أهداء ... عيد ميلاد سعيد وبطعم ومذاق مختلف / د/ صفاء الصالح ... كل سنة وانت بخير

Quote: طقوس الموت والحياة لدى قبائل اللاتوكا في السودان ليس كما هو مألوف في المآتم ومجالس العزاء ، حيث يسود الحزن والاسى على الراحلين ، يحرص ابناء قبائل اللاتوكا في السودان على ان يقلبوا الحزن الى فرح وينتصروا على الحزن بالرقص والغناء ، فأيام المأتم الثلاثة يقضونها في طقس رقص جماعي كنوع من المواساة لاسرة الفقيد. حضرنا احد هذه المآتم لاحدى عوائل اللاتوكا من المهاجرين الجنوبيين في مخيم مانديلا ، الذي يمثل احدى مناطق طوق السكن العشوائي للمهاجرين الذي يحيط بالعاصمة السودانية الخرطوم (وقد سمي بهذا الاسم نسبة الى المناضل الافريقي الجنوبي نيلسون مانديلا ). ووصلنا الي المخيم بعد رحلة متعبة قطعت فيها السيارة طرقا ترابية بدت وعرة في بعض مفاصلها ، لندخل الى عالم خاص له قوانينه الخاصة وسننه ، وغالبا مايكون لسلاطين القبائل الدور الاساسي في صياغتها وتحكم هذه الاعراف القبلية والقوانين الخاصة هذه المناطق التي تربض على حافات العاصمة ، وتمثل تحديا واضحا لحداثتها المفترضة كحاضرة مدنية ، وبل وقد تزحف اعرافها الى داخل المدينة ذاتها التي تمثل خلطة غريبة من الحداثة والريف واعرافه القبلية. بكاء ورقص اقيمت الطقوس في ساحة ترابية وسط منازل بني الكثير منها من الطين وفرضت هندسة توزيعها العشوائية شكل المكان ، في احد اطرافها نصبت اعمدة خشبية رفعت سقفا من قماش خيمة ، ليشكل ظلا رصف تحته عدد قليل من الكراسي في ثلاثة صفوف متوازية لجلوس الضيوف المهمين وتمتد امامهم ساحة الرقص التي يتوسطها قارعو الطبول ، ويحيط بهم الراقصون بشكل دائري ، بينما يشكل الغبار الذي تثيره ضربات اقدامهم على الارض الترابية غلافا لطقسهم ويكاد ان يحجب الرؤية مع تصاعد حدة الايقاع. وتتواصل الطقوس لايام ثلاثة ، اولها يوم البكا ، حيث يجتمع اقرب الناس الى الفقيد في بيته ، ليواسوا اهله ، ويبدأون باستئذان اهله باقامة النقارة ، اي جلب الطبول وقارعيها لاقامة طقوس الرقص. ثم يبدأون بنصب خيمة (اليومنجي) ، وهي الخيمة التي يجلس فيها كبار القبيلة وضيوفهم وتتم فيها مناقشة كافة المشكلات القبلية وحتى المشكلات العائلية ويتواصل الرقص في اليوم الثاني (اسوتا ) يتوزع الراقصون بالتسلسل ، في المقدمة (الحبوبات) ، او النساء الكبيرات السن ثم النساء الاصغر سنا فالاصغر فالرجال ، ويبدأون بالدوران حول قارعي النقارة ، او يتقابلون في خطوط متقابلة او دوائر منسجمة او متناسقة مع بعضها ، وحتى الاطفال تراهم يشاركون في هذا الطقس الراقص. نقارة وابوفغو وتتألف النقارة في الاحتفالات التقيدية من 12 الى 16 طبلا ، ولكل عازف ايقاع الخاص ، وتصنع الطبول من جذوع خشبية ضخمة ، تغطى بجلد البقر كما ينثر الدقيق الابيض فوق رؤوس قارعي النقارة ، باتريك اودو مانري ، احد قارعي النقارة يقول هذا الدقيق الابيض يميزني كفنان وفي الوقت نفسه دلالة على القوة وهو تقلليد خاص بقبائل اللاتوكا ، ولاتجده لدى اية قبيلة سودانية اخرى. ولايقتصر استخدام النقارة على المآتم ، بل في كل مناسبات القبيلة ، في الفرح وفي الحرب ، حيث لكل مناسبة الحانها وايقاعاتها واغانيها الخاصة ، الى جانب ايقاعات النقارة يعمد اللاتوكيون الى خلق ايقاعات راقصة بالتصفيق بالايدي يسمونها (ابوفغو ). وفي حلبة الرقص يظهر الراقصون عراة في نصفهم الاعلى ، يحمل الرجال منهم الحراب ، او عصي خشبية بديلا عنها ويحمل البعض منهم علامات خاصة كالاعلام التي تميز ابطال المصارعة والجري بينهم ، وتضع النساء على اكتافهن وأردافهن أردية من الأرز الصغير الملون يسمونه (السكسك )، تلفت احدى الراقصات انتباهنا الى السكسك الذي ترتديه متباهية وتقول ان الصبية حالما تشب تبدأ في اعداد سكسكها الخاص وتتفن في ترتيب خرزه الملون. تسامح ديني كما يمتازون بروح تسامح ديني عالية ، على سبيل المثال هذا المأتم الذي حضرناه كان لامرأة مسيحية بينما ينتمي بعض افراد العائلة الى الديانة الاسلامية ، كما هو الحال مع اخيها فريد فجيلو الذي قال لنا ان التسامح والتعايش الديني سمة اساسية في عائلة اللاتوكا. فهو مسلم على الرغم من ان اخته الراحلة ومعظم العائلة مسيحيون ، الا انهم يحترمون ديانته ويعيشون معا تحت سقف واحد وفي رمضان يعدون له الفطور ، كما انهم عندما يقيمون الصلاة على روح الميتة كل يؤديها على دينه وبطريقته الخاصة ، بيد ان الطقس الوثني يظل هو الحاضر في طقوس الرقص والتوديع هذه. وعلى الرغم من هجرة بعضهم الى المدن وعيشهم فيها الا أن اعراف القبيلة تظل هي المتحكمة فى مجمل ممارساتهم العامة ومراسم الموت والحياة ، ففي الزواج على سبيل المثال تكون الابقار هي المادة الاساسية التي يدفع بها مهر العروس ، حتى لو كان الزواج في المدينة ، حيث يدفع مبلغا رمزيا للاب يسمى (كسر بيضة ) ويدفع معظم المهر المتبقي ابقارا في ارض القبيلة ويتميز اللاتوكا بتحريمهم زواج الاقارب فالرجل من اللاتوكا لايجوزله الزواج من ابنة عمه او ابنة خاله ، بل وحتى العائلة الصديقة التي اختلطت طويلا وعاشت مع عائلته في مكان واحد. اليوم الثالث ويتقاسم اللاتوكا كلفة اقامة المأتم ، وطوال ايامه الثلاث، يعدون الطعام للضيوف بطريقة تعاونية في بييوت العوائل المختلفة ويجلبونه الى اهل الراحل ، كما يجلسون في اليوم الاخير اذا كانت هناك اية ديون في ذمة الراحل او عائلته ليحلونها بشكل جماعي. وفي اليوم الثالث وبعد الرقص يجتمع شباب القبيلة وشيوخها فقط ، وبدون النساء في ساحة قريبة ، ويبدأون في القاء خطاباتهم (اسيتا ) التي تبتدأ بتمجيد الاجداد وذكر مناقب الاهل ، قبل ان تستحيل الى مناقشة مع الجيل الجديد من الشباب في القبيلة ، لكي يأخذوا دورهم في قيادة القبيلة والحفاظ على تقاليدها. ويطرح الشباب همومهم ومقترحاتهم ويستمعون الى نصائح الشيوخ ، كما يصبح الطقس مناسبة لحل اي مشكلة اوخصام او خلاف في ما بينهم ، لأن روح الميت تستريح باطمئنان اذ اكان اهله في وئام ، ثم يعودون الى الرقصة الاخيرة التي يدخلها كل راقص محاطا بنساء عائلته حيث تعلو ايقاعات النقارة ويبدو الفرح في اقصاه بعد الاتفاق بين ابناء القبيلة على حل مجمل مشاكلهم ، اذ يتحول الموت الى مناسبة لتجديد روح القبيلة ومدخلا لتنظيم الحياة الجديدة .