ما كان لي أن أفعل ذلك سيدي الصادق ( يوجد أعتذار للأمام )

Quote: عميد أمن «م»/محمد الفاتح عبدالملك * أحداث ومواقف يعتبر حل الحزب الشيوعي السوداني في نهاية نوفمبر 1965م وطرد نوابه والنواب الذين يؤيدهم من البرلمان من أبرز الأحداث التي شهدتها فترة الديمقراطية الثانية.. ومن المعروف أن السيد الصادق المهدي قد تولى في ذلك الوقت رئاسة الوزارة، وقد شهدت فترة رئاسته تعديل الدستور وإصدار قانون حل الحزب الشيوعي السوداني. الفتيل الذي أشعل الأزمة وقاد لحل الحزب الشيوعي بدأ في ندوة أقيمت بمعهد المعلمين العالي بأم درمان وتحدث فيها أحد الطلاب مقدماً نفسه على انه شيوعي ملحد متعرضاً بسوء وفحش للعقيدة الإسلامية مبشراً بحديث الإفك حول بيت رسول الله (ص).. ذلك الحديث الذي دحض في كتاب الله الكريم.. الطريقة التي تحدث بها طالب معهد المعلمين وتباهيه بالإنتماء للشيوعية وتفاخره بالإلحاد جعلت الكثيرين يشكون في أن الأمر ينطوي على أهداف ومآرب خفية. توالت ردود الفعل بصورة سريعة وكلها غاضبة ومستنكرة.. وسارع الحزب الشيوعي السوداني بإعلان تبرؤه من ذلك الطالب مديناً تصرفه وأقواله.. في الجانب الآخر فقد وأتت الفرصة كل المستهدفين للحزب الشيوعي من تنظيمات وأفراد.. ولكل منطلقاته.. فقادت جبهة الميثاق الإسلامي الدعوة لحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية.. مع ضرب كل ما هو شيوعي والدعوة لإستئصال الشيوعية من البلاد.. واتسمت دعوة جبهة الميثاق بأعمال عنف استهدفت دور الحزب الشيوعي وتم إحراق دار الحزب الشيوعي ببيت المال في أم درمان. من جانب آخر قاد السيد اسماعيل الأزهري رئيس الحزب الوطني الإتحادي ورئيس مجلس السيادة في ذلك الوقت .. قاد الدعوة لحل الحزب الشيوعي وذكر مخاطباً إحدى المظاهرات العديدة التي كانت تجوب مدينة أم درمان انه يمنح الحكومة وقتاً محدداً لتنفيذ رغبة الشارع وإن لم تفصل فينزل بنفسه للشارع ليقود المظاهرات. تسارعت الأحداث وانقسم الشارع السوداني الى فئتين كل منهما توقود اتجاها مخالفاً للآخر.. تجمعت الفئة الأولى تحت مظلة ما سمي.. بالمؤتمر الوطني للدفاع عن الديمقراطية والحريات.. أدان المؤتمر تجاه الحكومة لحل الحزب الشيوعي ونادى بتسيير المواكب والمظاهرات في العاصمة والاقاليم لمناهضة حل الحزب الشيوعي.. ضم المؤتمر عدداً من الهيئات والنقابات منها أساتذة جامعة الخرطوم.. نقابات.. المحامين، المهندسين الموظفين.. المراجعين.. البنوك التجارية واتحادات الأدباء وطلاب جامعتي الخرطوم والقاهرة الفرع.. وتمثل في مجموعها روافد جبهة هيئات اكتوبر والتي يغلب عليها تنظيم اليسار. الفئة الثانية أطلقت على نفسها.. بالمؤتمر الإسلامي للدفاع عن العقيدة ومحاربة الإلحاد.. قادت تلك الفئة جبهة الميثاق الإسلامي وضمت هيئة علماء المسلمين ومجموعة الأحزاب التقليدية وأهل الطرق الصوفية ولعلها أيضاً قد مثلت جبهة اكتوبر القومية والتي غلب عليها أهل اليمين. في 21 نوفمبر 1965 أجازت الجمعية التأسيسية مشروع تعديل الدستور المقدم من الحكومة والذي قضي بتحريم الشيوعية والإلحاد والإرهاب بغرض قلب نظام الحكم.. تمت اجازة المشروع بأغلبية (142) صوت مقابل (17) صوتاً للمعارضة، وفي 6 ديسمبر صدر قانون حل الحزب الشيوعي ومن أهم بنوده:- 1ـ حل الحزب الشيوعي بوصفه من المنظمات غير المشروعة وهي التي يصفها هذا القانون بانها تدعو الى المبادئ والنظريات الشيوعية أو نزوحها أو تمارسها أو تلك التي تديرها منظمة خارج السودان تدعو للمبادئ والنظريات الشيوعية.. 2ـ مصادرة كل ممتلكات الحزب وصحفه وجميع وسائل النشر الأخرى وإغلاق دوره.. 3ـ أي شخص ترشح في الانتخابات العامة لسنة 1965 بصفته عضو في الحزب الشيوعي السوداني أو مساندة الحزب الشيوعي السوداني بوصفه أحد أعضائه لا يعتبر أهلاً لأن يكون أو يستمر عضواً في الجمعية التأسيسية. تم تنفيذ القانون وطرد نواب الحزب الشيوعي من الجمعية التأسيسية.. النواب الذين شملهم القرار.. فاطمة أحمد ابراهيم، أحمد سليمان عمر مصطفى المكي، عزالدين علي عامر، الطاهر عبدالباسط، عبدالرحمن عبدالرحيم الوسيلة، حسن الطاهر زروق ، الرشيد نايل ، جوزيف قرنق، محمد ابراهيم نقد ومحمد سليمان. ومن المواقف التي تستحق الذكر خلال أزمة حل الحزب الشيوعي موقف العالم الجليل الدكتور التجاني الماحي والذي كان ممثلاً للحزب الوطني الاتحادي في مجلس السيادة أبان حكومة اكتوبر الإنتقالية، فقد بعث بخطاب استقاله الزعيم الأزهري جاء فيه.. «يؤسفني أن أتقدم لكم باستقالتي من الحزب الوطني الاتحادي.. الأحداث وأساليب معالجتها لا تستقيم مع مبادئ الحزب وقيمه وماضيه الذي كانت رائدة وقائدة منذ بزوغ فجر السياسة الوطنية، قد أوشكت أن تفوض روابط الثقة والولاء التقليدي بين قادة الحزب ورواد جماهيره.. ولعمري فان ما هو كائن اليوم وما سوف يترتب عليه في المستقبل القريب يشكل مسؤولية تاريخية كبرى لم يمتحن بها الحزب في ماضيه الطويل، اني كمواطن يتشرف بالإنتساب لهذا الحزب قد فشلت في إقناع ضميري بدستورية هذه الإجراءات وعدالتها». من أهم تداعيات أزمة حل الحزب الشيوعي السوداني.. القضية الدستورية التي رفعها الحزب الشيوعي السوداني والتي طعن فيها بعدم شرعية تعديل المادة الخامسة من دستور السودان المؤقت المعدل لعام 1964.. والتي بتعديلها تم حل الحزب الشيوعي وإسقاط عضوية نوابه من الجمعية التأسيسية.. أصبحت هذه القضية من المعالم الرئيسية في السوابق القضائية في السودان وتعد مرجعاً لكل المشتغلين بمهنة القانون لما حوته من مساجلات قانونية بين أبرز رجال القانون من قضاة ومحامين وممثلين للادعاء.. نظر القضية الدستورية الأولى السيد صلاح حسن قاضي الحكمة العليا وكانت بالرقم 93/65 وفي 22 ديسمبر 1966 أصدر حكمه القاضي ببطلان تعديل المادة الخامسة من الدستور وبالتالي بطلان كل ما يترتب على التعديل من تشريعات القضية الدستورية الأولى تفرعت منها قضية أخرى رفعها كل من السيدين عزالدين علي عامر وجوزيف قرنق ضد الجمعية التأسيسية ومجلس السيادة والنائب العام وهي تطعن في دستورية قانون حل الحزب الشيوعي وتعديل الدستور لإسقاط عضوية النواب. نظر القضية الثانية السيد عبدالله أبوعاقلة أبوسن قاضي المديرية الخرطوم وقد جاء الحكم الذي أصدره ببطلان القانونيين وذلك استناداً على الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا والقاضي بعدم شرعية تعديل المادة الخامسة من الدستور.. ذلك الحكم يبطل بالتالي أي تشريع صادر على أساسه.. تمسكت الحكومة بموقفها الرافض لقرار المحكمة العليا ومحكمة المديرية وعدم تنفيذها للاحكام مما دفع السيد بابكر عوض الله رئيس القضاء لتقديم استقالته.. لرئيس وأعضاء مجلس السيادة وقد جاء فيها:- «إنني لا شك مقدر كل التقدير انكم الهيئة التي نص الدستور على أن القضاء مسؤول أمامها وحدها في أداء مهامه ولكنه يؤسفني انكم بمعالجتكم للمشاكل التي أثيرت حول هذه القضية لم تقيموا مسؤوليتكم التقييم الصحيح ولم تدركوا حدود هذه المسؤولية». تعد قضية حل الحزب الشيوعي السوداني من الوقفات المهمة في مسار الديمقراطية في السودان وبنظرة تحليلية لما أفرزته تلك القضية نقف على الآتي:- 1ـ شكلت الأحزاب العقائدية .. الشيوعيين والاخوان المسلمين.. جبهة الميثاق الإسلامي فيما بعد حضوراً مميزاً في الساحة السياسية قبل وبعد ثورة اكتوبر وأصبحت تستقطب الكثير من فئات الشعب السوداني خاصة وسط الطلاب والمثقفين وخاضت الإنتخابات بنجاح يحسب لها مما دفع الأحزاب التقليدية للتحسب والشعور بالخطر المحدق بقواعدها ولعل أبرز الأحزاب التي شعرت بالإستهداف الوطني الاتحادي.. 2ـ جبهة الميثاق الإسلامي كانت أكبر المستفيدين من حل الحزب الشيوعي فضرب الشيوعية يعتبر خيار وهدف استراتيجي ويشكل جزءاً من برامج الإسلاميين ودعوتهم.. ويأتي الحزب الوطني الاتحادي في المرتبة الثانية للمستفيدين وإن كانت نظرته تدخل في الجانب التكتيكي للحفاظ على قواعده وإبعاد خطر الإستقطاب الذي قاده الحزب الشيوعي ضده. 3ـ العنف السياسي والمادي الذي تعرض له الحزب الشيوعي أبان الأزمة التي قادت لحله دفعت بالأفكار التي كانت تنادي بإستقطاب وتجنيد عناصر للحزب داخل القوات المسلحة للامام وأن يعمل على تفعيلها والإفادة منها في حماية الحزب وتدريب عناصره من أجل الدفاع عن النفس.. وربما برز التفكير في أن تسهم القوات المسلحة في أحداث التحول الديمقراطي والدفاع عنه في وجه القوى التقليدية والرجعية كما يطلقون عليها. بوجه عام يمكن أن نوضع قضية حل الحزب الشيوعي من الأسباب الرئيسية والمباشرة التي لعبت دوراً أساسياً في أحداث أكبر التحولات السياسية في السودان والتي أفرزت تجارب مختلفة ومتناقضة خلال أطول فترات الحكم التي مرت على السودان في مايو 69 وما حوته من ضغائن وثأرات لا زالت بلادنا الحبيبة تدفع ثمنها.. مراجع: الزعيم الأزهري وعصره بشير محمد سعيد مجلدات صحيفة الأيام 65، 1966