السودان وخذلان الصفوة، منصور خالد يحاكم بناة الاستقلال، المحجوب في الميزان

نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب الزميل فتحي البحيري فى رحمه الله
وداعاً فتحي البحيري
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-28-2024, 03:25 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة د.منصور خالد
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-06-2003, 08:52 AM

البعيو

تاريخ التسجيل: 12-07-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان وخذلان الصفوة، منصور خالد يحاكم بناة الاستقلال، المحجوب في المي (Re: البعيو)


    تكملة
    ماذا عن موقف المحجوب رجل الدولة والمحامي من الديمقراطية ذاتها؟ لنبدأ من التعريفات، الديمقراطية كما نفهمها ليست فقط المسائل الاجرائية والمؤسسات والتحالفات السياسية.
    انها قبل كل شيء ثقافة واخلاق يتعين ان ينفذا الى جسم السياسة، كله، اذا كان له ان يعيش وان يكون له معنى، لكن اذا كان الجسم السياسي واهناً، وذابلاً كما وصفه المحجوب، فلا امل ان تضرب الثقافة جذورها فيه، ان ذلك يظل في احسن الاحوال وهماً نبيلاً، ولتجسيد رأينا، نود الاشارة الى ثلاث نقاط في الطريق خلال الفترة التي كان فيها المحجوب على قمة السلطة: طرد نواب منتخبين من البرلمان، صياغة ما يسمى بدستور اسلامي للسودان متعدد الاديان عام 1968 ثم الموقف من الحرب في جنوب السودان، ونحن اذ ننفذ الى هذا التاريخ لانسعى الى القاء اللوم بقدر ما نرغب في اعداد المنبر لتحليل موضوعي وعقلاني للموضوعين الرئيسين لهذا المؤتمر، ونزعم ان هناك فرقاً بين فساد الصورة الراهنة وممارسات الماضي، ان تقديم مشروع الدستور الاسلامي وتبنيه من الحزبين الحاكمين «الامة والاتحادي الديمقراطي» بالتواطؤ مع الاخوان المسلمين وحظر الحزب الشيوعي السوداني وطرد اعضائه المنتخبين، كانت عمليات مترابطة. ان النجاحات التي حققها اليسار في صفوف النقابات ودوائر الخريجين اغضبت الاخوان المسلمين فسعوا لايقاف تلك الموجة. وكان الدين طبعا هو الاداة الجاهزة للاستخدام ضد اليسار، وكذلك لكبح وتحديد مسار الاحزاب التقليدية القائمة على اساس ديني، كانت تلك الديمقراطية بلا شك مجالا للسياسة من كل لون وجنس مما لم يكن يخطر على بال سياسيي الستينيات الذين وجدوا انفسهم يدورون في فلك الاخوان المسلمين، ولعل المفارقة تكمن في ان هذا القصور كان من النخبة السياسية وليس من الزعماء الطائفين. ذلك ان الحزب الشيوعي السوداني قبل وبعد الاستقلال عمل وتعامل بحرية مع الراعيين الدينيين للسياسة السودانية الشمالية: علي الميرغني وعبدالرحمن المهدي، لم تمنعهما الزعامة الدينية من التعاون سياسيا، واجتماعيا مع الشيوعيين الذين نبذوا فيما بعد بتهمة الالحاد، لهذا لم يكن الدين هو المشكلة.
    كذلك هزمت أول محاولة لفرض الدستور الاسلامي في عام 1958 بالاغلبية تقريباً بما في ذلك محمد احمد الشنقيطي القاضي الشرعي السابق واحد ألمع رجالات حزب الامة.
    كان الحزب الاكثر تأييداً لاسلمة الدستور هو الحزب الوطني الاتحادي، وهو حزب اتخذ من الدعوة الى عدم قدسية السياسة مبعثا لافتخاره وبهذه الدعوة برز الحزب الوطني الاتحادي كحزب لكل من هب ودب، ان دوافع المحجوب وجيله من السياسيين والعلمانيين بمن فيهم اعضاء الحزب الوطني الاتحادي في الخمسينيات لم تكن دينية. كانت تحركها عوامل سياسية على الدوام ولهذا كانت خاملة، وفي ظل ديمقراطية تعددية، يصبح قبول الآخر ليس واجبا فقط بل يستحق التقدير لكن حكومة المحجوب لم تكتف باحباط ارادة الجماهير فقط بطرد اعضاء منتخبين من البرلمان، بل قوضت حكم القانون برفضها الالتزام بحكم المحكمة العليا الذي اعتبر قرار الطرد غير دستوري وباطل، وقد اسف المحجوب لتلك المغامرة السياسية، لكن المغامرة محت صورة المحجوب الديمقراطي عن اذهان معجبيه بل وضعت كلمة الديمقراطية ذاتها في موقف مخجل، غير ان هذا كله لا يعني ان الحزب الشيوعي لم يسهم في تقويض الديمقراطية من خلال الشعور بعدم المسئولية الاجتماعية الذي دب في اوساط النقابات المهنية التي كان يسيطر عليها مما جعل الاحزاب المنتخبة الاخرى تنفش ريشها.
    مسودة الدستور الاسلامي
    في الجانب الاخر اصبح تقديم مسودة الدستور الاسلامي لحظة حاسمة في تاريخ السودان السياسي المضطرب فخلال عقدين من الزمن ونتيجة للاحداث التي اطلقها من عقالها محاولات خاطئة لاسلمة السياسة، اصبح السودان بيتا منعزلاً مكشوفاً ومرة اخرى وبنظر ثاقب عاد المحجوب ليعتذر عن المغامرة، قال يومها: اعتقد انها معركة لا طائل منها، وليس هناك داع للخلاف حول ما اذا كان الدستور اسلاميا او علمانيا، فالسودانيون يمكن ان يكون لهم دستورهم دون تسميته بالاسلامي «الديمقراطية صفحة 181» بكل تأكيد كان ذلك ممكناً.
    يقودنا هذا الى مشكلة الجنوب، وموقف المحجوب هنا، كان متوقعا اذا وضعنا في الاعتبار نظرة الرعاية التي تبناها جيله ازاء الجنوب.
    لكن سياساته من ناحية اخرى خيبت توقعات الكثيرين ممن علقوا آمالهم عليه كديمقراطي ليبرالي.
    ويتذكر الجنوبيون فترة جلوس المحجوب على كرسي الحكم كواحدة من اسوأ الفترات في تاريخ السودان الحديث. هذا بالطبع قبل ظهور نظام الجبهة القومية الاسلامية الذي اعد سفراً خاصاً في كيفية ابادة الجنوب، ان شهادة المحجوب في هذا الموضوع مذهلة في صراحتها اذ يقول «لقد قطعنا شوطاً طويلاً في طريق حل مشكلة الجنوب، دون الاقرار بأن النقطة الاساسية هي القضاء على التمرد المسلح.. وقد عالجت ذلك بأن امرت بتسليح الجيش وزعماء القبائل».
    وبادعائه ان التمرد المسلح هو النقطة الاساسية للنزاع في الجنوب، ابتعد المحجوب كثيرا عن النقطة الاساسية، فهي لم تكن التمرد المسلح بل الاسباب التي جعلت الناس يتجهون الى حمل السلاح في المقام الاول، ايمكن ان يكون فشل مثقفي الامس في رؤية تلك الاسباب لانهم لا يعرفون اكثر من غيرهم، ام انهم لا يحملون مشاعر ارق تجاه الجنوبيين؟ لا حاجة بنا للمغامرة بالاجابة عن هذا السؤال في وقت يدرك الجميع بداهة ان الثقافة التي شكلت رؤية المحجوب وجيله تجاه الجنوب كان الرعاية، ان لم تكن الشعور بالتفوق اما فيما جاء بشأن تسليح زعماء القبائل لمقاتلة اهلهم وذويهم فتلك كلمة كبرت.
    يمضي المحجوب في شهادته: ان مشكلة جنوب السودان كانت دائما في عقل ووجدان الشمال وقد خلقت نوعا من سوء الفهم حتى في اذهان اصدقاء السودان: كيف يفهم الشمال اذن المشكلة التي لم يفهمها الآخرون؟ بدأ المحجوب في شهادته غير مدرك لما يريده الجنوبيون، يؤكد ذلك قوله «الجنوبيون لا يتحدثون بصوت واحد، فقد تم التعبير عن اراء مختلفة بشأن مستقبل الجنوب السياسي» لكن عبارة المحجوب صمتت عن الكثير مما يجب ان يقال، فالشمال ايضا لم يتحدث بصوت واحد في مشكلة الجنوب، وعلى سبيل المثال اصدر الحزب الجمهوري بياناً مهما في ديسمبر 1955، قبل اعلان الاستقلال بعنوان «نحو دستور ديمقراطي فيدرالي» وفيما يخص الجنوب لو كانت هناك كلمة واحدة ترددت بانتظام في مسار الحركة السياسية في جنوب السودان هي كلمة الفيدرالية لكن الفيدرالية كانت مستبعدة دائما ومنسية، لهذا فالسؤال عما يريده الجنوب كان بسيطاً ويحق لنا ان نسأل: اين كان ذلك القرار السياسي كامناً في «عقل ووجدان» الطبقة الشمالية الحاكمة؟ روى المحجوب في هذا الصدد حكاية مشوقة عندما ربط القصة بزيارته لجنوب السودان كرئيس للوزراء عام 1996.
    خلال تلك الزيارة اجتمع رئيس الوزراء بالزعماء الجنوبيين وطرح عليهم الاسئلة التالية: هل تريدون الفيدرالية؟ وهل تعرفون معنى الفيدرالية؟ سخرية الاقدار ان يكون السير جيمس روبرتسون قد طرح سؤالا مماثلا على زعماء القبائل الشمالية في اواخر الاربعينيات حين سألهم: هل تريدون حكما ذاتيا؟ وهل تعرفون معنى الحكم الذاتي؟ يبدو ان روبرتسون كما المحجوب في الجنوب لم يكن يثق في الانتلجنسيا الشمالية المستعدة لتولي اعباء الحكم الذاتي، وفي الحالتين كشفت العبارات عن سياسة «فرق تسد» في اوضح تجلياتها لكن التاريخ يكشف ان الطبقة السياسية السودانية الشمالية كانت تعي جيداً منذ 15 ديسمبر 1955 ما يريده الجنوب، ففي ذلك التاريخ تحدث الجنوب بصوت واحد عندما اعلن الجنوبيون دعمهم لاعلان استقلال السودان مشروطا باعتراف الاحزاب الشمالية بوضع فيدرالي للجنوب حزب واحد فقط، كما سبق ان اشرنا تعامل مع الشأن الجنوبي بجدية وتفهم اهمية اللامركزية في بلد شاسع كالسودان، ومنذ ذلك التاريخ اصبحت المناداة بالفيدرالية تتردد في مسيرة الجنوب السياسية، وحتما هناك اتجاهات مختلفة في الجنوب في العديد من المسائل إلا في مسألة الفيدرالية ولهذا فإن السياسيين الشماليين الذين نأوا بأنفسهم عن التزامهم في 15 ديسمبر 1955 يتحملون المسئولية عن تصعيد النزاع، ويجب ألا يلوموا إلا انفسهم.
    مقاييس ضيقة
    الملاحظات السابقة كانت مقدمة ضرورية لموضوع هذا المؤتمر الاول: السودان وتحديات ما قبل النزاع، السودان اليوم في حالة اضطراب وتحديداً بسبب فكرة الشمال التي ارادت ان تكون ضبابية بشأن ما يريده الجنوب، وازداد الوضع سوءاً فيما بعد بسياسات الجبهة القومية الاسلامية التي جعلت من الدين «متغيراً» في معادلة معقدة سلفا، وبذلك قضت كل ما تبقى من اللحمة الاجتماعية التي حافظت على تماسك البلاد وفوق ذلك اسهمت المقاييس الضيقة والاستئصالية التي استخدمتها النخبة السودانية في تعريف الهوية السودانية في اضعاف الجهود المخلصة من اجل التلاحم الوطني، وكانت النتيجة ان اصبح الطرفان ينظران الى بعضهما عبر لجة عرقية ـ ثقافية شديدة العمق.
    يضم السودان شعوبا مختلفة وحدتها الجغرافيا وعمليات تفاعل تاريخي. الدولة ليست امة، وتعرف قواميس العلوم السياسية الدولة بأنها كيان سياسي ـ شرعي يتألف من مجموعات اجتماعية تستوطن ارضا محدودة وتتقاسم مؤسسات سياسية مشتركة، وتديرها حكومة فعالة. اما الامة فهي مجموعات اجتماعية تتقاسم عادات مشتركة وثقافة مشتركة واحساساً بالتجانس ورغبة في البقاء معاً، لكن منذ ظهور دولة السودان الحديثة عام 1956 كانت اليد العليا للقوة الطاردة اكثر من القوة الداعية الى التلاحم والتماسك.
    وتعثر ميلاد الامة، وحتى لو نظرنا الى عملية بناء الامة من خلال منظور العروبة ـ الاسلامية ـ سنلاحظ ان المفهوم الاستئصالي للامة قد بتر عملية التبادل التي مكنت الثقافات المختلفة في الماضي من الانصهار في بعضها البعض، والتي ادت الى التلاحم الثقافي والسياسي في الشمال ذاته.
    ربما كانت لدى الطبقة السياسية في الشمال رغبة مخلصة في انتهاج سياسة نشطة للتعريب والاسلمة لضمان الانسجام الثقافي ـ الاجتماعي، لكن الانسجام ليس مرادفاً للسيطرة، ولا مفر من القول ان انعدام الثقة الذي نتج عن تصنيف الشمال المسبق لحقوق الجنوبيين السياسية والذي حرص عليه الشماليون بحزم اكد مفهوم السيطرة.
    ولهذا اصبحت الثقافة العربية ـ الاسلامية مشاركة في الجرم بالتضامن ولهذا اصبح تحول شعوب السودان المتباينة الى امة متلاحمة دوراً خضع لتفاعل وتبادل السلطة بين القوى الاجتماعية ـ الاقتصادية في الشمال والجنوب، وجاءت الحركة الشعبية لتحرير السودان فادخلت السياسة الشمالية تجاه الجنوب في امتحان عسير، فقد كان السياسيون الجنوبيون في الماضي يستجيبون لاجندة شمالية تجاه الجنوب، اما اليوم فهناك حركة بحث جنوبية لها اجندتها ليس فقط للجنوب ولكن لكل البلاد، ان محاولات بعض الشماليين لتقزيم الحركة الشعبية لتحرير السودان في اطار العرقية او الحديث عن اجندة خفية، تستدعي فقط موقفا دفاعيا ضد هذه النظرة التي تناقض كل الحقائق، لقد ولت الايام التي كان فيها فرد أو طبقة حاكمة او نخبة تجلس في الخرطوم وتقرر ما تعطي وما تأخذ. الله وحده هو الوهاب المانع.
    اجندتان فقط
    لذا، فالجواب عن السؤال: ماذا سيحدث بعد انتهاء الاعتداءات ووقف الحرب الاهلية؟ نميل الى القول ان ذلك سيتحدد بالطريقة التي ستنتهي بها الحرب، فعلى الطاولة اليوم اجندتان فقط: اجندة الجبهة القومية الاسلامية واجندة التحالف الوطني الديمقراطي.
    الاولى تستند الى حق الهي مزعوم، وباسم الدين قتلت الجبهة القومية الاسلامية الناس وعذبتهم ومارست ضدهم كل انواع العنف، كما دمرت البلاد، ونتج عن تلك الممارسات الخراب والتشريد في عمق الارض وساوس الخوف والاضطراب، لقد فشل النموذج فشلاً ذريعاً، مفهوماً وسياسة وادارة، ولا نظن ان هناك قاضياً يستحق الكرسي الذي يجلس عليه سيمنح هذا النموذج الفاشل فرصة اخرى للاستفادة من الشك في اي زي تنكر هذا النموذج.
    في الجانب الاخر نموذج التحالف الوطني الديمقراطي هو نتاج اخطاء خطيرة في الماضي، وقد حاولت احزاب التحالف الوطني الديمقراطي في مقررات اسمرة ان تصلح مجتمعة ما دمرته متفرقة، وتناولت تلك المقررات بشجاعة مواضيع كان الحديث عنها محرماً: الفيدرالية، الكونفدراية، الانفصال، حق تقرير المصير، الدين والسياسة، عدم المساعدة الاقتصادية، لكن الاهم هو انها المرة الاولى في تاريخ السودان الحديث التي يجتمع فيها جميع السياسيين من الشمال والجنوب باستثناء الجبهة القومية الاسلامية، تحت سقف واحد ويتم الاتفاق على برامج حد ادنى للعمل من اجل وقف الحرب وتهيئة المسرح لميلاد سودان جديد، ليس ذلك بالانجاز الهزيل.
    ولكي تصبح الاصلاحات الكبيرة التي تضمنتها مقررات اسمرة ممكنة، لابد للنخبة السودانية من اصلاح نفسها سيكولوجيا، لم يعد مقبولا التمويه والخداع في قضايا اقتسام السلطة والثروة ولا مركزية الحكم وحقوق الانسان كقيمة مضافة للديمقراطية والاتفاق على ان الهوية السودانية ككيان وطني يضم الجميع وليست تلك التي تحددها نظرة غير موضوعية تتلاعب بالتاريخ ان الثقة الضرورية لبناء الوحدة الوطنية لا يمكن ان تتوفر إلا بالتخلي نهائيا عن ممارسات الماضي، لقد ظل ضحية لشعارات نخبوية خاصة منذ اكتوبر 1964 وظل محروما من السياسات العملية التي تخلق شعوراً بالهدف المشترك وبالانتماء، ان الارادة الشعبية الحرة هي الاساس للوحدة الوطنية الحقيقية، والوحدة الاقليمية يصبح لها معنى فقط عندما تكون لجميع سكان الاقليم حصة في تلك الوحدة.
    والقضاء على التهميش الاقتصادي «لكل الاقاليم وليس الجنوب وحده» لن يتم إلا بتغيير جذري لنموذج التطور الاقتصادي السائد ولن تتلاشى سلبيات العرقية إلا بانتقام السودانيين جميعا من التصرفات الضيقة الى اخرى اكثر اتساعا، وسيصبح التطور الاقتصادي والاجتماعي حرث في البحر اذا لم يعالج فجوتين تزدادان اتساعا هما: فجوة الجنس وفجوة الجيل، ان النساء اللواتي يشكلن 80% من الانتاج في المناطق الريفية في السودان لا يمكن ان يبقين على ذات الحال التي هن فيها دائما مهمشات المهمشين، اما الشباب الذين يمثلون نصف السكان تقريبا 14.215 مليوناً من 28.098 مليوناً فلديهم قائمة طويلة من المشاكل والهموم يتعين ان يتوفر لها الحل في المسار السياسي السوداني لكن الاحزاب السياسية، فيما يبدو لاتزال عند النقطة التي تركها المحجوب فيها عام 1969، لم تتحرك قيد انملة.
    التحدي الرئيسي
    ان التحدي الرئيسي امام النخبة اليوم هو قدرتها على الارتفاع الى مستوى الاحداث والاستجابة الى الحقائق الراهنة محلياً وعالمياً، فمن الواضح او يجب ان يكون واضحا للنخبة ان مهمة الجبهة القومية الاسلامية لا تحمل شيئاً سوى الخراب، فحكمه الفيدرالي ليس سوى تقويض للسلطة الادارية والمالية باشراف مراقبين من الجبهة القومية الاسلامية.
    ومشروعه لاقتسام السلطة هو الاكثر خداعاً بين المشاريع المؤسفة التي شهدناها في تاريخ تهميش قطاعات واسعة من المجتمع السوداني، وخطته للسلام تقوم على تدمير الجنوب وتحويله الى انقاض ونظامه مخادع ايضا لانه يهدف الى ان يحقق على مائدة المفاوضات ما عجز عن تحقيقه بالقوة، اما عن فرصة التنمية بعد انتاج البترول، فقد تحولت الى كارثة من التطهير العرقي حيث استخدمت كل عائدات البترول في دعم المجهود الحربي، ان سودانا بعد الحرب يقوم على نموذج الجبهة القومية الاسلامية سيعمق فقط الازمة الراهنة ان كانت ثمة هوة اكثر عمقا يمكن ان يصل السودان اليها. في الجانب الآخر، اتفاقية اسمرة ليست محفورة في الصخر ولا هي منزلة من السماء لحل مشاكل السودان القومية.
    وهي بعد شيء من الضبط ـ نصاً وروحاً ـ تمثل خارطة توضح الطريق نحو سلام عادل ووحدة طوعية وتنمية مستدامة في السودان ولذلك فإن اي محاولة للابتعاد عن الحد الادنى الذي تم الاتفاق عليه في اسمرة ستقوض العملية برمتها، وهذا ينطبق تحديدا على الوحدة الطوعية التي تم التعبير عنها من خلال ممارسة حق تقرير المصير، وفصل الدين عن الدولة والديمقراطية في ظل تعددية حزبية حقيقية واحترام حقوق الانسان المنصوص عنها في المواثيق الدولية والاعراف الاقليمية.
    ويتلازم ما سبق مع احترام الاديان لكل المعتقدات ذات الاحكام الرصينة بما في ذلك المصداقية والشفافية وانتقال السلطة سلميا لكن كما شاهدنا في التجارب السابقة، حتى المعتقدات المبدئية للديمقراطية قد تم سحقها.
    وفي الديمقراطية أيضاً ليس هناك دور للمؤسسة العسكرية في العمل السياسي والقضاء وحده هو الذي يقوم بحراسة الدستور وفض النزاعات السياسية. وفي هذا الصدد كانت للمحجوب كلمة: «لم تتح للديمقراطية في السودان الفرصة المناسبة». لا أحد يخالف المحجوب في هذا القول. لكن رغم اتفاقنا مع المحجوب على إدانة التدخل العسكري في السياسة، إلا أنني أسلم بأن نجومنا السياسيين هم الذين تولوا حضانة وحصانة العسكريين للتدخل في السياسة. ومن السطحية وتبسيط الامور ان نعزو تدخل العسكريين في السياسة الى نزغة التدخل في صفوف الضباط. ثمة أربعة أسباب لذلك التدخل، ثلاثة منها سودانية صرفة. الأول، هو ان الجيش أصبح بعد دخول الحرب في الجنوب كطرف لحل النزاع السياسي مشاركاً في اللعبة السياسية، بل ان الجنود أصبحوا يحملون العبء الأكبر في تلك اللعبة. ثانياً، فتح تقويض الأنظمة الحزبية للعملية الديمقراطية الباب واسعاً أمام مبادرات لا حصر لها. والقضية الماثلة هي قرار حل الحزب الشيوعي وعدم التزام الحكومة بإعلان المحكمة العليا عدم دستورية ذلك القرار. ولا يهم إذا كان الحزب الشيوعي أو رئيس القضاء الذي شارك في حكومة نميري عام 1969 هم الذين خططوا أو كانوا مجرد أدوات في ذلك الانقلاب بعد وقوعه. ولعله فوق تصور البشر ان يتوقع المرء من احدهما ان يذرف الدمع في جنازة ديمقراطية سعت للقضاء على الأول وإلى إلغاء الثاني. ثالثاً، ودعنا لا نستخف بالحقائق، وكل الحكومات العسكرية بما فيها الحكومة الحالية، ما كانت ستبقى لولا تحريض أو تآمر أو قبول وإذعان النخبة، ومنها المتحدث الذي يقف أمامكم. لذلك هناك الكثير مما يجب علينا الاعتذار عنه لشعبنا. وفي واقع الأمر، إذا كان الجيل السابق قد سعى الى الوصول للسلطة على زبد موجة طائفية، فإن جيلنا، بمن فيه اليساريون والعروبيون والقوى الحديثة، اعتقد ان باستطاعته الحكم بالوكالة نيابة عن العسكريين. حقاً، أن تجربة الديمقراطية في السودان، فاقت كل التجارب السياسية المعروفة، لكن حكم الذين أتوا على ظهور الخيل كانت تجربة عشناها وعشنا من بعدها الندم.
    سبب غريب
    إضافة الى هذه الأسباب الثلاثة، هناك سبب غريب: الثقافة العسكرية التي عمت المنطقة العربية من بغداد إلى الجزائر. خاصة في الستينيات وبداية السبعينيات، عندما كان عدم الانتماء للناصرية أو البعثية أو القومية العربية ضرباً من سوء السلوك. وكل هذه الأنظمة جاءت بأوامر رجال على ظهور الخيل. وكان من السخرية أن حكام السودان حتى في ظل الديمقراطية متعددة الأحزاب قد رحبوا بهذه الأنظمة العسكرية العربية، دون تفكير ولو للحظة واحدة في أن الديمقراطية لا تتجزأ. إنها واحدة وواحدة فقط. لكن لحسن الحظ وفي أعقاب سلسلة الكوارث التي ألحقتها تلك الأنظمة بشعوبها وبعد انهيار الشمولية من موسكو الى لواندا أصبحنا جميعاً أكثر عقلاً وحكمة إذ جاء الحق.
    لهذا، أصبح ضرورياً أن تلتزم النخبة بالتخلي عن الثقافة العسكرية. فليس هناك أبلغ مما قاله الرئيس النيجيري الجنرال أولويسجون أوباسانجو: «إن أحسن الحكومات العسكرية لا يمكن أن تكون أفضل من أسواء حكومة مدنية». وأوباسانجو يعرف أكثر. فعندما اضطر لقبول السلطة ضد رغبته بعد اغتيال الجنرال مورتالا محمد، كان أول ما فعله الاعداد لانتخابات عامة أتت برئيس مدني الى سدة الحكم هو الرئيس شيكو شيجاري. كذلك عندما ألغى الرئيس النيجيري ثاني اباشا نتائج الانتخابات التي فاز فيه ابيولا، تحدى اوباسانجو، وكان مواطناً عادياً ذلك القرار وقاد حملة دولية ضد قرار اباشا انتهت بالحكم عليه بالسجن 14 عاماً. لكن النيجيري الغبي، اباشا، لم يعش طويلاً ليرى اوباسانجو وقد خلصه الشعب النيجيري ومنحه السلطة في انتخابات حرة نزيهة. لكن الالتزام بدحر ثقافة العنف لن يساوي شيئاً إذا لم يصحبه تطهير لجسم السياسة من الفيروس الذي شل الديمقراطية ان الجيوش لا يمكن ابقاؤها في الثكنات، كما تمنى المحجوب، بمحض النصيحة الوطنية وحدها.
    دولة الجنوب المستقلة
    وأخيراً وليس آخراً، نأتي الى السؤال الخاص بإمكانية قيام سودان جنوبي مستقل. ودون أن أعزو السؤال إلى دوافع خفية لدى منظمة المؤتمر، أود أن أقول انه سؤال ملتبس. ومن الواضح أن منظمي المؤتمر بطرحهم السؤال يحاولون على ما يبدو الحصول على اجابات ظلت تشغل الدوائر السياسية الشمالية وكأن السائلين ينتظرون الوحي من الجنوب. لقد عانى الجنوب من معاناة تفوق الوصف في ظل السودان الموحد. ومن الصعب ان يقنع أحد الجنوبيين باحتمال المزيد من المعاناة في ظل حكومة لجنوب مستقل. ومن الصعب أكثر أن يتخيل المرء طاغية جنوبياً، مهما كان حقيراً وخسيساً، أن يقود حملة ارهابية ضد شعبه تشمل التطهير العرقي والقصف الجوي للأهداف المدنية كما فعل نظام الجبهة القومية الإسلامية. وقبل هذا وذاك لا نستطيع بعد الآن السؤال عن جاهزية الجنوب اقتصادياً. فالحقيقة هي أن الجنوب إذ كان له أن يشق طريقه بنفطه وأرضه الخصبة ومصادر مياهه، عندها يكون الشمال هو الأقرب الى طرح السؤال عن الجاهزية الاقتصادية.
    لم ينعم الجنوب بالكثير من السلام منذ عام 1956. ولعل الذين عاشوا طويلاً حياة المنفى والتشرد يدركون قيمة الأمن والاستقرار. لقد لعبت حركة الماوماو في كينيا في استقرار البلاد في شرق أفريقيا المضطرب بعد الاستقلال. وينطبق المثال الكيني على الخوف من اندلاع النزاعات القبلية. ومثل كينيا هناك قبيلتان كبريان متناحرتان، ليس لإحداهما الأغلبية المطلقة. ويوفر هذا الوضع الديموغرافي توازناً صحياً للاستقرار. ويمكن القول أيضاً انه خلال فترة الحكومة الاقليمية العليا، كان رئيساً واحداً من بين خمسة رؤساء اقليميين، هو ابيل الير ينتمي الى قبيلة الدينكا المتهمة بالهيمنة. حدث ذلك رغم الأغلبية التي كانت تتمتع بها قبيلة الدينكا في المجلس الإقليمي.
    وحقق الجنوب أيضاً رصيداً جيداً من الكادر الفني المؤهل منذ عام 1947. وهو في هذا المجال كان متفوقاً على الكثير من الدول الأفريقية إبان استقلالها. وتطلعنا تجربة السبعينيات على انه برغم القيود الكثيرة، تمكنت الحكومة الاقليمية من تحقيق تقدم ملحوظ على صعيد تطوير البنية التحتية للجنوب اجتماعياً ومادياً.
    وهناك شواهد على أن الكثير كان يمكن أن يتحقق من خلال الحكومة الاقليمية لولا العراقيل التي وضعتها سياسات الحكومة المركزية في الخرطوم. أضف الى ذلك ان الجنوب لم يعد جزيرة معزولة في «القارة السوداء» ومثل أي دولة، سيكون للمجتمع الدولي رأيه في الكيفية التي تتعامل بها الحكومة هناك في قضايا مثل حقوق الانسان والديمقراطية والتنمية الاقتصادية. ثم أن ظروف الحرب الباردة التي كانت الحكومات خلالها تستطيع أن تدمر شعبها، مدفوعة بهذه القوة العظمى أو تلك، قد ولت. كما أن النخبة الجنوبية لها الكثير في المنطقة وما ورائها. كما أن لها الطموحات والأحلام. وسيجلبون ثروة عبر خبرات متعددة من أنحاء كثيرة في العالم أجبرتهم حكومة الخرطوم على الرحيل إليها. إن الشماليين الذين يطرحون السؤال الملتبس يجب ألا يركنوا إلى أن الجنوب ليس قابلاً لإقامة دولة وان ذلك يمثل كابحاً صالحاً للقومية الجنوبية. إن عليهم بدلاً ن ذلك أن يفكروا بجدية في الكيفية التي تحفظ الوطن متحداً لخير أبنائه وبناته في الشمال والجنوب. لقد قادت النخبة السودانية البلاد الى حافة التمزق والتفكك، تماماً على العكس من سياسة السيطرة التي كان يراد بها الهيمنة على الحياة السياسية في كل البلاد. كما وضعت تلك السياسة البالية، وجود السودان ذاته أمام خطر لم يسبق له مثيل. وأصبحت البلاد اليوم وجهاً لوجه مع الحقائق التي ظلت تحاول تحاشيها دون جدوى خلال 40 عاماً. وتبقى حقيقة واحدة هي أن الوحدة عبر التنوع ممكنة وهي حجر الزاوية في الوحدة الوطنية. أما النموذج القديم، فهو ليس فقط حافزاً لانفصال الجنوب بل ربما هو الحافز لتمزيق الوطن كله.

    بقلم :د. منصور خالد
                  

العنوان الكاتب Date
السودان وخذلان الصفوة، منصور خالد يحاكم بناة الاستقلال، المحجوب في الميزان البعيو09-06-03, 08:49 AM
  Re: السودان وخذلان الصفوة، منصور خالد يحاكم بناة الاستقلال، المحجوب في المي البعيو09-06-03, 08:52 AM
    Re: السودان وخذلان الصفوة، منصور خالد يحاكم بناة الاستقلال، المحجوب في المي hamid hajer09-06-03, 02:46 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de