|
الف منفى ومنفى (Re: بله محمد الفاضل)
|
الف منفى ومنفى
" لا اتكلم عن صفح او عن انتقام فالنسيان هو الصفح الوحيد وهو الانتقام الوحيد "بورخس الى يارا طبعا لا ليل من دون برابرة . هناك ، أيضا ، برابرة بدون ليل ، لكن لا ليل بدون برابرة : ليلنا أو ليلُكِ ..
أتطلعُ من النافذةِ ،التي افتـّض البرابرةُ ، في ظلامِها ،غشاءَ برائتي البـِكر، لأنني كنتُ عاريا، إلا من الفانوس الوحيد المضيء : قلبي .أسكنه كنتُ كالشعلةِ ، لكنهم اقتحموه فجأة ، ونـثروني قـطعة قطعة ، عبر العالم . من وقتها وأنا أكتبُ الشِعرَ لأجمعني وما من فائدة ، فـقد كان هناك شيئا يسمـّونه الكائـن ، إلا أنه تبخـّر من مَسام بشـَرتي ، فيما كنتُ أذوبُ حسرة بعد حسرة . مـن يـومها لم أعـد أحدا. صار من الصعب جدا أن أجد لفظاً يناسبني، لأنني تخطيتُ حتى مـرحلة أن أكون شبحا . هكذا أصبح مـا يُـثـبـتُ وجـودي هوالسُخـام وحده ، يرشـّه الـبرابرةُ بخناجرهم ، عـلـى حيـطان ذكراي : عند ذلك فقط أكون قد وجدتُ مَن يثبتُ أني قد عشتُ على هذا الكوكب ، فـي هذه الغرفة التي أتطلعُ من نافذتها ، ماسكا بقضبانها ،أهزّها، كمن يريد أن ينتزع أصابعَ امرأة مـن يديها . هذه النافذة تهربُ سراً في الليل ، عندما يقفل البرابرةُ أجفانَهم ، لتأتيني بالقمر المرسـوم عـلى قميص السماء ، مـن أجل أن أكرّرَ عليه الكذبةَ الوحيدة ، الكـذبة المشرقة : لم أخلُصْ ، في حياتي كلها ، إلا للشِعر، ومع ذلك لم أكتبه كما ينبغي ، لذلك كلمّا تطلّعتُ من النافـذةِ رأيتُ القمرَأخضر، والقيودَ التي حول معصميّ ، حزمة ً من سلاسل الجبال التي عبرتُها ، عبرأنفاق دخان الترياق ، مع مهرّبٍ رسمَ خارطةَ الطريق على ظهره وأنا خلفه ، اُحاولُ فكَّ طلاسمِه الغريبة ، فقد كانت الجبال متحركة حسب رأيه ، كما أنّ الأرض ليـست كروية ، حتى أنه لمّا قرّرفي لحظة نشوة ، أن ينتحرَ على طريقة البغال ، ضامّـا حوافره الى بعـضها ، ملقيا بنـفسه الى الـوديـان ، كـان عـليّ أن أستعــيـدَ الخارطة بذاكـــرة مكتظة بغبار الحشيشة ، وبالآثارالمتروكة من سـُكـرٍ طـويـل مع الحروب ، في حاناتٍ لا تطلب منكَ ثمنا سوى أن تموتَ أكثر من مرةٍ ، وأن تمرَّ مترنحا ، كالذبيحة ، بين موائدها : أن تشربَ ، أن تسكرَ ، أن تنسى ، أن ...
يوما بعد آخر تحوّل المستقبلُ ، أمام عينيَّ ، الى ماضٍ نسيتـُه، ولم أعـد أتذكر ما فيه سوى كتلة من الألم ، أحملها على ظهري كصخرة سيزيف ، مواصلا الرحلة عـلـى بصيص من الأمل ، يـشرقُ ، أحـيانا ،عـندما اُردّدُ اسمكِ أيـتها الحرية :اسمكِ الأعظم الوحـيد الذي أعرفه، من بين الاف الأسماء ، التي يعرفها عنكِ آخرون أكل أحشائهم البرابرةُ : ماتوا وهـم يردّدونكِ هناك ، في ظلام الأقبية أو في حفلات الشواء ، في الغابات ، حيث يتم التهام أجسادهم تحت ضوء القمر: هذا القمر الذي أنظرُ اليه عبر النافذة ، متذكرا كـل شيء ، حتى تلك القصص الساقطة من كتاب الف منفى ومنفى، الذي لـــم يكتبه أحد ، إلا أنني قرأته كثيرا ، مــن دون أن أتصفحه مرة .
هكذا اجتزتُ المحنةَ. مشيتُ على خطوط الحظ ، الذي فارقني من دون تلويحة وداع ، متـّبعا خطة لاأعرف مَن رسمها في ذهني المشوّش،لأن ذلـك كان قـد حدث قـبل أن يبتكرالانسان الكتابة: حصل ذلك كله وأنا غارقٌ في مياه النسيان ، أتنقلُ عبر أنابيبها ، وأتساقطُ من فوّهات الحنفيات قطرة، بعد اخرى ، فـي عـلب صفيح ، ينقلها آخرون على ظهورهم ، ربما لرشّ الدمع على جدران حياتهم أو لشطف الحزن ، غير أنهم لا يصلون بها إلا وقد أضحتْ فارغة تماما ، لأنها كـانـت مـثـقوبة عمـدا ، فلا أصل أخيرا إلا الى هذه الزنزانة الكبيرة التي يقولون : إنها الحياة ، ملتقيا بأصحاب ماتوا قبل الاف السنوات ،ثم قرروا العودة ، عندما سمعوا أن جنة مـا في طريقها الى التجلي فـي بلاد السَواد ، حيث الفرات ، مثلما دجلة ، كان قد كفّ عن الفيضان ، رحمة بنا من قلبه النبيل ، فقد نسيَ الناسُ السباحة ، كما أن القيعان لم تعد تستوعب أي غريق اضافي .
ربما هناك تذكرتُ أحلكَ ساعاتي وأصعبها، فثمة مـَن سُجنت معه في الوحشة ، تطوّع ، في لحظةٍ ظلـّتْ ملتبسة عليه ، ليتكـلم عني أمام محكـمةٍ لم تـُعقد بعد ، معترفا أمام البرابرة : أنني ذات صدق سقطتُ من هول نحول الروح فوقـعتُ في غرام الدهشة ، لكن في زمان ومكان لا تأخذ فيه الدهشةُ زينتَها المذهلة ، إلا إذا كانت مصحوبة بهيام مراهق ، صار عمري عليه كبيرا .
لم يعرف حتى الحب أنَّ هيامي لم يعد صالحا لشيء ، سوى أن يكون هياما مجردا ،أحتفظُ به لنفسي ضد نفـسي ، منذ أن مات المهـرّب على طريقـة البغـال . لم يعرف أحد انني فقدت رغبتـي بالمــوت على سرير ناعم .لم يعرف الربيع أنه لـم يعـد لأي شـجرة مكـانا في حديقتي ، إلا لهذا القمر الذي ترسمه القضبانُ بفرشاتها عبر النافذة ، وأنا اُغني اغنية وصلتني من الماضي ، عن الحرية ، اُردّد اسـمها الوحـيـد الأعظم ، من بـيـن الاف الأسماء التي يعرفها الآخرون .
ربما ، نتيجة ذلك ، عشتُ طويلا ، أهتفُ مع هذا ضد ذاك ، أو أهتفُ مع ذاك ضد هذا ، شاعرا بالذنب مـن كـل جرائمي التي لم أرتكبها : أبكي كل يوم لأن الله خلقني على شاكلته ، وتركني وحـيدا أعيشُ مـع مَن هم ليسوا على شاكلتي : مُجبَرا على أن أقبلَ بالعقوبة وبالتاريخ ، الذي وصـل مكتوبا على جلود ضحايا لم ينتحروا ، كما المهرّب ، في وديان كان البرابرة يحفرونها برمشة من خناجرهم .
ربما ، من أجل ذلك خرّبتُ حياةَ المرأة التي آوتني ،عندما أعدتُ كتابة مذكرات العالم على حـلمتيها ، دمعة بعد اخرى ، حتى صاحتْ بي ذات ليلة : " لقد امتلأتْ براكيني بأحزانكَ ، ولابدّ لي أن أفيض ، كما أنني انطفأتُ ، فلم أعد مانعة الصواعق ، تلك التي تلتهب وتشتعل ، على السرير، كـلما مرّ برقٌ ، أو سقطتْ شرارةٌ ، من عين رجل ، في صحن شهوتي " .
هكذا غادرتـُها ، خلسة ، في فجر بارد جدا ، حاملا طوال جسدي آخر شهقة فاض بها ينبوعها ،الذي فقد خصوبته ، فـلم يعد يفيض إلا بـبعض التنهدات الزائفة ، بعد أن أصدرتُ الحكم على الآخر، فـي نفس الفجر، وأنا أسبحُ في النهرالمار بين نهديها : ساُعـاقبكَ ، أيهـا البربري ، أيها الأجـرب القـلب ، ساُعاقبكَ .... إنـما على شاكـلتي ، كما خلقني الله : بالكـتابة . قصيدة بعد قصيدة : اغنية تلو اخرى تبعث سلالة المنشدين ، الذين يكشـطـون الطلاء عن قــناعكَ ، في الشـوارع الخلفـية ، وهــم يتلونَ ما لم يكتبه أحدٌ في كتاب ألف منفى ومنفى، ناقلين جَمال ما رأيتُ بكل حرارته الى العالم ، تاركين لكَ حقلا واسعا مـن النسيان ، كـقـبـر .
مـَن يفهمك أيها الفؤاد ؟ ومَن يسمعكَ، وسط انهيار العمارة بجميع ساكنيها ، فيما البراكين مشغولة بتبادل فوّهاتها ، كما كنا في الطفولة نتبادل الطوابع ؟ كم كنتَ أبيض أكثر مما ينبغي عندما درتَ كالدرويش بين الافاعي ؟ كم كنتَ بارعا في غبائك ، وأنتَ تمسح الغبارَ عن كتف مـَن لايود العيش ، إلا فوق تل قمامته ؟
الآن أسمعُ وقع خطوات قادمة : طبول وخيول ، لجرجرتكِ نحو حرائق اخرى ، حضرتـُها قبل أن تبدأ . أنتِ التي لاأعرف من أسمائها الالف إلا اسما واحدا اردّده ساعة الخطر، لكنني رغم ذلك أسمعُ خفق أجراسكِ المترددة ، وهي تـنسج من حسرتها لـون قـمري الأخضر، من خلف القضبان: أسمعُ خفقَ أجراسكِ ، اُميـّزها من بـين خطواتهم : أهم البرابرة ؟ تتسائلين : إنما ... أين ليلهم ؟
لا ليل بدون برابرة : لا ليل . هناك ، دائما ، برابرة بدون ليل ، وهو ما يجعلني أسمعكِ ، أسمعُ ، أسمعُ جيداً خفقَ أجراسكِ : أهم برابرة فعلا ؟
آه ، مثـلُـكِ تخفقُ أجراسي .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
مِدادُ الأصدقاء | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 09:46 AM |
Re: مِدادُ الأصدقاء | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 09:50 AM |
Re: مِدادُ الأصدقاء | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 09:53 AM |
Re: مِدادُ الأصدقاء | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 10:06 AM |
ذَاكِرَةٌ مَلْغُومَةْ | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 10:11 AM |
المَوْتُ أَصْدَقُنَا وَفَاءً بِالْعُهُودِ | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 10:17 AM |
سـَ … و أحــبُّــكِ | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 10:21 AM |
أَشْيَاءُ تُشْبِهُ القَلَقْ | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 10:25 AM |
Re: أَشْيَاءُ تُشْبِهُ القَلَقْ | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 10:30 AM |
اغنية آخر سركون بولص في العالم | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 10:33 AM |
اغنية الشخص الثالث | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 10:36 AM |
الف منفى ومنفى | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 10:38 AM |
قصيـدة نثـر | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 10:41 AM |
ورود الموسوي | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 10:48 AM |
مدينةٌ بلا أضلاع...! | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 10:51 AM |
وشــــمُ عــقــارب ...! | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 10:58 AM |
بلاد بين أصابعي .. | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 11:16 AM |
عطش يبلِّلها وماء لا يصل .. | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 11:18 AM |
ومن العراق.. | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 11:22 AM |
Re: ومن العراق.. | مجدي عبدالرحيم فضل | 12-01-10, 12:06 PM |
Re: ومن العراق.. | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 06:29 PM |
نَشْوَةُ اَلرِّضَا | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 05:44 PM |
ضفة سماوية | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 05:46 PM |
آلام المطرود بن شارد .. | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 05:58 PM |
ملحمة النايدرتال | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 06:03 PM |
مفيد عزيز البلداوي | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 06:10 PM |
أغبر بالمعنيين | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 06:12 PM |
خبز العباس ... | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 06:16 PM |
wie bitte | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 06:20 PM |
الأقفال | بله محمد الفاضل | 12-01-10, 06:25 PM |
ونظل بالعراق.. | بله محمد الفاضل | 12-02-10, 11:03 AM |
قافية الرمل | بله محمد الفاضل | 12-02-10, 11:07 AM |
سورة الأمن ... ترنيمة المواقيت الثلاثة | بله محمد الفاضل | 12-02-10, 11:10 AM |
أجنحة للطيران .. وأخرى للبكاء الصامت | بله محمد الفاضل | 12-02-10, 11:14 AM |
أغنية ما .. لم تكتمل بعد | بله محمد الفاضل | 12-02-10, 11:21 AM |
أغنية ما .. لم تكتمل بعد | بله محمد الفاضل | 12-02-10, 11:21 AM |
Re: أغنية ما .. لم تكتمل بعد | بله محمد الفاضل | 12-18-10, 09:56 AM |
|
|
|