كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مثال

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-20-2024, 02:13 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2011م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-29-2011, 11:59 AM

بدر الدين الأمير
<aبدر الدين الأمير
تاريخ التسجيل: 09-28-2005
مجموع المشاركات: 22958

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث (Re: بدر الدين الأمير)

    تصدير الاخ الصديق الاستاذ: عبدالله الفكى
    لكتاب مهارب المبدعين:



    نحن في حاجةٍ إلى نَظرٍ جديد نَنَظُر به إلى الشرائع والآداب والفلسفة والأديان، وإلى كافة الشئون. ونحن إلى الآن لم نكن أمة.
    محمد عشري الصديق ـ 30/10/1929م

    يسبر هذا السِفر الموسُوم بـ مهارب المبدعين: قراءة في السِّير والنصوص السودانية غور ظاهرة ظلت ملازمة لمسلك كثير من المبدعين والمتعلمين السودانيين، تحكمت في مزاجهم وحبست عبقرياتهم، وقيدت إنتاجهم. تلك الظاهرة هي ظاهرة الهرب. فقد هرب الكثير من المبدعين والمتعلمين من واقعهم، حينما أصطدمت تطلعاتهم وأشواقهم وآمالهم مع مكونات الواقع الثقافية والفكرية، وتناقضت مع نسق القيم السائد الذي نشأوا في كنفه. اخترع كثير من المبدعين والمتعلمين مهارب شتى، مفضلين تجنب مجابهة واقعهم الخانق، الكابت، مؤثرين الانسحاب بدلاً عن السعي إلى تغييره، حتى يصبح ذلك الواقع قادراً على استيعاب طاقاتهم، وتحقيق آمالهم وتطلعاتهم. إلا أن التغيير يتطلب قوة الإرادة والقدرة على المواجهة والتضحية والصبر، ولكن يبدو أن طلائع المبدعين والمتعلمين لم يكونوا مستعدين لتلك المتطلبات، ولذلك، فقد ابتدعوا واقعاً جانبياً، غابوا به عن واقعهم الحقيقي. وبددَّوا فيه طاقاتهم الخلاقة، وجمَّدوا عنده تساؤلاتهم الملحة. أكثر من ذلك، فقد بلغ الأمر ببعضهم، أن دمر ذاته في مسارب الهرب تلك.

    ألقت ظاهرة هرب المبدعين والمتعلمين بظلالها سلباً على الفضاء المعرفي السوداني، بما امتصت من العقول الخلاقة القليلة، التي مخضها التعليم الحديث في النصف الأول من القرن العشرين. لقد كان من الممكن أن تكون لتلك الطاقات مساهمات جليلة في تحليل مشكلات الواقع، والتأسيس لثقافة المواجهة والمناطحة للسائد، ورسم سيناريوهات لمخارج نيرة لقضايا السودان ومشكلاته، واستنطاق صور البدائل والخيارات لمواجهة تحديات بناء أمة سودانية، متعايشة، متماسكة، حديثة، ونامية. غير أن الهرب امتص تلك الطاقات وبددها. ومن ثم ظل الهرب الملاذ والديدن للأجيال اللاحقة من المتعلمين. فانحرف مسار السودان إلى وجهة يتكشَّف خطأها وخطرها كل يوم. لذلك، ظلت الحياة السودانية مرزوءة بالكسل العقلي والتضييق على الفكر، ومقاومة الحداثة والتجديد، ومحاصرة الفن، وخنق سائر الطاقات الخلاقة. ولا زالت مساحات الهرب تنداح، تبعاً لذلك وتتعدد وتتلون.
    في هذا السِّفْر القيِّم، يعالج الدكتور النور حمد ظاهرة الهرب لدى مبدعي الجزء الشمالي من سودان وادي النيل، ووضعية اللامواجهة للواقع التي اختارها هؤلاء المبدعون. قدم خمسة من المبدعين، كنماذج للهرب، ومس ثلاثة آخرين مساً خفيفاً. دَرَس المؤلف سِيَّر نماذجه الخمسة، محللاً نصوصهم، مقارناً بين القرائن، منقباً في الوقائع والشواهد التاريخية، مستخدماً مناهج بحث متداخلة، ومقاربة تندرج تحت ما يسمى مقاربة الأنظمة المعرفية المتعددةmulti-disciplinary يقول المؤلف: ((يتقفى هذا الكتاب في منهجه آثار بعض نقاد ما بعد الحداثة، ممن يرون أن الموضوع - أي موضوع - لا يمكن أن يُفهم خارج إطاره المحيط به، فالأدب ودلالات الأدب، لا يمكن أن تُفهم خارج الإطار السياسي، والاجتماعي، والتاريخي، والإيديولوجي الذي يحيط بها)).

    جاءت هذه الدراسة مُكوَّنة من توطئة، وخمسة فصول، وخاتمة. تناول الفصل الأول الكبت والهروب من المنظور العرفاني الصوفي. ووقف الفصل الثاني على نشأة المدينة السودانية وإشكالياتها، وأعطى لمحة عن جيوب الهرب التي نشأت فيها، مثل "دار فوز"، "ودار "مدام دي باري"، وغيرهما من منتديات الأدب، والتسامر الليلي في خرطوم النصف الأول من القرن العشرين. ودرس الفصل الثالث نموذجين من نماذج الهروب هما: الشاعر محمد سعيد العباسي (1880م-1963م)، والشاعر الناصر قريب الله (1918م-9531م)، مشيراً إلى أنهما قد اختارا مهرب البادية، على تفاوت بينهما في درجة التوجه في تلك الوجهة. وتناول الفصل الرابع نموذجين آخرين هما: محمد أحمد المحجوب (1908م- 1976م)، والشاعر محمد الواثق، اللذين يقول كاتب هذا السفر أنهما يمما شطر مهرب الأنثى الأجنبية. وتقصى الفصل الخامس تجليات الظاهرة لدى من أسماه الكاتب بـ "الهارب الأعظم"، وهو الشاعر الكبير، محمد المهدي المجذوب (1918م-1982م)، الذي طرق في هربه وجهات عديدة متنوعة.

    تجاوزت الدراسة نماذج الهرب الخمسة المذكورة، وغشيت آخرين أيضاً، ولكن بتركيز أقل. فقد لامس الفصل الثاني الهروب لدى التجاني يوسف بشير (1912م- 1937م)، ومعاوية محمد نور (1909م-1941م)، وإدريس جماع (1922م-1980م). ثم جاءت الخاتمة متضمنة خلاصة الدراسة، ورؤية الكاتب للنقلات والتحولات التي اكتنفت الحياة والثقافة السودانية للوسط والشمال، نتيجة لدخول عناصر وافدة، خاصة نشوء المؤسسة الدينية الرسمية، ووفود الفقه العثماني في الحقبة التركية. ويرى الكاتب أن دخول المؤسسة الدينية الرسمية حاملة الفقه العثماني الوافد، قد سلبت التصوف السناري سماته التقدمية، وثلمت حد عناصره المستقبلية، وقام بتشكيل المدينة السودانية على هيئة المدن المتوسطية، خالقاً منها نبتاً أجنبياً في تربة الحياة السودانية. وقد قدم المؤلف في هذا الصدد ملاحظة شديدة الأهمية، وهي أن المدينة السودانية أكثر محافظة من ريفها، وذلك، وفق ما قال المؤلف: وضع مقلوب. وشدد الكاتب في خاتمته على ضرورة غربلة المفاهيم وفحص القيم السائدة بناء على فهم النقلات والتحولات التي حدثت، فأنتجت تشوهات كثيرة، كانت إحدى نتائجها المدمرة تبديد طاقات المبدعين. وخَلُص الكاتب إلى ضرورة المراجعة الفاحصة للظروف التي أدت إلى تشكيل واقعنا الراهن عن طريق تعليم جديد، به يتم تصحيح الإعوجاج الذي طرأ على مسار الحياة السودانية عبر مراحل تخلقها. وأكد الكاتب في خاتمته أيضاً على ضرورة ولوج الحداثة بذهن مفتوح، والسعي إلى توطينها بما يخدم تفعيل وتطوير الجوانب الإيجابية في الموروث. وأخيراً ذيَّل المؤلف دراسته بقائمة لثبت المصادر والمراجع.

    أهمية هذه الدراسة:

    تكمُن أهمية هذه الدراسة في أمرين: أولهما، أنها دراسة جديدة وجريئة وشاملة، سعت عبر دراسة النص الأدبي وسِيَر منتجيه إلى قراءة الماضي لفهم تناقضات الواقع الحاضر. فالآثار الفنية والآثار الأدبية، تمثل مفاتيح هامة لقراءة الواقع وفهمه. وهي كما يقول ريجيس دوبري Régis Debray ((أقدر على الإحاطة بالتعقيدات والتناقضات والتبدّلات، أو لنقل بمفاجآت الواقع)). ويمضي دوبريه قائلاً: ((إن الأوضاع التاريخية تُسلم نفسها بطريقة أفضل، من خلال عمل أدبي مهم)) .

    هدفت هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على بعض أسباب التعثر والفشل للحالة السودانية. يقول المؤلف:

    ليس هذا الكتاب دراسة أدبية بالمعنى الشائع للدراسة الأدبية، وإنما هو توكؤ على النص الأدبي حينا،ً وعلى السِّيرة الشخصية لمنتجي النص الأدبي، من جيل الرواد، والجيل الذي تلاه من الأدباء السودانيين، حيناً آخر. والغرض منه هو إضاءة جانب من جوانب الأزمة السودانية المزمنة، المستفحلة. فتجربتنا الفكرية والسياسية تجربة تميزت بالتعثر، والفشل، في جميع أطوارها.

    كما يؤكد المؤلف أيضاً، أن دراسته ليست مساءلة، أو محاكمة، لأولئك الهاربين، وإنما هي محاولة لفهم حالة متجذرة في تاريخنا. فالهاربون، في نظر المؤلف ليسوا سوى ضحايا لوضع لم تكن لهم فيه يد. يقول المؤلف:
    إن هذا الكتاب لا يمثل مساءلة أو محاكمة لزمرة الهاربين من جيل الرواد والجيل الذي تلاه... بل محاكمة للجوانب السالبة والخانقة في ثقافتنا، وللضعف الذي وسم حياتنا الفكرية والسياسية وقعد بنا عن الإحياء الفكري والثقافي والسياسي... لقد كان (الهاربون) ضحايا لوضع معقد، عجزوا عن مواجهته. ونحن اليوم ضحايا لوضع معقد ورثناه منهم وعجزنا عن مواجهته.


    ويوافق قول المؤلف هذا، ما ذهب إليه الدكتور منصور خالد، في هذا المعنى، حيث قال: ((لا ندعو لمحاكمة الماضي بل نلح على قراءته بوعي نقدي يستنطق الأحداث بهدف سبر أغوار المجتمع للتعرف على القيم التي تمتلكه، والمفاهيم التي سيطرت عليه)) .

    أما الأمر الثاني الذي يميز هذه الدراسة، فهو شخصية كاتبها. فهو فنان تشكيلي، وكاتب، وأكاديمي ضليع. فقد شهد كثيرون للدكتور النور بأنه يفكر بعقل حر، ويكتب بإتقان وبمسؤولية، كما أن لديه قدرة فائقة على الإبانة، وعلى تسليس النص. فالدكتور النور حمد، في نظري، واحد ممن يسألون الأسئلة المهمة، وواحد ممن يضيفون لمعارفك، إضافات حقيقية حين يكتب. إنه ممن يجعلون قارئهم يفكر، ويعيد النظر في الأمور. قال عنه صديقه الروائي، والكاتب المعروف، الدكتور بشرى الفاضل: ((هذا الصديق الذي أضاف لمعارفي منذ أن كنا طلبة بحنتوب الثانوية)) وقال أيضاً:
    عندما كان الاستاذ النور حمد طالبًاً بحنتوب الثانوية كان متفق المواهب بدرجة مذهلة للدرجة التي كنت أراه في مقام أساتذتنا حين جئت لتلك القرية المدرسية طالباً غراً يجهل كل شىء تقريبا،ً بعده بسنة . كان يكتب الشعر .... وكان رساماً، وعازفاً لعدة آلات موسيقية، وكان قارئاً نهما،ً وهو الذي قام بإخراج مسرحية الخضر التي أشار اليها في بوست سابق، ولذا لا يمكن مقارنة عطائه في تنظيم طلائع الهدهد بعطائي .

    ولقد استمعت ذات مرة للدكتور محمد جلال هاشم وهو يشيد بطريقة د. النور حمد في الكتابة، ذاكراً أنه –أي محمد جلال- يُدرِّس الطلاب، ويُدرِّب الصحفيين على فنون الكتابة، وأنه كان يقترح عليهم أن يبحثوا عن كتابات د. النور حمد في المواقع الإسفيرية، ويحرصوا على قراءتها لأنها تتميز بالجودة، والإتقان، والرصانة . وقال عنه الفنان التشكيلي، محمد النور مبشر، الذي كان أحد تلاميذ دكتور النور بمدرسة خور طقت الثانوية: ((إن النور حمد يرجع له الفضل في فتنتنا بالفنون والمعرفة عموماً، لأن بقدومه لخور طقت اشتعلت كل ساحات فنون النقاش والجرائد الحائطية والندوات والمسارح. والله إنه موسوعة متحركة منذ ذلك الوقت، فما بالك الآن)) . وكتب عنه الأستاذ مصطفى عبد العزيز البطل، قائلاً: ((فكما يُستل من الليل الفلق، كذلك يُقيض الله من ظُلُمات الغرور الثقافي ودياجير الغطرسة السياسية أقباس الصدق وأقلام الحق. هاك يا صاح مقتطفات مما سطرت يمين المثقف الشاهق الدكتور النور حمد، الذي ترعرع تحت شجرة شهيد الفكر، الأستاذ محمود محمد طه))، ويمضى البطل متحدثاً عن فكر د. النور حمد، قائلاً: ((أمام سطوة هذا الفكر النقي كما البلور، وصولة هذا الفارس الساطع كما جذوة الشمس، تضعضعت مواقع الإرهاب السياسى والثقافى، وسكتت مدافعها، وآوت الى متاحف تعصمها من رياح التغيير)) .


    في تقديري أن الدكتور النور حمد من أكثر الباحثين تأهيلاً وإدراكاً ومعرفة بموضوع هذه الدراسة. فهو أصلاً فنان تشكيلي، وأديب. والفنان والأديب أعرف بعوالم الفنانين والأدباء والشعراء وأقدر على فهم معاناتهم من غيره من الباحثين. ولسوف يلمس قارئ هذا السفر مبلغ التعاطف الذي أبداه الدكتور النور مع "الهاربين" الذين تناول نصوصهم وسيرهم في هذا الكتاب. أيضا لقد تتلمذ الدكتور النور حمد على شهيد الفكر، والإنسانية الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م)، وعاش معه يوما بيوم، العقد والنصف الأخيرين من حياته. في خلال هذه الفترة الطويلة قارع الدكتور النور تحت لواء أستاذه جمود الواقع السوداني، والواقع الإسلامي، عقلاً، وقيماً ومفاهيم، وسلطة.

    وُلد الدكتور النور حمد في "حلة حمد الترابي" بشمال الجزيرة في وسط السودان، ودَرس مراحله التعليمية في السودان حتى تخرجه في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية في الخرطوم. وعقب تخرجه مباشرةً عمل مدرساً في المدارس الثانوية السودانية، لمدة قاربت الخمسة عشر عاماً. ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وعاش بعيداً عن السودان لسبعة عشر عاماً. في فترة إقامته في الولايات المتحدة الأمريكية نال درجة الدكتوراه من جامعة إلينوىUniversity of Illinois في التربية الفنية، وعمل بعد ذلك أستاذاً في بعض الجامعات الأمريكية، ثم انتقل إلى جامعة قطر، حيث يعمل حاليا.

    مما لا شك فيه أن إقامة المؤلف لقرابة العقدين في الولايات المتحدة الأمريكية، وارتياده لمؤسساتها التعليمية دارساً ومدرساً، قد أتاحت له فرصة التعرف عن كثب على الأكاديميا الغربية، والوقوف على نظمها ومناهجها، والاطلاع على مدارسها الفكرية، ونظرياتها المعرفية. أيضاً تُوفر الدراسة في الأكاديميا الغربية، خاصة الأكاديميا الأمريكية، فرصاً لممارسة التفكير النقدي وفرصاً أفضل لفحص السائد. وإني لألمح في ثنايا هذا الكتاب رحلة التأمل الطويلة للكاتب مع نفسه، وهو يقوم نقد ذاته ومسلماته، ومراجعة مكونات وعيه الثقافية والفكرية. ولابد أن يلمح القارئ أن كاتب هذا السفر قد انتفع من المناهج الغربية، ومن حرية البحث العلمي الغربية، دون أن يقع في فخ الغربنة، والاستلاب الثقافي. وإني ممن يرون أن المناهج التعليمية ومناهج البحث العلمي أمور ذات سمات عالمية، ويجب أن يتم تبنيها على مستوى الكوكب كله، دون خوف أو محاذير. يقول هادي العلوي:

    إن نقل المناهج التعليمية إلى ساحتنا الثقافية ليس فيه محاذير استلاب أو غربنة، لأن العلم عالمي ولا يتجنس. المنهج العلمي يصلح لكل مكان ولكل لغة ما لم يكن وسيلة لإيصال مطالب إيديولوجية أو إعلامية... والمهم في هذا كله تيقظ الحاسة النقدية باستعمال فعل الاستناد لا فعل الاتكاء على المنهج .

    نحن إذن، أمام سِفر لكاتبٍ نال تأهيلاً أكاديمياً عالياً. هذا إضافة إلى كونه أديب وفنان تشكيلي نال معرفة عميقة بثقافتين مختلفتين، وهذه جميعها ميزات كبيرة. أيضا نحن أمام كاتب يتملك عقلاً حراً، وفكراً متوقداً، يرى في الأمور التركيب والتشابك والتداخل. فهو كاتب أظهر في كتابته لهذا السفر عن فهم عميق لإرث السودان بوصفه ثروة، تبلورت عبر التفاعل والتراكم التاريخي لأبعاد متعددة ومتداخلة منها: النوبي، والحامي، والزنجي، والمسيحي، والعربي الإسلامي.

    ظاهرة الهرب في الأدبيات السودانية:

    إن تناول ظاهرة الهرب، في الأدبيات السودانية المكتوبة ليس بالأمر الجديد، فقد أشار إليها بعض دارسي الشعر السوداني، وتناولها بعض الباحثين في قضايا الثقافة والهوية في السودان. كما لامسها بعض المؤرخين، حينما حاولوا إيجاد تفسير لبعض الأحداث والوقائع التاريخية. غير أني أرى في التناول الذي تناولها به الدكتور النور شمولاً وعمقاً جديدين. فقد سبق أن أشار إلى ظاهرة الهرب لدى الشعراء السودانيين، الدكتور إحسان عباس (1920م-2003م) الذي يرى أن أسباب الهرب تتجذر في التربية الدينية الكابتة للرغبة في "إشباع الشهوات الدنيوية"، ـ على حد تعبيره ـ. يقول الدكتور إحسان عباس:


    إن الشعر السوداني يمثل ذلك الصراع بين تلك النشأة الدينية والرغبات في اشباع الشهوات الدنيوية؛... فإذا استطاع الدارس أن يكتشف أمثال هذا الصراع أو "العذاب" النفسي في الشعر السوداني، فإنه يستطيع أن يرى في إسراف بعضه في معانقة الحياة الدنيوية بكل ما تتيحه من ألوان، هرباً من تلك النشأة. .

    وتحدث أيضاً الدكتور عبده بدوي (1927م- 2005م) عن الهروب بالارتماء في أحضان الخمر، قائلاً: ((إن كثيراً من الشعراء قد هربوا بها إلى عوالم بعيدة عن واقعهم البائس والحزين، بل لقد قاتلوا بها أشياء كثيرة)) . وأشار الدكتور عبده بدوي، إلى الهروب، في حديث له عن مجلة الفجر وعن كُتابها، قائلا ((حركت هذه اﻟﻤﺠلة حركة الشعر ونقده، وتألقت فيها جماعة من الذين أثروا تأثيراً عميقاً في الأدب، ... تمكنوا من التعبير عن الحياة الوجدانية للسودانيين، واستطاعوا أن يزلزلوا الصروح التقليدية في العديد من اﻟﻤﺠالات، وفي الوقت نفسه كانوا يجدون السعادة في الهرب من الواقع المرير)) .

    أيضاً، وصف المؤرخ الدكتور محمد سعيد القدَّال (1935م-2008م) بعض من شاركوا في انتفاضة 1924م قائلاً:

    لقد تحول كثير ممن اشتركوا في انتفاضة 1924م إلى عناصر يائسة زاهدة في جدوى الكفاح ضد الاستعمار. وانحصر النشاط العام للمثقفين في الجمعيات الأدبية وأندية الخريجين أو من يطرقون أبوابها. وانغمس بعضهم في الخمر يغرقون فيها أعلام طموحاتهم المنكسة .

    كما استخدم الشاعر والناقد محمد الواثق أيضا تعبير "الهروب" وهو يتحدث عن شعراء القرن العشرين من السودانيين قائلاً:

    هرب الكثير من شعراء القرن العشرين من المدينة إلى البادية حيث تسلس حياتهم فيها وعلى رأس هؤلاء محمد سعيد العباسي... وكذلك محمد عمر البنا (1848م-1919م) الذي يتعلق سائر شعره بالبطانة والتي يرجع ليقيم فيها .

    كما أشارت إلى نزعة الهرب أيضا الباحثة، الأستاذة فاطمة شداد وهي تنقب في شعر وحياة الشاعر، الناصر قريب الله، فقالت:

    وقد عُرف الشاعر بالحساسية المفرطة، وعاش في بحر من الدموع ..... تلفت حوله ليجد أسرته تعيش في قيود دينية صارمة متزمتة، فلم تستطع نفسه الطليقة، نفس الفنان والشاعر أن تنحصر في هذه القيود... كان احساسه المرهف يجعله يشعر بآلام شعبه، بفقره وأنينه، فيبكيه ويبكي نفسه ويرسل الآهات والدموع والشكوى، ويهرب أحياناً إلى دنياه الخاصة إلى دنيا اللهو والخمر لعله ينسى... ومن بين ثنايا هذه الدموع يهرب شاعرنا إلى الطبيعة يناجيها وهو يشعر شعوراً قوياً بأنه يجد فيها الراحة والسلوى، والارتواء بعد ظمأ الروح

    أيضاً، تناول الشاعر صلاح أحمد إبراهيم (1935م-1996م) الهروب عند الشاعر التجاني يوسف بشير قائلاً:

    والتجاني يَحب أن يُحب وليس هو بِمُحِب، فهناك حبيبان من يهود وقبط، وهناك ابنة لبنان، وهناك الذي يبرز في وجنتيه الفصد (أي الجمال السوداني)، وهناك الذي يطري الجمال فيه ويغري صبوات النفوس أن تتوقد ... إلخ، لماذا؟ لأن التجاني كان يبحث عن ملاذ من واقعه، عن ظل وهمي يتقي تحته حر الهجير، ووجده في الجمال وفي الهرب .

    وأشار الشاعر محمد الواثق إلى مهربين آخرين من مهارب التجاني قائلاً:

    إن التجاني انسحب إلى الطفولة حيث هو المسيطر على مخلوقاته التي يصنعها من الطين ... غير أن انسحابه الأعظم كان إلى داخل النفس الذي تعتريه فيه الوساوس المدمرة وما يتعلق بالدين منها على وجه أخص. وقد فُصل التجاني من المعهد بسبب شوشرة الوساوس .

    أيضاً، درس الأستاذ هنري رياض الشاعر توفيق صالح جبريل (1897م-1966م) وتحدث عن مَهْرَبَيْهِ الخمر والدهليز قائلاً:

    فقد وجد الشاعر في الخمر مسكناً يهدىء من روعه ويجعله يقبل واقع الوظيفة والعيش الفردي، وينسى أو يتناسى المسئولية ودوره في الصراع والنضال الذي انجرف إليه لما انضم إلى جمعية الاتحاد السوداني منذ 1918م،... وكان دهليز توفيق هو الملاذ الذي لجأ إليه كل صديق أو صاحب من هجير الحياة وسأم الفراغ، طلباً للأنس والبهجة .

    وتحدث الدكتور عبدالرحمن الخانجي عن مجموعة الشعراء الذين وردوا منهل التعليم المدني، ومنهم توفيق صالح جبريل، وصالح عبدالقادر ومكاوي يعقوب وحسيب على حسيب قائلاً:

    يجمع بينهم أنهم شعراء مدن يدور جل شعرهم عن مجالس أنسهم وسمرهم ورسائلهم. ويمتاز شعرهم بمسحة ثورية أكتسبوها خلال عملهم السياسي في الجمعيات السرية. ورغم ثورتهم طغى على شعرهم إحساس حاد بالغربة والحنين، حنين بعضهم إلى بعض حين فرقت بينهم الأيام. شعور بالغربة الروحية وهم داخل أوطانهم. ومن هنا كثر في شعرهم ذكر مجالسهم وما بها من صبوات كمخرج ومهرب التمسوه عله يخفف حدة المعاناة .

    أما الشاعر الدكتور محمد عبد الحي (1944م-1989م) فيرى في الهرب جانباً ايجابياً لكونه يُمثَّل حكماً على المجتمع. يقول عبد الحي:

    فما يبدو في ظاهره هروباً من المجتمع يحمل في جوهره حكماً على ذلك المجتمع وموقفاً من علاقاته... إن الشاعر لا يهرب وإنما يخرج على علائق المجتمع القائمة على حركة المال وصراع السلطة الزمنية والقيم الاجتماعية المرتبطة بها، إلى الحياة الوجدانية التي تمجد الخيال، والإبداع، والضمير والقيم الروحية الإنسانية. ثم إن ارتداد هذه القيم الوجدانية إلى البيئة الاجتماعية يصبح موقفاً سياسياً يحكم على العلاقات الاجتماعية القائمة على الاستغلال الاقتصادي. .

    أشار الدكتور قيصر موسى الزين في دراسته "ايديولوجيا الإفريقية والوعى السوداني: دراسة في تحليل نماذج من الأدب الأفريقي"، إلى ظاهرة الهروب مشيراً إلى محاولات هروب بعض شعراء المسلمين في الشمال (السوداني)، من أمثال المجذوب إلى ما أسماه: "المسيحية الثقافية" .
    وقد أشار الشاعر محمد الواثق إلى انسحاب إدريس جماع (1922م-1980م)، عن حياة الناس قائلاً:

    انسحب إدريس جماع إلى داخل نفسه وأصابه الذهول وشرود العقل حقيقة لا مجازاً... كان يتأسى بتذكر مصر... يشاطره في الانسحاب إلى مصر عبدالنبي عبدالقادر مرسال (1918م-1962م) ومحمد محمد علي (1922م-1970م) والهادي آدم (1927م-2006م). .

    ويصنف الشاعر والناقد محمد الواثق، الدكتور عبدالله الطيب (1921م-2003م) ضمن الهاربين ويقول عنه أنه اختلف عن بقية الهاربين بانسحابه إلى عالم الكتب. يقول الواثق: ((عبدالله الطيب هو صديق المجذوب ومحمد محمد علي ومنير صالح عبدالقادر. كان يهديهم دواوينه وأشعاره وكان قد أُحبط إحباطهم، لكنه لم يتوغل فيما توغلوا فيه... انسحب عبدالله الطيب إلى الكتب)).

    لعل أكثر الذين تحدثوا عن الهروب هو الشاعر محمد المكي إبراهيم. فقد قام بذلك منذ وقتٍ مبكر، إذ أشار للهروب في البحث الذي أعده بعد عودته من رحلته إلى ألمانيا بعنوان "المستقبل الحضاري في السودان"، ونُشره في صحيفة الرأى العام السودانية في أربع مقالات في يوم 6 و8 و13 و15 على التوالي من شهر ديسمبر عام 1963م. قال الشاعر المكي:

    في الغربة كنا سبعة شباب. لم نكن نغني عندما يجتاحنا الحنين لهدى وزينب وبتول. بعضنا لم تكن له يوماً في الأيام زينبه أو بتوله. وبعضنا كانت له، لكن على ضوء البعد والتجرد استطاع أن يرى أنّ كل ما بينه وبينها كان تحالفاً بين هاربين أرادا مغادرة السجن المفروض وليس فهماً وتعاطفاً يصلح أساساً لحب عنيف .

    من إشارة الشاعر المكي هذه استلف الدكتور عبدالله على إبراهيم مصطلح "تحالف الهاربين"، ووسم به عنوان ورقته الشهيرة "الأفروعربية أو تحالف الهاربين"، وستأتي الإشارة لذلك لاحقاً.

    وأشار أيضاً الشاعر المكي إلى الهروب في تصديره لكتاب الدكتور حسن أبشر الطيب، إطلالة في عشق الوطن، الذي صدر عام 2001م. إلا أن حديثه الموسع عن الهروب كان في كتابه الفكر السوداني: أصوله وتطوره الذي صدر عام 1976م، وقد أشار إلى الهروب في أربعة وعشرين موضعاً من ذلك الكتاب، تحدث المكي في تلك المواضع المتفرقة عن مظاهر الهروب ودوافعه لدى جيل مثقفي ورثة هزيمة كرري عام 1898م، ولدى جيل "أحفاد الهزيمة" و"جيل الوثبة" (ثورة 1924م)، وكذلك لدى ما أطلق عليه المكي "جيل السنوات العجاف" وهي السنوات التي تلت ثورة 1924م. وأشار المكي إلى أن مثقفي تلك الحقب المتتالية هربوا إلى الصحراء، وإلى الشعر والأدب. وتحدث عن الهروب لدى ما أسماه بـ "جيل الرواد" إلى الجنة الأوروبية. كما تحدث عن فشل جيل الرواد في تبني الحضارة الغربية قائلاً:

    فمع تقديرهم المبالغ فيه لحضارة الغرب ظلوا عاجزين عن تبنيها بدعوى أنها تراث إنساني وعالمي ومشاع وحتى اللحظة الأخيرة ظلت بالنسبة لهم حضارة أجنبية تقف في مواجهة حضارتهم العربية والإسلامية، فراحوا يرددون بمناسبة وبلا ومناسبة أساهم العميق على انحسار ظل الدولة الإسلامية، ويتمنون بحرارة أيامها الزاهرة .

    تبع ذلك نزعة الاعتزاز بالعروبة والإسلام، يقول المكي: ((وصلت هذه النزعة إلى أبعد حدود التطرف... ليس بالخيال وإنما بالعمل والمباشرة. فيصل الأمر لدى البنا حد اعتزال المدينة وسكن بادية البطانة وعند المرحوم الطيب السراج يتخذ صورة الحديث بالعربية الفصحى في كل شئون الحياة)) .

    أيضاً تناول الدكتور محمد جلال هاشم الهروب، وتحدث في دراسته "السودانوعروبية، أو تحالف الهاربين: المشروع الثقافي لعبدالله على إبراهيم في السودان"، عن الهروب الكبير إلى ما أسماه بـ "السودانوعروبية". وأشار إلى أنه نحت عنوان دراسته على غرار عنوان ورقة الدكتور عبدالله على إبراهيم "الأفروعربية أو تحالف الهاربين". وذكّر في صدر بحثه قائلاً: ((حريٌّ بنا أن نذكر أن بحثنا هذا ليس عن عبدالله علي إبراهيم، بقدر ما هو يستند على تحليل لمقالاته في هذا الشأن)) . وقال عن هدف دراسته:

    يهدف هذا المقال إلى ترسم أبعاد اتجاه جديد في قضايا الثقافة والهوية في السودان. هذا الإتجاه يقوم ـ كما نرى ـ على سودنة الإسلام والعروبة، وبالتالي رسم حدود هوية إسلاموعروبية خاصة بالسودان دونما عداه من دول أخرى ضمن المنظومة الإسلامية عامة، وتلك الناطقة بالعربية خاصة. ولهذا أطلقنا على هذا الاتجاه مصطلح "السودانوعروبية"، على أن "العروبية" تستبطن في داخلها الإسلام .

    وعن مصطلح "تحالف الهاربين" يقول دكتور محمد:

    ((لقد عني عبد الله علي إبراهيم بمصطلح "تحالف الهاربين" أولئك الذين هربوا من هويتهم إدعاءً لهويات لا أساس لها من الواقع. ونحن هنا نعني عكس ذلك. نعني أولئك الذين اختطوا لهم هويات بخلاف الهوية العربية، ثم هربوا فيما بعد من هوياتهم المصطنعة هذه ـ على حدة أو جماعات ـ اعتصاماً بهوية لهم أسميناها السودانوعروبية هي بنت الآفروعروبية التي كانت بدورها بنت المدرسة الإسلاموعروبية في السودان)) .

    درس الدكتور محمد جلال بمنهج وصفي تحليلي الأدبيات الخاصة بإشكالية هويّة السودان قائلاً:

    هذه الإشكالية لها ثلاثة محاور هي: العروبية، الآفروعروبية، والأفريقية. وقد نتجت عنها ثلاث مدارس في مجال الدراسات السودانية. سنتعرض للمدرستين العربية والأفريقية، ثم نركز تحليلنا على المدرسة الآفروعروبية. وسبب هذا أن السودانوعروبية ـ فيما نرى ـ هي بنت الآفروعروبية، أو على وجه التحقيق، هي الاتجاه الجديد الذي بدأت الآفروعروبية في التحول إليه والتشكل به، بعد نجاحها في استيعاب المدرسة العروبية. والآن جاء دور استيعاب كل عناصر التمرد فيها .

    أيضاً، أشار البروفسير عبدالسلام نورالدين إلى الهروب، وتحدث عن تجاهل النخب لثراء السودان، واعتصامهم بحضارة لا يمتون لها بصلة كما يمتون إلى الحضارات والثقافات التي يهربون منها بسبب عجزهم عن مواجهة تحديات بناء امة جديدة، قائلاً:

    قد تجاهلت النخب ... الثراء الواسع الذي تتمتع به - الأمة السودانية – والكامن في التليد والطارف من ثقافاتها الحية ولغاتها التي تتواصل بها ومنها العربية – وأديانها ومنها الإسلام واعتصمت بتاريخ شامخ وحضارة باهرة - لا تمت له ولم يشاركوا في بنائها ولم يدافعوا عنها وهي تتراجع - بكلمة واحدة - لا يمتون إليها كما يمتون إلى الثقافات والحضارات واللغات والآداب التي يهربون منها لعجزهم عن مواجهة تحديات بناء امة جديدة في أمس الحاجة إلى عقل جسور ووجدان عامر بالطموحات التاريخية وعيون مشرقة .

    نخلص من هذا الجرد المجمل لبعض الدراسات إلى أن ظاهرة الهروب، ظاهرة ماثلة في حياة المبدعين السودانيين. ويكاد الهروب يمثل الخيار المشترك لمعظم المبدعين والمتعلمين، خاصة الرعيل الأول منهم من أصحاب الطاقات الإبداعية الكبيرة. فقد هرب كبار المبدعين إلى باديتي الكبابيش والبطانة، وإلى المرأة والخمر، وإلى الجمال، والطفولة، ومجالس السمر، وإلى الأنثى الأجنبية في مصر ولبنان وحواضر أوروبا. كما كان الهروب في بعض الأحيان انسحاباً إلى الذات، وإلى الكتب والأدب العربي والحضارة العربية الإسلامية. غير أن ظاهرة الهروب لم تجد الاهتمام الكافي والدراسة الشاملة المحيطة بأسبابها وآثارها.

    يقول المؤلف في توطئته للكتاب:

    إن ظاهرة الهرب لها تجليات أوسع بكثير، مما أشار إليه الدارسون. فظاهرة الهرب، كما بدت له على ضوء ما بحث فيه، قد مثلت في حقيقة أمرها، توجها أكبر، وأوسع ما حصرتها فيه ملاحظات الدكتور عبدالله علي إبراهيم في مقالته الرائدة الشهيرة، التي عُرفت بـ "تحالف الهاربين".

    قدم الدكتور عبدالله علي إبراهيم في نهاية العقد التاسع من القرن المنصرم ورقه بعنوان "الأفروعربية أو تحالف الهاربين" إلى: ندوة الأقليات في الوطن العربي: دراسات في البناء الوطني والقومية العربية، التي نظمتها الجمعية العربية للعلوم السياسية وجامعة الخرطوم، قسم العلوم السياسية، في الأول من مارس عام 1988م، وقام بنشرها لاحقاً ضمن كتابه الثقافة والديمقراطية في السودان . أحدثت ورقة الدكتور عبدالله جدلاً واسعاً، وتوكأت عليها الكثير من الأوراق العلمية والمقالات الصحفية والحوارات الإسفيرية على شبكة الإنترنت، تمحور جُلها حول مصطلح تحالف الهاربين، وأخذت بعض الأوراق والمقالات بعنوان تحالف الهاربين. يحمد للدكتور عبدالله أنه أول من دفع بمصطلح "تحالف الهاربِين" إلى ساحة التداول للتفحُص النقدي والتحليل والتقويم للمُشكل السوداني. غير أن ورقة الدكتور عبد الله قد حصرت في جانب من جوانبها ظاهرة الهرب في المقابلة بين صحراء متزمتة، وغابة غير متزمتة، في حين يرى الدكتور النور حمد أن هناك هرباً تم من طرف متزمت في الثقافة العربية الإسلامية مثلته المدينة التركية، إلى طرف آخر داخل بنية الثقافة العربية الإسلامية مثلته البادية. يقول دكتور النور:

    إن الهروب وحالة التململ والتبرم من حياة مدن الوسط والشمال السوداني، لم يكن في واقع الأمر شأنا خاصا بجماعة الغابة والصحراء وحدهم، وإنما هو أمر شاركهم فيه أيضا الجيل السابق لهم، ومنهم الشاعر محمد سعيد العباسي، والشاعر الناصر قريب الله، والشاعر محمد أحمد محجوب .... فهروب كل من الشاعرين، محمد سعيد العباسي، والناصر قريب الله إلى بادية كردفان، إنما مثل هروباً من طرف كابت، قابض، متهجم الوجه، في جسد الثقافة العربسلامية إلى طرف آخر منها، طلق الوجه، متسامح، ومتفهم لروح الفن، ولروح الشعر مقارنة بما عليه الحال في ذلك الزمان في مدن الوسط النيلي، التي كانت السمات شرق الأوسطية المحافظة تسيطر على أسلوب حياتها.

    يعضد قول المؤلف في هذا المنحى ما ذهب إليه الدكتور حسن أبشر الطيب وهو يعلل اجتياب العباسي للبادية، وتركه للمدينة. يقول الدكتور حسن: ((لقد كانت البادية أحسن حالاً في الاعتراف بهذه العاطفة الإنسانية إذا قورنت بالمدن في ذلك الحين، لأن طبيعة الحياة فيها تجعل اختلاط الفتيات والفتيان أمراً مألوفاً ومقبولاً)) .

    إن الكبت والانغلاق والخنق الثقافي في المجتمعات تمثل أهم العوامل التي تجعل أفراد تلك المجتمعات يتجهون للهرب والمغادرة. فإن هم لم يفعلوا، وقعوا في براثن الموات و"التشيؤ". يقول أدونيس وهو يحكي كيف تطرد البلدان الكابتة أبناءها وبناتها:

    لفرط ما يعيش الناس في مجتمع مغلق، فقد غدوا هم أنفسهم مغلقين. ولفرط ما يعيشون في مجتمع دونما ثقافة، غدوا آلات، أو أشياء. إنهم يتشيؤون في هذا المجتمع، أو يغادرونه إذا أتيحت لهم فرصة العيش في بلدان أخرى، أكثر ديمقراطية

    الزمن الذي أُفسد فيه العالم:

    يثير كاتب هذا السفر في تقديري، قضية هامة جداً. فهو يرى أن الغزو التركي بما جاء به من فقه عثماني ولغة عربية فصحى، وما جاءت به الثورة المهدية من إلغاء للمذاهب وللطرق الصوفية، قد أدتا إلى تغيير المزاج الديني السوداني الموروث. وأربكتا المسار الطبيعي لحركة تطور المجتمع السوداني. وقد أشار الشاعر والناقد محمد الواثق إلى هذه القضية، مشيراً إلى أن صوفية الفونج الشعبية (سلطنة الفونج 1504م-1821م) شكَّلت المزاج الديني السوداني، ... والمزاج السناري يختلف في تدينه وتصوفه عن ذاك الذي يوجد في كتب اللغة العربية الفصحى . يقول مؤلف هذا السِفر: أن الغزو التركي قد جاء إلى السودان مستصحباً مؤسسته الدينية الفقهية الرسمية، الأمر الذي خلق من الحواضر السودانية "جزراً عثمانية معزولة" في محيط سوداني مغاير. ثم أعقب ذلك التزمت المهدوي. وعندما جاء البريطانيون قاموا بتقوية المؤسسة الفقهية الرسمية على حساب البيوت الصوفية. أدى كل ما تقدم إلى خلق حالة خانقة ضاق بها المبدعون، والمتعلمون، وعامة الناس. وإني لأري أن أدق وصف لحقبتي التركية والمهدية في السودان هو ما وصفتهما به قبائل الدينكا في جنوب السودان. يقول الدكتور فرانسيس دينق: ((إن الدينكا يشيرون إلى ... فترات حكم الأتراك- المصريين والمهدويين "على السواء" بـ "الزمن الذي أُفسِد فيه العالم"، وهو تعبير عن كراهية، تحدثوا عنها باستمرار وبصورة حية)) . على الرغم من أن الجنوبيون قد رحبوا بالمهدي وبثورته ضد طغيان الحكم التركي المصري، وابتهجت قبيلة الدينكا، أكبر قبائل جنوب السودان، بشخصية المهدي الدينية لدرجة أنها نظرت إليه كمرشد وموجه واستوعبته في دينها التقليدي الخاص، فالمهدي، كروح مقدس، أصبح ينظر إليه بوصفه ابن دينق Deng، الروح العظيمة التي يقدسها جميع أفراد القبيلة . ولكن اتضح لهم فيما بعد بأن المهدية نفسها قد أصبحت هي الأخرى سبباً رئيسياً للدمار . فظهرت الإشارة لفترات الحكم التركي المصري والمهدية في آدابهم الشفاهية ككارثة كونية وانهيار في المجتمع نفسه .


    كتب أحمد محمد عثمان قاضي (1883م-1961م) مشيراً إلى خلو الحياة السودانية من العلوم والفنون، نتيجة للمفاهيم الدينية المتزمتة، قائلاً:

    إن الدين جاء لإصلاح البشر وإسعادهم لا استغلالهم واستعبادهم، كما هو الحال في السودان آنذاك والنتيجة هي انتشار الدعاوي الساذجة بين الناس وكثرة العاطلين وطمس عقول الناس بالجهالة فأصبحت البلاد لا أثار للحضارة فيها فلا علوم ولا فنون. إنني أرى أثر الحضارة العربية في الثقافة السودانية كان أثراً سلبياً ولا حول ولا قوة إلا بالله .

    ويسير محمد أحمد محجوب في وجهة مشابهة لوجهة أحمد عثمان قاضي فيقول:


    وفي صيف سنة 1930م ذهبت إلى القاهرة فكنت أذوق للحياة لذة تعدل تلك التي كنت أحسها في القرية على الرغم من اختلاف الحياتين... ففي القاهرة مرح المدينة المنظم وسبل الراحة الحديثة ... ليس بين شبابنا المثقف المستنير من لا يشعر بفداحة الحياة وثقلها ويجد انقباضها في نفسه وكراهة لعيشه وصحابه الذين يجتمع بهم ويود لو تغيّرت هذه الحال وتبدلت بأحسن منها وليس بينهم من لا يمسه هذا التكرار الممل وهذا القبح الكريه ويود لو تنوعت صور الحياة وأخذت من الأشكال والقوالب غير هذا المأخذ. .

    ويمضي مؤسس مجلة الفجر، عرفات محمد عبدالله (1897م-1936م) في نفس تلك الوجهة فيقول:

    نعم إذا ذهبت إلى مصر أو إحدى العواصم الأوروبية لدهشت من كثرة وتنوع النوادي الخاصة والعامة (ولا أحسب ضمنها المقاهي) فهنا ناد للموسيقى وهناك معرض دائم للنحت والرسم وما إليها... وإذا كنا نحن محرومين من الكثير من هذا فليس أقل من أن نعنى بما يخفف بعض الشئ من مرارة هذا الحرمان.

    لقد ورثت الطلائع الأولى للمتعلمين شخصية الكيان السوداني الذي برزت كينونته السياسية الموحدة في القرن التاسع عشر الميلادي كما رسمته فترة الحكم التركي. لقد كان القرن التاسع عشر في السودان قرناً عاصفاً وملتهباً. يقول الدكتور محمد سعيد القدال: ((إن القرن التاسع عشر كان مسرح التحولات العاصفة في تاريخ السودان الحديث)) . وقد تمددت آثار تفاعلات القرن التاسع عشر المختلفة لتلون، الحياة السودانية عبر عقود القرن العشرين، بل ولتمتد حتى يومنا هذا. يقول البروفيسور عثمان سيد أحمد البيلي:

    فلقد كان القرن التاسع عشر بحق هو قرن الدين والسياسة في السودان. فالقرن التاسع عشر شهد دخول الطريقة "الختمية" السودان وانتشارها فيه، والقرن التاسع عشر شهد دخول الأتراك السودان (1821م-1885م)، والقرن التاسع عشر شهد في خمسه الأخير "الثورة المهدية" (1881م-1885م)) ، وفي عامية الأخيرين بدأ الحكم الثنائي البريطاني- المصري (1898م-1956م).

    يسير المؤلف في قراءاته لتلك النقلات في نفس الوجهة التي حكاها البروفيسور عثمان، مشيراً إلى تأثير تلك النقلات على وضع المرأة السودانية. وينسب المؤلف حالة الشد العنيف والغلو والتزمت، التي وسمت الحواضر السودانية، إلى المؤسسة الفقهية التركية التي صاغت الحياة في المدنية السودانية وفقا للقالب العثماني، قائلاً: ((أحدثت حواضر الوسط، التركية المنشأ والطابع، وضعاً جديداً في الحياة السودانية. وهو وضع أرى أن نساء السودان لم يعرفنه قبل وفود الأتراك)). أرجع المؤلف ظاهرة حجب النساء، وإخفائهن، وإبعادهن عن المشاركة في الحياة العامة، إلى فعل المؤسسة الفقهية التركية الوافدة، وهو أمر ثبتته الدولة المهدية وعمقته. وما ذهب إليه المؤلف من أن حجب المرأة في المدن السودانية، أثر تركي، يجد سنده فيما ذكره المربي، بابكر بدري (1861م-1954م)، حيث أشار إلى أن الغلو الطارئ الذي شاب النظرة إنما يرجع إلى التأثيرات التركية الوافدة. يقول الشيخ، بابكر بدري في مذكراته:

    ولما كانت مدرسة الأولاد بلصق مدرسة البنات وشبابيكها فاتحة على مدرسة البنات أخَّرنا دخول التلاميذ والمعلمين بعد الساعة التاسعة. وإني لأعجب من هذا الغلو في التستر على المرأة ... وأظنه مكتسباً من الأتراك الذين مكثوا حكاماً من سنة 1236هـ إلى سنة 1298هـ والناس مولعون بما يوافق مليكهم .

    أيضاً يؤكد المؤلف على تأثير الطهرانية المهدوية على جفاف الحياة السودانية، واخشوشانها وحجبها للمرأة، وأبعادها عن الحياة العامة. ويؤيد ذلك، بما جاء في منشورات المهدي. إن ما ذهب إليه المؤلف يعززه ما أورده المؤرخ محمد عبد الرحيم (1869م-1961م)، صاحب كتاب نفثات اليراع في الأدب والتاريخ والاجتماع، حينما تحدث عن ضيق وتذمر الأهالي بفترتي الحكم التركي المصري، والمهدية. يقول محمد عبد الرحيم إن أكثر شعر تلك الفترة: ((.. يكوِّن في مجموعته نقداً صارماً دقيقاً لأعمال الأتراك في شتى وجوه الهجاء والتأنيب والتذمر والضيق بهم وبحكومتهم)) ويضيف إلى تذمر الأهالي بالتركية، تذمرهم بالمهدية، التي يصفها بأنها:

    حالت بينهم وبين كثير مما كانوا يألفون من أخلاق، وأرغمتهم على أن يسيروا وفق المنهج الديني الذي رسمته لهم في عهدها الفائت. ولقد كان أول آثارها الظاهرة عند عامة الشعب هو هذه الحيلولة الكثيفة بينهم وبين الخروج على ما أمر به الدين وما نهى عنه. وذلك العمل المتصل في أن تُصبغ الحياة السودانية بصبغة فيها زهادة وخشونة فلا خز ولا دمقس ولا رفاهة في ملبس ولا فراهة في مركب وانما القلوب وحدها هي التي ينبغي أن تكون موضع العناية لأن الله تعالى ينظر إلى القلوب لا إلى الأجسام، وعسير على شعب كالسودان أن يحمل على هذا المركب الخشن فلا يضيق عامته ولا يبرمون به .

    ولقد أورد صاحب نفثات اليراع نماذج غنائية وأشعاراً كثيرة منها ما كان يتغنى به المناصير والشايقية ساخطين على المهدية. وقد قيلت الأشعار في عهد الشيخ محمد خير، شيخ المهدي الأول:

    لا مريسـي ولا طنبيـر ولا تمبـاك ولا سنجيــر
    ودا كله من مهديك الكبير وعقرباً تطقك يا محمد خير


    ويضيف صاحب نفثات اليراع بعضاً مما عبرت به قبيلة الكبابيش عن الضيق بالمهدية، إذ قال شاعرهم ناقداً التمسك بالمظهر الديني المتمثل في اللحى والزي:


    مقدم ناس لفيت أبو دقنـاً راخيـها طاقيتـه سـعف بي إيده شافيـها
    وجبته مرقعه حتى الجـلود فيـها من دُغشاً كبيـر صـلاته باديـها
    لا عارف ليـها فقـه ولا جِيـه إن ذاكرك بالجـنة تقول كان فيـها


    الفقه العثماني وتغيير المزاج الديني:

    عاش السودان قبل العهد التركي-المصري (1821م-1885م) مرحلة الممالك المتعددة المستقلة والتحالفات القبلية، فقد كان يفتقر إلى المركزية الإدارية الجامعة. ولقد كانت (الصوفية) هي مركزية الاستقطاب الوحيدة الناشئة على سطح الولاءات القبلية والإقليمية . يقول البروفسير يوسف فضل حسن: ((كان من أهم منجزات المنهج الصوفي، سعيه تحت راية الإسلام لإضعاف العصبية العرقية والولاء القبلي ... وقد أسهمت الطرق الصوفية بسبب غياب حكومة مركزية قوية في تكوين الأطر الاجتماعية والدينية بين الشعوب السودانية في كنف الإسلام)) . فالإسلام الصوفي، مثل المعتقدات والتقاليد الأفريقية، فهو أكثر مرونة في تقبله للتنوع في التعبير الفني والإفساح للطاقة الفنية مقارناً بالإسلام الفقهي الرسمي .

    اتجه السودان في الفترة السنارية "سلطنة الفونج (1504م-1821م)" بنظره إلى الشرق أي صوب الحجاز والجزيرة العربية أكثر من اتجاهه صوب مصر، وذلك أمر طبيعي إذ كانت مكة والمدينة تمثلان مركز الوحي الديني والروحي أكثر من القاهرة . وعلى الرغم من هجرة بعض السودانيين إلى الأزهر الشريف للاستزاده من معارفه الإسلامية، وإهتمام العلماء السودانيين بتحفيظ القرآن الكريم وتفسير ونشر الفقه خاصة رسالة ابن أبي زيد القيرواني ومختصر خليل بن إسحاق والتوحيد والحديث والسيرة وعلوم اللغة العربية. إلا أن هذه الثقافة الفقهية ... لم تستهو كل السودانيين، إذ فضل عامة الناس الانخراط في سلك الطرق الصوفية... وكان انتشار الإسلام على أيدي مشايخ الطرق الصوفية أوسع نطاقاً فأحبهم العامة والخاصة... وقد دفع هذا الوضع الفقهاء ليترسموا خطى رجال التصوف . وظل التصوف وتصوف "الفقرا" بوجه خاص يقوم مقام الدين نفسه، ومن ثم يشكل المزاج الديني للسودانيين... . انهارت سلطنة الفونج عام 1821م أمام الغزو التركي المصري الذي استطاع عبر ستين عاماً أن يحدد لأول مرة شخصية الكيان السوداني الموحد ، ويتخذ الخرطوم عاصمة للبلاد.

    كان الغزو التركي هو نقطة التحول في دخول السودان في مزاج ديني جديد. فقد أدخل الغزو التركي المصري معه "الشريعة" في صورتها الفقهية التي كان لها في السابق أثر أقل قوة في الحياة السودانية. فبالرغم من أن الناس، ارتبطوا بالقانون الإسلامي "حسب المذهب"، إلا أننا نجد أن العادات القبلية وعادات ما يسمى بـ "الإسلام الشعبي"، تمثل في أغلب الأحيان القانون النافذ. فالإدارة التركية المصرية جاءت بمخطط مختلف همه الأساس أن يخدم أغراضها هي كسلطة وافدة، فأقامت هياكل للمحاكم الشرعية لتطبيق أحكام الشريعة، وشيد المصريون عدداً من المساجد، وسهلوا تعليم أعداد كبيرة من "العلماء" السودانيين للتخصص في علوم الدين .

    لقد تحدث الشاعر محمد المكي إبراهيم عن آثار العهد التركي، مشيراً إلى أنه أسس للاتصال المباشر بين السودان ومنابع الثقافة العربية الإسلامية قائلاً: ((ومنذ هذا التاريخ-تاريخ الغزو التركي- يبدأ السودان اتصاله الوثيق بالعالم العربي فيشاركه انتصاراته ومحنه وازماته... ولكن هذا الاتصال الوثيق يتخذ منذ وقت مبكر صورة غريبة –وإن كانت متوقعة- هي صورة التطلع إلى مصر... هذه الصلة لها أثرها الحاسم على الفكر السوداني خلال وبعد العهد التركي وإلى عصرنا الحاضر... فمنذ ذلك التاريخ تلعب مصر دوراً أساسياً في توجيه الفكر السوداني وإلهامه، وأحياناً أخرى خنقه وتبديد طاقات الإبداع فيه)) .

    يقول المؤلف:

    وقد جاءت التركية إلى السودان بفقهائها، ووعاظها، وقضها وقضيضها من الدين المؤسسي الرسمي، في نسخته العثمانية. ولا أستبعد أن يكون كل ذلك الجيش من الوعاظ الرسميين، وغيرهم من رجال الإدارة المدنية قد كانوا يرون في أهل السودان قوماً وثنيين. وربما رأوهم في أحسن أحوالهم مسلمين سذجاً يعتنقون إسلاماً مخلوطاً بالشعوذة والخرافات. ولربما حسبوهم أباحيين أيضا، لا يعرفون لعلاقاتهم تنظيماً، ويجب من ثم تعليمهم "أصول" الدين.


    إن المؤسسة الفقهيه العثمانية الوافدة أدانت التدين الذي كان يمارسه السودانيون، كما أسست للصراع الديني في السودان، يقول الدكتور عبداللطيف البوني: إن بداية الصراع أو التوتر الديني في السودان يبدأ بقدوم فترة التركية المصرية. فهذه الفترة شهدت ثلاث ظواهر دينية لم تكن موجودة من قبل، أولها أن حملة الفتح اصطحبت معها فقهاء سنيين ، وهم القاضي محمد الأسيوطي الحنفي والسيد أحمد البقلي، "وهو شافعي وقد رجع بعد خمس سنوات عائداً إلى مصر" والشيخ السلاوي المغربي المالكي . ويقول الدكتور محمد سعيد القدال مشيراً لخبر اصطحاب حملة الفتح للفقهاء قائلاً: ((شهد مطلع القرن التاسع عشر شكلاً آخر للإقحام السافر للدين في السياسة... إن هذا الخبر –خبر اصطحاب حملة الفتح للعلماء- له دلالاته الهامة. أولها أن محمد على قرر منذ البداية أن يكون الدين بجانب السيف أداة لكسب أهل البلاد وتوطيد دعائم حكمه. فأرسل أولئك العلماء لمخاطبة الأهالي كلاً وفق المذهب الذي يعتنقه. وثانيها أن أولئك العلماء قبِلوا أن يكونوا أداة في يد الجيش الغازي، ليقنعوا الناس بالخضوع للحكم الأجنبي، ويزينوا لهم ذلك الحكم بأغلفة دينية. وثالثها أن محمد على كان يجهل الخريطة الدينية في السودان، مما أطره لإرسال ثلاثة علماء من مختلف المذاهب، مع أن غالبية أهل البلاد كانوا يتبعون المذهب المالكي)) . كانت مهمة الفقهاء تبرير حملة الفتح. لقد كان محور عمل الوعاظ القادمين إدانة التدين الذي كان يمارسه السودانيون آنذاك من خلال طرقهم الصوفية. والظاهرة الثانية التي شهدتها تلك الفترة كما يقول الدكتور البوني هي انتشار الطريقة الختمية في السودان، ... أما الظاهرة الثالثة فقد كانت مجىء الآباء الكاثوليك- مثل دانيال كمبوني- الذين نشروا كنائسهم في شمال السودان، ... ثم جاءت المهدية وهي منطلقة من زعم بأنها إنما تأخذ من المصدر مباشرة، وأنها بتلك الصفة تمثل توجهاً دينياً خاتماً، فألغت المذاهب والطرق الصوفية واعتبرت الانتظام في سلك المهدية هو السبيل الوحيد للخلاص .

    يقول المؤلف:

    تراجع المتصوفة السودانيون الذين أربكتهم الثورة المهدية وخطابها الديني الذي نسف الأرضية التي يقوم عليها أي مذهب، صوفياً كان أم فقهياً، عن كثير من أفقهم الصوفي. إذ قرب الضغط المهدوي، بين الطرق الصوفية والمؤسسة الفقهية التركية. ارتمت الطرق الصوفية هونا ما في حضن المؤسسة الفقهية التركية التي كانت تدعم السلطات التركية ضد الثورة المهدية.

    بدأ الحكم الثنائي عام 1898م. ومنذ الوهلة الأولى عمل البريطانيون بعد تجربتهم مع الثورة المهدية، على تقوية علماء الفقه على حساب المتصوفة، وسعوا إلى تقليص نفوذ الطرق التصوف، يقول الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد (1942م- 2004م):

    وبهدف الإمعان في تقليص نفوذ قادة الطرق الصوفية لجأت الإدارة الاستعمارية إلى تقوية جانب المدرسة المنافسة... ولهذا الغرض أنشأت في عام 1902م مجلساً مقره جامع أم درمان أطلقت عليه اسم "لجنة العلماء" وذلك بهدف تركيز فكر سني معارض للصوفية وداعم لمركز علماء الفقه والسنة كغطاء ديني للسلطة البريطانية من ناحية ولموازنة نفوذ الفكر الصوفي من ناحية أخرى .

    دعمت المؤسسة الفقهية السلطة البريطانية وظل الفقهاء يجتمعون مع السلطان، وعملت السلطة البريطانية على تذكية الصراع الخفي بين الطوائف والطرق الصوفية، وأظهرت الاحترام لأقطابها، بل جذبوهم لحضور الحفلات الرسمية. ومما يذكر في هذا اﻟﻤﺠال أن بعض شيوخ الطرق الصوفية وعلماء الدين حضروا إلى سراي الحاكم العام بمناسبة تتويج ملك بريطانيا، و تسامروا مع الحاكم العام وبطانته في ود ظاهر. وبينما هم في هذه ا لمسامرة سمعوا من يؤذن في القصر لصلاة العصر، وعرفوا أن الشيخ قريب الله أبو صالح ( شيخ الطريقة السمانية "1864م-1936م"، وهو والد الشاعر الناصر وحفيد الشيخ الطيب "راجل أم مرحي") هو الذي أمر بالآذان، ويقال أنه لم يتبعه للصلاة سوى واحد فقط، أما الباقون فقد آثروا مجاملة الحاكم العام، وقد تعرض هو لهذه الواقعة في قوله من قصيدة طويلة :

    تعرض قوم للوعيد بعمدهم لتركهم المفروض في حفلة (السر)
    يدينون دين الكافرين بتركه وتأخيره عمـداً حيـاء من الكفر
    ويدعوهم داعي الصلاة محيعلاً فيرمونه جهلاً مضـلاً وراء ظهر
    وان قال بعض منهم: انهضوا بنا نصلي صلاة العصر قالوا له (بدري)



    كان تمكُن المؤسسة الفقهية العثمانية وتمددها في القرن التاسع عشر في السودان، من بين أهم العوامل التي ساهمت في تعطيل حركة التغيير في السودان. يضاف إلى ذلك، سير البريطانيين على نهج العثمانيين في دعم الفقهاء على حساب المتصوفة، وتشجيعهم لروح المنافسة بين الطوائف، يضاف إلى ذلك، نوع التعليم الذي أتوا به وأهدافه التي تم حصرها في تحقيق أغراضهم. كان لتلك العوامل دورها في إصابة متعلمي السودان بعلة الهرب، الأمر الذي انعكس على مسار حركة التغيير في السودان. يقول الأستاذ عبدالرحمن محمد في كتابه السودان: الوحدة أم التمزق: ((وفي حقيقة الأمر فإن الميراث البريطاني الإداري لم يشفع للسودانيين لمواصلة الحكم بفاعلية، وكما حدث في الهند فلقد أرسو دعائم حكم القانون، ولكن، ورغم المظهر الخارجي، كما قال نهرو "جمدوا حركة التغيير")). ويبدو أن السير جيمس روبرتسون، آخر سكرتير إداري في السودان، كانت له وجهة نظر مماثلة حين قال ((إن النظرة للسودانيين المتعلمين كانت ملأى بالشك، ولم يكن يسمح لهم بالتعبير عن أفكارهم كما لم يهيأوا لمهام مستقبلية... إنهم كحكام شجعوا على التنافس المحموم بين الطائفتين الدينيتين وزعيميهما، وهي سياسة يعترف بآثارها السلبية على السياسة السودانية)) . وأضاف الأستاذ عبدالرحمن محمد مُورداً حديث بازل ديفيدسون: ((إنه في أغلب الحالات في المستعمرات "فإن التعليم كان من أجل تثبيت الأمر الواقع، والأمر الواقع الاستعماري على وجه التحديد)). ويمضي الأستاذ عبد الرحمن محمد موضحاً: (( وأن نفوذ من احتلوا المواقع استمر "لأن المكاتب التي جلسوا عليها، هي نفسها المكاتب القديمة، وكذلك الملفات التي يعملون عليها، فقد تغيّر الحكام ولم تتغير مؤسسات الحكومة الكولونيالية")) .

    أما مؤلف هذا السفر فيسير في نفس الوجهة التي طرقها سابقوه ولكنه يبين الأمر ويوسع تاثيراته على نحو أفضل، فهو يقول:

    قاد الخريجون الأوائل حراك مناهضة الاستعمار، ولكن الطائفية هي التي جنت في عقود قليلة، وبلا جهد يذكر، وبلا استحقاق يذكر، ثمار جهود أولئك الخريجين. ابتلعت الطائفية طاقات الجيل الأول من الخريجين، بعد أن وضعتهم تحت جناحها... انصرف الهاربون عن منازلة الطائفية، التي كانت بحكم تمترسها في خندق الموروث الديني المكبل، قد حددت سقفا خفيضا لنمو الحياة السودانية. وهكذا فقد القطر طاقة أذكيائه وموهوبيه، الذين ابتلعتهم جيوب الهرب المختلفة المعزولة.

    إن ما ذهب إليه المؤلف قد عبر عنه أيضا الأستاذ، أحمد خير المحامي بقوله:

    بدأ الجيل الحديث في السودان يشعر بكيان مستقل في المجتمع السوداني وانحصر جهده وجهاده لبضع سنوات في تحقيق غرض واحد وهو محاولة انتزاع أزمَّة القيادة الشعبية من الزعماء الدينيين... وكانوا ينادون بتحرير الفكر وانطلاقه من قيود العادات ورواسب التقاليد الفاسدة وأوهام الخرافة التي ليست من الدين في شئ .

    لم يستطع الجيل الحديث انتزاع القيادة الشعبية من الزعماء الدينيين، ولم تستمر تلك المواجهة، بل لم يدم نداؤهم بتحرير الفكر وانطلاقه من قيود العادات ورواسب التقاليد الفاسدة أمداً كافياً، إذ اختار جلهم الهرب وابتلعت بعضهم خدمة القوى الطائفية. يقول المؤلف:

    الذين اختاروا تيه الهرب، اختاروا، بالضرورة، ألا ينازلوا السالب والراكد في بنية ثقافتهم التي وقفت، بحكم حالة الانقسام التي عانتها آنذاك، في وجه انطلاقة التحديث، وارتياد آفاق المعاصرة. أسهم طلائع الخريجين الذين اختاروا مركب الطائفية، في تكبيل انطلاقة البلاد نحو أفق الحداثة، ونحو ارتياد معارك تجديد التراث وإحيائه، وغربلته، وإعادة صياغته وتوجيهه في الوجهة التي تخدم صورة المستقبل، لا في وجهة تركه على ما هو عليه، ومن ثم حبس البلاد والعباد في دوامة النكوص والتراجع، التي وسمت عقود ما بعد الاستقلال.

    أصبح واقع الحياة السودانية في القرن العشرين نتاجاً طبيعياً لتفاعلات القرن التاسع عشر الميلادي، قرن الدين والسياسة. لقد دخل السودان القرن العشرين بمزاج ديني جديد، قوامه الفقه العثماني، وحل الفقيه محل الفكي، وتكلس المزاج الديني الصوفي السناري. وبدأ الغلو والتزمت بعد أن أحكمت المؤسسة الفقهية المتزمتة قبضتها على حياة الناس، وتجلى ذلك بوضوح شديد في خيارات المبدعين والمتعلمين. فقد استطاع الفقه أن يحتل موقع مانح الصكوك فيما يتعلق بخيارات المبدعين. فيجيز بعضها، ويمنع بعضها الآخر، بل، وأحيانا، يجتث الرغبة من جذورها. يقول الشاعر محمد المهدي المجذوب في مقدمة ديوانه نار المجاذيب: ((وما كنت أعد نفسي في الشعراء، فقد اشتهيت أن أكون رساماً ولم أفلح)) . ويوضح لنا الدكتور عبدالله الطيب -قريب المجذوب وصديقه- سبب هجر المجذوب للرسم، فيقول: ((كان المجذوب فناناً، أقصد رساماً، وكان والده يرى في الرسم شيئاً من الحرمة مثل رسم الوجوه وما شابه ذلك، ولما ضُرب المجذوب من الناحية الفقهية تحوَّل إلى الشعر)) . ضرب الفقه المجذوب، وحجَّم عبقريته وحدَّد مسار إبداعه، فتحوّل بضربة فقهية من رسام، كما اشتهى، إلى شاعر حيث انتهى. وقد لاحظ الشاعر والسياسي محمد أحمد محجوب تأخر ظهور فن الرسم في السودان قائلاً: ((فهذه البلد الناشئة التي بدأت تكوَّن نفسها ... لم يظهر بين أبنائها حتى اليوم مصور واحد يرسم على اللوحة ما ينسجه خياله ويستخرج من حياتنا صوراً يكون لها نصيبها من الجودة والبراعة)) . حينما كتب المحجوب مقاله هذا في العام 1932م. كان المجذوب الرسام ابن الأربعة عشر ربيعاً، يناطح الفقه ليكون رساماً كما اشتهى، غير أنه لم يفلح فمات فيه الرسام، وعاش الشاعر.

    الشاهد، أن في الواقع السوداني قوى تعمل على تبديد طاقات المبدعين، وعلى صرفهم عن وجهاتهم. كتب الطيب صالح عن صديقه السني بانقا قائلاً: ((والسني أديب؛ ولعله حلم أن يوقف حياته على الأدب، لو كان السودان غير السودان. كان أكثرنا إلماماً بالأدب، ونحن صبية في مدرسة "وادي سيدنا" الثانوية ... إنه أيضا مثل على تبديد الطاقات في السودان .. انتهى به الأمر أن أصبح إدارياً)) .

    يعيش السودان الآن آثار تفاعلات القرن التاسع عشر في أقصى حالات التهابها. لقد تمكنت المؤسسة الفقهية الوافدة واستوطنت، وغدى مزاجها الديني وخطابها الفكري هو السائد والمتحكم، وسرت روح الفقه، رويداً، رويداً، واكتسى التصوف حلة فقهية، وأصبح يقترب أكثر فأكثر من السلطة. انتصرت المؤسسة الفقهية على مكونات الثقافات السودانية الأخرى حتى غدا الفقيه، الذي كان يرسل خطابه عبر آليات محدودة، قوامها المسجد والخلوة، والمعهد الديني ... إلخ، هو الدولة نفسها. فالفقه العثماني بتغييره لمزاج السودانيين الديني المحلي، هو الذي مهد الطريق لحركة الإخوان المسلمين لتصل، إلى السلطة، في نهاية المطاف. فأصبح الفقيه هو المخطط، والمشرع، والمنفذ، والقاضي. وهكذا بوصول العقل الفقهي إلى سدة السلطة اشتدت حالة الخنق، فتحول الهرب من مسلك فردي إلى خروج جماعي من البلاد، يشبه ما يسمى في الأدبيات التاريخية بالـ mass exodus. كتب الشاعر محمد المكي إبراهيم في العام 2002م، قائلاً: ((ففي السنوات الأخيرة من القرن العشرين كانت قد اكتملت سلسلة الخروج من السودان هرباً من العسف السياسي والبؤس الاقتصادي وغياب الحرية وإظلام الحياة الفكرية وإجدابها)) .

    لقد كان الدكتور النور علمياً وموضوعياً في هذا الكتاب. فهو لم يذهب إلى إطلاق أحكام عامة غير مؤيدة بالشواهد. فقد تناول النماذج التي قدمها بتعاطف كبير. فعل ذلك، وكأنه يريد أن يقول لنا: أننا لو وضعنا في موضع هؤلاء المبدعين لما كان حالنا مختلفاً عنهم في شيء. وإني لأكاد أجزم أن غالبية المثقفين والمتعلمين سيجدون أنفسهم، أو طرفاً منها، فيما حواه هذا الكتاب.

    لفت المؤلف الانتباه إلى ظاهرة قصر أعمار المبدعين، وربط ذلك بحالة الخنق الثقافي والوجداني واستخدم لذلك عينة عشوائية من خمسة عشر من أشهر مبدعي السودان. خلص فيها إلى أن متوسط عمر الفرد من هذه العينة لا يصل إلى الخمسين عاما! وقد سبق أن نوه الطيب صالح بهذه الظاهرة وبما اسماه الموت الماساوي للنوابغ. يقول الطيب صالح عن معاوية محمد نور: ((انتهى به المطاف إلى داره في أمدرمان، ... وأصيب في عقله، فركن إلى شيخ يعطيه الرقى والتعاويذ. وتوفي في عام 1941م وعمره فوق الثلاثين بقليل ... جاهد جهاداً نبيلاً ومات موتاً مأساوياً. والموت المأساوي للنوابغ في السودان، أمر مألوف، فهو بلد أعطاه الله كل شيء، وحرمه كل شيء)) .

    يُمثل هذا الكتاب، في تقديري، إضافة حقيقية للمكتبة السودانية، وكسباً كبيراً في مجال النقد والتحليل لمكونات الواقع الثقافي والفكري في السودان. فقد لفت هذا الكتاب الانتباه، بشكل غير مسبوق، إلى تاثيرات الفقه العثماني على المزاج الديني في السودان. وفي ذلك إيعاز وحث للباحثين والدارسين والمهتمين بالدراسات السودانية، إلى ضرورة الدراسة المتعمقة والموسعة لتأثيرات الحقبة العثمانية على الحياة السودانية في مختلف مناحيها.

    ويُعد هذا الكتاب، بمثابة العودة الثانية لدكتور النور حمد إلى معركة فحص مكونات الواقع الثقافي والفكري في السودان. فقد كانت جولته الأولى في مواجهة الواقع السوداني في صحبة أستاذه ومربيه، الأستاذ محمود محمد طه. وعلى الرغم من أنه ظل على الدوام ناشطاً في العمل التشكيلي، ونشر المقالات، والمداخلات في الدوريات من صحف يومية ومجلات علمية، وعلى شبكة الإنترنت. إلا أن هذا الكتاب يُعد المساهمة الأكاديمية الأولى للدكتور النور حمد في دراسة الشأن السوداني. فالكتاب إذن يمثل تواصلاً جديداً، بين الشعب السوداني، وتلاميذ الأستاذ محمود محمد طه، المعروفين باسم (الإخوان الجمهوريين). لقد قدم تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه مساهمة شامخة ورائدة في مواجهة الواقع السوداني، ومصادمة العقل الثقافي السائد، خاصة في عقد السبعينات وبدايات عقد الثمانينات، إلا أنه لم تصلنا منهم منذ تنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود عام 1985م مساهمات كبيرة، سواء في توسيع الإنتاج المعرفي للأستاذ محمود محمد طه، أو في دراسة الشأن السوداني، غير القليل الذي لا يتناسب، في تقديري، وطول فترة التتلمذ التي قضوها في معية الأستاذ محمود. أصدر بعض الجمهوريين عدداً قليلاً من الكتب، إضافة إلى مساهماتهم في الدوريات والمواقع على شبكة الإنترنت. ففي ظني أن تلاميذ الأستاذ محمود أقدر المثقفين السودانيين على المساهمة بجرأة وشجاعة في دراسة المُشّكِل السوداني، وأخبرهم بمكونات العقل الثقافي السائد والفكر السلفي الوافد.

    إنني أرى أن البحث في أسباب الهروب ودوافعه لا ينفك عن الصراع الجاري لإيجاد مرتكز حضاري للسودان. لقد انفصل السودان عن مرتكزه في الحضارات النوبية والثقافات الأفريقية، فأضحى يسير قسراً في وجهة تناقض آركيوليوجيته الثقافيه وتناطح إرثه الحضاري. لذا كانت الحصيلة التاريخية لجهود تحقيق حالة سودانية متجانسة متناغمة، حتى هذه اللحظة، جهوداً قاصرة في رؤيتها وضعيفة في آلياتها. ولهذا، ليس هناك سودان بعد، وإنما هناك بحث عن السودان. ولكي نبني السودان المرغوب والمتصور، لابد من قتل السودان الحالي الموروث، المضطرب، بحثاً، ووضع دراساته على الأرفف وبثها في الفضاء. نعني ذلك النوع من البحث الذي يلبي نداء النظر الجديد الذي أطلقه محمد عشري الصديق عام 1929م، وصدّرنا به هذا التصدير احتفاءً به. في هذا المضمار النهضوي لابد من صدم أنفسنا بالحقائق، كما يقول حمزة الملك طمبل (1897م-1951م): ((يجب أن نصدم أنفسنا بالحقائق ونترك المجاملة في الحق التي هي ضرب خطر من ضروب النفاق وسبب لهذا البوار الأخلاقي)) . فما زلنا كما يقول المجذوب ((شعباً يتجاهل أخطاءه، ويملأ الدنيا بالفخر الكاذب.. والمغالطة..)) . إن بحث قضايا السودان بالنظر الجديد يحتاج للجرأة، وللعقل الحر، والعمق المعرفي، وتلك خصائص يتمتع بها الفنانون، أكثر من غيرهم. يقول معاوية محمد نور: ((الفنان المجيد خادم الحكمة الإلهية ومستودع الشعلة الخالدة)) . ويقول الشاعر محمد المهدي المجذوب: ((الإنسان المسؤول لا تنفعه المواعظ وإنما يبعثه الفن على التساؤل )).

    لقد فتح هذا الكتاب شهيتي إلى مزيد من إسهامات الفنانين في دراسة الشأن السوداني. ففي تقديري أن الفنانين من أصحاب الرؤية، وهم الأقدر على استيعاب الثراء السوداني، والأقرب إلى رسم صورة المستقبل. وهم فوق هذا وذاك، الأعلى صوتاً في إسماع النداء الداعي إلى سعة الحياة ورحابتها وأنسنتها. لابد لنا كسودانيين من استصحاب رؤية الفنانين في رسم صورة مستقبل البلاد. فكل رسم لصورة المستقبل، وكل تغيير لا يستصحب رؤية الفنانين، فهو تغيير ناقص، وهش. لقد دلل التشكيليون السودانيون على تميزهم في الكتابة، وفي البحث، وفي عمق الرؤية. فمن يقرأ كتابات فنانين مثل الأستاذ إبراهيم الصلحي، ود. أحمد الطيب زين العابدين، ود. عبدالله بولا، ود. حسن موسى، في الشأن السوداني، يعيش ثملاً، بين سطورها طالباً المزيد. فليت الفنانين كتبوا واستفاضوا، حتى ولو عملاً بوصية المُعلم كارلوس، للروائي العالمي غبراييل غارسيا ماركيز: ((عليك في جميع الأحوال، الإصرار على الكتابة، حتى ولو من أجل الصحة العقلية فقط!)) .

    وأخيراً أود الإشارة لأمر هام وجديد في هذا الكتاب. فقد عهد إليّ المؤلف بكتابة هذا التصدير، رغم أنني حكم تلميذه، فهو يكبرني بعقدين من الزمان، وتفصل بيني وبينه مساحة معرفية شاسعة، فكرياً، وأدبياً. فهو صاحب طاقات وقدرات إبداعية هائلة ومتعددة، وأنا ليس لي سوى قدرة التأمل فيها. إن خبرتي الحياتية، ومعرفتي بالواقع السوداني، لا تقارب خبرته ومعرفته. فهو قد لازم الأستاذ محمود محمد طه، وتتلمذ على يده قرابة العقد والنصف من الزمان. ونزل إلى الواقع اليومي، وظل في عراك مع ركود الحياة الفكرية السودانية ومع العقل السلفي المحافظ طيلة فترة تلمذته على يد الأستاذ محمود. وذلك شرف لم يكن لي فيه حظ، ولا أملك، في حقيقة الأمر سوى الاحتفاء والرغبة الصادقة في دراستة. فالإنتاج المعرفي للأستاذ محمود اتسم بالثراء والجدة والصدق والعمق والشمول، والقدرة على المواجهة. ولا غرابة في أنه حرك راكد الواقع السوداني، ولسوف تظهر تأثيراته بقدر أكبر في مقبل الأيام.

    لقد جرت العادة أن يعهد الكُتاب بكتابة التصدير لكتبهم إلى كبار الكُتاب. والكاتب لا يغامر، بعد عناء الكتابة وإرهاق البحث، بأن يعهد بكتابة التصدير لكتابه، سوى لمشاهير الكُتاب. غير أن دكتور النور غامر، وخرج عن الطريق المطروق، والمألوف، وعهد إلىّ بتصدير هذا الكتاب، رغم أنه كتابه الأول. فهذا شرف لي لا يدانيه شرف، وثقة من فنان وأكاديمي في أحد تلاميذه. هذه ممارسة جديدة، وهذا معنى جديد، وهذا فعل يصب في جهود تغيير واقع العلاقة بين الأجيال في الحياة السودانية. لقد ظل الشباب في السودان دوماً مغيبين عن المشاركة في مختلف الميادين، ليس بسبب عدم قدرتهم على المشاركة، وإنما بسبب إصرار الكبار على احتكار القيادة والقرار، وتشبثهم بالإبقاء على حقوقهم "الموروثة". ظل الشباب مقصيين ومبعدين عن مراكز القيادة والقرار، وظلت القيادات لا تفسح للشباب فرص التدريب والتأهيل. وكل تلك بعض من علل مكونات واقعنا الثقافية والفكرية، ونسق القيم السائد لدينا، وهذا أيضاً أمر يحتاج للدراسة والبحث.

    لقد جاء هذا التصدير بما يشبه التمهيد للكتاب، أكثر من كونه تصديراً له، إذ كان مطولاً، غير أني رأيت أن لا مشاحة في التطويل، طالما أنه يخدم موضوع الكتاب. وقد حرصت في تصديري هذا، مثلما حرص المؤلف في متن كتابه، على التوثيق لكل ما ورد فيه، متحرياً التأسيس العلمي، مُمتثلاً لقول الدكتور منصور خالد:

    المنهج التوثيقي أشد لزوماً عند تناولنا للقضايا الاجتماعية المعقدة التي لا ينبغي أن يبتني الناس أحكامهم فيها على افتراضات وساوس، وشوائع ملهوجة، وثوابت مزعومة ولا ثوابت في التاريخ الاجتماعي إلا عند الذين يتذرعون بيقين جاهل، أو الراغبين في الهروب من التفسير البرهاني لـ "المسلمات" الاجتماعية" .

    لقد حضن المؤلف فكرة هذا الكتاب زمناً في صدره، وبدأ العمل فيه منذ نحو ثلاث سنوات. عبر هذه السنوات الثلاث، ظللت ألتقي بالدكتور النور حمد في المقاهي، وفي منزلينا بالدوحة، نتفاكر ونتحاور حول محاور هذا الكتاب. زرنا مكتبات الخرطوم، وجلسنا ساعات طويلة في دار الوثائق القومية. كان المؤلف دقيقاً في التقصي، صبوراً على البحث، حريصاً على الاطلاع في المصادر التي حملت فكر الطلائع الأولى للمتعلمين، في مجلتي النهضة السودانية والفجر وغيرهما من الدوريات، والمراجع، والكتب، مما هو مثبت في قائمة المصادر والمراجع.

    يقيني، القارئ الكريم، أنك ستجد هذا الكتاب من الجدة، والإبانة، والسلاسة، والشمول في التناول، بما يُجبرك على إعادة قراءته. ولقد قال ماركيز: ((تعلّمت ألا أنسى أبداً، أن علينا أن نقرأ فقط الكتب التي تجبرنا على إعادة قراءتها)) .


    عبدالله الفكي البشـير
    السبت 20 يونيو 2009م
    الدوحـة، قطـر
                  

العنوان الكاتب Date
كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مثال بدر الدين الأمير03-27-11, 06:35 PM
  Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-27-11, 06:46 PM
    Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث عزام حسن فرح03-27-11, 07:08 PM
      Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-27-11, 11:29 PM
        Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-28-11, 00:38 AM
          Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-28-11, 02:30 PM
            Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث كمال علي الزين03-28-11, 03:28 PM
              Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث كمال علي الزين03-28-11, 03:40 PM
                Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث كمال علي الزين03-28-11, 04:15 PM
              Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث كمال علي الزين03-28-11, 04:14 PM
                Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-28-11, 08:56 PM
                  Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-29-11, 11:59 AM
                    Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-29-11, 12:03 PM
                      Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-29-11, 12:50 PM
                        Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-29-11, 01:04 PM
                          Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-29-11, 01:17 PM
                            Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-29-11, 01:30 PM
                              Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث Afraa Sanad03-29-11, 02:39 PM
                                Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث doma03-29-11, 03:05 PM
                                  Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث ابراهيم على ابراهيم المحامى03-29-11, 04:31 PM
                                    Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث doma03-29-11, 05:11 PM
                                      Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-29-11, 08:39 PM
                                        Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-30-11, 00:35 AM
                                          Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-30-11, 12:46 PM
                                            Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-30-11, 06:43 PM
                                              Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير03-30-11, 07:34 PM
  Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث كمال علي الزين04-01-11, 06:10 PM
    Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير04-02-11, 00:53 AM
      Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير04-02-11, 11:05 PM
        Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير04-04-11, 10:52 AM
          Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير04-04-11, 08:43 PM
            Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير04-05-11, 06:34 PM
              Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير04-06-11, 09:26 PM
                Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير04-08-11, 09:16 AM
                  Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث الوليد محمد الامين04-09-11, 12:19 PM
                    Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير04-10-11, 07:57 PM
                      Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث Asma Abdel Halim04-10-11, 09:49 PM
                        Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير04-11-11, 02:29 PM
                          Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث بدر الدين الأمير05-27-11, 07:34 AM
                            Re: كتاب النور حمد (مهارب المبدعين) عندى هو تبرير لمهارب الجمهوريين . ودالى النور اوضح مث Hussein Mallasi05-27-11, 08:00 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de