجوبة للاسئلة الجديدة التى تطرحها الحياة خارج الجزيرة العربية وادت لتأسيس مدرستان اولهما كانت مدرسة الرأى فى الكوفة وهى مدرسة قادها الصحابي الجليل عبد اللة بن مسعود والامام ابو حنيفة النعمان (رض) وتعتمد على افتراض الواقعات والقياس عليها واستخراج التشريعات الملائمة، ومدرسة اهل الحديث فى الحجاز وكانت بقيادة الصحابي الجليل مالك ابن انس (رض) وتعتمد على القران والسنة فى تقديم الاجوبة. (الدكتور حسين مروة : النزعات المادية فى الفلسفة العربية الاسلامية، دار الفارابى، بيروت، 1979 )

    من تطور مدرسة الرأى فى الكوفة فى حلقة ابو الحسن البصرى خرج التيار العقلى مدرسة علم الكلام وابرز ممثليها المعتزلة. وقد ارتبطت بدايتها باختلاف ابو الحسن البصرى وتلميذة واصل ابن عطاء حول تعريف مرتكب الكبيرة ومنزلتة يوم القيامة. لقد بدأ الاعتزال تأويلا عقليا لمعاني الإسلام، وعندما اطلع على علوم وفلسفات أجنبية استعان المعتزلة بها في الدفاع عن موقفهم هذا فصار لهم موقف عقلي متكامل في تفسير حقائق الإسلام. بنى الاعتزال على خمس: العدل: ومعناه ان الانسان مختار ويحاسب على فعله ان خيرا فخير، وان شرا فشر؛ التوحيد: ومعناه ان الله ليس له صفات كصفات البشر فذاته واحدة وصفاته هي عين ذاته؛ الوعد والوعيد: ومعناه ان الله سينفذ وعده ووعيده قطعا. فلا يطمع العصاة في شفاعة ولا يخاف البررة من عقاب؛ المنزلة بين المنزلتين: أي ان مرتكب الكبيرة لا هو بمؤمن ولا هو كافر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعناه ان يتخذوا موقفا إيجابيا من إرشاد الناس. اثر علم الكلام المعتزلى ايجابيا على العلوم العربية الاسلامية بخروج علم الكلام الاشعرى الذى رغم رفضهم حصر المعرفة عن طريق العقل الا انها عقلنت اللاهوت الاسلامى (اعتماد العقل والنقل)، الذى صار الايديولوجية السنية الرسمية فاتحة الطريق امام المسلمين للانفتاح على العلوم الطبيعية والفلسفية. (الامام الصادق المهدى: يسالونك عن المهدية، 1974 http://www.umma.org )

    بدأت حركة الزهد، النواة الجنينية للتصوف فى الاسلام، فى القرن الاول الهجرى نتاج رفض بعض افراد المجتمع لمظاهر الصراع على السلطة ابان عهد سيدنا عثمان بن عفان وتطورت من ظاهرة فردية الى تيار ضد الاستبداد الاموى والتمايز الاجتماعى والثراء والترف الحضارى على اثر الغزوات الاسلامية الكبيرة. وتطورت لاحقا من احتجاج سلبى كموقف سياسى على واقع العلاقات الاجتماعية والسلطة السياسية الممثلة لها، الى تيار ايديولوجى مستقل داخل علم الكلام. حدث هذا التطور اثر زوال حكم العصبية الاموية العربية ووصول العباسيين الى الحكم وتأسيس الحكم القائم على الغاء العصبية والثيوقراطية اعتمادا على نسبة العباسيين للعترة الشريفة. حكم العباسيون باعتبارهم ممثلوا النبوة والشريعة، والدولة امتدادا لها وهم خلفاء اللة فى الارض واصبح هذا المستند النظرى لنظام الحكم الملكى الوراثى. من جانب اخر احتكرت السلطة بصفتها التمثيلية تلك على افكار الناس، وطرق تحصيلها، ومصادرها وعلى نوع المعرفة نفسها.

    ادى تطور مقاومة استبداد الدولة العباسية الى تطور علم الكلام نفسة الى تيارين اساسيين: التيار الفلسفى والتيار الصوفى. فى بحث التيار الصوفى لاكتشاف مصادر بديلة للمعرفة من المعرفة الايمانية الصرفة والمعرفة العقلية البرهانية التى شكلت تيارات علم الكلام الاساسية توصلت الى اختطاط المعرفة الصوفية التى تتوفر لاهل الولاية فقط، وان اهل الولاية يجترحون خوارق الطبيعى "الكرامات" وانهم يظهر لهم ما لا يظهرة لاحد من العالمين. اى ان المعرفة الصوفية تجعل صلتها بالخالق مباشرة. (الدكتور حسين مروة: مرجع سابق )

    الاطار النظرى المعرفى مشترك بين كل مناحى الفكر الاسلامى فى معرفة اللة، الوحدانية والتنزية المطلق. ولكى تتمكن الصوفية من شق طريقها المستقل كان لابد ان تعالج خمس قضايا تتداخل مع الاطار النظرى المعرفى المشترك وهى نظرية المعرفة، الظاهر والباطن، الشريعة، الاشراق ووحدة الوجود. عالجت الصوفية نظرية المعرفة من معرفة صفات الوحدانية وهو خاص باهل ولاية اللة المخلصين الذين يشاهدون اللة بقلوبهم، اى معرفة خارج الحس والعقل عن طريق الكرامات والحضرات وهى صلة مباشرة بدون وسائط باللة. ولدعم هذة النظرية طرحت نظرية الظاهر والباطن "التأويل" كشكل من المعرفة، وفكرة الظاهر والباطن موجودة فى التراث السنى بل وردت فى القران فى وصف علم النبى يوسف علية السلام وفى سورة النساء " يا ايها الذين امنو اطيعوا اللة واطيعوا الرسول واولى الامر منكم. فان تنازعتم فى شىء فردوة الى اللة ورسولة ان كنم تؤمنون باللة واليوم الاخر. ذلك خير واحسن تأويلا ( سورة النساء 4 الاية:59 ). فالنصوص المقدسة والشريعة هى الحقيقة الظاهرة ومعرفة الصوفى "الباطن" هى الحقيقة، اى ثنائية الحقيقة ( يمتلىء كتاب الطبقات بعشرات الامثلة عن تطبيقات هذا المفهوم). مع تجاوز الشريعة، عن طريق الظاهر والباطن، كانت الصوفية تسقط سند الدولة، وبالتالى اسقاط كل مشروعية الدولة المستبدة ولكنها فى نفس الوقت عانت من تناقض جلل لان التوحيد يستدعى التنزية عن العلاقة المباشرة لذلك عالجت هذة العلاقة المباشرة ضمن جملة حلول من مثل الحلول، الاتحاد، الاشراق..الخ. لاحقا طورت الصوفية المتاخرة فى القرن السادس الهجرى على يد محى الدين ابن عربى مفهوم وحدة الوجود الصوفية، التى حاولت معالجة التناقض بين التنزية والاتصال العرفانى بالذات الالهية وتتلخص فى ان الوجود واحد وما عداها تجليات لهذا الوجود، وانة وجود ازلى ولكن وجود العالم مرتبط بوجود الانسان الكامل وجميع البشر يمكنهم الوصول لهذة المرتبة الرفيع ولكن عمليا لايصلها الا الانبياء واقطاب الصوفية.

    تحولات الصوفية فى السودان

    الحركة الصوفية التى كانت رد الفعل الاحتجاجى لعرب العراق الذين تربوا فى ظل الامام العادل الحكيم سيدنا على ابن ابى طالب ضد العصبية القرشية الاموية، جاءت للسودان كجزء من الانتشار العربى الاسلامى الذى صاحب دخول العرب للسودان فى ظروف ملائمة، ومما يسترعى الانتباة فى دخول الاسلام فى السودان، انة ورغم احتكاك العرب بة منذ العقود الاولى للاسلام ( غزوة عبد اللة ابن ابى السرح عام 31 هجرية) الا ان اسلام الدول السودانية تأخر ستة قرون. وفى اثناء ذلك تمت اسلمة السودان بشكل تدريجى واغلبها عن طريق الصوفيين، التجار وعامة الناس ولم يكن فى معيتهم العلماء والفقهاء كما جاء فى كتاب الطبقات " أعلم ان الفونج ملكت أرض النوبة وتغلبت عليها أول القرن العاشر، ولم يشتهر في تلك البلاد مدرسة علم ولا قران، ويقال ان الرجل كان يطلق المرأة ويتزوجها غيره في نهارها من غير عدة، حتي قدم الشيخ محمود العركي من مصر وعلّم الناس العدة ". (طبقات ود ضيف الله، تحقيق د. يوسف فضل، دار جامعة الخرطوم للنشر 1985م). تساق اسباب كثيرة عن هذا التاخر و دور الصوفية ولكن المؤكد ان الصوفيون الذين قدموا الى السودان بداية كانوا عربا وهم الذين مثلوا الدين الجديد لكنهم تمايزوا عن الحركة الصوفية الام.

    اولا: بحكم وضعهم فقد مثلوا فى السودان الانتماء المميز كعرب واصبحوا هم الهوية التى يسعى اصحاب الارض والبلاد للالتحاق بشجرة انسابهم ويبدو هذا جليا فى نسب الفونج الاموى ونسب الفور للهلاليين والنوبيون للخزرج ..الخ. وقد انتسب معظم قادة الحركات الصوفية اما للسبط الشريف او على الاقل لقريش. وبهذة الصفات فقد اصبحوا جزءا من الطبقة الحاكمة سواء محليا او على مستوى المركز.

    ثانيا: بديلا عن الصلة المباشرة بالمعبود الذى كان ديدن الحركات الصوفية الاساسية عند نشأتها والتى كانت فى حاجة لفهم عميق للدين فقد ارتبطت حركات الصوفية السودانية بالصلة بالنبى محمد (صلعم) مباشرة عن طريق الحضرة النبوية والكرامات وبذلك اكتسبت امكانيات تواجدها كسلطة خارج السلطة الزمنية والايديولوجية الرسمية للدولة ويفسر هذا انتشار المديح النبوى فى ارجاء السودان المختلفة. مكنها هذا ان ترتبط بمريديها بشكل مباشر وان تلعب دورا ايجابيا فى انصافهم عند السلطات مما كان يزيد فى شعبيتهم. وقد انتشرت الطرق الوافدة فى المجتمعات بسرعة واستطاعت تثبيت نفسها عن طريق تحالفاتها مع زعماء القبائل والتجار وبناء امكانيات مادية من العطايا والهبات والعمل المجانى من الاهالى فى اقطاعياتهم. مع تقوية الزعامات الصوفية المحلية بات ظاهرة قيام دويلات مستقلة عن المركز في لحظات ضعف الدولة المركزية شائعا، ظهرت دويلات دينية مصغرة داخل دولة الفونج ، مثل دولة العبدلاب في عهد الشيخ عجيب، أو دولة المجاذيب في الدامر والتي كان يجمع فيها شيوخ الطرق مباشرة بين السياسة والدين.

    صاحب القوات المسلحة التركى الغازى ثلاثة من علماء الدين يمثلون مذاهب مختلفة ومنذ البداية اتجهت لانشاء انظمتها الدينية الرسمية المركزية لتسويغ مشروعيتها من محاكم شرعية واستئناف مركزية ومحافظات، ومفتيين وفتحت فرص التعليم الدينى باقامة رواق السنارية فى الازهر الشريف. ورغم ان الطرق الصوفية فقدت كثيرا من ما كانت تتميز بة فى زمن السلطنات من سلطة معنوية واعفاءت ضريبية واقطاع اراض وغيرها، الا ان السلطات التركية عملت على ادخالها فى نطاق السلطة وبطشت بمن عاند او رفض ولكنها بشكل عام ساعدت الطرق الصوفية باعانة الخلاوى ومواصلة الاعفاء من الضرائب. ورغم التضييق الذى مورس على الحركات الصوفية فقد تعاونت طريقة الختمية مع السلطات التركية طوال تاريخها ولاحقا عادت المهدية كافكار ووقف مريدوها فى شمال السودان النيلى (اى القبائل المستقرة والتى تفضل العمل من خلال الدولة) موقف العداء الصريح ومعها القبائل التى كانت فى خدمة الحكم التركى من قبائل السودان النيلى واهمها الشايقية، الكبابيش والشكرية حتى اخر الشوط واعادة غزو السودان لاحقا. (د. عفاف محمد خيرى نصر: دور الطوائف الدينية فى العمل السياسى 1919-1956، الدار العربية للنشر والتوزيع،القاهرة،2006 )

    خاتمة

    من الصعب الفصل بين المجموعات سابقة الذكر (ملاك الاراضى، الطبقة التجارية، الطرق الصوفية والادارة الاهلية) عندما نتحدث عن نمو الراسمالية فى مختلف تشكيلاتها على مر العصور، فكبار ملاك الاراضى كانوا يتكونون من نفس هذة الفئات ومنهم الطبقة الحاكمة من الملك النوبى، المسيحى، السلاطين وغيرهم، وهم فى اغلب الاحيان كبار الطبقة التجارية والمتوسطة والمراجع الدينية وزعماء القبائل. ومثل صغار المزارعين والفلاحين الهدف الرئيسى ومصدر ثروات التجار ودافعى الضرائب للدول والعاملين عبيدا واقنان ومزارعين فى العصور المختلفة. ورغم ان الزراعة فى السودان ارتبطت باقتصاد معيشى محلى وساهمت فى توفير الغذاء المحلى ولم تدخل فى التجارة الخارجية الا لماما لغلبة منتوجات الطبقات الحاكمة ( الرقيق، المواشى، الذهب، سن الفيل، العاج، الاخشاب العطرية، ريش النعام...الخ)، لكنها دخلت حيز السلعة- النقد منذ العهد الفونجاوى. مع تطور الزراعة وادخال محصولات جديدة ودورات زراعية متعددة فى العهد التركى والاعتناء بمكافحة الاوبئة وارتباط البلاد بالامبراطورية المصرية ووفود التجار الاحانب اصبحت الزراعة ضمن الدورة التجارية العالمية واضيف للفئات السابقة التجارة الاجنبية التى ستصبح جزءا من هذة الفئات طوال العهد الاستعمارى وحتى سبعينات القرن الماضى. دخلت مجموعات جديدة ابان العهد المهدوى فى تكوين المجموعات سابقة الذكر (الخليفة وحكامة، الزعماء المرتبطين بالمهدية والانصار بشكل عام...الخ) واختفت فئة التجار الاجانب والاستنزاف الخارجى فى العهد المهدوى، لكن الزراعة نفسها عانت من عدم الاستقرار والحروب والنزاعات.

    يمكن ان اورد حال تاثير المحددات الاربع باعطاء مثال عيانى عن اسرتى كحالة نموذجية توضح هذة العلاقات بشكل عملى. عملت اسرتى بتجارة الحدود بين منطقة السكوت – فى الجزء الشمالى من المديرية الشمالية وعاصمتها عبرى- ومصر عن طريق حلفا. وقد تولى احد الاخوة شياخة القرية (مسئولية تقدير وجمع الضرائب، توزيع الاراضى، حل المنازعات وتوفير الامن والقضاء ) وتوارثها ابنائة، وعمل الجزء الاكبر من الاخوة كملاك للاراضى وفى نفس الوقت التجارة الداخلية والخارجية وتمويل المزارعين عن طريق نظام الشيل (تسليف المزارعين مدخلات الانتاج وتكلفة الحياة اليومية لياخذوها محصولا عند الحصاد) وفى نفس الوقت كانوا ممثلين للطريقة الادريسية وتولوا ايضا امامة الجامع وعقد الزواجات (اى مهام العلماء الرسميين).

    الفصل الثانى: مدخل منهجى لرؤى السودان

    منذ تكون السودان بحدودة الجغرافية منذ الغزو التركى المصرى 1821 وانتصار الثورة المهدية تصادمت رؤى عديدة لبناء الوطن. وقد ركزت معظم هذة الرؤى على بناء الدولة كمدخل لبناء الامة، حسب الفهم الدارج من الاساس الايديولوجى للرؤية عن الامة والدولة. تفردت عن هذة الرؤى رؤية المهدية، اللواء الابيض ورؤية السودان الجديد والتى طرحت بناء الامة على اسس جديدة ومن ثم صياغة الوعاء الملائم للدولة. يمكن ان نتابع الرؤى التى طرحت فى السودان لبناء الوطن منذ المهدية، اللواء الابيض، مؤتمر الخريجين والتى تطورت فى خضم الكفاح لنيل الاستقلال الى التبلور فى قيادة التطور على النهج السائد فى عهد الاستعمار ولخصها الزعيم الراحل اسماعيل الازهرى فى شعارة الشهير تحرير لاتعمير. الشعار الذى اعتبرتة الدراسات السودانية المختلفة مسئولة عن الخلل اللاحق من تفريغ الاستقلال والديموقراطيه من المحتوي الاقتصادي- الاجتماعي مما فتح الطريق للانقلابات العسكريه (عبد العزيز حسين الصاوي: العافيه الديموقراطيه درجات (http://www.sudaneseonline.com.

    اعتنت الرؤية فى العصر الحديث بالمعنى الايجابى فقط ويتم وصف المؤسسة، التى ليس لديها تصور عن المستقبل الذى تنشدة واي المسارات تسلك، انها بلا رؤية.عندما نتعرض لرؤي السودان لانعنى انها كفيلة حقا ببناء السودان بما نعتقدة نحن، نحن نعنى بالرؤية تصورا عاما لدى معتنقيها يستجيب للتحديات التى يطرحها الواقع العملى ومختلفا عن التصورات الجامدة السائدة، الاطار الفكرى الذى طرحت بها هذة الرؤية والبرنامج الذى تود تطبيقة لتنفيذة رؤيتها. الرؤية نظريا معنية اساسا بتحقيق الرفاة، العدالة والمساواة والكفاءة، والسماح بالتطور الطبيعى لقوى وعلاقات المجتمع بالنمو. اذا اتيح للجماعة المعينة تطبيق هذة الرؤية نخضع اقوالها وتصوراتها لافعالها لنرى امكانيتها لتحقيق الاهداف المرجوة، اى كان النظام الذى يحققها لان هذة المبادىء الحاكمة كفيلة بتقليم اظافر اى سلطة من العسف والاستبداد والظلم. عند تناولنا الرؤى السودانية سوف نحاول بالقدر الاكبر من الموضوعية تطبيق هذة المعايير على كافتها التى طبقت والتى لم تتح لها الفرصة. القصد ان يثرى هذا التحليل التوصل لرؤية قادرة على انتشال بلادنا من حالها.

    الرؤية الاولى التى تصدت لبناء الوطن هى الثورة المهدية، فالثورة التى رضعت و شبت على الموروث الصوفى فى اقصى درجاتة – المهدية- وبدلا ان تكون معادلا موضوعيا وتختار العودة الى فضاءات الحكم الفيدرالى والاختيار الحر للقادة والانفتاح الدينى خارج نطاق الدولة، اختارت ان تصبح وجة العملة الاخر للحكم التركى (الامر الذى سيتكرر فى تاريخنا بشكل دورى).

    الرؤية الثانية طرحتها ثورة 1924 . وبرغم شح الكتابات عن افكار اللواء الابيض وتعرض تاريخها لكثير من التشوية و الخلط ولكن ماهو هام فى هذة الرؤية ليس ما كانتة – فهى فى النهاية كانت رؤية فى طور التشكيل- ولكن فى الاضافة الفكرية، البرنامجية والعملية التى قدمتها مما كان يمكن ان تسترشد بة النخب القادمة فى صياغة رؤؤاها. لقد كانت هذة الثورة مفصلية فى تحولات عديدة وسياسات استعمارية اختلفت بشكل جذرى.

    الرؤية الثالثة ما سوف نطلق علية رؤية الرواد التى بدأت فى التبلور مع مؤتمر الخريجين 1937 وتطور مع الاستقلال وحتى 1969، كان نهجا استند لحد كبير على موروث التقاليد الاستعمارية والرؤى التى حكمت تطور الوطن الاقتصادي- الاجتماعي، العسكرى، الخدمات وغيرها. قادت هذة الرؤية احزاب ليبرالية واحزاب طائفية ليبرالية ونخبة مثقفة تكونت ابان الاستعمار ونالت تدريبها على نموذج استرشادى بريطانى ونموذج تنمية غربي.

    الرؤية الاخرى التى كان لها حضور قوى ومؤثر على المجال العالمى والمحلى وهى رؤية البناء الشيوعى وهى رؤية شاملة لتعامل الانسان مع محيطة الكلى ولكنها شمولية فى وسائلها وهى جزء من دعوة عالمية كانت لها تطبيقاتها المختلفة. وتتدرج هذة الرؤية من مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ومن ثم المرحلة الاشتراكية ثم الشيوعية. الرؤية الشيوعية كانت لها مرجعياتها المتعددة فى كثير من الدول ومكتبة ضخمة تروج لها وتنشرها بين الناس. هذة الرؤية وصلت نهاياتها العملية فى السودان فى يوليو 1971 وكانت وثيقة حول البرنامج للشهيد عبد الخالق محجوب اسطع صورها، ثم وصلت نهاياتها المنطقية بانهيار المعسكر الشرقى برمتة فى اواسط التسعينات من القرن الماضى. وتخضع فى العقود الاخيرة لمراجعة شاملة لم تتضح بعد مساراتها ومستقبلها.

    الرؤية القومية لها تاريخ طويل فى الحياة السياسية السودانية ويرتبط تصاعدها بشكل مباشر بتاثير تيار القومية العربية فى مصر بعد ثورة يوليو 1952 والتاثر الشديد بها، وكذلك تيار البعث العربى فى الشام واخيرا التيار القومى المرتبط باللجان الثورية الليبية. رغم بروز احزاب تمثل كل هذة التيارات القومية، الا ان ابرزها كان التيار القومى الناصرى ووجد اكثر تاييدة فى حلقات عسكر السودان، بل ان اول الخلايا السياسية فى القوات المسلحة كانت على نسق الضباط الاحرار المصرية وهى التى قادت انقلاب 1969. برغم اتكائة على الفصيل الشيوعى فقد تم الانفصال الكامل منذ 1971 ليبدا مسيرتة القومية حتى عام 1983 بداية بروز رؤية تيار الدولة الدينية.

    منذ تطبيق قوانين سبتمبر على يد الرئيس الراحل جعفر نميرى، انتقلت البلاد من الرؤية القومية الى رؤية تيار الدولة الدينية (ما اسمى لاحقا المشروع الحضارى). ورغم انها قد مرت بفترة ركود عام فى سنوات الديمقراطية فقد تهيأ لها المجال السياسى والاقتصادى للقفز على السلطة فى ظل فراغ رؤيوى. يستند المشروع الحضارى الى نظرية الحاكمية التى تطمح لهندسة المجتمع وفق صيغ ونظم مسبقة الاعداد وتنتهج وسائل شمولية فى تطبيقها. يتنوع النموذج الاسترشادى فى تطبيقات هذا النموذج ولكنها ارتكنت اساسا على تجربة المدينة المنورة والخلافة الرشيدة. ورغم انها تطرح قيما نبيلة فى وثائقها لم تستطع ان تزاوج بين قيمها ووسائل تطبيقها، فاعادت انتاج الاستبداد كطريقة للحكم.

    اعتمدت فى هذا الكتاب على مقالات ودراسات كثيرة من الصحف اليومية والمجلات الاسبوعية وكذلك الكتب التى قمت بتنزيلها من المواقع الاسفيرية والكتب المطبوعة وقد وضعتها فى السياق حسب الاستشهاد ولم اضمنها فى ثبت المراجع فى اخر الفصول تسهيلا للرجوع اليها.

    مدخل للرؤى السودانية

    ابدا هذا الفصل وانا عليم ان هذا مجال فية كثير من الاطروحات التى تفرق اكثر من ان توحد وانة لا يوجد نموذج ارشادى متفق علية خارج نطاق الايدولوجيات التى ترتبط باشكال حاسمة مع اساسات نظرية سياسية واجتماعية تعيش فيها هذة الاطروحات. اعتمادى على ما افائت بة العقول السودانية والعالمية من تحليلات وشروحات لما استغلق من مباهم. كما اتاح لى عملى فى المنظمات العالمية التعرف عن قرب على الاطروحات الايديولوجية المرتبطة بالدوائر الغربية وخاصة البنك الدولى فى تقديم الصياغات فى تغييرات السياسات الاقتصادية والتى لم تسلم منها بلادنا. مدخلنا محاولة لتقديم تحليل اقتصادى، اجتماعى وسياسى عام للرؤي واداء النخب التى تحكمت منذ الاستقلال وتناول كل الرؤى المختلفة التى طرحت من قبل القوى المختلفة فى ازمنة مختلفة ومن ثم محاولة تلمس بعض الاشارات العامة حول رؤية استراتيجية للتقدم وبناء الوطن.

    ارتبط عملى فى السنوات العشر الاخيرة من حياتى بمهمة مشورة قمنا بها كخبراء متعاونين مع صندوق الامم المتحدة الانمائى بالامارات العربية المتحدة، د. عبد القادر شلبى وشخصى، لوضع الخطة الاستراتيجية العشرية لتطوير النظام الصحى الاماراتى 2000-2010 . ومن ثم بناء على هذة التجربة تم اختيارى كخبير متعاون مع منظمة الصحة العالمية فى افغانستان لوضع اتجاهات السياسة الصحية والاستراتيجيات العامة لتطوير النظام الصحى فى ذلك البلد. مثلت هاتان التجربتان الاقتراب المكثف الاول من قضايا السياسات والرؤى الصحية على المستوى القطرى بعدما عملت زمنا طويلا فى مفاهيم الرؤية وتحليلها وصياغتها كجزء من برامج الجودة النوعية فى المجال الصحى. والتحقت بمنظمة الصحة العالمية بعدها مباشرة وتزاملت مع مجموعة من المع العقول فى مجال تطوير وادارة النظام الصحى بقيادة العالم الدكتور بلقاسم صبرى، وعملنا سوية مع كوكبة العلماء (د. ثمين صديقى، د. فاريبا الدرازى، د.حسين صالحى، د. غانم الشيخ ) فى العمل مع بلدان عديدة لوضع رؤى لتطوير واصلاح النظام الصحى ( باكستان، سوريا، شمال السودان، جنوب السودان، افغانستان، سوريا...الخ). اتاح لنا هذا عند اقترابنا من صياغة رؤية لتطوير واصلاح النظام الصحى التعرف بدقة شديدة على مجمل النشاط الاقتصادى- الاجتماعى، نظام الحكم، الحوكمة وطرق الادارة، الحريات العامة وطرق التمثيل اى باختصار دراسة عيانية عن رؤية الدولة فى كافة المجالات لرصد اثار المحددات الاجتماعية على صحة السكان.

    تشمل المنطقة التى تغطيها منظمة الصحة العالمية منطقة شرق المتوسط جميع الدول العربية (عدا الجزائر وموريتانيا)، الباكستان، افغانستان وايران. ويمكن بشكل عام ان نرى رؤية مكتوبة واضحة حول البناء الوطنى فى عمان والتى سنتناولها لاحقا وتجربة دبى التى عرضها سمو الشيخ محمد بن راشد، نائب رئيس دولة الامارات العربية المتحدة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، فى كتابة "رؤيتي، التحديات في سباق التميز". والتى تقوم على التجربة التنموية فى تحقيق الامتياز والانتقال بالإمارات ودبي من دورهما كمركز اقتصادي إقليمي، إلى القيام بدور حيوي كمركز اقتصادي عالمي، مع التركيز على قطاعات الخدمات المتميزة والسياحة واقتصاد الفكر والمعرفة، والطاقة البشرية المبدعة (http://www.sheikhmohammed.co.ae.

    تتراوح المنطقة التى تغطيها منظمة الصحة العالمية منطقة شرق المتوسط من انظمة جمهورية كانت ترزح تحت الحكم العلمانى الاقصائى ( مصر، تونس، ليبيا، سوريا واليمن) او اعتمدت الحل الاسلامى الاقصائى (السودان، ايران، طالبان وباكستان احيانا) واعتمدت دائما الحل القمعى لحل مسائل الاختلافات العرقية، الدينية او المذهبية. الانظمة الملكية (الاردن والمغرب) ودول الخليج العربى كانت افضل حالا فى توجهاتها الرؤيوية وادى نمو طبقة وسطى ناشطة فى وضعها فى الطريق للتطور الى ملكيات دستورية مع اختلافات بينها. واحة الديمقراطية، لبنان، ذات الخلافات المذهبية والدينية، بناء طائفى مثل فى المخيال العربى تجربة تعايش ممكنة وامكانية تقديم حلول للاوضاع المشابهة الا ان انزلاقها فى حرب اهلية طاحنة وطويلة والوضع القريب من التفجر والاغتيالات السياسية جعلتة مثالا غير قابل للفائدة على الاقل حاليا.

    تنوع محددات الرؤية ومسببات عدم الاستقرار فى هذا الاقليم كثيرة، يلعب العامل الاثنى جزءا منها من وجود اغلبيات مسلمة واقليات مسيحية كبرى (مصر، السودان قبل انفصال الجنوب ولبنان)، اغلبيات مسلمة سنية اوشيعية واقليات سنية اوشيعية (ايران، العراق، البحرين، السعودية، الكويت واليمن) واختلافات عرقية ( السودان، العراق، سوريا، ايران، افغانستان، المغرب). فى كل هذة التجارب والدول هناك غياب لنموذج عملى وناجح للتعايش بين هذة الاختلافات، غياب النموذج والتساؤلات المتواصلة عن تؤائم الاسلام والديمقراطية جعلنا نتجة للبحث عن التجارب الماثلة المشابهة. ورغم ان الهند كانت المثال الاكثر قربا والاغنى بكافة محددات الرؤية ومسببات عدم الاستقرار والنموذج الاقرب من حيث تاريخها الاستعمارى مع اغلب الدول فى المنطقة الا ان غلبة الديانة الهندوسية جعل النموذج الاقرب فى التجربة الماليزية والتركية.

    الرؤية العمانية

    لقد توصلت بعد عديد السنين ومراقبة اداء النظام الصحى الى الوصول لحقيقة بسيطة عن ارتباط الاداء الجيد والتطور المضطرد برؤية قيادة الدولة فى بناء الوطن ومدى وضوحها فى ذهن المنفذين والتفاف جموع الشعب حولها، بغض النظر عن النظام السياسى وتفاوتة فى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وتمثل تجربة عمان مثالا واضحا عن هذة الحقيقة، فالبناء الطويل ومشاركة العمانيين فى وضعها وتنفيذ الخطط الخمسية (بدا من اوائل السبعينات من القرن الماضى الى الان) والتى تشمل كافة مناحى الحياة ادت فى النهاية الى ان تصنف عمان كافضل نظام صحى فى العالم عام 2000 . والحقيقة الثانية ان التطور فى مجال معين يستحيل ان يحدث بشكل منعزل عن كافة المجالات وضمن رؤية تتضمن حلولا لكافة القضايا المعلقة. الحقيقة الثالثة ان الرؤية، وضوحها، تجسيدها وايمان القيادة المفعم بها ومن ثم نقل عدوى تبصرها لعموم الشعب هى العامل المهم فى بناء الامة او الوطن وليس المشروعات او الخطط الاستراتيجية. وسنرى ان الرؤية العروبية والاسلاموعروبية فشلت فى الاسهام فى بناء الامة او الوطن او تأسيس دولة حديثة موحدة مستقرة، رغم تدبيجها الخطط الاستراتيجية وانتقالها من خطة لاخرى والتظاهر بمشاركة الاخرين فى المؤتمرات المتنوعة لاغراض العلاقات العامة الخارجية وتسهيل تسلل المنتفعين اليها.

    كجزء من مناقشة دور الفرد فى التاريخ ومن ثم فى صياغة الرؤية قدم د. إبراهيم الكرسني عرضا للتجربة العمانية و دور السلطان قابوس بن سعيد، الإيجابي و الحاسم في بناء دولة عمان الحديثة، و تحديد مسارها التنموي. وقد ظهر أثر قيادته بائنا و جليا في جميع مناحي حياة المجتمع العماني. ودلل على صحة هذا الزعم بتناول التجربة العمانية، تحت قيادة السلطان في خمسة مجالات رئيسية، وهي: الإستقرار السياسي، التنمية الحضرية، التنمية البشرية، الإهتمام بالتراث و أخيرا تمكين المرأة. تمكن السلطان من صياغة نظام سياسي لم يحرق مراحل تطور المجتمع العماني، بل لقد شكل تاريخ عمان العريق أساس فلسفة حكمه التي بدأت بنظام ملكي مطلق، ثم تطورت، بأسلوب مدروس، الى ان أصبحت ملكية دستورية، يحكمها دستور مكتوب، و برلمان يتكون من هيئتين مجلس الدولة، و يتم تعيينه من قبل السلطان، و الثاني وهو مجلس الشوري، و يتم انتخابه من قبل الشعب العماني. و قد تم انتخاب مجلس الشوري بصورة متدرجة وفقا لتطور المجتمع العماني. أما المجال الثاني الذي يؤكد علي دور القائد في مسيرة الأمة فهو التنمية العمرانية التي شهدتها عمان تحت قيادة السلطان قابوس. لقد تم تحويل البلاد من مجموعة قري متناثرة، الي بلاد متحضرة تماما، و تم انتقال أهلها من عيشة الكهوف، الى العيش في منازل حديثة تصلها المياه الصالحة للشرب و الإمدادات الكهربائية، و انظمة الصرف الصحي، و توفرت الأسواق الحديثة، التي تعج و تزخر بالعديد من السلع الواردة الى البلاد من مختلف انحاء الدنيا. و ترتبط مدنها و قراها بسلسلة طويلة من الطرق المعبدة و المضاءة، كغيرها من الدول المتحضرة فعلا لا قولا. شكلت التنمية البشرية المحور الأساسي لمسار التنمية الإقتصادية و الإجتماعية فى البلاد. لقد فاق إهتمام السلطان بمستوي التعليم و الخدمات الطبية، اللذان يشكلان العمود الفقري لأي تنمية بشرية، حد الوصف. لقد أصبح التعليم النظامي الأساسي إلزاميا، و بالمجان، لجميع أطفال السلطنة من الجنسين. و قد انتشرت المدارس في القري و الحضر، لتغطي جميع مراكز و مناطق السلطنة. أكاد أجزم بانه لا يوجد فرد عماني واحد، في عمر التعليم الأساسي، يعاني من عار الأمية، بعد ان كانت هي الصفة الملازمة للمجتمع العماني قبل قدوم السلطان قابوس. و قد أصبحت الخدمات الصحية متوفرة للجميع، و بالمجان كذلك، وتشمل جميع مناطق السلطنة، بدءا من العاصمة مسقط، و حتي أصغر قرية نائية، كبديل موضوعي لأساليب الدجل و الشعوذة في علاج البشر. المجال الرابع، هو مدي إهتمام السلطان بالتراث العماني. بل لقد شكل ذلك التراث أحد دعامات فلسفة حكمه، لدرجة انه قد أفرد له و زارة خاصة لتهتم بدراسته و تطويره، أسماها وزارة التراث الوطني. ان إهتمام السلطان بالتراث قد نبع من مقولة، "من لا تاريخ له، لا مستقبل له"! أما المجال الأخير، الذي أود من خلاله تأكيد دور القائد في تاريخ الأمم، من واقعنا المعاصر، فيتمثل في تمكين السلطان قابوس للمرأة العمانية. لقد كانت المرأة العمانية، و كغيرها في العديد من البلدان الإسلامية، طاقة معطلة تماما، ترزح تحت نير الأمية و الجهل، و تكبلها العادات و التقاليد البالية. لقد انتبه السلطان قابوس لحقيقة هامة وهي، إستحالة إستكمال مسيرة التنمية الشاملة دون المشاركة الكاملة و الفاعلة للمرأة العمانية في تلك المسيرة. لذلك فقد أصبحت خطط التنمية الإجتماعية جزءا لا يتجزء من مسيرة التخطيط الشامل في عمان. (د. إبراهيم الكرسني: نموذجان لدور الفرد في التاريخ: الدكتور قرنق.. والسلطان قابوس http://www.sudaneseonline.com )

    حديث الرؤية

    اجريت عدة دراسات عن مسببات الآثار الضارة التى تحدث عند احتكاك المرضى بالمرافق الصحية (مايسمى سلامة المرضى): مثل دراسة جامعة هارفارد وتوصلت الى ان نسبة 4 ٪ من المرضى يعانون نوعا من الضرر في المستشفى ( 70 ٪ منها تسبب احداثا سلبية في فترة قصيرة و14 ٪ من هذه الحوادث تؤدي الى الموت)، دراسة المملكة المتحدة عام 2000 والتى تشير إلى ان الآثار الضارة للمرضى تحدث في حوالي 10 ٪ من حالات دخول المستشفيات، دراسة استراليا التى اجريت عام 1995 وصلت الى نسبة 16.6 ٪ من المرضى المترددين على المستشفيات وفى عموم اوربا في عام 2000 وجد ان 10% من المرضى يعانون من الآثار الضارة. واشارت دراسة عن الاثار الضارة عن الاخطاء فى العلاج الدوائى فى يوتا، كولورادو في الولايات المتحدة ان 75 ٪ منها تعزى إلى فشل النظام. وبالمثل، أكثر الأحداث السلبية ليست نتيجة لإهمال أو قلة التدريب ولكن تحدث بسبب من الأسباب الكامنة داخل النظم والتي تشمل على وجه الخصوص الاستراتيجية، الثقافه، والنهج تجاه إدارة الجودة ، الوقاية ، وقدرته على التعلم من الفشل.

    ليس هذا خاصا بموضوع سلامة المرضى ولكن يصدق عن كل المنظومات الادارية بما فيها النظام السياسى. بنى الفكر المفاهيمى السابق على النظر فى هذة الاثار الضارة باعتبار اغلبها مسئولية الافراد. ادى هذا الى الانماط الادارية التى كانت سائدة على كل المستويات – حتى السياسية- الى التركيز على الانضباط فى الحضور، التواجد فى مكان العمل والتصرف فى الامر المعين. هذا جزء مهم من المسألة، المسئولية الفردية، لكن اثبتت كل الدراسات السابقة ان المسؤولية الكبرى عن الآثار الضارة للمرضى هى أوجه القصور في تصميم، تنظيم وتشغيل النظام الصحى وباختصار الانظمة. (منظمة الصحة العالمية: التحالف العالمي لسلامة المرضى، برنامج 2005 ) .

    ان المدخل لمناقشة رؤى السودان انها نتاج فشل المنظومة الاقتصادية- الاجتماعية والسياسية فى ادارتها للسودان، اذن المدخل موضوعى وليس شخصى وعندما اقسوا على مجموعات او احزاب او تكوينات فهذا من قراءة المنظومة التى تؤدى الى الظروف الموضوعية التى تؤدى بالافراد للتصرف كما تصرفوا- يشاع ان المغفور لة الرئيس الراحل جعفر نميرى كان غاضبا من الشيوعيين لانهم وصفوة بالبرجوازي الصغير واخذها وكانها شتيمة. اننا عندما نوصم عصر الانقاذ بالفساد والاستبداد فاننا نعنى بالتحديد ان منظومة الدولة الخالية من الرقابة، المعتمة، والتى لاتستلهم مبادىء الحكم الرشيد الذى اتفق علية البشر فى هذة الانحاء منذ خطبة أبو بكر (رض) لما بويع بالخلافة بعد بيعة السقيفة " أما بعد أيها الناس فاني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فان أحسنت فأعينوني، وان أسأت فقوموني" . ان الاشخاص ومهما كانوا فضلاء عندما يجدون انفسهم فى منظومة مثل الانقاذ سيجدون المنظومة تشجعهم على الاعوجاج والاستبداد. ان كافة شعوب الارض، بعد تجارب مريرة من الملك العضوض، تواضعت على وصفات الديمقراطية، الشفافية، حكم القانون، المساواة والعدل والحكم الراشد،. ان الاشخاص عندما يجدون انفسهم فى منظومة سيدنا أبو بكر (رض) سيميل معظمهم الى السلوك المحترم والطريق السوى.

    تعريفات

    الرؤية هي وصف وصياغة للمستقبل الذي نتطلع الي تحقيقة ونتفوق بها على الاوضاع. ان الرؤية هي صورة ذهنية لما ينتظر في نهاية طريق لم نسلكة من قبل وهذه الرؤية تصوغ الاوضاع المستقبلية في نهاية هذا الطريق من مكونات وعناصر هذه الصورة. تعريف اخر للرؤية يأتي من بيرت نانوس، وهو خبير معروف لة عدة مؤلفات فى هذا الموضوع يحدد الرؤية باعتبارها واقعية تستند على الواقع المحسوس، ذات مصداقية قابلة للتصديق من ذوى الصلة لتلهمهم فى تنفيذها، جذابة فى تحفيز الجميع وجعلهم يودون ان يكونوا جزءا منها ومستقبلية ترسم صورة واضحة عن كيف ستبدو الامور بعد عدة سنوات.

    الرؤية تحقق عددا من الامور فهى تنمى الالتزام وتنشط الناس وتولد الحماس حول المسار وتزيد من التزام الناس إلى العمل لتحقيق تلك الرؤية، يخلق معنى في حياة البشر بشعورهم انهم جزء من كل أكبر، كما انها تضع معيارا للتميز وهى الجسر الذى يربط بين الحاضر والمستقبل. ان الرؤية هى الغراء الذي يربط الناس معا في قضية مشتركة. ربط أهداف كل فرد في كثير من الأحيان مع أهداف المنظمة الغرض منة الحاجة إلى بذل جهد جماعي منسق لإخضاع المصلحة الفردية إلى الهدف الأكبر الذي يمكن تحقيقه فقط من خلال الجهد الجماعي. بعد صياغة الرؤية تأتي الغايات (الأهداف) والتي نستطيع ان نصفها بأساليب الوصول وتحقيق الرسالة وهى يجب ان تكون محددة وواضحة ويكون أفضل لو ارتبطت بنسب معينة ، قابلة للقياس وان يحدد الفترات اللازمة لتحقيقها .وبالتالي فالأهداف تقسم إلى أهداف قصيرة وقريبة المدى وأهداف بعيدة أو طويلة المدى لذلك فالأهداف تعتبر هي النتيجة العملية للرؤية.

    الرؤية تحتاج الى حامل او وعاء هم القادة، ان القادة المميزين ليسوا هم الذين تتوفر لهم الرؤية فقط ولكن هم الذين يستثمرون اوقاتهم وجهودهم في الترويج لها وحملها الى الاخرين واقناعهم بها. القائد الحقيقى هو الذي تتوفر عنده دائما رؤية واضحة للواقع الذي يتطلع اليه والذي يريده بشرط ان يكون قادرا على ايصال هذه الرؤية للعاملين والشركاء والاخرين الذين يعتمد عليهم في جني ثمار هذه الرؤية كما ان عليه ان يعمل على حفز العاملين واثارة طموحاتهم ودوافعهم للعمل بطريقة طوعية وتلقائية وبذل مساهماتهم وقدراتهم لتحقيق وتجسيد هذه الرؤية.

    نظريات ومفاهيم حول الرؤية

    عندما نحلل رؤي السودان سوف نستعين بثلاثة مجموعات من النظريات والمفاهيم. اولها: مفهوم الامة والدولة، الثانى: مفهوم التيار الرئيسى وفيها ننظر الى تحولات وتنوعات الاتجاهات السياسية الرئيسية التى تسود فى مراحل مختلفة من النطور السياسى فى السودان. ثالثا: نظريات ومفاهيم التنمية السياسية واخيرا: نظريات المؤامرة.

    اولا: مفهوم الامة والدولة

    نعالج مسالة الامة والدولة لانها شكلت منذ بداية ماعرف بالسودان تجاذبات مختلفة لازالت تدور رحاها حتى الان. حتى الغزو التركى كان مايعرف بالسودان ممالك متنوعة على مر تاريخة، ومع الغزو بدأ تشكيل الدولة بالقوة العسكرية. مع المهدية، التى كانت تتوق لفضاء اسلامى اوسع، بدأ تشكل القومية السودانية ولو بشكل بدائى. مع ثورة 1924 بدات فى البروز مايسمى بالامة السودانية (عنون على عبد اللطيف مقالتة لمجلة الحضارة: مطالب الامة السودانية)

    الامة

    الأمة، لفظ ورد في القرآن الكريم (49) مرة، وهو من أصل عبرى يعني الجماعة او القبيلة. وقد أستُعمل في القرآن بهذا المعنى أصلا، ليفيد ان المسلمين (المؤمنين) أمة (اى قبيلة) في مواجهة باقى القبائل، مثل قبيلة قريش أولاً، ثم فيما بعد مثل قبيلتي الأوس والخزرج بالمدينة وقبائل اليهود فيها بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة. وأمة كل نبي، من أُرسل اليهم من مؤمن او كافر، وقيل كل جيل من الناس أمة، وقيل كل جنس من الحيوان أمة. وفي معاجم اللغة ان الأمة هى الجماعة يؤلف بينهما رابط إما من دين أو أصل او مكان أو نحوه، كما يقال الأمة الاسلامية او أمة محمد، مثل (إنا وجدنا آباءنا على أمة) سورة الزخرف 43:22، رجل جامع لخصال الخير، كما لو كان يساوى قبيلة، مثل (إن ابراهيم كان أمة) اى إن ابراهيم كان يكافئ أمة، كما يقال إن فلان بعشرة رجال او بمئة رجل، وهكذا (لسان العرب، المعجم الوسيط، المعجم العربي الاساسى) مادة : أمم. (المستشار محمد سعيد العشماوي: دستور الاسلام المستنير: الامة والدولة)

    ومن المفكرين الاسلاميين من بحث في مفهوم الأمة في الجانب الإجتماعي والتاريخي ومن بينهم الفارابي وابن خلدون . حيت اعتبر الفارابي الأمة وحدة طبيعية اجتماعية سياسية متميزة مركزا على عوامل الارتباط وهو تشابه الخلق والشم الطبيعية والاشتراك في اللغة والبيان وان التباين في تباين هذه العوامل. مثله مثل الفارابي تعتبر نظرة ابن خلدون موضوعية حيث وضع عوامل مكونة للأمة مثل الأصل الواحد،وحدة البيئة والمناخ والعادات ، وغير ذلك من المميزات والطبائع (مفهوم الدولة والنظريات المفسرة لنشأتها: http://mtcalather1986.yoo7.com/t140-topic )

    من أهم التعاريف التي أعطيت للأمة: -التعريف الموضوعي: ويتزعمه الفقه الألماني حيث يتصورون أن قيام الأمة يعتمد أساسا على العرق واللغة ثم الدين والأرض وبذلك يتوحدون في دولة واحدة. التعريف الشخصي: تبناه الفقه الفرنسي ومن بينهم الكاتب "أرنست رينان" حيث يعرف الأمة بأنه يقوم على عنصرين: أ- الانتساب الى ماضي مشترك مثل: الحروب، والأفراح، الانتصارات، الإحساس المشترك. ب- إرادة بناء مستقبل مشترك أي العيش معا.إضافة إلى عوامل أخرى: مثل القرابة ووحدة المصالح الاقتصادية. تعريف ستالين : (النظرية الماركسية ): "الأمة هي جماعة إنسانية ثابتة تكونت تاريخيا ونشأت على أساس من وحدة اللغة ووحدة الإقليم ووحدة الحياة الإقتصادية والتكوين النفسي والعقلي الذي يترجم ويتجسد في الثقافة المشتركة.

    الدولة

    اما الدَّولة، فهو لفظ لم يرد في القرآن بمعناه الحالى، وورد في معاجم اللغة الحديثة وحدها بما يعني (1) الاستيلاء والغلبة (2) اقليم يتمتع بنظام حكومى واستقلال سياسى. وقد جاء اللفظ في القرآن بمعني التداول (بالانجليزية Circulation) (وتلك الايام نداولها بين الناس) سورة آل عمران 140:3، (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله والرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كى لا يكون دُولة بين الاغنياء منكم) سورة الحشر 52:7. ولفظ دُولة في هذه الآية يُنطق بضم الدال والواو، بمعني ألا يقتصر تداول الفئ على الاغنياء وحدهم. . (المستشار محمد سعيد العشماوي: مرجع سابق).

    مر مفهوم الدولة بتطورات كثيرة ومهمة ومنذ القرن السادس عشر و من أبرز من تناولوا مفهوم الدولة هيجل وهو الأوسع تأثيرا في نظريته السياسية عن الدولة والمفهوم الهيجلي للدولة بصفتها تعبيرا معنويا عن انتصار الوحدة على الاختلاف والعام على الخاص والمصلحة العامة على المصلحة الخاصة. عارض ماركس هيجل ماركس واعتبر مفهوم هيجل هو مفهوم الدولة عن ذاتها وليس هو الذي يعكس الواقع. يرى ماركس أن الدولة جهاز متمايزا يمكن تمييزه عن المجتمع لكن لا يمكن فصله عن المجتمع عامة . وأن الدولة" كما أتى في البيان الشيوعي الشهير " عبارة عن لجنة تنفيذية لإدارة الشؤون الجمعية للبرجوازية وهي بهذه الصفة انعكاس مباشر لمصالح هذه الطبقة , وهنالك مفهوم آخر للدولة عند ماركس وهو يناقض الأول أن الدولة هي جهاز مستقل كان فعله يترواح بين موازنة المصالح القائمة في المجتمع ودعم المصالح الطفيلية لرجالات الدولة أنفسهم . وحينما أتى أنطونيو غرامشي المفكر الإيطالي رتق الثقوب في الفكر الماركسي واستبدل قاعدة ماركس " مجمل علاقات الإنتاج هي التي تحدد أشكال الوعي" وأقام عنها فرضية أخرى وهي " مجمل علاقات الإنتاج هي التي تشكل أشكال الوعي الممكنة ” وعرف غرامشي الدولة بأنها "المجمع الكامل للنشاطات العلمية والنظرية التي لا تقوم الطبقة الحاكمة بواسطتها بتبرير و إدامة سلطتها فحسب بل إنها تسعى إلى كسب الموافقة الفاعلة لأولئك الذين تحكمهم ".

    وإن كان شرط التعريف هو أن يكون جامعا مانعا فإن التعريف الوحيد الذي حقق هذا الشرط في تعريف الدولة برأي معتز عبدالفتاح هو تعريف ماكس فيبر وهو من أكثر التعريفات شهرة واحتفاء فيقول فيبر " إن الدولة جماعة بشرية تدعي بنجاح حق الاستخدام الشرعي لوسائل العنف ضمن إقليم معين " وبطبيعة الحال السيطرة هي المفهوم الأرسخ و الأكثر بداهة للدولة ويقول فيرولي "إن فكرة وجود بنية لا شخصية لبسط السيطرة تدعى الدولة هي لب السياسة وهي فكرة راسخة رسوخا عميقا في أساليب تفكيرنا بحيث إن أي تصور آخر للدولة يبدو مناقضا للبديهية وغير قابل للتصديق ". إن فكرة السيطرة كالعمود الفقري في جسد الدولة لكن غرامشي استبدلها بمفهوم الهيمنة فإن السيطرة يجري تخفيفها نسبيا مع تطور الدولة ويتم الاستناد إلى الهيمنة التي هي اكثر شمولا من السيطرة وأقل منها شرعية، فالهيمنة لدى غرامشي تعني السيطرة على المجتمع السياسي و المجتمع المدني وذلك من خلال التربية و القانون. تحليل غرامشي لمفهوم الهيمنة هذا يتقاطع في حالات كثيرة مع الدول العربية لذلك كان فصل المجتمع عن السلطة صعبا في بعض الدول و يكاد أن يكون مستحيلا في دولا أخرى ويحتاج إلى عملية جراحية دقيقة وطويلة حتى لا تفقد الدولة حياتها فقطاعات واسعة من المجتمع تماهت مع السلطة لدرجة أنها لا يمكن أن تتخيل وجودها واستمرارها في هذه الدولة بدون هذه السلطة . (د. معتز عبد الفتاح: قراءة في كتاب تضخيم الدولة العربية – نزيه الأيوبي، http://sbr67.wordpress.com/2012/03/12)

    يعرف المفكرين الليبراليين الدولة من زاوية عناصرها المادية ومن بين هؤلاء أندري هوريو بقوله " الدولة هي مجموعة البشرية مستقرة على أرض معينة وتتبع نظاما اجتماعيا وسياسيا وقانونيا معا يهدف إلى الصالح العام ويستند إلى السلطة مزودة بصلاحيات الإكراه" ومنها تعريف كاري دي مالبورغ " الدولة هي جماعة من الناس مستقرة على إقليم خاص بها ولها تنظيم تنتج عنه سلطة عليا للتصرف والأمر والإكراه". جوهر الدولة فى الفكر الاشتراكي تعبير عن الهيمنة الاقتصادية لطبقة المالكين لوسائل الإنتاج على الطبقات غير المالكة فالدولة مؤسسة سياسية خاصة ومنفردة تستخدم كأداة بين الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج الرئيسية والسائدة اقتصاديا لقمع الأغلبية الساحقة وغير المالكة من أعضاء المجتمع وهذا لضمان مصالحها ودفاع عنها حتى تتمكن من إبقاء تلك الهيمنة. فالدولة في الفكر الماركسي هي نتاج الصراع بين الطبقات بسبب الملكية وتعبر عن هيمنة طبقة على طبقة أخرى فهي وسيلة وأداة بيد الطبقة المهيمنة وهي ضامنة لاستمرار هذه الهيمنة والاستغلال. (مفهوم الدولة والنظريات المفسرة لنشأتها: http://mtcalather1986.yoo7.com/t140-topic )

    لم ينفرد السودان بتكوين الدولة قبل اكتمال تكون الامة، كان هذا ديدن اغلب الدول فى العالم كما اوضح ارنست رينان هذا "الأمة الحديثة هي إذن نتيجة تاريخية حملتها سلسلة من الوقائع المتلاقية في ذات الاتجاه. تحققت الوحدة تارة على يد سلالة حاكمة، كما هو الحال في فرنسا، وتحققت تارة أخرى بفضل الارادة المشتركة للأقاليم، كما هو الحال بالنسبة الى هولندا، وسويسرا، وبلجيكا، وحصلت الوحدة تارة أخرى بفضل روح عامة تغلبت بعد تأخر ما على أهواء الاقطاعية، كما هي الحال بالنسبة الى ايطاليا وألمانيا. ... كيف تكون سويسرا أمة وهي تشمل ثلاث لغات وديانتين وثلاثة أو أربعة أعراق بينما لا تكون توسكانة، مثلا، أمة وهي المتجانسة الى هذا الحد الكبير؟ (أرنست رينان: ما هي الأمة؟ نزوى العدد الرابع والثلاثون، ترجمة حسن شامي، http://www.nizwa.com/articles.php?id=2977 )

    انطلقت كافة الرؤى التى طرحت لبناء الوطن من فرضية اكتمال بناء الامة السودانية، على الاقل افتراضيا، فرؤية الرواد انطلقت من غلبة الهوية العربية الشمالية الحاكمة وسار على منوالها الرؤية القومية مع اعتراف مضمر بخصوصية السودان ظهر جليا فى تردد نظام مايو فى الدخول فى اطروحات الوحدة الثلاثية مع مصر وليبيا وفى اعتماد الحل الاقليمى الذاتى للجنوب. عالجت الرؤية الشيوعية ورؤية تيار الدولة الدينية فرضية الامة من المدخل الايديولوجى. الرؤية الشيوعية تنطلق من عالمية النظرية وانتماء الطبقة العاملة القائدة وتمازج القوميات من خلال البناء الوطنى الديمقراطى المفترض (الذى انتهى بتفكك الاتحاد السوفيتى الى قومياتة المختلفة). وقد عالج وضع الجنوب ضمن مقولة تقرير المصير اللينينية ما عرف بالحل الاقليمى الذاتى والذى طبق بعد اتفاقية اديس ابابا 1972 وحتى 1983. عالجت رؤية تيار الدولة الدينية مسالة بناء الامة من عالمية الاسلام كقيم ومبادىء فاضلة، تسيد العروبواسلامية محليا وقصر تمثيلها على الحركة الاسلامية، التمكين الشامل للحزب على الدولة، انتهاج فيدرالية تحت غطاء شمولى لتصدير المسئوليات للاطراف ومركزة السلطة، تسيد الراسمالية الطفيلية الاسلامية وتركز الثروة داخل مثلث حمدى، خطل فكرة الانتقال الى تقرير المصير لتنظيف البيت من الداخل من الهويات خارج المنظومة العروبواسلامية والانفراد بالسودان الفضل واخيرا اعتماد سياستى الاقصاء الكامل والاستجابة للقوة.

    ككابوس مستمر عادت مسألة الهوية التى لم تعالج من كافة الرؤى المركزية التى طرحت كاملة او حتى مشوهة فى الحل الاقليمى الذاتى، الطبعة المايوية، والتى طرحتها منذ الثمانينات بشكل حاسم وواضح وعملى الاطراف والهوامش بدأ من القس فيليب غبوش، واكتمالها فى اطروحة الدكتور جون قرنق ورؤيته للسودان الجديد واعادة بناء الدولة السودانية ومن ثم انتشارها الى دارفور، جنوب كردفان، النيل الازرق والشرق. قادت رؤية السودان الجديد الى اعادة فتح الحوار الدامى الذى استغرق حوالى النصف قرن حول اولوية الامة ام الدولة. انطلقت رؤية السودان الجديد من فشل الدولة السودانية، بتركيبتها الراهنة، في معالجة أمهات القضايا التي تواجه الشعب والوطن معالجة سليمة، و إيجاد الحلول الجذرية لها. بل ترى ان الدولة السودانية الراهنة هي أحد الأسباب الرئيسية لمكونات الأزمة الشاملة التي يعيشها الوطن في مختلف المجالات الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية. (د. إبراهيم الكرسني: نموذجان لدور الفرد في التاريخ: الدكتور قرنق.. والسلطان قابوس http://www.sudaneseonline.com ).

    دار الصراع فى السودان حول هذين المفهومين منذ ما قبل الاستقلال، مثل كثير غيرهم فى العالم مثل بيافرا فى نيجريا، وتاخر حسم هذة الصراعات لاكثر من ستة عقود دارت ولاتزال اشرس حرب عرفها التاريخ الحديث ودخلت فى الارقام القياسية بطولها، عدد ضحاياها والافقار المزمن الذى سببتة لوطنها. السودان لازال حتى الان ليس دولة الا شكليا وقابلا للانشطار فى كل لحظة. الدولة الاستعمارية التى كانت تنظم العلاقات بين الاطراف وتقدم الخدمات الاساسية وكلمتها محترمة ومهابة تحولت على ايدى حكامها الوطنيين الى جابى ضرائب لايقدم اى خدمة ومعتاشة على تسبيك التوازنات القبلية، الطائفية والجهوية وغير محترمة من الجميع. السودان حتى الان لم يستطع الاتفاق حول الامة فهو تارة عروبى، وتارة افروعروبي او سودانوعروبي وغالبا اسلاموعروبى. كلها تدور فى فلك معايير الوسط. عندما نقول الاغنية السودانية نعنى اغانى وسط السودان وتضاف على استحياء اغانى الربوع بما فيها الشايقية "العربية افتراضا"، تقاليد السودان (الافراح، الاتراح...الخ) نعنى بها تقاليد وسط السودان المستلفة باسمائها من النوبية المعربة وعندما نزرف الدمع على القيم والاخلاق السودانية فهى تعنى تقاليد امدرمان مطعمة بالاخلاق التجارية لمنطقة الجزيرة. الامة السودانية التى رفع رايتها احد اشجع وانبل ابنائها "على عبد اللطيف" تحول هو نفسة لمواطن لدولة اخرى. لا ارى للدولة او الامة السودانية مستقبلا اذا لم نتفق بشكل واضح عليهما وربما هذا هو سبب عجزنا عن صياغة دستور وتنقلنا من دستور انتقالى دائم الى دستور دائم رائح.

    ثانيا: مفهوم التيار الرئيسى

    استورد مفردة التيار الرئيسى من الكلمة الانجليزية ((main stream والتى تعنى بشكل عام الأفكار والمواقف، أو الانشطة التي تعتبر طبيعية أو تقليدية، والاتجاه السائد في الرأي، والأزياء أو الفنون. ولهذا المفهوم علاقة وثيقة بمفاهيم تلخيص البيانات ما يسمى بمقاييس النزعة المركزية.

    تعتبر مقاييس النزعة المركزية (أو المتوسطات) من أهم المقاييس الإحصائية التي يفكر الباحث في حسابها، بل هي أول مقاييس إحصائية يفكر فيها الباحث السياسي عموماً. فمقياس النزعة المركزية لظاهرة سياسية ما تعني التعرف على القيمة التي تقع عادة عند مركز التوزيع العددي للقيم المبحوثة. ان متوسط أي ظاهرة يعبر عن المستوى العام لهذه الظاهرة. فمتوسط مجموعة من القيم هو القيمة التي تعبر عن جميع القيم، أو هى القيمة التي تدور (أو تتركز) حولها باقي القيم. فمتوسط الدخل لأي بلد يعبر عن المستوى العام للدخل في هذا البلد كما ان متوسط دخل عمال أحد المصانع هو الدخل الذي تتركز حوله دخول العمال بهذا المصنع. ولذا تسمى المتوسطات بمقاييس النزعة المركزية. وذلك لان قيم أي ظاهرة – عادة – تميل أو تنزع للتركز حول قيمة معينة هي متوسط هذه الظاهرة أو مقياس نزعتها المركزية. فأطوال البالغين تتركز حول رقم معين هو متوسط الطول، وكذلك أوزانهم ومعدلات ذكائهم، وأي ظاهرة أخرى. فالمتوسط – بصفة عامة – هو الذي يعبر عن المستوى العام للظاهرة أي هو الذي يعبر عن جميع قيمها، بمعنى انه القيمة التي تتركز حولها باقي القيم.

    والوسيط هو أحد مقاييس النزعة المركزي المشهورة . ويعرف الوسيط لمجموعة من البيانات على انه تلك القيمة التي تتوسط البيانات عند ترتيبها تصاعديا أو تنازليا) أي انه تلك القيمة التي تقسم البيانات بعد ترتيبها إلى جزأين متساويين فتكون البيانات في الجزء الأول تقل عن أو تساوى الوسيط والبيانات في الجزء الثاني تزيد عن أو تساوى الوسيط . أي ان 50% من البيانات تساوي أو تقل عن الوسيط و50% من البيانات تساوي أو تزيد عن الوسيط ( المنحنى التكرارى). يمثل المنحنى التكرارى التقسيم الطبيعى لكل القياسات التى نستعملها فى حياتنا اليومية، اى ان معظم القياسات تمثل حوالى 95% من مجموع مجتمع ما تقع بين عددين، الاعلى والادنى مثل اطوال الشعوب، ضغط الدم، الهيموجلبين، السكر فى الدم ...الخ. ويقع 5% خارج هذة المجموعة اما ارتفاعا او انخفاضا وتمثل الشذوذ الذى يثبت القاعدة.

    وعلى المستوى السياسى فانة يمكن الوصول الى قياسات قريبة عند تعرضنا للاتجاهات السائدة في الرأي العام. سنحاول قراءة اتجاهات التيار الرئيسى فى المجتمع السودانى خلال العقود الست الاخيرة بقراءة نتائج الانتخابات التى اجريت فى العهود الديمقراطية على اساس انها تعطى لمحة عامة فى جو آمن، حر وديمقراطى. سوف نهمل الانتخابات التى تجريها الانظمة الديكتاتورية لانها تفتقد ادنى اجواء الحرية والديمقراطية ولاتعبر باى شكل عن اى اتجاهات. لن ندعى هنا اننا نعتمد على دراسات محققة او حقائق صلبة ولكن نود ان نبين ان السياسة كغيرها تخضع لكافة القوانين الطبيعية فى وجة الادعاء الذى رفعة التيار القومى (مايو) وتيار الدولة الدينية (الانقاذ) بانها المعبر الوحيد عن الامة. سوف نتناول اتجاهات التيار الرئيسى فى المجتمع السودانى تحت ثلاثة مسميات الاحزاب الليبرالية بتكوينها المدنى الديمقراطى والطائفى ، اليسار وتيار الدولة الدينية.

    تبلورت اتجاهات التيار الرئيسى فى المجتمع السودانى فى انتخابات 1953 فى تاييد السودانيين للحزب الوطنى الاتحادى حزبا مدنيا وغيرطائفى بنسبة حوالى 53% وحزب الامة الطائفى الذى تبنى الدولة المدنية حوالى 23%. جاءت انتخابات 1958 لتعطينا مؤشرات جديدة اذ حاز حزب الامة على 36%، الحزب الوطنى الاتحادى بدون غطائة الطائفى لانفصالهم فى حزب الشعب 25% وحزب الشعب الديمقراطى حزب الطائفة الختمية والمائل تجاة اليسار انذاك 15% والاحزاب الجنوبية 23%. حافظ الحزب الاتحادى بطرفية على مقدمة التيار الرئيسى (40%)

    سوف نلاحظ فورا انة بعد ثورة اكتوبرالشعبية والتى احدثت تحول هاما فى فى اتجاهات التيار الرئيسى فى المجتمع السودانى اذ دخلت الساحة السياسية اطراف جديدة بقوة مثل النقابات العمالية، الزراعية والمهنيين، وانتشر الفكر السياسى وتنوع. دفعت الثورة اطرافا عديدة من هوامش السودان للصدارة من الشرق، دارفور، جبال النوبة والفونج وغيرهم. بدأ ايضا بروز الاتجاهات الطرفية على جانبى المنحنى التكرارى (نسبة 5%)، بدخول اليسار وتيار الدولة الدينية ساحة التاثير السياسى. وجاءت انتخابات 1965 ليحدث تقدم حزب الامة (الذى كان لازال حزبا طائفيا يتبنى الدولة المدنية) ليحتل مقدمة التيار الرئيسى 39% والاتحادى 31% (مع مقاطعة حزب الشعب) وحاز الحزب الشيوعى 73% من دوائر الخريجين (11 مقعد) وتيار الدولة الدينية 7 مقاعد.

    تمثل الفترة الديمقراطية الثانية بداية الخلل الجلل الذى دب فى الحياة السياسية السودانية وفقدانها بوصلة الرشد الديمقراطى وبداية الاتجاهات الاقصائية والتدميرية من حل الحزب الشيوعى، اسقاط حكومة الصادق المهدى والاستهتار الكامل بالقوانين والقضاء. كما شهدت الفترة انضواء حزب الليبرالية الحزب الوطنى الاتحادى تحت غطاء الطائفية بتوحدها مع حزب الشعب الديمقراطى فى الحزب الوطنى الديمقراطى وتورطة فى تبنى الدولة الدينية وفقدانة دورة القائد كتيار رئيسى حتى اللحظة رغم حصولة على 46%. وشهد حزب الامة انقساما كاملا بين العقلية المحافظة للامام الهادى المهدى وتراص كبار الليبراليين فى صفة ( المغفور لة محمد احمد المحجوب وغيرة) ونال الحزب 14% وبين السيد الصادق المهدى الداعى لفصل الامامة عن السياسة ونال 17%.

    عندما تفجرت االانتفاضة 1985 كانت الصورة قد تبدلت فى تاثيرات القوى فنتوء اليسار والقوميين، الذى صعد على انقاض ثورة اكتوبر السودانية وتصاعد المد اليسارى عالميا والناصرية اقليميا، تراجع على كافة المستويات وملأ الفراغ الناجم صعود نتوء تيار الدولة الدينية تحت تاثير عوامل عالمية مثل حرب افغانستان، الثورة الايرانية وفشل الانظمة العلمانية الاقصائية فى احداث التغيير المنشود. احتل حزب الامة مقدمة التيار الرئيسى فى المجتمع السودانى بنقدة وابتعادة عن قوانين سبتمبر وتحولة الى البرزخ الفاصل بين الدولة المدنية والدينية ونال حوالى 43% وتراجع الحزب الاتحادى الديمقراطى الذى كان قد امعن فى التحالف مع المجلس العسكرى الانتقالى وتبنى الدولة الدينية تحت الشعار الغامض الجمهورية الاسلامية، فعاقبتة جماهير التيار الرئيسى فنال حوالى 23%. نتوء تيار الدولة الدينية، الذى كان قد نما وتمدد فى الاقتصاد والدولارات النفطية وصياغات قانون الانتخابات الذى وضعة المجلس العسكرى الانتقالى، شهد بروزا مصطنعا. حصل تيار الدولة الدينية على 12% من الممثلين فى الدوائر الجغرافية من عدد الاصوات. نستطيع مع كثير من التحفظ ان نصل الى ان التيار الرئيسى فى المجتمع السودانى من الناحية الانتخابية والميل السياسى كانت تتواجد فى جماهير حزبى الليبرالية الاساسيين الحزب الوطنى الديمقراطى وحزب الامة وهى جماهير فى اساسها معتدلة وتؤيد بشكل عام الدولة الديمقراطية المدنية.

    تيارات الدولة الدينية

    عن عمر رضي الله عنه قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه وقال : يا محمد ، أخبرني عن الإسلام ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام ان تشهد ان لا إله إلا الله، وان محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت، ان استطعت إليه سبيلاً . قال صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال : ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال صدقت . قال : فأخبرني عن الإحسان ؟ قال : ان تعبد الله كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك . قال صدقت فأخبرني عن الساعة ؟ قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل . قال فأخبرني عن أماراتها ؟ قال : ان تلد الأمة رَبَّتَهَا ، وان ترى الحُفاة العُراة العالة رِعاء الشَّاء يَتَطَاولون في البنيان . ثم انطلق فلبث ملياً ثم قال : يا عمر أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم. قال : فانه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم . (رواه مسلم والجزء الأول عن الإسلام رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد).

    حدد هذا الحديث مسميات مراتب الدين الثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان. المرتبة الاولى التي سماها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث بالإٍسلام سميت لاحقا الأعمال الظاهرة للتوحيد، اى جميع انواع العبادات من الأعمال الظاهرة التي هي أعمال الجوارح خالصة لوجه الله سُبْحَانهُ وَتَعَالَى ويهتم بهذا الجزء علوم الفقه وهى معنية بتعاليم الشريعة الإسلامية، اى القوانين. اما الايمان فهو توحيد الأعمال الباطنة وهذا الجزء خاص بعلوم العقيدة. اما الإحسان وتعنى علم التزكية، أو علم الأخلاق، اى الاستقامة والنزاهة. اهتم التصوف بتحقيق مقام الإحسان، وهو منهج أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى الله، أي الوصول إلى معرفته والعلم به، وذلك عن طريق الاجتهاد في العبادات واجتناب المنهيات، وتربية النفس وتطهير القلب من الأخلاق السيئة، وتحليته بالأخلاق الحسنة وألفوا فيه الكتب الكثيرة بينوا فيها أصوله وفروعه وقواعده، ومن أشهر هذه الكتب: قواعد التصوف، للشيخ أحمد زروق، وإحياء علوم الدين للإمام الغزالي، والرسالة القشيرية للإمام القشيري.

    عندما نشأ تنظيم الاخوان المسلمين كانت فى اصلها اقرب للجماعة الدعوية تعمل فى المجال الاول، الاسلام وما يرتبط بة من علاقات الحكم ولكنها اكثر اهتماما بمجالات الايمان والاحسان فى وسط مسلم. عند تولى الترابى رئاسة الجماعة بدا تبلور تركيزها، فعندما نظرت الجماعة انذاك الى المنظومة السياسية كان فى الساحة جماعات اخرى تعمل فى السياسة والدين. الطوائف الدينية كانت تسلك فى عملها اتجاها دعويا وتخوض السياسة من مواقع الليبرالية السياسية، اى تعمل فى الاحسان ضمن المحيط الاسلامى المتسامح. المجموعة الاخرى كانت الهيئات الدينية الرسمية وهى تعمل على تطبيق القوانين السائدة فى الدولة. اذا كان على الحركة ان تختط طريقا مختلفا، فهى معنية كثيرا بمجال السياسة، اى القوانين والدستور والانتخابات والانقلابات وهذا واضح فى مسيرتها وفى بداياتها ( هذا هو عهد نشأة الحركة، ويوازى ما قبل الاستقلال السياسي في السودان. وإذ اتجه السودان نحو تقرير مصيره، فقد تنافست عليه تيارات شتى، ونشطت كل نشاط لتوجيه مآله. فكانت قضية العهد هي تقرير المصير أو تحديد الهوية، وكانت الدَعَاوى تتنازع بين الأصالة السياسية الوطنية متحدةً مع مصر أو مستقلة عنها والاصطباغ بصبغة الغرب أو الشرق، وكان الشباب والطلاب بوعيهم ووزنهم هم أطراف النزاع وموضوعه. وفي ثنايا هذا الظرف وفي وسط الطلاب نشأت الحركة من عناصر طلابية تائبة إلى الدين – من بعد ما غَشِيت بعضهم غَاشِية الشيوعية، واستفزت بعضهم أُطروحاتها السافرة في تحدى الدين عقيدةً وخلقًا، وأثارت آخرين غَلَبَةُ التصورات والانماط الحياتية التي فرضها التعليم النظامي الذي يسُوسُه الانجليز. (الدكتور/ حسن الترابي: الحركة الإسلامية في السودان- التطور .. الكسب .. المنهج). كما انها تحولت من الاحسان والذى كان مجال الصوفية التى تتقنة الى مجال الايمان الذى يدخل ضمن نطاق العموم ويلعب دورا اساسيا فى التصدى للتيارات اليسارية والشيوعية. ربما يفسر هذا فقة الضرورة والتمكين وغيره الذى كانا المناهج المعتمدة فى البناء السياسى، والتى تبعد بشكل بائن عن قيم الاستقامة.

    صعود تيارالدولة الدينية ومآلاتها

    عندما نتصدى لصعود تيارالدولة الدينية ومآلاتها نخوض فى بحر متلاطم ومسارب خفية، فاغلب تاريخها لم يسبر بعد وهو تاريخ معاصر وديناميكى ما انفك يتفاعل بعد. سوف اتناول هذا التاريخ والحاضر من التجربة السودانية باعتبارها الاقرب ولكن سنتعرض بالطبع لام حركات التيارات الدينية فى العالم العربى الاخوان المسلمين المصرية. عند بروز تيار الدولة الدينية فى السودان كرد فعل لانتشار التيارات الشيوعية واليبرالية فى الحركة الوطنية السودانية عقب الحرب العالمية الثانية وكما تحالف الاخوان فى مصر مع القصر الملكى واحزاب الاقلية ولاحقا مع عبد الناصر فى بداية يوليو، فقد كان حظ اخوان السودان افضل فقد تحالفت مع الطوائف الدينية اولا عن طريق تأسيس الجبهة الإسلامية للدستور التي أقامت مؤتمر لجانها الفرعية الأول في مايو سنة 1956م " الذي عمل فيه الاخوان المسلمون بالتضامن مع جماعة التبشير الإسلامي علي دعوة الهيئات الإسلامية لتقف معا في جهد موحد ليأتي دستور البلاد متفقا مع إرادة الشعب السوداني المسلم ومستندا إلي كتاب الله وسنة الرسول صلي الله عليه وسلم واتصلت الجبهة برؤوس المجتمع لضمان تأييدهم لهذه الحملة ، ومن هؤلاء السيد عبدالرحمن المهدي الذي أجاب بانه سيساند الدستور الإسلامي لان الإسلام هو تراث المهدية وان انصاره مع الدولة الإسلامية كما أعلن السيد علي الميرغني تأييده بعد محاولات عديدة للقائه، كما قابل اعضاء الجبهة إسماعيل الأزهري الذي أبدي موافقته الشخصية للفكرة ". (موقع المغفور لة الشيخ الهدية) وقد استطاع الاخوان المسلمون بعد ثورة اكتوبر وبروز مؤسسها الثانى الدكتور حسن الترابى الى دفع الاحزاب الطائفية الليبرالية الى خندقها العميق فى اسلمة الدولة. وبعد تواجد قصير فى اروقة المعارضة توجهت بكل طاقتها فى تاييد النظام المايوى واستطاعت عن طريق اخلاء الفضاء السياسى من المعارضين، خاصة فى العمل النقابى، ان تطيل عمر النظام حتى بنت تنظيمها السياسى، العسكرى والمالى.

    اشار الدكتور الترابى متناولا مسائل العمل الجماهيرى واطلق علية نظام الواجهات. وقال عنها " ولربما اهتدت الجماعة لذلك الأسلوب من خلال منافسة الشيوعيين، إذ ألفتهم قليلًا ما يباشرونها بوجه سافر، بل يتخذون واجهة ينحشد فيها جمهرة من المتعاطفين، غالبهم أبرياء مستغفلون لا يدركون مرامي الشيوعيين الذين يسخرونهم من حيث لا يشعرون". وهكذا حذا تيار الدولة الدينية حذو الشيوعيين فانشأ التنظيمات وسط الطلاب والتى عرفت باسم الاتجاة الاسلامى وتطورت حاليا لمنظمة متسعة ماليا واداريا باسم الاتحاد العام للطلاب السودانيين، وفى مجال الشباب شباب البناء ورائدات النهضة (قبلا الجبهة النسوية الوطنية) ومن ثم الحركة العمالية الإِسلامية باسم العمال الوطنين وغيرها .

    تيار الدولة الدينية والراسمالية الطفيلية

    فى العام 1936 توجة المغفور لة حسن البنا للحج لاول مرة والتقى المغفور لة الملك عبد العزيز ال سعود، والذى طلب فية البنا انشاء فرع لجماعة الاخوان المسلمين فى السعودية واجابة الملك، رافضا الطلب، كلنا اخوان مسلمون. ولكن بدات علاقات من الصعب سبرها ولكن يمكن التكهن بها لما حدث مستقبلا من فتح المملكة ودول الخليج ابوابها للتنظيم كافراد خاصة بعد محنتهم مع عبد الناصر، فاستقدمت الالاف من قياداتهم وافرادهم ودعمتهم وولتهم المناصب الحساسة وجنست بعضهم. يرى الكاتب والباحث السعودى عبد اللة بن بجاد العتيبى الاسباب التى دعت السعودية لاستقطاب الاخوان المسلمين اولا: استمرارا فى سياسة الملك عبد العزيز لتخفيف التوتر الداخلى بتطوير الخطاب الدينى البدوى المحلى ومواجهة التشدد الداخلى ؛ ثانيا: مواجهة المد الناصرى الثورى ونمو التيارات الثورية والعروبية؛ ؛ ثالثا : المساعدة فى نمو مكانة الدولة السعودية ومركزها القائد. وقد حذت دول الخليج حذو السعودية . (مجموعة باحثين:الاخوان المسلمون والسلفيون فى الخليج، مركز المسبار لللدراسات والبحوث، 2011 )

    هذا هو الواقع الذى وجدة اخوان السودان عندما تعرضوا للتصفية من قبل المايوية وقصدوا المهاجر المختلفة فوجدوا زملائهم من الحركات الاسلامية الشقيقة يمدون لهم العون ويزكونهم ويستوعبونهم فى مختلف المجالات. وقد اشار الدكتور الترابى متناولا مسائل التمويل والانفاق " لئن كانت الصدقة هي قوام المالية العامة في مجتمع السُنة لاسيما في مقابلة النفقات الجهادية، فانها لم تكن معهودة في الحركة الإِسلامية بالسودان، لان سوادها الأَعظم من الطلاب المعسرين. لكن مع ولوج أعضاء الحركة في مجال التجارة والعمل في المهاجر العربية، ومع توافر المؤسسات المالية الإِسلامية التي هيأت للملتزمين بأحكام الدين مجالًا في اعتمادات التمويل كسائر رجال الأَعمال ومكنتهم من المنافسة والربح، ومع التحام الحركة بالحياة العامة وما استصحبه ذلك من تحديات تستفز المؤمن للعطاء، مع كل ذلك تباركت التبرعات بركةً عظيمة، مهما كانت بطبيعتها مما يقابل نفقات الحملات والانتخابات الطارئة ولا يمكن التخطيط والتعويل عليها في مقابلة النفقات الجارية، ومهما كانت تتصَّوب بوجوه غير مناسبة لأولويات الحركة. فبعض التنظيمات الفرعية غير السياسية تستقطب تبرعات أَكثر، لان المعطين يجدون في ذلك بعض الأَمن السياسي ويهشون لدعوة الانفاق في وجوه تناسب تصورهم للصدقة في الدين. وقد عَوَّلت الحركة على كسبها الذاتي واجتنبت الاعتماد على تبرعات من مصادر خارجية خشية التعرض للضغوط والارتهان لتقديرات الآخرين أو الاتكال عليهم. ولئن حفظت الحركة استقلاها بالعزوف عن تلقي الدعم من جهات شتى، فلقد وجدت ان بعض الجهات الإِسلامية ذاتها تتورع عن الضغوط على من يتعامل معها بطلب الدعم" (الدكتور/ حسن الترابي: الحركة الإسلامية في السودان- مرجع سابق).

    هذة المصادر التى انفتحت على الحركات الاسلامية كانت مصدرالتمويل الضخم لكافة تيارات الدولة الدينية فى كافة الدول الاسلامية من مصر الى افغانستان وباكستان والتى اشار اليها الدكتور الترابى متناولا مسائل الاستثمار: " انتبهت الجماعة لجدوى الاستثمار موردًا للمال منذ عهودها الأُولى. ولكن مبادارتها باءت بالخسران. فلم تكن خبرة أَعضائها مواتية، بل لم تكن الأَمانة في شان المال مما تزود به الأَعضاء كثيرًا في تلك الأيام التي كانت أَغراض التربية فيها منحصرة فيما يناسب الطلاب. كان هاجس الأَمن عامل تخذيل أيضًا. لكن تطور الحركة الذي أَدخل في تَديُّنها العمل الاقتصادي زاد من الخبرة والأَمانة، ونمو الوعي التخطيطي قوّي دواعي الاستثمار، فضلًا عن تنامي مصارف الحركة بما لا تُحيط به الاشتراكات. فاتخذت الحركة استثمارات لاقت رواجًا وأسهمت بنسبةً غالبة في نفقات الجماعة" (الدكتور/ حسن الترابي: الحركة الإسلامية في السودان- مرجع سابق).

    وقد شكلت هذة الاستثمارات الاساس للدولة الموازية التى بنتها تيارات الدولة الدينية فى كافة الدول الاسلامية. بدأ تقلص شهر العسل الطويل مع احداث 11 سبتمبر 2001 بالضغوط التى مارسها الغرب على خطوط الامداد المالى السرى وصولا الى تصريحات الامير نايف بن عبد العزيز فى مناسبات عديدة الى ان كثيرا من ازمات العالم الاسلامى فيما يخص ملف التطرف كانت بسبب فكر الاخوان الصدامى. وقد رصد عدة باحثين كنة العلاقة المستديمة والعلاقات المالية بين تنظيمات الاخوان المسلمين المختلفة ودول الخليج (مجموعة باحثين:الاخوان المسلمون والسلفيون فى الخليج، مركز المسبار لللدراسات والبحوث، 2011 )
    اخذ مسار الفكر القومى السودانى نفس مسارات الفكر القومى المصرى، فبعد تخلى السادات عن السياسة الوطنية المعادية للاستعمار وشعارات العدالة الاجتماعية الاقتصادية، انفتح على الاخوان المسلمين وتيارات الدولة الدينية وانسحبت الدولة من شعارات العدالة الاجتماعية النسبية تحت ضغوط صندوق النقد الدولى وانفتاح ديمقراطى محدود جدا. حافظت الدولة على الرئاسة مطلقة الصلاحيات والدولة البوليسية. حدث تطور مماثل فى السودان خاصة بعد 19 يوليو 1971. وكما تولى الاخوان المسلمين فى مصر ملأ الفراغ الذى تركتة الدولة وحولوا المساجد الى مراكز للخدمات، خاصة فى الاحياء الفقيرة، استفاد الأخوان المسلمون من المصالحة الوطنية مع نظام نميرى في عام 1977 م فوجدوا الدولة قد انسحبت من مجال الخدمات كليا وبالاخص مجالات التعليم، الصحة والدعم العام فقاموا بانشاء حكومة موازية وقامت منظمات مثل : منظمة الدعوة الإسلامية ، الوكالة الإسلامية للإغاثة، جمعية الإصلاح والمواساة ، مؤسسة دان فوديو الخيرية والجمعية الطبية الاسلامية. كما أقاموا مؤسسات تعليمية مثل : انشاء المركز الإسلامي الأفريقي ، وكلية القران الكريم، عدد من المدارس الابتدائية ورياض الأطفال التابعة لمنظمة الدعوة الإسلامية.

    واورد عصام الدين مرغني ان هناك تقديرا ان للإخوان المسلمين حوالي 500 شركة من كبيرة وصغيرة في عام 1980 م ، وتصل حجم روؤس أموالهم لاكثر من 500 مليون دولار متداولة من بين هذه الشركات في الداخل (عصام الدين مرغني : القوات المسلحة السوداني والسياسة ، القاهرة 2002 م ، ص 225 ). ظهرت الجبهة الاسلامية القومية بعد االانتفاضة متسربلة ثوب الضحية التى زج بها النميرى فى معتقلاتة مؤيدة للمجلس العسكرى الانتقالى، مسعرة نار الحرب الاهلية وخلقت تفاهمات سرية مكثفة مع القوات المسلحة. استطاع الحزب المتحول الجديد بفعل دينامكيتة، ذرائعيتة واموالة الطائلة ان يحقق اختراقا فى العملية الانتخابية ونال حوالى 50 نائبا فى برلمان ما بعد االانتفاضة. وبعد ان استولى على الوطن تحولت دولة الانقاذ الى شركة كبرى للحزب.

    فند موسى كرامة المدير الاسبق لشركة الصمغ العربى (الدكتور موسى كرامة هو العضو المنتدب لشركة دانجديد للصمغ العربي ، والمدير العام الأسبق للشركة السودانية للصمغ العربي، حاصل على درجة البكالريوس من جامعة الخرطوم، ودرجتي الماجستير والدكتوراة من جامعة طوكيو باليابان، خبير فني لتقاسم الثروة بالإتحاد الأفريقي، شارك في الحكومة لفترة 30 سنة تقريباً إلى ان انشأ منظمة غير حكومية أطلق عليها مركز الدراسات السكانية) معلقا على ما اورده موقع ويكيليكس على لسانة للسيد ايريك باربي الدبلوماسي الامريكي بسفارة اميركا بالسودان. " فند، الدكتور موسى كرامة، الاتهامات التي وردت في تقرير نشره موقع وكيليكس،حيث اتفق مع بعضها وخالف اخرى بحجة انها غير صحيحة . واقر بوجود شركات رمادية تصل الى اكثر من اربعمائة شركة، وانتقد وجودها وقال انها تنشأ وتؤسس بالمال العام ولكنها تسجل كشركات خاصة وفق قانون 1925م ،مؤكدا انها ليست حكومية وليست مؤسسات اوهيئات تخضع لقوانين معلومة في السودان، كما انها تستخدم المال العام وتحابي في العطاءات الحكومية وفي التمويل المصرفي، ولكنها غير مرئية للمراجع العام او الجهات الرقابية، ولايمكن قانونا بحكم تسجيلها ان تقاضى او تراقب فهي منفذ لتهريب المال العام وتجنيب موارد من الدولة ولا تمكن الدولة من رقابتها.

    اقر كرامة بهذه المعلومات الواردة في التقرير، وقال انا ظللت مهتما بهذه الشركات منذ توقيع نيفاشا، واكد ان الاتفاقية فشلت في معالجة ضبط الايرادات الحكومية حتى تورد في حساب مركزي واحد، كما انها فشلت في الغاء صندوق دعم الولايات الذي لم يخلُ من المحاباة السياسية في كثير من جوانبه. وبشان الانتقادات الواردة في التقرير عن وحدة تنفيذ السدود ،قال كرامة انها حقيقة ولكنها ايضا نقلت من ندوات سابقة ،مبينا ان رأيه هو انه لا يوجد لزوم لانشاء وحدة تخصم من مخصصات واختصاصات الوزارات القائمة في الدولة ،وانه لايمكن انشاء مثل هذه الوحدة بهذه المهام الا اذا كانت النخبة تريد تخطي القوانين واللوائح وجدوى المشروعات من حيث الترتيب القومي الى عمل جهوي، وقال ان اي عمل في هذا الاطار يفتقر في كثير من مشروعاته وانجازاته الى الجدوى الاقتصادية واغفال النظر الى الاطار القومي الكبير ،خاصة ان الوحدة انشئت بعد اتفاق ناكورا حيث نوقشت قضايا السلطة والثروة وقبل اتفاق نيفاشا النهائي. وانتقد كرامة، انشاء الوحدة وقال انها بنيت على ما تم انشاؤه فعلا من المشروعات الاساسية والمصاحبة، ورأى ان انشاء مطار في موقع انتاج لحوم ليعود للبلد بالعملة الصعبة اجدى من مطار دولي في مروي، وقال انه برغم اهمية انشاء سد كجبار الا ان تعلية الروصيرص وسنار والعمل على اخضرار الرقعة الزراعية وتوسيع طاقة الرهد من الاولويات؛ لانها تعود بفائدة اكبر مما يعود به كجبار، مؤكدا ان المشروعات الاقتصادية لاتقيم بصفة مطلقة بمعزل عن العائد الاقتصادي، وانه في اطار السودان الكبير فان فائدة طريق الانقاذ الغربي اجدى وانفع من الطرق الداخلية التي تنشأ مصاحبة لخزان كجبار ". http://www.sudaneseonline.com/news-action-show-id-29092.htm )

    وذكر كرامة بان المسئولين الحكوميين والوزراء لم يقتصروا على انشاء الشركات شبه الحكومية محلياً إذ رؤا ان انشاء شركات أجنبية يسمح لهم بالحصول على الإعفاءات الضريبية، ويقلل من أثر عقوبات الولايات المتحدة، ونقل الأموال بيسر من وإلى السودان. وقد زعم ان وزارة المالية على وجه التحديد لا ترصد الشركات غير السودانية مثلما ترصد عن كثب الشركات المحلية. وحسب ما ذكر يستخدم المسئولون السودانيين العائدات النفطية والزراعية لتغذية الحسابات الأجنبية، وانشاء شركات أجنبية، ثم شراء الشركات الحكومية عند خصخصتها. كما ذكر بان حجم الإستثمار الأجنبي المباشر القادم للسودان قد ارتفع لان العديد من السودانيين يستخدمون الشركات الأجنبية لإستثماراتهم المحلية. وقال ان شركة " ذي فلاي أوفرسيس" هي واحدة من تلك الشركات "الأجنبية" التي يمتلكها ويرأس مجلس إدارتها سودانيون فقط لكنها مسجلة كشركة أجنبية. وقال كرامة ان ميزانيات بعض هذه الشركات تنافس ميزانيات كافة الوزارات، وان معظم أرباح هذه الشركات تودع في بنوك في دبي، وماليزيا، وسنغافورة، وماكاو، وهونج كونج. وحسب ما أفاد فان الشركات شبه الحكومية التي يديرها حزب المؤتمر الوطني هي أكثر الشركات تعقيداً حيث لا تمتلك أي وزارة أو فرد تحكم واضح فيها. وذكر بان شركة "سيتكو" السودانية نموذجاً لإحدى شركات المؤتمر الوطني التي تحتكر سوق القمح منذ عام 1996 وحتى 2003 ثم انتقلت إلى تجارة الإلكترونيات، والإتصالات لاسيما هواتف الثريا، وخدمات النفط. وذكر بان القضاء السوداني قد أعلن فعلياً في إجراءته الرسمية انهم حاولوا تدقيق عدداً من هذه الشركات الرمادية لكن تمت إعاقتهم من قبل أفراد من وزارات أخرى .( http://ar-ar.facebook.com/notes)

    لمحافظ بنك السودان المركزي الأسبق الشيخ سيد أحمد رأي صريح وواضح في الشركات التجارية الحكومية اذ يعتبر مجرد وجودها من حيث المبدأ فسادا وان لم تمارسه لجهة ان وجودها في الأصل ضرب من الفساد ومجرد قرار انشائها هو الفساد بعينه حتى لو لم تفسد وتساوت مع الآخرين بعد حصولها على امتيازات لان وجودها ضد سياسة التحرير المعلن عنها التي أولى أبجدياتها نقل الحركة الاقتصادية الى القطاع الخاص وقد خصصت الحكومة وباعت كثيراً من المؤسسات التابعة لها مثل سوداتل والخطوط الجوية السودانية والنقل النهري والبحرية، ومن بعد ذلك تنشيء شركة تعمل منافسة أخريات في القطاع الخاص في أي قطاع، ويزيد الشيخ ان صنيع الحكومة يوضح انها لا تعرف ما تتحدث عنه أو تعرفه ولكن في غياب الرؤية الشاملة والشفافية والعدالة تريد ان تعمل تحت الشعار والسياسة التي طرحتها ما شاءت، وأبان ان الشركات الحكومية تمهد الطريق للاحتكار بشتى ضروبه لانه يمكن ان يأتي متنفذ وزير أو غيره وتحت حجة عدم ذهاب الربح المعين من أي مشروع يقول انه يريد ان يعود الى القطاع العام ولنفترض ذلك فهو اما ان يعطي الجهة الحكومية امتيازاً والامتياز الأكبر ليس باعفائها من الضرائب لكن بان يشوب ممارسة فرض الضريبة عليه يكون فيه الفساد مما يقود لخلل البيئة التنافسية الذي يمكن ان يكون في أبسط صوره على مستوى اعلام الجهة الحكومية بتوقيت عطاء معين يحتاج لوقت لترتيب الأوضاع والتجهيزات للدخول فيه، فترتب نفسها قبل الآخرين فتظفر بالعطاء بكسبها لعامل الوقت والتجهيز المسبق قبل الآخرين، وفي ذلك ضرب من الفساد البين مما يقلل المنافسة بناء علي العدالة والكفاءة والشفافية حيث ان كثيراً من العطاءات والمزادات مفصلة على جهات معينة وتشريح كل حدث اذا أمسكت به تجد فيه كثيراً من الخروقات والممارسات الخاطئة الفاسدة.
    http://www.alsahafa.sd/details.php?type=a&sco...version=600&catid=47

    لقد اصاب السيد محمد أبو قرجة فى تحليل كيف ان حتى الحكومة العريضة لاتعنى التفاف جماهير الاحزاب الرافضة لاى مشاركة فى دولة الحزب الشركة " وفى لقاء منفرد في 6 فبراير قال محمد أبو قرجة مدير عام شركة أبو قرجة ورئيس حزب الأمة بولاية الخرطوم لإيكونوف ان تحديد شركات الحكومة سهلاً لانها هي الناجحة والقادرة على الربح السريع. وقال أبوقرجة ان شركات (أمسك وأقطع) شبه الحكومية قوضت أعماله خلال العشر سنوات الماضية. وذكر ان حزب المؤتمر الوطني كان أعمى عن بيئة الأعمال في بداية التسعينات، لكنهم في الوقت الراهن أدركوا أهمية الإقتصاد ويحاولون الهيمنة عليه. وقال أبوقرجة ان الإحباط يتزايد وسط رجال الأعمال في حزب الأمة بشان عجزهم عن تلقي العقود الحكومية، وأضاف ان بعض قادة حزب الأمة يرغبون في الإصطفاف مع المؤتمر الوطني لأسباب إقتصادية لا سياسية، وان حزب المؤتمر الوطني يبدوا مرتاحاً إقتصادياً لانهم ضاعفوا حساباتهم. ( http://www.sudaneseonline.com/news-action-show-id-29092.htm )

    الظاهرة الجديدة فى الحقل السياسى على مستوى العالم العربى والسودانى هى ظاهرة السلفية (ماعرف فى السودان بَانصار السنة المحمدية). نشأت جماعة انصار السنة المحمدية بالسودان في سنة 1935م بدأت الجماعة كمجموعة صغيرة تدعو إلى التوحيد على يد الشيخ أحمد حسون والشيخ يوسف أبو. في سنة 1939 م كون الشيخ أحمد حسون مع الشيخ محمد الفاضل التقلاوي وآخرون "جماعة انصار السنة المحمدية" تأسياً بجماعة انصار السنة في مصر .ان هذة الظاهرة التى يميل القول المرسل بانها برزت بمصطلحها هذا على يد أحمد بن تيمية في القرن الثامن الهجري، وقام محمد بن عبد الوهاب بإحياء هذا المصطلح من جديد في منطقة نجد في القرن الثاني عشر الهجري وانشأ الحركة الوهابية والتى يثار غبار كثيف حول علاقاتها بالمنظمات الوطنية وتمويلها. ان هذة الجماعة لم تصل بعد الى البحوث الموثقة يشكل كاف ولذلك فاننا سنلتزم بالانتظار. هناك رايان جديران بايرادهما هنا وهو نقد للمغفور لة محمد عابد الجابري الحركة السلفية بقوله ان الاسلام ليس مجرّد «سيرة سلف» مضى وانقضى، بل هو صالح لكل زمان ومكان غير ان تأكيد هذا بالقول شيء وترجمته الى الواقع شيء آخر، فالمسألة ليست مسألة ما إذا كان الاسلام صالحا لكل زمان ومكان، فهذا يؤمن به كل مسلم، ولكن المسألة المطروحة هي ما إذا كان المسلمون اليوم صالحين لزمانهم، أي قادرين على ان يعيشوا عصرهم على ان يدشّنوا سيرة جديدة تكمل «سيرة السلف» القديمة وتجعل منها واقعا حيّا صالحا لان تستلهمه الأجيال المقبلة في بناء سيرتها الخاصة. وقال الجابري ان التجربة التاريخية للأمة هي التي يجب تحيينها بتدشين فصل جديد منها يمكّنها من الدخول في العصر الحاضر... هذا العصر الذي يصرّ كل شيء فيه على انه عصر «الخلف» وليس عصر «السلف». كما يرى السيد محمد عبد الفتاح فى معرض تحليلة لصعود السلفيين فى مصر " اذا نحن لسنا أمام مفاجأة . فالحركة السلفية نجحت في بناء قواعد عريضة و ملتهبة من التابعين. و هم الان تحولوا الي نشطاء سياسيين و دعويين في خدمة رسالة يؤمنون انها الأجدر بالخدمة. و علي الرغم من حصول السلفيين علي 25% من الأصوات فان ذلك ليس غريباً علي أي مجتمع معاصر. فذلك مقارب لنفس النسبة التي تحصل عليه الحركات و الأحزاب اليمينية و النازية و الفاشية في أوروبا . و هو ضمن اتجاه دولي عام صعد فيه الدين و الأفكار القومية المتعصبة المنغلقة منذ السبعينيات (http://www.anegyptianjournalist.com/archives/175)

    التيار الرئيسى فى القرن الحادى والعشرين

    لقد فتحت الميادين العربية لشعارات عيش، حرية، كرامة وعدالة اجتماعية وسوف تتجة الجماهيرصوب من يحقق لها ذلك. ان تيار الدولة الدينية قد وصل اعلى صعودة – كما حدث للتيارات القومية واليسارية فى الستينات والسبعينات – ومن التحليل الموضوعي والمنطقي وعبر عملية تاريخية معقدة وبضغط من الظروف العالمية والاقليمية ومن التحولات الفكرية فى الكتلة المؤيدة تراجعت تيارات الدولة الدينية من مواقفها التاريخية والفقهية الى القبول بالديمقراطية كاساس للممارسة السياسة والدولة المدنية كاطار قانونى للدولة والحريات العامة والشخصية (كما نرى فى اجتهادات زعمائها الغنوشي، الترابى وقادة الوسط حول ضرورة الانفتاح وممارسة النقد الذاتي لتجربة الحركة الاسلامية السابقة وضرورة اعتماد التعددية والديمقراطية في نظام الحكم)، وفى اضطرار نتوء الحركة السلفية فى مصر الدخول فى اللعبة الديمقراطية وتراجعاتة المستمرة عن ارائة المتشددة. . وسنرى مدى تطابق قولها بالفعل فى هذة التجارب. ترافق مع هذا قبول الاحزاب الشيوعية والاشتراكية والقومية بنفس الاطارات السياسية والقانونية والحريات فى كافة بلدان الربيع العربى وكذلك فى السودان. لقد ظهر هذا جليا فى هرولة صاحب الاغلبية الكاسحة فى البرلمان للبحث عن المشروعية الغائبة بمحاولة ضم الاحزاب الليبرالية وبدعوى الحكومة العريضة فى وجة عزلة خانقة تعيشها وموران المنطقة بالربيع العربى.
    اذن فان ارتباط تيارات الدولة الدينية ( جماعة الاخوان المسلمين والسلفيين) بالاقتصاد الريعى الخليجى، والذى لعب راس الرمح فية بنك فيصل الاسلامى كان لابد ان يتجة بنيويا الى مجالات الربح السريع – وتاريخيا يمكن تفسيرها بعدم الرغبة فى اى استثمارات طويلة الاجل فى الاقتصاد الحقيقى من زراعة وصناعة الى الخوف الدائم من انقلاب الحكومات عليهم. المهم ان هذة الجماعات تأسست وارتبطت بمجالات التجارة، المصارف والتمويل القصير الاجل ومثلها. وقاد هذا ان ارتبطت تعاملاتهم فى كثير من الاحيان بتغليب الربح على المصلحة العامة وما تجارة الذرة فى دارفور ابان مجاعة 1985 وشركات رؤؤس الاموال الا امثلة. ان تيارات الدولة الدينية غير قادرة موضوعيا على تطبيق العدالة الاجتماعية الا اذا فكت ارتباطها مع الراسمالية الطفيلية. ان مدخل التيار الرئيسى يفسر لنا صعود تيار الدولة الدينية ومآلاتها المرتقبة ويفسر هذا نتيجة الانتخابات فى كل من تونس (40%) ، المغرب (30%) ومصر ومجمل اطروحات الانقاذ فى السودان. وقد لعب المال والخروقات وشراء الأصوات دورا كبيرا، اضافة الي استغلال الدين ومنابر المساجد في الحملة الانتخابية واتهام المنافسين بالكفر اضافة الي السب والشتائم باسم الدين.

    الاسس الاقتصادية الاجتماعية للتيار الرئيسى

    ربما من الطريف ان اكمل رؤية للاسس الاقتصادية الاجتماعية للتيار الرئيسى جاءت من الدكتورة فاطمة بابكر محمود والتى تنتمى لتيار الماركسية اللينينية ( راجع نقدها، فى مقدمة الطبعة الثانية الجزء الثانى، لبرنامج " مبادىء لتجديد البرنامج 1997، والذى كتبة الزعيم الراحل محمد ابراهيم نقد، والذى بنى علية الحزب الشيوعى برنامج المؤتمر الخامس نقض ريادة الطبقة العاملة، اعتبار المنهج الماركسى جزءا من الموجهات العامة للحزب، اسقاط مرحلة الشيوعية: اى باختصار تبنى الاشتراكية الديمقراطية مع الحفاظ على الاسم التاريخى). وتتميز د. فاطمة بريادتها فى دراسة الراسمالية السودانية من خلال دراسة ميدانية محكمة ( 1975- 1979 ) وهى الوحيدة فى مجالها من داخل الحزب الشيوعى، لكن توجد دراسات نظرية مبنية على الاطروحات الماركسية العامة. لقد نحتت الكاتبة مصطلح الدولة المسئولة واوضحت " وهى موجودة فى النظام الراسمالى فى كل دول غرب اوروبا والدول الاسكندنافية ( السويد، النرويج، الدنمارك)، واستهدت بها دولة مثل بريطانيا....... ففى بريطانيا تضطلع الدولة بالخدمات التعليمية والصحية وجزء مقدر من الخدمات الاسكانية" وتضيف الكاتبة " ان الاشتراكية ليست شرطا لبناء الدولة المسئولة بل ان الدولة المسئولة هى من امكانات الدولة الراسماليةاذا ما تم الضغط الكافى لتلبية حاجات العمال والعاملين". وتؤكد د. فاطمة " لقد كانت الدولة السودانية دولة مسئولة الى حد كبير بعد الاستعمار وحتى نهاية سلطة عبود واستمرت كذلك حتى الجزء الاول من سلطة مايو 1969" (د. فاطمة بابكر محمود، ترجمة سعاد عطا: الراسمالية السودانية...أطليعة للتنمية؟ معهد البديل الافريقى، لندن، المملكة المتحدة، 2006).

    يستعيد التيار الاساسى فى السودان مواقعة بقبول التيار الشيوعى واليسارى والمؤتمر الشعبى بالليبرالية السياسية والاقتصادية المعدلة للتوافق مع العدالة الاجتماعية والطابع المدنى للدولة. ان الصورة النهائية للتيار الاساسى فى السودان يتبلور فى تحولات وتطور اربع تيارات فرعية اساسية: اولا: تمثل الاحزاب الليبرالية (الاتحادى والامة) اذا استطاعت تفكيك اسرها الطائفى وتحولها لاحزاب حقيقية رافعة حقيقية للوطن لانهما يمثلان جناحى الوطن (الامة فى دارافور، بعض كردفان والنيل الابيض، والاتحادى فى الشمالية، الشرق وبعض كردفان). ثانيا: الحركة الشعبية وكافة الحركات المسلحة المؤمنة بوحدة السودان والخيار الديمقراطى والمناطق المهمشة كحل لمشكلة التهميش والهوية. ثالثا: اليسار اذا استطاع توحيد كافة فصائله فى حزب انتخابى. واخيرا تيارات الدولة الدينية فانها اما ان تختفى من المسرح السياسى او تفك ارتباطها مع الراسمالية الطفيلية وان تتحول الى احزاب فى يمين الوسط كما حدث لاحزاب الديمقراطية المسيحية الاروبية والتجربة التركية. ان هذة الرؤية حلم ومعطى موضوعى قد يقصر او يطول زمان تحققة، وقد مرت كافة الدول بهذة المحطات ولذلك فاننا لانعيد اختراع العجلة والمأمول ان نحضر فى اواخر عمرنا وطنا يسير الى الامام.

    الخريطة السياسية للتيارات السياسية السودانية

    نستعمل هنا التصنيفات المتداولة فى التصنيف الدارج وذلك لرسم خريطة تقديرية للقوى السياسية. (وقفت ” الطائفة الثالثة ” على يسار مقعد رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية تعبيراً عن موقفها المعارض للملكية قبيل الثورة الفرنسية . وأصبح تقليداً غالباً أن يجلس ممثلو المعارضة في مقاعد اليسار من قاعات ” البرلمانات ” معبرين بمواقعهم المكانية عن مواقفهم السياسية من الحكومة القائمة . فإن تغيرت الحكومة بدّلوا مقاعدهم فأصبح اليسار يميناً واصبح اليمين يساراً بدون ان يبدل أحد أفكاره . وهكذا كان أقصى ما يدل عليه الموقف اليساري هو الرغبة في التغيير . تغيير الحكومة . ثم انتقل التعبير للدلالة على التغيير الاقتصادي والاجتماعي.... وقد كان النظام الرأسمالي هو السائد في أوروبا فأصبح اليسار يطلق على التيار الاشتراكي الذي بدأ في النصف الأول من القرن التاسع عشر ولا يزال يطلق عليه حتى الآن أينما كان النظام الرأسمالي هو النظام السائد .( د. عصمت سيف الدولة: عبث اليمين واليسار] http://aboudharannassiri.maktoobblog.com ). نستند فى تصنيفنا الى اعتبار التغيير الاقتصادي والاجتماعي ومدى امكانية المسير فية ، داخل المنظومة الراسمالية او خارجها، هى النقطة المرجعية.

    ندرج حزب الامة فى تصنيف اليمين ولكن تواجد مجموعات مقدرة اقرب الى الوسط وهذة الفئات الاكثر حراكا داخل الحزب الان ، وكذلك الحزب الاتحادى الديمقراطى نفس التصنيف ولكن يتميز بوجود بقايا الحزب الوطنى الاتحادى من يسار الوسط لكن بتاثير ضعيف ومتذبذب والتاثير الكبير ليمين الوسط. بخلو يسار الوسط من الوجود الاتحادى كحزب منذ الستينات، حاولت احزاب البعث الاشتراكى، الناصرى واللجان الثورية احتلال هذا الموقع، لكنها كانت كلها تحت وطاة العروبية والتى كانت جماهيرها اميل للتمثل فى الاحزاب اليمنية وتيار الدولة الدينية. ربما كانت محاولة انشاء الحزب الاشتراكى محاولة من اليسار الشيوعى وانصارة الانتقال الى يسار الوسط تحت ضغط القوى المعادية وحل حزبها واستقراء تاريخ توجهاتها الاولى فى الخمسينات. تزدحم منطقة يسار الوسط حاليا بعدد مقدر من الاحزاب والحركات ذات الوزن، بدأ من حركة حق، التحالف الوطنى وغيرها الى الحركة الشعبية لتحرير السودان –الشمال، واحزاب دارفور وحركاتها. ربما تتطور هذة المجموعات وتتحد فى وقت ما لتخلق الكيان الثالث وكتلتة الانتخابية فى التيار الرئيسى. اننا نرى بداية تشكل هذة الكتلة الثالثة فى مصر فى الكتلة الانتخابية لصباحى، ابو الفتوح، خالد على فى انتخابات الرئاسة المصرية مقابل تيارات الدولة الدينية وتكتل تيار الدولة المصرية القديمة.

    ثالثا: نظريات ومفاهيم التنمية السياسية

    نتناول هنا كافة النظريات والمفاهيم التى تداولها حقل التنمية السياسية المرتبطة بحالة التخلف التي تعاني منها البلدان التي وقعت تحت السيطرة الاستعمارية الغربية والتى تركزت اهتماماتها بصورة عامة حول مواضيع النمو، التحديث والتقدم. برغم وجود نوع من الاتفاق الواسع على مظاهر التخلف في دول العالم الثالث، لكن لا يوجد اتفاق مماثل على أسباب التخلف ونشأته وأسباب استمراره وطرق الخلاص منه. وتندرج نظريات التنمية السياسية تحت ثلاث نظريات رئيسية هي: نظرية التحديث ومداخلها ومناهجها المتنوعة والتي تنطلق من أفكار علم الاجتماع وعلم السياسة الرأسماليين، النظرية الماركسية المعتمدة على أفكار ماركس ولينين وتطبيقاتها في الدول الاشتراكية واخيرا نظرية التبعية التي تم التنظير لها من مفكرين في العالم الثالث، ردا على فشل نظريات ومشاريع التنمية في هذه الدول، وخاصة من مفكري دول أمريكا الجنوبية . (التنمية السياسية: النظريات والمفهوم: صوت الكويت، العدد 640، http://q8s.kuwaiti.ws/t155711.html ).

    وفى محاولتنا لوضع معايير متسقة للنظر فى رؤية الرواد سوف نعتمد على احد منظرى نظرية التحديث لوسيان باى (لوسيان جورج باى -21 أكتوبر 1921 - 5 سبتمبر 2008- عالم السياسات والصينيات و السياسة المقارنة وكان احد علماء الصين الراود في الولايات المتحدة. أصبح بى واحدة من الرواد في الخمسينات والستينات في تطوير نظريات التنمية السياسية والتحديث في دول العالم الثالث). راى لوسيان باي ان التنمية السياسية هي " جانب من عملية التغيير الاجتماعي المتعددة الجوانب ". وتقوم على ثلاثة مقومات رئيسية هي أولا: المساواة أمام القوانين، الفرص وإمكانيات المشاركة في صنع القرار. ثانيا: القدرة: هي قدرة النظام وأبنيته المختلفة بالقيام بمهامها، وقدرتها على تحويل المدخلات إلى مخرجات تلبي حاجات المجتمع. ثالثا: التميز والتخصص: أي قيام كل بنية في النظام بوظائف محددة ومتخصصة، مع تفاعلها وتعاونها مع بعضها البعض.

    لكن الأزمة تنشأ نتيجة عدم تطور النظام وبنيته وعدم قدرته على تلبية المطالب واستيعاب المدخلات تلك ومعالجتها، وعدم قدرته على الاستجابة لحاجات ومتطلبات النظم الاجتماعية الأخرى، اقتصادية وثقافية واجتماعية وغيرها. وقد صنفت الأزمات من منظري التنمية السياسية بطرق مختلفة، أما لوسيان باي فقد اعتبر ان هناك ستة أزمات للتنمية تتمثل في :

    1.أزمة الهوية: وهي مشكلة الولاء والانتماء إلى جماعات محدودة مثل الولاء العشائري مقابل الولاء للمجتمع القومي.
    2.أزمة الشرعية: وتتعلق بدرجة قبول ورضا الناس عن النخب الحاكمة وسياساتها.
    3.أزمة الاندماج: وتتعلق بمدى تنظيم النظام السياسي ككل ، كنظام علاقات متفاعلة. وتشير إلى علاقة شاغلي الأدوار بوكالات الحكومة وعلاقة الجماعات ببعضها، وقدرة الأجهزة الإدارية والسياسية على أداء الوظائف المنوطة بها.
    4.أزمة التغلغل: وهي مدى سيطرة النظام وامتداد سيطرته وسلطاته إلى كافة أطراف المجتمع، وقدرته على التأثير الفعال في مختلف أرجاء الإقليم.
    5.أزمة المشاركة: وتشير إلى مدى مشاركة المواطنين في الحياة السياسية وفي صنع القرار.
    6.أزمة التوزيع: وتشير إلى توزيع الموارد والقيم المادية والمنافع، لتلبية احتياجات ومطالب المواطنين والمجتمع.

    ويؤكد دكتور أحمد وهبان في مؤلفه " التخلف السياسي وغايات التنمية السياسية " ما طرحه لوسيان باي، لكنه يرى ان هناك أزمتان إضافيتان لما جاء به هما: أزمة الاستقرار، التي تشير إلى وجود مشاكل تعاني منها مجتمعات العالم الثالث، بسبب التنوع العرقي، أو غياب أيديولوجيا واحدة وقيم وأهداف متفق عليها. وأزمة تنظيم السلطة، التي تتعلق بعدم خضوع الوصول إلى السلطة وممارستها وتداولها لنظام قانوني (دستور) يلزم الحكام، حيث ان السلطة في دول العالم الثالث هي سلطة مشخصنة (التنمية السياسية: النظريات والمفهوم: صوت الكويت، العدد 640، http://q8s.kuwaiti.ws/t155711.html ).

    نظريات المؤامرة: الغابة والاشجار

    من الرصد الطويل والبحوث المطولة الذى قام بة عشرات العقول السودانية اللامعة فى كافة المجالات ومن رصدى للموقف السياسى والفكرى السودانى على طوال اكثر من نصف قرن وخبرتى العملية، فان مفهوم المؤامرة رائج بشكل مزعج وضار. مانسمية نحن المؤامرة ونروج لة هو فى الحقيقة علم كامل هو التفكير الاستراتيجى . للدول كافة – خاصة فى الغرب- والمنظمات والشركات...الخ طرائق متماثلة للتصرف تجاة كل حدث ذو اهمية استراتيجية. وتسمى نظرية (SWOT Analysis) وتعنى ان تحدد نقاط القوة، نقاط الضعف، الفرص المتاحة وكافة المهددات. من واقع هذا التحليل يتم رسم السياسة الاستراتيجية وخطط التدخل او التاثير. ناتج هذا التحليل هو الذى يدرج الناس على تسميتة على المؤامرة. لقد تعودنا فى حياتنا اليومية وفى حياتنا العامة ان نغرق فى التفاصيل، اى النظر للاشجار والتأمل فيها وفصفصتها. التفكير الاستراتيجى الذى عملت بة الدول التى سارت فى طريق المستقبل هو يشمل النظر للاشجار ومن ثم الارتفاع للنظر الى الغابة. وفى السياسة يعنى مفهوم الغابة والاشجار اشياءا مختلفة فى ازمنة مختلفة ولكنة دائما يظل وجود رؤية استراتيجية شاملة لكل القطاعات على مدى زمنى متوسط وطويل تشترك فى وضعة كل فئات المجتمع او على الاقل تشترك فى نقاشة. الرؤية الاستراتيجية ليست مجرد تنجيم فى الهواء ولكن اساسة النظر فى الاشجار، اى التفاصيل الحياتية وتحليلها ومن ثم صياغة الرابط الاساسى لهذة التفاصيل .

    نظرية الفوضى الخلاقة

    يروج فى انحاء العالم العربى ضمن نظريات المؤامرة ان كل الذى يجرى من احداث وثورات وتغييرات هى من نتاجات نظرية الفوضى الخلاقة. يرجعها المستشهدين بها الى مطلقتها كونديليزا رايس العقل الاستراتيجى ووزيرة خارجية الرئيس بوش الابن في حديث لها شهير ادلت به الى صحيفة " الواشنطن بوست " الامريكية الـ 9 /4 /2005م (عندما قيل لها ان التفاعلات التي تموج بها منطقة الشرق الاوسط لا تترك مجالا اخر سوى للاختيار بين الفوضى او سيطرة الجماعات الاسلامية على السلطة، ولن تؤدي بالضرورة الى انتصار الديمقراطية، لم تتردد في ان تقول ان الوضع الحالي "ليس مستقرا"، وان الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي في البداية هي من نوع "الفوضى الخلاقة" التي ربما تنتج في النهاية وضعا افضل مما تعيشه المنطقة حاليا).

    ولنقترب من هذة النظرية فقد عالج الكاتب سمير محمود ناصر فى الحوار المتمدن - العدد: 1521 بتاريخ 15 ابريل 2006، هذا المشروع (الفوضى الخلاقة ) صمم فى معهد اميركان انتربرايز American Enterprise Institute for Public Policy Research الذي يعتبر قلعة المحافظين الجدد، والذى صاغ مشروعات بوش السياسية للشرق الاوسط. اسس معهد المشروع الامريكي للابحاث عام 1943 وكان السبب الرئيسي لانشاء الجمعية التي انبثق منها المعهد هو مراقبة السياسات الاقتصادية الحكومية وتقديم النصائح لاعضاء الكونغرس في نفس المجال. وقد حرص المعهد منذ تاسيسه على التمسك بمبادئ الليبرالية الاقتصادية وتعزيز حرية القطاع الخاص.. من هذا المنطلق كانت اهداف المعهد مماثلة لمبادئ وسياسات الحزب الجمهوري الذي ظل يؤيد الحد من تدخل الحكومة الامريكية في الشئون الاقتصادية المحلية وخفض حجم الانفاق الحكومي طوال القرن الماضي.

    يقول الكاتب ان تعبير "الفوضى البناءة " يلخص استراتيجية كاملة اعدت للمنطقة العربية، تهدف الى اجراء " حملة طويلة من الهندسة الاجتماعية " تفرض بالقوة. تستند هذه الرؤية الى التراث الاستشراقي خصوصا " برنارد لويس " هذا التراث الذي لا يستطيع ان يرى الوطن العربي الا بكونه تجمعا لاقليات دينية وعرقية عاجزة عن العيش سوية في كيانات دويلاتية وطنية، واذا كان الشعار هو " قضية الديمقراطية " المرتبطة بمصالح اميركا، فان تحقيقها كما يفترض، يرتكز على الاستخدام الصريح للطائفية في اطار تلك الاسترتيجية. بحيث ان التنوع الطائفي والديني والاثني الذي يسكن المنطقة العربية، يصبح في حالة تناقض مستحكمة، الامر الذي يفرض ان يتشكل كل دين وكل طائفة واثنية في تشكيل سياسي خاص، حسب وضع كل دولة عربية قائمة، وهنا يتحول التنوع الى كارثة. وتكون الديمقراطية هي منتِج " التدمير الخلاق ". فنشر الديمقراطية، هو الشعار العام الذي حكم السياسة الامريكية منذ احتلال العراق، استنادا الى " نظرية الدومينو " التي تعني تدحرج النظم واحدة بعد الاخرى، انطلاقا من المفاعيل التي احدثها سقوط النظام في العراق واعادة رسم الجغرافية السياسية التي تشكلت منذ الحرب العالمية الاولى.

    القضية فى معالجة اطروحة الفوضى الخلاقة هى انها ترجع احداث العالم الى نظرية كاملة من اجهزة تدبر لنا المؤامرات وهذا ممكن، وانها تنفذ هذة المؤامرات وتتحكم بها وبالتالى هناك ضحايا – وهم كالعادة حكام يمسكون بالسلطة لعقود ويلوذون بها، وهناك مشاركون فى تنفيذ المؤامرة وهو الشعب الذى لا يسال حكامة اويحاسبهم. ان هناك مؤامرات تدبر هذا لانقاش فية وهذا موجود فى كافة الانظمة وهناك اجهزة متخصصة لذلك، لكنها ليست مؤامرات مافيوية لكن لها طرائق عمل وهى اتجاهات سياسية.

    عندما اتهم رئيس مجلس الوزراء الماليزي مهاتير بن محمد، جورج سوروس ،الخبير الرأسمالي ورئيس مجلس إدارة صندوق سوروس ومعهد المجتمع المفتوح، والذى يعتبره عدد من المحللين نموذجا للمضارب الدولي في البورصات والعملات، باستخدام ثروته لمعاقبة منظمة الآسيان بعد ضم ميانمار كعضو جديد فيها. أسماه مهاتير حينها بالغبي والأبله كما أطلقت عليه السلطات التايلاندية لقب مجرم الحرب الاقتصادي الذي يشرب دم الشعب. في حين قال عنه عمدة بانكوك سماك سوندارافيج، خلال زيارة سوروس للصين: ألا يشعر بالخجل ليأتي إلى هنا ويرى مصيبتنا الناتجة عن أعماله المشؤومة فهو لا يستحق إلا رصاصة في رأسه. لم يصف القادة الاسيويين او يحتموا وراء نظرية المؤامرة، كان هذا الجانب السياسى فى الموضوع ولكن لم يكتف القادة الاسيان بالحديث الانفعالى والعاطفة والتخوين، بل اتخذوا التدابير المحلية للخروج من الازمة، صارحوا شعوبهم بالوضع وان عليهم اتخاذ سياسات غير شعبية لكنها الطريق للخروج من الازمة. ان الطريق للوقوف امام المؤامرات ان صحت هو البحث عن رضا الشعب كما فعلت كل الديمقراطيات المحترمة.

    نظرية المؤامرة فى السودان

    قلما نسمع كلمة مؤامرة في اعلام وسياسة العالم الاول الا بادلة، مسائلة من برلمانيين واعضاء مجلس شيوخ للتحقيق في مزاعم فيتم تشكيل لجان مدنية او عسكرية مستقلة عن المؤسسة محل القضية لحلها، ليظهر بالوثائق فضائح عن اتفاقات سرية بين شركات ومسؤولين لتتحول من اسرار يتبجح بمعرفتها قلة من النخب الثقافية الى حقائق وقضايا رأي عام يبدا بالضغط لمحاسبة الجهات المسؤولة. فنظرية المؤامرة صحيحة اذا ما تم اثباتها بادلة مادية لا تحتمل التاويل كما يتم في العلوم الجنائية. رغم اننا قد نتفق مع اصحاب نظريات المؤامرة ان هناك مصالح تحرك هذة الدول وانها تتدخل باشكال مستترة وسافرة لتحقيقها، الا ان العامل الحاسم فى المسالة هو الوضع الداخلى وديناميكاتة. ان الخارج لن يجد مؤطا قدم الا اذا كانت هناك اسباب موضوعية داخلية وحلقات ضعف يتسلل منها الخارج. ولعل سبب كثرتها في دول العالم الثالث الاختلالات الهيكلية فى انظمة الحكم وعجزها عن تقديم نمودج محكم وبالتالى كثرة الاتفلاتات المحلية التى تستدعى التدويل. (http://shackow.wordpress.com.

    تنتشر نظرية المؤامرة فى السودان حاليا بشكل لايصدق. والناظر الى تصريحات المسئولين، نتائج الابحاث السياسية، الندوات، خطب الجمعة وكافة ما يرد فى الخطابات الرسمية جميعها تنطلق من ان السودان من بين جميع الدول فى العالم الاكثر استهدافا. مستهدف من الامبريالية العالمية، من اسرائيل، مجلس الكنائس العالمى، القوى الصليبية، مجلس الامن، الامم المتحدة، كثير من الدول الافريقية، الماسونية العالمية وهكذا. فما هى اسباب انتشار هذة النظرية؟
    نبدأ باننا لسنا من ناكرى المؤامرات فى العمل السياسى والدولى لان من المتعارف ان ملاعب السياسة في العالم لم تَخْلُ على الاطلاق، وفي أي فترة من الفترات عبر التاريخ، من المؤامرات والمتآمرين، حيث ان المؤامرة وجة من اوجه ممارسة السياسة، إلا أن هذا ليس معناه أن السياسة ليست إلا مؤامرات، وإنما أن المؤامرة واردة في عالم السياسة، بوصفها أحد الأوجه والسلوكيّات لتلك الممارسة ( ولها اجهزة استخباراتية هذا عملها)، لذلك لا يصحّ أن يتضمّن نقدُ العقل التآمري، نفيَ وجود المؤامرة، أو التقليل من أهميّتها، أو النظر إليها على أنها سلوك هامشي محض. خطورة الفكر التأمرى انة يلقي باللوم كاملا على النصف الخارجي لقوى المؤامرة دون أن يكلف نفسة الاشارة لدور النصف الداخلي منها والمتمثل على مستوى أساسي بقوى السلطة ذاتها. وحبل المؤامرات طويل لا ينتهي... لكن في كثير من الأحيان، فإن نظرية المؤامرة بحدّ ذاتها هي مركّب لا عقلاني وتلفيقي الطابع، أيّ إنّها تحتوي على مجموعة اعتباطية ومتناقضة من التواريخ والأشخاص والأحداث التي تُربط عمداً ببعض، بشكل لا يصمد أمام أي بحث علمي جدّي ومحايد. فقد يراوح تعقيد المؤامرة من أفكار مفاجئة بنسبة اللامعقول فيها (على غرار قول بعضهم إن إشعال محمد البوعزيزي كان عملاً مقصوداً)، الى سيناريوات مشغول عليها تبدو للوهلة الأولى قريبة من المنطق. وكثير من الأحيان، فإن نظرية المؤامرة تَستبدل فكرة إمكان تبدّل الخيارات السياسية وعلاقتها بالمصالح الاقتصادية، برؤية للعالم تقوم على تقسيمه بين خير وشرّ، شرق وغرب. " نظرية المؤامرة.. غذاء الروح العربية، Al-mushahid Assiyasi Volume Volume (16) Iss 835 - 28 April 2012 )

    ربما اكثر من يستعين بهذة النظرية هى الديكتاتوريات التى ما تركت طريقة او وسيلة للاستعانة بالخارج. اما ديكتاتوريات تيار الدولة الدينية واحزابها فقد بنت كامل نظرياتها على انها مستهدفة مباشرة بكافة المؤامرات، سواء على مستواها التنظيمى او على مستوى الاسلام الذى اصبحوا هم مفسرية وحماتة وتماهوا داخلة بالكامل. فى السودان حزب الاخوان هو الاسلام والاخرون متآمرين بشكل ما. رغم ان العالم كتاب مفتوح وتنشر كافة الاستراتيجيات فهم لايعنون بتقديم اى دليل على مايقولون. لقد استفحل انتشار نظريات المؤامرة بعد تصاعد تيارات الدولة الدينية لفشلها فى الحصول على المشروعية الاجتماعية وانهيار مشروعها الفلسفى، الاقتصادى والاجتماعى. ان لبوس دور الضحية هو افضل الوسائل لاستجلاب العطف الجماهيرى.

    نتناول هنا حالة نموذجية قامت على دراسة وتقارير لازمة دارفور. وهى من منظمات واجهزة واشخاص ينتمون او يتعاطفون مع نظام الانقاذ وسنرى كيف ان المقدمات التى طرحوها والاسباب الى اوردوها لا تشير الى النتائج المؤامراتية التى توصلوا اليها. ينطلق الكاتب من ان المؤامرة " لم تعد نظرية المؤامرة قائمة لأننا لم نعد أمام نظرية وإنما صرنا أمام واقع المؤامرة ، فلم نعد نتحدث عن نظرية وإنما صرنا نري المؤامرة واقعا، وما كان في الماضي هو تصورات وإرهاصات صار الآن أحداثًا وأخبارا ووقائع تتناقلها الفضائيات والصحف السيارة". يبدأ الكاتب من سؤال الهوية " فكل هؤلاء تصاهروا مع القبائل فانصهروا وأصبحوا سيكة واحدة لا يمكن أن يقال هذا عربي نقي أو هذا إفريقي نقي ، وإنما يمكن أن نقول : نحن أمام مواطن دارفوري سوداني عربي أفريقي مسلم تشكل بهذا الشكل عبر الحقب التاريخية ويستحيل تصنيفه بعد ذلك". يتناول الكاتب بعد وصف مسهب للجغرافيا السياسية لدارفور اسبا النزاعات ويصفها انها " النزاعات في دارفور حالة أفريقية عامة.

    الأسباب المباشرة لتفجر الصراع في دارفور:

    اولا: المراحيل والمسارات والمراعي (كثرة أعداد الإبل والماشية التي تمر عبر المرحال، التوسع الزراعي في المراحيل، حجز موارد المياه، حرق المراعي، دخول الرحل إلي المناطق الزراعية بدون ضوابط، عدم تقيد الرحل بمواعيد الرجوع، فتح المرحيل بالعنف وليس بالعرف)،

    ثانيا: ملكية الأرض والحواكير وديار القبائل : كل قبيلة من القبائل الكبرى في دارفور تملك دارا أو حاكورة .وهي رقعة جغرافية معروفة منحت لها منذ قديم الزمان بواسطة سلطة مركزية قابضة وسميت باسمها كما هو الحال في دار الرزيقات ، دار الهبانية ، دار المساليت ، دار الميدوب ، دار كوبي ، دار سويني ... إلخ . وهناك ارتباط وثيق بين الدار وزعامتها التقليدية وهي ما عرفت بالإدارة الأهلية. وفي هذا الإطار هنالك قبائل صغرى لم تكن لها ديار أو حواكير في السابق وبالتالي لا مصلحة لها في الترتيب االحالي للأوضاع في دارفور . لذلك فهي تطالب بإلغاء نظام الحواكير وديار القبائل والبدء الفوري في التعامل بالقيم والمفاهيم الجديدة بدلا من الاحتكام إلي التراث . ونتيجة لهذا التناقض البين في المصالح واختلاف الرؤى ،برزت بعض النزاعات القبلية التي سرعان ما تطورت إلي حروب قبلية .

    ثالثا: الهمبتة والنهب المسلح: ظهرت بوادر النهب المسلح عند استيلاء حسين حبري الرئيس التشادي السابق علي زمام السلطة في تشاد عام ١٩٨٢ م ونزوح بعض قوات الحكومة السابقة بأسلحتهم إلي الحدود السودانية تسرب كميات من أسلحة تلك القوات إلي أيدي المواطنين عن طريق البيع أو الهبة أو الرهن. وفي منتصف عام ١٩٨٤ م شهدت دارفور ارتفاعا ملحوظا في حوادث النهب المسلح نتيجة لاشتداد موجة الجفاف والتصحر التي ضربت من طقة الساحل الإفريقي ، كما أن غياب أي نوع من مشروعات التنمية وبدائل للكسب المشروع وفرص العمل الشريف في الولاية لاستيعاب الفاقد التربوي الكبير الذي يتضاعف عاما بعد عام نتيجة لتدهور خدمات التعليم في الولاية – ساهم بقدر كبير في استفحال هذه الأسباب غير المباشرة التي ساهمت في اندلاع الأزمة واهمها غياب التنمية، العجز الإداري والتنفيذي وغياب هيبة الدولة وعدم ممارسة السلطة . قاد هذا الى ظهور حركات مسلحة حيث تستند قاعدة حركة تحرير السودان إلي قبائل الزغاوة والفور والمساليت قبل أن تنضم إليها بعد ذلك بعض قبائل الرزيقات العربية بقيادة أحمد جبريل كير وتزعم الحركة الأمين العام مني اركو مناوى، ويرأسها المحامي عبد الواحد محمد نور و حركة العدل والمساواة التي رأسها الدكتور خليل إبراهيم وهو طبيب من قبيلة الزغاوة كان يعمل وزيرا للتعليم في ولاية شمال دارفور حتى استقالته عام 1999 . ويري المراقبون أن حركتي التمرد هما امتداد لحركات دارفورية بدأت في الخمسينيات باللهيب الأحمر ثم جبهة نهضة دارفور في عام ١٩٦٤ التي أسسها أحمد إبراهيم دريج .

    بعد هذة الدراسة الضافية عن الاسباب المباشرة والغير المباشرة جاء التقرير الأولي لوفد اتحاد الأطباء العرب للإطلاع علي الأحوال الإنسانية بإقليم دارفور بدولة : ( السودان ( في الفترة من ١٣ إلي ٢٢ أغسطس ٢٠٠٤، تبين للوفد بعد لقاءاته ومشاهداته الميدانية ومقابلاته مع أعضاء البعثات الإغاثية الدولية ما يلي :

    الوضع الإنساني في إقليم دارفور متدنٍ عن الظروف المتعارف عليها لحياة البشر ، وقد ساهم في ترديه •عوامل وأطراف متعددة منها تقصير الجهات الحكومية في عملية التنمية ، وتمرد بعض أهالي الإقليم .

    إقليم دارفور يعاني مثل غيره من مشكلة الصراعات القبلية المزمنة والممثلة في التنا فس علي المراعي والمياه •والتي ساهم في زيادة عدد ضحاياها ما تم تسريبه إلي أيدي هذه القبائل من أسلحة ، ونشر بذور الفتنة والتحريض علي التمرد من قبل جهات لها مصالح بالإقليم .

    وتبين أيضا أن الإقليم يعاني من ظاهرة خطيرة وهي ظاهرة النزوح المضلل والذي جعل من الصعب تحديد الحجم الحقيقي للاجئين فهناك عدد كبير من سكان القرى القريبة من المعسكرات النازحين يسجلون أنفسهم كلاجئين للتمتع بالمزايا التي تقدم للاجئين من طعام وشراب ومزايا صحية من الهيئات الإغاثية والدولية المختلفة .

    وطبقا لشهادات مسجلة لعينات عشوائية من اللاجئين وممثلي الهيئات الإغاثية الدولية لم تتوافر أي شواهد علي ما يسمي بجرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية .كما تبين للوفد من خلال زياراته الميدانية لمخيمات اللاجئين أن الأوضاع الصحية عادية ، وأن نسبة •الأمراض الموجودة هي نفس المعدلات المتعارف عليها في مثل هذه الظروف والأماكن ، لا يوجد تفش للأمراض الوبائية بين النازحين .أكد أطباؤها الميدانيون لأعضاء الوفد أنهم لم يسجلوا من خلال ممارستهم لعملهم أي حالات اغتصاب ، وهو الأمر الذي يتو افق مع تصريحات عديدة سابقة من مبعوثي جهات ودولية لتقصي الوضع في الإقليم .ونقلاً عن زعماء القبائل بالإقليم فإن المشكلة في دارفور ليست عرقية إطلاقًا وليست حربا بين العرب والأفارقة بدليل أن هناك حروبا وخلافات بين أبناء القبيلة الواحدة ، كما أن التاريخ شهد تعاونًا وتحالفًا بين قبائل عربية وأفريقية ضد قبائل أخري كما لاحظ الوفد وجود علاقات نسب ومصاهرة بين العرب والأفارقة في الإقليم .

    مما تقدم يتبين أن الاتهامات التي وجهت إلي الحكومة السودانية بشأن التطهير العرقي والإ بادة الجماعية •والاغتصاب المنظم هي تهم سياسية لا يوجد أي دليل علمي عليها وأنها لا تستند إلي أي دليل في الواقع .وعلى نسق التقرير اعلاة جاءت زيارة وفد اتحاد المحامين والمهنيين العرب إلي دارفور قى اغسطس 2004 وكان الغرض الرئيسى هو تبرئة الحكومة السودانية من الاتهامات التي وجهت إليها بشأن التطهير العرقي والإ بادة الجماعية والاغتصاب المنظم باعتبارها تهم سياسية لا يوجد أي دليل علمي عليها وأنها لا تستند إلي أي دليل في الواقع .

    فى الواقع لسنا مهتمين هنا بهذة القضية لكن اذا كانت الحكومة السودانية، المنظمات العربية والهيئات وجدت الوضع الوضع الإنساني في إقليم دارفور متدنٍ عن الظروف المتعارف عليها لحياة البشر وكان النازحين يسجلون أنفسهم كلاجئين للتمتع بالمزايا التي تقدم للاجئين من طعام وشراب ومزايا صحية من الهيئات الإغاثية والدولية المختلفة، واذا كانت مشاكل دارفور معروفة منذ عقود وملفاتها امام المسئولين، فكيف تطور الامر حتى قاربت على العقد ويحارب اعضاء الحركتين حتى الان. (الأستاذ / أحمد السيوفي: دارفور ومؤامرة تقسيم السودان: دراسة ميدانية ووثائقية وتاريخية )

    ان اللجوء الى رمى اللوم على كافة الشياطين العالمية مخز ومعيب ومدها الى المواطنين الذين يحملون افكارا مخالفة بدعاوى التجسس، الطابور الخامس وغيرها من الصفات لايليق وعلامة العجز. هناك قول دارج " الكلاب تهوهو والجمل ماشى" . ان الامم القوية حول العالم تحل مشاكلها وتنجز فروضها الوطنية فى اجواء الحرية والشفافية والتعددية والعدالة، وتحتمى يشعبها من اى مؤمرات حقيقية او مزعومة. حتى تختفى اسرائيل وامريكا وكافة من نحملهم المؤامرات سنكون معها فى كوكب واحد وحتى نقوى فى جو معافى وحرية وزراعة وصناعة وليس الهمبتة، فعلينا ان اطلقنا قولا ان نقدم دلائلة او لنصمت فهذا خير.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de