|
Re: في الذكرى (26) لرحيل صاحب " الصراحة " الصحافي ( عبد الل (Re: عبدالله الشقليني)
|
(2)
كنتُ غريباً عليه حين التقيتهُ أول مرة عام تسعة وسبعون وتسعمائة وألف . ضاحك يتبسم ، يكبُر والدي بأربعة أعوام. جلست معه كثيراً أتنور من علمه وأتجاذب معه أطراف الحديث . في كل مرة يكتسب المرء من مُجالسته زاداً عصياً على النسيان . يربطنا دوماً بدوحة عقلانية تنظر الكون نظراً نقدياً . يصحو هو مُبكراً ويذهب للعمل حين كان يعمل في صحافة القصر في الثمانينات. تصحبه حقيبته وعصاه التي يتوكأ عليها من أثر كسرٍ قديم . يصل بيته في الرابعة أو الرابعة والنصف عصراً بعد انتظاراً لوسائل المواصلات حين تُنادي : ـ الحلفايا نفر ..
لا يُحب الوجبات المزدحمة بالصحائف . " مفروكة بالكسرة " وقليل من الخضار وجبته المُفضلة . ينام قليلاً من بعد صلاة العصر ويصحو قبل المغرب . يأتي بكتبه ومجلاته وتحت شمعدانه يجلس وبجانبه منضدته يقرأ ويُترجم من الصحافة العالمية ويُصحح اللغة بقلم الرصاص وقربه جهاز الراديو يُعدل موجات الإذاعات الإخبارية بما يتيسر متابعاً لما يحدث في الكون . يقارن المكتوب مع المقروء . ملكة التحرير لم تفارقه سنين عمره وما أحوجنا لها اليوم رغم كثرة دور النشر و ورقها الصقيل وأحبار الطباعة الإلكترونية ، والتصحيح الكمبيوتري !.
في الثانية عشر منتصف الليل يأتي موعد الانتهاء من القراءة فيذهب للنوم . لديه برنامج مساء كل جمعة وهو قراءة الذكر الحكيم مع التجويد والتفكُر مع ثلة من أهل حلفاية الملوك من الذين اكتسب صداقتهم حين استأجر منزلاًً هناك . كانت المآتم وعقود القران هي الواجبات التي يتعين عليه حضورها ، ثم من بعد زاده الذي يُحب( خير جليس في الزمان كتاب).
تُجالسه أنت وتحسب أنك أمام أبٍ رءوف و عالمِ لا يشبه أنداده . علم غزير وتواضع جمّ . عميق الغور في تناوله الموضوعات . نصيبه معارف متنوعة وفضاء أرحب وفي كل باب تجده ملماً بمظهره وتشريح أحشائه وأنابيب دمه و باللغتين العربية والإنجليزية . إن سألت عن معنى كلمة إنجليزية أو عربية ، يسألك في أي العلوم ترغب ؟. تجده حاضراً بالإجابة المفصلة دون مراجع !. علّم نفسه بنفسه . كانت المدرسة الأولية هي كل تحصيله في المدارس النظامية في العشرينات من القرن الذي مضى ، ورغم تميّزه لم يواصل التعليم النظامي إذ أن التعليم يحتاج المال وفي العشرينات كان ذلك عسيراً ! . علم نفسه العربية والإنجليزية بالمراسلة وبرز مُترجماً ، و مثّل السودان في أول مؤتمر للترجمة العربية في الكويت في أوائل السبعينات من القرن الماضي .
نعلم أن العمل الصحافي لصيق بالأحداث يراها عريانة ويستُرها باللغة . تقيم الصحافة رؤاها عن الأخبار بالتحليل وبالمقارنة بالتاريخ لرؤية المستقبل بعد ربطه بالحاضر . للأخبار بقية تأتي وخفاء يلبس الأحداث الجسام ، فالعالم مشحون بفرقعات متنوعة لقياس ردود الأفاعيل . نحن نعيش زماناً إن لم نُدقق تخدعنا الغشاوة . الصحافة وأهلها يقيمون الأسوار حول مشاعرهم كي لا تتأثر مهنيتهم بأطياف الميول . اختار الصحافي "عبد الله رجب "أقرب اللغات مُباشرة ليكون قريباً من إفهام العامة . رقيق الإحساس . لا يُحب التكلُف أو زخرف رغد العيش رغم أن ذلك كان ميسوراً عنده أيام المُستعمر . ابتنى من يعملون مستخدمين لديه من مرتبات صحيفته ( الصراحة ) بيوتاً مميزة لسكن الطبقة فوق المتوسطة ، أما هو صاحب ( الصراحة) ، فيستأجر بيتاً في بانت أو بحي البوستة بأم درمان أو الصبابي ببحري أو حلفاية الملوك أو كسلا عندما كان يعمل ضابط إعلام من بعد مصادرة حكومة عبود ( الصراحة ) ومطبعتها ، والماكينات التي استوردها صاحبها فصارت ملكاً لصحيفة ( الثورة ) التي هي صحافة الدولة آنذاك !. وتقرأ أنت أعلى صفحتها الأولى : ( احكموا علينا بأعمالنا : عبود ) !
خصصت له الدولة وهو يعمل في صحافة القصر بيتاً حكومياً وسيارة وهاتف في السبعينات من القرن الماضي . رفضها جميعاً وبقي يعول نفسه الأبية مثل أهله الغُبُش الذين أحبهم ونهج نهج حياتهم . لم يستعِد تعويضاً لبعض حقوقه من مصادرة ( الصراحة ) إلا عام أربعة وثمانون وتسعمائة وألف من بعد قضية مرفوعة تنتظر السنوات . سدد منها ديونه لدى بعض الأهل والأقرباء في " سنجة " وخص بعضها لبدء بناء منزل الأسرة في قطعة أرض استحقها وفق الخطة الإسكانية في مدينة المهندسين بأم درمان . هيكلاً كان البناء عندما سجد مُبكراً لصلاة الصبح في بيت يستأجره بحلفاية الملوك . ذهب في غيبوبة عدة أيام وغادرنا من بعد في غيبة أبدية تاركاً إرثاً في الترجمة والصحافة وعلم النفس لم يزل يحتاج يداً صبورة لتُزيح الأتربة عن تراث عُصامي نما كشجرة أصلها ثابت في أرض الغُبُش ، وأغصانها تُداعب الفئة المُستنيرة . قدم لوطنه الكثير الذي ينتظر التنقيب
*
|
|
|
|
|
|
|
|
|