|
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)
|
وهنا حوار أجراه الناقد السوري المعروف صبحي حديدي مع ادوارد سعيد. وفيه اشارات الى جاك دريدا
صُــحــبـة إدوارد ســــــعـــيــد إدوارد ســـعـيـد: الـحــاجــة الـى الـمـــاركــســـيـة
حـاوره صـبـحـي حـديـدي
* واخر الخمسينات ومعظم الستينات شهدت ما يُعرف بـ "تحرير" العلوم الاجتماعية، لاسيما مع أنثروبولوجيا ليفي ـ ستروس وعلم نفس الشعوب البدائية عند ليفي ـ برول. هل كان لهذه الاتجاهات وما يشبهها تأثير مبكّر عليك؟
- بالطبع. لقد كانت دراستي في اميركا، كطالب جامعي في برنستون ثم مرحلة تحضير الدكتوراه في هارفرد، تقليدية للغاية. لقد تلقّيت تعليماً ممتازاً، وأقصد أنني درست الآداب الانكليزية والفرنسية والايطالية، وآداب الاغريق والرومان، وبعض المسرح، والكثير من الفلسفة، والكثير من الموسيقى. لكن الأمر تمّ بطريقة تقليدية للغاية، وغير نظرية على نطاق واسع. لم أتلق أي درس في النظرية لأن هذه الدروس لم تكن تُعطى، ببساطة.
في هارفرد كنت أحضّر للدكتوراه في الأدب المقارن، وتوجّب أن أقرأ كل شيء. ولم يكن ثمة تركيز على المنهجية، بل على قراءة مادة واسعة. ومهما كانت طبيعة المنهجية التي اكتسبتها، أذكر انني قرأت وأنا طالب في هارفرد كتاب جورج لوكاش "التاريخ والوعي الطبقي" بترجمة كوستاس أكسيلوس الى الفرنسية. وفي العام ذاته، 1958 أو 1959، قرأت ترجمة ستانلي ميتشل الإنكليزية لكتاب لوكاش "الرواية التاريخية"، وحدي في الحالتين. وبالطبع كنت، في تلك الفترة، قد اكتشفت فيكو.
ولقد بتّ نهماً الى نصوص النظرية، التي يمكن أن تخرجني، واعتماداً على نفسي أيضاً، من الدرب الشكلاني أو اللاتاريخي أو اللانظري الذي كنت أسير فيه. كنت أحضّر للامتحانات وأكتب أطروحتي عن كونراد، ولكني لم أتوقف عن البحث عن النظرية. وفي عام 1959 أو 1960، على سبيل المثال، اكتشفت هايدغر وميرلو ـ بونتي، وحدي من جديد.
ثم أنهيت الدكتوراه وغادرت هارفرد في عام 1963 وجئت الى جامعة كولومبيا، وبدأت على الفور أتحسس بعض ما يجري هنا في فرنسا. أولى المحطات كانت لوسيان غولدمان، الذي قادني الى ليفي ـ ستروس، وهذا بدوره قادني الى رولان بارت. وخلال عام 1966 التقيت بهم جميعاً هنا في أميركا خلال مؤتمر ضخم ضمّ جاك دريدا ورولان بارت وجاك لاكان وتزفيتان تودوروف وآخرين. وفي أواسط الستينات كنت قد انخرطت تماماً في أعمالهم، لأنني اكتشفتهم في سياق نوع من "تحرير" الذهن أو التحرر من المناهج الأنغلوـ سكسونية الجامدة، غير النظرية، أو الوضعية، أو ما سمّي آنذاك مقاربة "النقد الجديد" والتي كانت تحت سيطرة ت. س. إليوت الشديدة وتحولت في أميركا الى نوع من العقائدية الجامدة اعتبرتها خانقة.
ذلك التأثّر، في حالتي، استمرّ نحو عقد من الزمن، بين 1963 ومطلع السبعينات حتى كتاب ميشال فوكو "الانضباط والعقاب"، ثم بلغ نهايته. لقد أدركت انني أخذت منهم ما أردت أخذه، لأنني لم أكن ابن مدرسة قط. ولقد اعتدت لقاء دريدا في هذه القاعة بالذات حيث نجلس، وكان يأتي لإلقاء بعض المحاضرات، وكنّا على ودّ تام. ولكن منهجي نهض دائماً على رفض أنظمة الآخرين، وأدركت أن الفرنسيين كانوا يبنون امبراطوريات ويفتشون عن حَوَاريين. لقد عرفتهم جميعاً بصفة شخصية، ولكني أدركت أن دربي مختلف، وانني أسير في اتجاه آخر. وبالطبع، في أواسط الستينيات وعام 1967 تحديداً، بات العالم العربي مهما بالنسبة إليّ، ولم يكن لدى هؤلاء ما يضيفونه لي على ذلك المستوى. وهكذا أسقطتهم من حسابي.
أضف الى ذلك انني لم أكن في يوم من الأيام متأثراً بالفيلسوف الفرنسي ألتوسير، رغم أنني قرأته، بل قرأت كل ما كتبه. لكنه لم يحركني وأدركت، في أواخر الستينات، أن اكتشافي لكتابات أنطونيو غرامشي كان أكثر أهمية عندي، فضلاً عن استمرار اهتمامي بأعمال لوكاش الأولى مثل "نظرية الرواية" و"الروح والأشكال" ومقالاته المبكرة عن المسرح. وأعتقد أن لوكاش شخصية فذّة كبيرة.
*وماذا عن ميشال فوكو؟
- لقد أثار فوكو اهتمامي، وكنت بين أوائل من قرأوا وكتبوا عن غولدمان وليفي ـ ستروس وميرلو ـ بونتي وفوكو فى أميركا. ولكنهم أثاروا اهتمامي حتى نقطة محددة فقط، لأنهم في نهاية الأمر لم يخاطبوا تجربتي. لقد مثّلوا وجهة نظر فرنسية وجدتها مهمة ومخلصة، وثمة ما يتوجب أخذه منها. لكنها لم تكن تأثيراً من النوع الملازم. ولقد فقدت الاهتمام بالفرنسيين، الذين مالوا الى النزعة الاقليمية شيئاً فشيئاً.
* في مطلع مسارك الفكري كنت واحداً من قلّة في أميركا قدّموا، وشدّدوا على، الفلسفة الأوروبية، ودراسات النُظُم المختلطة، والفينومينولوجيا، والبنيوية، وسواها. ولكنك كنت قاسياً على دريدا بصفة محددة. لماذا، وهل تغيّر موقفك بعض الشيء؟
- حسناً، في هذه المسألة كان باعثي على الدوام أمر قد يكون مرتبطاً بواقعة ما، ولكنه يعني الكثير بالنسبة لي:
أولاً: أعتقد أن دريدا رجل لامع تماماً. لقد أحببته، وقامت بيننا صلات شخصية وطيدة. ولكني مع ذلك شعرت بتلك الحالة الطفيفة من انعدام التوازن بين منهج التفكيك ذي الطابع التشكيكي وربما الفوضوي العالي من جهة، وبين اجتهادات التفكيك المنهجية من جهة ثانية. ولقد بدا لي، وعلى نحو محتوم ربما، أنّ ما يلوح كنزعة تشكيك تأملية ونيتشوية هو حالة يسهل تطويعها لملاءمة مختلف المؤسسات: حقيقة أن دريدا أصبح "دريدائياً"، وأن مدرسة كاملة في أميركا تُعرف اليوم باسم "الدريدائيين". وفي المناسبة، أخبرني دريدا نفسه أن شهرته في أميركا تختلف عن شهرته في فرنسا حيث لا يبدون به اهتماماً واسعاً. ولقد بدا لي أن حالة المؤسسة هذه أخذت تفقده حريته في الاستكشاف الدائم.
ثانياً: لقد شعرت، وأذكر انني ناقشت هذه المسألة مع نعوم شومسكي، أن أعمال دريدا تنطوي على الكثير مما يثير البلبلة واطلاق العنان للأهواء بدل المحاولة الجادّة للانخراط سياسياً في بعض قضايا الساعة الكبرى مثل فييتنام أو فلسطين أو الامبريالية. لقد شعرت على الدوام بوجود نوع من المراوغة، فأقلقني ذلك. وحين كنت التقي به، كنّا نتبادل حوارات
مفيدة. لقد زارني في بيتي، ودعوته لإلقاء محاضرات في كولومبيا في أواخر السبعينات. وحين جئت الى باريس لبعض المحاضرات في السوربون، دعاني وعرّفني على زوجته. على المستوى الشخصي كانت الأمور على ما يرام. ولكني شعرت انه بدأ يطوّر حسّ الدفاع عن منطقة وعقيدة جامدة. وكنت أقول في نفسي: ما معنى ذلك؟ اضف إلى ذلك أنني ازددت انغماساً في السياسة، وخيّل إليّ أنه يزداد ابتعاداً عن السياسة.
ثم هنالك الكثير من نفاد الصبر. لقد بدت لي نصوصه أكثر عدداً مما ينبغي، وكانت تدور في نطاق أكثر إفراطاً من أن يكون مفيدا. وأذكر ذات مرّة أن اثنين من طلابي، وكانا من جنوب أفريقيا، كتبا نقداً لقطعة من دريدا حول الأبارتيد. وتناهى إليّ في ما بعد (أما هو فلم يخبرني) أنه اعتقد أنني أحرضهما على الكتابة ضده. وهكذا أخذت هذه البارانويا تقلقني. انه أكبر منّي سنّاً، ولكني لم أنظر الى نفسي كمؤسسة أبداً. أنا لا أعبأ بما يقول الناس عنّي، وهم يذكرونني بقدر من السوء لم يسبق قط أن تعرّض له هو. أعتقد أنه منمّق على نحو مفرط. لقد أحببته، وأنا معجب به، وهو رجل لامع، الى آخره. ولكني، ربما، أجد حالة التعقيد هذه أكثر تعقيداً مما يتوجب أن تكون عليه.
*أما زلت تعتقد أنه كاتب مقالات أكثر منه فيلسوفاً؟
- دونما ريب، ولكني أقصد المديح هنا. نيتشه كان كاتب مقالات، والأمر يعتمد على ما يقصده المرء من كلمة "فيلسوف". لنقل أن تعريفي للفيلسوف يتضمن شخصاً مثل هيغل، الذي لا أحبه ولم يسبق لي أن شعرت بالارتياح مع التراث الهيغلي. غرامشي كان كاتب مقالات، وكذلك تيودور أدورنو. وهكذا فانني أفضّل كاتب المقالات، وأنظر الى نفسي ككاتب مقالات. ولكن ما يقلقني في دريدا هو طابع علاقته بعصره، الأمر الذي كان إشكالياً للغاية في نظري.
* كتابك الأول "جوزيف كونراد و رواية السيرة الذاتية"، الذي صدر عام 1966 وكان في صيغته الأصلية أطروحتك للدكتوراه في هارفرد، كان أول دراسة تتناول العلاقة بين مراسلات كونراد الخاصة ورواياته القصيرة. وأنت في الكتاب تركّز على نقاط ستصبح موضوعات أساسية في نقدك اللاحق للرواية: الهوية، الذات، فينومينولوجيا الوجود، التوترات الديناميكية بين الأمم والكيانات الفردية، النزعة الأوروبية، "الأدبي" في امتداده في المجتمع والتاريخ، الى آخره. هل كان الكتاب خطوة أساسية نحو ذلك النظام المنهجي الذي ستطلق عليه اسم "القراءة الطباقية"؟
- هذا الكتاب، وكتاب "البدايات: القصد والمنهج"، كانا مهمين بمعنى تجريب الصواب والخطأ. لقد كنت بطريقة ما أحاول العثور على أرض مشتركة بين المشكلات الأعمق في التجربة المعيشة، وهي في حالة كونراد مشكلة الهوية، أو بالأحرى غياب الهوية أو انخلاع الهوية المنكسرة، ومشكلة اللغة، والاستمرار. ولقد ركّزت على الروايات القصيرة لأنني أحسست انها الموقع الذي تبدّى فيه حرص كونراد على تطوير الروايات القصيرة الى روايات طويلة، أو على الذهاب من الشكل القصير الى الشكل الكبير، الأمر الذي كان مشكلة على الدوام.
وهكذا تناولت جميع هذه الجوانب الإشكالية عند كونراد، وحاولت وضعها في سياق موضوعي نسبياً عند القارىء: حياة كونراد، مساره، نجاحه، فشله، ناشروه، أصدقاؤه، الإبحار، بولونيا... وبدأت أطور منهجاً لتناول المسألتين معاً، على نحو طباقي. وأعتقد انني نجحت، بطريقة متواضعة. ولكني هنا اعتمدت كثيراً على الفلسفة الوجودية، وفينومينولوجيا ميرلو ـ بونتي، وعلى هايدغر كما ذكرت.
في "البدايات" كنت، كما هو واضح، أحاول تكوين سبيل جديد لنفسي، واعتقدت أن التشديد الرئيسي يقع على فيكو لأنه كان أول من أوضح ان البدايات لا تُكتَشف، بل تُصنَع وتُخلَق وتُصاغ. أقصد القول انني، وأنا في مطلع الثلاثينات من عمري، كنت قد أكملت الأشياء التقليدية، ووضعت كتاباً وبعض المقالات، والمطلوب الآن أن يكون لي اسم بطريقة ما. ولقد استغرق ذلك زمناً طويلاً. بدأ في عام 1966، وانقطع بفعل الحرب، ثم أحسست أن الضرورة تقتضي الاهتمام بمنهج ما في خلق أي مشروع. اختيار المنهج كان شكلاً من أشكال البداية، لكن المركزي فيه بالطبع كان مشكلة القَصّ أو النص السردي. من أين يبدأ المرء؟ إلى أين يذهب المرء؟ القصّ السردي لا بصفته مسألة معطاة، بل كشكل من التحرّش، وكيف يُقحَم على احساس المرء بنفسه، إلى ما هنالك.
ثم جاء بعد ذلك سؤال برمّته حول نقد مطابق لتلك الفكرة، وتكثّف الأمر منذ اهتمامي بالبنيوية وميشال فوكو، ومدى ملاءمتها. لقد اعتبرت ان الكتابين تجريبيان أسفرا عن نتائج غنيّة للغاية. وحدث أنهما تضافرا تماماً مع حرب 1967 وعودتي الى العالم العربي. لقد ذهبت الى عمّان في عام 1969، وكنت فيها عام 1970 خلال أحداث أيلول الأسود، ثم بدأت انخرط في الحركة الفلسطينية. وفي العام ذاته تزوجت من امرأة لبنانية، هي مريم قرطاس، وخلال سنتي 1972ـ1973 أنهيت "البدايات" في بيروت حيث أمضيت السنة الأكاديمية متفرغاً. وهناك بدأت أدرس اللغة العربية، إذ لم يسبق لي أن قمت بذلك على نحو جدي في المدرسة، وكنت قد انصرفت عن دراسة العربية منذ سن الخامسة عشرة. تلقيت دروساً يومية على يد أنيس فريحة، وقرأت معه العديد من النصوص الحديثة والكلاسيكية: طه حسين، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ. ثم كنّا نعود إلى التراث، لنقرأ الغزالي وابن خلدون، وكانا بين اكتشافاتي الفكرية الكبرى في تلك الفترة، فضلاً عن العديد من النصوص التاريخية والشعرية.
ذلك، كما أعتقد، قادني الى مسألة الاستشراق. ولقد خطرت لي الفكرة حين عدت إلى هارفرد كأستاذ زائر في عام .1974 تلك كانت فترة حرب 1973، وبدأت أرى كيف يمكن ربط الأحداث المروية بالتمثيلات الشعبية، وكانت الأحداث المروية هي الشيء الرئيسي، وبعدها تأتي مشكلة التمثيل كمسألة تالية. وهكذا بدأت الاهتمام بما سيتحوّل في ما بعد الى كتاب "الاستشراق".
*قبل مناقشة كتاب "الاستشراق" توجد نقطة ذات صلة به. في معظم الكتابات التي تدور حول الإسلام أو الشرق عموماً، ينصبّ التركيز على ما يمكن وصفه بمراكز العمران، وعلى المراجع والنصوص. أما المجتمع والحياة اليومية والتراث الشفهي والثقافة الشفهية فهي شبه غائبة. كيف تفسّر هذه الظاهرة؟
- في مطلع الثمانينات فقط اكتشفتُ مدرسة من المؤرّخين الهنود تدعى "دراسات التابع"، يرتكز عملها بأسره على المصادر غير المكتوبة. انها مدرسة في الدراسة التاريخية تقول بأن تاريخ الهند حتى ذلك العهد هو التاريخ الذي كتبته النخبة القومية تحت تأثير البريطانيين. أما ما أثار اهتمامهم فهو تاريخ الهند كما يُرى من خلال صراع فقراء المدن وجماهير الأرياف التي لا تمتلك أية نصوص.
وحتى أوان ذلك الاكتشاف لم أكن قد أدركت وجود تواريخ أخرى، شعبية وغير مكتوبة، يمكن ابتكار منهج كامل خاص بها، مثلما يفعل المؤرخون الهنود. ولكنني لم أكتشف الجهد ذاته في العالم العربي. لست معنياً بالفولكلور والطقوس الشعبية، إذ أنني ابن مدينة أساساً. ولكنني معني بوجود أدب آخر عابر لما هو مدوّن، وهو ما لم تركّز عليه كمجموعة أي مدرسة من مدارس المؤرخين العرب. ولا بدّ من القيام بالعمل في إطار مجموعة.
لقد ظلت الهند مستعمرة بريطانية طوال 400 سنة، وكان التعليم هناك خاضعاً للهيمنة البريطانية. ومع ذلك فان عدداً لا بأس به من المثقفين الهنود تمكنوا، اثر الاستقلال في عام 1937، من استثمار ما تعلّموه على أيدي البريطانيين، وتفرعوا عنه لدراسة ماركس وغرامشي وبارت وسواهم، واستخدموا هذا المزيج الجديد من المقاربات لتكوين مقاربة أصيلة تماماً، وقاموا بتطبيقها على تاريخهم الخاص.
ويساورني الانطباع بأننا في العالم العربي نقوم بالنسخ المباشر. ما إن يقرأ الواحد منّا كتاباً من تأليف فوكو أو غرامشي حتى يرغب في التحوّل الى "غرامشوي" أو "فوكوّي". لا توجد محاولة لتحويل تلك الأفكار الى شيء ذي صلة بالعالم العربي. نحن لا نزال تحت تأثير الغرب، من موقع اعتبرته على الدوام دونيّاً وتَتَلمُذياً. تأمّل العدد الكبير من الأفراد في شمال أفريقيا، في المستعمرات الفرنسية السابقة، ممن يكتبون وكأنهم تلامذة فوكو أو دريدا أو تودوروف. انها نوع من فانتازيا التكرار التي أجدها مضحكة في معظم الحالات. والقسط الأعظم منها راجع في نظري، وهذا مجرد انطباع، الى فهم ناقص لحقيقة الغرب.
انهم يركزون على جانب واحد فقط. على سبيل المثال، يبدأ أحدهم بدراسة فرنسا من دون أن يفقه شيئاً عن العالم الأنغلو ـ سكسوني. أنت لا تستطيع دراسة الغرب هكذا، واعتقد أنك لا تستطيع القيام بذلك من دون معرفة الكثير عن الولايات المتحدة أساساً، لأنها صاحبة التأثير الأعظم ليس على العالم الغربي فحسب، بل على العالم الحاضر بأسره. لا توجد كليّة واحدة في أي جامعة عربية تتخصص في الدراسات الأميركية. أمر مدهش! توجد جامعتان أميركيتان كبيرتان، وربما أساسيتان، في العالم العربي: واحدة في لبنان والأخرى في القاهرة. ولكن لم يسبق لهاتين الجامعتين أن درّستا أميركا. هذه ليست اشارة ضدهم بل ضدنا نحن، لأننا لم نطلب أن تضمّ جامعاتنا كلّيات تتخصص بالدراسات الأميركية وتدرّس أميركا على نحو جدّي وعلمي، بالإضافة إلى تدريس ما تبقّى من عالم الغرب. لدينا واحد من اثنين: إمّا شعارات عريضة حول الغرب (استعمار، امبريالية...)، واما مدارس صغيرة من المقلّدين (الهيغليين، الماركسيين، الدريدائيين...) الذين لا يتقنون اللغة نفسها. على سبيل المثال، غرامشي مترجَم الى العربية عن الإنكليزية وليس الإيطالية، ولوكاش مترجم عن الفرنسية وليس الألمانية، وماركس عن الإنكليزية. هذه مسألة إشكالية للغاية.
ولهذا اعتقد أننا لم ننل قسطنا بعد من سيرورة التنوير والتحرر، بالمعنى الفكري. وأعتقد أن اللوم يقع على المثقفين، إذ ليس وفي وسعنا أن ننحي باللائمة على الإمبريالية أو الصهيونية فقط.
* أنت تمتدح كثيراً عمل ماركسيين من أمثال لوكاش وغرامشي وأدورنو ورايموند وليامز. وذات مرّة قلت: "لقد تأثرت بالماركسيين أكثر مما تأثرت بالماركسية أو أي نزعة مكرّسة". كيف ترى الماركسية اليوم؟
- الفقرة التي تقتبسها صدرت عنّي في طور كان يضفي بعض المعنى على اليسار الماركسي الذي أقمت معه صلات طويلة، كشخص متأثر لا كعضو منتسب لأي حزب. منذئذ، في أميركا أساساً، وفى أمكنة أخرى من العالم العربي، اختفى اليسار الماركسي. وانني اليوم أجد نفسي في وضع غريب أحاول فيه إعادة طرح مسألة الماركسية، كشيء يمكن إحياؤه على نحو انتقائي بهدف ادخاله في الخطاب المعاصر، سواء في العالم العربي أو في العالم الثالث عموماً، فضلاً عن الولايات المتحدة في طبيعة الحال.
هنا أشعر أن الماركسيين، من النوع الذي اقترنت به، قد تخلّوا عن الماركسية هم أنفسهم، فباتوا ما بعد ـ ماركسيين ومحافظين جدداً واستهلاكيين أو تحريفيين، الى آخره. وهكذا فإن المسألة عندي هي نفخ الحياة في خطاب معارض مهم، يقع على عاتقه اليوم واجب العثور على بدائل للإيديولوجيا الماركسية، وللوضعية الجديدة كما يمثلها أشخاص من أمثال ريشارد رورتي، وللنظرة القَدَرية التأملية للعالم، والتي تكتسح العديد من المثقفين هذه الأيام.
ثمة حاجة ماسة لإحياء الماركسية كمسألة سياسية وأكاديمية ذات صلاحية في الأزمة الراهنة التي تعصف بالتربية والبيئة والقومية والدين وسواها من المسائل. هذا تحدّ رئيسي كما اعتقد، وهو عندي سؤال مفتوح حول ما إذا كان من الممكن القيام به أم لا. وأجد نفسي معنياً بالسؤال على نحو جدّي، ومشدوداً للغاية الى النموذج الذي أرساه أشخاص مثل غرامشي ووليامز. السؤال أيضاً: ألا يزال هؤلاء صالحين اليوم؟ وجوابي الحدسي هو : أكثر من ذي قبل.
* كنتَ رائداً في عملية مدهشة من قراءة، وإعادة قراءة، وإعادة مَوْقعَة فرانز فانون، خصوصاً في نظريات الأدب والنقد ما بعد الكولونيالي. كيف ترى صلاحية فانون في عصرنا؟
- حسناً، أشعر ان القراءة الكبرى لعمل فانون لم تتم بعد. توجد أنماط مختلفة من تأويل فانون يجيب كل منها عن اهتمامات مختلفة، ضيّقة الأفق بعض الشيء: القراءة النسوية، العالمثالثية، الماركسية، التفكيكية. لقد بدأت مقالة حول هذا الموضوع تحت عنوان "إعادة النظر في النظرية المترحّلة"، أنظر فيها الى عمل فانون، "المعذبون في الأرض"، من منظور لوكاشي.
ولكني أعتقد أن قراءة فانون كمفكّر متجانس لم تجر بعد. هومي بابا قام بدراسة لافتة لكتاب "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"، وهو كتاب جيد للغاية، ولكنه أيضاً سوسيولوجي وسِيَري. انني اتحدث عن فانون المفكر، الرجل ذي المواهب المتعددة والرؤى الرفيعة التي تبدأ من ميدان التحليل النفسي لكي تعبر الى الوجودي والماركسي والكولونيالي، وهذا ما يتوجب القيام به. أما صلاحيته لعصرنا فهي مدهشة، وأرى أهمية خاصة في طرح السؤال الآتي ومناقشته: أيمكن هذه القراءة أن تتيح لنا اشتقاق نظرية حول التحرّر، أم لا؟.
* فقرات من حوار مطول جرى في باريس، تموز .1994
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-09-04, 02:45 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-09-04, 03:20 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | سجيمان | 10-09-04, 03:26 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-09-04, 03:23 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | Nagat Mohamed Ali | 10-09-04, 03:48 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-09-04, 03:49 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-09-04, 03:51 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-09-04, 03:55 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-09-04, 04:00 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-09-04, 04:04 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | عشة بت فاطنة | 10-10-04, 06:39 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | عشة بت فاطنة | 10-10-04, 06:50 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | AttaAli | 10-10-04, 07:14 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | Sinnary | 10-10-04, 08:27 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | عشة بت فاطنة | 10-10-04, 10:35 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 03:44 PM |
صبحي حديدي:بين جاك دريدا وتفكيك الزرقاوي | osama elkhawad | 10-11-04, 03:47 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 03:51 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 03:53 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 03:56 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 04:01 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 04:03 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 04:06 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 04:07 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 04:10 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 04:14 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 04:17 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 04:19 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 04:27 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | Abomihyar | 10-11-04, 04:33 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 04:37 PM |
جاك دريدا:الدين في عالمنا | osama elkhawad | 10-11-04, 04:40 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 04:47 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 05:00 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-11-04, 05:03 PM |
وداعا جاك دريدا ومفهوم "المغفرة" | osama elkhawad | 10-11-04, 05:08 PM |
نظريات التلقي وتحليل الخطاب ومابعد الحداثة | osama elkhawad | 10-11-04, 05:17 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-12-04, 09:07 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-12-04, 09:09 AM |
محاولة لمقاربة ابن عربي في ضوء ما بعد الحداثة | osama elkhawad | 10-12-04, 09:16 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-12-04, 09:28 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | malamih | 10-12-04, 11:18 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-13-04, 08:12 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | Safa Fagiri | 10-13-04, 08:53 AM |
وجهة نظر اسلامية حول المعرفة في سياق الحداثة | osama elkhawad | 10-13-04, 10:52 AM |
وجهة نظر اسلامية حول ما بعد الحداثة-نقلا عن "اسلامأونلاين" | osama elkhawad | 10-13-04, 10:58 AM |
Re: وجهة نظر اسلامية حول ما بعد الحداثة-نقلا عن "اسلامأونلاين" | تراث | 10-13-04, 01:29 PM |
عن هابرماس بالعربية | osama elkhawad | 10-13-04, 05:42 PM |
من الحداثة وخطابها السياسي لهابرماس-تحدي الاصولية | osama elkhawad | 10-13-04, 05:55 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-14-04, 05:58 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-14-04, 06:00 AM |
هابرماس ومفهوم التواصل | osama elkhawad | 10-14-04, 06:04 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-14-04, 06:17 AM |
هابرماس وبوش | osama elkhawad | 10-14-04, 06:20 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | Yasir Elsharif | 10-14-04, 06:29 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-14-04, 06:35 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-14-04, 06:38 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-14-04, 06:43 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-14-04, 06:45 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-14-04, 06:48 AM |
محاضرة لهايدجر | osama elkhawad | 10-14-04, 07:04 AM |
Re: وداعا جاك دريدا | abdalla BABIKER | 10-14-04, 08:10 AM |
رمضان كريم يا عبدالله | osama elkhawad | 10-14-04, 12:00 PM |
مقالة كانط حول الانوار | osama elkhawad | 10-14-04, 12:04 PM |
فوكو يقارب سؤال "ما هي الأنوار" | osama elkhawad | 10-14-04, 12:08 PM |
هايدجر والاختلاف | osama elkhawad | 10-14-04, 12:21 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-14-04, 12:26 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-14-04, 12:38 PM |
هابرماس يجيب عن سؤال "ما هو الارهاب؟" | osama elkhawad | 10-14-04, 12:51 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-14-04, 12:56 PM |
اكاديمي عربي يحكي عن علاقته بأفكار دريدا | osama elkhawad | 10-14-04, 01:02 PM |
دريدا ونقد الميتافيزيقا الغربية | osama elkhawad | 10-14-04, 01:14 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-14-04, 03:16 PM |
حقل فوكو "الجزء الاول" | osama elkhawad | 10-14-04, 03:20 PM |
حقل فوكو "الجزء الثاني" | osama elkhawad | 10-14-04, 03:49 PM |
عرض للكتاب الذي سرق منه "الفيا" | osama elkhawad | 10-14-04, 03:58 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-14-04, 10:55 PM |
المسرح العربي بين الحداثة وما بعدها | osama elkhawad | 10-15-04, 08:36 AM |
الحداثة المنقوصة لهشام جعيط | osama elkhawad | 10-15-04, 08:39 AM |
الحداثة والأزمنة العربية الحديثة | osama elkhawad | 10-15-04, 08:42 AM |
الخلط بين الحداثة و التجدد | osama elkhawad | 10-15-04, 08:46 AM |
رأي اسلامي:الحداثة باعتبارها فتنة وباطلا | osama elkhawad | 10-15-04, 08:53 AM |
حوار مع المغربي بلقريز يتحدث فيه عن الحداثة والتحديث | osama elkhawad | 10-15-04, 08:58 AM |
اعلان موت الحداثة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ | osama elkhawad | 10-15-04, 09:05 AM |
الأسرة" بين الحداثة الغربية.. والرؤية الإسلامية..(1) | osama elkhawad | 10-15-04, 09:10 AM |
الأسرة" بين الحداثة الغربية.. والرؤية الإسلامية...(2 | osama elkhawad | 10-15-04, 09:13 AM |
الحداثة والتباين والغربنة | osama elkhawad | 10-15-04, 02:11 PM |
تناقضات الحداثة العربية و تعريفاتها المختلفة | osama elkhawad | 10-15-04, 02:16 PM |
Re: وداعا جاك دريدا | osama elkhawad | 10-15-04, 04:59 PM |
رأي اسلامي:سقوط الحداثة | osama elkhawad | 10-15-04, 05:12 PM |
رأي اسلامي حول الحداثة | osama elkhawad | 10-15-04, 05:31 PM |
في نقد الحداثة الكومبرادورية- محسين الدموس (*) | osama elkhawad | 10-15-04, 05:41 PM |
الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا-الجزء الأول | osama elkhawad | 10-15-04, 05:53 PM |
الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا-الجزء الثاني | osama elkhawad | 10-15-04, 05:59 PM |
الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا-الجزء الثالث | osama elkhawad | 10-15-04, 06:09 PM |
الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّاالجزء الرابع والأخير | osama elkhawad | 10-15-04, 06:15 PM |
رأي اسلامي يرفض العولمة ويربطها بالحداثة وما بعدها | osama elkhawad | 10-15-04, 06:23 PM |
الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة | osama elkhawad | 10-15-04, 07:57 PM |
صبيانية الحداثة وعبثها وربطها بالفساد والجنس والمخدرات | osama elkhawad | 10-15-04, 08:04 PM |
راي حول وجود نماذج للحداثة غير النموذج الغربي | osama elkhawad | 10-15-04, 08:20 PM |
رؤية توفيقية للعلاقة بين الاسلام والحداثةمن كاتب ايراني | osama elkhawad | 10-15-04, 08:37 PM |
|
|
|