هذ الغازي العتباني الذي اعرفه... رجل حقاني أبدا لا يكذب!

Quote: (عندما يهلك السلطان على يد بطانته) جيهان عبد الرحمن جحاف تولى الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك وهو ما زال شاباً يافعاً فامتلكه الخجل والحزن, فعرف بالتقشف والانزواء وتساءل المحيطون به من بني أمية هل هو قادر على مواجهة ويلات الحكم؟ كان الكل مدركين أن المُلْك وأبهة الحكم والسلطان لها تأثير على النفوس لا تقوى على الصمود أمامها, ولا تقدر إلا الانصياع لها, ولن يقوى هذا الشاب النحيل إلا الانجراف نحو أبهة الحكم والتمتع بقوة الملك, لكنهم تفاجئوا في اليوم الأول حين دخل إلى قاعة الحكم ووقف مدهوشاً متأملاً العرش الذهبي اللون الذي يتصدر القاعة ثم قال: أنا لست كسرى ولا قيصر, أحضروا لي مقعد ابن عمي عمر بن عبد العزيز. هنا قال أخوه هشام بن عبد الملك في امتعاض: ولكنك لن تؤثر في قلوب العامة والأعراب إلا بهذا العرش, لكن الشاب الخليفة هز رأسه نافياً ومصراً على رفضه, تبادل رجال بني أمية نظرات قلقة, هاهو عمر بن عبد العزيز وشبحه يلتبس ليقبض على زمام الحكم مرة أخرى, ويوشك أن يقبض على رقابهم كأن لم يكن كافياً ما فعله الخليفة عمر بن عبد العزيز عند ما صادر أموالهم وأملاكهم وجعلهم يسيرون على الحق كأنه سيف جارح. تلك الليلة لم ينم رجال بني أمية من بطانة السلطان, فلا بد أن يضعوا حلاً للمصيبة التي حلت بهم على الأقل ليغنموا تلك الغنائم التي تنهال عليهم من فتوحات البلدان التي لا تتوقف لكنهم كانوا موقنين أن الخليفة سيتغير فالحكم له طباع أخرى. مرت الأيام وإذا بالخليفة الشاب يستيقظ باكراً فيصلي بالناس ويطوف بالأسواق والسجون ويرسل بالرسائل الممتلئة بالوعيد والتهديد لولاة الأمصار في الكف عن قتل العلويين وأشراف مكة والمدينة, وفتََح بابه للمظاليم وطلاب الحوائج. “لا بد من البحث عن نقطة ضعف له” هذا ما قاله أحد بطانته عندما اجتمعوا سوياً يرأسهم هشام بن عبد الملك وهم يناقشون الكارثة التي حلت بهم بولاية يزيد بن عبد الملك, ولا بد من البحث عن نقطة ضعف له تنفذ منها كل الرغبات والأهواء لعله يلين. حينها أرسلوا إلى والي المدينة عبد الرحمن بن الضحاك ليجيء الأخير يجر خلفه جمعاً من العصاة الخارجين على السلطان, كان قد سجنهم وعذبهم وجعلهم يقرون بكل ما فعلوه وما لم يفعلوه وساقهم هدية للخليفة بمناسبة عهده الجديد لكن يزيد تأمل وجوههم ورغم التعذيب والتشويه استطاع التعرف على عدد منهم كانوا من أشراف مكة والمدينة. قال: من هؤلاء؟ قال ابن الضحاك متفاخراً أنهم أعداءك العلويين والمتمردين والمطالبين بالخلافة وقد نصرنا الله عليهم. واسترسل قائلاً: كلما قتل إمام ولد بطن الغيب إماماً وكلما قمعنا فتنة اشتعلت فتنة حتى عندما حاصرهم الحجاج بن يوسف داخل الكعبة ورماهم بالمنجنيق لم تنته هذه الفتن. فقال الخليفة: فكوا قيودهم وأجلسوهم أمامنا لنراهم ويرونا ونكلمهم ويكلمونا قال ابن الضحاك مندهشاً ولكن هذا سيجرئ أعداءنا علينا فأشار له الخليفة أن ينصرف من مجلسه على الفور وسرعان ما عزله. لقد كان حلم الخليفة أن يعم السلام, ويكفوا عن مطاردة العلويين, وتعذيب الأحياء, ونبش قبور الموتى. أدرك الجميع لحظتها أن هذا الخليفة لن يتغير و اجتمع رجال بني أمية من بطانة السلطان ثانية لكن هذه المرة كانت معهم سُعدة زوجة الخليفة وابنة عمه كانت خائفة من تزمت الخليفة وتقشفه فليس هذا الوضع الذي طالما حلمت به لتكون فيه زوجة للخليفة الذي يملك حدود الصين إلى هضاب الأندلس. في هذا الاجتماع أصر عليها بنو عمومتها أن تعرف نقطة ضعف للخليفة بما ذا يحلم؟ وماذا يريد من الدنيا؟ فهزت رأسها مؤكدة, فدخلت عليه في الصباح وهي تحمل كل مخاوف أهلها من بني أمية على كاهلها وقالت وهي تنظر إليه: يا أمير المؤمنين يا زوجي وابن عمي هل بقي لك من الدنيا شي لتتمناه؟ فتأملها بشرود, وتذكر تلك الجارية الحسناء ناعمة الصوت والصورة حبابة العلاية عندما سمعها يوماً في بيوت أحد تجار الحجاز وهي تغني وأصر على امتلاكها لكن مالكها رفض أن يبيعها إلا بأربعة آلاف دينار ومن فرط شغفه بها دفع كل ما معه آنذاك لمصروف السفر من مال, وأرسل كتاباً إلى الخليفة أخيه سليمان بن عبد الملك يطلب منه المدد من المال, لكن الخليفة هاله أن يدفع هذا المبلغ في جارية واحدة, فأرسل إليه مهدداً “أيها الأحمق الأرعن تخلص منها فوراً وإلا قمت بالحجر عليك وتنحيتك من ولاية العهد ” فتركها مرغماً, وظل هذا الأمر يحز في نفسه حتى بعد أن امتلك هذا العالم الواسع فقد ظلت حبابة حلمه الذي عجز عن تحقيقه. فقال بعدها بصوت حالم: حبابة. كان الأمر بالنسبة لسعدة أكبر من غيرة زوجة, كان الأمر يخص كل بني أخيه ومصالحهم المهددة, فأرسلت إلى بطانة الخليفة أن إئتوا بحبابة وابحثوا عنها في مصر. فانطلقت الرسل إلى والي مصر تحمل الأموال, وتفرض عليه أوامر بطانة السلطان الجد في البحث عن التاجر الذي اشترى حبابة وشراءها منه بأي ثمن, وفعلا تمت الصفقة, وحملت الجارية إلى قصر الخليفة في الشام, وبعد أن حمموها وعطروها وألبسوها أجمل الثياب أدخلوها إلى الخليفة, وسعدة وبعض رجال بني أمية منتظرون في الباب ليسمعوا ردة فعل الخليفة عندما ينظر إلى حُبابة أمامه. لكنهم لم يسمعوا شيئاً لا عتاب ولا كلام ولا غناء فما الذي حدث لم تصبر زوجته سعدة فدخلت عليهما ووقفت مذهولة فالخليفة لم يتحرك من مكانه ولم يرفع طرفه إلى حبابة وهي واقفة في مكانها فقالت: مالك يا مولاي هذه حبابة التي ابتغيتها طويلاً. قال الخليفة في هدوء: أعلم, لكني أخاف الله. عندها أسرع بطانة الخليفة إلى الاجتماع هلعين مذعورين يتبادلون كلمات التعازي والنحيب على حالهم, سلطانهم ملكهم جبروتهم وأموالهم أصبحت في كف خليفة يخاف الله. لكن أحدهم كان أفطنهم فقال لهم: لا بأس عليكم فلقد عرفت نقطة ضعف الخليفة. أرسلوا إلى كل عالم وكل شيخ في دمشق أن اجتمعوا إلينا غداً صباحاً. في الصباح فوجئ الخليفة بمشائخ دمشق وعلمائها أربعين شيخاً اشكالهم مهيبة, ولحاهم بيضاء, يلبسون العباءات الواسعة, ويضعون على رؤوسهم عمائم ضخمة, وفي أيديهم مسابح وكتب ومصاحف. جلس مندهشاً من مجيئهم متسائلاً عن الأمر العظيم الذي جاءوا من أجله: فتقدم إمام المسجد الكبير وقال: يا مولاي جئنا من أجل خيرك وخير كل الناس أنت تأخذ نفسك بالشدة, وتبالغ في التقشف, وتحرم نفسك وأهلك من كل متع الدنيا وملذاتها, قال الخليفة الشاب: وما زال مدهوشاً ـ إنما أخاف الله وأبغي مرضاته. فبادر العالمُ الخليفةَ وفرد أمامه رقعة كبيرة مكتوباً عليها آيات كثيرة وأحاديث أكثر وهو يقول: ها قد جمعنا كل ما قيل في أحكام السلطان من فتاوى وأحاديث وكلها تجمع على شيء واحد ومؤكد أن ليس على الخلفاء والسلاطين حساب في الآخرة ولا عقاب. هتف الخليفة مستغرباً أتقول الحق؟ تقدم أكثر من شيخ أقسموا على ذلك وأمسكوا لحاهم البيضاء في تأكيد, وهزوا عمائمهم في ثقة وفتحوا كتبهم يتصايحون. وعاد الشيخ قائلاً كلنا متفقون في هذا الرأي فالسلطان الأقوم لا يعاقب ولا يحاسب, والخليفة القادر لا يعاقب, وما يتحمله في الدنيا من أعباء الحكم تكفيه وتجعله بريئاً وطاهراً أمام رب العالمين, نهض الخليفة واقفاً وهو يصرخ بأصحاب الشرطة.. دب الرعب في قلوب المشائخ. وظنوا أنهم هالكون.. وما إن دخل صاحب الشرطة لم يستطيعوا حتى النظر في وجهه خوفاً, لكن الخليفة بادره قائلاً: من الآن وصاعداً سوف تصلي أنت بالناس.