من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أبوبكر

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 09:03 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة د.منصور خالد
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-13-2003, 05:57 PM

WadalBalad
<aWadalBalad
تاريخ التسجيل: 12-20-2002
مجموع المشاركات: 737

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب (Re: WadalBalad)

    يتواصل منصور خالد

    التدخل الخارجي
    في السنوات العشر الأخيرة أطنب بعض المعلقين في الحديث عن تدويل المشكل السوداني، وعن التوغل الإسرائيلى في شئون السودان. إلى هذه المزاعم لجأ الكاتب أيضاً ليبرر دعواه للانفصال. قال إننا "أمام خيارين، فأما أن تستمر الحرب كما استمرت لما يقرب من نصف قرن من الزمان بكل ما يعنيه ذلك من تطورات سلبية محتملة في ظل التعاطف الدولي والإقليمي الذي يجده قرنق والتدخل الإسرائيلي المكشوف للإحاطة بمصر والسودان من خلال دعم قرنق وتمكينه من تنفيذ مخططاته والمخطط الأمريكى الذي يسعى إلى إعادة رسم خريطة المنطقة وإحكام الطوق حول عنق السودان. أقول ذلك وأنا اقرأ عن مخطط أمريكي لتغيير هيكل الحكم في السودان لمصلحة سيناريو جون قرنق حول السودان الجديد.... أو أن نقدم على الخيار المتبقي لنا وهو خيار الانفصال". ولو كانت كلمة "لنا" تشير إلى أصحاب التوجه السياسي الذي يمثله الكاتب لما جادلناه، لأن كل خطط السلام الراهنة تتجه إلى إنهاء الهيمنة الراهنة التي ظل يستنهجها النظام. أما الزعم أن أهل الشمال جميعاً يشاركون الكاتب الرأي، فزعم صاعق زاعق. أهل شمال السودان، فيما نقدر، لا يتمنون من الله شيئاً غير إنهاء الهيمنة السياسية القائمة والعود بالسودان إلى نظام أكثر رحابة. نظام يستريح للتباين الفكري عوضاً عن الاحتكار الآحادى للحقيقة، ويحترم المساواة السياسية بدلاً من التراتبية الرأسية، ويقبل انطلاق الأصوات المتكافئة لا الركون للصوت الواحد الرتيب، ويعترف بالهويات الثقافية المنفتحة على الزمان والمكان، لا الانكفاء على هوية واحدة مغلقة ترتكز على ماضٍ وهمي، أو على الأقل تخيلي.
    وعلى أي، فافتراضات الكاتب حول التدخل الأجنبي في الشأن السوداني افتراضات واهية لا تدعمها حجة بينة، ولا يسندها دليل متين. ما هي هذه الافتراضات؟ أن هناك تدخلاً دولياً وإقليمياً "لمصلحة قرنق"، وان هناك دعماً إسرائيلياً "مكشوفاً" له، وأن هناك مخططاً أمريكياً لتغيير هيكل الحكم في السودان لسيناريو السودان الجديد. هذه الافتراضات تعرقل الأمر على الباحث، وتشوش أفكار المتلقي، ولو عَدَّى عنها صاحبها لكان خيرُ ُ عُقبا. مثل هذه الدعاوى لا يمكن أن تصدر من رجل يعيش مع الناس في الأرض، أو يأبه للواقع الذي يحيط به. ففي البدء نقول أن التعاطف الدولي، منذ بدايات النظام، لم يكن مقصوراً على الحركة، بل شمل مجمل المعارضة السودانية، وليس أدل على ذلك من قرارات لجنة حقوق الإنسان ضد انتهاكات تلك الحقوق، خاصة بعد ان جعلت اللجنة مراقبين ومقررين لها في الخرطوم، مازالوا يتوافدون عليها حتى اليوم. جُلَ هَم هؤلاء كان معاناة الصحافة والمحامين في الخرطوم، والنازحين إلى الخرطوم، والأكاديميين والطَلاب في جامعاتها، دعك عما لحق بالمعارضين السياسيين وناشطي حقوق الإنسان. نقول هذا حتى لا يصور البعض اهتمام العالم بالسودان بأنه اهتمام لا يهدف إلا لحماية مشروع الجنوب "العنصري".
    الذي تعنيه انتهاكات حقوق الإنسان بهذه الدرجة، لابد أن تعنيه بدرجة أكبر مآسي الحرب والجهاد والميليشيات القبلية التي استنفرت إلى ساحات الجهاد فسارت إليه بالموريات قدحاً والمغيرات صبحاً. نحن لسنا هنا بصدد صدقية الاتهامات التي وجهت للنظام، فلنا في هذا دين، وله دين. كل ما نريد قوله هو أن في تصوير الاهتمام الدولي بحرب السودان كانحياز لمصلحة فريق واحد إجحاف بالحقيقة. أما التدخل الإسرائيلي فأمره عجب، ولن يفيد كثيراً أن ننفيه، خاصة أمام تلبث بعض الجهات على تزوير الوثائق بصورة تفتقد الحد الأدنى من المهارة لإثبات تلك الفرية. ما نؤكد عليه هو أنه، إن صحت التهمة، وكان لدي مطلقيها من الأدلة ما يؤكدها، يصبح من الغريب أن يتساعى النظام منذ أغسطس 1989 لاستئلاف الحركة "العميلة"، بل إشراكها في الحكم. فعملاء إسرائيل ينبذون ويكشفون ويحاربون، بدلاً عن استدراجهم إلى سدة الحكم في الخرطوم، قلب العروبة النابض.
    نجئ من بعد إلى المخططات والسيناريوهات الأمريكية، وهنا تصل المغالطة للنفس والتمركز في الذات أعلى درجاتها. الأحادية الأمريكية أصبحت اليوم حقيقية مسلمة لا ينكرها إلا جرئ على الحق. رضينا أم أبينا تلك هي الحقيقة، والسودان مثل بلاد الله الأخرى ليس بمنجاة من أن يكون لأمريكا، باستراتيجيتها الكونية لا العالمية فقط، يد في حل مشكله، بل إعادة تشكيله إن عجز أهله عن حزم أمرهم. فهو ليس أشد منعة من بريطانيا العظمى التي استنجدت بكلنتون لحل المشكل الايرلندي (اتفاقيات الجمعة الحزينة). وليس بأكثر حرصاً على ثوابته من منظمة التحرير الفلسطينية التي ارتضت لحل مشكلها المزمن الاستعانة بجورج بوش الأب وجيمس بيكر (مفاوضات مدريد) وبجورج تينيت مدير المخابرات المركزية وسيطاً لتنفيذ أجرات السلام والأمن، وهي تعلم علم اليقين أمر المساندة المكشوفة للإدارة الأمريكية لدولة إسرائيل. وليس حكامه أكثر ثورية من قيادات فيرليمو الماركسية (موزمبيق) التي لم تجد خيراً من دكتور تشستر كروكر، مساعد وزير الخارجية الأمريكي في عهد ريقان للتوسط بينها وبين معارضيها في وقت كان فيه للاتحاد السوفيتي سلطان. كما أن أغلب متصدري الأمور فيه لا يقلون حماقة عن صرب يغوسلافيا أو أهل البوسنة والهرسك. فلو أفلح هؤلاء في معالجة أزماتهم بأنفسهم في بلغراد وموستار، لما اضطروا صاغرين لقبول الحلول في دايتون، أوهايو. هذا هو الواقع البائس في عالم اليوم: ندينه، نشجبه، نمتعض منه، "نلعن دينه"، ولكنه يفرض نفسه علينا، كما فرضها على غيرنا. ولعل الكاتب يدرك هذه الحقيقة أكثر من غيره.
    فعندما أعلن الرئيس بوش أن العالم ينقسم إلى معسكرين : معنا أو ضدنا، اختار حكام الخرطوم أن يكونوا مع دول "المع" لا مع "دول الضد" كما يقول اخوتنا في الكويت. ألم نقل أن تزيد الكاتب لا يصدر إلا ممن لا يعيشون معنا في الكوكب الأرضي، ولا يأبهون للواقع الذي يحيط بهم. أمريكا لم تحشد قواتها، كما تفعل الآن في الخليج، لتفرض وضعاً على السودان. وأمريكا لم َتدعُ إلى الإطاحة بالنظام (كما كان يقول ويتمنى التجمع)، وإنما اعترفت به وبمكان التيار السياسي الذي يمثله في ظل نظام سياسي مفتوح يصل الحاكم فيه إلى دست الحكم عبر صندوق الانتخابات، وفي انتخابات حرة ذات شفافية تحت إشراف محايد. فأى شمال ذلك الذي يرفض هذا السيناريو؟ نلمس في حديث الكاتب تخليطاً قاد إليه الظن أن أهل الشمال جميعاً تواقون إلى الإبقاء على نهج الحكم القائم، وهيمنته المطلقة على الحيز العام. وللحكم المطلق منطقه الخاص، يكاد أهله يظنون أنهم والأمة سواء. لهذا لم يبالغ من قال أن الذي يريده الكاتب هو إنهاء الحرب في الجنوب حتى وإن كان الطريق إلى ذلك هو فصل ذلك الإقليم، لكيما يتمكن النظام تمكيناً مطلقاً أو شبه مطلق في الشمال. وإن صح هذا، نخال أن النظام، وقد خاب سعيه لإلباس السودان كله رداءً نظرياً حاكه على عينه، يريد الآن تفصيل السودان نفسه على مقاس ذلك الرداء.
    لن نغلق هذا الباب قبل تناول نقطتين اخرتين وردتا في المقال: الأولى تتعلق برئيسي دولتين جارتين، والثانية تتعلق بمصر. قال الكاتب أن الحرب اللعينة "عطلت مسيرتنا وجعلتنا محلاً للسخرية والتندر والاستخفاف حتى من الصغار مثل افورقي وموسيفيني اللذين ما كان ينبغي أن يتطاولا حتى على أضعف ولاياتنا". ولا ندري ما الذي يعينه تعبير "صغار" في وصف رجلين قادا ثورتين شعبيتين لتحرير بلديهما تكللتا بالنصر. نعرف جيداً أن للنظام مآخذه على إرتريا، ولكنا نعرف بنفس القدر أن إرتريا كانت هي وأثيوبيا أكثر الدول التصاقاً بالنظام، ودفاعاً عنه عند نشأته. وفي العلاقات بين الدول تصدق كثيراً الحكمة الذائعة : "أحبب صديقك هوناً ما عسى أن يكون عدوك يوماً ما، وابغض عدوك هوناً ما عسى أن يكون صديقك يوماً ما". لسنا هنا لنلقي على الكاتب أو غيره درساً في الدبلوماسية، وإنما نقول أن تدخل الدولتين في الشأن السوداني جاء بطلب من النظام. فموسيفيني هو أول رئيس استنجدت به حكومة السودان للقاء قرنق (اللقاء مع علي الحاج في عنتبي)، كما هو أول رئيس أفلح في ترتيب لقاء بينه وبين البشير. واسياس هو أول رئيس جمع بين البشير والميرغني في عاصمة بلاده اسمرا. وكلاهما، (كعضوين في منظمة الإيقاد) لم يتوغل في أمر السودان إلا بعد طلب الرئيس السوداني في اجتماع قمة الإيقاد بأديس أبابا في سبتمبر 1993. فلماذا هذه الغلظة في التوصيف ؟
    أما حول مصر فقد كان للكاتب رأي قادح حول موقفها من السودان، رغم قوله: "أنا من أكثر المؤيدين لوحدة شمال السودان مع مصر". كما ناشد أهل مصر "أن يعملوا على أن يختار أبناء الشمال الوحدة مع مصر بدلاً من العمل على أن يجتمع الشمال والجنوب في دولة واحدة". في مطاوي هذه العبارة رأيان، رأي يدعو مصر للعمل على وحدة شمال السودان معها، ورأي يحثها على دفع أهل الشمال للتخلي عن جنوب بلادهم. ولا يختلف الرأي الأول عما ذهب إليه قرنق صاحب الدعوة للوحدة من نمولي إلى الإسكندرية. ولا يتوقعن أحد أن ينكر ذلك الرأي، أو يستنكره رجل مثلنا صاغ مع إسماعيل فهمي واسامة الباز وإبراهيم منعم منصور مشروع التكامل بين البلدين، أول جهد ممنهج أكسب الوحدة بين البلدين بعداً وظيفياً، وخرج بها من التعبيرات الهلامية حول العلاقات الأزلية. كما أن أهل الشمال ليسوا في حاجة إلى تذكرة بأهمية مصر لهم وأهميتهم لمصر. فإن كان السودانيون ـ على المستوى السياسي ـ قد صوتوا للاستقلال في عام 1956، إلا أنهم ظلوا ـ خاصة في العقد الأخير من الزمان ـ يصوتون بأقدامهم للوحدة. مصر كانت هي الملاذ الأول لهم، بل ولأبناء الجنوب الذين ضاقت بهم بلادهم بما وسعت. ولعل الكاتب لا يعرف أن عدد الطلاب الجنوبيين في جمهورية مصر يفوق اليوم بكثير عدد الطلاب الشماليين فيها.
    أما الرأي الثاني (حث مصر على تشجيع الانفصال) فرأي غريب، حتى وان اتفق مع الأطروحة المركزية للكاتب. مصدر الغرابة فيه هو إغفاله لكل التطورات السياسية التي طرأت على الساحة السياسية في الثلاثين عاماً الأخيرة. في هذه الأعوام الثلاثين بادرت مصر بإنشاء مجموعة الاندوقو (باللغة السواحلية تعني الاخوه) التي تضم إلى جانب مصر والسودان عدداً من دول حوض النيل (ابتدع الفكرة الدكتور بطرس غالي)، وسعت للانضمام إلى منظمة الكومسيا لدول شرق وجنوب أفريقيا، وتعمل الآن لإنشاء مجموعة دول حوض النيل (Nile community). ففي عالم يتجه إلى الوحدات الكبرى، لا تعبر الدعوة إلى التشرذم إلا عن غيبوبة كاملة بما يدور في العالم، وعجبي ممن يؤثر العيناء على العوراء.
    الذي يعنينا في حديث الكاتب عن مصر بقدر أكبر، قوله أن القاهرة "لم تسهر يوماً أو تصاب بالحمى طوال الحرب المتطاولة والمدمرة التي ضربت السودان، وعطلت مسيرته، وقتلت خيرة بنيه، وإنما ظلت تفتح ذراعيها وقلبها لقرنق حتى الآن والى الغد". نقول لعله من مصلحة السودان أن تفعل مصر هذا لما بعد الغد. مرة أخرى نواجه الذاكرة المثقوبة، فمصر هي أول دولة تبنت النظام بصورة أفزعت معارضيه، ومنهم من هو ذو صلة واشجة معها. ذهب رئيسها إلى باريس للاحتفال بالذكرى المائتين للثورة الفرنسية وكانت رسالته للرئيس بوش الذي التقاه هناك أن نظام الخرطوم الجديد نظام وطني غير أيديولوجي، وهو جدير بالتأييد. تلك الإيماءة هي التي حالت دون إدانة الإدارة الأمريكية لنظام الخرطوم وفقاً للقانون الذي يطالبها بإدانة الانقلابات العسكرية ضد الأنظمة الديمقراطية المنتخبة شعبياً. اتصل الرئيس المصري أيضاً بالدول العربية ذات النفوذ والشأن لكيلا تستبق الأحداث، في وقت كانت كل الدلائل تشير فيه إلى أن نظام الحكم الجديد في السودان نظام ذو منحى أيديولوجي، وصاحب اجندة سياسية عابرة للدول والقارات. ما الذي جازى به النظام الرئيس مبارك؟ الخروق النافذة في الذاكرة المثقوبة لم تبق في الحافظة شيئاً مما حدث في أديس أبابا في يونيو 1995. لا نريد أن ننكأ الجراح، ولكن نقول أنه رغم تلك الكارثة الدهيماء رفضت مصر، وهي تلعق جراحها، إصدار مجلس الأمن لقرار يوقف طيران الخطوط الجوية السودانية، ويفرض عقوبات اقتصادية على السودان، ويحظر تصدير السلاح إليه. ما أظلم الإنسان.
    أما استقبال مصر لقرنق، وحرصها على التواصل معه فهو واحد من أهم نجاحات الدبلوماسية المصرية. ولعل الكاتب كان يريد منها أن تفعل ما فعله محمد نجيب وصلاح سالم عندما اقتصرا الحديث حول مستقبل السودان على الأحزاب الشمالية، بما في ذلك التقرير بشأن مستقبل الجنوب نفسه، والضمانات التي يجب أن توفر له لكيما يبقى السودان موحداً. ذلك خطأ دفع الشمال، كما دفعت مصر ثمنه. لا يرتابنا شك في أن الذي يغضب الكاتب في تواصل مصر مع قرنق هو أولاً اعتراف مصر به كرقم في المعادلة السودانية لا يستهين به إلا المغالطون، وثانياً تحييد مثل هذا الاعتراف للحملة التي يقودها النظام، كما قادها غيره من قبل، لإظهار الرجل كخصم مَريد للعرب والعروبة.
    مزايدات ماشاكوس
    دعاوي الكاتب في هذا المقام تؤكد كل المزاعم التي أفضينا بها في الفقرات السابقة. يقول الكاتب أن قرنق يريد "أن يحصل على حكم الجنوب بكامله مع المشاركة في حكم الشمال بنسبة 40% من مجلس الوزراء والأجهزة التشريعية والقضاء والمحكمة الدستورية والخدمة المدنية، خصوصـاً الوظـائف القـيادية والوسيطة والتمثيل الدبلوماسي... علاوة على ذلك أن تكون رئاسة الجمهورية دورية، أو في المقابل أن يمنح قرنق منصب نائب الرئيس بسلطات مماثلة لسلطة الرئيس". هذا خلط للأمور بلا حذق.
    أولاً : اتفاق ماشاكوس ليس اتفاقاً بين حليفين يستردف أحدهما الآخر، بل هو تراض بين خصمين متحاربين آثرا الجنوح للسلم ويسعيان لاستكشاف أرضيه مشتركة للتعاون فيما بينهما في فترة انتقالية محدودة تحكمها ضوابط معينة تحت إشراف دولي. فالحركة ليست حزباً متوالياً مثل تلك الأحزاب التي رضيت بما هو دون، منها ما انسلخ عن حزبه الأم، ومنها ما استنسخ منه كالنعجة دوللي. فلغة ماشاكوس هي لغـة اقتسام (sharing) السلطـة، وليست لغـة الاستيعاب (assimilation) أو المشاركـة (participation ) فيها. فان كان هناك من لا يدرك معاني الكلمات في السياسة فما عليه إلا أن يستنجد بالمعاجم، أو يسأل العارفين. وإن كان يعرف ويتجاهل فلا يلومن إلا نفسه.
    ثانياً: يتحدث بروتوكول ماشاكوس عن كيانات ثلاثة: كيان جنوبي، وكيان شمالي، وكيان اتحادي، ولكل واحد من الكيانيين الإقليميين الحق في إدارة نفسه بنفسه. فقرنق لا يستأثر بالجنوب ويريد أيضاً أن يحكم الشمال، وإنما يطالب بحق أهله في الكيان الاتحادي الذي ينتظم السودان شمالاً وجنوباً. أجدر الناس بادراك هذا المطلب هم الذين ألحفوا في الحديث في ماشاكوس عن ضرورة تأكيد وحدة السودان في الاتفاق. وعندما تتحدث الحركة عن المشاركة في المركز وتحدد نسباً لهذه المشاركة، لا تطلق الأحكام على عواهنها وإنما تخضعها لمعطيـات موضوعيـة مثـل عـدد السكـان، وضـرورة الانحيـاز القصـدى (affirmative action) للذين عانوا من ظلم تاريخي. ولعل أبلغ تعبير عن هذا الظلم ما أورده فيلب كوت جوب من أسئلة للكاتب (ألوان 23/1/2003) كم هم عدد الجنوبيين الذين أصبحوا وكلاء للوزارات أو مديرين للمؤسسات أو الهيئات الاتحادية في هذا العهد السعيد، وما سبقته من عهود. لو توفرت حسن النية لما لجأ البعض للسخرية من ذلك المطلب الموضوعي، بل ذهبوا للتدقيق في صحة المعايير التي ابتنى عليها الآخر مطالبه.
    ثالثاً: عند ما يستنكر الكاتب على الحركة مطالبتها بهذه النسب ويرى في ذلك إجحافاً بحق الشمال يغيب عن ذاكرته أمر هام: كم هم عدد الشماليين من غير أنصار الجبهة في مواقع وكلاء الوزارات، ورؤساء الهيئات العامة، ودور القضاء العالي، بل كم هي نسبة الجبهويين بالقياس إلى غير الجبهويين في المراقي العليا والوسيطة في هذه الأجهزة ؟ وهل تتفق تلك النسبة مع الحجم الحقيقي للجبهة في شمال السودان؟ الكاتب، بدعواه هذه، يفتح أمام وجهه عشاً للدبابير.
    رابعاً: الحديث عن ضرورة الإجماع في مؤسسة الرئاسة لا يمكن أن يكون المراد منه الانتقاص من الرئيس الحالي، وإلا فلتوقفت الحركة عند طرحها الأول حول تناوب مسئولية الرئاسة، ولما قبلت أن يكون هناك رئيس ونائب أول له تختاره الحركة. في هذه الحالة يصبح الإجماع ضرورياً فى القضايا الأساسية، خاصة تلك التي تمس نص الاتفاق وروحه، إن خلصت النوايا. هذه الضمانة لن يرفضها إلا من احتسب الحركة نعجة مستنسخة تضاف إلى نعاج أخرى. عبر عن هؤلاء في مفاوضات ماشاكوس من قال عن هذا الموقف التنازلي للحركة ليس هناك تمييز بين نواب الرئيس فجميع نواب الرئيس متساوون. وعندما سئل عمن هو الذي يحل محل الرئيس، إذن، أن لحق به مكروه يعطله عن العمل، أجاب: "رئيس البرلمان". هل يمكن أن يكون قائل هذا جاداً في البحث عن سلام شجعان؟ وكأن صاحب الرد كان يقرأ نصاً من الدستور الفرنسي لا الدستور الذي تحكم به بلاده، والذي تقضي المادة 42 منه بتولي النائب الأول رئاسة الدولة في حالة تغيب الرئيس جزئياً أو كلياً. هذا ما نعنيه بعدم توفر حسن النية، خاصة وبروتوكول ماشاكوس ينص على أن المواطنة وحدها، لا الدين أو العرق، هي معيار الاختيار للوظائف العامة بما في ذلك وظيفة الرئيس. ذلك موقف يعود بناء إلى 1968 عندما سأل الأب فيليب عباس غبوش الدكتور الترابي: "هل يجيز الدستور الإسلامى لغير المسلم أن يكون رئيساً؟ فرد الشيخ، بعد تلكؤ وبعد أن أصر غبوش على الإجابة بلا أو نعم: "لا يجيز". (محضر الجمعية التاسيسية، عام 1968 ص 16. فرغم المادة من 21 دستور 1995، ورغم النص على المواطنة في بروتوكول ماشاكوس مازالت عقول البعض مشدودة إلى عام 1968، بل إلى 15 ديسمبر 1955 حين ظن آباء الاستقلال أن العهود ما وضعت إلا لتخرق. ولا ريب في أن الذين يستذكرون هذا التاريخ، لن يستكينوا للغة: "وسننظر بعين الاعتبار إلى مطلب "اخواننا" الجنوبيين". الذين لم يبرحوا (مفهومياً ووجدانياً) عامي 1955 و 1968 لا يدعون مجالاً لغير الظن أنهم يحسبون أهل السودان صنفين: صنف ولد وعلى ظهره سرج، وصنف وضع الله على قدميه همازاً يحرك به الآخر متى امتطى صهوته. وإمعاناً في الجهل بطيبعة المفاوضات الدائرة، أو تجاهل روحها ونصوصها، ذهب الكاتب واضراب له للمقاربة بين مؤسسة الرئاسة في أمريكا وتلك التي تتحدث عنها ماشاكوس. أمريكا يحكمها دستور ارتضاه أهلها في حين مازال طرفا النزاع في ماشاكوس يتحاورون حول الدستور الذي يحتكمون إليه. أقرب إلى واقع حالنا الاتفاقيات التي أنهت الصراع في دولة البوسنة والهرسك والتي تقضي أن تكون قرارات المجلس الرئاسي لجمهوريتي البوسنة والهرسك وإقليم اسبرسكا بالإجماع. وإن كان السودان قد توحد في عام 1821 على يد التركي محمد علي، فقد توحد البوسنة والهرسك على يد أجداد محمد علي في عام 1462، وكان ذلك الإقليم خلال القرنين السابع والثامن عشر هو الحصن المنيع لحماية الدولة الإسلامية من الهابسبرج (النمسا).
    خامساً: من المكابرة والمغالطة بمكان القول أن قرنق "فوق كل ذلك" يريد أن تحكم العاصمة القومية بالقوانين العلمانية. فأن كانت الخرطوم تقع في الشمال، إلا أنها هي أيضاً عاصمة السودان الموحد الذي سيحكمه دستور محايد في أمر الأديان. لهذا السبب ليس في الدعوة إلى عدم إخضاعها للقوانين الدينية تزيد، وإنما هي نتيجة منطقية للاعتراف بحياد الدستور الاتحادي في قضية الأديان، هذا إن كانت بغيتنا حقاً هي الاتحاد. كما أن الزج بتعبير "علمانية" فيه تخليط لا معنى له، فالقاهرة رغم مآذنها التي تنيف على الألف، وعمان التي يحكمها ملك ينسب إلى رسول الله، والرباط التي يجلس على سدة العرش فيها ملك يلقب بأمير المؤمنين، لا تحكمها قوانين دينية، كما ليست هي عواصم علمانية. المغالطة الأكبر هي أن هذه العاصمة حتى سبتمبر 1983 لم تكن تخضع لمثل هذه القوانين، وهكذا ظلت إلى سبتمبر 1983، وما أدراك ما سبتمبر. وحتى في عام 1978 عند ما قام الدكتور الترابي بمراجعة القوانين السودانية لكيما تتوافق مع الشريعة، كان الشيخ حكيماً عندما استثنى من تحريم الشرب غير المسلمين والبعثات الأجنبية، وأوصى بالتدرج في تحريمه في أقاليم الشمال الأخرى. من حق الكاتب، بلا شك، أن يتمنى بقاء هذه القوانين، ولكن ليس من حقه القول أنه يعبر بهذا عن رأي أهل الشمال الذين كان لهم رأي آخر في هذه القوانين، وفي كل العهود التي كان يدير أمرهم فيها حكام اختاروهم بطوع إرادتهم.
    أمر مؤسف أن تختصر "الشريعة" كلها في تحريم الشرب، ولكن يتبدى لنا أن هذا هو الرمز الوحيد الذي بقى من الثوابت، وسُيعرى نزعه أهل الثوابت تعرية كاملة. هذه ليست هي مشكلة أهل الشمال، أو أهل الجنوب. من المؤسف أيضاً أن لا يدرك أهل الثوابت أن السلام وحقن الدماء غاية أسمى من كل الرموز. ففي السيرة تخلى الرسول صلي الله عليه وسلم عن صفته الرسولية ليحقن الدماء في صلح الحديبية. أملى الرسول على علي ابن أبي طالب أن يكتب في خطاب الصلح مع مشركي قريش "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى سهيل بن عمر"، فأعترض سهيل قائلاً: "اكتب باسمك اللهم، ثم اذكر اسمك واسم أبيك، فلو كنا نعلم انك رسول الله لما حاربناك". ولما استل علي سيفه ليُلجِم به سهيل، قال له الرسول "امحها يا علي". قال علي "والله لامحوتها أبداً". قال النبي: "أرني مكانها"، ثم كتب "باسمك اللهم، من محمد بـن عبد الله إلـى سهيل بن عمر". فأين هو نزع الرسول عن نفسه قميصاً ألبسه الله في سبيل حقن الدماء، من الترخص في تطبيق قوانين صاغها البشر، حتى وان ردوها إلى الله تعالي. في ذلك العهد صالح النبي مشركي قريش على وضع الحـرب عن الناس عشـر سنـوات لا تكـون فيها بين الناس عيبة مكفوفـة (عداوة وبغضاء) ولا إغلال (خيانة). وأباح فيه لمن أحب أن يدخل في عهد رسول الله دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش دخل فيه.
    هذه القوانين، على أية حال، ليست ليس صوارم. فالفقهاء الذين فزع لهم من فزع لتحليل الربا لتمويل خزان مروي اعتماداً على القاعدة التي تقول: "الضرورات تبيح المحظورات"، قادرون على أن يجدوا لهم ولنا مخرج صدق من الورطة التي أوقعوا فيها السودان. فوقف الحرب أشد ضرورة من بناء السدود، إذ ما قيمة السدود التي تقام على بحار تجري فيها الدماء.
    أطروحات الكاتب، وما أثارته من ردود فعل أمر صحي، ومن مصلحة السودان أن يشتعل النقاش حولها، طالما التزم الجدل الموضوعية، واستند على الحقائق، ونأى عن الغوغائية. النقاش الدائر يعني، أيضاً، أننا أمام أزمتين خانقتين. الأزمة الأولى هي أزمة كل شمالي لم يدرك بعد أن الذي يجمع بين أهل هذا الوطن الشاسع هو المواطنة، لا العرق، ولا الدين، ولا النسب. والاعتراف بالمواطنة لا يتم بإيراد نص في الدستور يثبتها، هي مع النص سياسة وتدبير وسلوك. المواطنة فكرة تنطلق من قاعدة معرفية ثابته، وتحكمها قواعد راسخة، وتتداعى منها نتائج. وكما عبر عنها أرسطو في السياسة، هي أداة للتمييز بين الرعايا في دولة الحاكم المستبد، والمواطنين في الدولة التي يعامل أهلها كبشر لهم حقوق وعليهم واجبات، تماماً كما على الحاكم واجبات وله حقوق. وان كان النظام الحاكم قد انتهى، بآخره، إلى تبني فكرة المواطنة (دستور 1995) فهذا أمر يحمد له. وإن أكدها في بروتوكول ماشاكوس فهذا أمر حسن. سيحمد له أيضاً ويستحسن الوعي بتبعات تبني فكرة المواطنة في السياسات والبرامج. هذه التبعات تعنى أن على الذين استأثروا بكل شيء في الماضي، أن يتنازلوا عن أشياء في الحاضر. ومالم ندرك في الشمال أن هذه التبعات هي فاتورة حان أوان سدادها، سنظل نسرى في نفق بلا نهاية، ونسبح في بركة بلا ماء. الأزمة الثانية هي أزمة النظام، أو بالحرى أزمة بعض أهله الذين اشتدت شهوتهم للسلطان، فعقدوا العزم على أن يحققوا عبر التفاوض مالم يمكن تحقيقه بالحرب. هذا محال، وروم المحال كمضغ الماء. بين المستنكرين لماشاكوس أيضاً من لا يرى في سلامها إلا رضى بالدنية في دينهم. الخيار أمام هؤلاء هو إستمرار الحرب التي قد تفضى إلى انتحار سياسي، أو التعجيل بالانفصال وهو انتحار معنوي. أو ليس بين القوم من يستذكر وصاة الرسول لمعاذ: "هل إلى خير من هذا السبيل". الإنقاذ اليوم في حاجة إلى إنقاذ، وطوق النجاة الوحيد أمامها هو ماشاكوس، وما الدعوة لفصل الجنوب إلا محاولة لتأجيل يوم الحساب.
    منصور خالد
                  

العنوان الكاتب Date
من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أبوبكر WadalBalad04-13-03, 05:21 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:26 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:28 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:30 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:32 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:35 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:39 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:42 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:45 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:50 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:54 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:57 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 06:00 PM
    Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب nadus200004-13-03, 09:00 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب singawi04-13-03, 09:55 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب ABUHUSSEIN04-13-03, 10:30 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de