جمهورية جبال النوبة 2

Quote: أبناء التماس إلى أين التماس: الموقع والجيوبولتيك التماس السودانى يمثل المناطق الواصلة (الفاصلة فى التوصيف العام المشاع) بين شمال وجنوب السودان ويمتد من حدود السودان مع الحبشه شرقاً إلى حدود السودان مع الجارة تشاد غرباً وأفريقيا الوسطى فى جنوب غرب دارفور. يعتبر التماس أمتداداً طبيعياً للشمال تجاه الجنوب فى النواحى الجغرافية، الأثنية، الأيديولوجية والأيكولوجيه (سوف نقف عند هذه الأمتدادات الأربعة: الجغرافيا، الأثنيات، الأيديولوجيا، والأيكولوجيا فى مناطق التماس)، فى المقابل التماس هو الأمتداد الطبيعى لجنوب السودان تجاه الشمال جغرافيا وأثنياً وإيكولوجياً (ليس للجنوب أمتداد إيديولجى تجاه الشمال إلا بالقدر اليسير). أضف أن التماس هو منطقة تداخل خطوط الهيمنة السياسية، للشمال والجنوب على السواء. تداخل خطوط الهيمنة السياسية تعززه تداخل الأثنيات والجغرافيا والأمتدادات البيئية الطبيعية: كالجبال والغابات والمسطحات المائية المشتركة. ففى جانب نجد أن التماس يشابه الجنوب الجغرافى بل هو أمتداد طبيعى له، وفى جانب أخر، أن التماس يشابه الشمال الجغرافى وهو أمتداد طبيعى له، أيضاً. وهنا تكمن أهمية وخطورة مناطق التماس فى أن كل الجانبين يعتبره أمتداد طبيعى وبالتالى يرى حق طبيعى فى وجوده به أو الأستفادة من موراده الطبيعية والبشرية. الأهم فى وضعية التماس تلك النظرة التى تعتبر غير واضحة فى أدبيات الحوار الدائر: أن التماس يختلف نوعاً وكيفاً عن الشمال والجنوب التأريخين (الكيانين الشمالى والجنوبى). الأختلاف الكيفى يتضح فى معالم كثيرة منها إنتماء الأنسان نفسه. ففى أغلب الأحيان يجد إنسان التماس صعوبة فى كيفية تصنيفه لنفسه إنه شمالى أو جنوبى. النوبة فى الجبال وقبائل الأنقسنا فى جنوب النيل الأزرق لا يقولون بأنتماءهم للشمال أو الجنوب، وحتى القبائل العربية مثل البقارة لا يقولون أنهم شماليون. وتندرج فى نظرة إنسان التماس لنفسه سيكولوجيته التى تتكئ إلى عوامل تأريخية وجغرافيه وتنموية. فعلى سبيل المثال، إن الناس فى جنوب كردفان، تأريخياً، لا يرون أن الدين عامل يشق المجتمع، تجد فى الأسرة الواحدة، فى بعض الأحيان، المسلم والمسيحى واللادينى وهم من صلب أب وأم واحدة، وبالتالى التداخل بين المعتقد الدينى والتقاليد المجتمعية يختلف فى التماس عن الشمال والجنوب. أما الأختلاف النوعى يظهر فى حياة التماس وعيشة إنسانه. فمن النواحى التنموية، يرى المثقف من أبناء التماس، أن مناطق التماس هى هامش تنموى – فقر وجوع وأمية طاحنة، لا وجود للمدارس أو البنى التحتية أو المراكز العلاجية إلإ من أضعف الأيمان! - كما تنعدم في التماس سبل المواصلات والأتصالات لمواطنى المنطقة. ففى فصل الخريف تنعدم أى مظاهر بوجود دولة ويتحرك المسافرون بطرق بدائية كالدواب والتراكترات أو فى أغلب الأحيان سيراً على الأقدام، كما تحاصر القرى والمناطق السكنية الأعشاب الطويلة وتغمرها الامطار الغزيرة بالمياه ويكثر الذباب والباعوض ويدخل الناس فى نواميس الباعوض منذ المغيب وتتوقف الحركة بصورة تلقائية. إنسان التماس مُهيّأ بصورة طبيعة ومتكيّف مع الفقر! فالأمطار هى أمل سكان المنطقة الوحيد فى النجاة من القحط والجوع ولا يرنون بأبصارهم تجاه الدولة لسد فجواتهم الغذائية؛ فهم يمارسون حياتهم بصورة بدائية مألوفة منذ قرون، سواء فى حالة الزراعة أو الرعى. المجاعة التى ضربت غرب السودان فى عام 1985م كشفت عن بعد سكان التماس عن الألتجاء إلى مؤسسات الدولة، فقد لجأ معظم سكان المنطقة إلى البحث عن الجذور الأرضية والرايزومات والأرز البرى كوسيلة لسد الرمق من الجوع؛ أى هناك عدم أحساس بوجود الدولة ويندرج نفس الأحساس فى النواحى الأمنية. فى عام 1989م حينما نزحت جموع غفيرة من البقارة الرعاة والمستقرين منهم تجاه الشمال فى فترة الشتاء (ليس موسم ترحال ناحية الشمال) تحت وطأة الحروب، لم يلجؤا إلى الدولة لتوفير الحماية لهم أو حتى توفير سبل النقل. غياب الدولة يأتى نتيجة بديهية لأهمال الدولة للتماس، ليس هناك بث إذاعى أو مرئى وتنعدم الصحف وأى صورة من صور الأعلام. فى فترة الحرب الأهلية كانت إذاعة الخوراج من الحبشة تغطى كل التماس، فقد ذكر نفر من جنوب دارفور أنهم كانوا يتابعون البث الأذاعى للحركة الشعبية فى فترات الظهيرة يومياً فى حين تغيب إذاعة أم درمان الوطنية. فى جنوب كردفان منذ بداية الحرب حتى عام 1989م كنت من متابعى برنامج مع القائد فى إذاعة الحركة الذى يتحدث فيه الراحل دكتور جون قرنق وبرنامج المرأة المقاتلة الذى تقدمه ربيكة جيشو كواشى. غياب الدولة سبب مباشر فى أحساس التماس أنه لا تربطه عرى وثيقة بمؤسسات دولة البحاره (لا تعنى الجلابه) فى الخرطوم. غياب دور الدولة فى رعاية حاجيات المواطن فى التماس لعب دوراً أخراً، فقد سهل مهمة محاولة تبنى الحركة الشعبية لكل أرض التماس. أيضاً، محاولة تبنى الحركة الشعبية للتماس تبنياً مظهرياً وشكلياً عديمة الجدوى، حيث تنقص المحاولة مصداقية الفعل والعمل - ليس هناك تأثير أقتصادى أو تنموى حتى بعد نيفاشا. لقد ظل الجنوب حطام أقتصادى ودمار بشرى وبيئى طيلة فترة الحرب الأهلية وكان تزايد أعداد النازحين من أماكن الحرب إلى التماس عبء مباشر فى زيادة تدهور أحواله المعيشية السيئة، أصلاً، نتيجة للحروب الدائرة فية. إذا خرجنا من واقع التماس المرير، اليوم، ونظرنا إلى تأريخية نجده أكثر إشراقاً. إن تأريخ التماس يؤكد أن ملاح الأنسان السودانى المعاصر وملاح الدولة السودانية الحديثة تعود، فى جوانب كثيرة، إلى دور التماس. فممكلة سنار (مملكة الفونج: التى حكمها ملوك الفونج والعبدلاب) يذكرها المؤرخون أنها التى شكلت بداية الدولة السودانية الحديثة. وفى مناطق التماس قامت مملكة تقلى الأسلامية التى لعبت دوراً مهماً فى نقل التأثير الثقافى الاسلامى إلى جبال النوبة ، أضف أن فى التماس نشأت مجموعات بشرية قوية ولها سمات مميّزة: كقبائل النوبة فى الجبال التى تطمح إلى تأسيس حكم ذاتى لها إن لم نقل دولة النوبة، وقبائل جهينة العربية التى أسست مملكة سنار وقد دام حكمهم حوالى ثلاثون عاماً تحت إمرة الملك عبدالله جماع، ثم ممكلة الفونج (وأصول الفونج تعود إلى الأمويون أو فى بعض المراجع إلى خليط من القبائل العربية والنيلية) التى دامت حوالى ثلاثمائة وخمسون عاماً متواصلة، ثم قبائل البقارة العربية التى سمى التماس عليها مجازاً (حزام البقارة) والتى وصلت أطماعها أن تجعل من التماس منطقة نفوذها أبان فترة الأستعمار والذى سمى المنطقة مجازاً (دولة البقارة فى تلك الفترة ) وكذلك قبائل الأنقسنا التى تعتبر ذات نفوذ واسع فى جنوبى النيل الأبيض والأزرق. أضف أن التماس هو حامى حمى الثورة المهدية فى بدايات عهدها الأول، فهجرة الأمام إلى جبل قدير فى جبال النوبة وثورة الفكى على الميراوى من جبال ميرى غرب كادقلى، وأستبسال البقارة وكنانة والكواحلة والجموعية فى معركة شيكان الشهيرة وحصار الأبيض، سقوط بارا وحصار الخرطوم وتأسيس مدينة أم درمان، كلها تؤكد حضور التماس فعلياً فى تأسيس الدولة السودانية الحديثة وتشكيل ملامحها. أضف أن الدولة المهدية أبان فترة الخليفة عبدالله التعايشى، قامت على أكتاف أبناء التماس، ممثلين فى الخليفة عبدالله التعايشى وكثير من وزراءه وجنده الذين يعتبرون من أبناء البقارة فى التماس سواء فى جنوب دارفور أو جنوب كردفان. فقد ذكر الاستاذ محمود عابدين صالح فى كتابه: الصراع على السلطة فى السودان، فى صفحة 18: (إنشغال الخليفة فى وضع أساس للدولة المركزية الموحدة الأولى فى السودان) رغم ما واجهه الخليفة من صعاب. ذلك يعنى أن التماس كان حاضراً فى مركز صراع بناء الدولة السودانية الموحدة وبتجدد هذا الصراع بصورة أقوى اليوم يحتم سمو أبناء التماس فوق المطالب الأنية للنظر إلى مستقبل الدولة السودانية فى حالتى الوحدة والأنفصال وكيف يلعب التماس حلقة الوصل والتصالح بين شقى الوطن. يشك المرء فى مقدرة التماس، اليوم، للعب دور الشقيق الأكبر Big Brother أو حتى دور الأخت الصغرى Little Sister بين شقى الوطن وذلك لأسباب تأريخية وجهوية. تأريخياً، فقد تم أفراغ التماس من رموزه ومن أدواره القيادية منذ سقوط الثورة المهدية وحتى اليوم، سواء من قبل المستعمر الذى ضرب أبناء التماس؛ لأدوارهم القيادية فى أذكاء الروح الوطنية ضد المستعمر أو نتيجة لأبناء البحر، ما يعرف بالأشراف وأخرون كمرتزقة الخديوية. أما الجانب الجهوى، فقد لعبت أطراف كثيرة فى تعزيزه، من ضمنها الحكومات المركزية والحركة الشعبية وحركات التمرد فى الأطراف وثقافة المجتمع السودانى الذى يقسم الناس إلى خيار وفقوس، كخطاب الاسلاموعربى والأفريكانية والتى يقصد بهما تقسيم التماس إلى جهويات أثنية. مشاكل التماس التنموية والسياسية تعود فى جوانب منها إلى مثقفى التماس أنفسهم قبل غيرهم. النقد الذاتى لأسباب تخلف التماس ربما يقود للصحوة المرتقبة فى ظل دولة لا يهمها إلا أستقطاب إبناء التماس لخدمة أجندتها. متعلمى أبناء التماس يهجرون التماس دون عودة إليه للاسهام فى بناءه. إن مقومات الدولة فى التماس لا تستوعب كفاءات ومهارات أبناءه الذين تسنى لهم تعليماً متقدماً. هؤلاء المثقفون يصبحون دعماً وسنداً للأنظمة الحاكمة أو الأحزاب السياسية أو يهجرون الوطن بحثاً عن أوطان بديلة فى ظل ظروف تهميش الدولة لمواطنهم فى التماس (ربما البعض يختلف مع هذه الرؤية متعللاً أن الحكومة هى التى لم توفر المناخ المناسب لبقاءهم فى التماس وبالتالى هى المسئول الأول والأخير من مشاكل التماس التنموية والسياسية). إن الأهم فى معادلة التماس هو إعادة تشكل ذهنية أبناء التماس بالثقافات البديلة. التبدل الثقافى فى فكر أبناء التماس يجعل منهم غبراء وسط ثقافات أهلهم ومواطنى مناطقهم. ليس عيباً فى التشرب بثقافات أخرى وتوسيع الأفق الثقافى. لكن ظاهرة أبناء التماس ظاهرة تستوجب الأنتباه من أبناء التماس قبل غيرهم. فإبناء التماس، فى الحركة الشعبية على سبيل المثال، تجدهم جنوبيون أكثر من الجنوبين أنفسهم، كما أن أبناء التماس فى الأحزاب السياسية ليس أحسن حالاً من رصفاءهم فى الحركة الشعبية. فشيوعى التماس ينظرون إلى التماس بأنه مناطق تخلف فكرى تجاه المرأة وعلاقات الانتاج والحداثة، لذلك ينفضون أيديهم بيضاء من دنس التخلف فى التماس ويتجهون إلى التمظهر بالدفاع الأجوف عن الطبقات المسحوقة خدمةً للأيدلوجية الشيوعية ونظريتها الطبقية فى ألام صراعنا من أجل البقاء المادى. الرساليون الجدد من أبناء التماس يرون فى الأنتماء إلى مواطنهم بعدا عن العقيدة وعصبية تم أستبدالها بأخوة الدين، فالولاء للأيديولجية أولى من الولاء للشعب. هذه الظاهرة، ظاهرة التلبس الثقافى البديل هى جزء من المأساة السياسية والتنموية فى أرض التماس، وهى عامل سلبى، ساعدت فى تحجيم دور التماس من أن يلعب دوراً رائداً فى بناء الدولة السودانية المعاصرة. الوجه الأخر للظاهره هو تسهيل بروز قيادة لا تحمل أى قدر من التعليم يؤهلها لقيادة المنطقة بفهم سياسى وفكرى متطور يتخطى الإطار الشخصى أو الأثنى فى ظل غياب القيادات الواعية. فأغلب قيادات أبناء التماس فى الحركة الشعبية، على سبيل المثال، محدودى التعليم، وفى بعض الأحيان لا يحملون أى قدر من التعليم والأقلية المتعلمة هى من القيادات الوسطية التعليم، مما يعنى أن المنطقة تخلو من القيادات الفكرية والسياسية النافذة فى جانب الحركة الشعبية. أما قيادات أبناء التماس فى جانب الشمال – سواء فى الحكومة أو الأحزاب السياسية - لقد تم أستيعابهم إيدولوجيا وثقافياً فى المؤسسات الحزبية والسياسية التى ينتمون إليها ولا يستطيعون التفكير خارج إطار الأطر التى رسمت لهم. صار أغلب مثقفى أبناء التماس مسخاً ثقافياً مشوَهاً وزائف لحقيقة تأريخ وتراث وشعوب التماس. الجغرافيا خلقت ملامح مميّزة للتماس إذا رجعنا بذاكرتنا إلى خارطة السودان الجغرافية، نجد أن أقاليم السودان الجغرافية تقطع خارطته عرضاً فى شكل تموجات، تبدأ بالاقليم الصحرواى، الأقليم الشبه صحرواى، ثم السافنا الفقيرة، السافنا الغنية، ثم الأقليم الأستوائى. يمثل حزام التماس السافنا الفقيرة فى شماله والسافنا الغنية فى بقية أراضية. تبعاً لتوزيع وإختلاف هذه الأقاليم، تختلف طبيعة وظروف الأنشطة البشرية من زراعة وتجارة ورعى، ومثالاً لذلك لقد راينا أن الجنوب الأستوائى أصبح منطقة مغلقة صعبت فيها التنمية نتيجة لأسباب تعود فى بعض منها إلى بعد الجنوب الجغرافى عن المركز وأمطاره الغزيرة، وبالتالى نجد أن الوضع الجغرافى، ضمن أسباب أخرى، خلق وحدة سياسية للجنوب السودانى؛ وعلى ذات النمط أن الظروف الجغرافية والأشكالات التنموية المرتبطة بها، أيضاً خلقت وحدة عضوية للتماس دون ثبر غورها من أبناء التماس بصورة جادة. تضم مناطق التماس السودانى مناطق النيل الأزرق وجنوب النيل الأبيض، جنوب كردفان (بما فيها منطقة أبيى الغنية بالموارد البترولية) وجنوب دارفور. تقع مناطق التماس فى المناطق التى تحدها شمالاً السافنا الفقيرة وتتدرج إلى سافنا غنية ذات أشجار شائكة وأعشاب طويلة تفوق قامة الأنسان، كما تكثر بالمنطقة المجارى المائية والأنهار الموسمية، كما يجرى خلال المنطقة النيل الأبيض والأزرق وكثير من فروعهم مثل بحرالعرب وبحرالغزال. يقع حزام التماس ما بين خطى 12 درجة شمالاً تقريباً وحدوده جنوباً هى حدود جنوب السودان فى عام 1956م. أقليم التماس حار صفيا وتهطل أمطاره بغزارة محدثة ذوابع رعدية عنيفة. من الناحية الزراعية، يعتبر الأقليم أهم موارد الزراعة المطرية فى السودان لأنتاج الغلات (الذرة، الذرة الشامى والذرة الرفيعة) والحبوب الزيتيه (السمسم، الفول، زهرة عباد الشمس) والقطن قصير التيلة ويعتبر، أيضاَ، أهم أقليم رعوى حيث تجوبه قبائل البقارة الغنية بالماشة من أقصى شماله حتى أقاصى حدوده الجنوبية مع الجنوب. الأقليم أيضا، ذو ثروات طبيعية متعددة: كالغابات، المياه، البترول (فى جنوب كردفان)، المعادن: كالكروم فى جبال الأنقسنا وغيرها. مع غنى المنطقة من الموارد الطبيعية، إلا المنطقة تمثل أهم أحزمة الفقر والجهل والأمية فى السودان. إن منطقة التماس من شرقها إلى غربها لم تشهد تعلمياً إلا فى عهد الرئيس عبود ولم تشهد أى تنمية حقيقية فى البنى التحية أو إنسان المنطقة حتى اليوم. أصبح اليوم، الفقر والجهل والأمية (سلعة!) سياسية هامة قد رأينا كيف وظفت الحركة الشعبية خطاب السودان الجديد حول مفهوم الهامش الذى يخاطب مثقفى وأبناء أحزمة الفقر والأمية. الأيكولوجيا شكّلت إنسان التماس إجتماعياً وإقتصادياً: كثير من دارسى الأثنوغرافى يربطون حياة السكان بالبيئة بفهمومها العام، أى أن الأنسان أبن بيئته. فالببيئة تتعزز فى شعور الأنسان بالذات وفى الأشعار والمدح والهاجاء والأغانى. فبيئية البادية، فى السودان على سبيل المثال، تغرس فى الأنسان صفات كثيرة كالكرم والشهامة والأقدام. ولنا فى التراث الأدبى العربى قصص مشهورة مثل قصة أبوفراس الحمدانى (إن صحة ذاكرتى)، حينما دخل القصر، فوصف الملك قائلاً: أنت كالتيس فى قرع الخطوب، فأسكنوه فى القصر هنيهة، ثم مدح الملك (وأظنه مروان أبن عبدالحكم) قائلاً: ما بين اللطافة والجوى .. إلى أخر الكلام المعسول. وفى وصف أبى نواس لنفسه فخراً: الخيل والليل والسيف والبيداء تعرفنى ... تلك هى البيئة! بجمالها وسحرها ومشاقها وصعوباتها تلعب دوراً مهماً فى تشكيل فكر الانسان وأنماط حياته وسلوكه. وقد شهدت فى عام 1998م فى مدينة سالونيكا بشمال اليونان، معرض لأحد فنانى عصور النهضة الأوروبية، الرسام العالمى: كرافاجيو. وقد تم عرض رسوم الفنان فى جزئين فى المعرض، جناح معرض كرافاجيو قبل دخول القصر وجناح معرض كرافاجيو بعد أن أحبته أبنة الملك. كان الجزء الأول، ما قبل القصر، يصّور فيه كرافاجيو الحياة كسلسلة من الألام والمعاناة بصورة مخيفة وبشكل دموى، كقلع الأسنان بآلات حديدية فى ذلك الوقت (كالكماشة)، أو تقليع الأظافر وتعذيب الانسان عن طريق شواءه على لهب النار، ويصّور طريقة الولادة فى أبشع صورها وغيرها كثير من الممارسات الحياتية التى ينعكس فيها الألم. مناظر تشرئب منها فرائص الأنسان رعباً؛ تعكس بجلاء تأثر فن كرافاجيو بقساوة البيئة وصعوبة العيش. ولكن فى نفس جناح ما قبل القصر لا توجد صورة واحدة تعبر عن فن أو روح رومانسية!. أما الجزء الثانى من المعرض ما بعد دخول القصر، يصور كرافاجيو نفسه كأمير مدلل يرتدى زى الأمراء ويضع على رأسه قبعة بها ريشة طويله تتهادى، وقد أمتلأ المعرض بالرسومات الفرايحية والأريحية التى تؤكد تأثير البيئة العميق فى نفس الرسام والفنان كرافاجيو. إذا أعتبرنا ذلك دليل على تأثير البيئة فى فترة حياة أنسان، فما بال الشعوب التى تنشأت وترعرعت فى بيئة معينة. تأكيداً أن تلك البيئة سوف تترك بصماتها فى شخصياتهم كأفراد ومجتمعات. من الجوانب المهمة فى البيئة هو الجانب الأيكلوجى. يقول علماء الايكولوجيا: (أن الأيكولوجيا هو علم يدرس الكائنات الحية وبيئاتها المحيطة بها) ويقول العلماء (من المهم فهم علاقة الكائن الحى بما حوله من محيط بيئى). ويقول عالم الايكولوجى بيغون1 و أخرون: (أن ما يجب ملاحظته عن علاقة الكائنات بيئتها أن الكائنات المختلفة لا تتوزع توزيعاً أشوائياً ، بل هناك تطابق بين تلك الكائنات والبيئات التى تعيش فيها). هذه الأقتباسات صغتها كدليل أثبات أن أنسان التماس يجب أن ينظر إليه بنظرة مختلفة من الانسان الذى يعيش فى الحزام الصحراوى مثلاً، نأخذ على سبيل المثال أن الحيوانات التى تربى فى الحزام الصحراوى وحزام التماس تختلف من بعضها؛ فحزام التماس من ناحية أيكولوجية لا يصلح لتربية الأبل وعليه إن رعاة الأبل يجتاحون حزام التماس بعد نهاية فصل الخريف فقط؛ فى حين يقضى رعاة الأبقار حوالى ثمانية أشهر من العام فى مناطق التماس وأربعة أشهر فقط أو أقل فى المناطق الشبه صحراوية أو مناطق السافنا الفقيرة، إذن الأبقار والجمال حيوانات مختلفة ليس شكلاً بل مضموناً، فطبيعتهما الحيوانية مختلفة. وهكذا طبيعة إنسان التماس! وقد أصبح معلوماً فى كثير من الدراسات الأثنوغرافية (راجع ماك مايكل2 وكذلك يان كنسون3) أن البقارة والأبالة فى غرب السودان ينحدرون من أصول واحدة ولكن نتيجة لظروف البيئة - البقارة يعيشون فى حزام التماس بينما يعيش الأبالة فى الحزام الشبه صحراوى - قد أختلفت طرق عيشهم وسحناتهم ولهجاتهم. إيكولوجية مناطق التماس بما فيها من أمطار غزيرة وأشجار كثيفة وأراضى طينية لذبة، وسلاسل جبلية عنيدة - كسلاسل جبال النوبة وجبال الأنقسن ا- تتخللها سهول منبسطة وشبكة مجارى مائية طبيعية متشعبة ومتشابكة، خلقت نمط حياة بشرى يخالف نمط حياة الشمال الجغرافى فى إغلب كلياته، فالأفراح: كالأحتفالات والأعراس والطهور كلها مناسبات موسيمية تأتى مع فترات الحصاد وتغيب تماماً فى فصل الخريف، كما تنشط الحركة التجارية فى فصل الصيف وتفتح المدارس أبوابها ويسافر الناس إلى خارج الأقليم وتكاد تنعدم كل تلك المظاهر فى فصل الخريف حيث يندمج المواطن فى الزراعة. أيضاً خلق النظام الأيكولوجى لمنطقة التماس نمط حياة سكانى مميّز، يخالف الشمال الجغرافى، فيما عدا المجموعات الرعوية، فإن أغلب سكان التماس يعيشون على سفوح المرتفعات التى هى عبارة عن أراضى رملية تجاور الأراضى الطينية فى الهضاب المحيطة بهم والتى يزرعون بها. سكن المناطق المرتفعة له فوائد عدة، منها أن مناطق المرتفعات مناطق قراديدية ورملية يسهل التحرك فيها كما أنه وجد من خلال تجارب السكان أن كثافة الحشرات الضارة كالبعوض وذباب التسى تسى تقل مع أزدياد أرتفاع المنطقة. البدائل المتاحة للسكان للاستيطان فى السهول والهضاب تكاد تكون شبه معدومة، عدم وجود شبكة طرق أو أى نوع من أنواع التنمية يحفز السكان بالنزول إلى السهول جعل أرتباط السكان بمحمياتهم الجبلية الطبيعة شيئ مسلم به فى الظرف الحالى، وفى نفس الوقت أدى ذلك الارتباط إلى صعوبة إبتدار التنمية بكل أشكالها، مياه الشرب النقية والطرق المعبدة تعتبر ضرب من ضروب الخيال البشرى فى أحسن صوره. يلعب الرعاة دوراً مهماً فى حياة التماس، ففى فصل الخريف يغادرون فى رحلتهم الموسمية تجاه الشمال، إلى حزام السافنا الفقيرة فى حالة رعاة الأبقار أو الحزام الشبه صحراوى فى حالة رعاة الأبل. حركة الرعاة الموسمية ذات أهمية فى تغيير وتيرة الحياة فى التماس، نجد فى حالة رحول الرعاة تجاه الشمال فى فصل الخريف تصبح القرى فى مناطق التماس مغلقة على نفسها تحيط بها الأعشاب ويبدأ الناس فى الاستفادة من حيواناتهم المنزلية فى اللحوم والألبان. عندما يعود الرعاة تقوم البهائم بكسر الأعشاب من حول القرى كما يقوم الرعاة بحرق الأعشاب الجافة حتى يمكنهم إبتدار مراعى الحريق (الأعشاب الجديدة التى تنمو عقب نهاية الأمطار وبداية فصل الشتاء). وهكذا رويداً رويداً تدب الحياة فى إنسان التماس ليمارس ألعابه الموسمية وتجارته وصيده. نفس النمط البشرى فى موسمية الأفراح والمناسبات نجده عند الرعاة، فالرعاة يقومون بالمناسبات السعيدة فى فترة الخريف حينما ينزلون إلى أقواز شمال كردفان أو حينما تحط رحالهم فى فصل الصيف. يعانى التماس من مشاكل أزلية فى علاقة الرعاة بالسكان المحليين وفى علاقة رعاة الشمال من البقارة مع رصفائهم من القبائل الجنوبية فى الموارد المائية والزراعية والمراعى. فحروب التماس التقليدية دوماً تنشأ بسبب أن جزء من الرعاة يدعى أحقيته فى المراعى الصيفية فى منطقة ما، بينما يحاول الطرف الأخر الاشتراك فى المرعى، مثل مشاكل الدينكا أنقوك والمسيرية الحمر فى مناطق أبيى. ومع تفاقم الحروب الأهلية فى التماس صارت حروب التماس التقليدية أكثر وتيرة وحدة. كما أن السكان المحليين يضعون العراقيل أمام الرعاة فى موراد المياه والمراحيل، التى تعتبر موروث تأريخى للرعاة. ولكن فى المحصلة الكلية، فإن أقتصاد إنسان التماس سواء كان مستقراً أو متنقلاً، تجده، يكمل بعضه البعض، مما أدى إلى نشوء علاقات إقتصادية تكافلية فى الماضى عززت التعايش السلمى والأنصهار الأجتماعى وتقارب العادات والتقاليد، لدرجة أن عادات وتقاليد المنطقة أصبحت مشتركة فى كثير من الأحيان. النقارة والمصارعة يمارسهم جميع سكان التماس، بينما النقارة للقبائل العربية نجد أن المصارعة للقبائل الافريقية. ولكن الأن أى من الطرفين يدعى أحقيته لتلك الألعاب. بريمة