خواطر حول الخواطر
حوارات تلقائية قيمة
تجري في مجالس مجتمعاتنا.. كثيرا ما تأتلق فيها خواطر أدبية وتوصلات فكرية مضيئة،
وغالبــا ما يكون وراء هذه الاشراقات عامل تحريضي ذو علاقة نفسانية ، وبعد انتهاء
تلك الحوارات يتمــنى الناس لو أنهم وثقوها بتسجيل .. ثم تحملها الرياح بين قوادمها
على فضاءات الأثير .. إلا ما رسخ منها في الذواكر اللاقطة الحريصة ؛ قياسا عليه لا
يختلف اثنان على أن نسبة الفكر والخواطر المهدرة تعادل أضعافا مضاعفة من مجمــوع
الموثق منها .. وحتى ذلك الذي أدركه التوثيق يضيع كثير منه في زحام الموثقات ويبقى
القليل الحي منه معلبا غـير طازج مما يفقده الحيوية المؤثرة بسبب أنه منقول غير
معاش .. وما راء كمن سمع أو قرأ .. ( إنما أعني بكلمة القليل الحي بوارق المعاني
حيث إنها الغاية من التوثيق وليس أغلفتها من لغـة أو صوت أو صورة . )
كذلك حتى هذا القليل
الحي يندثر كثير منه مع مرور الزمن بانزياحات القكر وتناسخ الحقــائق أو لعجزه عن
مسايرة الحس الانساني في زمانه وما بعده .. فما أكثر الأطبــاء الذيـن عـاصروا داود
الأنطاكي وقاموا مثله بتدوين خواطرهم وتوصلاتهم وتجاربهم وما أكثر الشعراء الذين
عاصروا المتنبي وغير ذلك في مجالات الفلسفة والفقه والعلوم فمنهم ما ذهب جفاء وهذا
قليل مكث .. فبديهي أن هذا الذي مكث على أرفف المكتبة العربية لايمثل جملة ما أنتج
العرب وما وثقوا مــن نتاج حضارتهم وكذلك الكثير من محاولات تأسيس علوم ومذاهب
ومناهج تهاوت بعد دورة أو اثنتــين و لا تزال هناك محاولات عدة خاصة في عصر
استحكام القكرة الأكاديمية حتى الآن تعمــل على إثبات بعض الخواطر على أنها علوم
كما حدث بالنسبة للفلسفة وما يعانيــه علـم الاجتماع اليوم من اضطراب في ثوابته
أمام طرح العولمة ومأزقه التاريخي أمام الأديان .
وهناك أيضا ما تنحى
بفعل ديناميكية المعرفة أو انضم إلى غيره ، تماما كمــا تندثـر أو تتنحى الأنظمة
والمعالم والنظريات والدعوات الفكرية وكما تتغير مطاطية المفردات في اللغات بما
حملت من محمــولات معنوية .
والعلوم تتطور على
حساب علوم كانت منفصلة عنها كما حدث لعلم الكلام واللسانيات والجسور المعرفية التي
تمددت بينه وعلم النفس وتداخله مع علوم التشريح والأنــثربيولجي ولا يزال ينتشر ولا
تزال ثورة المعلومات آخذة في دفع العلم باتجاه الموســوعية والتقـاء المعارف .
فبديهي أن هذا الذي
مكث على أرفف المكتبات لا يمثل جملة ما أنتجته الإنسانية وما وثقت من نتاج حضارتها
.. إذن فهنالك مصاف تلقائية تتخلل شلالات الخواطر المنتجة عبر الأجيال .. وتعمل في
ديناميكية الحياة بلا توقف _ مستجمعة صفوة المعرفــة التي هي خلاصة تلك الخواطر و
قد حاولنا هنا أن نتتبع تبلورها عبر الذواكر والتوثيق تناقلا وتداولا ـ وبقي أن
نعرف تلك الخواطر والأفكار المضيئة الماكثة بأنهــا تفكير إبداعي ونعرف المصفاة
التلقائية بأنها مقياس التذوق والقاسم المشترك له في منطق الحياة .
ونعرف صفوة المعرفة
بأنها الثوابت السرمدية لناموس الكون انسربت في شلالات فعلنـا بالفطرة والالهام
فتوهمنا أننا نحن الذين صنعناها ..
نظل على كل حال نحيط
نتاجنا الإبداعي على الأرض بصنوف الاعــتراف والـولاء والإعجاب وهي مرحلة أولى على
طريق الاقتناع والأخذ بالمضامين والغايات من تلك القيمة الإبداعية _ ولكننا إذا
قدرنا نسبة إفادة الفرد حقيقة مما يتلقى من قيمة الفكرة الإبداعية و إنزالها على
فعـل الحياة اليومية لن نجد لها حظا وافرا من التداول العملي وذلك لعوامل كثيرة
أهمها اضطراب النفس الجمعية للمجتمــعات المعاصرة وعدم استقرار العقل الجمعي مما
أدى آلي اضمحلال الصدق في الأخذ والعطاء مع النفس وبين الناس في القول والفعل.
ويعد من الطبيعي في
شأن النفس البشرية أنها لانهائية الهوى إذا لم يكن هناك ما يرشـد حركتها من معتقد
أو عرف أو زاجر اجتماعي وهي حركة متأثرة مباشرة بحركة الكون حولها . فنفوس أهل
الحضر سريعة الاضطراب على غير ما هو الحال عند البادين لفــارق كـثرة الفعل
والمشاهدات الحياتية واختلاف شكل العلاقة مع الطبيعة في المأكل والمشرب والملبس
والمركب والنداءات الطبيعية .
وبما أن رقعة الحضر
قد اتسعت في نهايات هذه الألفية وربطت ما بينها والبادية ثــورة التكنولوجيا
والاتصالات والمعلومات _ فإن المؤثرات المدنية على المجتمع البشري أصبحت دائرة
متصلة وتفــاقمت كثافتــها فتشابهت انعكاساتها على النفوس وعليه تشابهت النفوس ومن
هنا انبثق طرح العولمــة الثقافي .
والعولمة بهذا
المفهوم نتاج طبيعي لتطور قنوات الثقافة أي أنها صــراع تكنولوجـي في حقيقته
والتكنولوجيا وليدة المدنية وليست وليدة الحضارة علية فان صراع العولمة ليس بصراع
حضارة وثقافة في الأصل ولكن إحالته إليهما تمت بتكثيف استراتيجية آيدلوجيـة اتحد
عليها المعسكران الكنسي واليهودي بحكم التماهي الثقـافي بينهما ولموقفهما المشترك
ضد المعسكر الإسلامي ـ وقد انطلى اختلاس هذه الإحالة على عامة الناس مـن الطرفين
الضدين مما أكسب دعوتها شكلا قطعيا بحتميتها لولا أن (فوكوياما ) صــرح في ( نهاية
التاريخ ) بأنها ( أمركـة العالم ) معتـدا ومفتخرا ومستعديا فاستيقظت النعرة
الشعوبية بين شعوب العالم ولعل النعرة الشعوبية أقدر على مواجهتها من القوميات
العنصرية والدينيــة والمنظميـة وغيرها من التكتلات لأن الشعوبية أقل خلافا داخل
كتلتها من غيرها ولأنها وحدهــا التي تمثل رد الفعل الموازي هنا .
الشاهد من هذا
الاستطراد أن نسبة الإفادة من القيمة الإبداعية المنتجة ضعيفة جدا على المتلقين حتى
ولو كانوا أنفسهم من المنتجين في حقول إبداعية أخرى وذلك بحكم المعطيــات أعلاه في
حياة إنسان العصر .
أما الشاهد من
السياق كله أن ظاهرة الخواطر هي منجم المادة الخام للقيمة الإبداعيــة موضوع
التأملات هذه والتي أشرنا إلى أنها انسربت في شلالات فعلنا اليومــي بـالفطرة
والإلهام فتوهمنا أننا نحن الذين صنعناها .
والحقيقة أنها لم
تكن كذلك إلا لاتساقها مع الطبيعة وحركة الكون في اتجاه قيومية الملــهم وإرادته
وما فطر عليه خلقه حتى إنها لو أمكن جمعها مصفاة خالصة لكانت هي الدين لولا أن
الخالق جل شأنه قد جمعها لنا دون أن نكمل مع الزمان استدارته علىالدورة التنقيبية
عنها حيث أنزلهـا إلينـا جاهزة في كتبه التي أنزل ثم أوجزها في قرآن قال فيه
(مافرطنا في الكتاب من شيئ ) وقال فيه ( ولقد صرفنا في هذا القــرآن للناس من كل
مثل ) وقال فيه ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) أي مع أنسـاق
الكون حولهم وأنساقهم
والخواطر هي المعابر
الفكرية إلى بر اليقين والسبل الموصلة إلى الله إذا اجتهد صاحبــها وراءها ( إن
الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) ورغبة الوصول إلى الله تعــالى عنـد الإنسان
عطش غريزي ونزوع فطري في النفس البشرية السوية قبل أن تكون نداء عقلانيا إلى
الطمأنينة والنجاة .
إن القرآن الكريم
باشتماله على الخلاصة الجوهرية المطلقة للقيمة الإبداعية ، يجسد المنة الأزلية من
الخالق على الإنسان خاصة دون سائر خلقه بالتفضيل المطلق والتكريم (ولقد كرمنا بني
آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا
تفضيلا )
الغاية من كل
الشواهد هنا أن هذا القرآن ( هو الحقيقة الوحيدة المتفردة في هذه الدنيا بصفة
الخلوص الخالص والكمال الكامل ، فهو إعجاز كله في كونه وفي حروفه وأصواتها وأجسادها
من مخارج وأرواح تلك الأجساد من معان ودلالات ولا يحيط بالكلام عن القرآن إلا
القرآن .
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه عدد
ما أحصيته في الإمام المبين