وداعا جاك دريدا

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 06:33 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الشاعر اسامة الخواض(osama elkhawad)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-14-2004, 01:14 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
دريدا ونقد الميتافيزيقا الغربية (Re: osama elkhawad)


    د. عبدالله إبراهيم GMT 5:00:00 2004 الإثنين 11 أكتوبر

    1. التفكيك وفاعلية الاختلاف

    تحيل الدلالة الاصطلاحية لـ«التفكيك-Deconstruction»على فضاء دلالي واسع، يقترن بتفكيك الخطابات الفلسفية، والنُظم الفكرية، وإعادة النظر إليها بحسب عناصرها المكوِّنة والاستغراق فيها وصولاً إلى الإلمام بالبؤر الأساسية المطمورة فيها، وهو ما يفترض الحاجة إلى إجراء حفريات في تلك النظم، كما تجلّت خطابياً، وكما تشكّلت تاريخياً ومعرفياً، ويترتب على هذا، أن الدلالة الاصطلاحية لـ«التفكيك»تختلف عن دلالته اللغوية التي تحيل على التخريب والتهديم والتقويض، وينهض التفكيك على منهجية التعارض بين المكونات التي تشكل كيان الخطاب، وتركها تعمّق اختلافاتها، وتكشف تناقضاتها الداخلية، ويحذّر دريدا من تبسيط موضوع البحث، ويرى أن عدو المنهجيات الحديثة، ومنها التفكيك هو: التبسيط والاختزال، وهذا على أية حال، ما يوحي بغموض الحفريات التي يجريها دريدا، ويعبّر عن الأمر، مؤكداً، إنه من أجل تلمّس فعل المخيّلة الخلاقة، بأكثر ما يمكن، ينبغي العناية بما هو غير مرئي من الحرية الشعرية، ويفترض هذا الأمر؛ الانفصال وصولاً للاتصال الخفي بالأثر في عتمته الحالكة.

    إن تجربة مثل هذه، تهدف إلى تنظيم الفعالية الأدبية، على مستوى الكتابة والقراءة، مشكّلة على نحو خاص، لا تستطيع فيها مفردات الانفصال والنفي - وهي ما يفترض أنها دالة على الانقطاع، وعدم التواصل ضمن العالم - أن توضّحها بصورة كافية، ما تستطيعه هو الإشارة إليها حسب، بوساطة الاستعارة التي ينتظم حولها نظام التفكير، لأن الأمر ما هو إلا مغادرة العالم، تجاه مكان لا يشكل موضعاً ولا عالماً آخر، ولا يوتوبياً، إنه، في حقيقة الأمر، تخليق كون، يضاف إلى هذا الكون(1). يكشف هذا، أن التفكيك، لا يحاول الاقتراب إلى الخطاب، إلا بوصفه نظاماً غير منجز، إلا في مستوى كونه ملفوظاً، هو بعبارة أخرى، تمظهر خطّي قوامه سيل من الدوال. وهو ينتج باستمرار، ولا يتوقف أبداً، حتى لو اختفى كاتبه، وهذا ما يفسّر عناية التفكيك بالكتابة دون الكلام، لانطوائها على صيرورة البقاء بغياب المنتج الأول، وهو ما يتعذّر بالنسبة للكلام. لقد أفضى ذلك، إلى اشتغال التفكيك على ثنائية الحضور والغياب، استناداً إلى فهم جدلي للعلاقة بين هذين المستويين في الخطاب، إن الحضور رهينة مرئية وما الغياب إلا ظلالها الكثيفة الغائرة في محيط مضطرب واسع لا قاع له ولا شواطئ، وهذا المحيط، هو المدلول المنفتح أبداً بفعل القراءة. على وفق هذه الرؤية، يؤسس التفكيك موقفه تجاه الخطاب، هادفاً إلى تحرير عمل المخيلة من ناحية، وافتضاض آفاق جديدة للعملية الإبداعية من ناحية أخرى. إنها سلطة من نوع خاص، كونها تولي القراءة النقدية كثيراً من اهتمامها(2). وهي بذلك تقف على الجانب الآخر المواجه للمنهجيات التاريخية والاجتماعية والنفسية والبنيوية الوصفية التي جعلت النموذج اللغوي موجهاً لعملها في الوصف والتحليل.

    وجَّه دريدا، نقداً جوهرياً إلى المقولات الفكرية التقليدية، وسعى جاهداً لقهر التقسيم التقليدي بين الخطاب الفلسفي والخطاب الجمالي، وتستند رؤيته في هذا الأمر إلى كشفه: إن الحضارة الغربية نهضت حول العقل والمنطق، وكانا معياراً حاسماً لتقويم أهمية كل شيء وأصالته، ويجترح دريدا إحدى مقولاته الأساسية للتعبير عن ذلك. وهي «التمركِّز حول العقل - Logocentrism»، وتتحدد استراتيجية هذه المقولة في البرنامج التفكيكي الهادف إلى نقد سلطة العقل والمنطق في الفلسفة الغربية، إلى فحص الميتافيزيقيا التي تبطل جميع المعاني التي لا تتطابق والنماذج العقلية المتصورة، وعلى الضد مما تذهب إليه الميتافيزيقا الغربية في تجلياتها الفكرية والمعرفية، يدعو دريدا إلى دور حر للغة، بوصفها متوالية لانهائية من اختلافات المعنى، ولا يمكنه تقرير أرجحية أمر، إلا استناداً إلى قرائن تعوّمها القراءة الحفرية. إذ لا معنى يظل حبيس دوالّه، ويُفسر على أنه ذو مغزى محدد بصورة نهائية. المعاني تنتجها القراءة، قادته توصلاته هذه، إلى توجيه نقد قاسٍ إلى نظام الفكر الغربي، كما تشكّل معرفياً، ابتداءاً من سقراط وأفلاطون وأرسطو، ومروراً بديكارت وكانت، ووصولاً إلى معلميه المباشرين، هيدغر وهوسرل، رغم أنه يقرر، بأنهما، كانا مؤثرين في مشروعه النقدي، ويؤكد أن علاقته بهيدغر خاصة، لا تتمثل في الجانب المنهجي، إنما في المفهوم المشترك للوجود، وبالذات مقولة هيدغر في أنطولوجيا الحضور ونقد الأفلاطونية، وقضية العلاقة بين اللغة والوجود(3).

    تعد مقولة«الاختلاف-Differance»إحدى المرتكزات الأساسية لمنهجية التفكيك، والوقوف عليها، إنما يكشف عن جزء مهم من استراتيجية التفكيك في مقارباته المنهجية والتأويلية. حدد دريدا مفهومه لـ«الاختلاف» في كتابه «الكلام والظاهرة». وقبل الاقتراب إلى فعالية هذه المقولة في منهجية التفكيك، يلزم تقصّي دلالاتها، وكشف جذورها المهجنة من عدد من المفردات، فذلك، إنما يكشف عن جزء من عناية التفكيك بما هو غير يقيني، والدعوة الملحّة للدخول في شباك الاحتمالات الكثيرة. يمكن تأشير الدلالة المعجمية لـ«الاختلاف» كما وردت في كتابات دريدا، بأنها نسيج دلالي متعدد، هضم فيه دلالات مجموعة من المفردات فثمة todiffer ويدل على المغايرة والاختلاف وعدم التشابه في الشكل، وto defer وهي مفردة لاتينية توحي بالتشتت والتفرق وTo defer ويدل على التأجيل والتأخير والإرجاء والتعويق. واضح أن المغايرة والانتشار والتمدد والتفرق خواص لأشياء مكانية ترتبط بالفضاء والحيز. بينما يكون الإرجاء والتأجيل والتأخير مرتبطاً بالزمان. مقولة «الاختلاف» هي نسيج متشابك من جميع الدلالات التي ذكرت، وإذا كان «الاختلاف» متعدداً في مستوياته الدلالية، تتنازعه خصائص مكانية وزمانية وصوتية، فإنه في التفكيك بوصفه مصطلحاً إجرائياً، إنما يحيل على الاختلاف المرجأ أبداً، هو الاختلاف الذي يحرر المتلقي من استحضار المرجع المحدد، ويترك له حرية استحضار أو تعويم مرجع خاص به، وذلك لوجود اختلاف بين الدال والمدلول، والمدلول والمرجع. وإذا كانت العلامة، التي هي صوت في الكلام، تشير فقط إلى فكرة الشيء، بينما يبقى حضور المرجع مستحيلاً، بسبب من غيابه في اللحظة الآنية. فكيف بإحضار موضوع المرجع؟

    ومن هنا يبدأ إرجاء المرجع في النظام اللغوي وتأجيله مع استمرار الكلام، كما هو الأمر في الدلالات التي تحتشد تحت مصطلح «الاختلاف». فهل دلالته هي عدم التشابه أم التفرّق والتبدد، أم التأخير والأرجاء والتواني، وكيف يمكن التيقن أن differance هي difference بغير الكتابة. والحرف a في الكلمة الأولى لا يلفظ في الفرنسية. من هنا تنشأ مشكلة الحضور والغياب، حضور الدال. وتعدد مدلولاته، وغياب بعضها.

    نخلص إلى أن «الاختلاف»، يحيل على تعارض دلالات مكونات الكلام ليس بناء على خصائصها الذاتية، إنما بناء على الاختلافات فيما بينها. إن المكوّن الكلامي يُعرّف، بأنه يختلف عن غيره، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، هنالك المتوالية المؤجلة من سلسلة العلاقات اللانهائية. وكل هذا يفسر لم يرفض دريدا نفسه أن يحدد الدلالة الاصطلاحية الدقيقة، للاختلاف، فهو يؤكد انه ليس كلمة ولا مفهوماً، إنّه: الإزاحة التي تصبح بواسطتها اللغة أو الشفرة، أو أي نظام مرجعي عام، ينطوي على ميزة تاريخية؛ عبارة عن بنية من الاختلافات ويحاول "لتش"أن ينغمر في موحيات «الاختلاف» فيؤكد، انه عندما نستخدم العلامات، فإن حضور المرجع والمدلول، يرتبط بالحضور الذاتي للدال، الذي يحضر لنا حال الوهم والمخادعة والضلال على نحو مفاجئ، ليس ثمة حضور مادي للعلامة، ما يوجد هو لعبة الاختلاف حسب. فالاختلاف ينتهك العلامة، ويجتاحها محولاً عملياتها إلى أثر. وليس حضوراً ذاتياً لها(4).

    وإذا كانت اللغة سلسلة لا متناهية من المفردات التي ليس لها أصول بمعزل عن سياق اللغة، فإن الكلمات تتميز باختلاف كل منها عن الأخرى. وهذا يُفضي إلى نتيجة، غاية في الأهمية، في استراتيجية عمل التفكيك، الذي يستميت من أجل المغيب، وطرائق تعويمه. إذ طبقاً لذلك، يكون كل معنى مؤجلاً بشكل لانهائي، وكل كلمة تقود إلى غيرها في النظام الدلالي اللغوي. دون التمكن من الوقوف النهائي على معنى محدد واضح الآن. إن ما دفع دريدا إلى ذلك، هو الحد من فكرة الحضور، فالمتلقي يبحث عن مدلول محدد، لأنه واقع تحت سطوة فكرة الحضور، بل خاضع لها، ولهذا، فإن ما يهدف إلى تحقيقه دريدا، هو أن يكون الخطاب، والخطاب الأدبي خاصة، تياراً غير متناهٍ من الدوال، وبوساطة الكلمات فقط، يمكن الإشارة إلى كلمة ما دون أخرى. وهذا يفضي إلى توالد مستمرٍ للمعاني، لا بسبب من تقرير دلالاتها، بل من اختلافاتها المتواصلة مع المعاني الأخرى، ولما كانت هذه المعاني لا تعرف الثبات والاستقرار، فإنها تبقى مؤجّلة ضمن نظام الاختلاف، وتظل محكومة، بحركة حرة أفقية وعمودية، دونما توقع نهاية محددة لها. دلالة «الاختلاف»، تنتظم حول قطبين دلاليين أساسيين، هما: «الاختلاف» و«التأجيل»، فضلاً عن أقطاب ثانوية تجاورهما، لكن هذين القطبين لا يؤسسان لفكرة التوازي في منهج التفكيك، كونه يهدف إلى تقويض الثنائيات التي أرستها الميتافيزيقيا. ولهذا، فإن دريدا يصرّ على ضم جميع المحاور الدلالية التي تتنازع مقولة «الاختلاف»، جاعلاً منها مركز استقطاب دلالي يرشحُ بدلالات قارة وحافة في آن واحد.

    يؤسس دريدا، بوساطة «الاختلاف» رؤيته لمعضلة الحضور والغياب، ويدير نقاشاً ذا مستويات متعددة في اللغة والفلسفة، فالمعاني كما يرى تتحقق من اختلافها المتواصل في عملية الكتابة والقراءة من غيرها، وتبدأ مستويات الحضور والغياب بالجدل ضمن أفق الاختلاف، بحيث يصبح الاختلاف هدفاً بذاته، فالأمر يتطلب حضور العلاقة المرئية التي توفرها الكتابة التي تمدّ العلامات بقوة تكرارية ضمن الزمان، وكل هذا يشحن الدوال ببدائل لانهائية من المدلولات. مما يثبت أن هدف الكلام وغايته، بوصفه حضوراً ذاتياً ينتج بوساطة أثر الزمان في الكتابة. وهو يقوم من ناحية ثانية بتقويض الحضور الذاتي، وهذا يكشف، أن ثمة بناءً وهدماً متواصلين، من أجل بلوغ تخوم المعنى. يذهب دريدا إلى أن الاختلاف هو عمل الكلام الداخلي، فالكلام المنطوق يتشكل من الاختلاف المستمر بين الكلمة المنطوقة التي تتجزأ عادة إلى دال صوتي ومدلول، وبين سلسلة المفردات التي ينتظمها الحديث. وذلك إلى ما لا نهاية، تبعاً لما كان قرره سوسير من أن النظام الذاتي الكلام، ينهض على الاختلاف بين العلامات، أكثر مما ينهض على حشد وحدات المعنى. فالعلامة لا تدل على شيء بذاتها، إنما باختلافها عن العلامات الأخرى. وهذه الإمكانية لا تتحقق إلا بوساطة الكلام، بوصفه حضوراً ذاتياً مباشراً يلعب دوراً رئيساً في الحقل الدلالي.

    هذه الوظيفة للاختلاف في برنامج التفكيك، هي التي قادت دريدا إلى تقديم تصوره لـ«الكتابة البدئية - Archi-writing وهي نمط من الكتابة سابق للكتابة نفسها. أي ذات ميزة قبلية، تكون أنموذجاً متصوراً للكتابة نفسها، فهي قائمة على المعرفة بالحاجة إليها، قبل حصول المواضعة حولها. الكتابة البدئية، لا يمكن تعريفها موضوعياً، لأنها غير قابلة للاستقراء والوصف، لكنها حسب دريدا كل شيء، إنها الوسيلة التي لا تدع لنفسها، أن تنتج غير شكل الحضور. وغالباً ما تكون أنظمتها موضوعية بالنسبة لموضوعها، وبالنسبة لكل أشكال المعرفة الأخرى(5).ويمكن أن يصطلح عليها بـ«اللسانيات غير المتمركزة عقلياً-anon Logocentric Linguistics».وهكذا يتكشف أن التشدد في التركيز على أهمية الاختلاف، قاد إلى تعميم استراتيجية هذه المقولة الفعالة بوصفها وسيلة حفر في بنية الخطابات الفلسفية والأدبية. وحققت منجزها الأكبر في محاولتها تقويض المرتكز الفكرية للثنائيات المعروفة، مثل: الروح والجسد، الخير والشر، الشكل والمعنى، الاستعاري والواقعي، الإيجابي والسلبي… إلخ. وذلك لقلب التصور الذهني الذي أرسته الميتافيزيقيا الغربية. واستبدال ذلك بمقولات تحتمل التعدد الدلالي مثل" Pharmakon" الذي يعني السم والدواء معاً و"marge" الذي يحيل على الهامش والعلامة والمسيرة صوتياً، وغير ذلك، مما يحتمل ولا يقرر أمراً محدداً. ولما كان الاختلاف خصيصة لغوية، فهو حسب دريدا نفسه لا يعود لا إلى التاريخ ولا إلى البنية(6).

    لا يمكن عدّ دريدا فيلسوفاً، بالمعنى المتعارف عليه، كما لا يعد ناقداً، ما تنطبق عليه حقاً، هي كلمة «قارئ» ولكنه قارئ مسلَّح برؤية جديدة، وتتميز كتاباته بخصوصيتها بين جيله مثل ريكور وكرستيفا وسولير وهارتمن ودي مان وغيرهم، ويستحيل موضوعياً تصنيف نصوصه على وفق الأسس التي تعتمد عليها نظرية الأجناس الأدبية. فهي في الوقت الذي تستظل في فيء الفلسفة، لا تبرح تلقي أسئلة عميقة عن اللغة والإبداع والمعنى والهوية، وتتناص مع خطابات قديمة، تمتد من أفلاطون إلى هوسر وهيدغر، وتبدو من هذه الناحية، أنها معنية بالتاريخ المعرفي للفكر الفلسفي(7). عنايته بالفكر الفلسفي، وأبرز كشوفاته المعرفية، جعلت هذا الفكر، أحد أبرز مصادر ثقافته، فضلاً عن الكشوفات اللسانية والبنيوية، وهو ما جعله يخطو باتجاهات ما بعد البنيوية خطوة متقدمة، ولكنها لن تكون الأخيرة، بسبب من جدل المنهجيات. ويمكن التأكيد أن دريدا قد وظّف منهجياً كثيراً من الجهود المنهجية للمعنيين بالمنهجيات اللسانية، وأضاف إليها، جهده وحفرياته وتصوره للهرم الفلسفي الغربي. الذي ربما لم يُعن به إلا قلة قليلة من جيله، مثل ريكور وهابرماز، تلك العناية المباشرة التي ميزته عن غيره. وجعلته ينهض بمهمة تدشين مشروعه في تفكيك بنية الفكر الغربي، مستعيناً بالوسائل المنهجية القادرة على كشف تناقضات تلك البنية، وتركها تكشف عن تناقضاتها بنفسها، معتمداً على شبكة مقولاته الأساسية، ومنها «الاختلاف» الذي يمارس من خلاله نقداً لمطابقات الفكر الغربي ونزعته التمركزية.

    2. نقد التمركز حول العقل

    يتجه نقد دريدا للمركزية الغربية ناحية الأسس والركائز العقلية التي أفضت إليها، ولما كانت تلك الأسس تتمحور حول فكرتين أساسيتين هما: التمركز حول العقل وفكرة الحضور، فإن برنامج دريدا النقدي يتمحور حول هاتين الفكرتين الفاعلتين في خارطة الميتافيزيقيا الغربية، فهو يطمح إلى تفكيك كل المراكز الدلالية، وبؤر المعاني التي تشكلت حولهما، فالممارسة الفكرية حول «اللوغوس» أنتجت تمركزاً عقلياً صلباً جداً أقصى كل ممارسة فكرية لا تمتثل لشروطه، لأنه ربط بينه ومعنى الحقيقة، وأنتج نظاماً مغلقاً من التفكير. أما فكرة الحضور فإنها تستأثر باهتمام دريدا النقدي لأنها تواكب اللوغوس، وتمثل مبدأً راسخاً مفاده أن الموجود يتجلى بوصفه حضوراً، أي أن الوجود(= الكائن) يتمظهر حضوره في الأشياء. وفي هذا الصدد يؤكد هيدغر على إن التاريخ الغربي منذ بدايته، وعلى امتداده، ظل يبرهن على أن كينونة الكائن تتجلى بوصفها حضوراً. وهذا التجلي للكينونة على أنها حضور هو بذاته تاريخ الغرب. ذلك أن مسار تاريخ الغرب ترادف في معناه ودلالته مع فكرة الحضور، باعتبار أن ما يأتي لذاته يتجلى وينتشر بالقرب من ذاته(.

    وكثيراً ما استوقفت هيدغر هذه الظاهرة فدرس جوانبها اعتماداً على نصوص الفلسفة، وخلص من ذلك إلى أن الفلسفة الغربية تدفع إلى الأمام باستمرار فكرة أن الوجود هو الأكثر حضوراً من تلقاء نفسه، فأرسطو كان يؤكد على أن «الوجود هو ما يكون بذاته أظهر الأشياء» أي أكثر الأشياء حضوراً، على أن هذا الأمر يولد فعلاً آخر ينبغي ملاحظته لأنه يتصل هذه المرة بإدراك الإنسان، فما اعتبر بذاته أظهر الأشياء، هو الأقل ظهوراً، فالأشد ظهوراً هو الموجود الذي ندركه في كل لحظة، أي الوجود بذاته الذي يكون جلياً ظاهراً، والذي في الوقت ذاته يكون بالنسبة لنا غير ذلك. فإذا كان الأمر هكذا أي ثمة ظهور باهر للموجود من جهة واحتجاب بالغ له من جهة ثانية، فإن مردّ ذلك التناقض يكمن في قصور وعي الإنسان بوصفه وسيلة إدراك، فإبهام الوجود وانحجابه ليسا صفة كامنة فيه، إنما في عجزنا عن إدراك ذلك الحضور، وما يثير الاهتمام هو هذه المفارقة، كيف يكون أشد الأشياء حضوراً هو في الوقت نفسه أكثر الأشياء غموضاً واستغلاقاً؟ هذا التفاوت بين حقيقة الموجود وكيفية إدراكه لازم الفكر الفلسفي الغربي، وينتهي هيدغر إلى تقرير فكرته حول هذه الإشكالية: إن انتشار الوجود يشكل بذاته تاريخ الإنسان الغربي من حيث جوهره، باعتبار أن هذا الإنسان يظل في لحاظ التاريخ مأخوذاً بيده ومثبتاً في موضعه بوصفه قاطناً في إشراقة الوجود، ومساهماً في هذه الإشراقة، والوجود من حيث هو انحجاب لا ينفك عن الظهور، يدل بذاته على الماهية الإنسانية، غير أنه، على الرغم من ذلك لا يتأنسن، بل إن ماهية الإنسان تستوطن بفعل هذه الدلالة - الرابطة في نواحي الوجود وأصقاعه(9).

    أثبت دريدا أن التراث الفلسفي الغربي ظل مشبعاً بفكرتي «التمركز حول العقل» و«ميتافيزيقا الحضور» وأن مذاهب الفلسفة ونظرياتها المختلفة ما هي إلا صيغ من نظام واحد هو نظام التمركز حول هذين المحورين، ومع أن دريدا يؤكد صعوبة التخلص من هذا التمركز، ألا يمكن معرفة الظروف التي فرضت هذه الظاهرة. ومع أنه لا يمكن تخيل «نهاية» للميتافيزيقا أو وضع حدٍ لها. فمن الممكن نقدها من الداخل بالتعرف إلى النظام الهرمي الذي أقامته، وربما في مرحلة لاحقة يصار إلى قلب هذه الظاهرة رأساً على عقب، فغاية النقد هنا هزّ قواعد الميتافيزيقيا التي أُنتجت ضمن أفق محدد، وربضت خلف الفكر كله، توجهه وتحدد منظوره(10). إن النظام المتماسك الذي نتج عن ممارسات التمركز المذكورة، من الصلابة بحيث يصعب تدميره مباشرة، أنه يحتاج إلى خلخلة لنظام جذوره، وتفكيك ذلك النظام الذي قد يؤدي إلى تفجيره من الداخل(11). وعلى هذا، واستناداً إلى هدف تقويض نظم الميتافيزيقيا الغربية بتعرية ركائزها، وكشف تناقضاتها، وُصِف دريدا بأنه مناهض مرير لنظم الفكر المتعالية التي يقصد منها أن تعطي لاتباعها مواقف هيمنة يطلون منها على من هم دونهم، ويحكمون عليهم طبقاً لها(12).

    اتخذ نقد دريدا للميتافيزيقيا الغربية من مصطلح «التمركز حول العقل Logocentrism» وسيلة وموضوعاً له. وتتمثل كفاءة هذا المفهوم المزدوجة، أولاً في سياق فلسفة دريدا النقدية، وثانياً في التراث الفلسفي الغربي في أنه يدمج معاً مقولة «اللوغوس» بممارسة «التمركز»، وعليه فالحقل الدلالي لهذا المفهوم متشعب، ويتحدر من أصلين: مقولة فلسفية تجريدية أخذت معنى المفهوم ووظيفته، وممارسة عملية غايتها الانغلاق على نوع من التصور، وكل هذه المكونات التي دخلت في بناء Logocentrism تفيد في أن يمنح هذا المفهوم وظائف نظرية وعملية، فمن الجهة الأولى يقتضي الأمر الاقتراب إلى المفهوم وأصوله وتشكلاته في الفلسفة الغربية، ومن الجهة الثانية يقتضي الأمر كشف طبيعة التمركز بوصفه ممارسة فلسفية. وهذا الغنى الذي ينطوي عليه المفهوم يخدم غرض دريدا في نقده الهادف إلى هدم فكرة اليقين المطلق في الميتافيزيقيا، والانتقال إلى إعلان حالة تمرد على إثبات أُطرها وسكون مضمونها. لقد شخص دريدا أصول هذه الظاهرة المتمكِّنة من التفكير، فالفلسفة منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو دفعت العقل، إلى واجهة الاهتمام، وأعطته سلطة فعالة في مسار الفكر، بحيث آل في نهاية المطاف إلى مفهوم مجرد ذي قوة لا متناهية، وفي ظل هذه النزعة العقلية، أصبح القياس العقلي - المنطقي نموذجاً معيارياً تقاس في ضوئه كل النماذج الفكرية، ففرض بسبب ذلك هيمنته القصوى في مجال الفكر الفلسفي، وكان هذا كافياً بالنسبة لدريدا لأن ينصرف إلى تفكيك هذا التمركز، وذلك من خلال نقد الأصل الثابت والمتفرد بالقوة لمفهوم العقل. سعياً وراء ظهور نمط من التفكير الذي يتجاوز نسق التمركز المذكور.

    لاحظ دريدا أن الميتافيزيقيا الغربية تمنح الكلام أفضلية على الكتابة، فهي تعطي امتيازاً خاصاً للكلمة المنطوقة، لأنها تجسد حضور المتكلم وقت صدور القول، وتلزم متلقياً، فليس ثمة فاصل زماني أو مكاني بينهما، فالمتكلم يستمع في الوقت الذي يتكلم فيه، وهو ما يفعله المتلقي في الوقت ذاته. إن سمة المباشرة في فعل الكلام تعطي قوة خاصة في أن المتكلم يعرف ما يعني، ويعني ما يقول، ويقول ما يعني، ويعرف ما يقول، وهو قادر، فضلاً عن ذلك على معرفة فيما إذا كان الفهم تحقق فعلاً أم لم يتحقق. فصورة الحضور الذاتي المباشر للحقيقة التي يفرض الكلام وجودها في الممارسة الفكرية، تتصل مباشرة بالحقيقة التداولية للألفاظ ودلالاتها لحظة النطق في ممارسة حية ومباشرة وآنية. وهذه الخاصة ظلت إحدى الشواغل المحورية في الميتافيزيقيا الغربية، ومن ورائها الثقافة الغربية، وعلى النقيض من ذلك، فإن الكتابة لم تستأثر بالاهتمام، لأنها بوسائلها وآلياتها، لا يمكن أن تتداول الحقيقة الحية المباشرة، ولهذا عُدّت نشاطاً من الدرجة الثانية، فالكاتب يضع أفكاره على الورق، فاصلاً إياها عن نفسه المتضمنة للحقيقة، وجاعلاً منها شيئاً جامداً يمكن أن يقرأ من شخص آخر بعيد، لا تربطه به صلة زمانية أو مكانية، ولا يربطها سياق مشترك، وهذا قد يفتح الباب لمزيد من سوء الفهم، بسبب الاحتمالات المترتبة على مسارات التلقي الخاصة بالقراءة، وفي ضوء هذا المنظور، وتبعاً لفروضه، أعلت الميتافيزيقيا الغربية من شأن الكلام على حساب الكتابة، ومن هنا ظهرت المفاضلة بينها، والاختلاف المتأصل في الكفر الغربي بشأنها(13).
    وقد دُعم هذا الاتجاه دينياً، فحضور «اللوغوس» في «العهد الجديد» على أنه «كلمة» منح المفهوم قدراً كثيفاً من الحضور «في البدء كانت الكلمة»، فلكون «الكلمة» أصل الأشياء جميعاً، فإنها توقع وتذيل على حضور العالم، فكل شيء هو معلول هذه العلة، مع أن «الكتاب المقدس» مكتوب، فإن كلمة الله منطوقة في الأساس. وتبدو الكلمة المنطوقة، الصادرة من الجسد الحي أقرب إلى الفكر المولد من الكلمة المكتوبة. ويرى دريدا أن تفضيل الكلام على الكتابة، وهو ما يصطلحُ عليه يسميه: التمركز حول الصوت phonocentrism، إنما هو سمة كلاسيكية من سمات التـمركز حـول العقل(14).

    وعلى هذا، فإن الإعلاء من شأن الكلام على حساب الكتابة كان أكثر العوامل التي دفعت فكرة التمركز حول العقل إلى البروز والاستبداد والهيمنة في تاريخ الفكر الغربي. ويتقصى دريدا هذه الظاهرة، فيرجعها إلى أفلاطون الذي يرى أن الحقيقة ما هي إلا حوار الروح الصامت مع نفسها، وهذا التصور يدعم، كما هو واضح، أمر حضور الكلام النفسي، فالحقيقة هنا هي المباشرة الصريحة للنفس، وأكثر تجليات هذه الفكرة حضوراً هو: الحوار بين متحدثين يجمعهما زمان ومكان، وعن هذا الأصل الذي يمثله الحوار الداخلي، نشأت فكرة الحوار الصائت بين متحاورين خاضعين للشروط الزمانية المكانية(= وجدت هذه الفكرة أفضل تجل فعلي لها في المحاورات الأفلاطونية). فأفلاطون حاول في محاوراته محاكاة هذا الضرب من نظام الإرسال والتلقي، مفترضاً ثنائية(المرسل والمتلقي) التي تنظم الفعل الاتصالي، وهي في الغالب سقراط بوصفه مرسلاً، ومجموعة من المتلقين/المحاورين الذين يتغيرون حسب المقام والحاجة التي يريدها أفلاطون. وتمسك أفلاطون بأسلوب المباشرة الحوارية، واعتقاده بأنه الأسلوب الأمثل في التعبير عن الحقيقة أدّى إلى معالجة موضوع الكتابة بشبهة كبيرة.

    يسعى دريدا إلى استبدال ذلك التصور، مؤكداً أن الكتابة تكشف عن تغريب المعنى، ذلك أن نقش المعنى بواسطة العلامة يهبه استقلالاً وحرية عن صاحبه الأصلي، وهذا يمنحه إمكانات كبيرة في التفسير والتأويل. هذا التغريب أو الإبعاد في المعنى يتوضح حينما تستمر العلامة المكتوبة في توليد أبعادها الدلالية المتجددة في غياب مؤلفها الأصلي. إن ما يطالب به دريدا، ليس فقط حل هذا الإشكال المستعصي فيما يخص قضية الكلام والكتابة في الخطاب الفلسفي الغربي، إنما يطالب أيضاً بضرورة قلب ذلك النظام، لتفريغ شحنة التمركز حول العقل في الفلسفة، فهذا القلب، وإعطاء أولوية للكتابة على الكلام سيفتح الأفق أمام الخطاب الفلسفي المتموّج بدلالاته بعيداً عن الاصطدام ببؤر التمركز، فإذا ما نجح مشروع تفكيك التمركز، القائم على تمركز الصوت، وثم الكلام، فإن ذلك معناه انهيار نظم الميتافيزيقيا التقليدية وكل تمركزاتها، وظهور خطاب فلسفي لا تمركز فيه، ولا تفاضل، ولا مصادرة، موجَّه إلى الجميع في كل زمان وفي كل مكان. إن الخلخلة التي يحاول دريدا أن يبثها في قلب الخطاب الفلسفي الغربي، تمس قواعده الأساسية، وآلياته المحورية التي يقوم عليها، وذلك بقدر ما يقوم أي خطاب عقلاني - مثالي على نوع من المركزية حول الصوت من جهة، وعلى نموذج عقلي - لغوي ضمني أو قبلي يوجهه، ويرسم له أطره وحدوده التي لا يستطيع تجاوزها من جهة أخرى.

    ولا شك في أنه يربط بين التمركز الصوتي والتمركز العقلي في الفكر الغربي، لأن ذلك الفكر، وأبرز ما فيه الخطاب الفلسفي لم ينشأ ولم يتبلور عند اليونانيين القدماء إلا بقيام اللغة الصوتية التي تعتمد على النظام الأبجدي في الكتابة، ولأن الفكر الميتافيزيقي المجرد لم يستطع أن يتألف إلا بالقدر الذي أتاحته له اللغة الصوتية من تجاوز للصور المادية المباشرة التي كانت تتم بواسطتها أنماط الكتابات السابقة على النظام الأبجدي. وعلى هذا فإن نقد الأسس الصوتية للخطاب الفلسفي الغربي، وإبراز وظائفه الأيديولوجية الكامنة، عملية لا تتم عند دريدا من غير إضفاء أهمية على المكونات الكتابية للفكر، وهو الأمر الذي يدفعه إلى محاولة تأسيس نوع من الكتابية(= الغـراماتولوجيا) الجـذرية(15).

    وظّف دريدا معرفته بنظم الفلسفة الغربية، مستعيناً بمفهوم «التمركز حول العقل»(16) للتقدم في نقده الشامل لتلك النظم، ولجأ أولاً إلى تجزئة موضوعاته. بدأ من الألفاظ والفرضيات الأساسية، ثم انتقل إلى تعرية الأنساق، وكشف الحجج التناقضية التي تنطوي عليها الألفاظ والفرضيات، ثم في مرحلة أخرى توغل إلى صلب موضوعه، إلا وهو تفكيك النظم الكبرى للفكر الفلسفي منطلقاً من أفلاطون وأرسطو، ماراً بديكارت وروسو وفرويد، ثم منتهياً بالفلاسفة المعاصرين مثل هوسرل وهيدغر. ولقد قاده استقراؤه إلى هدم الزعم القائل بوجود معنى موحد له هوية متطابقة مع ذاتها، فعمله الذي هدف منذ البداية إلى كشف التعارض في الأنساق الفلسفية أظهر له وجود تضادٍ جوهري في صميم النظم التي تدَّعي التطابق الذاتي والهوية الموحدة، ودفعه هذا الكشف إلى إجراء منهجي، هو ما صار يعرف بـ«التفكيك» وهو التموضع داخل الظاهرة الفكرية المدروسة، ثم توجيه ضربات متعاقبة لها من الداخل، ويمكن التعبير عن هذه الممارسة المنهجية بالصيغة الإجرائية الآتية: أولاً: ضرورة معرفة النظم الداخلية للميتافيزيقيا، والاندماج في مقولاتها، ومعرفة الأبعاد والغايات والمقاصد التي تستخدم فيها، وثانياً: الانفصال الرمزي عنها ومواجهتها بأسئلة مشتقة من سياقها الفكري، بما يظهر عجز تلك الميتافيزيقيا عن تقديم أجوبة حقيقية عن الأسئلة المثارة، الأمر الذي يفضح قصورها، ويكشف تناقضاتها الداخلية. إن ما يصطلح عليه دريدا بـ«التفكيك» بوصفه منهجاً تتكشف فعاليته، إذا مورس كما ينبغي أن يمارس، في قوة تماهيه مع موضوعه، بما يمنحه إمكانية أن يكون منفصلاً ومتصلاً في آن واحد. إمكانية الانفصال تضع الموضوع في دائرة السؤال النقدي، ومعالجته نقدياً عبر المسافة المطلوبة في كل ممارسة نقدية حقيقية بين الباحث وموضوع البحث، وإمكانية الاتصال تجعل ذلك المنهج يقارب موضوعه وقد تشبع بالشبكة الداخلية للمفاهيم والمقولات الخاصة بذلك الموضوع، بما يعوّم كل التعارضات الخادعة التي تنتظم في الإطار العام الذي يتكون فيه الموضوع. كانت الميتافيزيقيا تصرُّ على اعتبار الوجود حضوراً متعالياً، وبمواجهة قلعة الميتافيزيقيا الحصينة ومقولاتها الراسخة استعان دريدا بمقولات القراءة والاختلاف والأثر، واستخدمها من أجل تبديد التمركز الدلالي حول العقل، وفيما كان الموروث الفلسفي ينتج الحقائق على أنها مستودع للحضور، ذهب دريدا، إلى أن التفسير ليس غايته تثبيت أوضاع قارة، إنما فتح الأفق أمام مزيد من الاحتمالات، وهذا يعني توسيع فضاءات التفسير والوصول به إلى مناطق لم تستكشف بعد(17).

    بحث دريدا في الحقول المعرفية التي رتبت أوضاعها في ضوء سلطة التمركز، وجعلها موضوعات للبحث، وفي الوقت الذي كشف فيه عن بؤر التمركز في تلك الحقول، عمل على نقد مظاهر التمركز فيها، وهنا اقتضاه الأمر مزيداً من الحفر في البنيات الداخلية لتلك الحقول من أجل حصر مظاهر التمركز أولاً، والعمل على هزّ البؤر المتمركزة ثانياً. ومن أبرز الحقول التي كانت ميداناً لتطبيقاته فكرة الوجود والمعرفة والجنس والتاريخ وغير ذلك. وقد عالجها مشخصاً في تضاعيفها كل ما يتصل بالتمركز الذي يمنح فكرة ما أولية وأسبقية على غيرها، وهذا بدوره يؤدي إلى إقصاء جزء كبير من الفكرة التي ينبغي أن تتصف بالشمول. وأهم ما شخَّصه دريدا في هذا المضمار:

    1 الأولية الإبستمولوجية Epistemological primacy

    ويقصد بها دريدا عدّ العقل والإدراك الحسي مركزاً للحضور، وهذا وهم أشاعته فكرة التمركز. ذلك أن العقل والحس ليسا معطيين قارين قديمين إنما هما يتشكلان من خلال ارتباطهما بالحقيقة، فليس ثمة وعي قبلي، إنما هو نتاج يتولد من مقاربة الفكر للموضوع.

    2. الأولية التاريخية Chronological primacy.

    وفي هذه الأولية يعثر دريدا على أساس التمركز حول الصوت، فالتمركز هنا يعبر عن نفسه بواسطة النظم الميتافيزيقية استناداً إلى أن الزمن مطّرد في تقدمه من الماضي إلى المستقبل، وحينما نقّب دريدا في هذا الحقل الشامل المتصل بالزمن وجد أن التمركز يتجلى في ظواهر كثيرة يمكن هنا حصر ثلاث حالات هي: التمركز الذي أشاعته الميتافيزيقيا على اعتبار أن الروح ذات بعد مثالي، وأن تجسيداتها تتم من خلال زمنية الجسد وليس من بعدها المجرد وإن الأشكال المتعالية التي تفرزها الظواهر ثابتة وأبدية، وأخيراً أن كل مقولات المطلق بوصفه خالقاً ذات حضور دائم.

    3. الأولية الجنسية Sexual primacy

    وهنا يشخِّص دريدا موضوعاً غاية في الأهمية، وذلك بكشفه ما يمكن الاصطلاح عليه بـ«التمركز حول القضيب phallogocentric»، فقد رصد هيمنة الشخصية الذكورية وإقصاء الشخصية الأنثوية، وكان المعيار في الإقصاء أو التكريس من خلال منح «القضيب» قوة رمزية تمنح صاحبه الأفضلية، وعلى هذا دفعت الميتافيزيقيا الرجل/الذكر إلى واجهة الاهتمام بسبب امتلاكه هذا العضو، فيما أقصيت المرأة وجرى تغييب لدورها لافتقادها إلى ذلك العضو تحديداً. وهذه التمايزات المبنية على فكرة التفاوت والمفاضلة، أدت إلى إقصاء قطاع بشري كبير، طمست إمكانية ظهور العقل والثقافة فيه، وهذا فتح الأفق على دراسة النوع الاجتماعي Gender.

    4. الأولية الوجودية Antological primacy

    الفكرة التي تشكل لبّ هذه الأولية هي من أكثر الموضوعات التي أثارت اهتمام دريدا، وفي هذا الحقل تحديداً تميز نقده وتفكيكه. فالميتافيزيقيا الغربية ربطت بين الوجود والحضور، فالوجود ينطوي على إمكانية حضور متحققة في كل الظواهر والأشياء، ومع أنه يتعسر إدراك ذلك الحضور إلا أن وجوده وتجلياته جعل العالم مرهوناً بذلك الحضور. ولما كان فلاسفة الاغريق، وبخاصة أفلاطون الذي منح شرعية لمثل هذه الفكرة، حينما وصف الحقيقة بأنها حوار مع النفس، وأرسطو الذي اعتبرها تفكيراً ذاتياً، فإن الميتافيزيقيا اللاحقة لم تدقق في هذه المصادرة، فأصبحت هوية الوجود هي الحضور، ومن المعروف أن هذه القضية كانت من أبرز ما انصرف دريدا إلى نقده(1.

    احتل «العقل» في الميتافيزيقيا الغربية مكانة سامية، ولم يقف عند الحد المباشر لهذا المفهوم باعتباره آلة التفكير، إنما جاوزه إلى المدى الذي تحذّر منه المعرفة، وتحديداً إلى الارتفاع به إلى مفهوم تجريدي ينطوي على خبرة قبلية، وأنه القوة المنظمة للعالم، سواء كانت مفارقة له أو منبثّة فيه، وهكذا تنوعت المنظورات إليه، فقد نظر إليه بوصفه مبدأ، ثم بوصفه نظاماً متغلغلاً في الظواهر الكونية، ثم بوصفه خالقاً، وفي كل ذلك نظر إليه على أنه مفهوم يحكم العالم، وينبغي صوغ العالم على غرار معطياته الخالصة. وبهذا جعلت الممارسة الفكرية العقل هو المركز، وما العالم إلا تجليات من تجلياته اللانهائية، ودعمت الميتافيزيقيا الدينية هذا المفهوم، بإعطاء العقل بعده الإلهي، فدمجتْ فكرة «اللوغوس» و«الله». أو أنها طوَّرت ذاك إلى هذا. وتمركز التفكير كله حول قضية العقل، بحيث انحسر الاهتمام بالبعد الواقعي والفعلي للأشياء، وظل الفكر الغربي منذ بداياته الإغريقية يدفع إلى واجهة الاهتمام بهذا الموضوع، الأمر الذي أفضى إلى تمركز حول مفهوم العقل، جعل كثيراً من الفروض والإجراءات والنتائج المتصلة به على أنها حقائق ثابتة. وهذا الميدان المشبع بفكرة التمركز كان مثار اهتمام نقدي بدأه نتشه ومضى به هوسرل وهيدغر إلى مرحلة أخرى، ثم بلغ الاهتمام ذروته على يد دريدا الذي اشتق مفهوم «التمركز حول العقل» ليمارس به وفيه نقده القائم على قاعدة تفكيك النظم الداخلية للظواهر الفكرية الأمر الذي يفضي إلى انهيارها.

    3. الغراماتولوجيا ونقد التمركز حول الصوت

    اقتضت ممارسة دريدا النقدية أن يتوسع في نقده ليشمل ظاهرة التمركز في أكثر من ميدان، وإن كانت جميعها ترتبت في ضوء سلطة الميتافيزيقيا، وإذا كان التمركز حول العقل كان نتيجة للتمركز حول الصوت. فإنّ هذا إنما هو جانب من جوانب التمركز، فجانبه الآخر المتصل بموضوع التمركز هو الإعلاء من شأن الكلام على حساب الكتابة. وفي هذين الموضوعين المتداخلين نجد أنّ «الصوت» أو «الكلام» هو المرجّح وحوله يتمركز الفكر أو بسببه ينشأ. وإذا كان دريدا ركّب مصطلح Logocentrism لمعالجة موضوع التمركز حول العقل فإنه يستخدم مصطلح Grammatology ليستكشف به أبعاد التمركز حول الكلام. وهذا المصطلح الذي يمكن ترجمته بـ«علم الكتابة» ذو أصول إغريقية، وهو مهجَّن من اللفظ الذي يحيل على الحرف الذي هو نقش كتابي، والممارسة الكتابية بوصفها علماً، ومع أنّ هدف دريدا هو كشف جملة الممارسات الإقصائية التي تعرضت لها الكتابة في الفكر الغربي والإعلاء من شأن الكلام. فإنّ الوجه الآخر لذلك الهدف هو التفكير جدياً بضرورة قلب ذلك التصور الذي منح أفضلية للكلام على حساب الكتابة، ومنح الأخيرة دوراً فاعلاً في خارطة التعبير الفكري، منطلقاً من وجهة نظر ترى أنّ جميع خصائص الكتابة، مثل غياب المتكلّم وغياب وعيه، تغني المعنى، ويتقدم بفكرته المناقضة للموروث الميتافيزيقي وهي بدل تصوّر الكتابة على أنها مشتق طفيلي من الكلام، فإنّ الأمر الأكثر صواباً هو اعتبار الكلام مشتق من الكتابة، هنا يفترض دريدا وجود نموذج بدئي للكتابة تفرضه الضرورة. فالكتابة تقليد قديم يعبر عنه بصور حسية مرئية وصورية، ولا يمكن أن تخلو الطبيعة من ممارسة كتابة من نوع ما.

    ظهر اهتمام دريدا بهذا الموضوع في خضمّ العناية الحديثة بموضوع الكتابة وأصولها ووظائفها. وكان تودروف ذهب إلى أنّ لمصطلح الكتابة معنيين. فالمعنى المباشر، والضيّق يقصد منه «النظام المنقوش للغة المدوَّنة». أما الدلالة العامة فهي تحيل على «كل نظام مكاني ودلالي مرئي»(19). وهنا يتضح أنّ الدلالة العامة لا تقرن الكتابة أبداً بموضوع نقش اللغة أو تدوينها. إنها توسع الأفق الدلالي للمصطلح، فيشمل نظم التعبير المرئية باعتبار أنّ الكلام متصل بحاسة السمع، فيما الكتابة متصلة بحاسة البصر. فإذا أخذ هذا المعنى، فإن كل «أثر» مادي غير لفظي يندرج ضمن مفهوم الكتابة، ولا يخفى أنّ مفهوم «الأثر» له أهمية كبيرة في فكر دريدا. ولم يتردد في فهم موضوع الكتابة طبقاً لدلالته العامة، فدمج بسبب ذلك كثيراً من المعطيات المرئية والصورية الملازمة للإنسان في الطبيعة فجعل منها كتابة أولية تسبق الكلام لأنها تنتج نظاماً تعبيرياً لا يقوم في أسسه على الصوت. وينبغي التفريق بين الكلام واللغة والكتابة، وأن لا تصادر اللغة من أيٍّ من الكلام أو الكتابة، بوصفها نظاماً تعبيرياً دالاً بغضّ النظر عما إذا كانت تستعين بالكلام أو الكتابة. كان جوناثان كلر عرّف الكتابة بأنها الوسيلة التي تقدّم اللغة بوصفها سلسلة من العلامات المرئية التي تعمل في غياب المتكلّم(20). فهي على نقيض الكلام تتجسد عبر نظام مادي - مرئي من العلامات، فالكتابة لا تفترض حضوراً مباشراً للمتكلم، لأنّ العلامات المرئية المشكّلة على الورق أو غيره تختلف عن الأصوات المتناثرة في الهواء في أثناء التكلّم، فالأخيرة تختفي بانتهاء الحديث، ولا تمتلك خاصية البقاء إن لم تسجّل، وكل خصائص الديمومة والبقاء لصيقة الكتابة.

    عبّر الفلاسفة عن كرههم للكتابة بسبب خشيتهم من قوتها في تدمير الحقيقة الفلسفية التي يرون أنها حقيقة نفسية خالصة وشفافة، ولا يعبر عنها إلاّ بالحديث الذاتي أو الحديث المباشر مع الآخرين، ولما كانت الكتابة لا تذعن لهذا التصور. فهي تجسد الحقيقة بصورة مرئية، فقد ظهر وكأنها تختزلها إلى مرتبة أقل سموّاً مما هي عليه في النفس، ذهب تصوّر الفلسفة إلى أنّ تدوين «الحقيقة» بالكتابة هو تدنيس لها. وكان سقراط يرفض رفضاً باتاً - كما يروى عنه - أن تدوّن فلسفته، لأن الحقيقة فيها لا يمكن أن يحتويها جلد أو حجر بدل النفس الزكية الطاهرة، وجاراه أفلاطون في اعتبارها بمثابة دواء له من الضرر على الذاكرة أكثر مما له من الفائدة لأنه يقود إلى النسيان، وهو موضوع عالجناه بكثير من التفصيل في الكتاب الأول، ومن المفيد الوقوف على العلاقة الملتبسة بين الكلام والكتابة لدى نخبة من المفكرين الغربييّن، قبل المضي في نقد دريدا، لأنه على أساس تفكيك نظم التمركز حول الكلام لديهم تقدم هو بمشروعه المضاد، ولما كان دريدا نفسه قد اختار أفلاطون وروسو ودي سوسير بوصفهم نماذج تجلّت لديهم تلك الإشكالية، فمن اللازم الوقوف عليهم هم. لأنهم مدار البحث والنقد معاً.

    يرى أفلاطون في محاورة «فايدروس»(21) أنّ الكتابة تمارس خطراً على الذاكرة، فهي آفة لا يطمئن إليها، شأنها في ذلك شأن كل الآفات التي ينبغي الحذر منها، فإذا كان ثمة خطر يداهم الذاكرة فمصدره الكتابة، وعلى النقيض من ذلك، إذا كان ثمة سبب ينشط الذاكرة ويقوّيها ويجعلها أكثر اتّقاداً في الاحتفاظ بالحقيقة فهو الكلام، ويُرجع ذلك التناقض بين وظيفة كل من الكتابة والكلام إلى كون الأولى غريبة عن النفس، فهي شيء طارئ وخارجي ومجرد اصطلاح تقني، فيما الكلام صادر عن النفس ذاتها باعتبارها مستوطنته الأصلية، فقدرته على التعبير عن الحقيقة، مبنية على قربه من مصدر الحقيقة. وبذلك فهو يحمل طابع الحيوية الذي تتصف به النفس، أما الكتابة فهي وسيلة جامدة وميتة، ولاتصافهما بصفتي الحياة والموت، فإنّ الكلام له القدرة على التواصل مع الآخرين، والتعبير عما في النفس من حقائق لأن الحياة حاضرة فيه ومنبثة في تضاعيفه، فيما الكتابة آلة ميتة ومنقطعة عن النفس. الكلام وحده القادر على تداول الحقيقة والتفاعل معها، أما الكتابة فعاجزة عن كل هذا لأسباب كامنة فيها، أنها شيء لا حياة فيه. وبهذا فهي عاجزة عن الإفصاح عمّا تدّعي حمله، وتنطوي عليه، في حين أنّ الكلام هو وسيلة الإفصاح عمّا يريد الإفصاح عنه، إلى ذلك، فإنّ الكتابة تثبّت وضعاً جامداً للمعنى لأنها تقوم بذلك بمعزل عن النسق الحيوي الذي يفترضه الكلام المعبّر عن الحقيقة والذي يلزم حضور المتكلمين: المتحدّث والمتلقي، فضلاً عن ذلك فالكتابة بسبب قصورها أشبه بكائن أعمى، غير قادرة على التعرُّف إلى من توجه الحقيقة التي ينبغي أساساً أن تصدر عن نفس طاهرة، وتتجه إلى نفس مثيلة. أنّ الكتابة لا تراعي المقام ولا تؤكد على المقاصد، وتفتقر إلى البراهين الآنية والمتجددة التي يقتضيها سياق تداول الحقائق، إنها بالإجمال شيء ميت وجامد «غير إنساني» وهي تقارب ما تهدف إليه بطريقة خاطئة، لأنها تريد أن تظهر بطريقة متعسفة وقاصرة ما يوجد داخل العقل والنفس إلى الخارج دون الأخذ بالاعتبار أن ما تريد إخراجه لا يمكن يكون إلاّ في داخل العقل والنفس.

    النتيجة التي يرتبها أفلاطون على عجز الكتابة الدائم، هو أنها تتطفل على ميدان هو من اختصاص الكلام. وبذلك فمهما ادعت من قوة، فهي في المطاف الأخير محاكاة ميتة للفعل الكلامي الذي يتضمن حيوية خاصة. حيوية النفس المنطوية على الحقيقة السامية. والخلاصة التي يخلص إليها أفلاطون بصدد المقارنة/المفاضلة بين الكلام والكتابة هي: أنه إذا أمكن أن تقوم مقارنة بين الاثنين، فإنّ نتيجتها لا تختلف عن كل النتائج التي تقوم حينما تقارن بين شيء حي وشيء ميت. وفي ضوء هذه الخلاصة يقيم دريدا نقده للتصور الأفلاطوني، فيظهر أنّ أفلاطون أوجد تعارضاً لا مصالحة فيه بين الكتابة و«اللوغوس». تعارض دائم يماثل التعارض بين الشيء الظاهري والحقيقة الباطنية، وينبغي الحذر من الكتابة لأنها تخرّب النفوس، كما يخرّبها السفسطائيون. وهنا يقيم أفلاطون مقابلة بين ذاكرتين متصلتين بالكلام والكتابة. ذاكرة حسنة وذاكرة قبيحة، الذاكرة الأولى هي الذاكرة الحيّة لأنها تستمد نسغها من الداخل، من «اللوغوس» وشرعيتها متأتية من أنها تندرج في علاقة حضور مباشر مع الذات، وهذه الذاكرة تقع في تعارض مع ذاكرة خارجية ميتة، تحاكي المعرفة المطلقة، وتأخذ اسم الكتابة، ومن الأفضل الاستغناء عن هذه الذاكرة/الكتابة وعدم اللجوء إلى هذا(الفارماكون) الذي هو دواء في الظاهر، لكنه داء في الحقيقة، خطره يأتي من أنه سيؤدي إلى تعطيل فاعلية الكلام، وبذلك يقضي على الذاكرة الحسنة، ذاكرة الذات نفسها، لأنه يحجر على الذاكرة، ويسبب النسيان، فالكتابة إذن لا تحرك إلاّ الشر ولا تثير غيره(22). ويفهم تمييز دريدا بين الذاكرتين اللتين استخلصهما من خطاب أفلاطون استناداً إلى تصور أفلاطون أنّ «اللوغوس» باعتباره موطن الحقيقة ومصدرها وجامعها ما هو إلاّ «التعبير الشفهي الواضح عن الفكر بالأصوات المركبة من أفعال وأسماء بحيث يعكس هذا الإرسال الصوتي الفكر كما لو كان صورة منعكسة له في مرآة أو على صفحة الماء»(23).

    اطّرد التصور الأفلاطوني في ثنايا الفكر الغربي، ووجد له تعبيراً واضحاً في منظور روسو الذي ميّز بين نوعين من الكتابة: الكتابة الحسنة والكتابة القبيحة، فالأولى تتصل بعلم النفس الإلهي وتتصل بالروح والعقل، وهي كتابة بالمعنى المجازي، لأنها «القانون الطبيعي الذي ما زال منقوشاً على قلب الإنسان بأحرف لا تمّحى فمن هنا يقوم بالنداء عليه» هذه الكتابة عند روسو مقدسة. أما الثانية فهي الكتابة التمثيلية، وهي كتابة ساقطة وثانوية ومدانة حـسب منظور روسو(24). تترتب رؤية روسو الموضوع الكلام والكتابة ضمن تصوره الطبيعي القائل بأنّ أفضل شيء هو ما يساير نظام الطبيعة ويوافقه. وفيما يخص هذا الموضوع، يميّز روسو بين ثلاث درجات من التعبير هي على التعاقب: التعبير بالإشارة والتعبير بالكلام والتعبير بالكتابة، ويذهب إلى أنّ «أبلغ اللغات هي تلك التي الإشارة فيها قد قالت كل شيء قبل الكلام»(25). فالإشارة تزيد من دقة المحاكاة، أما الصوت فيقتصر دوره على إثارة الإهتمام، والحاجة هي أملتْ أول إشارة، أما الأهواء والعواطف فهي التي انتزعت أول صوت، ولهذا كانت اللغة المجازية أول ما تولّد، أما الدلالة الحقيقية فكانت آخر ما اهتُدي إليه، ومن ثمّ فإنّ الأشياء لم تُسمَّ باسمها الحقيقي إلاّ عندما تمت رؤيتها في شكلها الحقيقي، لم يتكلّم الناس إلاّ شعراً، ولم يخطر ببالهم أن يفكروا إلاّ بعد زمن طويل(26).

    يهتدي روسو في هذه النقطة بأرسطو في تأكيده الشائع: إنّ الأولين كانوا يقررون الاعتقادات في النفوس بالتخيّل الشعري(27). ويمضي روسو في تفصيل هذه الفكرة مؤكداً أنه بقدر ما تنمو الحاجات، وتتعقّد الأعمال، بقدر ما تغيّر اللغة من طابعها، فتصبح أشد معقولية، وأقل عاطفية، وتعوّض المشاعر الأفكار، وتكف عن مخاطبة العقل، ومن ثمّ بالذات تنطفئ النبرة وتتعدد المقاطع، فتصير اللغة أشد ضبطاً ووضوحاً، ولكنَّها تصير أيضاً أفتر، وأصم وأبرد، ومع أنّ روسو يقول: «لا يتبع من الكتابة فن الكلام» إلاّ أنّ الكتابة وظيفياً تقوم بمهمة تتصل بالكلام، وهنا يفصح روسو عن وجهة نظره بالصورة الآتية: «إنّ الكتابة التي يبدو من مهامها تثبيت اللغة، هي عينها التي تغيّرها، فهي لا تغيّر الكلمات بل عبقريتها، أنها تعوّض التعبير بالدقة، فالمرء يؤدي مشاعره عندما يتكلّم وأفكاره عندما يكتب، فهو ملزم عند الكتابة بأن يحمل كل الألفاظ على معناها العام، ولكن الذي يتكلّم ينوّع من الدلالات بواسطة النبرات، ويعيّنها مثلما يحلو له، فما هو بمكتفٍ من تقلّص ما كان يعوقه عن وضوح العبارة، بل زاد ما يعطي متانتها، ولا يمكن للغة نكتبها قط أن تحتفظ طويلاً بحيوية تلك التي نتكلمها فقط، وإنما يكتب المرء التصويتات لا النغم غير أنّ النغم والنبرات ومختلف انعطافات الصوت في اللغة ذات النبر، هي التي تمنح التعبير أقصى ما له من الطاقة. وهي التي تقدر على تحويل الجملة من جملة شائعة الاستعمال إلى جملة لا تستقيم في غير الموضوع الذي هي فيه، أما الأسباب التي تتخذ للتعويض عن ذلك، فما هي إلاّ توسيع من مجال اللغة المكتوبة، وتمديد لها، وهي بانتقالها من الكتب إلى الخطاب تُشنّج الكلام عينه، إذا المرء أضحى كل شيء يقوله كما لو كان يكتبه، لم يغدُ إلاّ قارئاً يتكلم»(2 تؤدي اللغة عند روسو وظيفة «الرسم»، وبسبب الاختلافات تظهر ثلاثة

    أساليب للكتابة:

    الأسلوب الأول: يكون رسم الأشياء نفسها رسماً مباشراً مثلما يفعل المكسيكيون، أو رسماً غير مباشر كان يفعل المصريون قديماً، وتوافق هذه الحالة زمن اللغة العاطفية، وهي تفترض أنّ المجتمع وُجد بعدُ، كما تفترض أنّ الأهواء ولدت بعد بعض الحاجات.

    الأسلوب الثاني: يكون بتمثيل القضايا بأحرف اصطلاحية، وهو ما لا يمكن إنجازه إلاّ عندما يبلغ تكوين اللغة كماله، وعندما يتحدّث شعب برمته في ظل قوانين مشتركة: فقد توفّر بعدها هنا اصطلاح مضاعف: ذلك شأن الكتابة الصينيّة، وذلك هو بحق رسم الأصوات ومخاطبة العيون.

    الأسلوب الثالث: ويكون بتقطيع الصوت المتكلّم إلى عدد معين من الأجزاء الأساسية التصويتية أو التمفصلية، بحيث يمكن استخدامها في تركيب كل ما يمكن تخيّله من الكلمات والمقاطع. إنّ هذا الأسلوب هو أسلوبنا(الأسلوب الأوربي)، لا بد أنه قد تخيلته شعوب تشتغل بالتجارة، اضطرها كونها تسافر إلى عديد البلدان، وكونها ملزمة بالتكلّم بعدة لغات، إلى اختراع أحرف تكون مشتركة بين كل اللغات، ليس هذا رسماً للكلام، بل تقطيع له. وينتهي روسو إلى إقرار فكرة التمركز التي أشاعها منهج الوحدة والاستمرارية القائلة بأنّ اللغات تعبر عن طبائع الشعوب وأبنيتها الفكرية وهي «إنّ هذه الأساليب الثلاثة في الكتابة، توافق بمقدار من الدقة مختلف الحالات الثلاثة التي يمكن أن نعتبر عليها الأفراد المجتمعين ضمن أمة، فرسم الأشياء يناسب الشعوب المتوحشة، وعلامات الألفاظ والقضايا تناسب الشعوب الهمجية، والأبجدية تناسب الشعوب المدنية»(29).

    يقدّم روسو معطيات شاملة لدريدا، معطيات يشكّل وجهها الأول تأكيداً لما يريد دريدا إثباته، وهو وجود كتابة بدئية، ويشكّل وجهها الآخر مُستنداً حول المفاضلة بين الكلام والكتابة، والميل إلى الإعلاء من شأن الكلام، فمن الجهة الأولى يفضي بحث روسو إلى تأكيد «رسم» الأشياء نفسها. ورسم الأشياء هنا معناه إدراج الأشياء في سلسلة من الأشكال المرئية التي تحاكي تلك الأشكال لأنها تقوم على محاولة نسخها، وذلك قبل أن يكتشف الإنسان أمر التعبير عن تلك الأشياء بالألفاظ. ومن جهة أخرى، فإنّ المسخ الذي تمارسه الكتابة بحق الكلام، بوصفها مقيدة للألفاظ، يفقد الكلام الدفء والحرارة والمباشرة، لأنها تخضعه لنظام صارم دقيق يقصي احتمالات التنوع الدلالي الذي يفرضه سياق الكلام وحال المتكلّم، وكل هذه السمات الحيوية ستقوم الكتابة بطمسها وإقصائها، ولا يظلّ من الكلام إلاّ جانبه الأقل أهمية ذلك الذي يقرر الأشياء مباشرة بعيداً عن تموجات المقاصد الاحتمالية، إنّ الكتابة هنا تمارس قهراً بحق غزارة الكلام وتدفقاته الذاتية ونبراته المعبرة.

    هذا الأمر يستخدمه دريدا دليلاً على أنّ روسو ما زال ممتثلاً للتصور الأفلاطوني باعتبار أنّ الكتابة سياق غريب يقتحم، ويسبب ضرراً بالغاً لسياق وجد أصلاً للتعبير عن الحقيقة، وهو الكلام. ولكنّ «بول دي مان» يرى أنّ قراءة دريدا لروسو ملتبسة، لأنها قراءة احتجبت وراء شرّاح روسو، ولم تفلح في الوصول إلى روسو الحقيقي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ إدارج روسو، بوصفه أحد تجليات الفهم الشائع في الفكر الغربي لأفضلية الكلام على الكتابة، لا يخلو من نوع من التعسف، وحجة «دي مان» إنّ دريدا كان أنشأ هيكل فكرته حول التمركز سواء كان عقلياً أو صوتياً مع الأخذ بالاعتبار العلاقة بينهما، ثم أخذ روسو، فأدخله ضمن خلايا ذلك الهيكل، بنوع من عدم التبصّر، إنما بإيحاءات الشرّاح، وقراءة دريدا لروسو تختلف اختلافاً جذرياً عن التأويل التقليدي، كما يقرر دي مان، فإيمان روسو الرديء باللغة الأدبية، وهو سلوك يعتمده لشجب الكتابة على أنها إدمان خاطئ، هو عند دريدا ترجمة شخصيّة لمشكلة أكبر بكثير، بحيث لا يمكن ردّها إلى أسباب نفسيّة، ففي علاقة روسو بالكتابة، لم يكن محكوماً بحاجاته ورغباته، بل بتقليد يسيطر على الفكر الغربي كله، وهو مفهوم السلبيّة(اللاوجود)بوصفه غياباً، وبالتالي إمكان تملك أو إعادة تملّك الوجود(بصورة حقيقية أو مصداقية أو طبيعية...الخ) بوصفه حضوراً، وهذا الافتراض الوجودي يشترط ويعتمد أيضاً على مفهوم معين للغة يفضّل اللغة الشفاهية أو الصوت، على اللغة المكتوبة أو الكتابة، من خلال مفهومي الحضور والمسافة: حضور الذات البديهي المباشر أمام صوتها الخاص، في مقابل المسافة التأملية التي تفصل الذات عن الكلمة المكتوبة، روسو إذن، حلقة في سلسلة تختتم الحقبة التاريخية للميتافيزيقيا الغربية، لذلك فإنّ موقفه من اللغة لا يتميز بخصوصية نفسية، بل يمثل مقدمة فلسفية جذرية ونموذجية في هذا الفكر، ويتناول دريدا روسو جذرياً بوصفه مفكراً، ولا يستبعد أياً من تعبيراته، فإذا تعرّض روسو لتهمة، أو بدا إنه تعرض لها، فذلك لأن كامل الفلسفة الغربية تتسم بإمكان اتهام ذاتها من خلال أنطولوجيا الحضور، ويكفي هذا لاستبعاد أية فكرة عن التفوّق من جانب دريدا، في الأقل بالمعنى الشخصي للكلمة. إنّ تأكيد روسو أسبقية الصوت على الكلمة المكتوبة، وتمسكه بأسطورة البراءة الأصلية، وتفضيله الحضور المباشر على التأمل، كل هذه الحقائق تمكِّن دريدا أن يستمدها بصورة مشروعة من تراث طويل لمؤوّلي روسو(30).

    يقوم دي مان بتفكيك خطاب دريدا حول روسو، متوصلاً إلى أنّ مصطلحاته التي استعملها في تفكيك قضية الحضور الصوتي عند روسو، وعلاقتها بالمعنى الضمني، لم تستطع أن تتقدم خطوة إلى الأمام في إضاءة هذا الموضوع، لأن بناء نص روسو من خلال نظام الحضور ـ الغياب يترك النظام الإداركي للمعرفة المقصودة في مقابل المعرفة السلبية بلا حلّ، ويقسمه بينهما بالتساوي، فجهاز دريدا الاصطلاحي المستعمل في نقده لروسو، بما يشوبه من ارتباك، لا يفلح في تجاوز تناقضاته، إن لم يستترْ بها، الأمر الذي أدى إلى أنّ دريدا في نظرته للكتابة، يماثل روسو في مفهومه عن الطبيعة المجازية للغة الانفعال، فكلاهما يقول الشيء ذاته، ويعزو دي مان ذلك الخطأ الذي وقع فيه دريدا إلى واحد من سببين: فأمّا إساءة قراءة روسو فعلاً، لأنه قاربه عبر مؤوّليه، الأمر الذي يعني أن تلك القراءة كانت تنصبّ على أولئك المؤوّلين أكثر مما تتجه إلى روسو، أو لأنه وقع في إساءة قراءة من نوع أخر، هي إساءة قراءة متعمّدة غايتها بيان بلاغته هو(31).

    فيما يخص دي سوسير فإنّ دريدا يعتقد أنه جارى أفلاطون وروسو في فهمه للكتابة وفي الحكم عليها، فقد اعتبرها قاصرة ومشتقة، فاللغة والكتابة هما نسقان لعلامات متباينة، والمبرر الوحيد لوجود الثانية هو تمثيل الأولى(32). والحقيقة فإن سوسير يذهب فعلاً إلى التمييز بين نظامين متباينين من أنظمة الدلائل وهما اللغة والكتابة، «وانه لا مبرر لوجود الكتابة سوى تمثيل اللغة، ذلك أنّ موضوع الألسنية لا يتحدد في كونه نتيجة الجمع بين صورة الكلمة مكتوبة وصورتها منطوقة، بل ينحصر هذا الموضوع في الكلمة المنطوقة فقط، لأن الكلمة المكتوبة ما هي إلاّ صورة الكلمة المنطوقة، تمتزج وإياها امتزاجاً عميقاً ينتهي بها إلى اغتصاب الدور الأساسي حتى أنّ الأمر يؤول بالناس إلى أن يعيروا صورة الدليل الصوتي في الخط أهمية تساوي، بل تفوق، أهمية الدليل نفسه. ومثلهم في ذلك كمثل المرء يريد معرفة أحد الأشخاص فيتصوّر أن أفضل طريقة هي أن ينظر إلى صورته الفوتغرافية بدل النظر إلى وجهه»(33). وينتهي إلى تثبيت النتيجة الآتية: «إنّ الكتابة تقيم بيننا وبين اللغة حجاباً يمنعنا من رؤيتها كما هي، وذلك أنّ الكتابة ليست ثوباً عادياً تلبسه اللغة بل قناع/خدّاع تتنـكّر فيه»(34).

    تبدو حالة دي سوسير قريبة الشبه من حالة روسو في بعض الوجوه، فكما أنّ دريدا عثر في خطاب روسو على تأصيل لفكرته بصدد الكتابة البدئية وعلى ممارسة متمركزة حول الكلام، فإنه في حالة سوسير يجد شيئاً يمكن الإفادة منه على مستويين، فمن جهة أولى وجد دريدا في سوسير ناقداً قوياً لميتافيزيقيا الحضور التي عبرت عن نفسها من خلال قضية التمركز حول العقل، ولكنه، من جهة ثانية وجد أن سوسير يؤكد هذه النزعة في خطابه، بل انه يرتب رؤيته ضمن أطرها العامة. فسوسير - فيما يخص الوجه الأول - يعرف اللغة بأنها نظام رمزي، والأصوات لا تعدّ لغة إلاّ إذا نقلت الأفكار أو عبرت عنها، ومعنى هذا أنّ المسألة الجوهرية عنده هي طبيعية الرمز اللغوي، ما الذي يعطي الرمز هويته؟ وهنا يبرهن سوسير أنّ الرموز تعسفية العُرف، فالرمز لا تحدده صفة جوهرية فيه بل الاختلافات التي تميِّزه عن سواه من الرموز، وعلى هذا فالرمز وحدة علائقية خالصة، واللغة ليس فيها صفات قائمة بذاتها بل اختلافات فقط، وهذا مبدأ يختلف تمام الاختلاف عن التصور الذي تقول به الميتافيزيقيا سواء في أمر التمركز حول العقل أو الحضور. لأنه ليس ثمة من كلمات في النظام لها حضور بسيط مكتمل، بسبب أن الاختلافات لا يمكن أن تكون حاضرة، كما أنّ ظهور الهوية يتحدد من خلال الغياب وليس الحضور، وهذا يعني أنّ الهوية هي حجر الزاوية في أية ميتافيزيقيا خالصة. لكنّ فكرة سوسير هذه، كما يستنتج دريدا، هي – وهذا ما يخص الوجه الثاني – في الوقت نفسه تأكيد قوي لنزعة التمركز حول العقل، ويتجلى ذلك من معالجة سوسير لموضوع الكتابة التي يعطيها مكانة ثانوية بالمقارنة مع الكلام، ويجعلها تستمد هذه المكانة من غيرها، فهدف التحليل اللغوي عنده ليس الأشكال المكتوبة والمنطوقة من الكلمات، بل الأشكال المنطوقة فقط، فما الكتابة إلاّ وسيلة لتمثيل الكلام، وسيلة تقنية، واسطة خارجية، ولهذا فلا حاجة لأخذها بنظر الاعتبار عند دراسة اللغة، وقد تبدو هذه واسطة غير مباشرة لتمثيل المعاني في أصوات، فالمتكلم والمستمع حاضران كل منهما للآخر، وتنطلق الكلمات من المتكلِّم باعتبارها رموزاً عفوية وشفافة في التعبير عن الفكرة التي يمكن للمستمع أن يفهمها. أما الكتابة فتتكون من علامات مادية منفصلة عن الفكر الذي أنتجها، وهي في العادة تؤدي وظيفتها في غياب المتكلم أوالمستمع، الكتابة حسب التصور الموروث ليس لها القدرة المؤكدة على استكشاف أفكار الكاتب، وهي يمكن أن تظهر غفلاً من اسم مؤلفها، أو غفلاً من أي علاقة أخرى، ولذا فإنها لا تبدو مجرد وسيلة من وسائل تمثيل الكلام، بل تبدو تشويهاً أو تحريفاً للكلام. يظهر أن سوسير لم يخف انزعاجه من الخطر الذي تمارسه الكتابة بحقِّ الكلام، أشار إلى أنّ الكتابة تخفي اللغة، أو تحجبها، وأحياناً تغتصب دور الكلام، و«طغيان الكتابة» قوي ومدّمر فهو يؤدي إلى أخطاء في التلفظ يمكن وصفها بالمرضية، وهذا يعني أنها تمارس إفساداً في الأشكال المحكية الطبيعية. الكتابة التي يفترض أن تكون وسيلة لخدمة الكلام، تهدد بتلويث صفاء النظام الذي تخدمه(35).

    توصل دريدا إلى استخلاص هذه النتائج، وتبيّن له أن الفكر الغربي عموماً أسس علاقة غير متكافئة بين الكلام والكتابة، علاقة محكومة بالعنف، ففيما يتقدم الكلام، ويمنح شرعية مطلقة في التعبير عن الحقيقة، تقصى الكتابة إلى الخلف، وتعتبر نوعاً من «الترياق» الذي لا يؤتمن جانبه تماماً، وفيما أكَّد موروث الميتافيزيقيا على جعل الكتابة تابعة للكلام، ومكملة له، ذهب دريدا إلى أنها موازية له؛ بل وسابقة عليه. فالكتابة تتجاوز النطق لأنها تتولد عن النص، وإذا أخذ بالاعتبار واقع العلاقة الحقيقية بين الكتابة واللغة، تظهر أسبقية الأولى، لأنها تستوعب اللغة فتظهر بوصفها خلفية لها بدلاً من كونها إفصاحاً ثانوياً متأخراً، وطبقاً لهذه العلاقة، لا تعد الكتابة وعاء لشحن وحدات معدة سلفاً، إنما هي صيغة لإنتاج هذه الوحدات وابتكارها. وهنا يظهر نوعان من الكتابة: كتابة تتكئ على الـ "Logocentrism" وهي تستخدم الكلمة بوصفها أداة صوتية أبجدية خطية، وهدفها توصيل الكلمة المنطوقة. وكتابة تعتمد على الـ "Grammatology" وهي الكتابة التي تعد بمثابة النظام الذي يؤسس العملية الأولية التي تنتج اللغة، الكتابة بهذا المعنى ضد النطق، وفيها تتجلى عدمية الصوت، وليس للوجود أن يتولد عندئذٍ من الكتابة، هذا الضرب من الكتابة هو ولوج إلى لغة «الاختلاف»، وانبثاق من الصمت، ونوع من انفجار السكون(36).

    يوظف دريدا امكاناته لتنظيم عمل «الغراماتولوجيا - علم الكتابة» سعياً وراء منح الكتابة دوراً جديداً وخلاقاً، فهو يرى أنّ الكتابة هي أصل كل الأنشطة الثقافية(37) وعلى هذا فإنّ فعل الكتابة غير مرتبط بغائية قبلية، إنما هو يوقظ معنى تلك الغائية، أنه انقطاع عن وسط التاريخ التجريبي وصولاً إلى تحقيق وفاق مع الجوهر المغيّب للتجريبية والتاريخية المجردة. أنه ليس رغبة محض، فذلك الفعل لا يتحدد بعاطفة بل بحرية وواجب. فعالية الكتابة في علاقتها بالوجود تطمح إلى أن تكون الممر الوحيد لإقصاء العاطفة، على الرغم من المخاطر المحتملة بسبب عملية الإقصاء هذه التي قد يكون لها تأثير مباشر في الإنسان. الكتابة ستكون وسيلة يحقق بها الإنسان تناهيه وغايته حين يريد الانفصال عما هو موجود(3. دريدا يؤكد أنه لا يمكن الاستغناء عن الكتابة تحت أي ظرف، ذلك أنه لا يمكن تصور وجود مجتمع دون كتابة.

    يظهر «علم الكتابة» الذي يدعو إليه دريدا، على خلفية من نشاط البحث اللساني - السيمائي. وهو يطمح إلى أن تحل «الغراماتولوجيا» محل «السيميولوجيا» التي طرحها سوسير، لأن الأخيرة تتضمن شحنة من التمركز الموروث. فيما هو يريد من «علم الكتابة» أن يتجاوز هذه النزعة، ويتحرر من استراتيجية الأحكام الاقصائية التي تغلغلت في السيميولوجيا، وذلك باستخدام مفهوم «الأثر» بدل مفهوم «العلامة». ومن هنا فهو لا يريد أن يسبغ على «علم الكتابة» أية مسحة علمية موضوعية وصفية، ومع أنّ هذا المفهوم سيوظف في تفكيك المفاهيم المعيارية للغة المنطق، لكن دريدا يطمح في أن يوظفه في تقيد المفاهيم المعيارية للحقيقة، وفي تجريد المتيافيزيقيا من وسائلها، وفي مقدمة ذلك المقولات الشائعة والموروثة عن الحقيقة الكامنة في الخطاب الفلسفي الذي يشرحها، وبما أنّ المرجع مقرر سلفاً بالنسبة للحقيقة فإنه ينبغي أن يظهر في هذا المفهوم على أنه اختلاف متواصل للدوال. وهنا يقدم «علم الكتابة» أولى فروضه الجديدة وهي عدم وجود شيء قبل اللغة أو بعدها، فالمفاهيم الميتافيزيقية مثل الحقيقة والعقل إنما هي من نتاج المجاز والاستعارة، وهذه الخلاصة توافق ما كان نتشه قد قرره من أن الحقيقة وهم(39). وعلى هذا فإنّ الكتابة بالنسبة لدريدا تقود إلى مزيد من الكتابة إلى ما لا نهاية(40).
    يطمح مفهوم «علم الكتابة» كما يمارس في منهجية التفكيك، أن ينجز مهمة استئناف النظر مجدداً في دور الكتابة طبقاً لنظرة جديدة مغايرة لما كان شائعاً من قبل، ذلك أنّ الميتافيزيقيا الغربية طمست أهمية الكتابة، وأعادت بناء التصور حولها بما يجعلها غطاء للكلام المنطوق فحسب، فيما يريد دريدا لها أن تكون كياناً خاصاً ومتميزاً، فلا يمكن لها أن تظل حبيسة علاقة تبعية قررتها الميتافيزيقيا. فهي في مفهومها الجديد لا تعيد إنتاج واقع خارج عنها، ولا تختزله، وفي ضوء هذا يمكن التعامل معها بوصفها علة في ظهور واقع جديد إلى الوجود(41). يعطي دريدا للكتابة الخصائص الثلاث الآتية:

    1. الإشارة المكتوبة هي علامة يمكن تكرارها ليس فقط بغياب الذات التي تطلقها في سياق معين، بل أيضاً لمتلق معين.

    2. الإشارة المكتوبة يمكن أن تخترق «سياقها الواقعي» وأن تُقرأ في سياق مختلف بغض النظر عمّا نواه كاتبها منها. ويمكن لخطاب في سياق آخر أن «يطعّم» بسلسلة من الإشارات. كما هو الأمر في حالة التضمين.

    3. الإشارة المكتوبة عرضة للانزواء بمعنيين: الأول أنها منفصلة عن بقية الإشارات في سلسلة معينة، والثاني، أنها منفصلة عن «الإحالة الحاضرة» أي أنها تشير إلى شيء لا يمكن أن يكون حاضراً فيها واقعياً(42).

    بدأ مشروع دريدا النقدي ضد المركزية من دعوة الاختلاف لأنه وجد أنّ الفكر الغربي يقول دائماً بالمماثلة، ثم كشف أنّ المماثلة، إنما هي من نتاج الميتافيزيقيا التي أقصت كل شيء إلاّ ما يتصل بالعقل، فتمركزت الرؤى والتصورات حول هذه الركيزة - المفهوم، وحينما حفر في ظروف نشأة التمركز العقلي وطبيعته، وجد أنّ الأمر تم بناء على تمركز آخر هو التمركز حول الصوت أو الكلام. وهكذا بدت هذه الظواهر متشابكة ومتداخلة، وكل واحدة منها تغذِّي غيرها بالقوة والصلابة. وجاء طرح مفهوم «علم الكتابة» ليمتص شحنة التمركز من بين ثنايا تلك الظواهر. والدعوة إلى خطاب لا تمركز فيه، يكون سبباً أو نتيجة لممارسة خالية من نزعة التمركز.


    [ ملاحظة: هذا هو نص الفصل السادس من كتاب الدكتور عبدالله إبراهيم" المركزية الغربية" الذي صدرت طبعته الأولى عن المركز الثقافي في بيروت عام 1997 وطبعته الثانية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عام 2003]

    الهوامش
    (1) Jacques derrida, writing and difference,(U. S. A: The university of chicago press, 197 , p. 8.
    (2) Vincent Leitch, Deconstructive Criticism(New York: Columbia university Press, 1983) , p. 26.
    Derrida, p. 6.(3)
    (4) Leitch, p. 42.
    (5) Richard Kearny, Modern Movments in European philosophy(Grent Britain, Manchester university press, 1986) p. 121.
    Derrida, p. 28.(6)
    (7) Chrestopher Norris, deconstruction: Theory and practice,(London, New York, Methuen. 1982) p. 18.
    ( مارتن هيدجر، التقنية-الحقيقة -الوجود، ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح(بيروت:المركز الثقافي العربي،
    1995)، ص 204 و 89.
    (9) مارتن هيدغر، مبدأ العلّة، ترجمة نظير جاهل(بيروت:المؤسسة الجامعية، 1991) ص72 و77 و102.
    (10) جون ستروك(=محرر) البنيوية وما بعدها من ليفي شتراوس إلى دريدا، ترجمة محمد عصفور(الكويت: عالم
    المعرفة، 1996)، ص 207 و215.
    (11) سارة كوفمان وروجي لابورت، مدخل إلى فلسفة جاك دريدا، ترجمة إدريس كثير وعز الدين الخطابي(الدار
    البيضاء: دار إفريقيا الشرق، 1991)، ص 14.
    (12) ستروك ص 11.
    (13) Kearny, p. 120.
    (14) رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة سعيد الغانمي(بيروت:المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
    1996) ص 130.
    (15) محمد علي الكردي، مفهوم الكتابة عند جاك دريدا:الكتابة والتفكيك، مجلة فصول(القاهرة:الهيئة المصرية العامة
    للكتاب، ع 2 لسنة 1995)، ص 231.
    (16) وليم راي، المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية، ترجمة يوئيل عزيز يوسف(بغداد:دار المأمون، 198، ص 162.
    Leitch, p. 44.(17)
    (Kearny, p. 122.(1
    (19) Oswald, Todorov, Encyclopedic Dictionary of Sciences of Language(London, Jhon Hopkins university, 1979) p. 193.
    (20) Jonathan Culler, on Deconstruction New York; cornell university press, 1986) p. 19.
    (21) أفلاطون، فايدروس، ترجمة أميرة حلمي مطر(القاهرة: دار الثقافة، 1980)، ص 123 - 128.
    (22) سارة كوفمان وروجي لابورت، ص 18.
    (23) أفلاطون، ثياتيتوس، ترجمة أميرة حلمي مطر(القاهرة:الهيئة المصرية للكتاب، 1973) ص 157.
    (24) سارة كوفمان وروجي لابورت، ص 19.
    (25) جان جاك روسو، محاولة في أصل اللغات، ترجمة محمد محجوب(بغداد:دار الشؤون الثقافية، 1986) ص 29.
    (26) م. ن. ص 35.
    (27) أرسطوطاليس، فن الشعر، ترجمة عبد الرحمن بدوي(بيروت:دار الثقافة، 1973) ص 179.
    (2 روسو ص 44 - 45.
    (29) م. ن. ص 41.
    (30) بول دي مان، العمى والبصيرة، ترجمة سعيد الغانمي(أبو ظبي، المجمع الثقافي، 1995) ص 186.
    (31) م. ن. ص 215.
    (32) سارة كوفمان وروجي لابورت، ص 19.
    (33) فردينان دي سوسير، دروس في الألسنية العامة، تعريب صالح القرمادي، محمد الشاوش، محمد عجينة(طرابلس:
    الدار العربية للكتاب، 1995)، ص 49.
    (34) م. ن. ص 56.
    (35) ستروك ص 221 - 222.
    (36) عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير:من البنيوية إلى التشريحية(جدة:النادي الثقافي، 1985)، ص 53.
    (37) Norris. p. 32.
    (3 عبد الله إبراهيم، التفكيك:الأصول والمقولات(الدار البيضاء:دار عيون، 1990) ص 79.
    (39) Kearny, p. 120.
    (40) Culler, p. 90.
    (41) ترنس هوكز، البنيوية وعلم الإشارة، ترجمة مجيد الماشطة(بغداد:دارالشؤون الثقافية العامة، 1986) ص138.
    (42) رامان سلدن ص 133.
                  

العنوان الكاتب Date
وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 02:45 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 03:20 PM
    Re: وداعا جاك دريدا سجيمان10-09-04, 03:26 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 03:23 PM
  Re: وداعا جاك دريدا Nagat Mohamed Ali10-09-04, 03:48 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 03:49 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 03:51 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 03:55 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 04:00 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 04:04 PM
    Re: وداعا جاك دريدا عشة بت فاطنة10-10-04, 06:39 AM
      Re: وداعا جاك دريدا عشة بت فاطنة10-10-04, 06:50 AM
        Re: وداعا جاك دريدا AttaAli10-10-04, 07:14 AM
          Re: وداعا جاك دريدا Sinnary10-10-04, 08:27 AM
        Re: وداعا جاك دريدا عشة بت فاطنة10-10-04, 10:35 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 03:44 PM
  صبحي حديدي:بين جاك دريدا وتفكيك الزرقاوي osama elkhawad10-11-04, 03:47 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 03:51 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 03:53 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 03:56 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:01 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:03 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:06 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:07 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:10 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:14 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:17 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:19 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:27 PM
    Re: وداعا جاك دريدا Abomihyar10-11-04, 04:33 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:37 PM
  جاك دريدا:الدين في عالمنا osama elkhawad10-11-04, 04:40 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:47 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 05:00 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 05:03 PM
  وداعا جاك دريدا ومفهوم "المغفرة" osama elkhawad10-11-04, 05:08 PM
  نظريات التلقي وتحليل الخطاب ومابعد الحداثة osama elkhawad10-11-04, 05:17 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-12-04, 09:07 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-12-04, 09:09 AM
  محاولة لمقاربة ابن عربي في ضوء ما بعد الحداثة osama elkhawad10-12-04, 09:16 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-12-04, 09:28 AM
    Re: وداعا جاك دريدا malamih10-12-04, 11:18 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-13-04, 08:12 AM
    Re: وداعا جاك دريدا Safa Fagiri10-13-04, 08:53 AM
  وجهة نظر اسلامية حول المعرفة في سياق الحداثة osama elkhawad10-13-04, 10:52 AM
  وجهة نظر اسلامية حول ما بعد الحداثة-نقلا عن "اسلامأونلاين" osama elkhawad10-13-04, 10:58 AM
    Re: وجهة نظر اسلامية حول ما بعد الحداثة-نقلا عن "اسلامأونلاين" تراث10-13-04, 01:29 PM
  عن هابرماس بالعربية osama elkhawad10-13-04, 05:42 PM
  من الحداثة وخطابها السياسي لهابرماس-تحدي الاصولية osama elkhawad10-13-04, 05:55 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 05:58 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:00 AM
  هابرماس ومفهوم التواصل osama elkhawad10-14-04, 06:04 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:17 AM
  هابرماس وبوش osama elkhawad10-14-04, 06:20 AM
  Re: وداعا جاك دريدا Yasir Elsharif10-14-04, 06:29 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:35 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:38 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:43 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:45 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:48 AM
  محاضرة لهايدجر osama elkhawad10-14-04, 07:04 AM
  Re: وداعا جاك دريدا abdalla BABIKER10-14-04, 08:10 AM
  رمضان كريم يا عبدالله osama elkhawad10-14-04, 12:00 PM
  مقالة كانط حول الانوار osama elkhawad10-14-04, 12:04 PM
  فوكو يقارب سؤال "ما هي الأنوار" osama elkhawad10-14-04, 12:08 PM
  هايدجر والاختلاف osama elkhawad10-14-04, 12:21 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 12:26 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 12:38 PM
  هابرماس يجيب عن سؤال "ما هو الارهاب؟" osama elkhawad10-14-04, 12:51 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 12:56 PM
  اكاديمي عربي يحكي عن علاقته بأفكار دريدا osama elkhawad10-14-04, 01:02 PM
  دريدا ونقد الميتافيزيقا الغربية osama elkhawad10-14-04, 01:14 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 03:16 PM
  حقل فوكو "الجزء الاول" osama elkhawad10-14-04, 03:20 PM
  حقل فوكو "الجزء الثاني" osama elkhawad10-14-04, 03:49 PM
  عرض للكتاب الذي سرق منه "الفيا" osama elkhawad10-14-04, 03:58 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 10:55 PM
  المسرح العربي بين الحداثة وما بعدها osama elkhawad10-15-04, 08:36 AM
  الحداثة المنقوصة لهشام جعيط osama elkhawad10-15-04, 08:39 AM
  الحداثة والأزمنة العربية الحديثة osama elkhawad10-15-04, 08:42 AM
  الخلط بين الحداثة و التجدد osama elkhawad10-15-04, 08:46 AM
  رأي اسلامي:الحداثة باعتبارها فتنة وباطلا osama elkhawad10-15-04, 08:53 AM
  حوار مع المغربي بلقريز يتحدث فيه عن الحداثة والتحديث osama elkhawad10-15-04, 08:58 AM
  اعلان موت الحداثة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ osama elkhawad10-15-04, 09:05 AM
  الأسرة" بين الحداثة الغربية.. والرؤية الإسلامية..(1) osama elkhawad10-15-04, 09:10 AM
  الأسرة" بين الحداثة الغربية.. والرؤية الإسلامية...(2 osama elkhawad10-15-04, 09:13 AM
  الحداثة والتباين والغربنة osama elkhawad10-15-04, 02:11 PM
  تناقضات الحداثة العربية و تعريفاتها المختلفة osama elkhawad10-15-04, 02:16 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-15-04, 04:59 PM
  رأي اسلامي:سقوط الحداثة osama elkhawad10-15-04, 05:12 PM
  رأي اسلامي حول الحداثة osama elkhawad10-15-04, 05:31 PM
  في نقد الحداثة الكومبرادورية- محسين الدموس (*) osama elkhawad10-15-04, 05:41 PM
  الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا-الجزء الأول osama elkhawad10-15-04, 05:53 PM
  الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا-الجزء الثاني osama elkhawad10-15-04, 05:59 PM
  الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا-الجزء الثالث osama elkhawad10-15-04, 06:09 PM
  الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّاالجزء الرابع والأخير osama elkhawad10-15-04, 06:15 PM
  رأي اسلامي يرفض العولمة ويربطها بالحداثة وما بعدها osama elkhawad10-15-04, 06:23 PM
  الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة osama elkhawad10-15-04, 07:57 PM
  صبيانية الحداثة وعبثها وربطها بالفساد والجنس والمخدرات osama elkhawad10-15-04, 08:04 PM
  راي حول وجود نماذج للحداثة غير النموذج الغربي osama elkhawad10-15-04, 08:20 PM
  رؤية توفيقية للعلاقة بين الاسلام والحداثةمن كاتب ايراني osama elkhawad10-15-04, 08:37 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de